التيس مقالة لصالح زيادنة

التيس

بقلم: صالح زيادنة

لم يستسلم التيس لليأس رغم أنَّ سنوات العمر قد تقدَّمت به بعض الشيء، وكان يرى الجديان الصغيرة وهي تقفز فرحةً ومرحة بكل نشاط وحيوية، فقال يخاطب نفسه: ما الفرق بيني وبين هذه الجديان الصغيرة، أليست بضع سنين فقط؟، فلماذا لا أمرح مثلها وأقفز على هذه الهضاب الصغيرة، وأخرج من دائرة الجدّية التي أحطتُ بها نفسي ولو لبعض حين، ألم أكن أفعل ذلك في شبابي من قبل، وماذا يمنعني أن أفعل مثلها الآن؟.

شعر التيس بحماسٍ شديد، وتدفقت في عروقه حرارة الشباب وقوته، فخطا عدة خطوات إلى الأمام حتى وصل إلى مرتفع صغير كانت الجديان الصغيرة تتراقص عليه قبل قليل.

‏نظر التيسُ حوله فرأى السخلات الصغيرة ورأى ملوسة شعرها، وعينيها الواسعتين، وحركاتها المتناسقة، وتذكّر شبابه وأيام فتوّته وكيف كانت لَبْلَبَتُه(1) تملأ المرعى، وكيف كان يغزو على القطعان الأخرى، فيهابه القطيع ويُقِرُّ له بالزعامة.

حاول أن يستعيدَ شبابه وأن يستردّ عافيته حتى لو بالقليل من الحركات، لعله يجذب إليه الاهتمام ويستردّ شيئاً من مجده الغابر.

وقف التيس وقفة زهو وكبرياء وشدَّ أعصابه قليلاً وتمطّى بصلبه ولكنه لم يُردف أعجازاً، بل هبط بجسمه قليلاً كمن يتأهّب للوثوب ثم قفز إلى أعلى، ارتفع عن الأرض مقدار شِبْرٍ أو شبرين، ولكنه كان يتصور بأنه سيحلّق عالياً، فجاء ارتفاعه أقل مما كان يتصور، ويبدو أن كرشه الكبيرة كانت حائلاً بينه وبين ما يريد، حاول التيس مرةً أخرى، ثم مراتٍ بعدها، ولكنه في كلّ مرة كان يرتفع عن الأرض أقل من المرات السابقة.

شعر التيس بإحباطٍ شديد وبدوارٍ يلفّ رأسه وعينيه، فارتخت أعصابه وتهدجت أنفاسه وتدلّى لسانه وأخذ يلهث تعباً وإرهاقاً، ولكنه لم يستسلم رغم كلّ ذلك فجمع شتات قوته وقفز قفزة قوية عالية وقع منها على الأرض مغشياً عليه.

لم يعرف التيس ماذا جرى له بالضبط بعد أن استعاد وعيه، ففتح عينيه ببطء شديد بعد أن كانت مرتخية ونظر حوله فرأى الأشياء غير واضحة المعالم وكأن طبقة من الضباب الناعم تكسوها، وكان فمه قد ارتخى وسال شيءٌ من لعابه على عُثْنُونِه(2) الطويل وعلى زَنَمَتَيْهِ(3) المتدليتين كخرزاتٍ سوداء طويلة، فسحب نَفَسَاً طويلاً وطَرَّقَ بملء صوته، ولكن طُرَاقَهُ كان ضعيفاً واهناً فلم يُعِرْهُ أحدٌ من القطيع اهتماماً أو يكترث ويتنبه له سوى بضع عنزاتٍ هَرِمَة نظرت إليه بعطف وكأنها ترثي لحاله ثم ما لبثت أن استدارت وأخذت تقضم بعض الأعشاب الجافة أمامها.
سكت التيس على مضض واستند قليلاً ولكنه لم يستطع النهوض، فأخذ يجترّ شيئاً مما في جوفه على مهل، وهو ينظر إلى تلك الجديان الفتية نظرة ازدراء واحتقار، وربما نظرة حَسَدٍ وغِيرة، وكأنه يقول: سوف يأتي يومها.

تمتم التيس بينه وبين نفسه وقال: هل هَرِمْتُ حقاً؟، وهل دَبَّ الوهنُ في عظامي في هذه السنوات القليلة، وتذكّر مثلاً شعبياً ينطبق عليه وعلى حاله يقول: «زي التيس اللي بيلعب مع الجديان»، فقال تباً لهذه الأمثال التي لم تترك شيئاً إلا تناولته حتى التيوس لم يسلموا من شرها ونقدها.

ظل التيس في جلسته فترة من الوقت وهو يخشى النهوض خشية أن يسقط أمام الجديان الصغيرة فتسخر منه وتهزأ من تصرفاته، ولكنه تحامل على نفسه ونهض بتثاقل حتى استقامَ ووقف على قوائمه الأربع، ومكث هنيهة يفكر في حالته ويقول: إنّ للشيخوخة هيبة ووقاراً، ولكنها تتسَتَّرُ خلف ستارٍ من الضَّعْفِ والوَهْن، وإنَّ نظراتِ الوقارِ التي نراها ما هي سوى نظرات عطفٍ ورَحْمة لمن هم أكبر منا سناً، ومَنْ هُم في عداد العجزة والقاصرين.

ابتسم التيس وهو يرى قريحته قد تفتقت عن حكمة وقال: سبحان الله، حتى الحكمة لم تأتِ إلا بلطمة.

عاد القطيع في نهاية اليوم إلى زريبته، وكان التيس يسير في آخرها، ولم يعد مرة أخرى يُفَكِّرُ في تقليدِ الجديان أو محاكاتها، إيماناً منه أنّ لكلّ جيلٍ ما يناسبه من تصرفاتٍ وأعمال، وعليه أن يعرفَ ذلك من نفسه وأن يحافظ على جيله ولا يقلد غيره، حتى لا يكون مثار هزءٍ وسخرية.

وبعد عزيزي القاريء فإنَّ قصة هذا التيس قد تنطبق على كثيرٍ من تيوس البشر، فمتى نَقْنَعُ بنصيبنا في الدنيا ونرضى به، ولا نظلّ نلهث وراء قشورٍ جوفاء فارغة تجعل المثل الشعبي ينطبق علينا، وهو يقول: «ابن آدم ما بيملأ عينه غير التراب».

{{{

هوامش:

1- لسان العرب: مادة «لبب»: اللبلبة: صوتِ التُّيوس عند السِّفادِ.

2- لسان العرب: مادة «عثن»: العثنون من اللحية: ما نبت على الذقن وتحته سفلاً.

3- لسان العرب: مادة «زنم»: وزنمتا الشاة وزنمتها: هنة معلقة في حلقها تحت لحيتها، وخصَّ بعضهم به العنز.

 رهط في 4/10/2009م.

 ---------------

نشرت في صحيفة الحدث بتاريخ الأربعاء 04/11/2009، العدد (110).

 

  جـميع الحقـوق مـحفوظـة للكاتب.

« لا يسمح باستخدام هذه المادة دون الإشارة إلى مصدرها.


صممت هذه الصفحة في 19/01/2010م  - تحديث في: 23/01/2018

بريد الكتروني

موقع الشاعر صالح زيادنة

رجوع