في أصول تكشف شبهات المالكي في التاريخ والصحابة - كشف الشبهات  في أصول تكشف شبهات المالكي في التاريخ والصحابة   - كشف الشبهات
 
 

 في أصول تكشف شبهات المالكي في التاريخ والصحابة

الأصل الأول : أن الصحابة كلهم عدول وإن اختلفوا في الفضل .

الأصل الثاني : أن القول بعدالة الصحابة لا ينافي الوقوع في الخطأ .

الأصل الثالث : القول في بعض الصحابة كالقول في البعض الآخر .

الأصل الرابع : أن معاوية رضي الله عنه ستر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فمن تكلم عليه اجترأ على ما وراءه .

الأصل الخامس : أن تاريخ الصحابة ثلاثة أقسام : كذب و محكم ومتشابه .

الأصل السادس : أن النظر في التاريخ محكوم بالشرع وليس حاكماً على الشرع .

الأصل السابع : أن الأصل في الروايات التاريخية كالأصل في روايات بني إسرائيل .

----

أكثر ما يكتبه المالكي وينشره – بطبعه الزيدي – هو أحاديث الفتن والحروب التي جرت بين الصحابة – رضوان الله عليهم – والكلام على تصنيف الصحابة ، والقدح في بعضهم كمعاوية رضي الله عنه ، والغض من مقام أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وغير ذلك من أمور تاريخ الصحابة مما هو مدون في كتبه ( بيعة علي ) ومذكرته عن الصحبة وغيرها ، وكلامه على عبد الله بن سبأ والقعقاع ونحوه مما سرقه من الروافض والمستشرقين .

وفي هذا الفصل سأذكر سبعة أصول تكشف شبهاته في هذا الباب إن شاء الله تعالى .

الأصل الأول :

أن الصحابة كلهم عدول وإن اختلفوا في الفضل

اعلم أن كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مؤمن به ومات على ذلك فهو من أصحابه ، وأصحابه كلهم عدول وإن اختلفوا في الفضل ، لذا فالكلام هنا على ثلاث مقدمات :

المقدمة الأولى : في إثبات أن من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مؤمن ومات على ذلك فهو من أصحابه :

والدلائل على ذلك كثيرة ، منها :

أولاً : من الكتاب :

الدليل الأول :

قوله تعالى (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم ، والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم) فقد نص الله سبحانه وتعالى هنا على فضل المهاجرين والأنصار ، ثم ذكر أن الذين تأخر إسلامهم وهجرتهم بعد ذلك فهم منهم .

الدليل الثاني :

قوله تعالى ( لا يستوي مِنكُم من أَنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظمُ درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكُلا وعد الله الحُسنى والله بما تعملون خبير) .

والفتح هنا هو قيل : هو صلح الحديبية ، وقيل : فتح مكة ، فقد أثبتت هذه الآية فضل الصحابة كلهم بقوله تعالى (وكلا وعد الله الحسنى) ، وأثبتت تفاضلهم بقوله تعالى (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة) .

الدليل الثالث :

وقوله تعالى (محمد رسول الله والذين معه..الآية) وهذا عام يشمل جميع الصحابة.

الدليل الرابع :

وقال تعالى : (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جناتٍ تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم) ، وهذه الآية نزلت في آخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة تبوك ، وقد ذكر الذين اتبعوهم بإحسان – وأولى الناس بها من تأخر إسلامهم من الصحابة - وذكر رضاه عنهم .

وغير ذلك من الآيات .

ثانياً : من السنة :

الدليل الأول :

ما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس ، يقال لهم: فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟. فيقولون: نعم ، فيفتح لهم ، ثم يغزو فئام من الناس ، فيقال لهم : فيكم من رأى من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. فيقولون: نعم ، ثم يغزو فئام من الناس ، فيقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ . فيقولون: نعم ، فيفتح لهم).

فقوله هنا أولاً (فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ، ثم قوله في الذين يلونهم : (فيكم من رأى من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ، نص في هذه المسألة ، فإنه جعل الصحبة بمجرد الرؤية .

الدليل الثاني :

ما رواه مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع رأسه إلى السماء فقال : ( النجوم أمنة للسماء فإذا ذهب النجوم أتى السماء ما توعد ، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون).

وهذا دليل على عموم الصحبة من ثلاثة وجوه :

الأول : أن الراوي أبا موسى الأشعري رضي الله عنه ما هاجر إلى المدينة إلا بعد فتح خيبر – في السنة السابعة - ، وقد قال هنا (صلينا المغرب مع الرسول صلى الله عليه وسلم ) فدل على أنهم كلهم مخاطبون بهذا الخطاب وأنهم داخلون في مسمى الصحبة .

الثاني : أنه ذكر لفظ (أصحابي) على العموم ولم يفصل أو يستثن .

الثالث : أنه ذكر أنه إذا مات أتى أصحابه ما يوعدون ، فدل على أن كل من صاحبه قبل موته فهو داخل في هذا الخطاب .

الدليل الثالث :

ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال : ( السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، وددت أنا قد رأينا إخواننا) . قالوا: أو لسنا إخوانك؟ . قال : ( أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد ) .

وهذا أيضاً ظاهر في عموم خطابه ، وراوي هذا الحديث وهو أبو هريرة رضي الله عنه أسلم عام خيبر السنة السابعة – بعد الفتح (صلح الحديبية) - .

الدليل الرابع :

في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (قريش ، والأنصار ، ومزينة ، وجهينة ، وأسلم ، وغفار ، وأشجع ، مواليّ ، ليس لهم مولى دون الله ورسوله) .

وهذا الحديث دليل على عموم الصحبة وأنها لا تختص بالمهاجرين والأنصار ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر المهاجرين والأنصار ثم عطف عليهم باقي القبائل .

الدليل الخامس :

ما رواه ابن أبي شيبة عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآني وصاحبني ، والله لا تزالون بخير ما دام فيكم من رأى من رآني وصاحب من صاحبني (1).

ثالثاً :من أقوال الصحابة :

الدليل الأول :

ما رواه مسلم عن عائذ بن عمرو رضي الله عنه أنه دخل على عبيد الله بن زياد فقال : أي بني ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن شر الرعاء الحطمة ، فإياك أن تكون منهم . فقال له : اجلس ، فإنما أنت من نخالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . فقال : وهل كانت لهم نخالة؟ إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم .

الدليل الثاني :

ما رواه ابن ماجة بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول : لا تسبوا أصحاب محمد ، فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره .

وهذا دليل على أن صحبة النبي صلى الله عليه وسلم لها فضل عظيم ولو كانت مدتها يسيرة ، فلو صاحبه أحد ساعة فقد حظي بمرتبة الصحبة.

الدليل الثالث :

ما رواه البخاري عن ابن أبي مليكة قال : أوتر معاوية رضي الله عنه بعد العشاء بركعة وعنده مولى لابن عباس ، فأتى ابن عباس فقال : دعه ، فإنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

هذا ومعاوية رضي الله عنه قد أسلم عام فتح مكة .

الدليل الرابع :

ما رواه البخاري عن معاوية رضي الله عنه قال : إنكم لتصلون صلاة لقد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيناه يصليها ولقد نهى عنهما ، يعني الركعتين بعد العصر .

والأدلة على ذلك كثيرة ، وما سبق فيه الكفاية لمن أراد الحق .

المقدمة الثانية : في إثبات تفاوتهم في الفضل :

فهذا أمر معروف ، فأفضل الصحابة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي وبقية العشرة المبشرين بالجنة ، ثم البدريون وأهل بيعة الرضوان والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، ثم من أسلم وهاجر بعد الحديبية وقبل فتح مكة ، ثم مسلمة الفتح والذين أسلموا عام الوفود .

وفي بعض ذلك تفصيلات ، وما سبق له أدلة كثيرة من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة تركت ذكرها اختصاراً ، فمن أرادها فليراجع مظانها .

المقدمة الثالثة : في إثبات عدالتهم كلهم :

ويدل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع :

أما من الكتاب :

فما سبق من قوله تعالى – عن الذين عملوا قبل الفتح وبعده- (وكلا وعد الله الحسنى) – والحسنى هي الجنة - .

وقوله تعالى : (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جناتٍ تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم) .

وقوله تعالى : ( مُحَمدٌ رَسُولُ الله والذين معه أشداء على الكُفارِ رُحماءُ بينهم تراهم رُكعاً سُجداً يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهُم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرعٍ أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزُّراع ليغيظ بهم الكُفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً ) .

وقوله تعالى عن الذين اتبعوه في ساعة العسرة في غزوة تبوك عام تسعة للهجرة )لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) .

والآيات في هذا المعنى كثيرة .

ومن السنة :

ما في الصحيحين عن رسول اللهصلى الله عليه وسلم : ( لا تسبوا أحداً من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه) .

وما في الصحيحين من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال (خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) .

وفي الصحيح من حديث أبي بكرة رضي الله عنه أنه ذكر خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع – وهي في السنة العاشرة للهجرة – وقال مخاطباً المسلمين : (ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب ) .

قال ابن حبان رحمه الله على هذا الحديث :

(وفي قوله صلى الله عليه وسلم : " ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب" أعظم الدليل على أن الصحابة كلهم عدول ، ليس فيهم مجروح ولا ضعيف ؛ إذ لو كان فيهم مجروح أو ضعيف لاستثنى في قوله صلى الله عليه وسلم وقال : " ألا ليبلغ فلان وفلان منكم الغائب " ، فلما أجملهم في الذكر بالأمر بالتبليغ من بعدهم دل ذلك على أنهم كلهم عدول وكفى بمن عدله رسول الله صلى الله عليه وسلم شرفاً) .

ويدل على هذا الأحاديث التي سبق ذكرها في المقدمة الأولى .

ومن أقوال الصحابة :

ما رواه أحمد وغيره عن عبد الله بن مسعود قال : إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه .

وما رواه ابن ماجة بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول : لا تسبوا أصحاب محمد ، فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره .

وما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم .

وغيرها من النصوص .

ومن الإجماع :

قال ابن عبد البر رحمه الله في (التمهيد) 22/47 :

(الصحابة كلهم عدول ، مرضيون ، ثقات ، أثبات ، وهو أمر مجتمع عليه عند أهل العلم بالحديث) .

وقال القرطبي رحمه الله (تفسيره) 16 / 299 :

(فالصحابة كلهم عدول ، أولياء الله تعالى ، وأصفياؤه ، وخيرته من خلقه ، بعد أنبيائه ورسله ، هذا مذهب أهل السنة ، والذي عليه الجماعة ، من أئمة هذه الأمة) .

قال النووي رحمه الله (شرح مسلم 15 / 149 ) (ولهذا اتفق أهل الحق ومن يعتد به في الإجماع على قبول شهاداتهم ورواياتهم وكمال عدالتهم رضي الله عنهم أجمعين) .

وقال ابن حزم (المحلى) 5 /92 :

(والصحابة كلهم عدول رضي الله عنهم لثناء الله تعالى عليهم) .

وقال ـ أيضاً ـ في (جوامع السيرة) : (وكان المؤلفة قلوبهم ـ مع حسن إسلامهم ـ متفاضلين في الإسلام ، فمنهم الفاضل المجتهد : كالحارث بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وحكيم بن حزام. وفيهم خيار دون هؤلاء : كصفوان بن أمية ، وعمرو بن وهب ، ومطيع بن الأسود ، ومعاوية بن أبي سفيان . وسائرهم لانظن بهم إلا خيراً).

وقال الحافظ العلائي ـ رحمه الله ـ في (تحقيق منيف الرتبة ص43) : (من أسلم زمن الفتح من قريش وغيرها ، ولم يصحب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا زمناً يسيراً ، اتفق العلماء على أنهم من جملة الصحابة).

وقال الصنعاني في (سبل السلام) 1/ 21 – وهو متأثر بالزيدية- :

(الصحابة كلهم عدول عند المحدثين) .

وقال ابن الوزير – وهو من أصل زيدي !! – في (العواصم) 1/395 :

(كل مسلمٍ ممن عاصر النبي صلى الله عليه وسلم ممن لا يُعلم(1) جرحه فإنه عدل عند الجلة من علماء الإسلام : من الزيدية ، والمعتزلة ، والفقهاء ، والمحدثين ، وأن هذه المسألة مما لا ينكر ).

أعلى

الأصل الثاني :

أن القول بعدالة الصحابة لا ينافي الوقوع في الخطأ

اعلم أننا إذا قلنا بأن الصحابة كلهم عدول فإن هذا لا يعني أنهم معصومون من الخطأ والذنوب ، بل قد تقع منهم بعض الأخطاء والذنوب التي قد تقع من غيرهم ، و ما يحصل من أحدهم من أعمال فهي بين ثلاثة أمور :

1- إما أن يكون اجتهاداً صحيحاً فله أجران .

2- أو اجتهاداً خطأ فله أجر واحد .

3- أو يكون ذنباً فهو ذنب مغفور إن شاء الله لسبقه وفضله وجهاده.

وقد كانت لهم من الصحبة و السابقة والفضل والجهاد وتبليغ الدين ونشره بين الناس وغير ذلك من أعمال الخير ما تغمر أخطاءهم لو وجدت .

ومن الأدلة على أن الفضل والعدالة لا ينافي الوقوع في الخطأ ما حصل من حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وهو من أهل بدر ومن السابقين الأولين – لما كاتب كفار مكة – فقال عمر رضي الله عنه : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق .فقال : إنه قد شهد بدراً ، وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم .

فيظهر جلياً – هنا – أن سابقة وفضل حاطب لم تمنعه من الوقوع في الخطأ ، ويظهر جلياً أيضاً أن خطأه هذا مغفور له بسبب سابقته .

وهكذا القول في بقية الصحابة رضوان الله عليهم ، فإن سابقتهم وفضلهم وعدالتهم لا تعني عصمتهم من الأخطاء ، ولكنها تعني أن أخطاءهم مغمورة في بحر حسناتهم ، وسيأتي مزيد تفصيل في الأصل الخامس إن شاء الله تعالى.

أعلى

الأصل الثالث :

القول في بعض الصحابة كالقول في البعض الآخر .

اعلم أن الكلام في بعض الصحابة يلزم منه الكلام في البعض الآخر ، وذلك أنهم مجتمعون في الفضل – على اختلاف مراتبهم - ، مشتركون في العدالة ، فإذا قدح في بعضهم فإنه يلزم القادح أن يقدح بالآخرين ، وبيان ذلك كما يلي :

إذا كان القادح رافضياً يكفر الصحابة رضوان الله عليهم إلا أفراداً منهم على رأسهم علي رضي الله عنه ، ففعله هذا يلزم منه تكفير علي رضي الله عنه نفسه من وجوه :

الأول : أن علياً كان وزيراً ونصيراً وعضداً لأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، وإذا كان هؤلاء كفاراً – كما يزعمه هؤلاء– فيلزم منه كفر علي رضي الله عنه لأنه معين مناصر لهم .

الثاني : أن علياً كان يصلي وراء هؤلاء ، وإذا كان هؤلاء كفاراً – وحاشاهم – فصلواته باطلة كلها .

الثالث : أنه زوج ابنته (أم كلثوم) من (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه ، وإذا كان كافراً – وحاشاه – فإنه يكون زوج ابنته من كافر وهذا استحلال منه لذلك وهو كفر –أعاذهم الله من ذلك ولعن مبغضهم -.

وإذا كان المتكلم ليس رافضياً ولكنه يقول : إن علياً أفضل من أبي بكر وعمر ، فإن قوله هذا يلزم منه القدح في علي رضي الله عنه وتكذيبه :

فقد ثبت في الصحيح عن محمد بن الحنفية أنه قال لأبيه : أي الناس خير بعد رسول الله؟.

فقال : أبو بكر . قال ابن الحنفية : ثم من ؟.فقال : عمر .

وثبت عنه من أكثر من ثمانين وجهاً أنه قال (خير الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر) .

ومن فضّله عليهما فقد ترك اتباعه في قوله ، بل ورماه إما بالكذب أو الجهل وكلاهما قادح.

ويلزم من ذلك أيضاً القدح في بقية الصحابة الذين ذكروا تفضيل الشيخين على غيرهما ، كما في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كنا نخيّر بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، فنخيرّ أبا بكر ، ثم عمر بن الخطاب ، ثم عثمان بن عفان .

وإذا كان المتكلم يقول : لا أفضل علياً على الشيخين ولكني أفضله على عثمان رضي الله عن الجميع ، فيقال له : ففي قولك هذا إزراء بالمهاجرين والأنصار الذين اجتمعوا بعد وفاة عمر على بيعة وتفضيل عثمان على علي ، كما ثبت عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال بعد مبايعة عثمان : إنا اجتمعنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلم نأل عن خيرنا ذي فوق فبايعنا أمير المؤمنين عثمان .

وثبت في صحيح البخاري في قصة بيعة عثمان أن عبدالرحمن بن عوف قال لعلي بن أبي طالب : إني نظرت في أمر الناس ، فلم أرهم يعدلون بعثمان ، فلا تجعلن على نفسك سبيلاً .

ومن فضّل علياً على عثمان فهو مكذب لابن عمر الذي قال – كما في الصحيحين - : كنا نخيّر بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، فنخيرّ أبا بكر ، ثم عمر بن الخطاب ، ثم عثمان بن عفان .

فإن أراد من فضل علياً على عثمان رضي الله عنهما : أن يقدح بعثمان ، فيقال له : لا تتكلم على عثمان بشيء إلا لزم علياً – رضي الله عنهما – مثل ذلك أو أشد منه .

فإن قال : إن عثمان رضي الله عنه تأول في الأموال .

فيقال له : وعلي رضي الله عنه تأول في الدماء –والدماء أعظم من الأموال- .

فإن قال : و لكن عثمان رضي الله عنه ولى كثيراً من أقاربه على المسلمين.

فيقال : وعلي رضي الله عنه ولى كثيراً من أقاربه على المسلمين.

فإن قال : ولكن علي رضي الله عنه كان مجتهداً معذوراً.

فيقال له : وعثمان رضي الله عنه كان مجتهداً معذوراً.

فالقول الصحيح فيهما رضي الله عنهما أنهما أفضل المسلمين بعد الشيخين، وعثمان أفضل من علي ، وما فعلاه في زمن خلافتهما فهما فيه بين الأجرين والأجر .

وسوف يأتي مزيد من هذا إن شاء الله في الأصل الرابع أيضاً .

وهكذا ، فإنه لا يتكلم مبتدع في أحد من الصحابة إلا لزمه أن يتكلم في غيره ، وإن عذر أحداً منهم لزمه أن يعذر الجميع ، فإن عذر بعضهم ولم يعذر الآخرين فقد تناقض وفرق بين متماثلين .

وقد نبه على هذا الحافظ العلائي ـ رحمه الله ـ فقال في كتابه (تحقيق منيف الرتبة ص85) :

(كلما قدح به المبتدعة في الصحابة الذين أسقطوا عدالتهم ، يتصور مثله في الصحابة الذين لم يقدحوا في عدالتهم . فإن تأولوا أفعال من وافقوا على عدالته وحسنوا لهم المخارج في أمورهم كانوا مقابلين بمثله فيمن خالفونا في عدالته ، ولايجدون فرقاً قاطعاً بين الطائفتين بالنسبة إلى انقداح التأويل ، وإحسان الظن بهم ، وانسداد ذلك في حق الجميع).

أعلى

الأصل الرابع :

أن معاوية رضي الله عنه ستر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فمن تكلم عليه اجترأ على ما وراءه

وهذه كلمة قالها بعض السلف رحمهم الله ، وقد صدق في ذلك ، فإنه ما من رجل يتجرأ ويطعن في معاوية رضي الله عنه إلا تجرأ على غيره من الصحابة رضوان الله عليهم ، وانظر هذا في أحوال الزيدية ؛ فإنهم طعنوا في معاوية رضي الله عنهم ثم تجرأوا على عثمان رضي الله عنه ، ثم تكلموا في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حتى صرح بكفرهما بعض الزيدية ، وصدق من قال : جئني بزيدي صغير أخرج لك منه رافضياً كبيراً .

والسبب في ذلك أنه إذا تجرأ على معاوية رضي الله عنه فإنه يكون قد أزال هيبة الصحابة من قلبه فيقع فيهم ، لأنه لا يعلل كلامه في معاوية بشيء إلا ويلزمه مثل هذا في غيره – كما سبق بيانه في الأصل الثالث- .

فإن كان الذي يتكلم في الصحابة يشتم معاوية رضي الله عنه ويتنقصه ، فيقال له : ما حملك على ذلك ؟.

فإن قال : قتاله لعلي رضي الله عنه .

فيقال له : فيلزمك أن تشتم الزبير وطلحة وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم وغيرهم من الصحابة لأنهم قاتلوا علياً .

فإن قال : ولكن أولئك اجتهدوا في الأخذ بثأر عثمان .

فيقال له : ومعاوية ومن معه كذلك .

فإن قال : ولكن الزبير وطلحة وعائشة ونحوهم لهم سوابق تدل على فضلهم .

فيقال له : ولمعاوية سوابق تدل على فضله :

فقد صحب النبي صلى الله عليه وسلم - وشهد له بالصحبة ابن عباس –كما في صحيح البخاري – الذي قاتل مع علي ضده.

وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم حنيناً والطائف وغيرها .

وكتب الوحي – كما في الصحيح - .

ودعا له الرسول صلى الله عليه وسلم .

وصح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال (أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا) وكان هذا الغزو بقيادة معاوية رضي الله عنه .

وقد ولاه عمر وعثمان رضي الله عنهما الشام .

وقد رضي الحسن بن علي رضي الله عنهما أن يتنازل له عن الخلافة ، وأثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على فعله ذلك بقوله (إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين) ، وإذا كان معاوية رضي الله عنه ليس عدلاً فهذا قدح في الحسن الذي رضي أن يتولى الأمة غير عدل !!. وتولى الخلافة عشرين سنة كان فيها ملكه ملك رحمة و عدل .

فإن قال : ولكن معاوية ثبت عن بعض الصحابة أنهم كانوا يتكلمون فيه .

فيقال له : فيلزمك على هذا أن تتكلم في كثير من الصحابة ، فقد تكلم عمار في عثمان رضي الله عنهما ، وتكلم العباس في علي رضي الله عنهما ، وتكلم سعد بن عبادة في عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، وتكلم عمر في حاطب رضي الله عنهما ، وتكلم أسيد بن حضير في سعد بن عبادة رضي الله عنهما ، وكل هؤلاء من السابقين الأولين رضي الله عنهم ، فإن كان كلام أحدهم في الآخر يبيح أن يتكلم فيه الآخرون جاز الوقوع فيهم كلهم كما هو دين الروافض قبحهم الله.

فإن قال : ولكن معاوية ثبت عنه بعض الأخطاء .

فيقال له : وثبت عن غيره من الصحابة أيضاً بعض الأخطاء ، فإن كان الوقوع في الخطأ مبيحاً للشتم فاشتم من وقع منهم في الخطأ.

فإن قال : ولكن أخطاء أولئك مغفورة بجانب سبقهم وفضلهم وجهادهم.

فيقال له : وأخطاء معاوية مغفورة بجانب سبقه وفضله وجهاده .

وهكذا ، فإذا تجرأ أحد على معاوية رضي الله عنه هان عليه غيره من الصحابة ، وبدأ يتكلم في الواحد منهم تلو الآخر لطرد مذهبه الباطل .

أعلى

الأصل الخامس :

أن تاريخ الصحابة ثلاثة أقسام : كذب و محكم ومتشابه .

اعلم أن تاريخ الصحابة رضوان الله عليهم ينقسم إلى قسمين :

القسم الأول : ما كان غير صحيح لكذب الناقل أو لضعف الإسناد أو لجهالة المصدر أو لغير ذلك من الأسباب ، وهذا كثير في الأخبار التاريخية ، وكثير من النقلة هم من الضعفاء والمتروكين كأبي مخنف والواقدي وابن أعثم وغيرهم ، و أخبار هؤلاء على قسمين أيضاً :

الأول : إذا كان قادحاً في أحد من الصحابة ونحوهم فيحرم نشره إلا لبيان عدم صحته .

الثاني : أن يكون الخبر غير قادح في أحدٍ منهم ، بل هو من الأخبار التاريخية ، فالأصل في ذلك جواز روايته – كما يأتي في الأصل الأخير - .

فلا بد من الحذر عند قراءة الروايات التاريخية المتعلقة بالصحابة كما قال القحطاني رحمه الله :

لا تقبلن من التوارخ كلما جمع الرواة وخط كل بنان

القسم الثاني : ما كان منه صحيحاً ، فهذا على قسمين أيضاً :

القسم الأول : محكم : وهو ما ورد من فضائلهم وجهادهم وفتوحاتهم للأمصار ونشرهم للإسلام وعلمهم وعباداتهم وغيرها من مناقبهم ، فهذه هي الأصل في أخبارهم .

القسم الثاني : متشابه : وهو ما حصل بينهم من الفتنة ومن الأحوال التي تعتري البشر من كلام أحدهم في آخر أو فعله ما يستنكر ونحو ذلك .

فاعلم أن أهل السنة والجماعة يردون المتشابه إلى المحكم ، ويعلمون من نظرهم في المحكم أن ما تشابه من أحوالهم هي أمور هم فيها بين أجرين أو أجر واحد أو أن خطأهم في ذلك مغفور ، فلا يطيلون النظر في المتشابه ، بل يجملون النظر فيه ، بينما يفصلون القول في المحكم .

وأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه من أحوالهم ابتغاء الفتنة ، بل ويردون المحكم من مناقبهم لما تشابه منها.

فإذا رأيت شيئاً من أخبار عثمان رضي الله عنه مما أثاره الروافض أو الزيدية أو جهلة السنة ، فرد هذا الكلام إلى المحكم من أحواله وهو أنه من المبشرين بالجنة ، و زوّجه النبي صلى الله عليه وسلم ابنتيه رقية وأم كلثوم ، وشهد المشاهد معه ، وهو أفضل الصحابة بعد أبي بكر وعمر – كما ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر - ، وهو الذي اشترى الجنة مرتين ؛ يوم بئر رومة ، ويوم العسرة لما جهزه ، وغير ذلك من مناقبه ، فيعرف أن من كانت هذه مناقبه فلا يمكن أن يكون ما فعله إلا باجتهاد يؤجر عليه – أصاب أو أخطأ - ، ولو كان ذنباً فذنبه يسير بجانب هذه السوابق .

وإذا رأيت شيئاً من أخبار علي رضي الله عنه مما أثاره الناصبة أو جهلة السنة ، فرد هذا الكلام إلى المحكم من أحواله وهو أنه من المبشرين بالجنة ، وأول من أسلم من الصبيان ، وزوّجه النبي صلى الله عليه وسلم سيدة نساء الجنة فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو من أفضل الصحابة ، وولداه سيدا شباب أهل الجنة ، وغير ذلك من مناقبه ، فيعرف أن من كانت هذه مناقبه فلا يمكن أن يكون ما فعله إلا باجتهاد يؤجر عليه – أصاب أو أخطأ - ، ولو كان ذنباً فذنبه يسير بجانب هذه السوابق .

وإذا رأيت شيئاً من أخبار معاوية رضي الله عنه مما أثاره الروافض والزيدية وجهال السنة ، فرد هذا الكلام إلى المحكم من أحواله وهو أنه أول من قاد غزواً في البحر وفي الحديث الصحيح عن أم حرام رضي الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا) – يعني وجبت لهم الجنة - ، وقد شهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم حنيناً والطائف وما بعدها ، و كتب الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح ، وولاه عمر وعثمان رضي الله عنهما الشام ، واجتمعت الأمة عليه برضا الحسن بن علي رضي الله عنهما ، وفتحت كثير من الأمصار في وقته ، وكان ملكه ملك رحمة على المسلمين ، وغير هذا من مناقبه ، فيقال في هذا ما قيل في علي وعثمان رضي الله عنهم.

وإذا رأيت شيئاً من أخبار عمرو بن العاص رضي الله عنه مما أثاره هؤلاء ، فرد هذا الكلام إلى المحكم من أحواله وهو إسلامه قبل فتح مكة ، وهجرته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وتولية الرسول صلى الله عليه وسلم له على جيش ذات السلاسل وفيهم أبو بكر وعمر - كما في الصحيحين - ، وقد ثبت في المسند وغيره أن الرسول صلى الله عليه وسلم شهد له بالإيمان ، وهو قائد الجيش الذي فتح مصر ، وولاه عمر عليه ، وغير ذلك من مناقبه ، فيقال في هذا ما قيل فيمن سبق .

وهكذا في غيرهم من الصحابة .

وأما طريقة أهل الزيغ فإنهم يتبعون ما تشابه من أحوالهم ويردون المحكم بها فيردون بها النصوص :

فيقول الروافض ونحوهم عن مناقب عثمان ومعاوية إنها من وضع النواصب ، ويقول النواصب ونحوهم عن مناقب علي إنها من وضع الشيعة ، وهدى الله أهل السنة والجماعة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فلله الحمد والمنة .

والأصل في رد المتشابه إلى المحكم من أحوال الصحابة رضوان الله عليهم من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وهي أدلة عامة ، وأدلة خاصة :

أما الأدلة العامة :

فمن ذلك :

قوله تعالى (ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه) فهذا فيه النهي عن الغيبة – وهي ذكرك أخاك بما يكره كما عرفه الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيح – والصحابة هم أولى الناس بهذه الأخوة.

ومن الأدلة العامة :

ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا تسبوا الأموات ، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا) .

وما رواه الترمذي وأبو داود وصححه ابن حبان والحاكم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساويهم) .

وما رواه الترمذي وصححه عن عائشة رضي الله عنها قالت إن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا مات صاحبكم فدعوه لا تقعوا فيه) .

وما في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ) .

وما فيهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) .

وغيرها من النصوص التي تنهى عن سب المسلمين والوقيعة فيهم .

وأما الأدلة الخاصة في الصحابة رضوان الله عليهم :

فمن الكتاب :

قوله تعالى : ( للفقراء الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ، والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ، والذين جآؤا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم) .

فذكر الله سبحانه الصحابة – المهاجرين والأنصار – في الآيتين الأوليين ، ثم ذكر من جاءوا من بعدهم من أهل الفيء ووصفهم بخمسة أوصاف :

الأول : أنهم دعوا لمن سبقهم بالمغفرة .

الثاني : سموا من سبقهم إخواناً .

الثالث : اعترفوا لهم بالسبق.

الرابع : شهدوا لهم بالإيمان .

الخامس : دعوا الله أن لا يجعل في قلبهم غلاً للذين آمنوا .

فيظهر من هذا أنهم اعترفوا بالفضل ، ووصفوهم بالإيمان ، ودعوا لهم ، وتركوا ما تشابه من أحوالهم ، ودعوا الله بأن لا يجعل في قلبهم غلا للذين آمنوا ، وهذا لا يحصل إلا بترك ما يؤدي إلى وجود هذا الغل وهو البحث في المتشابه من أحوالهم وإثارته.

وما سبق ذكره من نصوص عدالة الصحابة هي أيضاً تدل على هذا .

ومن السنة :

يدل عليه أحاديث كثيرة منها :

ما في الصحيح من حديث أبي الدرادء رضي الله عنه من قصة ما حصل بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وفي الحديث : فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه فقال : يا رسول الله ، والله أنا كنت أظلم - مرتين - .

فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله بعثني إليكم ، فقلتم : كذبت وقال أبو بكر : صدق ، وواساني بنفسه وماله ، فهل أنتم تاركو لي صاحبي - مرتين - فما أوذي بعدها .

فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر سابقة أبي بكر رضي الله عنه مع قول أبي بكر رضي الله عنه : أنا كنت أظلم.

ومن ذلك :

ما في الصحيحين من قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه - لما كاتب كفار مكة – فقال عمر رضي الله عنه : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق .

فقال : إنه قد شهد بدراً ، وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم .

فهنا رد الرسول صلى الله عليه وسلم ما تشابه من فعل حاطب رضي الله عنه هنا إلى المحكم وهو سابقته وشهوده بدراً فعلم أن خطأه مغفور .

ومن ذلك :

ما رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه أن عبداً لحاطب جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطباً ، فقال : يا رسول الله ، ليدخلن حاطب النار .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كذبت ، لا يدخلها فإنه شهد بدراً والحديبية .

فالعبد حكم هنا على حاطب بناء على ما رآه منه ، وقد رده النبي صلى الله عليه وسلم إلى سابقته .

ومن ذلك :

ما في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الأنصار كرشي وعيبتي ، وإن الناس سيكثرون ويقلون ، فاقبلوا من محسنهم ، واعفوا عن مسيئهم .

وهذا نص في نشر إحسانهم ، وترك إساءتهم .

ومن ذلك أيضاً :

ما في الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال الرسول صلى الله عليه وسلم (لا تسبوا أحداً من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه) .

فعلّل النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن السب هنا بسابقتهم وفضلهم ، وأن نصيف مد أحدهم في الخير أفضل من مثل أحدٍ ذهباً ينفقه من جاء بعدهم .

وغير ذلك من النصوص .

وأما من أقوال الصحابة :

فمنه ما هو عام ، ومنه ما هو خاص في الفتن التي جرت بينهم :

أما العام :

فمن ذلك :

ما في الصحيحين من وصية عمر رضي الله عنه لما طعن قال : أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين خيراً ، أن يعرف لهم حقهم ، وأن يحفظ لهم حرمتهم ، وأوصيه بالأنصار خيراً الذين تبوؤوا الدار والإيمان ، أن يقبل من محسنهم ، ويعفى عن مسيئهم .

ومن ذلك :

ما رواه ابن ماجة بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول : لا تسبوا أصحاب محمد ، فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره .

والسب إنما يكون بذكر الأخبار التي تثير النفوس عليهم رضوان الله عليهم ، فردهم إلى المحكم من أحوالهم وهو سابقتهم وصحبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم .

ومن ذلك أيضاً :

ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم .

وأقوال الصحابة كثيرة في هذا الباب في نهي الناس عن عيبهم أو الكلام فيهم وتذكيرهم بسابقتهم وصحبتهم .

وأما الخاص :

فمن ذلك :

أنه قد ثبت بأسانيد صحيحة أن كبار الصحابة كسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد – وهما من العشرة – وابن عمر وأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وسلمة بن الأكوع وعمران بن حصين وأبي موسى الأشعري وزيد بن ثابت وعبد الله بن مغفل وأبي برزة الأسلمي وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين قد اعتزلوا الفتنة التي جرت في وقتهم ، فمنهم من تعرب وخرج إلى البادية ، ومنهم من لزم بيته ، ومنهم من خرج إلى إبله ، وكل هذا حذراً من الوقوع في الحرام .

وقد روى عبد الرزاق وأحمد وغيرهم بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين قال : هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف ، فلم يحضرها منهم مائة ، بل لم يبلغوا ثلاثين) .

وروى ابن عبد البر وغيره عن بكير بن الأشج أنه قال : إلا أن رجالاً من أهل بدر لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان ، فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم (1).

ولا شك أن الاقتداء بهؤلاء هو اعتزال الفتنة أيضاً باللسان ، وهو أمر أيسر مما فعلوه رضي الله عنهم ، وهذا مما يدل على كمال فقه السلف الصالح رحمهم الله حيث سئل عمر بن عبد العزيز : عن علي ، وعثمان ، والجمل ، وصفين ، وما كان بينهم ، فقال : تلك دماء كف الله يدي عنها ، وأنا أكره أن أغمس لساني فيها .

أعلى

الأصل السادس :

أن النظر في التاريخ محكوم بالشرع وليس حاكماً على الشرع .

اعلم أن دراسة التاريخ محكومة بالشرع وليست حاكمة على الشرع ، فالناظر في التاريخ إنما ينظر في أمور (القدر لأخذ العبر) لا (الشرع لأخذ الأحكام) ، والمسلم مكلف مأمور بمعرفة ما يلزمه من أمور الشرع ، وأما أمور القدر الماضية فإنها من تدبير الله سبحانه وتعالى لا دخل للمكلف فيها ، لذلك فالمسلم الحريص على سلامة دينه ينظر ما يلزمه شرعاً من ذلك .

فالحاصل بين الصحابة ينظر فيه بالنظرين جميعاً :

أما (القدر) : فهو ما حصل بينهم وقدره الله من فتن كتبها عليهم .

وأما (الشرع) : فهو ما يجب عليه حيال هذا الواقع ؛ فقد نهينا عن سب الصحابة والوقوع فيهم وتنقصهم ، وقد أثنى الله عليهم وهو يعلم ما سيحدث من بعضهم ، وأمرنا بذكر محاسنهم ونشرها ومحبتهم والدعاء لهم والاستغفار .

فالمسلم يجب عليه أن يلتزم شرعاً بما هو واقع قدراً .

وقد ضل في هذا الباب طائفتان جعلا التاريخ حاكماً على الشرع :

فالطائفة الأولى : طائفة أهل البدع والزيغ كالروافض والزيدية والنواصب ونحوهم ممن اشتغل بما حصل بين الصحابة رضوان الله عليهم ، ثم عادوا بهذا على كثير من نصوص الشرع بالإبطال والتشكيك .

والطائفة الثانية : طائفة العلمانيين والمرتدين الذين اشتغلوا بما حصل بين الصحابة وما نقل عنهم وأثير حولهم للتشكيك في الإسلام .

ولأن أهل السنة والجماعة هم أهل الحق المتبعون للكتاب والسنة ؛ فقد هداهم الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، فإنهم عرفوا ما هم مأمورون به شرعاً في هذه الفتن ، فعصموا ألسنتهم عن ذكر أحد منهم بسوء ، ودعوا لهم ، وترضوا عنهم ، ونشروا محاسنهم ، وسكتوا عما شجر بينهم .

ونظير هذا مما وقع من الصحابة رضوان الله عليهم في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم ما ثبت في الصحيح من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه في ذكر الدجال، قلنا : وما لبثه في الأرض ؟.

قال : أربعون يوماً ، يوم كسنة ، ويوم كشهر ، ويوم كجمعة ، وسائر أيامه كأيامكم .

فقلنا: يا رسول الله ، هذا اليوم الذي كسنة ، أتكفينا فيه صلاة يوم وليلة؟.

قال : لا ، اقدروا له قدره .

فإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم لهم هنا كان عن أمر من أمور القدر وتدبير الله سبحانه وتعالى في خلقه وهو أن أيام الدجال : يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كأسبوع ، فلم يشتغلوا بهذا الأمر لأنه من أمور القدر وهم يعلمون أن الله على كل شيء قدير ، بل سألوا عما هم مكلفون به شرعاً وهو أمر الصلاة في ذلك اليوم ، وهذا من كمال فقههم رضي الله عنهم أجمعين .

أعلى

الأصل السابع :

أن الأصل في الروايات التاريخية كالأصل في روايات بني إسرائيل

اعلم أن الروايات التاريخية على ثلاثة أقسام :

القسم الأول : ما ثبت بإسناد صحيح وليس فيه محذور شرعي ، فهذا نشره جائز ، وهذا أمر متفق عليه.

القسم الثاني : ما روي بإسناد صحيح أو ضعيف وفي نشره محذور شرعي كالوقيعة في بعض الصحابة أو ما جرى بينهم من الفتن ونحو ذلك ، فهذا لا يجوز نشره ، وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين ؛ فأما أحدهما فبثثته ، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم .

وإنما بث ما يلزمه شرعاً بثه ولا يجوز كتمانه وهو ما يتعلق بالأحكام التي تلزم المكلفين ، وأما الوعاء الثاني فهو أحاديث الفتن ، وقد ذكر خطورة رواية ذلك رضي الله عنه في زمنه – وهو خير القرون – فكيف بعده ؟؟!!.

القسم الثالث : ما لم يثبت بإسناد صحيح وليس في نشره محذور شرعي فهذا الأمر فيه واسع ويجوز نشره ، والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) .

والأخبار عن بني إسرائيل – كما قسمها أهل العلم وكما تدل عليه النصوص - على ثلاثة أقسام :

الأول : ما شهد الشرع بصدقه ، فهذا نصدقه.

والثاني : ما شهد الشرع بكذبه ، فهذا نرده ولا نقبله.

والثالث : ما هو مسكوت عنه فلا يشهد بصدقه أو كذبه ، فتجوز حكايته والاستئناس به.

والقول في تاريخ المسلمين كالقول في تاريخ بني إسرائيل ، بل هو أولى ، فإن أخبار بني إسرائيل أكثرها غير مسند ، وبيننا وبينهم من المفاوز ما هو معروف ، وليسوا من ملتنا ، فلأن يكون هذا الحكم ثابتاً في أخبار المسلمين من باب أولى .

والأخبار التاريخية لا تعامل معاملة الأحاديث النبوية في التصحيح والتضعيف لأمور :

الأمر الأول : أن أحاديث الأحكام قد تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظها – لأنها من حفظ دينه – فإذا روي حديث منها بسند ضعيف ونحوه فإننا نجزم بعدم ثبوته لذلك ، أما الأخبار التاريخية فلم يتكفل الله تعالى بحفظها فلا يعني عدم وروده بسند صحيح أن الخبر لم يصح .

الأمر الثاني : أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال (إذا حدثكم بنو إسرائيل فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم) ، فقد نهى عن تكذيبهم ، مع أنك لو طبقت منهج المحدثين على الأخبار الإسرائيلية لانتهيت إلى ضعفها بل وسقوطها من طريق الأسانيد!!.

الأمر الثالث : أن هناك أموراً تاريخية كثيرة جداً مشهورة في الكتب والدواوين ، وأمرها معلوم بالتواتر عند الناس ، ولو أردت أن تثبتها من ناحية الإسناد ما استطعت ، لأن أهل الحفظ والإتقان والرواية والضبط كانوا ينصرفون في غالب روايتهم إلى الأحاديث النبوية بخلاف الأخبار التاريخية ، فلا يعني عدم روايتهم لها عدم ثبوتها في نفس الأمر .

الأمر الرابع : أن أساطين المحدثين قد فرقوا بين الأمرين ، فتراهم يشددون في أحاديث الأحكام ونحوها ، بخلاف الروايات التاريخية ؛ فإنك تراهم يذكرونها ولا يتعقبونها بشيء .

إذا فهمت هذا الأصل جيداً ، تبيّن لك جهل بعض الأغمار في هذا الزمن – كالمالكي – الذي عكس القضية ؛ فوسّع ما ضيّقه الشرع ، وضيّق ما وسّعه :

فأما توسيعه ما أمر الشرع بتضييقه :

فإنه قام بإثارة ما حصل بين الصحابة ابتغاء الفتنة ، فطعن في بعضهم ، وغض من آخرين ، ونشر شراً عريضاً ، وقد أمر الشرع أن يسكت عن ذلك ، وذهب أهل السنة والجماعة إلى أن ما شجر بينهم يطوى ولا يروى ، وقد سبق تفصيل ذلك في الأصول السابقة.

وأما تضييقه ما وسّعه الشرع :

فإنه قام بالتدقيق في أخبار تاريخية لا يترتب على ذكرها منكر ، ولا حكم تكليفي ، ولا فساد ، ولا إفساد ، بدعوى إنقاذ التاريخ ، كدعواه – مثلاً – أن (القعقاع بن عمرو) أسطورة لا وجود لها !!.

فإذا قرنت هذا الجاهل وأمثاله بالأئمة الأخيار من أهل السنة والجماعة رضوان الله عليهم علمت صحة أصولهم ، ودقة نظرهم ، وصحة فهومهم ، ومدى علمهم ، وأن مما ترتفع به مرتبتهم ظهور أمثال هؤلاء الدجاجلة ، فإن بحوث هؤلاء ورسائلهم تزيدنا يقيناً بصحة أصول أولئك .

حيث لم يتكلم أهل السنة والجماعة في أمور التاريخ إلا على وجه واحد وهو ما شهد الشرع بكذبه أو أمر بتركه ، فإن كلامهم كثير في الأمر بترك الخوض فيما شجر بين الصحابة والإعراض عنه وعدم إثارته ، وتركوا ما سواه لأن الأمر فيه واسع ولا يترتب عليه أحكام شرعية ، واشتغلوا بما هم مكلفون به من أحاديث الأحكام ونحوها.

فرحمهم الله تعالى ورضي عنهم وحشرنا في زمرتهم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً .

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،،،،

أعلى

 

بسم الله الرحمن الرحيم
 الصفحة الرئيسة
العقيدة الصحيحة
   الشرك وأنواعه 
تحطيم البدع
 الردود العلمية
 الفرق والمذاهب
 فتاوى مهمة
قالوا عن الموقع
اربطنا بموقعك
من أفضل المواقع
صيد الفوائد
رسالة الإسلام
السلفيون
شمس الإسلام
المرشد
الموحدون

تحت المجهر

النصارى 

النصيرية

الرافضـة

الإباضيــة 

 الأحباش

العصرانيون