الفصل السابع: من بواعث التوكل  

 

من بواعث التوكل

 

لكل عمل -من أعمال القلوب أو الجوارح- بواعث تدفع إليه، وتحض عليه. ومما يبعث على التوكل، ويعين عليه جملة أمور :

 

معرفة الله بأسمائه الحسنى

أولها: حُسن معرفة الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا. فمن عرف ربه رحماناً رحيماً، عزيزاً حكيماً، سميعاً عليماً، حياً قيوماً، غنياً حميداً، خبيراً بصيراً، قهاراً قديراً، رزاقاً ذا قوة متيناً، لا يخفى عليه شيء، ولا يعجزه شيء، فعالاً لما يريد، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وجد نفسه مدفوعاً إلى الاستناد إليه، والتوكل عليه .
ولذا نقل ابن القيم عن شيخه ابن تيمية رضي الله عنهما: أن التوكل لا يصح ولا يتصور من فيلسوف، ولا من القدرية النفاة القائلين بأنه يكون في ملكه ما لا يشاء، ولا يستقيم أيضاً من الجهمية النفاة لصفات الرب جل جلاله، ولا يستقيم التوكل إلا من أهل الإثبات.
فأي توكل لمن يعتقد أن الله لا يعلم جزئيات العالم سفليه وعلويه؟ ولا هو فاعل باختياره، ولا له إرادة ومشيئة، ولا يقوم به صفة. فكل من كان بالله وصفاته أعلم وأعرف، كان توكله أصح، وأقوى.
ومن ثم كان التوكل من خصائص دين التوحيد، المتجسد في دين المسلمين، الذي تميز بإثبات صفات الكمال المطلق لله تعالى من العلم والحكمة، والمشيئة والقدرة، والغنى والرحمة، والحيان والقيومية، وسائر الكمالات الإلهية. بخلاف غيرهم -كالغربيين- الذين يرون أن الله خلق العالم أزلاً ثم تركه يسير بالنواميس، ولم يعد يدبر فيه أمراً!
أما عندنا -نحن المسلمين- فالملك كله بيد الله، وتحت سلطانه، يبسط ويقبض، ويعطى ويمنع، ويخفض ويرفع، ويحيي ويميت، ويعز ويذل، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه .
فكلما قويت معرفة المرء بربه، وقدره حق قدره، وتجلت له معاني أسمائه وصفاته، قوي اعتصامه به، واعتماده عليه، وكان له نعم الوكيل، ونعم المولى، ونعم النصير.
ولهذا نجد القرآن يربط التوكل بعدد من أسماء الله الحسنى، لما لها من إيحاء ودلالة وتأثير.
أكثرها وأعظمها: لفظ الجلالة وهو الاسم الجامع لكل الكمالات: (فتوكل على الله) (آل عمران: 159)، (وعلى الله فتوكلوا) (المائدة : 22)، (على الله توكلنا) ( الأعراف: 89).
ومنها: اسم "الرحمن" منفرداً: (قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا) (الملك: 29)، واسم " الرحيم" مقروناً بغيره: (وتوكل على العزيز الرحيم) (الشعراء: 217) والرحمن الرحيم لا تضيق رحمته الواسعة بمن لجأ إليه واعتمد عليه .
ومنها: اسم "العزيز" مقرونا بغيره كالرحيم والحكيم: (ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم) (الأنفال : 49) ..عزيز: أي لا يذل من لاذ بجنابه وأوى إلى حماه، حكيم: لا يضيع من وثق بحسن تدبيره لمن تولاه.
ومنها: اسم "الرب" كما في قوله تعالى: (قل هو ربي لا اله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب) (الرعد:30).
ومنها: اسم "الحي" كما قي قوله: (وتوكل على الحي الذي لا يموت) (الفرقان : 58)، فالذي يعتمد على الخلق يعتمد على حي يعتريه الموت. أما من يعتمد على الله، فهو يعتمد على حي لا يموت: (كل شيء هالك إلا وجهه) (القصص: 88).
ومنها: اسما "السميع العليم" كما في قوله: (وتوكل على العزيز الرحيم * الذي يراك حين تقوم * وتقلبك في الساجدين * إنه هو السميع العليم) (الشعراء: 217 - 220)؛ فهو يسمع دعاء من دعاه، جهراً أو سراً، ويعلم ما تكنه الصدور: (يعلم السر وأخفى) (طه: 7).
ولذا ذكر ابن القيم: أن التوكل من أعم المقامات تعلقاً بالأسماء الحسنى، فإن له تعلقاً بعامة أسماء الأفعال، وأسماء الصفات .
فله تعلق باسم "الغفار والتواب والعفو والرؤوف والرحيم"، وتعلق باسم "الفتاح والوهاب والرزاق والمعطي والمحيي"، وتعلق باسم "المعز المذل، الخافض الرافع المانع" من جهة توكله عليه في إذلال أعداء دينه وخفضهم ومنعهم أسباب النصر، وتعلق بأسماء "القدرة والإرادة"، وله تعلق عام بجميع الأسماء الحسنى، ولهذا فسره من فسره من الأئمة بأنه: "المعرفة بالله".
إن الإنسان إذا اعتمد على مخلوق مثله، وكان ذا كفاية وهمة، قال له: لا تحمل هماً، لقد اعتمدت على رجل! كما قيل: فنبه لها عمراً ثم نم! فكيف بالاعتماد على الرب الأعلى؟

 

الثقة بالله تعالى

ثانيها: الثقة به عز وجل، وهي ثمرة المعرفة، فإذا عرف الله حق معرفته وثق به ثقة مطلقة، تسكن إليها نفسه ويطمئن بها قلبه.
ومن ذلك: الثقة بشمول علمه، وكمال حكمته، وسعة رحمته، وعموم قدرته، وطلاقة مشيئته. وانه أرحم بعباده من الوالدة بولدها، بل أبر بهم من أنفسهم، وأعلم بمصالحهم من ذواتهم: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) (الملك : 14).
ومن ذلك: الثقة بوعده الذي سجله في كتابه وعلى لسان رسوله: أنه ولي الذين آمنوا والمدافع عنهم، والمنجى لهم، وأنه ناصرهم على عدو الله وعدوهم، وأنه معهم بتأييده وعنايته، وأنه لا يخلف الميعاد. وأنه يملي للظالمين، ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وأنه يمهل، ولا يهمل، وأنه للفراعنة والطغاة بالمرصاد.
ومن ذلك: الثقة بما تكفل به من الرزق لخلقه، فقد وعد بذلك: (إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) (الذاريات : 58). ثم أكد الوعد بالضمان: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) (هود: 6). ثم أكد الضمان بالقسم: (وفي السماء رزقكم وما توعدون * فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون) (الذاريات: 22، 23).
فالواثق بوعد الله تعالى وضمانه لا يخاف فوت رزقه أبداً، فإن أحداً لا يستطيع أن يأكل من رزقه، كما أن أحداً لا يستطيع أن يقدم من أجله .
وقد جعل صاحب "منازل السائرين": الثقة بالله تعالى منزلة أخرى غير منزلة "التوكل" وغير منزلتي "التفويض" و"التسليم"، وقد جعل كلاً منهما منزلة مستقلة أيضاً.
قال رحمه الله: "الثقة: سواد عين التوكل، ونقطة دائرة التفويض، وسويداء قلب التسليم".
وصدر الباب بقوله تعالى لأم موسى: (فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني، إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين) (القصص: 7).
فإن فعلها هذا -كما يقول ابن القيم- هو عين ثقتها بالله تعالى. إذ لولا كمال ثقتها بربها، لما ألقت بولدها وفلذة كبدها في تيار الماء، تتلاعب به أمواجه وجريانه إلى حيث ينتهي أو يقف.
والذي ينقدح لي: أن "الثقة" ليست منزلة مستقلة، ولذا لم يرد نص خاص بها في الكتاب أو السنة. وإنما هي دافع إلى التوكل وباعث عليه. وكلما ازدادت ثقة العبد بربه وتوثقت عراها، قوي توكله على الله تعالى، ورسخت جذوره، وبسقت فروعه.
والموظف لأنه واثق بأنه يقبض في مطلع كل شهر راتباً معيناً، التزمت به الحكومة. فهو يرتب حياته على هذا الأساس، لثقته بها، ولهذا لو اضطربت أحوال حكومة ما، وغدت خزينتها مهدده بالعجز عن دفع المستحقات، ضعفت هذه الثقة عند الموظفين، وربما انعدمت. فمن وعده ملك الملوك لا تهتز ثقته به بحال .
وكذلك من أعطاه ملك درهما فسرق منه، فقال له الملك: عندي أضعافه، فلا تهتم، متى جئت إلي أعطيتك من خزائننا أضعافه. فإذا علم صحة قول الملك، ووثق به، واطمأن إليه، وعلم أن خزائنه مليئة بذلك، لم يحزنه فوته .

 

معرفة الإنسان بنفسه وعجزه

وثالث هذه البواعث على التوكل: معرفة الإنسان بضعفه الفطري، وعجزه الذاتي، ومحدودية علمه وإرادته وقدرته، فقد خلقه الله ضعيفاً، وأخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئاً، وأعطاه أدوات السمع والبصر والفؤاد، ليتعلم ما لم يكن يعلم. كما منحه من الإرادة والقدرة ما يمكنه من أداء رسالته في الأرض .
ولكن يظل علمه علم بشر، وإرادته إرادة بشر، وقدرته قدرة بشر. أي مخلوق محدث مسبوق بالعدم، وملحوق بالموت. فوجوده وحياته وعلمه وكينونته كلها ليست بذاته ولا من ذاته، بل بربه ومن ربه عز وجل: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً * إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً) (الإنسان: 1، 2)، (أو لا يذكر الإنسان إنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً) (مريم: 67).
ومن هنا يعلم الإنسان حق العلم، ويرقن حق اليقين: أن لا حول له ولا قوة إلا بالله، الذي خلقه فسواه، وعلمه ما لم يكن يعلم، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة. فما به من نعمة العلم، أو نعمة القدرة، أو نعمة الحياة والوجود، فهي من الله وبالله: (وما بكم من نعمة فمن الله) (النحل: 53).
وهذا من أعظم البواعث لتعلق العبد بربه: تعلق العاجز بالقدير، والضعيف بالقوي،والفقير بالغني، والجهول بالعليم، والمحدث بالقديم، والذليل بالعزيز، والفاني بالباقي .. وبعبارة أخرى: تعلق المربوب بالرب، والمخلوق بالخالق، والميت بالحي الذي لا يموت. تعلق من لا يملك شيئاً بمن يملك كل شيء، ومن لا يقدر على شيء بمن هو على كل شيء قدير، ومن لا يعلم متى يموت، ولا أين يموت، ولا كيف يموت، بمن لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. وهذا التعلق بالله تعالى والالتجاء إليه، والاعتماد عليه سبحانه هو: التوكل.
إن معرفة الإنسان بنفسه باب إلى معرفة ربه. ولهذا قال العارفون: "من عرف نفسه فقد عرف ربه".
ولهذا كان أبعد الخلق عن التوكل المغرورون بأنفسهم، المعجبون بعلمهم، المعتزون بقوتهم، المزهوون بما يملكون من ثروة أو موهبة، بحيث يحسبون أنهم استغنوا عن الله تعالى. كما قال سبحانه: (كلا إن الإنسان ليطغى أن رءاه استغنى) (العلق:6، 7)، فسبب طغيانه: رؤيته لنفسه في حالة استغناء عن غيره، وربما توهم أنه مستغن عن ربه جل شأنه .
حسب ابن نوح الكافر أن قوته ستعصمه من الغرق، إذا جاء الطرفان، وأنه يستطيع أن يأوي إلى جبل يحميه، وجهل أنه لا عاصم من أمر الله إذا حكم القضاء.
وزعم قارون أن كنوزه -التي تنوء مفاتحها بالعصبة أولي القوة- ستحميه من بأس الله إذا جاء، ولم يستمع لنصيحة قومه بشأن ماله: (قال إنما أوتيته على علم عندي) (القصص:78)، حتى خسف الله به وبداره الأرض (فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين) (القصص: 81).
سمعت قصة رجل من كبار الأثرياء المتغطرسين، خوفه بعض جلسائه يوماً من غدرات الزمن وتقلبات الأيام، فقال: إن عندي أموالاً تكفيني أعماراً بعد عمري، وهي تزيد ولا تنقص. ولو أن الفقر ركب جواداً سريعاً لمدة سنة أو أكثر ليلحق بي، لم يستطع!
قال محدثي: لقد عشت حتى رأيت هذا الرجل يقبل الصدقة من بعض من كانوا يعملون عنده أُجراء.
إن المعجب المغرور محجوب عن رؤية نفسه، فهو لذلك محجوب عن معرفة ربه. ومن عميت بصيرته إلى هذه الدرجة لم يتصور منه الاتكال على ربه. ولم يوقن بحقيقة قوله تعالى: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد) (فاطر: 15).
إنما يتصور التوكل ممن يشعر بالافتقار إلى مولاه، وأنه لا يمكنه الاستغناء عنه طرفة عين ولا ما هو أقل منها .
وكان مما علمه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته في علاج الكرب والضيق قوله: "دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت".
وقال لابنته وأحب الناس إليه: فاطمة الزهراء رضي الله عنها: "ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به: أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث! أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين".
ولذلك مثل المربون الصالحون حال المتوكل على الله -الذي غمره الشعور بالحاجة الدائمة إليه- بحال الطفل الرضيع في اعتماده وسكونه وطمأنينته بثدي أمه لا يعرف غيرها، بل لا يعرف غيره، وليس في قلبه التفات إلى شيء سواه. كما قال بعض العارفين: المتوكل كالطفل، لا يعرف شيئاً يأوي إليه إلا ثدي أمه. كذلك المتوكل لا يأوي إلا إلى ربه سبحانه!

 

المعرفة بفضل التوكل وأحوال المتوكلين ومعايشتهم

ومن بواعث التوكل: المعرفة بفضله وفضل أهله، وما خصهم الله ورسوله به من حسن الثناء، وما وعدهم به من حسن الجزاء في الدنيا والآخرة، وما يعقبه التوكل من أطيب الثمرات في حياة الفرد والجماعة، ويكفي قوله تعالى: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) (الطلاق:3)، وقوله: (إن الله يحب المتوكلين) (آل عمران: 159) ورسوخ هذه المعرفة حتى تستحل يقيناً دافعاً.
ومثل ذلك مطالعة أحوال المتوكلين، من الذين أنعم الله عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وعلى رأسهم سيد المتوكلين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن معايشة سير المتوكلين على الله من أعظم ما يقوي القلب المتردد الضعيف في الاعتماد على الله، والتوكل عليه، والتفويض إليه .

إن التشبه بالرجال فلاح

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم

وأعظم من ذلك تأثيراً: أن تجد من الأحياء من تأخذ عنه ذلك بالصحبة والقدوة، وقليل ما هم، ولا تخلو الأرض منهم إن شاء الله. وقد قيل: إن حال رجل في ألف رجل، أبلغ من مقال ألف رجل في رجل!