nadin

عباس محمود العقاد

(1889 - 1964 م)

العقّاد.. علم من أعلام الفكر والأدب والنقد.. كاتب واسع الاطلاع.. بعيد النظر.. عميق الغور.. رحب الأفق.. موسوعيّ متمرّس..غزير الإنتاج، زادت كتبه التي ألفها على مائة كتاب في مختلف الفنون والعلوم والآداب والنقد والسيرة والتراجم والتاريخ والفلسفة. وهو شاعر مجدّد لقي شعره الإعجاب والاستحسان، كما لقي في الوقت ذاته المعارضة والاستهجان من آخرين بحجة غموضه، والمعاظلة فيه، والتعقيد، وغلبة المنطق والعقل عليه، ما أثار حوله وحول أدبه معارك وخصومات مع كبار عصره ونقّاده. وفي الأسطر التالية نلقي الضوء على لمحات من حياته وسيرته الذاتية، ونستلهم رأيه في الشعر من خلال نقده ونماذج من شعره.

أولاً: حياته
ولد عباس محمود العقّاد في 28|6|1889 في بيت من بيوت مدينة أسوان العريقة. في أسرة اشتهرت بالتقوى وكرم الأخلاق وحب الخير. وقد كانت لهذه النشأة أثر في اكتساب العقّاد كثيراً من الأخلاق والصفات الحميدة كالإيمان والصبر والاعتكاف وإيثار البعد عن اللغو، وأخذ الحياة من جانبها الجاد الصارم.

أما اسم العقاد فهو مشتق من صناعة نسج الحرير وعقده، إذ يسمى أصحاب هذه الصناعة بالعقّادين . فقد كان جده لأبيه (إبراهيم العقّاد) كان يعمل بمصنع للحرير في دمياط.

وقد تلقى العقّاد تعليمه الابتدائي في أسوان، واشتهر منذ طفولته بين أساتذته بالتفوق والنبوغ. وبالإضافة إلى دراسته الصباحية فإنه كان يختلف إلى مدرسة أخرى في المساء بصحبة أبيه، وهي ندوة الشيخ القاضي أحمد الجداوي. إلا أن العقاّد لم يكمل تعليمه بعد حصوله على الشهادة الابتدائية ووفاة أبيه، واشتغل بعد ذلك في وظائف حكومية عدة ، كما اشتغل بالتدريس في المدارس الأهلية. لكنّه سرعان ما ضاق بحياة الوظيفة وقيودها، ولم يكن له أمل في الحياة غير صناعة القلم، وهذه الصناعة ميدانها الصحافة فاتجه إليها، وقد كانت الباعث الأكبر، والمحرّك لنبوغه في الكتابة. فيعدّ هو أول من أدخل في تاريخ الصحافة باب التحقيقات الصحفية. وكانت أول جريدة عمل بها هي جريدة الدستور وأول حديث صحفي له كان مع سعد زغلول.

ثانياً: ثقافته
لقد ظهر الميل إلى الكتابة عند العقّاد مبكّراً، لما كان يتمتع به من استعداد فطري وذكاء حاد، وقريحة نفّاذة وذهن متوقّد. كما ساعدت العوامل التي أحاطت به على تنمية مواهبه وظهورها. فقد لفت نبوغه في المدرسة أنظار أساتذته، فهيأت المدرسة له الوسائل، وأرشدته إلى أول الطريق، وساعدته على اكتشاف نفسه وإدراك إيجابياتها. كما أعانته على القراءة الحرة وحضور الندوات والمطارحات الأدبية. وقد هيأت الكتب والمجلات المتوفرة في بيت والده مجال القراءة. فقد كان يتزود منها، منقطعاً لقراءتها مواصلاً ليله بنهاره.

وقد كانت للبيئة الأسوانية أثر في تكوين رصيده الثقافي والمعرفي. فقد كانت أسوان ملتقى للسائحين، ولهذا توفرت فيها المجلات والكتب الأجنبية، فرفد منها ثقافته العربية برافد آخر أجنبي، وكان لذلك أثر في الاطلاع على الآداب الأجنبية، ولا سيّما الأدب الإنجليزي.
وهناك رافد آخر من روافد ثقافة العقّاد يتمثل في طبيعة العصر الذي عاش فيه، ذلك العصر الذي كان مليئاً بالقلق والتردد واليأس. فقد فتح عينيه على بلاده التي تجثم تحت أقدام الاحتلال الإنجليزي، وأهل البلد لا يتوانون في مطالبة حقوقهم، ونزوح المستعمر عنها. بالإضافة إلى ذلك فهو يرى ويسمع عن الصراع العالمي الدامي، إذ تنذر سحب الحرب العالمية الأولى بشر مستطير وأمر خطير، فقد أصبح الناس في هم ويأس من الغد الذي لا ينبئ بأمن ولا استقرار.

وقد كانت لتأثيرات العصر تلك أثر في العقّاد، سواء في شخصيته أو فكره أو أدبه. وكلها آثار إيجابية، وإن كانت أسبابها تفترق من ناحية الحكم عليها بالإيجاب أو السلب.
 

ثالثا: مؤلفاته
عرف العقّاد بنهمه الشديد في القراءة، وقدرته الفائقة على الفهم والاستيعاب، وشملت قراءاته الأدب العربي والآداب العالمية، ولم يقتصر على ذلك بل كان يطالع كتباً كثيرة لا ينوي الكتابة فيها إنما ليشبع نهمه ويوسّع إدراكه.

وقد كتب العقّاد عشرات الكتب في موضوعات مختلفة؛ فكتب في التاريخ والاجتماع، مثل: (مطالعات في الكتب والحياة)، و(أشتات مجتمعة في اللغة والأدب)، و(ساعات بين الكتب)، و(اليد القوية في مصر).

ووضع في الدراسات النقدية واللغوية مؤلفات كثيرة، أشهرها كتاب (الديوان في النقد والأدب) بالاشتراك مع المازني، وأصبح اسم الكتاب لاحقاً عنواناً للمدرسة الشعرية التي ينتمي إليها، وعاش طوال حياته ينادي بمبادئها، محارباً من أجلها. ومن كتبه في النقد أيضاً: (ابن الرومي حياته من شعره)، و(رجعة أبي العلاء)، و(اللغة الشاعرية).

وله في السياسة كتب كثيرة منها: (هتلر في الميزان)، و(أفيون الشعوب)، و(لا شيوعية ولا استعمار). وله تراجم عميقة لأعلام من الشرق ومن الغرب، مثل: (سعد زغلول)، و(غاندي)، و(محمد علي جناح)، و(محمد عبده)، و(ابن سينا)، و(الفارابي).

أما إسلاميات العقّاد فقد تجاوزت الأربعين كتاباً، شملت جوانب من الثقافة الإسلامية، فتناول أعلام الإسلام في كتب ذائعة، عرف الكثير منها باسم (العبقريات)، مثل: (عبقرية محمد)، و(عبقرية عمر)، و(عبقرية خالد)، و (الصدّيقة بنت الصدّيق)، و(أبو الشهداء).

أما في مجال الدفاع عن الإسلام فقد ألّف العقّاد عدة كتب، أهمها: (حقائق الإسلام وأباطيل خصومه)، و(الفلسفة القرآنية)، و(ما يقال عن الإسلام). وقد ردّ العقّاد في بعض هذه الكتب على ما يثيره أعداء الإسلام من شبهات ظالمة يحاولون ترويجها، مثل: انتشار الإسلام بالسيف، وتحبيذ الإسلام للرق. وقد فنّدها بالحجج المقنعة والأدلة القاطعة.

وقد وصف محمود تيمور العقّاد بأنه: "الكاتب الجبّار، عرف في مساجلاته بأنه عنيد عنيف، وكان من جبروته في خاصة أمره ومن عنفه بنفسه في مجرى حياته أنه لم يرض السير في طريق ممهد مألوف، لا بوصفه شاعراً وكاتباً، ولا بوصفه ناقداً ومؤلفاً، ولا بوصفه مترجماً لأقطاب الأدب وقادة الفكر... والحق أننا لو التمسنا كاتباً عصرياً ينطبق عليه وصف ابن العميد لأديب العربية القديم الجاحظ، لكان العقّاد أديب العربية الحديث خير من ينطبق عليه ذلك الوصف الدقيق الذي أوجزه ابن العميد في قوله: "كتب الجاحظ تعلم العقل أولاً والأدب ثانياً". 
 

رابعاً: شعره
كثير من النقّاد نقّاد فحسب وليسوا بشعراء، أو ليس لهم من الشاعرية نصيب، حتى ولو كانوا متخصصين لنقد الشعر دون سواه، لكنّ العقّاد لم يكن من هؤلاء وإنما كان من أولئك النفر القليل، الذين كانوا نقّاداً، وفي الوقت نفسه شعراء، ولهم من الشعر والشاعرية الشيء الكثير. وهذا ما يدعونا إلى الوقوف عنده شاعراً، للبحث عن خصائص شاعريته، لأنه كان يطبق الكثير من نظرياته الشعرية على إنتاجه الشعري. فقد كان شعره ترجمة عن نظرته في الشعر. فالعقّاد لم يكن كاتباً فذّاً وباحثاً دؤوباً ومفكّراً عميقاً، ومؤرخاً دقيقاً فحسب، بل كان مجدّداً، أبدع في الشعر وأغراضه المختلفة، فكان العقّاد الشاعر هو العقّاد الناثر، والعكس صحيح أيضاً.

ويتضح مما سبق أن هناك عناصر كثيرة أسهمت في تكوين شعره وشخصيته الأدبية، فهو مصري عربي، يستشعر أمجاد العرب ومصر في ضميره وقلبه، وقد توفّر على قراءة أمهات الكتب العربية في الشعر والنثر والفلسفة والتاريخ. وفي الوقت نفسه نجده غربي التفكير، تزوّد من آداب الغرب بكل ما استطاع من غذاء عقلي، وأوغل في قراءة الأدب الإنجليزي والآداب الغربية المختلفة عن طريق اللغة الإنجليزية التي أتقنها، كما توغّل في قراءة الآثار النقدية.

وللعقّاد عشرة دواوين هي ثمرة ما يزيد على خمسين عاماً من التجربة الشعرية. وهي: يقظة الصباح، ووهج الظهيرة، وأشباح الأصيل، وأعاصير، وأشجان الليل، ووحي الأربعين، وهدية الكروان، وعابر سبيل، وديوان من دواوين.

وقد كان العقّاد مولعاً بالتجديد والابتكار، وقد دفعه هذا الولع إلى الإسهام في خلق مدرسة شعرية، وهي مدرسة الديوان التي تعدّ أساساً للأدب الرومانسي في الأدب العربي. وأعلام هذه المدرسة هم عبد الرحمن شكري وعبد القادر المازني والعقّاد. وترجع تسمية المدرسة بهذا الاسم نسبة إلى الكتاب النقدي الذي أخرجه المازني والعقّاد بعنوان (الديوان في النقد والأدب). وأهم بواعث هذه المدرسة في نظم الشعر هو الحب، وصدق العاطفة، وجمال الطبيعة، وتحبيب القيم المعنوية، والاعتزاز بالنفس، وتخليد مظاهر البطولة، وإبراز الخواطر والتأملات. فهم يرون أن الشعر انعكاس لما في النفس من مشاعر وأحاسيس وأنه يصدر من الطبع الذي لا تكلّف فيه.

وقد شنّ أفراد هذه المدرسة الهجوم على شعراء عصرهم الكبار أمثال أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، لأنهم عدّوا شعرهم ضرباً من التقليد والاحتذاء الذي لا غناء فيه ولا تجديد.

وقد تناول العقّاد في شعره أغراضاً متنوعة ومختلفة، لكنه أبدع في الوصف، وفي إبراز عواطف الحب الكامنة في نفسه، وفي إبداء خواطره الفلسفية التي اقتبسها من تجاربه، ومن ثقافته الواسعة التي روّضت فكره على التعمّق في البحث والاطلاع.

ومن أهم المواضيع الشعرية التي تناولها العقّاد في شعره:
1ـ الوصف : أسلفنا الذكر أن الوصف كان من أبرز الأغراض الشعرية عند العقّاد، متأثراً بابن الرومي. وكان محوره الأساس في الوصف هو الطبيعة، التي تحيط به من كل جانب. الطبيعة متعة البصر، وتحفة الجمال، ومعرض الحس، وواهبة الحياة على حدّ تعبيره:
تسبي نواظرنا الطبيعة وتروع وهي بنا مروعة
لولا الحياة لما تملّت حـ فل زينتها الطبيـــــــعة

فها هي الشمس تؤذن بالمغيب، مودّعة الأفق وقد صبغت الأفق ومعه النهر باللون الأرجواني البديع، لكأنه الدم مسفوحاً، أو اللهب ضراماً. يقول العقّاد وقد شغفه هذا المشهد حبّاً من شعر يصف فيه غروب القرص البديع:
انظر إلى جنب السماء الدّامي
لهبٌ على الأمواج ذات ضرامِ
شفقان هذا السماء منشّــــــــرٌ
قانٍ، وذاك على العباب الطامي
الشمس والبحر المريج تلاقيا
أم الضياء ومعدن الإنغــــــــــامِ

والقمر صنو الشمس يغرب هو بدوره أيضاً، وتغرب معه النجوم، فيقول واصفاً ذلك المشهد:
غرب البدرُ أم دفينٌ بقبــرِ
وهوى النجمُ أم أوى خلف ستـــرِ
ضلّ هادي العيون واحلولــ
ك الليلُ فلا فرق بين أعمى وهـرِّ
ولهذا الظلام خيرٌ من النــ 
ور إذا كنتَ لا ترى وجه حــــــرِّ
وها هنا أُطلقُ العنان لأشــ 
جاني وأبكي لنفسي وأُنشدُ شعري

2ـ الغزل: للمرأة في حياة العقّاد تأثير بالغ في تفكيره ووجدانه وشعوره، فالعقّاد أحب المرأة مثلما أحبها غيره من الرجال، وذكرها في شعره كما ذكرها الشعراء، وذاق طعم الحب وتلذّذ بعذابه، وعرف معنى الوصل والهجر. بكى حيناً وكان عصيّ الدمع حيناً آخر. وباح بحبّه آناً وكتمه آونة. وقد قال ذلك مخاطباً ذات يوم نفسه:
يا عزيزَ الدموعِ أين الدّمـوعُ
كم تريد البُكا وما تستطيــعُ
كيف سلواك والفؤاد بما يسليه
في فاجعاتـــــه مفجــــــوعُ
لهفَ نفسي عليكَ يا قلبُ يأبى
فيك َ إلا الكمون داءٌ وجيـعُ
عبراتُ بُرءُ الجوى لو أريقت
وسِمامٌ حتى تراقُ نقيـــــــعُ
كمنت فيك لا تقيض ولا تبرد
فالصدر من شجاها صديـعُ
فيك يا حبُّ كلُّ هذا فبُعـــــداً 
لك داءً ترياقه ممنـــــــــوعُ
غمراتٌ وخدعةٌ وجــــــهادٌ
وسُهادٌ وحسرةٌ وولـــــــوعُ

3- الشكوى والتأمل: عاش العقّاد حياة حافلة بالأحداث والصراعات، وكانت له الحياة مزيجاً من الخيبة والنجاح، واليأس والرجاء، والفراق واللقاء، فتراه راضياً مطمئناً وادعاً حيناً، وثائراً ساخطاً، باكياً شاكياً حيناً آخر، وشكواه أكثر من رضاه، وحزنه أعم من فرحه، وهو إلى الشك أقرب منه إلى اليقين، وإلى اليأس أدنى من الرجاء.
نلمس شيئاً من شكواه ويأسه وثورته على الدهر والناس في قوله:
أحمّل هذا الدّهر ذمّ صنيعه كما يحمل العبدُ السّياط ليُضربا

ويذمّ اللؤم وهو من شيم النفوس، يذمه في معرض المدح، فيقول ساخراً:
هو اللــــــؤم سيـــــفٌ وجُنّــــةٌ من الناس والدنيا مجالُ كفاحِ
فواهاً لنفسي في المجال مجرّداً 
أصغت مجنّي بينهم ورماحي
ويصف العقاد الشعراء ومأساتهم في أنهم يسبحون في الخيال ويتيهون، فيقول:
ملوكٌ فأما حالــــــهم فعبيــــــــــدُ
وطير ولكن الجدودَ قعـــــودُ
أقاموا على متن السحاب فأرضهم
بعيد ٌ وأقطار السماء بعيــــدُ
مجانين تاهوا في الخيال فودّعـوا
رواحة هذا العيش وهو رغيـدُ
وما ساء حظ الحالمين لو أنهــــم 
تدوم لهم أحلامهم وتجـــــــودُ

وفي قصيدته (نفثة) يبث العقّاد الكثير من بوح الوجدان والمعاناة والشكوى، فيقول:
ظمآن ظمآن لا صوب الغمام ولا
عذب المدام ولا الأنداء ترويني
حيران حيران لا نجم السماء ولا 
معالم الأرض في الغمّاء تهديني
يقظان يقظان لا طيب الرقاد يـدا
نيني ولا سمر السمّار يلهينــــي
غصّان غصّان لا الأوجاع تبليني
ولا الكوارث والأشجان تبكينـي
أسوان أسوان لا طبّ الأسـاةِ ولا 
سحر الرقاة من الأدواء يشفينــي
سأمان سأمان لا صفو الحياة ولا
عجائب القدر المكنون تغنينــــي
أصاحب الدّهر لا قلب فيسعدنـي
على الزمان ولا خل فيأسونـــــي

ويخلُص العقّاد أخيراً من هموم الدنيا وعناء أهوالها إلى تفويض الأمر إلى الله تعالى، وإلى التسليم المطلق بحكمته وإلى الرضى بالواقع، فيقول:
قالوا الحياة قشورٌ
قلنا فأين الصّميمُ
قالوا شقاءٌ فقلنـــا
نعم فأين النعيـــمُ
إن الحياة حيـــاةٌ
ففارقوا أو أقيمـوا 
 

4- الرثاء: لم يبلغ العقّاد في الرثاء شأو الفطاحل المعاصرين له في هذا المضمار كحافظ وشوقي، إذ غلب المنطق والعقل على شعره، وما كان حظ العاطفة عنده عظيماً، إلا في بعض مراثيه. فيقول في رثاء طفلة في عمر الزهور:
زهرةٌ كان وجهها
نوّر قلبي وناظري
حملتها يد الـردى
حِملَ من لم يحــاذرِ
فتوارت ولم يزل
عَرفُها ملء خاطري 
 

ويقول في قصيدة أنشدها في ذكرى أربعين سعد زغلول، وقد بلغت أبياتها المائتين:
أمضت بعد الرئيس الأربعون
عجباً كيف إذن تمضي السنون
فترة التيه تغشّــــت أمــــــــة
غاب موساها على طور سنيـن
كل يومٍ ينقضـــــي نفقــــده
وهو ملء الصدر من كل حزين
تكبر البلوى به حين مضت
والبلايا حينما تمضي تهــــــون

ومن أصدق رثاء العقّاد؛ ما رثى به حافظ إبراهيم، فقد قال في يوم وفاته:
أبُكاءٌ وحافظٌ في مكـــــــــــانِ؟
تلك إحدى طوارق الحدثــــــــانِ
كنتَ أُنساً فكيف أمسيت يــــــا 
حافظُ تُدمي لذكرك العينــــــــانِ
كنت تتلو الرثاء معنىً فمعنـى
كيف أمسيت بعض تلك المعانـي
كنت أعلى الجموع صوتاً فهلا
نطق الآن صوتُ ذاك البيــــــانِ
وعــــــــــزيزٌ على بلادك أن
تذهب يوم انبريت للميــــــــــدانِ
يوم أطلقت من إسارك حــراً 
وأبيت الإســــــار للأوطــــــــانِ
ألهم الله مصرَ فيك عـــــزاءً
لا بل العرب في شفيع اللســـــانِ
كلنا صائر كما صرتَ يومـــــاً
والذي قد صنعتَ ليس بفــــــــانِ

 

خامساً: ديوان عابر سبيل
أخرج العقّاد ديوان (عابر سبيل) سنة 1936، وهو محاولة من نوع جديد لم يسبق له ولا لغيره من الشعراء أن حاولوها أو صرفوا شعرهم إليها. فالعقّاد في هذا الديوان يدعو إلى النزول بالشعر إلى واقع الحياة والتعبير عنها في كافة مظاهرها. فكل موضوع عنده صالح للشعر، مادام يؤثر في مشاعرنا وعواطفنا، ولا يمكن الحكم على موضوع بأنه مهم أو تافه، وإنما مقياس الأهمية هو إحساس الشاعر نفسه. وعلى مدى هذا الإحساس تتوقف أهمية الموضوع وصلاحيته للشعر. ولكي يثبت العقّاد نظريته تلك؛ قدم لنا ديوانه هذا مسجّلاً المشاعر التي قد يحسّها الإنسان (عابر السبيل) نحو مظاهر الحياة البسيطة التي يلتقي بها في طريقه.

ومن هذا المنطلق فإن العقّاد يقدّم ديوانه بقوله: "على هذا الوجه يرى عابر السبيل شعراً في كل مكان إذا أراد، يراه في البيت الذي يسكنه، وفي الطريق الذي يعبره كل يوم، وفي الدكاكين المعروضة، وفي السيارة التي تحسب من أدوات المعيشة اليومية، ولا تحسب من دواعي الفن والتخيل، لأنها كلها تمتزج بالحياة الإنسانية، وكل ما يمتزج بالحياة الإنسانية فهو ممتزج بالشعور، صالح للتعبير، واجد عند التعبير عنه صدى مجيباً في خواطر الناس."

ونجده في سلوكه لهذا المسار متأثراً جداً بابن الرومي الذي كانت لديه ملكة فنية مصورة يسلطها على الأشياء العادية، فيرسم لها صوراً شعرية مميزة وجدناها في شعره.
ويقدّم العقّاد للقصيدة الأولى في ديوانه، وهي قصيدة بعنوان (بيت يتكلّم) بالمقدمة النثرية، فيقول: "كل بيت من البيوت التي تعاقب عليها السكّان، لو ألقيت عليه طلسم الخيال وأمرته بالكلام فتكلّم؛ لانطلقت منه أسرار وأشباح يزدحم بها فضاء المكان، ولسمعت عجباً لا تسمع الآذان أعجب منه، وليس الذي يتحدّث به (البيت) في القصيدة إلا قليل من كثير." 
يقول في قصيدته على لسان البيت:

جميع الناس سكّاني
فهل تدرون عنواني
وما للناس من سـرٍّ 
عدا آذان حيطانــــي
حديثي عجب فيـه
خفايا الإنسِ والجــانِ
فكم قضيت أيامي
بأفراحٍ وأحــــــــزانِ
وكم آويت من بشرٍ
وكم آويت من جــــانِ
فإن أرضاكُمُ سرّي 
فهاكم بعض إعــــلاني

فالعقّاد استطاع في ديوانه هذا أن يحوّل كل شيء حولنا إلى شعر عذب، فيه جمال وبصر بالحياة، وفيه لفتات وجدانية وذهنية، و ذلك على نحو ما نرى في قصيدته (كوّاء الثياب ليلة الأحد)، التي يقول فيها:

لا تنـم ، لا تنـــم
إنهم ساهـــرون
سهروا في الظلم
أو غفوا يحلمون
أنت فيهم حَكَـــم
وهم ينظـــــرون
في غدٍ يلبســون
في غدٍ يمرحون
كم إهابٍ صقيل
يا له من إهـــاب
وقوامٍ نبيــــــــلٍ
في انتظار الثياب
وحبيب جميـــلٍ 
يزدهي بالشبــاب
كلهم يحلمـــون
في غدٍ يلبســــون 
 

نجد ذلك أيضاً في قصيدة (عسكري المرور)، التي يقول فيها:
متحكّم في الراكبيــــــــن
وما له أبداً ركوبـــــــه
لهم المثوبــــــــــة من بنا 
نك حين تأمر والعقوبـة
مر ما بدا لك في الطريق 
ورض على مهل شعوبه
أنا ثائــــــــرٌ أبداً وما في
ثورتي أبداً صعوبـــــــة
أنا راكب رجلي فــــــلا
أمرٌ علي ولا ضريبـــــة
وكذلك راكب رأســـــه
في هذه الدنيا العجيبــــة

فإذا تجاوزنا تلك النظرة السطحية للمعاني القريبة الواضحة في أبيات العقّاد، والتي يفهمها عامة الناس، فإننا سنجد دلالات عميقة، وفهماً عميقاً ومعقّداً، وفلسفة للحياة، لا يستطيع أن يضمنها أحدٌ في أبيات وكلمات سهلة وبسيطة وفي متناول الجميع إلا شخص فهم الحياة، واختبرته واختبرها مثل العقّاد. 
وختاماً نقول،،،

لقد ظلّ العقّاد عظيم الإنتاج، لا يمرّ عام دون أن يسهم فيه بكتاب أو عدّة كتب، حتى تجاوزت مائة كتاب، بالإضافة إلى مقالاته العديدة التي تبلغ الآلاف في بطون الصحف والدوريات. كما أنه اشتهر بصالونه الأدبي الذي كان يعقد صباح كل جمعة، يؤمه تلامذته ومحبّوه. يلتقون حول أستاذهم، ويعرضون لمسائل العلم والأدب والتاريخ، دون ترتيب لها أو إعداد، فقد وقف العقّاد حياته كلها على خدمة الفكر الأدبي. وقد بايعه طه حسين بإمارة الشعر بعد موت شوقي وحافظ، قائلاً:
"ضعوا لواء الشعر في يد العقّاد، وقولوا للأدباء والشعراء أسرعوا واستظلوا بهذا اللواء، فقد رفعه لكم صاحبكم.

 


 

عودة إلى صفحة البداية