nadin

سَــقطت اليوجينيا.. ولم يســقط اليوجينيون!

حـــروب وراثيـة

بقلم د / أحمد مستجير
معظم الناس لم يسمعوا عن «اليوجينيا»، ومعظم من سمعوا عنها يعتقدون أنها قد انتهت مع هزيمة هتلر عام 1945، كان السير فرانسيس جالتون هو من صاغ المصطلح عام 1883، رأى أن التطور الصحيح للجنس البشرى قد انحرف، فقد قادت نزعةُ الخير لدى الأثرياء وإنسانيتُهم إلى تشجيع «غير الصالحين» على الإنجاب، الأمر الذي أفسد آلية الانتخاب الطبيعي، ومن ثم أصبح جنس البشر فى حاجة إلى نوع من الانتخاب الاصطناعي، أطلق عليه اسم «اليوجينيا». كان بها يعنى «علم تحسين الإنسان عن طريق منح السلالات الأكثر صلاحية فرصةً أفضلَ للتكاثر السريع، مقارنة بالسلالات الأقل صلاحية»، أما موضوع بحث اليوجينيا فهو «دراسة العوامل الواقعة تحت التحكم الاجتماعي التي قد تُحَسِّن أو تُفْسِد الخصائص الطبيعية الموروثة للأجيال فى المستقبل، جسدياً أو ذهنياً». قيل إن اليوجينيا رغبةٌ طبيعية فى الإنسان الفرد، وفى الجماعة. لم يكن ثمة مانع لدى الوالدين فى فجر التاريخ من قتل طفلٍ لتوفير فرصةٍ أفضل لبقاء أخيه، بدلاً من موت الاثنين. وكانت محاولاتُ الإبادة الجماعية للأعداء وسيلةً معروفةً لتحسين فرصة بقاء العشيرة.

ربما كان أفلاطون هو أول اليوجينيين. فعلى رأس «جمهوريته» كان فلاسفةٌ يتمتعون بالصحة الطيبة والقدرة العالية على التفكير، أما محدودو الذكاء فكانوا يشغلون المواقع الدنيا من الهيراركية. كانت الجمهورية ترتكز على الاسترقاق، ولم تتحدث كثيراً عن النساء ـ كانت مرتبتُهُن على العموم متدنيةً فى المجتمع الإغريقي. كان أفلاطون يعتقد أن «المزاج» يُوَرَّث، وكان على حكام الجمهورية أن يدبروا أمر تزاوج «المرغوبين» ، وأن يتيحوا لكل مَنْ يُبلى بلاء حسناً في الحروب فُرَصاً للإنجاب أكبر. كانت أفكار أفلاطون فى الواقع تعادل ما نسميه اليوم «اليوجينيا الإيجابية».

إن جوهرَ التطور هو الانتخاب الطبيعي، وجوهرَ اليوجينيا هو أن «نستبدل بالانتخاب الطبيعى انتخابا اصطناعياً واعياً، بهدف الإسراع من تطوير الصفات المرغوبة والتخلص من الصفات غير المرغوبة»: أن نحسن الأجيال القادمة، على حساب الأجيال المعاصرة. الفرض المستتر إذن هو أن هناك من البشر مَنْ هم أفضل من غيرهم، مَنْ يستحقون أن ينجبوا أكثر من الآخرين، وأن يُمَثَّلوا فى الجيل التالى بنسبة تَفُوق نسبتهم فى الجيل الحالي، ولقد يتم ذلك بزيادة نسل مَنْ «يستحقون» (اليوجينيا الإيجابية) أو بتقليل نسل مَنْ «لا يستحقون» (اليوجينيا السلبية). التحوير المتعمَّدُ لجنس البشر لأهداف اجتماعية هو ما تطمح إليه اليوجينيا، و«عندما يتغلب الإنسان على تطوره البيولوجي، فسيكون قد وضع الأساسَ للتغلب على كل شيء آخر... سيصبح الكونُ أخيراً طوعَ بنانه»، كما قال يوجينيٌّ عتيد.

سيحدد اليوجينيون إذن للتطور مساراً جديداً، أهدافاً جديدة يقررونها هم حسب أهوائهم. هم يرون أننا لابد أن نُسْلِمَ زمام التطور والانتخاب فى المرحلة الراهنة إلى «النُّخبة»، الأرستقراطية الآرية، وألاَّ نترك الأمر للصدفة، لأن الصدفة قاسيةٌ غليظةُ القلب، وهى متقلبة، وعادة ما تكون أكثر تكلفة، ثم إن علينا أن نغير الوسيلة التى يتخذها الانتخاب الطبيعى والصدفة للقضاء على العشائر «التى لا جدوى منها» (يقصدون التخلص منها بالموت)، وأن نستبدل بها وسائل أكثر تحضراً ونبلاً وإنسانية: تحديد النسل. اليوجينيا ترى أن هناك عشائر بشرية « لا جدوى منها».

ذاعت حركة اليوجينيا فى أوائل القرن العشرين فى أوروبا وأمريكا عندما كان علم الوراثة لا يزال طفلا يحبو، وانضم إليها وتعاطف معها الكثيرون من كبار المفكرين والعلماء والساسة والفلاسفة ورجال المال : برتراند راسل، ج.د. برنال، جوليان هكسلي، رونالد فيشر، برنارد شو، هافلوك إليس ، د.هـ. لورانس، ألدوز هكسلي، هـ. ج. ويلز، روزفلت، تشرشل، جون روكفيلر. خَلَقَت تياراً عارماً يبررها، يحرسها، يدافع عنها، يُشَرِّع لها. اجتاحت أوروبا وأمريكا. أصبحت ديناً. كرست نفسها لتأكيد أن الناس لم يُخلقوا سواسية. كانت أوروبا فى القرن الثامن عشر قد سيطرت ـ بالأسلحة وبالمفاوضات، بالقوة وبالخداع ـ على أفريقيا، ثم آسيا، ثم أمريكا. وبقيت مسيطرةً طويلاً طويلاً، حتى اعتبرت نفسَها سيدة العالم، وأن بقية البشر إنما خُلقوا من أجلها، من أجل الرجل الأبيض. «إن الكلاب تكف عن النباح إذا ما استنشقت هواءنا». الشعوب، كما الأفراد، لم تُخلق سواسية. وهذا كارل بريجهام يؤكد سنة 1923 أن السود فى أمريكا يشكلون نسبةً من «ضعاف العقول» تزيد على نسبتهم فى المجتمع.

فى عام 1798 كان القس الإنجليزى توماس روبرت مالتوس قد نشر كتابه «مقال عن السكان». كانت الفكرة المحورية للكتاب هى أن العشيرة تتزايد فى العدد أُسِّيّاً، وستنتهى بالضرورة إلى أعداد لا يكفيها المُتاح من الموارد الغذائية. فإذا عجز الآباء عن تحديد حجم عائلاتهم، فإن الحروب والمجاعات ستقضى على الأعداد الزائدة، فالجزيرة البريطانية مثلاً لا يمكن أن تحمل أكثر من 20 مليون شخص (وبعد مائة وخمسين عاماً كانت تحمل ثلاثة أضعاف هذا العدد). مع زيادة أعداد البشر سيندلع صراع من أجل لقمة العيش ينتصر فيه مَنْ يحمل ميزاتٍ معينةً، ينقلها إلى نسله، ليسود هذا بدوره أكثر وأكثر. قال اليوجينيون إن هذا كان وراء حدوث التطور، وأنه كان وراء وجود النبلاء وأساتذة الجامعات والطبقة الأرستقراطية. أما عن الميزات الوراثية فقد رأوا أن أولَها وأهمَّها هو «الذكاء». «إن المحور الأساسى للسلوك الإنساني» كما يقول هنرى جودارد عام 1919 «هو العملية الذهنية المتكاملة التى نسميها الذكاء... وعلى هذا فإن أية محاولة للتعديل الاجتماعى لا تضع فى اعتبارها أن صفة الذكاء صفة جبرية وأن درجة ذكاء الفرد لا تتغير، هى محاولة غير منطقية، وغير كفء».

ابتكروا للذكاء المقاييس، وراحوا يجرون أبحاثهم ليؤكدوا أنه صفة عالية التوريث ـ وإنْ كانوا «يعرفون» مقدماً أن «القدرة الذهنية تُوَرَّث... أن البراهين على هذا براهين حاسمة»، فقد قالها اليوجينى سيريل بيرت عام 1911، ثم إنهم درسوا معامل الذكاء وعلاقته بالجريمة والعنف، ليتأكد لهم «أن العالم يحتاج إلى سيادة الجنس الأبيض»!
وكان المنظِّرون الاجتماعيون بالقرن التاسع عشر، وعلى رأسهم هربرت سبنسر قد أكدوا أن الفقراء بطبيعتهم لا يستحقون، وأن الواجب ألاَّ نشجع بقاءهم أو بقاء نسلهم. وعلى عكس داروين الذى يقول إن «الأصلح» هو الذى يترك نسلا ً أكثر، سنجد اليوجينيين يرون أن الأصلح هو المتميز فى الذكاء والصحة والأخلاق الحميدة، وهو ـ بالطبع ـ مَنْ يشبه اليوجينى الذى يضع معايير الصلاحية!

ثمة كاتب فرنسى أرستقراطى اسمه آرثر كونت ده جوبينو، نشر فى منتصف خمسينيات القرن التاسع عشر كتاباً عنوانه «مقال عن التفاوت بين سلالات البشر»، قال فيه إن الأرستقراط الآريين الشُّقر كانوا دائماً «زهرة أوروبا»، ولكنهم فقدوا قوتهم بالزواج بالسلالات الأدني. أهمل الفرنسيون الكتاب، لكن الألمان أحبوه. أعيدت الحياة مرة أخرى إلى الكتاب، وأنشأ عشاقُه «جمعية جوبينو» عام 1894، وفى عام 1899، نشر انجليزى يحمل الجنسية الألمانية، اسمه هوستون سيتوارت شامبرلين، كتاباً عنوانه «قواعد القرن التاسع عشر»، استلهم فيه جوبينو وقال إن الألمان هم أنقى الآريين، وهاجم فيه السود واليهود. وعندما كتب هتلر كتابه «كفاحي» يشيد فيه بالألمان ويزكى اليوجينيا، كان فى واقع الأمر يكرر ما قاله شامبرلين إنما بصورة فصيحة مؤثرة!

على مطلع القرن العشرين إذن كان المناخ الفكرى قد تهيأ لكى تتحول يوجينيا جالتون إلى سياسة. كان قانونَا مندل للوراثة قد أعيد اكتشافهما، وانهمك العلماء فى حمية يجربون، لتتكشف نتائج وآفاق فى علم الوراثة جديدة، بينما الفلاسفة يعضدون ويُنَظِّرون، ورجال المال يمولون. ربما كان لنا أن نقول إنه مع بداية القرن العشرين بدأت «الحرب» اليوجينية حقاً فى الولايات المتحدة وألمانيا وإنجلترا والسويد والدانيمرك وفنلندة. ولابد لقيام حرب من وجود : عدو، وسلاح، وهدف، ومثال أعلي. العدوُّ هو المتخلفون وراثياً، الفقراء (فالفقر عند اليوجينيين صفة وراثية)، المعتوهون والمجانين، مرضى الصرع والدرن الرئوي، المقعدون، المنحلُّون، الشواذ، المومسات المحترفات، المجرمون بالفطرة، السكيرون، ثم الملونون والمهاجرون من السلالات الأدنى ـ كلُّ مَنْ يلوثون المستودع الوراثى للسلالة. السلاح هو : التعقيم القسري، والحد من زواج المتخلفين أو منعه، ومنع الحمل، والإجهاض، بل والقتل إذا لزم الأمر. الهدف هو: توفير الحياة الرغدة الكريمة للرجل الأبيض الذكى فلا يزاحمه فيها مَنْ لا يستحق. المثال الأعلي: السلالة النقية الذكية الأقوي، فالأقوى كما يقول هتلر لابد أن يسود على الأضعف، لا يمتزج معه حتى لا يضحى بعظمته و«لن يجد فى هذا قسوةً إلا الضعاف».

الحرب ضرورية «للتخلص» من البشر المتخلفين، كما يقول اليوجينى الكبير كارل بيرسون: «إن اعتماد التقدم على البقاء للسلالة الأفضل، رغم ما قد يبدو به من شر فظيع، إنما يعطى الصراع من أجل البقاء ملامحه المبتغاة. إذا توقفت الحروب، فلن يتقدم جنس البشر: لن يكون هناك ما يكبح جماح خصب السلالات المتخلفة». أصبح القتل والوحشية سلاحاً. والقسوة أيضاً: «الإحسان لأطفالٍ غير الأكفاء نقمة قومية، لا نعمة. إن تدابير مثل الحد الأدنى للأجور، وتحديد ساعات العمل، والطب المجاني، وانخفاض وفيات الأطفال، إنما تشجع البطالة والمتخلفين وضعاف البنية والعقل». فليذهبوا جميعاً إلى الجحيم فى سبيل الهدف اليوجينى الأسمي!

أفكار اليوجينيا تقوم على الفرض بأن الناس ليسوا بطبيعتهم متساوين، أما الديموقراطية الغربية فترتكز على الفرض بأن كلَّ الناس متساوون. «من الصعب إذن أن نُنَفِّذَ اليوجينيا فى مجتمع ديموقراطي» كما يقول برتراند راسل «فالديموقراطية تعترض الطريق»، والترويج لليوجينيا إنما يتضمن تقويض الديموقراطية وصناعة «نخبة» عارفة تُخَطِّط وتنفذ. ومثل هذا الهدف لا يمكن إذن أن يتحقق فى مجتمع ديموقراطى إلا عن طريق الخداع والقهر وأموال أثرياء يرفضون الديموقراطية، «فطالما كان هناك من الأثرياء مَنْ يُدَعِّم مشاريع اليوجينيا، فستبقى اليوجينيا».

مضت اليوجينيا إذن فى طريقها بسياستها غليظة القلب، بالخداع وبالقهر. الفرد لا يهم السلالة هى الأهم. السلالة المتخلفة لا تُهم، سلالتنا هى الأهم. انتشرت تعاليمها، آمن بها الكثيرون، سُنَّت القوانين تدعمها، دخلتْ إلى مناهج التدريس بالجامعات، صدرت لها المجلات العلمية، أُنشئت لها الكراسىبالجامعات، عُقِدت لها المؤتمرات الدولية والمحاضرات العامة، وعُقِّم باسمها مئات الألوف بطرق اتسمت بالوحشية والبربرية: أكثر من 160 ألفاً بأمريكا، وأكثر من ربع مليون بألمانيا النازية التى بدأت التعقيم بعد أمريكا بسبعة وعشرين عاماً. قُتِل عشرات الألوف. رُبطت بالنازية. فلما أن انتهى عهد هتلر، اختفتْ اليوجينيا بعد كل ما جَرَّتْه على البشرية من دمار، بعد أن أهدرت كرامة الإنسان.

جُرحت اليوجينيا، لم تَمُتْ!

سقطت اليوجينيا، ولم يسقط اليوجينيون!

كانوا أساتذة جامعات وأطباء وعلماء اجتماع واقتصاديين وكُتَّابًا. لا أحد يعرفهم. تُركوا وشأنهم ليستمروا فى صياغة المجتمع. كانوا قبل نهاية الحرب يعملون فى العَلَن، أما بعدها فقد رأوا ضرورة أن يعملوا فى الظلام. بدأوا على الفور يمارسون «اليوجينيا المستورة» الخفية، ويوزعون الأدوار فيما بينهم لإعادة بناء اليوجينيا: فجماعة تؤكد على أيديولوجيا تَفَوُّقِ الجنس الآرى الأبيض، وأخرى تعمل كى يصبح الإجهاض قانونيا فى العالم بأسره، وثالثة تطور وسائل منع الحمل، ورابعة تُعيد تسمية السيطرة على موارد العالم فتطلق عليها اسم «الحفاظ على الموارد»، كمقدمة لاستعادة السيطرة عليها عندما يحين الأوان، وخامسة تعمل فى توجيه تدريس علوم البيولوجيا ـ لتُجْمع فى النهاية كل هذه الأجزاء المتناثرة وتُصاغ فى صورة سياسة اجتماعية. لم يحدث أى تغير حقيقى فى فكر اليوجينيين، هم يسعون إلى تحقيق نفس الأهداف القديمة، وبحيث لا يُشنقون فى نورمبرج لجرائمهم ضد الإنسانية أو لارتكابهم الإبادة الجماعية (على الرغم من أن اليوجينيين النازيين الذى قاموا بالتعقيم القسرى لم يُدانوا فى محاكمات نورمبرج، لأن التعقيم كان يُمارَسُ بالفعل بالولايات المتحدة).

العنصرية دَيْدَنُهم، والديموقراطية عدوهم، لكنهم يعرضون بضاعتهم ويروجون لها تحت أسماء مشفَّرة. غدت السريةُ والمراوغة القانونية والدعاية سلاحَهم. يعملون من خلال منظمات أخرى لا يحمل عنوانها كلمة «يوجينيا». يسعون بالمزيج الشرير من العرقية والدارونية إلى الإجهاض ووأد الأطفال، إلى القتل الرحيم للمرضى المسنين، إلى موت المرضي، إلى التعقيم، إلى تدريس الجنس بصورة فجة تؤدى إلى حمل المراهقات والإجهاض وحبوب منع الحمل. وليس غير الحديث «العقلاني» بوسائل الإعلام سبيلاً إلى قلوب الناس وعقولهم. يقولون «لابد أن يُترك الخيار للمرأة»: تعبير تقدمى جميل بقيته «فى اختيار وسيلة تحديد نسلها». يستبدلون بكلمة «الانتخاب» التى كان يستخدمها يوسف مينجله فى أوشفيتز كلمة «الاختيار»،«القدرة المعرفية» تحل محل «معامل الذكاء»، اسم «الجمعية الأمريكية لليوجينيا» يصبح «جمعية دراسات البيولوجيا الاجتماعية». وهم أبداً لا يستعملون كلمة «سلالة». يستغلون الغموض والثغرات بالقوانين ليمكِّنوا الأطباء اليوجينيين من موالاة النشاط اليوجينى على أنه إجراءات طبية طبيعية تتم بناءً على رغبة المريض. غدا هدفهم النهائى هو تخفيض أعداد سلالات بذاتها وتحويلها إلى شظايا عقيمة.

اليوجينيون، أتباع مالتوس ـ الذى كان يرى فى الوليد فَماً جديداً، ولا يراه يَدَيْن تعملان وتُنتجان ـ يعتقدون أن هناك الكثير من المرضي، الكثير من المتخلفين، الكثير من الصينيين، الكثير من الهنود، الكثير من العرب، الكثير الكثير من الناس، يزاحمون الإنسان اليوجينى الأسمى ويربضون فوق أراض وفيرة الثروة لا يستحقونها. اليوجينيون لا زالوا يحلمون بأن يأخذوا بزمام التطور فى أياديهم البيضاء الحنون! هم لا يصدقون فى قدسية الحياة، ولا فى الديموقراطية. لم يتعلموا شيئاً من سلسلة الكوارث الاجتماعية التى سببتْها سياساتُهم فى القرن العشرين. لا. تعلموا درساً واحداً: الحذر من أن يُضْبَطوا متلبسين.

والواقع أنهم لم يصمتوا طويلاً. هل رأيت عُمْرَكَ فأراً يمشي؟ إنه دائماً يجري. فعندما أُنشئت منظمة الأمم المتحدة عام 1945 أصر الأمريكان والإنجليز على أن ينص ميثاقُها على أن تكون دراسات السكان من بين مهامها الرسمية. اعترضت بعض الدول. لكنهما نجحتا فى إنشاء «وكالة السكان» كجزء من المنظمة. وعندما أنشئت «اليونسكو» وُضع على رأسها اليوجينى جوليان هكسلي، الذى دعا مباشرة إلى أن يُمنح حقُّ الإجهاض للمرأة فى كل دول العالم. والواقع أن حركة كبح النمو السكانى قد شكلت جزءاً كبيراً من أنشطة الحركة اليوجينية منذ عام 1952، ولقد مضت هذه الحركة بنفس التمويل، بنفس القادة، بنفس التوجهات. أصبح لليوجينيا السلبية (أى وقف التكاثر الزائد «لغير الصالحين») اليد العليا فى النشاط اليوجيني، فاتسع انتشار وسائل منع الحمل والإجهاض والتعقيم.

وفى عام 1952 أنشأ جون د.روكيفلر الثالث «مجلس السكان» الأمريكى فى حملته مع جون فوستر دالاس ضد تكاثر العشائر غير البيضاء. لا يزال هذا المجلس موجوداً ولا يزال يعمل على وقف تزايد السكان بالولايات المتحدة، وبغيرها. ثم إنه قد تبنى مالتوسية نادى روما، النادى الذى أسسه الماسونى أوريليو بيتشى عام 1968 بهدف الترويج لليوجينيا ونشر البروباجندة حول الأزمة البيئية لتبرير قمع التنمية الصناعية فى دول العالم الثالث. فى يناير 1966 كتب فريدريك أوسبورن، اليوجينى العتيد، لصديق له حول عمل مجلس السكان فى تطوير وسائل جديدة لتحديد النسل، قال «لقد رأينا أنه من الممكن أن يتم ذلك بشكل أكثر فعالية باسم «مجلس السكان» لا باسم «اليوجينيا»، وأنا أعتقد أن هذه (الوسائل) هى أهم ما اتُّخِذَ من إجراءات يوجينية عملية».

غدا كبح جماح النمو السكانى أهم مهام اليوجينيا، شجعتْه نخبة تستخدم قوة المال فى دفع الدول الفقيرة إلى أن «تطلب» إبادة جزء من شعبها. هذه النخبة لا تدافع عن اليوجينيا لأنها قرأت كتاب «أصل الأنواع»، لا سمح الله، لابد أن هناك حافزاً مادياً. إن موارد العالم الثالث تشكل هذا الحافز.

كبح النمو السكانى هو خادم السياسة الاقتصادية وقد تَخَفَّى تحت عباءة العلم أو نزعة الخير. فى البدء قال أيزنهاور إن الولايات المتحدة لا تتدخل فى أمور سكان الدول الأخري. ولقد تغير هذا عام 1974، فى ذلك العام قام مجلس الأمن القومى الأمريكى ـ وكان يحدد التهديدات الرئيسية للدولة ـ بدراسةٍ مذكرة اقترحتْ أن النمو السكانى فى العالم الثالث قد يسبب القلاقل، وقد يؤدى إلى أن تطلب هذه الدول نصيباً أكبر من مواردها، وعلى هذا فإن كبح النمو السكانى لابد أن يكون أمراً «بالغ الأهمية»، يهدد الأمن القومى الأمريكي. تحولت هذه الدراسة إلى سياسةٍ بعد قرار مجلس الأمن القومى رقم 314 لعام 1975 لم تُعْلَن هاتان الوثيقتان حتى 1992، ومنهما يتضح أن دعم السياسة الأمريكية لكبح تزايد السكان إنما يتم لأن النخبـة الأمريكيــة تريد موارد العالم الثالث لنفسها. إنه استعمار بوسيلة أخري.

كان الاستعمار العلنى الصريح عام 1974 أمراً غير مقبول، ومن هنا شرعت الولايات المتحدة تزكى كبح التزايد السكانى للدول الفقيرة «كى تتغلب على متاعبها الاقتصادية» وتصبح ثرية! وكان الجدل هو نفس الجدل المالتوسي: إن التزايد السكانى يسبب الفقر. لكن الاقتصاد لم تكن له علاقة بكبح النمو السكانى ولا بالاستعمار. كان آدم سميث (مؤلف كتاب «ثروة الأمم») يرى أن الابتكار هو مفتاح الثروة، وأن السكان عامل ثانوي. تؤكد ذلك حقيقة أن أوروبا ثرية وهى أكثر مناطق العالم تكدساً بالسكان، وإنجلترا داخل أوروبا ثرية، وهى أكثر تكدساً بالسكان من أفريقيا ومن الصين : فبإنجلترا 600 شـخص فى الميل المربع، والمتوسـط فى أفريقيـا هو22 شخصاً وفى الصين 300. حــركة اليوجينيــا تحارب الفقراء، لا الفقر.

ولقد اقتنعت الصين بالمزايا الاقتصادية للحد من التزايد السكاني، فقررت الحكومة أن تخفض عدد عشيرتها، ومضت تنفذ ذلك منهجياً باتباع سياسة صارمة لا تسمح إلا بطفل واحد للعائلة، مستخدمة الإجهاض القسرى والتعقيم القسري، حتى ليصل الأمر إلى أن يقوم العاملون بمشروع «تنظيم الأسرة» بمراقبة فترات الحيض للنساء فى أماكن عملهن، وحتى لتضع بعض المصانع جداول على الحائط تعلن فترات الحيض لكل امرأة بحيث يمكن لكل شخص أن يراقب كل شخص آخر. كل امرأة تحمل بعد طفلها الأول دون موافقة رسمية يلزم أن تجهض. تقول وزارة الصحة الصينية إنه فى الفترة ما بين 1979 و 1984 تم إجهاض 53 مليون امرأة. عُقم فى هذه الفترة 9.3مليون رجل و31 مليون امرأة. كان الموظفون فى كل مقاطعات الصين يبحثون فى سجلات النساء تحت عمر 45 سنة عمن أنجبن طفلين أو أكثر لتعلن أسماؤهن بالميكروفونات فى الأحياء، وتحدد لهن مواعيد يسلمن فيها أنفسهن إلى العيادات الحكومية لإجراء جراحة التعقيم، وإلا رُوِّعْن وعوقبن. أصبح الحَمْلُ مهمةً من مهام الحكومة: « فلا زَوَاج بدون موافقة، لا حمل بدون موافقة، لا ولادة بدون موافقة»! ثم تَلْقى كلُّ هذه الإجراءات التعضيدَ والثناءَ من الأمم المتحدة، فتَمنح إحدى لجانها فى عام 1983 «جائزة السكان» إلى الوزير الصينى المسئول عن تنظيم الأسرة وإلى إنديرا غاندى التى وافقت حكومتها على الخَصْى الجبرى فى السبعينيات! وعندما عارضت هيلارى كلينتون الإجهاض القسرى فى اجتماع بايجنج، أسرعت الحكومة الأمريكية لتؤكد أن هذا رأى يخصها شخصياً ولا يجب أن يُفهم على أنه نقد رسمى للصين.

والحق أن الكثيرين من كبار الرأسماليين كانوا دائماً من وراء الحركة اليوجينية منذ بداياتها الأولي. ففى فجر القرن العشرين أصيب كبار رجال الصناعة الأمريكيين بالذعر عندما لاحظوا المعدل الكبير لنمو عشائر الأمريكان والفقراء. الملايين من المهاجرين يصلون إلى أمريكا كل عام، ويغيرون جذرياً الوضعَ العنصرى والعرقى للأمة، فى نفس الوقت الذى يهاجر فيه السود من الجنوب إلى الشمال بأعداد غير مسبوقة. وخوفاً من أن تتزايد الأقليات لتفوق البيض عدداً رأى رجال الصناعة أن الحل هو «اليوجينيا»، فبدأ كبارهم، مثل روكفيلر، وهنرى فورد وأندرو كارنيجى وآفريل هاريمان وبريسكوت بوش، بدأوا يمولون حركة يوجينية تشجع الإجهاض والتعقيم والقتل الرحيم كسبيل لمواجهة هذه «المشكلة» الجديدة. بل إن عائلة هاريمان، شركاء بريسكوت بوش (جد الرئيس الأمريكى الحالى جورج دبليو بوش)، قد قامت بتوفير التمويل لألمانيا النازية، كما أنشأت مكتب التسجيل اليوجينى فى كولد سبرينج هاربور (موقع مشروع الجينوم البشرى حالياً). أما الدور الذى لعبه رجال الصناعة هؤلاء فى تعضيد النازي، والذى كان يحظى بالتعضيد الكامل من الحكومة الأمريكية، فلعله يتضح لنا إذا عرفنا أن مصانعهم بألمانيا النازية لم تُقصف بقنابل الحلفاء رغم أنها كانت تشكل القاعدة الصناعية للنازي. بل إن الكثيرين من كبار النازيين ممن كانوا يعضدون اليوجينيا أثناء الحرب العالمية الثانية قد انتقلوا إلى الولايات المتحدة، وعملوا فى الجامعات وأجهزة الإعلام ومعاهد البحوث الحكومية ووكالة المخابرات المركزية (السى آى إيه): جاء بهم نفس الرسميين الذى عملوا مع عائلة بوش فى بناء ألمانيا النازية، ولقد شكلت آراؤهم الكثير من الأجندة التى تروج لها النخبة اليمينية فى أمريكا.

الواقع أن اليوجينيا قد حققت بعد الحرب الكثير والكثير من أهدافها. لقد كان قدر النجاح فى تطوير ونشر «تنظيم النسل» أبعد من كل خَيَال. وفى سبعينيات القرن العشرين اكتشف بول إيرليش لليوجينيين «الانفجار السكاني»، وأثار هستريا مجنونة حول ضرورة إبطاله. ولقد كُبح الانفجار السكانى فى العالم بصورة لم يكونوا يحلمون بها. تم خلال الخمسة والعشرين عاماً الماضية فى العالم ما يزيد على بليون ونصف بليون عملية إجهاض. من يصدق هذا؟ تناقص متوسط عدد الأطفال للمرأة بأكثر من الثلث فى ظرف ثلاثين عاماً: نقص المتوسط فى كل الدول النامية من1،6طفل إلى 6،3 طفل. ثم أخذت اليوجينيا تطرق مدخلاً جديداً هو تحويل نمط الحياة والثقافة لسكان العالم الثالث كى يتوافق أكثر مع نظرة الغرب المتحررة نحو الجنس والتكاثر.

ثم دخل العالم «عصر المعلومات»، عصر الاتصالات والخدمات، عصراً ينصب اهتمامه على المهارات النادرة، عصراً سيتطلب التخلى عن سياسة تعليم الجماهير، والاكتفاء بتعليم صفوة. كان عصر اقتصاديات الإنتاج بالجملة يتطلب تعليم الجماهير لتوفير المهارات البسيطة للكل. أما عصر المعلومات فيتطلب التأكيد على المهارات العالية لأفضل الطلبة. كان نظام المصنع يوفر وظائف تكرارية، أما عصر المعلومات فيتطلب مهارات عالية للغاية فى أعمال غير تكرارية، هو عصر ربما أنتجت فيه نخبة لا تزيد على 5% من المجتمع، نسبةً من الدخل القومى تصل إلى 80%، ليعتمد توظيف الـ 95% الباقية من السكان على نجاح هذه الصفوة. سيئول الأمر إلى «حكم القلة» اليوجينية، الذى يُسقط الحاجة إلى ترف تعليم الجماهير ويعمل على تشجيع التعليم الخلاق اللازم للتقدم العلمى والتكنولوجي. ولقد قالها اليوجينى ألدوس هكسلى عام 1934: إن تعليم الجماهير الغفيرة قد خلق طبقة عريضة يمكن أن نسميها طبقة «الأغبياء الجدد»، واليوجينيا ضد الأغبياء. بل لقد طالب د.هـ. لورانس بإغلاق كل المدارس فوراً: «إن معظم البشر لا يجب أن يتعلموا القراءة والكتابة». لماذا؟ لأن أشباح المجاعة والمرض والحرب، كما يقول جورج مور (سنة 1888!) «هى أمور أخف وطأة، مقارنةً بالخَطَر الذى يتوعدنا من تعليم الجماهير الغفيرة» ـ يتوعد النخبة البريطانية بالطبع. اليوجينيا ضد تعليم الجماهير!

بعد هذه النجاحات العريضة بدأ اليوجينيون يظهرون بوجههم علنا. فى عام 1994 نُشِر كتاب «منحنى الجرس» لمؤلفَيْن ليس منهما وراثى : ريتشارد هيرنشتاين (السيكولوجي) وتشارلس موراى (عالم السياسة). صدر هذا الكتاب «ليؤصل من جديد مفهوم العرقية، ويلبسها رداء العلم، فتنطلى على الكثيرين ممن يعتقدون فى العلم والعلماء كسلطة»، كما كتبتُ ذات مرة، «فجوهر الكتاب يلخصه هذا الاقتراح البسيط: فلنحيا معاً فى أمان، وليعمل كلٌّ فيما خُلِقَ من أجله: أنت يا أيها الأسْود تكدح، وأنا الأبيضُ أحكمك». نعم، أفصحت اليوجينيا هنا عن اسمها الصريح : العرقية!

يقول الكتاب إن هناك من الأبحاث ما يشير إلى أن قيمة العمق الوراثى لصفة الذكاء هى 80% ـ هذا الرقم يمثل النسبة من التباين الملحوظ فى الذكاء بين أفراد العشيرة، والتى ترجع إلى التباين فى وراثتهم. ثم قال إن أبحاثاً أخرى قد قدرت القيمة بـ 40% فقط. وبمنتهى البساطة اعتبر المؤلفان أن القيمة المثلى التى لا تغضب أحداً هى 60%، متوسط الرقمين، ثم إنهما أقاما كل مناقشات الكتاب على هذا الرقم. والخطأ هنا خطأ فاحش. ربما كان لنا أن نستطرد قليلاً لتوضيح هذا النقطة. دعنا نتخيل أننا نريد أن نقدر العمق الوراثى لصفةِ لون البشرة فى عشيرة من الزنوج. لن نجد تبايناً بين الأفراد. العمق الوراثى يساوى صفراً. دعنا نحاول أن نقدره فى عشيرة من المصريين وفيهم ما نعرفه من تباين واسع فى لون البشرة. هنا قد نجد مثلاً أن العمق الوراثى يساوى 60%. ما سيقوله مؤلفا «منحنى الجرس» هو أن أفضل قيمة هى 30%، متوسط الرقمين. هذا الرقم الأخير لا يعنى شيئا البتة! فلا هو يصلح للعشيرة الأولى ولا هو يصلح للثانية. إنه مجرد تلفيق بلا مدلول. الرقم الذى نقدره لعشيرة لا يعنى شيئاً على الإطلاق بالنسبة للعشيرة الأخري. وقيمة الصفر إنما تعنى أن جينات هذه الصفة قد ثُبِّتَت فى كل أفراد الزنوج (بالانتخاب الطبيعى مثلاً) فلم يعد بينهم تباين، وقيمة 60% تعنى أن هناك لا تزال اختلافات فى التراكيب الوراثية بالنسبة لهذه الصفة بين أفراد المصريين. وصفة لون البشرة فى كلتا العشيرتين بالطبع صفة وراثية تتحكم فيها الجينات!

فإذا رجعنا إلى صفة الذكاء، فإن قيمة العمق الوراثى فى عشيرة من البيض، وقيمتَها فى عشيرة أخرى من السود لن يفيدا إطلاقاً فى مناقشةٍ كتلك التى انهمك فيها هيرنشتاين وموراي. إنما المهم هو مقدار التباين الوراثى فى كل من العشيرتين ـ وهذا أمر لم يتطرق إليه صاحبا «منحنى الجرس». وياليت اليوجينيين يعرفون أن الصفة قد تكون وراثية حتى وإن كان عمقها الوراثى يساوى صفراً، وياليتهم يكفون عن الإيحاء بأن «ارتفاع» قيمة العمق الوراثى لصفة الذكاء يعنى أنها «وراثية جداً» ومن ثم مُهِمة!!! ثم متى يدركون أن ارتفاع العمق الوراثى للصفة فى عشيرة ما إنما يعنى أن الصفة هامشية لا أهمية كبيرةً لها فى البقاء؟

ثم دخلنا عصر الهندسة الوراثية والبيوتكنولوجيا والجينوميا، وتزايدت الأبحاث التى تربط الجينات بالصفات السلوكية، وبالذكاء. وفى عام 2001 أعلن ريتشارد لين عن عودة اليوجينيا، هكذا باسمها الصريح. أصدر كتابه «اليوجينيا... إعادة تقييم» وقال فيه إننا على أبواب عصر جديد، إننا نتحرك بسرعة تفوق الخيال إلى «نوع» بشرى جديد. وستسبقه حرب عرقية.

قال إن اليساريين قد أمسكوا بزمام البروباجندة الإيديولوجية، وأقنعوا الغرب أنْ لا شيء يسمى «العرق أو السلالة» وأقنعوه أن اليوجينيا علم كاذب. تمكنوا من ذلك بقوة شخصياتهم وسلبية الجماهير التى تُصدِّق كل ما يُقال. بالتكرار والإلحاح والخداع تمكن «إرهابيو الفكر» اليساريون هؤلاء من تحييد المجتمع الغربى ليصدق أن للبشر جميعاً طبيعةً واحدة. ثم قال بجلاء إن علينا الآن أن نحرر أنفسنا من هذه القيود التى كبلونا بها حتى لم يعد فى استطاعتنا أن نعترض على ذات فكرة وجود فروق عرقية بين البشر.

بدأ لين بأن أَجْهَزَ على فكرة معادلة النازية باليوجينيا، ومعادلة اليوجينيا بالهولوكوست. لم يكن لدى ألمانيا النازية برنامج لتعقيم المتخلفين عقلياً يزيد حجمه عن البرامج لدى دول أخرى فى ذلك الوقت. فالسويد، مقارنة بتعدادها، قد عقمت أكثر من أى دولة أخرى فى الغرب. أما «القتل الرحيم» فكان يُجرى لإفساح المكان بالمستشفيات للمجهود الحربى بعد بداية الحرب عام 1939، ليس للقتل الرحيم علاقة باليوجينيا. أما قتل اليهود فى الهولوكوست فقد جرى عندما اعتُبروا السبب فى نشر الشيوعية، ولأنهم اعتُبروا سلالة ذكية قادرة على منافسة ألمانيا فى سيادة العالم. البرنامج اليوجينى الألمانى إذن أبداً لم يتطور، وأبداً لم يكن عدوانيا، لكن الماركسيين نجحوا فى أن يلصقوا اليوجينيا بالنازية لتُكْرَه، وثَبَّتُوا هذا فى أذهان الناس.

ولقد بقى الحال كما هو لم يتغير ـ يقول. إذا ما قارنتَ البيض بالسود فإن التحدث عن التفاوت بينهما عادة ما يُوسم بالعنصرية أو يعزى إلى فشل الحكومة فى أن تقوم بواجبها ليصبح الناس سواسية. أبداً لم يذكر أحد أن دَخْلَ الجماعات العرقية المختلفة يعادل متوسط ذكائهم. السود فى القاع واليهود وشعوب شرق آسيا فى القمة. هم يقولون إن للجماعات العرقية المختلفة نفس متوسط الذكاء، وينشر علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا البحوث التى تؤكد هذه الأسطورة ـ ويتجاهلون تماماً الفروق الوراثية بين السلالات البشرية!

يستطرد لين. لما كان العمق الوراثى للذكاء مرتفعاً (قال إنه يساوى 80% ـ أخذ التقدير الأعلى الذى تكرم موراى بتخفيضه إلى 60%) فمن الممكن لليوجينيين أن يحسنوا فيه سريعاً، ومن الممكن أن ينجزوا قفزات واسعة فى جيل واحد باستعمال تكنولوجيات الوراثة الحديثة. إذا ما قام الزوجان بانتخاب أكثر الأجنة ذكاء لزرعه فى رحم الزوجة، فسيرتفع ذكاء النسل ربما بمقدار 15 نقطة فى كل جيل، وحتى أن تصل إلى الحد الأعلى نظرياً (200 نقطة) دون الحاجة لأى طفرة جديدة. كل ما يحتاجه لين هو تحديد «جين الذكاء»...

مع دخولنا عصر البيولوجيا الجزيئية والهندسة الوراثية والجينوميا، بدا لليوجينيين الأمر وكأننا على وشك الانتهاء من حسم قضية الفروق الوراثية بين السلالات البشرية ـ فقضية اليوجينيا من أولها إلى آخرها قضية وراثية. توالت نتائج التشريح الجزيئى لمادتنا الوراثية حتى اكتملت خريطة الجينوم البشرى من أسابيع قليلة. الأمر لن يحتاج ـ فى رأى لين ـ إلا إلى سنين معدودة حتى نعثر على «الجين» المسئول عن الذكاء (إن كان ثمة!). لكن صفة الذكاء، حتى لو أمكن تعريفها وقياسها، لابد أن تكون صفة كمية مراوغة تعتمد على عدد كبير من الجينات مبعثرة هنا وهناك على طول الكروموزومات، وهى بالضرورة تتأثر بالبيئة الخارجية وبالجينات الأخرى فى نفس الجينوم. هى صفة ـ إن وُجدت ـ «بازغة»، لا يمكن أبداً التنبؤ بها من معرفتنا بالتشريح الجزيئى للجينوم. أرأيت إذ طُلب إليك أن تكتشف خصائص الماء، فَقُدِّمت إليك التفاصيل الدقيقة لذرة الأيدروجين والتفاصيل الدقيقة لذرة الأكسجين؟ خصائص الماء «بازغة» لن تكتشفها أبداً من هذه التفاصيل. إن معرفتنا بتفاصيل جينوم أى شخص لن يمكِّنِنا يوماً من معرفة «ذكائه».

لكن لين يتوقع أن يحددوا له جين الذكاء. يستطرد : وحتى لو تكلف «إنتاج» هذا الطفل الذكى مائة ألف دولار، فسيعوض الأبوان ذلك بما سيوفرانه فى تعليم الطفل وما سينتظره من وظيفة ذات شأن. ثم إن ذكاء الطفل المُزَوَّدِ بالجين سيبقى وينتقل فى كل جيل تال.

يختصر لين اليوجينيا فى جين، بل يختصر الإنسان فى جين. مَنْ يحمل هذا الجينَ، أو قُلْ مَنْ يحملُه هذا الجينُ، تُكتبُ له السيادة، أو يجب أن تُكتبَ له. كذا بهذه البساطة. نشأت العنصرية بسبب هذا الجـين ولم نكـن ندري! قُتِل مَنْ قُتِل، وأُجْهِض مَنْ أُجْهِض، وعُقِّم مَنْ عُقِّم فى الحركة اليوجينية لأنهم لم يحملوا هذا الجين.

ماذا إذن لو اقتنص الملونون الجين الذى ينتظره لين، ثم أولجوه بتقنية الهندسة الوراثية فى أجنَّتهم الملونة لينتجوا سلالة سوداء ذكية فى مثل ذكاء البيض، هل سيسمح لهم الأذكياءُ البيض بالبقاء، ويكفون عن اضطهادهم وتحديد نسلهم واستباحة أراضيهم وثرواتهم الطبيعية؟ أم تُراهم سيتذكرون عندئذ أن هناك جيناتٍ أخرى مساعدة لا يزال الملونون يفتقرون إليها؟ لو أن نزعة الخير والإنسانية هى المحرك الحقيقى لليوجينيا، لتوقعنا أن يفكر اليوجينيون على الفور فى زرع هذا الجين فى السود لرفع ذكائهم إلى المستوى الذى يرون أنه اللائق بالإنسان!

أَمِنَ الممكن أن يقود الحماسُ لليوجينيا ـ العنصرية إلى كل هذا القدر من البغض للإنسان؟ أمن الممكن حقاً أن يتصور اليوجينيون أنْ لن يقدر عليهم أحد؟ أنَّ الأرضَ كلَّها هى أرض الرجل الأبيض، لأنه هو مَنْ تمكن من كل هذا العلم؟ يطغى الإنسانُ إذا استغني.

إن المخيف هو أن الأصوات قد أخذت تتصاعد وتتعاقب ويتزايد ارتفاعها تمجد اليوجينيا، وتلوث الجو الذى يتنفسه الساسة. عاد الوجه الحقيقى القبيح لليوجينيا. سَقَط القناع!

أكتب هذا المقال بعد انتهاء حرب العراق اليوجينية.
جرس على المنحنى يدق، فهل نستيقظ

 


 

عودة إلى صفحة البداية