المعاصي تمحق البركة

المعاصي تمحق البركة

وذلك أن المعاصي تمحق بركةالعمر،وبركة الرزق،وبركة العلم،وبركة العمل، وبركة الطاعة.
وبالجملة تمحق بركة الدين والدنيا،فلا تجد أقل بركة في عمره ودينه ودنياه ممن عصى الله،وما محقت البركة من الأرض إلا بمعاصي الخلق.
قال الله تعالى :{ولوأن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض }(1) وقال تعالى :{وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً * لنفتنهم فيه}(2) وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه.
وفي الحديث :((إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها ،فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ،فإنه لا ينال ماعندالله إلا بطاعته،وإن الله جعل الروح والفرح في الرضى واليقين،وجعل الهم والحزن في الشك والسخط)).
وفي الأثر الذي ذكره أحمد في[ كتاب الزهد] :((أنا الله إذا رضيت باركت وليس لبركتي منتهى،وإذا غضبت لعنت،ولعنتي تدرك السابع من الولد)).
وليست سعة الرزق والعمل بكثرته ،ولاطول العمر بكثرة الشهور والأعوام ،ولكن سعة الرزق والعمربالبركة فيه.
وكما هو معروف أن عمر العبد هو مدة حياته،ولا حياة لمن أعرض عن الله واشتغل بغيره،بل حياة البهائم خير من حياته،فإن حياة الإنسان بحياة قلبه وروحه،ولا حياة لقلبه إلا بمعرفة فاطره ومحبته وعبادته وحده،والإنابة إليه،والطمأنية بذكره،والأنس بقربه،ومن فقد هذه الحياة فقدالخير كله ،ولو تعوض عنها بماتعوض مما في الدنيا،بل ليست الدنيا بأجمعها عوضاً عن هذه الحياة،فمن كل شيء يفوت العبد عوض ،وأذا فاته الله لم يعوض عنه شيء ألبتة.
وكيف يعوض الفقير بالذات عن الغني بالذات،والعاجز بالذات عن القادر بالذات،والميت عن الحي الذي لا يموت،والمخلوق عن الخالق ،ومن لاوجود له ولاشيء له من ذاته ألبتة عمن غناه وحياته وكماله وجوده ورحمته من لوازم ذاته؟ وكيف يعوض من لا يملك مثقال ذرة عمن له ملك السموات والأرض؟.
وأنما كانت معصية الله سبباً لمحق بركة الرزق والأجل ،لأن الشيطان موكل بها وبأصحابها:فسلطانه عليهم ،وحوالته على هذاالديوان وأهله وأصحابه،وكل شيء يتصل به الشيطان ويقارنه فبركته ممحوقة ،ولهذا شرع ذكر اسم الله عند الأكل والشرب واللبس والركوب والجماع لما في مقارنة اسم الله من البركة، وذكر اسمه يطرد الشيطان فتحصل البركة،ولا معارض له،وكل شيء لايكون لله فبركته منزوعة،فإن الرب هو الذي يبارك وحده،والبركة كلها منه،وكل مانسب إليه مبارك،فكلامه مبارك،ورسوله مبارك،وعبده المؤمن النافع لخلقه مبارك،وبيته الحرام مبارك،وكنانته من أرضه وهي الشام أرض البركة،وصفهابالبركة في ست آيات من كتابه؛فلامبارك إلا هو وحده، ولا مبارك إلا مانسب إليه،أعني إلى ألوهيته ومحبته ورضاه، وإلافالكون كله منسوب إلى ربوبيته وخلقه،وكل ما باعده من نفسه من الأعيان والأقوال والأعمال فلا بركة فيه،ولا خيرفيه،وكل ما كان قريباًمن ذلك،ففيه من البركة على حسب قربه منه.
وضد البركه اللعنة؛فأرض لعنها الله أوشخص لعنه الله أو عمل لعنه الله أبعدشيء من الخيروالبركة،وكل مااتصل بذلك وارتبط به وكان منه بسبيل فلا بركه فيه ألبتة.
وقد لعن عدوه أبليس وجعله أبعد خلقه منه،فكل ما كان من جهته فله من لعنة الله بقدر قربه منه واتصاله به ،فمن هاهنا كان للمعاصي أعظم تأثير في محق بركة الرزق والعمر والعلم والعمل،وكل وقت عصيت الله فيه ،أو مال عُصي الله به،أوبدن أو جاه أو علم أو عمل فهو على صاحبه،ليس له؛فليس له من عمره وماله وقوته و جاهه و علمه و عمله إلا ما أطاع الله به.
ولهذافمن الناس من يعيش في هذه الدار مائة سنة أونحوها،ويكون عمره لا يبلغ عشر سنين أو نحوها،كماأن منهم من يملك القناطيرالمقنطرة من الذهب والفضة ويكون ماله في الحقيقة لا يبلغ ألف درهم أونحوها،وهكذا الجاه والعلم.
وفي الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم:(الدنياملعونة ،ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه،وعالم أو متعلم)).
وفي أثر آخر:((الدنيا ملعونة ملعون مافيها إلا ماكان لله)) فهذا هو الذي فيه البركة خاصة. والله المستعان،وعليه التكلان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الأعراف آية 96 .
(2) سورة الجن آية 16 و 17 .
----------------------------------------------------------------------------
من كتاب الداء والدواء لابن قيم الجوزية تحقيق وتعليق يوسف علي بديوي .