nadin

سليمان حُزيِّن

(1909 - 1999م)

غيّب الموت الدكتور سليمان حُزين عميد الجغرافيين العرب ، وأحد رواد العلم والفكر في مصر والعالم العربي ، عن عمر يناهز التسعين ، وكأن الفقيد أراد أن يرحل مع رحيل القرن العشرين الذي كان أحد أعلامه ، وشهد أهم أحداثه وتحولاته.

قدم الفقيد العديد من الدراسات العلمية والفكرية الرصينة ودارت غالبيتها حول مواضيع الجغرافيا التاريخية والحضارية للمنطقة العربية ومصر ، ومدى تأثيرها على التاريخ الثقافي والحضاري لشعوب المنطقة ، وهو الفرع الذي تخصص فيه الدكتور حُزين ، وتفرد وأبدع ، وأفرد له أكثر من مئة مؤلف وبحث علمي باللغات العربية والانكليزية والفرنسية ، منشورة في العديد من الكتب والمجلات والدوريات والمؤتمرات العلمية الدولية.

كان حُزين من أشد المتحمسين لقضية مصر وانتمائها إلى محيطها العربي ، ودلل على ذلك بحقائق جغرافية وبراهين تاريخية لا تقبل الجدل وتقطع الشك باليقين ، أوردها في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر العربية" الذي حاز به على جائزة أحسن كتاب ثقافي للعام 1994 ، وخالف حُزين بذلك رؤية أستاذه طه حسين التي قدمها في كتابه الشهير "مستقبل الثقافة في مصر" الذي آثار زوبعة واسعة حين صدوره في ثلاثينات القرن العشرين ، وحاول من خلاله أن يحول دفة الفكر واتجاه الثقافة من الاتجاه التقليدي لتلمس منابع تراثنا الفكري والثقافي ، إلى اتجاه الغرب ونهضته الحديثة وكان يريد من ذلك القطع مع الثقافة العربية لحساب ثقافة الغرب.

وعلى النقيض من ذلك ، كان حُزين يرى أن ارتباط مصر بالثقافة العربية هو ارتباط عضوي لا سبيل إلى الفكاك منه ، لجهة أنه رباط قديم يستند إلى العرق والنسب ، كما يستند إلى الفكر والثقافة واللسان.

وكشفت الدراسات الاركيولوجية تعني بدراسة آثار إنسان ما قبل التاريخ التي أجراها حُزين في مصر وجنوب الجزيرة العربية عن اختلاط الحضارة والثقافة المصرية القديمة بالثقافات الحامية والسامية التي جاءت من بلاد العرب ، حتى قبل أن تبدأ السلالة العربية بمفهومها الانثروبولوجي الدقيق.

فالأصول الأولى للحضارة الفرعونية إنما ترجع في رأي حُزين إلى هجرات العناصر "الحامية" من جنوب بلاد العرب إلى شرق إفريقيا وأعالي مصر خلال الألف الخامسة قبل الميلاد ، وفي عهد ما يسمى بـ"حضارة البداري" ، وكان ذلك أصل اللغة المصرية القديمة المتأثرة باللغة الحامية القديمة ، ثم جاءت بعد ذلك موجات وصلات تجارية وسكانية وحضارية وصلت إلى مصر تباعاً وابتداء من عصر حضارة "المعادي" في نهاية عصر ما قبل الأسرات وعصر الأسرات الأولى ، وفيها صلات وثيقة بحضارات سورية القديمة وبدايات وصول الساميين وثقافتهم إلى أرض مصر ، وتكررت تلك الغزوات والصلات السامية بأرض الفراعنة خلال معظم التاريخ الفرعوني.

وتجددت أواصر الرابطة بين مصر والعروبة عهداً بعد عهد ، حيث أوت مصر الفكر التوحيدي أيام اخناتون المصري وموسى السامي ، ثم أيام يوسف والمسيح الطفل وأمه مريم عليهما السلام ، وكان ذلك - كما يؤكد حُزين - تجديداً لصلات الرحم التي تبناها إبراهيم ، أبو الأنبياء ، وجددها محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم وصلت إحدى ذراها حين آوت مصر موجة العروبة المرتدة من شمال غرب إفريقيا إلى موطنها الأصيل في المشرق أيام الفاطميين عندما قام صرح الأزهر ، فلم يلبث أن غدا المنارة الأولى للفكر الإسلامي والعربي.

إلى ذلك لم ينكر حُزين التأثير الثقافي المتبادل بين مصر ومجالها المتوسطي نسبة إلى البحر المتوسط بدءاً بالإغريق والرومان وانتهاء بنهضة أوروبا الحديثة. "فإن موقع مصر الجغرافي جعلها مطلاً لأبنائها وللعروبة من ورائها على مجال آخر للفكر والثقافة منذ قديم ، وهو مجال البحر المتوسط وما وراءه ، فكانت صلات مصر بهذه الجهات تقوم على أساس العطاء والأخذ ، فقد أعطت اليونان القديمة قبل أن تأخذ منها ، ثم أعطت شمال البحر المتوسط وثقافته اللاتينية خلاصة الفكر العربي تزاوجاً مع الفكر اليوناني القديم".

وفي العصر الحديث كانت مصر أسبق بلاد العرب إلى الأخذ ببعض جوانب الحضارة الأوروبية الحديثة ، فأخذت ما أضافته إلى تراثها العربي ، وما أغنت به الفكر العربي والثقافة المصرية الحديثة.

تلك كانت رؤية حُزين للتاريخ والحضارة ، فلم ينبهر بثقافة الغرب كما فعل غيره ، ورأى في الحضارة الغربية سلبيات ونواقص جعلته يقول عنها "إنها حضارة مغتربة عن أصولها ، سطحية في ارتباطها بالأرض ، غير عميقة الإيمان في اتصالها بالسماء ، وغير منصفة ولا مخلصة في استمساكها بنواميس الحق أو العدل أو حتى بأواصر المساواة أو الرحمة والمعروف بين الناس".

من جهة أخرى كان حُزين ينظر إلى الجغرافيا بمفهوم شامل ، فهي عنده لا تقتصر على دراسة الطبيعة والبيئة ، بقدر ما أصبحت علم التأمل في صلة الإنسان بالطبيعة ، وصلة التاريخ بالجغرافيا ، وصلة الجغرافيا بالسياسة ، وهو المفهوم الذي سار عليه حزين في دراسات لأكثر من نصف قرن ، وجعله يلتمس طريقه العلمي إلي اختيار مواضيع تتصل بماضي الأمة العربية من جهة ، ثم بمستقبلها المأمول من جهة أخرى.

اختار حُزين منهج "الجغرافية الحضارية" وهو منهج يختلف عن المنهج الجغرافي المعتاد الذي يهتم بتناول البيئة والطبيعة من أرض ومناخ ونباتات وموارد طبيعية ، ثم ينتقل إلى تناول الإنسان وحياته واستخدامه للأرض والموقع.

أما منهج الجغرافيا الحضارية فهو امتداد لمنهج ما يسمى بـ"الجغرافية التاريخية" الذي يدرس العلاقة المتطورة بين الإنسان والبيئة على امتداد الحقب والعصور. فالجغرافيا الحضارية تختص بتصوير حضارة الإنسان في تتابعها الزمني ، وتشمل الحضارة بشقيها المادي والمعنوي. فالجانب المادي يتمثل في مظاهر النشاط البشري وإبداع الإنسان في استغلال موارد الطبيعة ، والجانب المعنوي يمثل الإبداع الفكري والثقافي والأدبي والفني الخالص للقريحة البشرية ومن مجموع العملين "المدني" و"الثقافي" يأتلف العمل الحضاري العام.

وكان لسليمان حزين رأي سياسي في الأحداث والتطورات الجارية على الساحة العربية ، وكان هذا الرأي يميل إلى مواقف القوميين العرب. ومن آرائه السياسية التي سجلها في كتابه "ارض العروبة: رؤية حضارية في المكان والزمان" أن الوحدة العربية يجب أن تقام بالدعوة السياسية الدائبة ، وليس عن طريق القوة العسكرية التي عفا عليها الزمن ، ودلل على مقولته بالفشل المتكرر الذي مني به الزعماء العرب لتحقيق الوحدة.

فالعرب في رأي حُزين لهم طبيعة نفسية خاصة تجعلهم يجفلون من الوحدة القسرية التي تفرض عليهم بالقوة ، ويرجع ذلك إلى البدوية الكامنة في أعماق النفس العربية ، فابن البادية بطبيعته يعرف الانتماء للقبيلة أو الدولة ، ولكنه لا يجب أن يقاد ولا يقبل أن ينقاد.

ولذلك فإن العربي يقبل الوحدة المتدرجة الهادئة التي تتم عبر قنوات شعبية ورسمية وعلى مراحل جزئية تستمر فترة طويلة من الزمن ، من دون القفز للوصول إلى نتائج متسرعة تعود بنا إلى الوراء بإثارة النزاعات الداخلية بين الأقطار العربية ، وهي تضر في النهاية بقضية الوحدة ذاتها وتجعلها حلماً بعيد المنال بعد اهتزاز الثقة بها في نفوس العرب.

ويعود حُزين فيؤكد أن العرب يملكون كل المقومات اللازمة لتحقيق وحدتهم ، فكل بقعة من بلادهم لها دورها الخاص في بناء القومـــية العربية والثقافة العربية ، فالبادية كانت "ضمير" تلك الأمة خلال التاريخ ، وفيها تشكلت السجايا العربية بين الأعراب والبدو ، وظهرت الشيم التي امتاز بها العرب على مر العصور ، كالشهامة والنخوة والكرم والتضحية من أجل المجموع.

والمناطق الجبلية أضفت على أهلها صفاتهم وطبائعهم التي ورثوها عن البيئة الجبلية القاسية ، وأهل السهول والأراضي المنبسطة كانت لهم صفة الاستقرار والمدنية والنزوع إلى طلب الرفاهة ، أما مناطق السواحل والحدود فكانت مناطق دفاع ومواجهة حضارات أخرى وثقافات مختلطة.

ولد الدكتور سليمان حزين في العام 1909 ، وبعد أن أتم دراسته الأولى كان ضمن الدفعة الأولى التي التحقت بالجامعة المصرية عقب إنشائها مباشرة.

وبعد حصوله على ليسانس الآداب في الجغرافيا في العام 1929 ، أوفدته الجامعة في بعثة إلى انكلترا حصل خلالها على درجة الماجستير من جامعة ليفربول ، والدكتوراه من جامعة مانشستر وذلك في العام 1935 ، ومحنته الجامعة الأخيرة جائزة ومنحة "لا نجثون" لدراسات ما بعد الدكتوراه ، وأوفدته إلى اليمن لإجراء بحوث "اركيولوجية" ودراسة آثار الإنسان القديم في صحراء اليمن ، وهي دراسة رائدة وفريدة من نوعها.

وبعد عودته إلى مصر التحق بسلك التعليم الجامعي ، فعمل مدرساً ثم أستاذا للجغرافيا في كلية الآداب في جامعة القاهرة ، وفي العام 1942 عهد إليه إنشاء قسم الجغرافيا في جامعة الإسكندرية ، ثم عيّن مديراً للمعهد الثقافي المصري في لندن الذي شارك في تأسيسه في العام 1943 ، كما شارك أيضاً في الدراسات الخاصة بإنشاء هيئة اليونسكو في العام 1944 ، وانشأ المركز المصري للثقافة العربية والإسلامية في مدريد في العام 1950.

وقام بتأسيس جامعة أسيوط وإعداد كوادرها العلمية والأكاديمية ، وهي أولى الجامعات الإقليمية المصرية  ، وإليه يرجع الفضل في قيام ذلك الصرح الكبير الذي تغيرت به شخصية محافظة «أسيوط» بل محافظات الوجه القبلي كلها ، وكان رئيسا لها طوال عشر سنوات قبل أن يعين وزيراً للثقافة في العام 1965.

وفي هذه الأثناء عهد إليه الرئيس جمال عبد الناصر بإعداد مشروع قانون تنظيم الأزهر وجامعته ، وكان من الرعيل المؤسس لمجمع البحوث الإسلامية في الأزهر ، وعضواً بارزاً في المجلس الأعلى للثقافة ، وعضو مجمع اللغة العربية في القاهرة.

وفضلاً عن ذلك كله شغل حُزين العديد من المناصب العلمية والإدارية الكبيرة ، فعمل مديراً لمركز القاهرة الديموغرافي التابع للأمم المتحدة من العام 1968 إلى العام 1980، وهو المركز المسؤول عن بحوث ودراسات السكان في دول إفريقيا والشرق الأوسط ، كما انتخب رئيساً للاتحاد الجغرافي العربي ، ورئيساً للجمعية الجغرافية المصرية ، والمجمع العلمي المصري.

حيث كان أول دفعته التي كانت أول دفعة تتخرج في جامعة فؤاد الأول بعدما درس أربع سنوات في هذه الكلية الجديدة من الجامعة الجديدة‏..‏ ومن الناحية الأخرى فقد كان سليمان حزين المدير المؤسس لرابع جامعة مصرية‏,‏ وهي في ذات الوقت أول جامعة تمت نشأتها الحقيقية في عهد الثورة‏.‏

 


 

عودة إلى صفحة البداية