nadin


 

مدارس الشعر العربي الحديث



مر الشعر العربي بمراحل متعددة ، وساهمت عوامل كثيرة في تجديد القصيدة من حيث شكلها ومضمونها . وظهرت على ضوء ذلك اتجاهات شعرية متنوعة ، وتحددت سماتها الفنية .
وسنحاول رصد أبرز هذه الاتجاهات الشعرية ، والمدارس الفنية ، وأهم ما تتميز به كل اتجاه ، وأشعر شعرائه ، من هذه المدارس:

1 – مدرسة الإحياء والبعث .

2 – مدرسة الديوان .

3 – جماعة أبولو .

4 – شعراء المهجر .

5 – حركة الشعر الحر .


أولاً: مدرسة البعث والإحياء


يطلق اسم (مدرسة البعث والإحياء) على الحركة الشعرية التي ظهرت في أوائل العصر الحديث ، والتزم فيها الشعراء النظم على نهج الشعر في عصور ازدهاره ، منذ العصر الجاهلي حتى العصر العباسي . وهم مجموعة من الشعراء ، نذكر منهم : البارودي ، الذي يعدُّ رائد هذه المدرسة ، ومنهم : أحمد شوقي وحافظ ابراهيم وأحمد محرم وعلى الجارم ، وترددت أصداء هذا الاتجاه في دواوين معروف الرصافي ، وجميل صدقي الزهاوي وعبد المحسن الكاظمي ، كما ترددت في أشعار إبراهيم اليازجي وأمين نحلة وأحمد الصافي النجفي ومحمد مهدي الجواهري وسعيد العيسى ومصطفى خريف والشبيبي وخير الدين الزركلي وابن عثيمين ، ومثَّل هذا الاتجاه في السودان : محمد سعيد العباسي و محمد عمر البنا، وغيرهم ممن ساروا في اتجاههم ، وتشابهت أساليبهم الفنية والمعنوية ، وشكلوا اتجاه المدرسة الإحيائية ؛ على تفاوت فيما بينهم في القدرات الأدائية ، وتنوع في همومهم وأغراضهم ، وتباين بين حظ كل واحد منهم من الثقافة ، وأخذه بأسباب التجديد والتطور الفني ، بحسب اختلاف البيئات وظروف الحياة والتكوين النفسي والاجتماعي والفكري ، ومدى تأثر كل منهم بثقافة الغرب ومذاهبه الأدبية .

عكف هؤلاء على قراءة الشعر العربي القديم ، ونماذجه البيانية الممتازة ؛ لثقتهم بجدارة هذا الشعر واتجاهاته وأساليبه ، وتقديرهم له في مرحلة سيطر فيها على الناس شعور الالتفات الوجداني إلى أمجاد ماضيهم المشرق ، والتعلق بكل ما يتصل بذلك الماضي التليد ؛ اثباتاً لوجودهم ، وتأكيداً لكيانهم الثقافي وسط عالمهم المهدد بالقوى الأجنبية . فلجأوا إلى ماضيهم الأدبي ، يستمدون منه مثلهم العليا في النظم ، وقيمهم المثلى في الشعر ، ويستوحونه أحياناً في قصائدهم

وكما يقول أحد الباحثين : " كأننا حين نطالع هذا الشعر – رغم ما قد تتضمنه بعض قصائده من موضوعات أو مواقف عصرية – إنما قد عدنا نعيش في العصر العباسي " ، إلا أنهم بذلك تملكوا أسرار التعبير الشعري القديم وأدواته اللفظية ، فأنقذوا الشعر من عثرة الأساليب الركيكة ، وأعادوه إلى ما كان عليه فنياً في العصر الذهبي ؛ فهم بذلك قد بعثوه من جديد .

أثبت شعراء مدرسة البعث أن ضعف اللغة العربية في عصرهم لا يرجع إلى قصور ذاتي فيها ، وإنما يرجع إلى الجهل بها ، وعدم التزود بأساليبها القوية ؛ فاللغة ليست جامدة ، وليست ضعيفة ، محصورة في قوالب البديع إنما كان ضعفهاشيئاً عارضا ًفي عصور محنتها ، وينبغي أن تعود إلى حياتها القديمة لتعبر عما يريدون من مشاعر وانفعالات وقضايا . وهكذا استطاع شعراء هذه المدرسة أن يحققوا لشعرهم جزالة الأسلوب ورصانته ، بمدارسة روائع الشعر العربي وتمثله .

وخلافاً لما توحي إليه كلمة ( المحافظين ) من التقليد الأعمى ، والسير على خطى السابقين دون إبداع أو تجديد ؛ فإن المراد بهذه التسمية : أن شعراء هذه المدرسة الأدبية حافظوا على هيكل القصيدة العربية وأوزانها وقوافيها ، وفي سلاسة أسلوبها ، وجزالة ألفاظها ، وجعلوا من القصيدة العربية في عصور ازدهارها مثلاً أعلى بنوا عليه أسلوبهم الشعري ، واستمدوا منها كثيراً من الصور البدوية الصحراوية بألوانها وخطوطها ، وما فيها من أماكن ونباتات وحيوانات تعوَّد ذكرها الشاعر القديم ، كالعقيق ونجد ، وكالخزامي والبهار ، وكالرئم والمها ، ويتغنى بهند وأسماء وسعاد والرباب ، ويبكي الرسوم والأطلال ، ويشبه الحبيبة بنفس طريقة الشاعر القديم ، وهو في كل ذلك يستغل ما في هذه الأسماء من ظلال نفسية وشحنات عاطفية اكتسبتها من استخدام الشعراء عبر الأزمان.

لكن شعراء هذه المدرسة لم يكتفوا باتباع طريقة الشعراء القدامى ، واحتذاء نماذجهم الرائعة فحسب ؛ إنما احتفظوا بشخصياتهم الفنية ، وعبروا عن همومهم الذاتية الخاصة ، وعن قضايا مجتمعهم وأمتهم السياسية والوطنية والاجتماعية ، وعبروا عن مشاعرهم إزاء هذه القضايا . وهذا يعني أنهم لم يكونوا نسخة طبق الأصل للشعر القديم ، بل لاءموا بين القديم والجديد ، بين الأسلوب العربي الرصين ، وبين ثقافتهم وروح عصرهم ، واتخذوا من الشعر القديم مصدراً أساسياً للإلهام الشعري لا للتقليد الحرفي .

سمات المدرسة الاحيائية :

1 – حافظ شعراء هذه المدرسة على نهج الشعر العربي القديم في بناء القصيدة ؛ فتقيدوا بالبحور الشعرية المعروفة ، والتزموا القافية الواحدة في كل قصيدة .

2 – ترسموا خطى القدماء فيما نظموه من الأغراض الشعرية ، فنظموا مثلهم في المديح والرثاء والغزل والوصف .

3 – جاروا في بعض قصائدهم طريقة الشعر العربي القديم في افتتاح القصيدة بالغزل التقليدي ، والوقوف على الأطلال ووصف الدمن والآثار ، ومن ثَمَّ ينتقلون إلى الأغراض التقليدية نفسها من مدح أو رثاء ونحوهما على نحو قول شوقي :
قم ناج جِلِّق وانشد رسمَ من بانوا
............................................ مشَتْ على الرسم أحداثٌ وأزمان

وقوله :
أنادي الرسـم لو ملك الجوابـا

....................................................... وأجـزيـه بدمـعي لو أثابـا

وقد يبدأ أحدهم قصيدته بذكر أشياء معاصرة ، فيتحدث عن السفينة أو الطيارة ونحوهما ، على نحو قول البارودي في وصف القطار :
ولقد علوت سراة أدهم لو جرى
................................................ في شـأوه برق تعثَّر أو كَبـا
يطوي الفلا طَيَّ السجلِّ ويهتدِي
............................................ في كلِّ مهمهةٍ يضـِلُّ بها القطا
يجري على عجلٍ فلا يشكو الوَجَى
...........................................مدَّ النهار ، ولا يمِلُّ من السُّرى
لا الوخد منه ولا الرسيم ولا يُرى
...........................................يمشي العرضنة أو يسـير الهيدبا

ومع ذلك ، يظل الشاعر الإحيائي– كما يقول العقاد – " محافظاً سائراً على طريقة القدماء ، آخذاً بتقاليدهم ، متمسكاً بعمود شعرهم ؛ لأنه لم يغير المنهج ، ولم يبدل الخطة من حيث وصف الرحلة مثلاً ، والتمهيد بوصف أو ذكر ما يركب للدخول في الموضوع الأساسي "

4 – نسجوا على منوال القدماء في اختيار ألفاظهم ، فجاءت فصيحة جزلة ، وتمسكوا بإحكام الصياغة ، والأساليب البلاغية الشائعة في التراث الشعري القديم ، واقتبسوا من هذه الأساليب وضمنوها شعرهم ، وحافظوا بذلك على الديباجة العربية الأصيلة ، ورونق لفظها ، وجرسها الموسيقي .

5 – جاروا الشعر القديم – أيضاً – في تعدد الأغراض الشعرية في القصيدة الواحدة ، فتجد فيها الغزل والوصف والمديح والحكمة ، أو نحو ذلك ، وينتقلون من غرض إلى آخر كما كان يفعل الشاعر القديم .

6 – عارض كثير منهم روائع الشعر العربي القديم ، وقلدوها بقصائد مماثلة وزناً وقافية أو موضوعاً ، وأصبحت المعارضات ـ كما يقول أحد الباحثين ـ سمة من سمات العصر ، بسبب كثرتها ، حتى بدا إنتاج بعض الرواد ، وكأنه في مجمله معارضة للشعر العربي القديم . . على نحو ما ترى عند البارودي وابن عثيمين والكاظمي وشوقي وغيرهم ، مع اختلاف أغراضهم في المعارضة ؛ فقد تكون لترويض القول ، واستكمال ثقافتهم الفنية والتمكن من الأداة التعبيرية ، او الاستفادة من معجم الأوائل الشعري ، في المحاولات الأولى لنظم الشعر ، وقد تكون معارضتهم فناً وإبداعاً لما تضمنته القصيدة التراثية من دلالة تاريخية أو حضارية ، كالتي تضمنته بائية أبي تمام في فتح عمورية من ايحاءات تاريخية تعيدنا إلى عصر كانت للعرب فيه اليد العليا عسكرياً وسياسياً وثقافياً ، فعارضها شوقي في قصيدته التي مطلعها :
الله أكبر كم في الفتح من عجب
.......................يا خالد الترك جدِّد خالد العرب

وقال ابن عثيمين منبهراً بانتصار الملك عبد العزيز سنة 1331هـ :
العزُّ والمجدُ في الهنديِّة القُضُب
............................................ لا في الرسائل والتنميق للخطب
بينما أكثر الشعراء من معارضة ( البردة ) لمناسبتها الروحية ، ونجاح الشاعر في إعطاء الرسول عليه السلام صورة البطل المنقذ من ظروفهم القاسية التي يعيشونها ، مع ما امتازت به من سهولة في اللفظ ، وشمول في الرؤية ، ودقة في التصوير . وقد يكون باعثهم على المعارضة هو التحدي والمنافسة الشعرية كما عند البارودي وشوقي

7 – هجروا كثيراً من الأغراض الشعرية التي كانت تسود في العصر العثماني كالألغاز والتأريخ الشعري ، وشعر التصوف ، وقلَّ عندهم الهجاء والفخر ؛ لأنها لم تعد تناسب الظروف الاجتماعية ، والسياسية في العصر الحديث .

8 – استحدثوا أغراضاً شعرية جديدة لم تكن معروفة من قبل في الشعر العربي ، كالشعر الوطني ، والشعر الاجتماعي ، والقصص المسرحي ، ونظموا في المناسبات الوطنية والسياسية والاجتماعية . واعتمدوا في نظمهم على الاسلوب الخطابي الذي يلائم المحافل ومجامع الجماهير . وأُخذ عليهم اهتمامهم بالصياغة البيانية والإفراط فيها ، دون عناية بالمضمون ، أو اهتمام بصدق التجربة والتعبير عن تجاربهم النفسية ، وذكر بعض النقاد أن شخصية الشاعر وطبعه ولون نظرته إلى الحياة والكون لا تتضح في شعره .

9 – كان شعرهم – في مجمله – هادفاً ، جاداً في معناه ، تنتشر الحكمة والموعظة بين ثناياه . ولعلهم في ذلك كانوا يجارون ما في التراث الشعري من حكمة ، وتأمل للحياة والكون . واعتمدوا عليها في رسالتهم الاصلاحية ، وهدفهم في تهذيب الأذواق ، وإصلاح المجتمعات .


من شعراء مدرسة البعث والإحياء :

1 - البارودي
(1255-1322) / (1837-1904م)

ينتمي محمود سامي البارودي إلى أسرة جركسية ذات جاه ، وينتهي نسبه إلى المماليك الذين حكموا مصر . وكان أبوه حسن حسني من أمراء المدفعية  ، ثم صار مديراً لبربر ودنقلا على عهد محمد علي باشا ، وقد مات بدنقله والبارودي في السابعة من عمره.
وتلقى البارودي مبادئ العلم في البيت ، ثم التحق بالمدرسة الحربية مع أمثاله من أبناء الطبقة الحاكمة . وتخرج وهو في السادسة عشر من عمره . ثم سافر إلى الآستانة ، وأقام فيها نحو ست سنوات ، وهناك التحق بوزارة الخارجية ، و تعلم التركية والفارسية . والتحق بحاشية إسماعيل باشا وأصبح من فرسان حرسه الخاص . واشترك في الكتيبة المصرية التي ذهبت لمساعدة الأتراك في إخماد ثورة جزيرة كريت سنة 1868م ، كما اشترك في الحرب التي كانت بين تركيا وروسيا سنة 1877م . ثم عُيِّن مديراً للشرقية ، فمحافظاً للقاهرة ، وتولى وزارة الأوقاف ، فوزارة الحربية ، ثم عُيِّن رئيساً للوزراء في فبراير 1882م . وفي وزارته ثار الجيش بقيادة أحمد عرابي وزير الحربية احتجاجاً على سياسة توفيق والتدابير التي اتخذها لتسديد ديون مصر ؛ كتعيين لجنة أوربية للإشراف على وفاء تلك الديون ، وتسريح قسم كبير من الجيش المصري ، كما طالبوا بتولية المصريين في المناصب العليا ، بعد أن كان وقفاً على الجراكسة والأتراك . وشارك البارودي في هذه الثورة ؛ فتدخل الإنجليز ، وأخمدوا الثورة ؛ فنُفِي البارودي مع ستة من رفاقه من قادة الثورة في ديسمبر 1882 إلى جزيرة سرنديب ،فلبث في ذلك المنفى زهاء سبعة عشر عاماً ، ثم سمح له بالعودة إلى مصر سنة 1900م ؛ نظراً لظروفه الصحية السيئة ، وتوفي سنة 1904م .

آثــاره :
1 - ديــوان البارودي : وهو مطبوع في أربعة أجزاء . وضبطه على الجارم ومحمد شفيق معروف .
2 - مختارات البارودي : وهو مطبوع في أربعة أجزاء ، وقد اصطفى مختاراته من الشعر العباسي ، ورتبها على سبعة أبواب .
وكان يجيد التركية والفارسية ، وألمَّ باللغة الإنجليزية في منفاه .

شـعره :
تهيأت للبارودي ، من واقع حياته العامة والخاصة ، ظروف وأسباب ساهمت في علو كعبه في مضمار الشعر ، نذكر منها :
1- الوضع الاجتماعي : الذي أمده بالمنصب والجاه ، ووفر له أسباب الحياة الرغيدة ، وكان مصدراً لفخره بنفسه ، واعتزازه بمكانته وبأسرته .
2- المشاركة في المعارك الحربية : فهي التي هيأت له التجربة الشعرية الثرة بخوض غمارها ، وما أصابه حيالها من توتر وانفعال عنيف ومشاعر مضطربة في أحوالها المختلفة ، وهي التي أمدت شعره بطابع الرجولة والفروسية ، وهي سر تدفقه حماسة واعتداداً .
3- النفي : هيأ له الاحتكاك ببيئة جديدة ، وصفها في شعره ، وهيأ له ما عاناه من أذىً وما تكبده من فراق الأحبة ، تجربة شعرية قاسية لوَّن شعره بالأسى والشجن ، وفاضت نفسه إزاءها بعمق العاطفة وصدق المشاعر .
4- المشاركة في الحياة السياسية : هيَّأت له تجارب حية من واقع الحياة العملية ، وأمدته قدرة على الوصف الدقيق ، وتقدير الأشياء . وكانت سبباً من أسباب شعره السياسي ، ولجوئه إلى الشعر الهجائي .
5- الرجوع إلى التراث العربي ، والعكوف على دراسته : هيأ له محاكاة القدماء وتقليدهم ، وأن يصوغ الشعر على طرائقهم ، وينسجه على غرارهم ، ومجاراتهم أو بذِّهم في ديباجته التعبيرية وأغراضه المعنوية ، ومنحه قوة النسج وجزالة اللفظ ، وغذت ملكته الشعرية ، فتدفق يعبر ـ داخل الإطار الشعري القديم وفي أسلوبه وصياغته ـ تجاربه الشعرية ، ومواقفه الانفعالية ، بطلاقة وصدق .

وقد قلَّد البارودي فحول الشعراء السابقين في الأغراض الشعرية المعروفة ؛ فنظم في المدح والوصف والهجاء والغزل ، واستمد صياغته الشعرية من أساليبهم وموسيقاهم وصورهم البيانية ، كما نهل من معانيهم ووصفهم ، ووشَّى شعره بالحكمة أو فخر بنفسه وشجاعته كما فعلوا ، وحاكاهم في طريقة عرضهم للموضوعات ؛ فافتتح قصائده بالغزل ووقف على الأطلال ، وانتقل من غرض إلى غرض آخر ، حتى لتشعر في بعض شعره أنه لشاعر جاهلي ، من ذلك قوله :
وإن هيَ لم ترجِعْ بياناً لسائل
..................................عليها أهاضيبُ الغيومِ الحوافل
أراني بها ما كان بالأمس شاغلي
....................................غَنَت وهي مأوىً للحسان العقائل


كما لجأ إلى معارضة نماذج ممتازة من الشعر القديم ، من ذلك أنه عارض بائية الشريف الرضى :
لغير العُلا منِّي القِلا والتجنُّبُ
...................................ولولا العلا ما كنت في الحب أرغبُ
فقال معارضاً :
سوايَ بتِحنان الأغاريدِ يطربُ
.........................................وغيريَ باللـذات يلـهو ويُعجـَب
وما أنـا ممن تأسر الخمر لبَّـه
........................................ويملك سمعيـه اليراعُ المثـقَّـب
ولكن أخو هم إذا ما ترجحت
...........................................به هِمَّةٌ نـحو العـلا راح يدأبُ

وعارض بردة البوصيري بقوله :
يا رائدَ البرقِ يمِّمْ دارةَ العَلَمِ
...................................واحْـدُ الغمامَ إلى حـيٍّ بذي سَـلَم
وعارض قصائد أخرى ؛ لأبي نواس والمتنبي وأبي فراس وغيرهم

(///////

(2) أحمد شوقي :

(1286هـ-1351هـ) – (1869-1932م)

نشأ أحمد شوقي في بيئة أرستقراطية مترفة لها صلة قوية بقصر خديوي مصر  ، أُلحق في طفولته بالكُتَّاب ، وانتقل إلى المدارس الابتدائية والثانوية بالقاهرة ، ولما أتم تعليمه الثانوي سنة 1885 أُلحق بمدرسة الحقوق ، ثم تحول إلى قسم الترجمة بها ، وتعرَّف في المدرسة إلى أستاذه الشيخ محمد البسيوني ؛ فدفعه إلى شعر المديح . وأرسله الخديوي توفيق في بعثة إلى فرنسا لمتابعة دراسة الحقوق ، والتعمق في اللغة الفرنسية ، وشؤون الترجمة ، فأكمل دراسته في أربع سنوات ، وهيئت له فرص التجوال في فرنسا ، والتردد على مسارح باريس ، والوقوف على حياتها الأدبية .
فلما عاد إلى مصر عمل رئيساً لقسم الترجمة في ديوان الخديوي . وتوثقت صلته بالخديوي عباس الثاني الذي خلف والده توفيق ، وأصبح مستشاره ومحل ثقته وتقديره ، ووظف شعره للتعبير عن سياسة الخديوي، ويغتنم كل فرصة لمدحه ، وتسجيل مناسبات القصر ، وأعياده المختلفة. وكان هذا الدور كافياً ليكون بعيداً عن حياة الشعب .
ولما نشبت الحرب العالمية الأولى ، خلع الإنجليز الخديوي عباس عن عرش مصر ، لميله إلى الدولة العثمانية ، وولوا بدلاً منه عمه السلطان حسين كامل . ونفوا– أيضا – أحمد شوقي إلى إسبانيا لولائه لعباس ، وتحمسه للخلافة العثمانية ، وظل بها طوال الحرب (مدة أربع سنوات 1915-1919) ؛ فكانت فرصة لأن يفرغ لنفسه ولشعره ، والتعبير عن ما قاساه في غربته ، وحنينه إلى بلده ، وتعميق مشاعره الوطنية والقومية ، واستلهام أمجاد المسلمين في الأندلس .
وحين وضعت الحرب أوزارها ، رجع شوقي إلى مصر ، إبّان ثورة 1919الوطنية ؛ وجد نفسه في خضم الصراع الجماهيري ضد القوى الأجنبية المسيطرة على مصر والمنطقة العربية ؛ فانحاز إلى الشعب ، وانطلق يتغنى بآماله ويعبر عن آلامه ، وشارك الأمة العربية ، وانفعل لأحداثها ، وانتفاضاتها الوطنية . كما خلص لفنه وجمهوره ؛ فذاع شعره ، واحتل مكانة مرموقة بين شعراء العربية . ولما أعاد طبع ديوانه سنة 1927 (1346هـ) أقيم له حفل تكريم عظيم ، وفيه بايعه الشعراء بإمارة الشعر ، وأعلن حافظ إبراهيم هذه المبايعة قائلاً :
أمير القوافي قد أتيت مبايعاً

...........................................وهذي وفود الشرق قد بايعت معي

واستمر شوقي في نظمه للشعر حتى لبَّى داعي ربه في أكتوبر 1932 (1351هـ) .

آثـــــاره الأدبية :

( أ ) الآثار الشعرية :
1 – ديوان الشوقيات : " في أربعة أجزاء " .
وقد طبع ديوانه لأول مرة سنة 1898م ، وأعاد طبعه سنة 1927م ،
وبمناسبة إعادة طبعه أقيم له حفل تكريم عظيم ، تمجيداً بشاعريته ونبوغه .
2 – الشوقيات المجهولة : وهي مجموعة شعرية ، جمعها ودرسها الدكتور محمد صبري ونشرها بعد وفاة الشاعر.
3- المسرحيات الشعرية : " وضعت بين 29-1932"
- المآسي : مصر كليوباترا – قمبيز – علي بك الكبير
عنترة – مجنون ليلى.
- الملهاة : الست هدى .
4 – ديوان " دول العرب وعظماء الإسلام " وهي قصيدة طويلة ، نظمها في الأندلس .
( ب ) الآثار النثرية :
1 – مسرحية : أميرة الأندلس .
2 – له ثلاث روايات ، هي : عذراء الهند – لادياس – ورقة الآس .
3 – كتاب (أسواق الذهب) : وهو عبارة عن مقالات اجتماعية في مختلف الموضوعات ، جمعت عام 1932.

شـعره :
تتشابك في تكوين شاعرية شوقي وشخصيته الأدبية عناصر كثيرة ، فقد حذق العربية والفرنسية ، وكان يعرف التركية . واحتكَّ بالحضارة الغربية في عقر دارها ، ونهل من ثقافتها . واستفاد من توجيه أستاذه الشيخ محمد البسيوني ، كما استفاد من كتاب (الوسيلة الأدبية) للشيخ حسين المرصفي ( ت 1889) ، وما اشتمل عليه من مختارات الشعر الجيد للقدماء ، ونماذج رائعة من شعر البارودي .
وساهمت حركة إحياء التراث العربي والإسلامي في اطلاعه على عيون الشعر العربي ، وتمثل نماذجه الرائعة ، وتملك خصائصه ، وصقل موهبته الفنية ؛ فاكتسب قوة في النسج ، وجزالة في الأسلوب .
كما ساهمت صلته بالخديوي عباس الثاني في بناء شخصيته ، ووفرت له المكانة الاجتماعية المرموقة . وفتحت له آفاق النظم ، وارتياد مواضيع جديدة للقول ، منها : متابعة نشاطات الخديوي ، وتحسين مواقفه السياسية للرأي العام المصري ، والإشادة بإنجازات مصر الحضارية ؛ مثل فتح الجامعة ، وإنشاء بنك مصر ، والانفعال بأحداثها الجديدة ، فيهتم بالهلال الأحمر ، ويوجه العمال بمثل قوله مخاطباً لهم :
أيُّـها العمال أفنـوا الــــــعمر كـدَّاً واكتسابا
واعمـروا الأرض فلولا سـعيكم أمسـت يبـابا
أتـقنـوا يحببـكم اللـــه ، ويرفـعـكم جنابا
ويشيد بدور الصحافة في نهضة البلاد ، قائلاً :
لكل زمـان مضى آية
......................................وآيـة هذا الزمـان الصـحف
لسان البلاد ونبض العباد
.....................................وكهف الحقوق وحرب الجنف  
وقد طرق شوقي بخوضه في هذه الموضوعات الجديدة ميداناً لم يطرقه الشعراء من قبل ، وألجأته لانتهاج أساليب مبتكرة في القول والوصف ، ملائمة لما ارتاده من المعاني .
هذا ، دون أن نغفل أثر المنفى في حياته وشعره ، فلا شك أنه عانى في الغربة ، وأمضَّه الحنين والشوق إلى مصر ، ولكنه ، في الوقت نفسه ، فتح له آفاقاً جديدة من المعاني ، ووجهه إلى التغني بالعروبة ، والاهتمام بتاريخ المسلمين عامة ، وفي الأندلس خاصة ، ويتطور فنه الشعري في الصياغة والمعاني .
أما أسلوب شوقي في الشعر ، فيقوم على احتذاء قوالب الشعر العربي القديم ومعارضتها ، وبعث الصياغة القديمة وإحيائها ، كما فعل البارودي ، فكون بذلك أسلوبه البياني الأصيل ، وهو أسلوب لا يتحرر من القديم ، ولكنه – في الوقت نفسه – يعبِّر عن الشاعر وعصره ، وهو أسلوب يقوم على الجزالة والقوة ، مع سلاسة في التعبير ، وقوة في السبك ، والتمكن من الإيقاع الشعري ، بجانب قدرته العالية في التصوير ، وبراعته في الوصف . مع إحساس مرهف ، وعاطفة حساسة .
وينقسم شعره قسمين واضحين : قسم قبل منفاه ، وقسم بعده :
كان في القسم الأول على صلة وطيدة بالقصر ، وولاؤه مطلق للأسرة العلوية ؛ فهم الذين تعهدوه ورعوه ، وقدمـوا له العون المادي والمعنوي ، والجاه والمنصب ؛ فكان حقاً عليه أن يكون شاعر الخديوي عباس ، وأن يدور شعره في فلكه ، يهادن من يهادنه ، ويعادي من يعاديه ، فأصبح شعره مقصوراً ـ في غالبه ـ على ما يتصل به من قريب أو بعيد ، فهو يمدحه في جميع المناسبات ، وهو يشيد بالترك والخلافة العثمانية ، إرضاءً له ، وتقرباً إليه .
وفي هذه الحقبة من حياته تطور في فنه صياغة وأسلوباً ، كما تأثر شعراء الغرب في شعرهم التاريخي ، فنظم قصائد كثيرة عن تاريخ مصر والبلاد العربية ، مثل قصيدته : (كبار الحوادث في وادي النيل) وقصيدة ( أنس الوجود ) .
وعلى الرغم من أنه ، في هذه المرحلة من حياته ، لم يكن يعني بالجمهور عناية مباشرة ، بل كان بعيداً عنه بحكم أسرته الأرستقراطية ، وبحكم وظيفته في القصر ، ومع ذلك لم يغفل الجمهور في شعره : من ذلك أنه طبع ديوانه للجمهور ، وكان ينشر شعره في الصحف ، ويراعي في مدائحه كل المناسبات التي تهم الجمهور ، ويمد آفاق شعره إلى اللحن الإسلامي الذي يهم المسلمين جميعاً ، ولعل ذلك ما جعله يصوغ قصائده في مديح الرسول - صلى الله عليه وسلم -  ، حتى يرضي عواطف قرائه الدينية .
أما بعد النفي ، فإنه ظل في الأندلس شاعراً تقليدياً من بعض جوانبه ، فاهتم بمعارضة القصائد القديمة الرائعة ، ونظم على وزنها وقافيتها ؛ مدفوعاً ـ كما يقول أحد الباحثين ـ بشهوة ، هدفها الإبداع والتحدي ، ورغبة منه في الوقوف على قدم المساواة مع غيره من فحول الشعراء الأقدمين ، بل في التفوق عليهم وعلى معاصريه ؛ ليثبت أنه لا يقل قدراً وقدرة عن أولئك القدماء الذين احتفى بهم النقاد في القديم والحديث  .
وبعد رجوعه من المنفى اتجه إلى الجمهور ، وصور عواطفه ، وأهواءه السياسية تصويراً قوياً باهراً . وقدم للأدب العربي في هذه المرحلة مسرحياته الشعرية ، فكان بذلك رائداً في هذا اللون من التأليف . كما كان رائداً في أدب الأطفال ، حين قدم كثيراً من الحكايات والقصص الشعرية التي تتناول الحيوان وغيره ، وخصَّ بها الأطفال ، والقطاعات الشعبية .
ولا شك أن أسلوبه تأثر كثيراً بهذه المرحلة الهامة من حياته ، فكتب للجمهور العربي هذه المسرحيات ، وفي ذهنه أنها ستعرض على قطاعات الشعب ، كما تأثر في كتاباته الشعرية للأطفال ، وفي أغانيه ، وفي أناشيده الوطنية .
عاطفته الدينية :
تشعر وأنت تقرأ شعر شوقي بقوة أثر الدين فيه وعمق إحساسه به ، فلا تكاد تخلو قصيدة من قصائده من تلميحات دينية مختلفة ، وإشارات واضحة لقيم الإسلام وفضائله .
وشعره الإسلامي يفيض بالحب الصادق ، والعاطفة الجياشة ، ويهتم فيها بإظهار صفات القدوة والمثل بنبي الأمة - صلى الله عليه وسلم -  ، ويذكر شمائله البينات . كما يفصل الحديث في كثير من قصائده عن جوانب رسالة الإسلام العملية التي تفيد الناس في دنياهم ، إلى جانب تحفيز الهمم ، وبث الثقة في نفوس المسلمين ، وتقوية عزائمهم ، وتذكيرهم برسالة الدعوة ، والجهاد في سبيلها
وذكر شوقي ضيف أن أحمد شوقي كان يراعي الرأي العام في قصائده ، وينتهز فرصة المناسبات العامة التي تهمهم ، وكان يعتصر في بعض مدائحه اللحن الإسلامي الذي يهم المسلمين في جميع الأقطار … ولعل ذلك ما جعله يصوغ قصائده في مديح الرسول - صلى الله عليه وسلم -  ، حتى يرضي عواطف قرائه الدينية . وذهب باحث آخر إلى أن طبيعة المناسبة كانت تتحكم في شوقي ؛ " فهو كشاعر أرستقراطي لابد له أن يتفاعل مع طبقته هذه ، وأن ينظم شعراً يعكس اهتمامات هذه الطبقة الاجتماعية ؛ فينظم غزلاً . ولا يجد ضرراً في نظم القصائد الدينية ، وفي طليعتها المولد النبوي ، ومدح الرسول ، والحضِّ على التمسك بالأخلاق الحميدة ؛ لأن المناسبة تدعوه إلى هذا التوجه ".  
وقصائده في مديح الرسول - صلى الله عليه وسلم -  ، خمس ، هي :
1- نهج البردة : ومطلعها :
ريمٌ على القاعِ بين البانِ والعَلَمِ
....................................أَحَلَّ سَفكَ دَمِي في الأشهُرِ الحُرُم


وقد عارض بها بردة البوصيري التي مطلعها :
أمِنْ تذكُّرِ جِيرانٍ بذي سَلَمِ
.......................................... مَزجتَ دمعاً جرى من مُقلَةٍ بِدَمِ
2-القصيدة الثانية : ذكرى المولد ، ومطلعها :
سَلُوا قلبِي غَدَاة سَلا وتَابَا
....................................... لَعَلَّ على الجمالِ له عِتابا



وهي معارضة لقصيدة ابن حمديس الصقلي ، التي يقول فيها متذمراً من الزمان ، وغدر أهله :
إلى كم تسمع الزمن العتابا
............................................ تخاطبه ولا يدري جوابا
3- القصيدة الثالثة : مدح فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -  وأثنى بأخلاقه وجهاده ومكانته ومعجزاته ، ومطلعها :
كِلا جَفنَيكَ يَعلَمُه
............................بهِ سِحرٌ يُتَيِّمُه

4- القصيدة الرابعة : قصيدة " دول العرب وعظماء الإسلام " وعدد أبياتها (1726) بيتاً ، منها (153) بيتاً في السيرة النبوية .

5- القصيدة الخامسة هي : " الهمزية " ، وهي معارضة ضمنية لقصيدة البوصيري التي مطلعها :
كيف تَرقَى رُقِيَّكَ الأنبياءُ
.......................................يا سَماءً ما طاولَتْها سَماءُ



الكلاسيكية

مر بنا منذ قليل أن الكلاسيكية أول مذهب أدبي، نشأ في أوروبا بعد الحركة العلمية والنهضة الأدبية التي سادت أوروبا إبان القرن الخامس عشر من الميلاد، وتعد فرنسا الموطن الأول الذي نشأت فيه الكلاسيكية، ونمت وترعرت، ويحدد "لانسون" فترة وجودها في الأدب الفرنسي من عام 1549م حتى عام 1615م، ووضعت أصولها وقواعدها وأسسها حوالي عام 1630م، وذلك بظهور طائفة من زعماء هذه المدرسة من أمثال: شابلان، وأسكديري، والناقد بوالو.
والكلاسيكية في معناها اللغوي مشتقة من الكلمة اللاتينية: "كلاسيس Classis، وتطلق في الأصل على مجموعة من السفن الحربية أو التجارية،أي : "وحدة في الأسطول" ، كما تطلق ـ أيضاً ـ على: "الفصل الدراسي"، ويترجمها الأستاذ أحمد حسن الزيات بـ: "الاتباعية"، ولعل في ترجمته لها شيئاً من التجوز، وبخاصة إذا عرفنا اشتقاقها اللغوي، ولكنها ـ على أية حال ـ أدق معنى وأصدق دلالة من تفسيرها بالقديم أو التليد. أو ما رادف هذين من ألفاظ لسبب بسيط، وهو أن الاتباعية فيها إلماع إلى المنهج الذي تقيدت به الكلاسيكية كما سيأتي.
وعندما ظهرت الحركة العلمية في أوروبا، وذلك بعد نزوح علماء بيزنطة وأدبائها إلى إيطاليا، حاملين معهم المخطوطات الإغريقية واللاتينية القديمة، أخذ الأوروبيون يعملون على نشر تلك المخطوطات ودراستها، واستنباط خصائصها وقواعدها تلك التي أكسبتها الخلود والبقاء، مستضيئين في ذلك بكتابي أرسطو المشهورين: "الخطابة" و"الشعر"، وبقصيدة هوراس الشاعر الروماني الطويلة المسماة: "فن الشعر".
فالتراث اليوناني والروماني في الأدب والفن بصفة عامة هو التكئة التي اتكأت عليها الكلاسيكية منذ نشأتها، ومنه استمدت أصولها ومبادئها. ولكن يجب أن لا يغرب عن البال أن الأصول النظرية التي وضعها أرسطو هي التي تعد في نظر الكثيرين أصل الكلاسيكية، ومن المعروف أن أرسطو لم يتطرق في كتابه: "الشعر"، إلا إلى الملاحم والدراما، واهتم بالأدب التمثيلي بفرعيه: التراجيديا، والكوميديا.
وبذهب بعض الباحثين بناء على هذا إلى أن أغلب الأصول الفنية التي تعصبت لها الكلاسيكية كانت في الواقع الأصول الخاصة بالدراما والتراجيديا، بحيث نستطيع أن نقول: إن أصول الكلاسيكية تنحصر في الأدب التمثيلي، وهو الأدب الذي انصرفت إليه جهود الكلاسيكيين، وتميزوا به. ومن الخير أن نشير إلى تلك الجهود اللغوية، ومن ثم الجهود الفلسفية التي ساعدت على تأصيل هذا المذهب واكتماله.
في القرن السادس عشر من الميلاد تألفت جماعة من شعراء فرنسا بزعامة الشاعر: "روتسار 1524 ـ 1585م"، أطلقت على نفسها جماعة: "الثريا"، وعملت على إحياء اللغة وتجديد أساليبها، ومحاكاة النماذج العالية من أدب اليونان والرومان، وأصدر الشاعر "دي بللي" أحد أعضائها كتابه "دفاع عن اللغة الفرنسية" عام 1549م، هاجم فيه أولئك الذين يكتبون إلى الشعب الفرنسي باللاتينية، ويتجاهلون لغته التي تميزت معالمها، ونادى بالانصراف عن الموضوعات الشعرية التافهة، كالأدب الكنسي وأدب الفرسان، وضرورة الإقبال على الموضوعات الشعرية الجليلة التي أقبل عليها الإغريق والرومان.
ثم أتى بعده الشاعر الكبير "ماليرب 1555 ـ 1628م"، وكان له أثر بعيد في تهذيب اللغة وتطويرها، وامتاز شعره بالفخامة، والجزالة والرصانة، وإحكام النسج، واختار لشعره موضوعات جليلة ذات طابع إنساني، ولم يسمح لعاطفته الجياشة الفياضة أن تطغى على شعره، بل لاءم بينها وبين عقله، واستخف بما عمله "رونسان" وجماعته من الدعوة للأخذ باللغة الشعبية، وإغنائها بألفاظ جديدة، مبتكرة، أو مقتبسة. والأدب عند "ماليرب" إلهام وصنعة وموهبة ومعاناة، وهو يرى ـ أيضاً ـ أن لكل انفعال عاطفي أو نفسي وزنه ونبرته. وقد أعجب بهذه المعاني ورددها الشاعر والناقد الفرنسي الكبير "بوالو ـ 1636 ـ 1711مـ، في قصيدته الطويلة: "فن الشعر"، التي حاكى فيها هوراس في مطولته: "فن الشعر، أو خطاب إلى آل بيزون" ، وعلى هذا الأساس يمكن لنا أن نعد الشاعر "ماليرب" من رواد المذهب الكلاسيكي، في حين أن ما عمله رونسار وجماعته يعد في صميمه انشقاقاً على هذا المذهب.. ولو أن "رونسار" حاول أن يحيي فن الملاحم ـ وهو جزء من تراث الإغريق الأدبي ـ وذلك بإنشاء ملحمته المسامة "الفرنسياد"، التي يقص فيها البطولات وأعمال التضحيات التي أتى بها "فرانسوا" الأول في غزوه لإيطاليا، بسبب أن محاولته الملحمية تلك فشلت، بحيث لم تجد رواجاً بين الناس، حيث إن عصر الملاحم ـ فيما يبدو ـ كان قد ولى، الأمر الذي صرفه وصرف جماعته إلى الشعر الغنائي، والمناداة بأخذ لغة فرنسية جديدة مستقلة عن اللاتينية، ولا شك أن هذا بعيد كل البعد عن روح الكلاسيكية ومبادئها، لما سبق أن ذكرنا أنها تنحصر غالباً في الأدب التمثيلي.
وفي سنة 1634م أنشأ الكاردينال "دي ريشيليو" وزير الملك لويس الثالث عشر المجمع اللغوي الفرنسي، وقام هذا المجمع بوضع قاموس لغوي ترسم فيه خطوات الشاعر "ماليرب".
هذا عن الجهود اللغوية. أما الجهود الفلسفية، فتتمثل في جهد فيلسوفين عظيمين، رسما للأدب بفلسفتهما اتجاهاته الفكرية ، بعده فنّا له في الحياة الإنسانية رسالة سامية ، وآراء هذين الفيلسوفين تعد الوجه الحقيقي للكلاسيكية، وصنعت فلسفتهما وعاءً فكرياً نظرياً مجرداً لتحديد مسار هذا المذهب، والفيلسوفان هما "ديكارت 1596 ـ 1650م"، و"باسكال 1623 ـ 1662م".
ففي سنة 1637م أصدر "ديكارت" كتاباً في الفلسفة بعنوان: "خطاب في المنهج"، وفيه يقرر عدم التسليم بشيء ما لم يوضع تحت مجهر العقل، فيفحصه ويتحقق من وجوده، وذهب أيضاً إلى أن العقل هو الموصل الوحيد إلى الخير والمعرفة، وما يرفضه العقل يجب علينا أن نرفضه، وهو في هذا يذهب مذهب المعتزلة، الذين يحكمون عقولهم فيما يعرض لهم، وهو صاحب المبدأ المشهور "أنا أفكر، فأنا إذا موجود"، ومبدأ "الشك أساس اليقين". وإنصافاً للحقيقة التاريخية لابد من أن أشير إلى أن مبدأ "الشك أساس اليقين"، كان أحد المبادئ التي بنى عليها المعتزلة مذهبهم، وعنه صدرت ما أثر عنهم من مناظرات ومجادلات ـ كما هو معروف ـ في "علم الكلام"، وقد طبق الجاحظ هذا المبدأ تطبيقاً عمليا في كتابه المشهور "الحيوان"، وبه أخذ الدكتور طه حسين في دراسته للشعر الجاهلي.
فالعقل عند ديكارت يكبح أهواء النفوس، والنزعات الضارة، والإرادة تدفع إلى العمل الخير النافع. ولقد تأثر كثير من الأدباء في إنتاجهم الأدبي بفلسفة ديكارت، ويرى النقاد أن ذلك ماثل بصفة خاصة في مآسي كورني.
وكما اعتمد ديكارت على العقل، فإن باسكال اعتمد عليه أيضاً، فالعقل عنده نقطة البداية، كما أنه نقطة النهاية، ويبدو ذلك واضحاً في كتابيه "الريفيات" ، و"الأفكار"، وقد امتاز بأسلوب منطقي ساحر جذاب ـ وبخاصة في كتابه الريفيات ـ وهذا ماجعل فولتير "1694 ـ 1778م"، يثني على هذا الكتاب، ويصفه بأنه نموذج حي من سطوة المنطق، وحرارة العاطفة، وكان موضوعياً في كتاباته، يسعى إلى تمثيل الحق والخير والجمال، وهذا المذهب هو الذي قامت عليه الكلاسيكية، وباسكال في أدبه ينحو منحى أرسطو اليوناني، وهوراس الروماني، في حين أن الأدب يجب أن تتوافر فيه الفائدة واللذة الفنية.
ثم ماذا عن الكلاسيكية من الناحية الفنية بعد أن ألممنا بها من الناحية التاريخية، ثم هل تقيد الكلاسيكيون بالموضوعات والأصول الفنية التي وضعوها؟ هذا ما أحاول الإجابة عنه الآن :
بالنسبة للأصول الفنية يمكن إجمالها في النقاط التالية:
1 ـ محاكاة الأقدمين، وأول من أخذ بها الشاعر الفرنسي رونسار.
2 ـ الاعتماد على الصنعة والإلهام معاً في الأدب والفن، لأن اعتماد الأديب على الموهبة وحدها يحرمه من الأصالة الفنية التي لا تتوافر إلا بالبحث المضني في أغوار النفس.
3 ـ الاعتراف بسلطان العقل الواعي، الهادئ المتزن الذي يكبح الغرائز والعواطف الثائرة.
4 ـ إلتزام الحيدة في محاكاة الطبيعة، وإنطاق أبطال المسرحيات بما يدور في خواطرهم وعقولهم.
5 ـ الاتجاه إلى الأدب الجماعي الإنساني، وعدم اشتغال الأديب بأحاسيسه الخاصة ومشاعره الذاتية.
6 ـ جودة الصياغة اللغوية، والحرص على فخامة الأسلوب وجزالته من غير تكلف، ولا زخرفة.
مر بنا في موضع سابق أن الكلاسيكية اتجهت نحو الأدب الموضوعي، وهذا يشمل فيما يشمل القصة والمسرحية، ولكن لما كان اليونان والرومان لم يتركوا قصصاً، بل تركوا مسرحيات، فقد توافر الكلاسيكيون على الفن المسرحي يكتبونه شعراً، والتزموا بالاتجاه اليوناني والروماني القديم، من حيث الأصول العامة، والموضوعات وطريقة المعالجة، واختيار الشخصيات، بل لقد جمدوا من حيث بقاء مسرحياتهم على ما سموه "مشاكلة الحياة" ؛ لأن المسرح عندهم لا يعدو أن يكون مجهراً للحياة أو مرآة لها، وقد اقتضاهم ذلك أن يتوافر لمسرحياتهم ما سموه بالوحدات الثلاث: وحدة المكان، ووحدة الزمان، ووحدة الموضوع. ولهذا فإن مسرحياتهم لا تتناول حياة شخصية بأكملها، بل تتناول أزمة محددة في حياة تلك الشخصية، وورثوا أيضاً عن الإغريق والرومان تقسيماً دقيقاً لفنون المسرح تقيدوا به والتزموه، ففنون المسرح عندهم تنقسم قسمين:
1 ـ
التراجيديا: وهي المسرحية الجادة النبيلة التي تثير الشفقة والخوف، وأسلوبها سام رفيع، وشخصياتها من الملوك والأمراء، وعند اليونانيين القدامى كانت شخصياتها من الآلهة، وأنصاف الآلهة كما يزعمون.
2 ـ
الكوميديا: وهي مسرحية هزلية تثير الضحك توضع للتسلية، أو للنقد السياسي والاجتماعي، أو لتصوير العيوب النفسية والاجتماعية ومحاولة إصلاحها، وشخصياتها تؤخذ ـ غالباً ـ من عامة الشعب.
ولكن هذا التقسيم الكلاسيكي، والتقيد به لم يدم طويلاً، بل أخذ في التضعضع، ثم في الانهيار بفعل تقدم الإنسانية، ونمو ثقافتها، وتغير أوضاعها الاجتماعية، وأنكر الأدباء والمفكرون على الكلاسيكية أن تلتزم في الفن المسرحي المأساة والملهاة فقط، واحتجوا بأن الحياة في صميمها ليست مأساة، وليست ملهاة، وإنما يبكي الناس ويضحكون في أزمات أو فترات طارئة، لذلك ربما وجدت مسرحيات لا تبلغ حد المأساة كما لا تبلغ حد الملهاة، لذلك نشأت ما أطلقوا عليه الدراما الدامعة، وهي بالطبع غير مفجعة، ولا محزنة، وما سموه أيضا بالماريغودية، وهي تقوم على الدعابة المهذبة والنكتة اللطيفة.
وإن كان الأدباء لم يحطموا الكلاسيكية تحطيماً كاملاً، فإنهم توسعوا في موضوعاتها، ولم يتقيدوا بجميع أصولها، أما انهيارها وتحطمها وسقوطها، فحصل بعد ظهور الرومانسية، وذلك في القرن التاسع عشر الميلادي. وقد ترددت في أدبنا العربي لفظة الكلاسيكية وكلاسيكي فيقال: هذا أدب كلاسيكي، أو هذا أديب أو شاعر كلاسيكي النزعة بمعنى أنه قديم، أو يسير على نهج القدماء ويترسم خطواتهم، وبذلك تنطبق لفظة الاتباعية على ما نعنيه في هذا المقام.
وإذا أخذنا بهذا التفسير، فيمكن لنا أن نعد جميع الشعراء العرب القدامى كلاسيكيين، ولكن في هذا الاعتبار شيء من عدم الدقة، إذ لا ينطبق هذا الحكم على أولئك الشعراء الذين حاولوا استحداث أوزان جديدة، أو لم يتقيدوا بما تقيد به العرب من مطالع القصائد، أو لم يحكموا عقولهم الهادئة المتزنة فيما ينظمونه من شعر، إذن فالقدم أو الحداثة لا يصلحان أبداً مقياساً نحكم بهما على هذا الشاعر بأنه كلاسيكي، أو غير كلاسيكي. وفي رأيي أن شاعراً مثل ابن زيدون أو مثل أبي نواس، أو مثل ابن دراج، أو أبي العتاهية، لا يمكن أن نطلق عليهم كلاسيكيين لاعتبارات فنية، فشعر الشعراء الثلاثة الأول أقرب إلى الرومانتيكية، والرابع لم يتقيد بأوزان العروض في بعض الأحيان.
على أن أدبنا العربي الحديث ظفر بمجموعة طيبة من الشعراء الكلاسيكيين، ويأتي في مقدمة هؤلاء من مصر: محمود سامي البارودي، وأحمد شوقي، وإسماعيل صبري، وحافظ إبراهيم، وعزيز أباظة، ومن العراق: محمد مهدي الجواهري، ومحمد رضا الشبيبي، ومعروف الرُّصافي، وعبدالمحسن الكاظمي. ومن سورية: شفيق جبري، وخير الدين الزركلي، ومن بلادنا: محمد بن عثيمين، وأحمد بن إبراهيم الغزاوي، وعبدالله بن خميس.
وتعد مسرحيات شوقي الشعرية، ومن بعدها مسرحيات عزيز أباظة، تقليداً أصيلاً للكلاسيكيين الأوائل، إلا أن تلك المسرحيات الشعرية إنما تكتب الآن للقراءة فقط دون التمثيل على خشبة المسرح، نظراً لسمو لغة الشعر عن أذهان الكثير من المشاهدين، ونظراً لما يقيد به الشعر المسرحية من قيود يمنعها من الحركة والتنويع والاتساع في عرض المشاهد.
والمجال لا يتسع لإيراد أمثلة شعرية كلاسيكية، ومن أراد الاطلاع على نماذج منها فليرجع إلي شعر أي شاعر من هؤلاء الشعراء الذين سبق ذكرهم آنفاً.



المدرسة الرومانسية



الرومانسية

الرومانتيكية، الرومانسية، الرومانطيقية كلمات ثلاث يؤدين معنى واحدا، وينصرفن إلى ذلك المذهب الأدبي الذي أخذ يظهر في أوروبا بعد قرن ونصف من ظهور الكلاسيكية.
وتعد "الرومانسية"، ثورة على العقل وسلطانه، وعلى الأصول والقواعد السائدة في الكلاسيكية كافة، وبعبارة أوسع وأشمل، كانت الرومانسية تهدف إلى التخلص من سيطرة الآداب الإغريقية والرومانية، وتقليدها ومحاكاتها، وبخاصة حينما أخذت أقطار أوروبا تأخذ نفسها نحو الاستقلال في اللغة والأدب والفكر.
وتشتق الرومانسية من لفظة "رومانيوس" التي أطلقت على اللغات والآداب المتفرعة عن اللغة اللاتينية القديمة، التي كانت تعد في القرون الوسطى لهجات للغة روما القديمة، ولم تعتبر لغات وآداباً فصيحة إلا ابتداء من عصر النهضة، حيث أخذت هذه اللغات مكانها لغات ثقافة وعلم وأدب.
وقد اختار الرومانسيون "الرومانسية" ـ وهي إحدى لهجات سويسرا ـ عنواناً لمذهبهم، وتعبيراً عن معارضتهم لسيطرة الثقافة اليونانية واللاتينية على لغتهم وآدابهم القومية.
وعرفت "الرومانسية" بالابتداعية أو الإبداعية بسبب أنها تعد ابتداعاً في المذهب الكلاسيكي، وتقويضاً لمبادئه وأركانه.
وفي الواقع لم تكن "الرومانسية" ثورة على الآداب الإغريقية واللاتينية والكلاسيكية فحسب، وإنما كانت أيضاً ثورة على جميع القيود الفنية المتوارثة، واعتبرت هذه القيود، قيودًا ثقيلة حدت من تطور الأدب وحيويته، وتعبيراً عن طابع العصر، وثقافة الأمة وتاريخها.
لقد غلبت على الرومانسيين نزعة التمرد على هذه القيود التي التزمها الكلاسيكيون، فدعوا إلى التخلص من كل ما يكبل الملكات، ويقيد الفن والأدب، ويجعلهما محاكاة جامدة لما اتخذه اليونان واللاتين من أصول.
كانت الرومانسية ترمي إلى التخلص من كل الأصول والقيود التي أثقلت الأدب الكلاسيكي، لتنطلق العبقرية البشرية على سجيتها دون ضابط لها سوى هدي السليقة وإحساس الطبع.
كان الأدب الكلاسيكي يعد أدب العقل والصنعة الماهرة وجمال الشكل، والمواضيع الإنسانية العامة، واتباع الأصول الفنية القديمة. فجاءت الرومانسية لتشيد بأدب العاطفة والحزن والألم والخيال والتمرد الوجداني، والفرار من الواقع، والتخلص من استعباد الأصول التقليدية للأدب.
وكانت البلاد الفرنسية المهد الأول للرومانسية وللكلاسيكية، ولجميع المذاهب الأدبية والمناحي الفكرية حتى قيل: "إن فرنسا معامل أفكار لأوروبا"، ومما لا شك فيه أن الفرنسيين يمتازون بالعقول المتزنة والأفكار المنطقية الواضحة، وهذا مما يلائم المبادئ الكلاسيكية، على العكس من الإنجليز والألمان، إذ يتميزون بتشعب العواطف والغموض، والخيال الجامع الواسع الفضفاض.
أما الظروف التي نشأت فيها الرومانسية في فرنسا، ودعت إليها فما تقلبت فيه البلاد الفرنسية من أحوال سياسية واجتماعية واقتصادية، كونت لدى الفرنسيين تلك الحالة النفسية، والتمزق الداخلي والتغني بالآلام الفردية التي هي من مميزات الرومانسية.
ولعل من عوامل نشوء الرومانسية في فرنسا ما كان من هجرة بعض كبار كتباها إلى إنجلترا وألمانيا إثر قيام الثورة الفرنسية سنة 1789م، وتأثرهم بآداب تلك البلاد ومعطياتها الفكرية والثقافية، مما جعلهم يصدرون عن وحيها بكل حماسة وإعجاب. كتلك الحماسة التي أظهرها شاتوبريان "1768 ـ 1848م"، عندما عاد من مهجره إنجلترا، وتسنى له أن يترجم إلى الفرنسية "الفردوس المفقود" لجون ملتون، وكذلك الإعجاب الذي أبدته مدام دي ستايل "1766 ـ 1817م" ، حينما عادت من منفاها ألمانيا بهذا الأسلوب الجديد الساري في أدب الشمال، إذ قالت: "شعر أهل الشمال يناسب تفكير الأمم الحرة أكثر مما يناسبها شعر الإغريق" ، وكتبت دي ستايل عن ألمانيا كتاباً فريداً، أشادت فيه بالروح الألمانية، وعرفت فيه الفرنسيين بروائع الأدب الألماني الغارق في الرومانسية، وتعتبر دي ستايل من الرواد الأوائل لنشوء الرومانتيكية.
وإذا تجاوزنا الأسباب المباشرة لحدوث الرومانسية فإننا نجد كاتبين وفيلسوفين كبيرين أثرا في الحياة العقلية والأدبية الأوروبية، وإن كان هذا التأثير بعيداً عن محيط الرومانسية، ولكنه ـ على كل حال ـ ساعد على تمهيد أرض صلبة لنشوئها. وهذان الفيلسوفان هما: جان جاك روسو "1722 ـ 1778م" ، وفولتير "1649 ـ 1778م".
أما روسو فقد دعا إلى العودة إلى الطبيعة والحياة الفطرية، إذ إن أطماع الإنسان قد تطورت بتطور المجتمع، وأحس أنه في مجتمع يفرض عليه تبادل المصالح مع الآخرين، ومن شأن هذا أن يكوِّن في نفسه الأثرة وحب الذات والامتلاك والحرص، ولقد كان الإنسان الفطري البدائي سعيداً في حياته، وفي معيشته، آمناً في كوخه، لا يحمل لغيره من الناس إلا الخير والحب، وروسو هو صاحب المبدأ التربوي المشهور "علينا أن نترك الطفل يدرج وحده في الطبيعة ليكتسب خبراته بنفسه"، وكتابه "أميل" إنما هو شرح لهذا المبدأ.
وأما فولتير، فإنه نشر في أوروبا كلها أدب شكسبير "1564 ـ 1616م"، ونوه به، وهو أدب متحرر من النظام الإغريقي في بناء المسرحيات، على الرغم من أن شكسبير عاش في عصر الكلاسيكية، ولكنه لم يلتزم بمبادئها وأصولها، بل اعتمد على نفسه وخبرته في تكوين مسرحه، واستطاعت عبقريته أن تسعفه في ذلك، حيث أهلته للنجاح الباهر المنقطع النظير، وكان من حقيقة هذا النشر أن فطن الأدباء إلى أن في القرن السادس عشر ـ عصر ازدهار الكلاسيكية ـ من حاول التفلت من قيود الآداب الإغريقية والرومانية، اكتفاء بعبقريته وأصالته الفنية واجتهاداته الشخصية.
وبالطبع لم يعتنق فولتير جميع آراء شكسبير ويأخذ بها كلية، ولكنه اختار ما يلائم طبعه في تجديد الأدب الفرنسي، ولا شك أن لهذا التجديد أثراً في اهتزاز قيمة المذهب الكلاسيكي. ولم يكن فولتير ناقلاً لآراء شكسبير فقط، وإنما كان ـ بالإضافة إلى هذا ـ ناقداً اجتماعياً جريئاً في نقده، حتى إنه انتقد صكوك الغفران ورجال الكنيسة، وقد عرض فولتير آراءه في المسرحيات التي ألفها، وكانت سبباً لتهيئة الجو الملائم للرومانسية.
كذلك أخذ بعض الفلاسفة ـ غير هذين ـ يمهدون لهذا المذهب ويبشرون بعالم أفضل من أمثال الفيلسوف الفرنسي ديدرو "1713 ـ 1784م"، والفيلسوف الألماني كانت "1724 ـ 1804م" ، ولا شك أيضاً أن هؤلاء الفلاسفة أثروا في الأدب ونقده، حينما خالفوا أفلاطون في نظريته المشهورة "المثل". ومن متممات البحث أن أشير إلى أن هؤلاء الفلاسفة قد انصرفوا في أبحاثهم الفلسفية إلى سبر طبيعة الجمال وحقيقته وعلاقته بالمتعة، والفرق بين الجميل والنافع، واستطاعوا أن يحددوا نظرياتهم وآراءهم نحو الجمال، ثم أتى فلاسفة بدأوا من حيث انتهى أولئك، وفي مقدمتهم الفيلسوف الألماني الرومانتيكي فيشته "1762 ـ 1814م" ، والفيلسوف الألماني شوبنهور "1788 ـ 1860م"، الذي زرع فلسفة التشاؤم.
ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن تلك الأسباب المباشرة، وغير المباشرة لم تصنع بين عشية وضحاها الظروف التي نبتت فيها الرومانسية حتى غدت مذهباً أدبياً قائماً بذاته، كما أن تلك المؤثرات الإنجليزية والألمانية التي أشرنا إليها من قبل، لا تستطيع وحدها تشييد صرح الرومانسية لو لم تتضافر ظروف الحياة في فرنسا لتهيئة الحالة النفسية التي تصدر منها الرومانسية.
ودراسة الحوادث والتاريخ لاتهمنا إلا بمقدار تأثيرها علي نفسيات الأدباء واستجابتهم لردود فعلها ومعطياتها.
ولا شك أنه وجد في فرنسا عدد من الأدباء الناشئين استجابوا لنداء هذه الأحداث، وكانوا الانطلاقة للرومانسية.
وقد وصف الشاعر الرومانتيكي الفرنسي الكبير الفريد دي موسيه في كتابه "اعترافات فتى العصر" ، الحالة النفسية للأطفال والشبان بعد هزيمة نابليون، وإذلال فرنسا وفترة الضياع التي لم تعد مذهباً أدبياً فقط، وإنما غدت فلسفة وسلوكاً في الحياة أيضاً.
واتخذت الرومانسية من الشعر وسيلة للتعبير عن الذات، وما يكتنفها من ألم وشقاء وتشاؤم.
ولم تقيد الرومانسية نفسها بأصول ومبادئ فنية، كما حدث مثلاً في الكلاسيكية، إلا أنها قد بلورت بطريقة عفوية تلقائية بعض الاتجاهات التي أصبحت فيما بعد من مميزاتها من مثل "مرض العصر"، ويطلقونه على تلك الحالة النفسية الناتجة من عجز الفرد من التوفيق بين القدرة والأمل و"اللون المحلي" ، ويقصدون به محاربة الاتجاه الإنساني السائد في الكلاسيكية و"الخلق الشعري"، حيث قرر الرومانسيون أن الأدب ليس محاكاة للحياة وللطبيعة كما تذهب الكلاسيكية، بل خلقاً، وأداة الخلق هي الخيال المبتكر، مع ذكريات الماضي وأحداث الواقع الراهن وإرهاصات المستقبل.
ونحن لا نستطيع أن نلم باتجاهات الرومانسية ومميزاتها وسماتها، إلا إذا اطلعنا على روائع الرومانسيين من أمثال آثار فيكتور هيجو، والفريد دي موسيه، ولا مارتين، وورد زوورث، وكولردج، وبايرون، وشيلي Shelley، وكيتس.
وهنالك قصيدة للشاعر الفرنسي إلفريد دي موسيه أجمع النقاد على أنها من روائع الرومانسية، وهي بعنوان "ليلة أكتوبر"، وتجري علي صورة حوار بينه وبين ربة الشعر حول تجربة حقيقية عاشها الشاعر بكل أبعادها، وقاسى منها آلاماً مرة في حب عاثر، هو حبه للكاتبة الفرنسية "جورج صاند"، التي سافر معها إلى مدينة البندقية بإيطاليا، وهناك سقط مريضاً، وعاده طبيب إيطالي وقعت جورج صاند في حبه، وهجرت صاحبها الشاعر المريض الذي عاد إلى باريس كسير القلب ، محطم الأعصاب، وفي خلال تلك المحنة القاسية على قلبه أتته ربة الشعر "الإلهام" حيث جرى بينها وبينه حوار نقتطف منه ما يأتي(2):
ـ الشاعر: لقد تبدد الألم الذي أضناني، كما تتبدد الأحلام حتى لتشبه ذكراه البعيدة ما يبعث الفجر من ضباب خفيف يتطاير وندى الصباح.
ـ ربة الشعر: مابك إذن يا شاعري؟ ما هذا الألم الخفي الذي أقصاك عني، حتى ما أزال أشقى به ؟. ما هذا الألم الذي خفي عني وإن طال ما أبكاني؟.
ـ الشاعر: كان ألماً مبتذلاً مما يصيب الجميع. ولكننا نحسب دائماً ـ لخبلنا الجدير بالرحمة ـ أن ما يتسرب إلى قلوبنا من ألم لم يتسرب مثله إلى قلب أحد سوانا.
ـ ربة الشعر: لا.. مافي الألم من مبتذل إلا ألم نفس مبتذلة، دع ـ عزيزي ـ هذا السر ينطلق من فؤادك.. افتح لي نفسك، وتكلم واثقاً من أمانتك، فإن الصمت أخ للموت. ولكم شكا متألم ألمه فتعزى عنه، ولكم نجى القول قائله من وخزات الضمير!
ـ الشاعر: إذا كان لابد من الكلام عن ألمي، فوالله لا أدري بأي اسم أسميه: أكان حباً؟ أم جنوناً؟ أم كبرياء؟ أم محنة؟ وما أدري من سيفيد من سماعه وأنا بعد قاص عليك نبأه، وقد خلونا إلى أنفسنا في جلستنا هذه إلى جوار الموقد، خذي قيثارتك وتعالي إلى جانبي، ثم أيقظي ذكرياتي بعذب نغماتك".
ولا شك أن تلك المعاني الذاتية لا تلائم إلا الشعر الغنائي، حيث يجد فيه الشاعر المنطلق الرحيب.. إلا أن الرومانسيين لم يقتصروا على الشعر الغنائي فحسب، وإنما كانت لهم مشاركات في الأدب الموضوعي، وبخاصة الأدب التمثيلي، وبرزت في هذا الأدب أسماء لامعة، وكانت مسرحياتهم روائع خالدة في المذهب الرومانسي من أمثال دي موسيه، وفيكتور هيجو، والأخير هو الذي قام بترجمة مسرحيات وليم شكسبير إلى اللغة الفرنسية، ولم يكتف بالترجمة فقط، بل أخذ في دراستها واستنباط خصائصها ومهاجمة الكلاسيكية خلال تلك الدراسة، كما يلاحظ في مقدمة مسرحيته المشهورة "كرومويل"، التي هاجم فيها وحدة الزمان والمكان في المسرحية عند الكلاسيكيين؛ لأن المقصود من وحدة الزمان جعل المسرحية مشاكلة للحياة وكأنها صورة منها، ومن الأجدر إذا كان ذلك كذلك أن تحدد بساعتين أو ثلاث، وهو الزمن الذي يستغرقه تمثيل المسرحية لا بأربع وعشرين ساعة. كما هاجم مبدأ "فصل الأنواع" الذي يقتضي في المسرحية الكلاسيكية عدم اجتماع مشاهد المأساة إلى جوار مشاهد الملهاة في المسرحية، ويذهب إلى أن هذا المبدأ لا وجود له في واقع الحياة، إذ الحياة تتقلب من جد إلى هزل، ومن هزل إلى جد، وتتقلب معها عواطف الناس ومشاعرهم تبعاً لهذا التقلب.
هذه هي الرومانسية التي سيطرت على الآداب الأوروبية وقتا من الزمن، وكان لابد لها أن تنهار وتسقط في خضم المذاهب الناشئة كما حدث ـ تماماً ـ للكلاسيكية في خضمها. ولكن الرومانسية قدمت من نفسها عوامل وأسباباً ساعدت على سقوطها، وتغلب المذاهب الأدبية الناشئة من مثل "الواقعية"، و"الفنية" عليها، وذلك أنها تذهب إلى أن الأدب وحي وإلهام وخلق، لا صناعة ومحاكاة ونظام، الأمر الذي جعلها تنتهي عند المقلدين، وأصحاب الملكات الضعيفة إلى إهمال الصياغة اللغوية وتجويد الأسلوب وجماله، وعدم النظر في روائع الفحول من الأدباء، كما أدى بها هذا الأمر إلى إضطراب العواطف وتشتت المشاعر، واستخدام الأدب شعره ونثره في التعبير عن الذات والأنا، وهذا جعلها لا تهتم بالقضايا الإنسانية والوطنية السامية الكبرى حتى وصفت بأنها أدب الأبراج العاجية.
والأدب العربي الحديث ـ الذي هو صدى للآداب الغربية ـ كان له من الرومانسية حظ عظيم ونصيب وافر، وعلى أساسها وبوحي منها قامت المدارس الأدبية، كمدرسة الديوان، ومدرسة أبولو، أو جمعية أبولو للشعر، ومدرسة المهجر.
بل إن مدرسة الديوان ممثلة في زعمائها الثلاثة : العقاد، والمازني، وعبدالرحمن شكري، صدرت في نقدها لمسرحيات شوقي وشعره ونثر المنفلوطي من الرومانسية ومبادئها وتعاليمها، وتأثرت هذه المدرسة أكثر مما تأثرت بالرومانسية في الأدب الإنجليزي.
وصدى لهذه المدارس الأدبية في أدبنا العربي الحديث، لمعت نجوم لامعة في سماء الشعر الرومانسي الرقيق الحالم من أمثال الدكتور إبراهيم ناجي، صاحب دواوين: الطائر الجريح، وليالي القاهرة، ووراء الغمام، وعلي محمود طه في الملاح التائه، وليالي الملاح التائه، وأبي القاسم الشابي، وعمر أبي ريشة، وصالح جودت، وميخائيل نعيمة، ومن قبل هؤلاء جميعاً خليل مطران، ونورد فيما يلي مقتطفات من قصيدة شعرية تشيع فيها المعاني، والأخيلة الرومانسية لشاعر سورية الملهم عمر أبي ريشة (1910 ـ 1990م):
لمن تعصرُ الروحَ يا شاعرُ؟
أَما لضلالِ المنَى آخرُ
أللحبِّ؟ أين التفاتُ الفنونِ
إذا هتَفَ الأملُ العاثرُ
أللهو؟ كم دميةٍ صُغْتها
ومزَّقَها ظفركَ الكاسرُ
أللمجد ؟ ماذا يحس القتيلُ
إذا ازورّ أو بسمَ العابرُ
أللخلدِ ؟ كيف ترد الذئابَ
وقد عضَّها جوعها الكافرُ
رويدك لا تسْفَحَنَّ الخيالَ
ببيداءَ ليس بها سامرُ
أَماَ يُرْقِصُ الكونَ في صَمْته
كما يُرقصُ الحيَّةَ الساحرُ
دَعِ الحلمَ يخفقُ في ناظريكَ
فموعده غدكَ الساخِرُ



المدرسة الواقعية

الواقعية

بدأت الواقعية في الظهور ـ مذهباً أدبياً ـ في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وأخذت في مزاحمة الرومانسية، ولكنها اتجهت إلى النثر، ولاسيما القصص والمسرحيات، بينما نرى الرومانسية قد اتجهت إلى الشعر غالباً.
ولكن الباحث يلاحظ أن للواقعية بذوراً في الآداب الإنسانية منذ القدم في أدب اليونان، وأدب الهند، وأدب الصين، وفي الأدب العربي، وبخاصة إذا أخذنا لفظة الواقع بمعناها المعروف المتداول.
والواقعية لم تكن مذهباً أدبياً يسلك طريقه الكتاب والشعراء، إلا بعد أن استقرت فلسفة في أدمغة المفكرين، وبطون الكتب، وقامت بين الفلسفة الواقعية هذه وبين فلسفة أخرى تدعى "المثالية" معارضات ومجادلات، إذ الأولى ترى أن الحياة في أصلها شر ووبال ونقمة ومحنة، بينما ترى الأخرى أن الحياة في أصلها خير ونعمة وسعادة، الأولى تنظر إلى الحياة بمنظار أسود قاتم، والمثالية تنظر إلى الحياة بمنظار الأمل والتفاؤل والخير، فهناك بون شاسع بين الفلسفتين.
وأول من مهد للفلسفة الواقعية وظهورها في أوروبا الفيلسوف الفرنسي فولتير "1694 ـ 1778م" ، فقد سخر في قصائده "أحاديث عن الإنسان" ، وفي قصصه "كانديد" ، من المثالية الساذجة التي كان الشعراء الإنجليز ـ كبوب ـ يتغنون بها ويمهدون لها، وذلك بنظرتهم إلى أن الحياة خير، وأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان. ويتخذ فولتير من كانديد ومعناه الساذَج مثالاً للسخرية والاستهزاء، إذ تنزل بالساذَج محن ومصائب ونقمات، كل ذلك بسبب تفاؤله وحسن ظنه بالآخرين، ونيته الطيبة، ويعرض فولتير كل هذا في سخرية لاذعة، ونقد قارص موجع اشتهر بهما.
وإذا أطلقت الواقعية في الأدب العربي الحديث، فإنها تعني الحديث عن الواقع وكشف مظاهره، والبحث عن أسراره وخفاياه، وهذا هو المقصود بها تقريباً بعدها مذهباً أدبيَّاً، إلا أنها ترى ـ بالإضافة إلى هذا ـ أن الواقع شر ووبال في جوهره، وأن ما يبدو خيراً لأول نظرة ليس إلا بريقاً كاذباً، وقشورا لامعة تخفي تحتها الشر والنقمة.
وانبثاقاً من هذا المدلول للواقعية، فإنها تنظر إلى الأخلاق الإنسانية والصفات السلوكية العالية، والقيم المثالية الخيرة إلى أنها أغلفة نحيلة وقشور بسيطة تخفي وراءها القسوة، والوحشية، والشر، فدافع الشجاعة في حقيقته إنما هو اليأس من الحياة، ودافع الكرم إنما هو الفخر والمباهاة، والبحث عن المجد والخلود، إنما هو بحث عن الشهرة وذيوع الصيت، وايهام للنفس بدوام الحياة واستمرارها.
فهذه النظرة لا تهدف إلى البحث عن مشاكل المجتمع وأمراضه، وفرض الحلول لها وكفى، وإنما هي تنظر إلى الحياة بمنظار أسود قاتم، تنظر إليها على أنها معدن للشر، ويجب أن يلتزم الإنسان جانب الحذر وسوء الظن والتشاؤم، حتى يسلم من غائلة هذه الشرور، لا أن يغرق نفسه في المثالية والتفاؤل.
وعلى الرغم من تفسير الواقعية للحياة، ذلك التفسير المتطرف، فلم تقم بينها وبين الرومانسية معارك أدبية كتلك التي حدثت ـ مثلاً بين الكلاسيكية والرومانسية ـ بل اكتفت أن تسير في طريقها الذي آثرته، وتنتج ما تريد من أدب في الصورة التي اختارتها دون ضجيج أو عويل أو دعاية، ولقد ترك "أونوريه دي بلزاك" أكبر موسوعة في الأدب الواقعي، وهي تشمل نحو مائة وخمسين قصة، أطلق عليها في آخر حياته اسم: "الكوميديا البشرية"، وتندرج تلك القصص ضمن الواقعية الاجتماعية التي بلورها بلزاك "1799 ـ 1850".
وبالإضافة إلى الواقعية الاجتماعية نجد أيضاً الواقعية العلمية، وتنصرف أكثر ما تنصرف إلى نقد الأدب، وأول من ابتدعها هيبوليت تين "1828 ـ 1893م" ، فإن مؤلفاته انصرفت إلى النقد والفلسفة والتاريخ. والواقعية الطبيعية التي ظهرت بشكل واضح في الأدب، وبخاصة في القصة، ورائدها الأول هو أميل زولا "1840 ـ 1903م" ، الذي يرى أن القصة ليست مجرد ملاحظات يسجل الكاتب فيها ما تأتي به الحياة تلقائياً، بل هي تجربة ذاتية ينشأ عنها العمل الأدبي، والتجربة الأدبية عنده هي أساس الأعمال الفنية، حكمها وتطبيقها أمران لازمان في تقويم تلك الأعمال والحكم عليها.
وقد أنتجت الواقعية بأنواعها المختلفة أدبا موسوعياً ضخماً، يتمثل في قصص جي دي موباسان، وفلوبير، وتوماس هاردي، وترجم من هذه القصص الكثير إلى اللغة العربية، ويتمثل أيضاً في الأدب التمثيلي كتمثيلية "الغربان" ، لهنري باك، وهي تمثيلية تصور مأساة أسرة كريمة توفي عائلها، وهي مثقلة بالديون، فتساقط الدائنون على أفرادها كالغربان الجارحة الجائعة.
ولقيت الواقعية بعض التفسيرات الجديدة التي تباين المنطلق الأساسي الذي صدرت عنه، وهي تفسيرات تزعم أنها لا تملي على الواقع شيئاً، ولا تزور في حقيقته، بل تكشف عنها. وتلاقت هذه التفسيرات مع الأصل الفلسفي للواقعية في جانب، وتباعدت عنه في جوانب أخرى، فهي ترى أن الواقع ليس إلا الصورة الذهنية التي لدينا عن الحياة، وتقول: إن أي شيء لا يتخذ وجوده إلا من الصورة الذهنية التي لدينا عنه، وهي بذلك لا تختلف عن الأصل الفلسفي للواقعية، غير أنها لا تتتفق معها في التشاؤم والسلبية واليأس من الخير. وتدعي أن الصورة الذهنية ملك للأديب، فهو يستطيع أن يعطيها اللون الذي يريد ويرى فيه مصلحة المجتمع، وبالغت في هذا، وتطرفت حين زعمت أن في استطاعتنا أن نسيطر على مصيرنا بالتزام المذهب المادي المحض، واعتبار الأدب مسألة اجتماعية تلغي وجود الفرد واستقلاله في غمار الجماعة التي ينتمي إليها.
والأدب العربي الحديث لم يكن بمنأى عن تيار الواقعية، ولكنها ليست بواقعية الشر والسلبية والتشاؤم، بل الواقعية التي تصور مشاكل المجتمع وتقاليده وعاداته، وإبرازها في صورة أدبية تكشف عن أسراره وخفاياه، ونجد ظلالها عند كثير من الشعراء كحافظ إبراهيم، ومعروف الرصافي.
وعند كثير من القصاص كنجيب محفوظ في ثلاثيته "قصر الشوق، وبين القصرين، والسكرية"، و"خان الخليلي"، و "بداية ونهاية" ، وتوفيق الحكيم "عودة الروح" ، ويحيي حقي "قنديل أم هاشم" ، وإبراهيم المصري "صور من الإنسان"، وطه حسين "شجرة البؤس، ودعاء الكروان" ، والمازني "إبراهيم الكاتب".
ولا تزال الواقعية تحتل مكاناً بارزاً في أدبنا العربي، وفي الآداب العالمية على الرغم من وجود تيارات أدبية جديدة.

المدرسة الرمزية


الرمزية

اللغة رمز للعالم الخارجي، وللعالم النفسي غير المحسوس لما هو معهود أصلاً عند الإنسان، فعندما أقول ـ على سبيل المثال ـ نخلة يتبادر إلى ذهنك رأساً تلك الشجرة السامقة العالية ذات العسب المرخية، وهذه اللفظة اللغوية تنوب في الدلالة وفي أداء المقصود فيما لو أخذت بيدك وأطلعتك عليها عياناً مكتفيا بالإشارة دون النطق، وحينما أقول: عاطفة يتبادر إلى ذهنك ذلك الشعور الخفي الذي يأخذ بمجامع قلبك من حب.. أو غيرة.. أو كره، واللغة لهذا السبب يسرت أمامنا سبل التفاهم وأوجزتها، ولكن لابد من فهم الدلالات والمعاني التي ترمز إليها الكلمات، وإلا لاحتجنا في فهمها إلى وسائل ـ كالمعاجم ـ مثلاً.
والرمزية لم تظهر مذهباً أدبياً إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولكن الباحث يجد لها بذوراً وأصولاً موغلة في القدم، ويذهب "الدكتور محمد مندور(2)، إلى أن الرمزية تستند بعض الشيء إلى "مثالية" أفلاطون، ومن مذهب المثالية الأفلاطونية هذه إنكار الحقائق المحسوسة للأشياء، وليست ـ في حقيقتها ـ إلا رموزاً للحقائق المثالية البعيدة عن عالمنا المحسوس.
وأستطيع أن أضيف إلى ذلك أن الدراسات الفلسفية والنفسية العميقة السائدة في أوروبا وجو الصراع الفكري الأدبي بين المذاهب الأدبية كل ذلك قد هيأ الجو الملائم لظهور الرمزية.
وللرمزية في حقل الأدب ـ ولا سيما الشعر ـ رواد كثيرون، يأتي في مقدمتهم الشاعر الفرنسي شارل بودلير "1821 ـ 1867م" ، وقد كان في مبدأ حياته الأدبية معجباً بمدرسة "الفن للفن" ومن أنصارها المتحمسين، ويرى رائدها تيوفيل جوتييه أستاذاً وموجها. ومن روادها الشاعر بول فيرلين "1844 ـ 1896م"، ورامبو "1854 ـ 1891" ، ومالارميه "1842ـ 1898م" ، وتدعو هذه المدرسة الرمزية إلى الاهتمام بالموسيقى اللفظية في الشعر، فلابد من العناية بالصورة الشعرية عناية فائقة، حتى تستطيع أن تستشف منها معاني الجمال. واللغة الشعرية ـ نفسها ـ ما هي إلا وسيلة إيحاء توحي بالخواطر والمشاعر والأحاسيس والرؤى والأحلام والحالات النفسية من الكاتب إلى القارئ، إذ اللغة ـ في نظر الرمزيين ـ قاصرة وعاجزة عن أن تنقل لنا حقائق الأشياء، وبالتالي ليست بوسيلة لنقل المعاني المحددة، أو الصور المرسومة الأبعاد، ولابد من أن تبدأ الصور التعبيرية من الأشياء المادية المحسوسة ليستوحى ظلالها وأثرها العميق في النفس وفي منطقة اللاشعور، أو العقل الباطن، وهي منطقة لا يدركها العقل الواعي ولا يسلم بها، ولا تبرز مخزوناتها إلا في الأحلام، وأحلام اليقظة، وفي حالات التنويم المغناطيسي، وفي هذا المجال تصير اللغة الشعرية رمزاً لا تعبيراً ، وعملية إيحاء لشتى الصور والأخيلة، وفي منطقة اللاشعور لا تهتم بالعالم الخارجي إلا بمقدار ما تتمثله وتتخذه منافذ للخلجات النفسية الدقيقة التي يصعب التعبير عنها.
ولابد لتكامل عملية الإيحاء للصور من اللجوء إلى ما يسمى بـ "تراسل الحواس"، أي أن تستعير حاسة وظيفة أو صفة حاسة أخرى، فتعطي المسموعات ألواناً، والمشمومات أنغاما، وتصبح المرئيات عاطرة، ويشم الأنف من الورد الأصفر نغماً حزيناً، ومن هذا القبيل قول الشاعر علي الجارم "1881 ـ 1949م" :
أسوانُ تعرفُهُ إذا اختلطَ الدجى
بالنبرةِ السوداءِ في أنَّاتِهِ(3)
وصف النبرة وهي صوت بالسواد وهو لون، ولا شك أن وصف النبرة بالسواد في هذا المقام أقدر على الإيحاء بالجو النفسي الذي يحسه الشاعر ويريد أن ينقله إلينا(4).
ولا شك أن تقارض الحواس لصفاتها فيما بينها يساعد كثيراً على نقل الأثر النفسي، وبما يفتحه أمام القارئ من عالم التخيل، والتصور، وممن دعا إلى الاستعانة بتراسل الحواس لكمال التعبير بالصور الشاعر الفرنسي بودلير في قصيدته التي عنوانها "تراسل"، وفيها يقول(5): "الطبيعة ذات دعائم حية، وأحياناً تنطق هذه الدعائم، ولكنها لا تفصح، ويجوس المرء منها في غابات من رموز تلحظه بنظرات أليفة، وتتجاوب الروائح والألوان والأصوات كأنها أصداء طويلة مختلطة آتية من بعيد، لتؤلف وحدة عميقة المعنى، مظلمة الأرجاء، رحيبة كالليل أو كالضوء".
فتبادل الحواس لصفاتها يجعل من العالم الواقعي مثالياً صوريا تتمازج فيه الخيالات مع الحقائق.
والرمزيون ـ بالإضافة إلى هذا ـ يمقتون في الصورة الأدبية اللهجة البيانية الخطابية بأساليبها الواضحة المشرقة ذات المعنى الظاهر؛ لأنهم يريدون الغوص والتعمق في تصوير المعاني المستعصية على التعبير القابعة في خفايا النفس وأعماق الضمير(6)، ويرون أنه لابد من إضفاء شيء من الغموض والخفاء والإبهام على الصورة الشعرية لتتوافر أمام القارئ فرصة التأمل والتفكير؛ ليستوحي من الصورة معاني وخواطر جديدة، إذ إن الوضوح لا يترك للقارئ فرصة إعمال الذهن وكد العقل، ويزيل ما في الصورة من جمال ولذة وفائدة، بالإضافة إلى أن اللغة فيها شيء من القصور عن أن تنقل لنا المعاني المحددة والأجواء النفسية فيما لو أردنا إبرازها والتعبير عنها، على أنه لابد أن يكون في هذا الغموض والخفاء شيء من الإيحاء وانثيال الخواطر، لا أن يكونا من نوع الأحاجي والألغاز، ولعل هذا ما يعبر عنه الشاعر بول "فرلين" في قوله : "أحب شيء إليّ هو الأغنية السكرى، حيث يجتمع المحدد الواضح بالمبهم اللامحدود"، ويقول أيضاً تتمة لهذا المعنى: "الأهمية الأولى للظلال لا للألوان، كما تتراءى العيون الساحرة من خلف النقاب"، فعبر بالظلال عن الصور الشعرية الغامضة الموحية، وبالألوان عن الصور الشعرية الواضحة.
يضاف إلى ذلك أن الرمزيين يعنون بصياغة الصور الشعرية المهموسة المشوبة بالغموض، ويتأنقون في اختيار الألفاظ الموحية المشعة المصورة، بحيث توحي اللفظة بأجواء نفسية خاصة وانفعالات عاطفية رحيبة، فمثلاً لفظة الربيع توحي لك بمنظر المياه الدافقة والخضرة اليانعة والأشجار المورقة الباسقة، وتسمعك خرير الماء، وزقزقة العصافير، وتغريد البلابل، وصدح العنادل، وتشعرك بالمتعة والانبساط والارتياح وانشراح النفس ونقاوة الضمير.
ولهذا لا يسمى الشعر ـ عند الرمزيين شعراً ـ إلا إذا كان غامضاً مبهما موحيا شافا عن أجواء نفسية غريبة متنوعة.
ولعلنا نستطيع أن نلم بمنهج الرمزية إذا رددنا النظر في قصائد الرمزيين، وأورد فيما يلي قصيدة للشاعر الفرنسي الرمزي "ستيفان مالارميه" ، وفيها يقول(7):
"لقد طرد الربيعُ الشاحب في حزن
الشتاء ـ فصل الفن الهادئ ـ الشتاء الضاحي
وفي جسمي الذي يسيطر عليه الدم القاتم
يتمطى العجز في تثاؤب طويل
إن شفقا أبيض يبرد تحت جمجمتي
التي تعصبها حلقة من حديد وكأنها قبر قديم
وأهيم حزينا خلف حلم غامض جميل
خلال الحقول التي يزدهر فيها عصير لا نهاية له
ثم آخر منهوك العصب بعطر الأشجار
وأحفر برأسي قبراً لحلمي
وأعض الأرض الساخنة التي تنبت النرجس
ومع ذلك فزرقة السماء تبتسم فوق سياج الشجر المستيقظ
حيث ترفرف العصافير كالزهر في ضوء الشمس" .
يعبر لنا في هذه القصيدة عن الحالة النفسية التي يعيشها بسبب المال الذي أنهكه، والسأم الذي يكظم جوانحه، ويقتنص من مظاهر الطبيعة صوراً رمزية توحي لنا بحالته النفسية. والشعر فيه شيء من غموض، ولكنه غموض يوحي لقارئه بإدراك المعنى والجو النفسي الذي يعيشه الشاعر، وليس بغموض أولئك الشعراء الناشئين المقلدين الذين يتنطعون ويتقعرون، ويجعلون من ذلك الغموض شيئاً أشبه بالألغاز حتى هم أنفسهم لا يدركون معناها، وإنما يقصدوها ستراً لعجزهم وإيهاماً للناس بشاعريتهم.
وبعد هذا كله ربما يتبادر إلى ذهن القارئ أن الرمزية لم تظهر إلا في الشعر، والشعراء وحدهم هم الذين اهتموا بها نظراً لما فيها من الغموض الذي بطبعه يناسب الشعر، ولعلنا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن الرمزية لم تقتصر علي الشعر الغنائي الذاتي فحسب، وإنما تعدته إلى الأدب الموضوعي الذي يهتم بالمشاكل الإنسانية، والأخلاق الاجتماعية العامة، تعالجها بوساطة الأخيلة والصور، ولكن يجب ألا يغرب عن البال أن الرمزية لا تأخذ نفسها في معالجة هذه المشاكل والأخلاق وتحليلها ونقدها كما في الكلاسيكية ـ مثلاً ـ بل تأخذ في تجسيم الأفكار النظرية المجردة، وإلباسها شيئاً من الحوادث والأفعال، لتصبح ديناميكية متحركة، ونلمح من خلالها الحقائق الفلسفية والخلقية.
وكثيراً ما يلجأ الرمزيون في علاج هذه الموضوعات إلى الأساطير القديمة، بل إنهم ينحون نحوها في ابتكارهم للحوادث والأعمال عند عرض أو مناقشة قضية إنسانية عامة، كما يلاحظ ذلك في القصص والمسرحيات التي ابتكرها الرمزيون من أخيلتهم كمسرحية "الأشباح" لأبسن، ومسحية "صفقة الشيطان" لجيروم، وقد مثلت الأخيرة في دار الأوبرا المصرية سنة 1945م، وتعرض المسرحية الأولى من خلال الوقائع مشكلة إنسانية لم يبت فيها أحد وهي مشكلة توارث الخطيئة، على نحو يكاد يكون عضوياً لا دخل للوعي ولا للإرادة فيه، إذ ترى في هذه المأساة أبا يفسق بخادمته ثم يرث ابنه منه هذه الخطيئة، فيهم هو الآخر بأن يفسق بخادمته على الرغم من أنه لم يعش في جو أسرته ولم يعش في جو الخطيئة، بل أرسلته أمه بعيدا عن المحيط الملوث ليتعلم ويتثقف، ولكنه هَمَّ بفعلته تلك بعد عودته، فكأنها غريزة فيه وصفة فطرية ورثها من والده لا يستطيع عنها فكاكاً.
وتصور المسرحية الثانية قضية صفقة تجارية يجريها شيخ شرير مع شاب خير، فيتبادل كل منهما روح صاحبه، ولكن كلا من الروحين لا يستقر في جسم الآخر، فكأن هناك تلازما بين الجسم والروح.
وقد أخذت الرمزية ـ كمذهب أدبي ـ تغزو الأدب العربي المعاصر، ولكن قبل أن نلم بهذه القضية يجدر بنا أن نسأل أنفسنا: هل عرف الأدب العربي القديم الرمزية ولو في شكل من الأشكال أو أسلوب من الأساليب ؟ وجواباً على هذا السؤال أستطيع أن أقول دون تحفظ أن الأدب العربي القديم لم يعرف الرمزية كما هي عند بودلير وإدجار ألان بو، ومالارميه، ولكنه عرف الرمزية في أسلوب الكناية، وهناك علاقة وثيقة بين الرمزية الحديثة والكناية، الكناية التي نعرفها في علم البيان، وهو أحد علوم ثلاثة في البلاغة العربية، ولكن لن أدخل في تعريف الكناية لغة واصطلاحاً وعلاقة اللازمية والملزومية، والقرينة وأقسام الكناية، فكل هذا مبسوط موضح في كتب البلاغة، وإنما يعنيني أن أورد بعضا من أمثلة الكناية، لننظر إلى أي حد يمكن لها أن تكون صورا رمزية أو قريبة منها في الإيحاء، عندما أقول: "فتى رياضي" فإنني هنا أكني عنه بأنه ذو قوة وعضلات مشدودة، ولو وضعت لفظة "أرمز" بدل أكني، لاستقام المعنى واستقامت الدلالة.
وحينما يقول العربي "قلبت له ظهر المجن" ـ والمجن هو الترس الذي يستتر به المحارب من وقع السهام والرماح ـ فإن هذا التعبير رمز أو كناية عن تغير المودة. وحينما يقول الغربي "ذاب بينهم الجليد" ، فإن ذلك التعبير رمز أو كناية عن رجوع أواصر المحبة أو علاقات التعاون بعد أن كانت مقطوعة. بل إن في الكناية قسما يسمونه "الرمز"، وكثيرا ما يمثل له البيانيون بقول العرب: "فلان عريض الوسادة" ، يرمزون إلى بلاهته وبلادته، إذ يترتب على عرض الوسادة عرض القفا، ويعتقد العرب أن عريض قفا الرأس يكون ـ عادة ـ بليداً، كما أن واسع الجبين عريضه يكون ـ عادة ـ نابها ألمعيا ذكيا. وحينما يقول مالارميه "إن شفقا أبيض يبرد تحت جمجمتي" ، فإنه يكني عن المخ، ويرمز إليه، والكناية هنا عن موصوف.
فالكناية رمز يأتي في صور قصيرة موجزة، مثل هذه الأمثلة. ولم تتخذ الكناية شكلا أدبيا أو موضوعيا كما في الرمزية الحديثة، ولكنها تدل على أن الذهن العربي ولود مفكر سبق الغرب في أشياء كثيرة.
أما الرمزية الحديثة فدخلت الأدب العربي الحديث عن طريق لبنان، ولبنان دائما هو السباق في الأخذ عن الغرب فيما يتصل بالأدب والفكر، وفيما يتصل بعالم الأزياء والموضات بحكم اتصاله بالغرب، وبحكم موقعه، وبحكم إجادة أهله للغات الغرب، وبخاصة لغة الفرنسيين، والفرنسيون لديهم معامل تنتج المذاهب والمدارس في الفكر والأدب والأزياء والأطرزة والموضات، ولا يكاد يجاريهم أحد من الأوروبيين والأمريكيين.
فلا عجب إذاً أن تظهر الرمزية في شعر اللبنانيين قبل أي قطر عربي آخر، ولا عجب أن يكون لها رواد كثيرون هم من شعراء لبنان، منهم على سبيل المثال، بشر فارس، وألبير أديب صاحب مجلة الأديب، وأديب مظهر، وخليل شيبوب، وجبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، ولنزار قباني بعض قصائد رمزية، ولكن فيها شيئا من الوضوح، ويلاحظ الدارس لشعر هؤلاء أنهم تأثروا إلى حد كبير في شعرهم بمعطيات الرمزية وتعاليمها واتجاهاتها، ووقفوا على آثارها في لغاتها الحية، واستطاعوا بكل سهولة أن يضمونها شعرهم، ونورد فيما يلي بعض أمثلة من الشعر الرمزي العربي من ذلك قصيدة مرسلة للأستاذ ألبير أديب بعنوان حياتنا.. يقول فيها(8):
حياتنا شباب وفكر أخضر
وعواطف من عمل الربيع
وقلوب من ندى الفجر
نجمعها ونغسل بها أرض الأزقة
أو نروي رمال الصحراء
ثم هي ليلة وضحاها
فإذا الزوبعة تذهب بنا
فنأخذ معنا كل أحلامنا وأمانينا
ونحن على قدم من الهاوية أو أقل
مازلنا نؤسس، ونبني، ونقيم
فما أسخفنا..!
لا نجعل أيامنا ابتسامة
ونقيم علينا ربا
يعرف كيف يجعلنا نبتسم
حتى لأنفسنا
شعر فيه شفافية وفيه شيء من غموض ومن إيحاء ولكنه غير عميق، فيه شيء مما يسمى بـ "تراسل الحواس" عند الرمزيين، وصف الفكر بالاخضرار، وعواطف من عمل الربيع، وقلوب من ندى الفجر.
ومن ذلك قصيدة للشاعر أديب مظهر بعنوان "نشيد السكون".
وفيما يبدو أن أكثر الشعراء الشباب ينصرفون الآن إلى معالجة الشعر الرمزي، ولكن أكثر إنتاجهم من هذا الشعر يبدو مجرداً عاريا من معطيات الرمزية وتعاليمها، بل إن بعض القصائد لا يأخذ من الرمزية إلا غموضها، ولكنه في أغلب الأحايين غموض يطمس المعنى، ولا تكاد تدركه إلا إذا كان فكرك أشعة رونتجن.
ولا ريب في أن معالجة الشعر الرمزي الجيد تحتاج إلى مهارة فائقة وموهبة مسعفة وقريحة وقادة، وقبل كل شيء دراسة واعية متعمقة، وإذا لم يطبق شيء من ذلك، فسنعيش مع شعرنا الجديد في عالم مفعم بالألغاز والأحاجي والصور الشعرية الضحلة.
مدرسة الرابطة القلمية و العصبة الأندلسية



الرابطة القلمية:

رابطة أدبية أنشأها في 20 / 4 / 1920 فريق من أدباء العرب في نيويورك ، غايتها العمل على خدمة اللغة العربية وإقالتها من الجمود الذي تتعثر فيه .
كان جبران خليل جبران عميداً لها يعاونه في إدارتها : ميخائيل نعيمة مستشاراً ، وليم كاتسفليس خازناً . ويعمل تحت إدارتها وتوجيهاتها سبعة آخرون يحملون إسم " العمال " هم : إيليا أبو ماضي ، نسيب عَريضَة ، عبد المسيح حداد ، رشيد أيوب ، ندرة حداد ، وديع باحوط وإلياس عطا الله . وقد نَشَرت بهذا العنوان كتاباً يضم نخبة من مقالات هؤلاء الكُتّاب . بقيت هذه الرابطة حيةً بأعضائها العشرة نحواً من 11 سنة ( 1920 - 1931 ) . حيث انفرطت بعد وفاة عميدها جبران في عام 1931 .


العصبة الأندلسية:

إحدى حلقات الأدب العربي ، تألفت في مدينة سان باولو في البرازيل في مطلع يناير 1933 ، من الكتاب والأدباء العرب في تلك البلاد . كان صاحب الفكرة في تأسيسها أصلاً المرحوم شكر الله الجرّ ، فنفذها الشاعر اللبناني المهاجر ميشال المعلوف ، ودعمها بالبذل السخي والرعاية الكريمة .

من أعضائها البارزين : شكر الله الجرّ ، رشيد الخوري ، نظير زيتون ، جورج معلوف ، توفيق قربان ، إسكندر كرباج ، إلياس فَرْحات ، عقل الجرّ ( شقيق شكر الله ) ، حبيب مسعود ، أنيس الراسي ، جرجس كَرَم ، نجيب يعقوب ، شفيق المعلوف ، توفيق ضعون ، قيصر الخوري ، نصر سمعان ، يوسف أسعد غانم ، يوسف البَعَيني وجورج حسّون المعلوف .

أصدرت هذه العصبة مجلة راقية باسم " مجلة العصبة " التي تولّى رئاسة تحريرها حبيب مسعود ثم شفيق المعلوف ، أما رئاستها فقد آلت تِباعاً إلى ميشال المعلوف فالشاعر القروي ، ثم إلى شفيق المعلوف .



 


 

عودة إلى صفحة البداية