حقيقة القبورية وآثارها في واقع الأمة

دمعة على التوحيد

حقيقة القبورية وآثارها في واقع الأمة

 

تهذيب : عبد الباسط بن يوسف الغريب

عمان – الأردن

 

 

تمهيد

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد: فإن مسألة توحيد الله أجل مسائل الدين وأعظمها, ولأجلها خلق الله العباد وخلق الله الجنة والنار, ولأجلها أرسل الله الرسل, وأنزل الكتب, ودار الصراع بين الحق والباطل, ولذلك كان أعظم أعمال الشياطين إبعاد الناس عن هذا الأصل العظيم, وإيقاعهم في الشرك ما صغر منه وما كبر.

 

ومن مداخل الشيطان على هذه الأمة وصرفه العباد عن عبادة الواحد الأحد؛ فتنة تعظيم وتقديس الأضرحة والمقامات والتي أصبحت ظاهرة للعيان في أغلب بلاد المسلمين، وتحقق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من وقوع الشرك في هذه الأمة, ولذلك كان من أحتم الواجبات وأعظم القربات تحذير الناس وإرجاعهم إلى ما أمر الله به العباد ودعت إليه الرسـل من الإخلاص لله فـي القول والعمل.

 

        ومن الجهود المشكورة في هذا الباب أصل هذا الكتاب "دمعة على التوحيد" من إصدارات "مجلة البيان", الذي عالج هذه القضية وبين واقعها والأسباب التي أدت إلى استفحالها وطرق علاجها, وهو في الأصل مجموعة من المقالات لعدد من الكتاب صدرت في "مجلة البيان", ولكن هذه المقالات كما جاء في مقدمة الكتاب لا تخلو من تكرار يسير, وهي بحاجة إلى ترتيب وتبويب لكي تأتلف مادتها وتتماسك موضوعاتها, فقمت بإعادة ترتيبها وجمع شتاتها وحذف المكرر فيها, لتمم الفائدة من الكتاب على أكمل وجه, وأسأل الله أن نكون قد وفقنا لذلك، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.

المقدمة

 

        إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله أما بعد:

        فقد روى البخاري ومسلم عن عائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. تقول عائشة: يحذر مثل الذي صنعوا))([1]).

        وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية وكانت أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما أتتا أرض الحبشة فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها فرفع رأسه فقال: ((أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً ثم صوروا فيه تلك الصورة أولئك شرار الحلق عند الله))([2]).

        فهذه وصية مخلصة من النبي صلى الله عليه وسلم يودع بها أصحابه، فعلى الرغم من ثقل المرض وشدة الألم، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم يعيدها المرة بعد الأخرى رحمة بأمته وشفقة عليها وخوفا عليها من الزيغ والانحراف كالذي حدث في الأمم السابقة.

إن مسألة التوحيد من أعظم مسائل الدين وأجلها، وقد تتابع اهتمام  الأنبياء بإيضاحها وبيانها ودعوة الناس إليها قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].

        ولهذا كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم كلها حافلة ببيان التوحيد والتحذير من الشرك والبراءة من أهله، وكان يعلِّم أصحابه حدوده وقواعده. فها هو يقول لمعاذ : ((يا معاذ! تدري ما حق الله على العباد وما حق الله على العباد؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً وحق العباد على الله عز وجل أن لا يُعذب من لا يشرك به شيئاً))([3]).

        وعندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن وحمّله أمانة البلاغ كان أول ما أمره به أن يدعو الناس إلى توحيد الله تعالى حيث قال له صلى الله عليه وسلم: ((إنك ستأتي قوماً أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة)) ([4]). وكان رسول صلى الله عليه وسلم حريصاً على قطع مادة الشرك وسد ذرائعه ولهذا نهى عن رفع القبور والبناء عليها وتجصيصها والصلاة عندها واتخاذها عيداً وإيقاد السرج عليها، ونحو ذلك من الأبواب التي تؤدي إلى تعظيم المقبورين والغلو فيهم.

        وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في أشد التوقي والتحري لحماية جناب التوحيد حتى في أدق المسائل، فعندما جاءه رجل وراجعه في بعض الكلام فقال: ما شاء الله وشئت! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أجعلتني مع الله عدلاً؟! لا، بل ما شاء الله وحده))([5]).

        وقد سار الصحابة على منهاج النبي صلى الله عليه وسلم في التحذير من الشرك وسد ذرائعه وأمثلة هذا الباب كثيرة جداً:

        فعن المعرور بن سويد قال: خرجنا مع عمر في حجة حجها .. فلما قضى حجه ورجع والناس يبتدرون فقال: ما هذا؟ فقالوا: مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هكذا هلك أهل الكتاب اتخذوا آثار أنبيائهم بيعاً! من عرضت له منكم فيه الصلاة فليصل ومن لم تعرض له منكم فيه الصلاة فلا يصل([6]).

        ورأى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فسطاطاً على قبر عبد الرحمن فقال: انزعه يا غلام فإنما يظله عمله([7]).

        وعن أبي هريرة : أنه أوصى أن لا يضربوا على قبره فسطاطاً([8]).

        وقد تواتر النقل عنهم في التحذير من الشرك وسد ذرائعه ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله: "فلو كان الدعاء عند القبور والصلاة عندها والتبرك بها فضيلة أو سنة أو مباحاً لنصب المهاجرون والأنصار هذا القبر علماً لذلك ودعوا عنده وسنوا ذلك لمن بعدهم، ولكن كانوا أعلم بالله ورسوله ودينه من الخلوف التي خلفت بعدهم، وكذلك التابعون لهم بإحسان راحوا على هذا السبيل، وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمصار عدد كثير وهم متوافرون فما منهم من استغاث عند قبر صاحب ولا دعاه ولا دعا به ولا دعا عنده ولا استشفى به ولا استسقى به ولا استنصر به، ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله بل على نقل ما هو دونه"([9]).      

        ولا يختلف مسلمان على أن تحقيق التوحيد ظاهراً وباطناً هو مدار النجاة يوم القيامة, وليس المراد بهذا التوحيد فقط إثبات وجود الله وأنه الخالق المدبر، فقد أخبر الله في كتابه أن المشركين كانوا يعتقدون ذلك كما في قوله تعالى: وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]. بل توحيد العبادة - الألوهية - هو الأهم والأعظم؛ وهو الذي من أجله خلق الله العباد كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. ولأجله أرسل الله الرسل كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]. ولكن مع طول العهود حدث نوع من الغفلة أدت إلى عملية تزييف واسعة؛ هذا التزييف الذي أصاب أعز صفات هذه الأمة ألا وهو التوحيد والإخلاص.

        ومن واجب النصح على أهل العلم وطلبته أن  يبينوا للناس هذا الزيف الذي أصاب هذه الأمة ومن هذا المنطلق جاء هذا الكتاب .

 

 

الإسلام لم يأت بتقديس القبور والأضرحة

        إن تقديس القبور والأضرحة مفهوم لم يعرفه الإسلام ولو في إشارة يسيرة، بل جاءت نصوص الكتاب والسنة الثابتة بالنهي الصريح عن كل ذريعة تفضي إلى ذلك المفهوم الذي يمثل خطوة أولى على طريق الانحراف نحو الشرك؛ فمن الأقوال القاطعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يدع مجالاً لتوهم نسخ أو تخصيص أو تقييد ما جاء عنه:

        ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلّوا عليّ؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم))([10])

        وعنه صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد، لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))([11]). هذا في قبره الشريف وفي كل قبر.

        وعن علي أنه قال لأبي الهياج: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سوّيته))([12]).

        ((ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه)). وفي زيادة صحيحة لأبي داود: ((أو أن يكتب عليه))([13]). ((ولعن المتخذين عليها [أي القبور] المساجد والسُرج)) ([14]).

        وعلى ذلك سار سلفنا الصالح من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان.

        يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم من ذلك شيء في بلاد الإسلام، لا في الحجاز، ولا اليمن، ولا الشام، ولا العراق، ولا مصر، ولا خراسان، ولا المغرب، ولم يكن قد أحدث مشهد، لا على قبر نبي، ولا صاحب، ولا أحد من أهل البيت، ولا صالح أصلاً، بل عامة هذه المشاهد محدَثة بعد ذلك، وكان ظهورها وانتشارها حين ضعفت خلافة بني العباس، وتفرقت الأمة، وكثر فيهم الزنادقة الملبّسون على المسلمين، وفشت فيهم كلمة أهل البدع، وذلك من دولة المقتدر في أواخر المائة الثالثة؛ فإنه إذ ذاك ظهرت القرامطة العبيدية القدّاحية في أرض المغرب، ثم جاؤوا بعد ذلك إلى أرض مصر([15]).

واقع القبورية في العالم الإسلامي

        في غفلة الأمة عن حقيقة دينها نبتت شبكة واسعة من القبور والأضرحة المقدسة! عمت معظم أنحاء العالم الإسلامي، بل إن بعض الباحثين يقدر عدد الأضرحة في القطر الذي يعيش فيه بما لا يقل عن عدد المدن والقرى في هذا القطر، حيث يقول: وأضرحة الأولياء التي تنتشر في مدن مصر ونحو ستة آلاف قرية؛ هي مراكز لإقامة الموالد للمريدين والمحبين، ويمكننا القول: إنه من الصعب أن نجد يوماً على مدار السنة ليس فيه احتفال بمولد ولي في مكان ما بمصر([16])، بل أصبحت القرى التي تخلو من الأضرحة مثار تندر وتهكم سدنة الأضرحة، فقد ذكر الدكتور زكريا سليمان بيومي أن القرى التي تخلو من أضرحة الأولياء أطلق المشايخ أمثلة شعبية على بخل هذه القرى وخلوها من البركة ما زالت سارية بين الناس حتى الآن!([17]).

        ولكي ندرك حجم المأساة أكثر سنورد بعض ما تيسر من نماذج توضح حجم انتشار هذه الأضرحة في بعض بقاع العالم الإسلامي ، وبالطبع ، فليس من بلد به ضريح إلا وله مريدون ممن يعتقدون فيه.

        فمن بين ألوف الأضرحة المنسوبة إلى الأنبياء والصحابة والأولياء في العالم الإسلامي يشتهر في مصر من بين أكثر من ستة آلاف ضريح - على تقدير ما سبق - أكثر من ألف ضريح.

        ويذكر صاحب "الخطط التوفيقية" علي باشا مبارك: أن الموجود في زمنه في القاهرة وحدها مئتان وأربعة وتسعون ضريحاً، أما خارج القاهرة فيوجد على سبيل المثال في مركز فوّة (81) ضريحاً، وفي مركز طلخا (54)، وفي مركز دسوق (84)، وفي مركز تلا (133)، وهي الأضرحة التابعة للمجلس الصوفي الأعلى، بخلاف الأضرحة التابعة للأوقاف أو غير المقيدة بالمجلس الصوفي، كما يوجد في أسوان أحد المشاهد يسمى مشهد "السبعة وسبعين ولياً".

        وتنقسم الأضرحة إلى كبرى وصغرى، وكلما فخم البناء واتسع وذاع صيت صاحبه زاد اعتباره وكثر زواره.

        فمن الأضرحة الكبرى في القاهرة: ضريح الحسين، وضريح السيدة زينب، وضريح السيدة عائشة، وضريح السيدة سكينة، وضريح السيدة نفيسة، وضريح الإمام الشافعي، وضريح الليث بن سعد  وخارج القاهرة تشتهر أضرحة: البدوي بطنطا، وإبراهيم الدسوقي بدسوق، وأبي العباس المرسي بالإسكندرية، وأبي الدرداء بها أيضاً، وأبي الحسن الشاذلي بقرية حميثرة بمحافظة البحر الأحمر، وأحمد رضوان بقرية البغدادي بالقرب من الأقصر، وأبي الحجاج الأقصري بالأقصر أيضاً، وعبد الرحيم القنائي بقنا ... .

السودان:

        وهكذا الحال في السودان، فالقباب والأضرحة في السودان علـى قسمين:

1-     قباب تبنى في مقابر المسلمين العامة، حيث تبدو القبة شاهقة وسط القبور.

2-     قباب تبنى في المساجد، أو تبنى عليها المساجد، وقد تكون في قبلة المسجد، أو في الخلف، أو في أحد جوانبه.

        ومن أشهر القباب والأضرحة في السودان:

·      قبة الشيخ محمد عثمان عبده البرهاني "شيخ الطريقة البرهانية" بالخرطوم السوق الشعبي.

·      قبة الشيخ قريب الله، بأم درمان، ودنوباوي.

·      قبة الشيخ دفع الله الصائم ديمة، بأم درمان أميدة.

·      قبة الشيخ حسن ود حسّونة، بالخرطوم بحري.

·      قبة الشيخ دفع الله الفرقان، بأم درمان، جنوب السوق.

·      قبة الشيخ أبو زيد، بأم درمان، سوق ليبيا.

·      قبة الشيخ حمد النيل، بأم درمان.

·      قبة الشيخ محمد بن عبد الله كريم الدين (شيخ الطريقة المحمدية الأحمدية الإدريسية).  

·      قبة الشيخ إبراهيم ود بَلاّل، بالقطينة.

·      قبة الشيخ الطيب ود السايح، بأبي شنيب، قرب الحداحيد.

·      قبة الشيخ حمد ود أم مريوم، بالخرطوم بحري، حي حِلّة حمد.

·      قبة الشيخ خوجلي أبو الجاز، بالخرطوم بحري، حلة خوجلي.

·      قبة الشيخ صديق ود بُساطي، غرب النيل الأبيض.

·      قبة الشيخ طه الأبيض البطحاني، بشمال الجزيرة.

·      قبة الشيخ الطريفي ود الشيخ يوسف، بأبي حراز.

·      قبة الشيخ عبد الرحيم ود الشيخ محمد يونس، بأبي حراز.

  وجدير بالذكر أن منطقة أبي حراز بها ما يقارب (36) قبة، من أشهرها إضافة إلى ما سبق: قبة الشيخ أحمد الريح، وقبة الشيخ دفع الله المصوبن (أبو النعلين).

        وقد لوحظ على بعض القباب أنها حظيت برعاية بعض القادة السياسيين، مثل قبة الشيخ يوسف أبو سترة، التي شيدت برعاية الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري، وكذلك قبة الشيخ مدني السني، بمدينة ود مدني. كما لوحظ أيضاً عدم اقتصار اتخاذ القباب على قبور المعظمين في المسلمين، بل من شدة الجهل والغفلة اتخذت قبة على مقبرة (الرفيق) الصيني الشيوعي يانغ تشي تشنغ، في ود مدني. ولوحظ كذلك أن بعض هذه القباب يتوسط المساكن.

أما في إريتريا:

        فمن أشهر الأضرحة التي يرتادها الناس:

·         ضريح الشيخ بن علي بقرية (أم بيرم) القريبة من مدينة مصوع الميناء الرئيس لإريتريا.

·          ضريح سيدي هاشم الميرغني وبنته الست علوية بمدينة مصوع، وعلى كل من هذين القبرين مبنى مستقل على شكل مكعب ومغطى بالقماش مثل الكعبة، وفي كل زاوية منه خشبة مستديرة الشكل يتبرك بها بعد الانتهاء من الطواف بالقبر!

·         ضريح الشيخ جمال الأنصاري، وله وقت مخصص لزيارته، وإن كانت أهميته لدى الناس أقل من سابقيه.

·         ضريح جعفر، وقد بني عليه مسجد، ويقوم المصلون في المسجد بزيارته بعد كل صلاة مفروضة.

·         ضريح الشيخ عبد القادر الجيلاني، وهو ضريح وهمي في قرية (حوطيت) بالقرب من مدينة جندع على ساحل البحر الأحمر.

·         ضريح الشيخ الأمين المقام في أحد مساجد مدينة (أسمرا) العاصمة.

·         ضريح سيدي هاشم في مدينة (كرن) التي تقع على الساحل الجنوبي من إريتريا، وهو يعتبر من أكبر المشاهد التي يقصدها الناس من أنحاء عديدة في البلاد ، بل ومن الدول المجاورة كالسودان.

·         ضريح أحمد النجاشي في (عدي قرات) التي تقع على الحدود الإريترية الإثيوبية، وله يوم محدد (مولد) يقصده الناس فيه من أنحاء إريتريا وإثيوبيا.

أما في الشام:

        فقد أحصى عبد الرحمن بك سامي سنة (1890م) في دمشق وحدها (194) ضريحاً ومزاراً، بينما عد نعمان قسطالي المشهور منها (44) ضريحاً، وذكر أنه منسوب للصحابة أكثر من سبعة وعشرين قبراً، لكل واحد منها قبة ويزار ويتبرك به.

        وفي الآستانة عاصمة السلطنة العثمانية كان يوجد (481) جامعاً يكاد لا يخلو جامع فيها من ضريح، أشهرها الجامع الذي بني على القبر المنسوب إلى أبي أيوب الأنصاري في الآستانة (القسطنطينية).

        وفي الهند يوجد أكثر من مئة وخمسين ضريحاً مشهوراً يؤمها الآلاف من الناس.

        وفي بغداد كان يوجد أكثر من مئة وخمسين جامعاً في أوائل القرن الرابع عشر الهجري، وقلّ أن يخلو جامع منها من ضريح .

        وفي الموصل يوجد أكثر من ستة وسبعين ضريحاً مشهوراً كلها داخل جوامع، وهذا كله بخلاف الأضرحة الموجودة في المساجد والأضرحة المفردة.

        وهكذا كان الأمر في جزيرة العرب قبل دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله  .

        وفي معظم مناطق أوزبكستان كثير من الأضرحة المنسوبة إلى الصحابة والمشايخ ورجال العلم والأولياء، وأصبحت هذه القبور مزارات يفد إليها مريدوها جماعات وأفراداً، يدعون ويبكون، ومن أهم تلك المزارات: ضريح قثم بن العباس ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم في سمرقند، وضريح الإمام البخاري في قرية خرتنك.

        ولا تختلف الصورة كثيراً في شرق العالم الإسلامي حيث تنتشر الأضرحة و (المزارات)؛ ففي بنغلاديش، خاصة في المدن دكا "العاصمة" وشيتاغونج وسلهت وخولنا، ولكن من الغريب ارتياد الناس لمزارات يوجد بها سلاحف وتماسيح يعتقد فيها بعض الجهلاء النفع والضر، فيقدمون الأكل لها أملاً في الحصول على وظيفة أو لتفريج كربة، وتحرص بعض النساء على مس هذه الحيوانات أملاً في حدوث الحمل والرزق بالذرية، وقد نتجت هذه الاعتقادات والممارسات عن الزعم بأن هذه الحيوانات تحولت إلى هذه الصورة بعد أن كانت من الأولياء الصالحين! وهناك أيضاً مزارات تحتوي على أشجار يعتقد فيها وتعلق على أغصانها الخيوط والخرق.

أشهر هذه القبور في العالم الإسلامي

1-     قبر الحسين: الذي يحج له الناس ويتقربون إليه بالنذر والقربات، وتجاوز ذلك إلى الطواف به والاستشفاء، وطلب قضاء الحاجات عند الملمات.

2-     السيد البدوي: له مواسم في السنة أشبه بالحج الأكبر، يقصده الناس من خارج البلاد وداخلها، سُنة وشيعة، وهذان نموذجان في دولة واحدة من أقدم الدول العربية والإسلامية في التعليم النظامي، وفيها أكبر مؤسسة تعليمية نظامية منذ القرن الثالث الهجري، والتي كان لدعاتها وعلمائها الأثر الطيب في نشر الإسلام والدعوة إليه، ولكن كما قيل:

كالعيس في البيداء يقتلها الظما

 

والماء  فوق  ظهورهـا محمول

3-     جلال الدين الرومي الذي كتب على قبره ومزاره: صالح للأديان الثلاثة، المسلمين واليهود والنصارى، ويدعى هذا الوثن بالقطب الأعظم، وفعلاً كان قطباً تدور عليه أفلاك أرباب المصالح الدنيوية طلاب الشرف باسم الدين المزور، وقد لقي كل تشجيع وتقديس من الأيدي الخفية لإبقاء شعلة الوثنية وقَّادة في العالم الإسلامي.

4-     محيي الدين بن عربي صاحب "فصوص الحكم"، والمعتقد بوحدة الوجود والحلول والاتحاد، وزعيم الفلاسفة القائلين بهذه البدعة المكفرة. أقول: إن مزاره وثن يعبد ويقدس في عاصمة دولة كانت عاصمة الخلافة الأموية، ولا يزال في أهلها الخير - إن شاء الله -، غير أن الفتنة بهذا الوثن تزداد يوماً بعد يوم. قال بعض الباحثين: وقفت على باب القبة لأرى وأعتبر، وكنت أحمل حذاءً في يدي؛ فأنكروا عليَّ بالإجماع: كيف تقرب من المقام وفي يدك حذاؤك، احتراماً وتقديساً للولي؟! إنها لعبرة وعظة لأهل التوحيد والإيمان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

5-     "داتا" صاحب مقبرة علي هجويري في المشرق الإسلامي، ينتابها الزوار في كل صباح ومساء. يحدث أحد الكتاب فيقول: ومن عجيب ما شاهدتُه  أن له يوماً في العام تراق عليه الألبان حتى لا نجد في الأسواق لبناً يباع ويُشترى، وله يوم في العام يغسل بماء الورد والطيب أسوة بالكعبة المشرفة، يتشرف بتغسيله الساسة والقادة في البلاد، وليتك ترى ما يصنع حول هذه المقبرة من منكرات أخلاقية، فضلاً عن العقدية، وحولها الرقص والدف والاختلاط  والتبرك بسدنة هذه المقبرة، يُفعل ما لا يجوز ذكره، وفي هذه الدولة حزب سياسي يزعم أنه إسلامي قد فتح باب الخرافة والبدع على مصراعيه.

      ويحكى أن وزير أوقاف هذه الدولة شكى لرئيس الدولة عجز الميزانية في وزارته؛ فاتفق الرأي على إيجاد باب الجنة يتفتح دخوله الأعيان والرؤساء، ثم تباع التذاكر للسواد الأعظم من جهلة المسلمين على أن من دخل هذا الباب فقد دخل الجنة، وبهذا زال العجز المالي بفضل هذه التذاكر وصكوك الغفران.

6-      مقبرة أحمد التيجاني، زعيم طائفته، ورائد التضليل، الذي شرع للناس بمشورة الفرنسيين الطريقة المنسوبة إليه، والقائل: إن جوهرة الكمال أفضل من القرآن الكريم سبعمائة مرة، وكذا صلاة الفاتح، وهما وردان ترددهما الطائفة التيجانية صباحاً مساءً، ويكتفون بقرائتهما وتلاوتهما عن القرآن الكريم.

7-     مقبرة عثمان فيدو، الذي صمم على قبره بناية أشبه بالكعبة وكسيت بالحرير الأسود، وحينما سئل أحد أحفاد هذا المصلح؛ قال: وضعت هذا أسوة بقبر أحمد التيجاني، ومع أن الإمام عثمان فيدو كان ممن أقام به الله الدين، وتبنى دعوة الإصلاح أشبه بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، إلا أن طريقته قادرية، ثم تحول أتباعه إلى الطريقة التيجانية.

قبور الأضرحة بين الحقيقة والوهم

        إن أغلب القبور والأضرحة المنسوبة إلى أصحابها في أغلب البلدان الإسلامية مشكوك بصحتها, لأن السابقين من السلف الصالح لم يهتموا بتقديس القبور أو البناء عليها أو تحديدها كما مر معنا من تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من البناء على القبور وتجصيصها والكتابة عليها.

        فضريح الحسين بالقاهرة مثلاً،  كذب مختلق بلا نزاع بين العلماء المعروفين عند أهل العلم الذين يرجع إليهم المسلمون في مثل ذلك لعلمهم وصدقهم، فإنه معلوم باتفاق الناس: أن هذا المشهد بني عام بضع وأربعين وخمسمائة، وأنه نقل من مشهد بعسقلان، وأن ذلك المشهد بعسقلان كان قد أحدث بعد التسعين والأربعمائة .. فمن المعلوم أن قول القائل: إن ذلك الذي بعسقلان هو مبني على رأس الحسين قول بلا حجة أصلاً([18]).

        وقد ورد عن المشايخ: ابن دقيق العيد، وابن خلف الدمياطي، وابن القسطلاني، والقرطبي صاحب "التفسير"، وعبد العزيز الديريني إنكارهم أمر هـذا المشهد، بل ذكر عن ابن القسطلاني أن هذا المشهد مبني على قبر نصراني([19]).

        وإضافة إلى مشهدي عسقلان والقاهرة، هناك ضريح آخر في سفح جبل الجوشن غربي حلب ينسب إلى رأس الحسين أيضاً، وهو من أضرحة الرؤيا، وكذلك توجد أربعة مواضع أخرى يقال إن بها رأس الحسين: في دمشق، والحنانة بين النجف والكوفة، وبالمدينة عند قبر أمه فاطمة رضي الله عنها، وفي النجف بجوار القبر المنسوب إلى أبيه ، وفي كربلاء حيث يقال: إنه أعيد إلى جسده.

        ورغم أن المحققين يقولون إن السيدة زينب بنت علي رضي الله عنهما ماتت بالمدينة ودفنت بالبقيع، إلا أن القبر المنسوب إليها والذي أقامه الشيعة في دمشق هو القبر الأول الذي يحظى بحج الجماهير إليه.

        ولا يقل عنه جماهيرية ذلك الضريح المنسوب إليها في القاهرة، والذي لم يكن له وجود ولا ذكر في عصور التاريخ الإسلامي إلى ما قبل محمد علي باشا بسنوات معدودة كما يذكر أحمد زكي باشا.

        ويقول علي مبارك في "الخطط التوفيقية": لم أرَ في كتب التاريخ أن السيدة زينب بنت علي رضي الله عنهما جاءت إلى مصر في الحياة أو بعد الممات.

        وأهل الإسكندرية بمصر يعتقدون اعتقاداً جازماً بأن أبا الدرداء مدفون في الضريح المنسوب إليه في مدينتهم، ومن المقطوع به عند أهل العلم أنه لم يدفن في تلك المدينة.

ومن أضرحة الرؤيا:

        مشهد السيدة رقية بنت الرسول صلى الله عليه وسلم بالقاهرة، أقامته زوجة الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله، وذلك بلا خلاف. ومنها كذلك: ضريح السيدة سكينة بنت الحسين بن علي رضي الله عنهم.

        ويذكر المقريزي في "خططه" (2/45): جملة من الأضرحة المزعومة، منها: قبر في زقاق المزار تزعم العامة ومن لا علم عنده أنه قبر يحيى بن عقب، وأنه كان مؤدباً للحسين بن علي بن أبي طالب، وهو كذب مختلق وإفك مفترى، كقولهم في القبر الذي بحارة برجوان إنه قبر جعفر الصادق، وفي القبر الآخر إنه قبر أبي تراب النخشبي، إلى غير ذلك من أكاذيبهم.

        ومن أشهر الأضرحة أيضاً: ضريح الإمام علي بن أبي طالب بالنجف بالعراق، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله  أنه قبر مكذوب، وأن علياً دفن بقصر الإمارة بالكوفة([20]).

        وفي البصرة عدد من الأضرحة المنسوبة إلى الصحابة رضي الله عنهم، منها: قبر عبد الرحمن بن عوف رغم أنه مات بالمدينة ودفن بالبقيع.

        وفي بلدة الرها من أعمال حلب ضريح يقال إنه لجابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما مع أن جابراً توفي في المدينة.

        وفي مدينة نصيبين بالشام - حالياً بجنوب تركيا - قبة يزعمون أنها لسلمان الفارسي، مع أنه مدفون في المدائن.

        ويضيف ابن تيمية رحمه الله: وكذلك بدمشق بالجانب الشرقي مشهد يقال إنه قبر أُبَيّ بن كعب، وقد اتفق أهل العلم على أن أبيّاً لم يقدم دمشق، وإنما مات بالمدينة، فكان بعض الناس يقول: إنه قبر نصراني، وهذا غير مستبعد، فلا يستبعد أنهم – أي النصارى - ألقوا إلى بعض جهال المسلمين أن هذا قبر من يعظمه المسلمون ليوافقوهم على تعظيمه.

        وما لم يستبعده رحمه الله حدث مثله في العصر الحاضر؛ ففي الجزائر كان الشعب هناك يؤم ضريحاً في بعض المناطق الشرقية ويتبرك بأعتابه، ثم اكتُشف أن هذا القبر كان لراهب مسيحي، ولم يصدق الناس ذلك حتى عثروا على الصليب في القبر([21]).

        وفي دمشق أيضاً قبور منسوبة إلى أمهات المؤمنين: عائشة وحفصة وأم سلمة وأم حبيبة رضوان الله عليهن مع أنهن مدفونات بالمدينة المنورة، وفيها كذلك قبر لأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما مع أنها ماتت في مكة بعد مقتل ولدها عبد الله بن الزبير بأيام قليلة. وفي مدينة سقبا في الغوطة الشرقيـة قبر منسوب للصحابـي الجليل عبد الله بن سلام وهو كذب بالاتفاق فإن عبد الله بن سلام توفي بالمدينة.

        وينسب الناس في الشام قبراً إلى "أم كلثوم" و"رقية" بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد اتفق الناس على أنهما ماتتا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة تحت عثمان، وهذا إنما هو بسبب اشتراك الأسماء؛ لعل شخصاً يسمى باسم من ذكر توفي ودفن في موضع من المواضع المذكورة، فظن الجهال أنه أحد من الصحابة.

        ومنها قبر خالد بن الوليد بحمص، يقال إنه قبر خالد بن يزيد بن معاوية. ولكن لما اشتهر أنه خالد، والمشهور عند العامة خالد بن الوليد: ظنوا أنه خالد بن الوليد، وقد اختلف في ذلك: هل هو قبره أو قبر خالد بن يزيد.

        ولعل لهذا السبب أيضاً وجد ضريح "سيدي خالد بن الوليد" بكفر الحما مركز أشمون منوفية بمصر، وضريح "الشيخ عمار بن ياسر" بناحية بني صالح تبع مركز الفشن.

        وفي دمشق كذلك ضريح يدعي الناس أنه لرأس يحيى بن زكريا عليهما السلام يقع في قلب المسجد الأموي، وله قبة وشباك، وله نصيبه من التمسح والدعاء، وبجانب المسجد الأموي قبر القائد صلاح الدين الأيوبي، وإلى جانبه في القبة قبر عماد الدين زنكي، وقبور أخرى تزار ويتوسل بها.

        وفيها قبور أخرى كثيرة كقبر زيد بن ثابت، وأبي هريرة، ومعاوية بن أبي سفيان، والراجح أنه قبر معاوية بن يزيد بن معاوية، أما قبر معاوية الصحابي فقيل إنه بحائط دمشق الذي يقال إنه قبر هود عليه السلام.

        وفي دمشق أيضاً قبور كثير من التابعين والقواد العظماء، ومعظم ما يقال عن هذه القبور تخرصات وتكهنات معظمها من وضع الشيعة والصوفية، وإلا فليس هناك دليل مادي يثبت قبر كل فرد بعينه.

        وإضافة إلى ضريح دمشق المنسوب ليحيى بن زكريا عليهما السلام فإن له مزاراً آخر في صيدا جنوب لبنان في قمة جبل يشرف على البلد والبحر، وله أيضاً مقام ثالث في الجامع الأموي بحلب حيث توجد حجرة تعرف بـ "الحضرة النبوية" يقال إن بها رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام في صندوق جرن، وقيل إن بها عضواً من أعضاء نبي الله زكريا عليه السلام في صندوق مرمر.

        وفي حلب أيضاً: مسجد يعرف بمسجد النبي، منسوب إلى نبي يدعى كالب بن يوفنا من سبط يهوذا .

        ونحو الجنوب إلى معان بشرقي الأردن يوجد مزار النبي هارون، ولا يوجد عند أهل هذه الناحية مقام أشد إكراماً ولا أوفر آياتٍ منه! كما يوجد في شرقي الأردن أيضاً مقام النبي هوشع "يوشع" على قمة جبل بالقرب من السلط، وهو مبني بحجارة قديمة يرتئي الباحثون أن أكثرها يرتقي إلى عهد الصليبيين! كما يوجد في غربي الكرك مزار النبي نوح، وفي بادية البلقاء وموآب يوجد مقام "الخضر الأخضر"([22]).

        كما يوجد ضريح آخر للخضر عليه السلام في مغارة بمعرة النعمان بشمال سورية بالشام، ويوجد بها كذلك ضريح آخر ليوشع عليه السلام.

        وفي معرة النعمان أيضاً يوجد ضريح شيث عليه السلام، مع أن هناك جامعاً كبيراً في الموصل يسمى بجامع النبي شيث داخله ضريح يعتقد الناس أنه مدفون فيه، ولم يكن هذا القبر معروفاً قبل القرن الحادي عشر للهجرة، حيث رأى أحد ولاة الموصل في ذلك القرن مناماً يدل على موضع القبر، فبنى الضريح([23]).

        ومن المقابر المكذوبة باتفاق أهل العلم القبر المنسوب إلى هود عليه السلام بجامع دمشق، فإن هوداً لم يجئ إلى الشام.

        وهناك قبر منسوب إليه في حضرموت، وفي حضرموت أيضاً قبر يزعم الناس أنه لصالح عليه السلام، رغم أنه مات بالحجاز، وله أيضاً عليه السلام قبر في يافا بفلسطين، التي بها كذلك مزار لأيوب عليه السلام.

        ويونس عليه السلام له ضريح في بلدة حلحول بفلسطين، وضريح آخر بقرية نينوى قرب الموصل بالعراق، وثالث في غار بضيعة قرب نابلس بفلسطين، وكلها يُدّعى أن فيها قبره عليه السلام.

        وفي نابلس أيضاً ضريح الأسباط إخوة يوسف عليه السلام، وله عليه السلام قبر في مسجد الخليل بمدينة الخليل بفلسطين، وفي المسجد نفسه ضريح إبراهيم عليه السلام، وكذا أضرحة تنسب إلى إسحاق ويعقوب عليهما السلام([24]).

        ورغم وجود مزار لداود عليه السلام في قضاء كلّز من أعمال حلب بسورية، إلا أن له مزاراً آخر في جنوب غرب صيدا بلبنان، التي في جانبها الشرقي مزار شمعون يزعم الناس أنه من أنبياء بني إسرائيل، وله نفسه مزار آخر في قضاء كلّز أيضاً

        وفي صيدا أيضاً مزار (صيدون) يزعم الناس أيضاً أنه من أنبياء بني إسرائيل.

        وذكر الفيروزآبادي في تعريفه لبلدة قرب نابلس تسمى "عَوْرَتا": قيل بها قبر سبعين نبياً، منهم: عزير، ويوشع.

        وبعد هذا السرد إليك ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله في نسبة قبور الأنبياء، فقد حكى عن طائفة من العلماء منهم عبد العزيز الكناني: كل هذه القبور المضافة إلى الأنبياء، لا يصح شيء منها إلا قبر النبي صلى الله عليه وسلم ([25]).

        ولكن ليس في معرفة قبور الأنبياء بأعيانها فائدة شرعية، وليس حفظ ذلك من الدين.

وماذا بعد؟ 

        لم يقف الأمر عند حد نسبة القبور زوراً إلى شخصيات لها نصيبها من الحب والاحترام لدى الناس، بل وصل الادعاء إلى اختلاق بعض هذه الشخصيات من الوهم والعدم ونسبة الأضرحة إليها، فمن ذلك: قبر في طريق بلدة "طورخال" بتركيا لصحابي أسموه "كيسك باش"!، وفي معرة النعمان ضريح لرجل يدعى "عطا الله" يزعمون أنه صحابي أيضاً.

        وذكر المقريزي أن في القاهرة قبراً على يسرة من خرج من باب الحديد ظاهر زويلة، يزعمون أنه لصحابي يدعى "زارع النوى"! وفي مدينة الشهداء بمصر ضريح داخل مسجد منسوب إلى "شبل" بن الفضل بن العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم، رغم أن المصادر العلمية تتفق على أن الفضل بن العباس لم ينجب إلا بنتاً واحدة اسمها "أم كلثوم".

كيف ظهرت قبور كثير من الأولياء؟

أضرحة الرؤيا:

        تقول الدكتورة سعاد ماهر: ظهر في العصور الوسطى وخاصة في أوقات المحن والحروب التي لا تجد فيها الشعوب من تلوذ به غير الواحد القهار أن يتلمسوا أضرحة آل البيت والأولياء للزيارة والبركة والدعاء ليكشف الله عنهم السوء ويرفع البلاء، ومن ثم ظهر ما يعرف بأضرحة الرؤيا، فإذا رأى ولي من أولياء الله الصالحين في منامه رؤيا مؤداها أن يقيم مسجداً أو ضريحاً لأحد من أهل البيت أو الولي المسمى في الرؤيا فكان عليه أن يقيم الضريح أو المسجد باسمه([26]).

        وعلى ذلك لا يلزم أن يكون الولي المقام الضريح باسمه ثبت وجوده في ذلك المكان، بل لا يلزم أن يكون وطئت قدمه أرض تلك البلاد أصلاً، ومن هنا ظهرت أضرحة مزعومة ومكذوبة في طول البلاد وعرضها، وتعددت الأضرحة للولي الواحد في أكثر من قُطْر، ولتسويغ ذلك الخطل نسجوا خرافة واضحة الزور والبهتان، فقالوا: إن الأرض لأجسام الأولياء كالماء للسمك، فيظهرون بأماكن متعددة ويزار كل مكان قيل عنه إنه فيه نبي كريم أو ولي عظيم.

        ومن الحيل الرائجة لإقامة ضريح أو مشهد: نسج الكرامات حول الشخص المزعوم بأنه ولي، أو حول المكان المزعوم بأنه مكان قبر ولي.

        فمما ينسج حول الأشخاص: ما حدث مع الشيخ صالح أبي حديد الذي كان وبعض صحبه من قطاع الطريق، وحين كشف أمره هرب ولجأ إلى بيت مغنية مشهورة، فأخفته وادعت أنه مجنون ووضعت في رجليه قيداً من حديد، وقد اعتقل لسانه من شدة الخوف، ثم أشاعت هي والمجتمعون من حوله أن له كرامات وإخباراً بالمغيبات، فأقبل عليه الناس بالهدايا والنذور حتى ذاع صيته، وزاره الخديوي إسماعيل واستبشر به وبنى له قبراً بقبة عالية بعد وفاته ووقف عليه الأرض وغيرها([27]).

        ومن ذلك: مسجد في حلب يعرف بمسجد العريان، يعتقده أهل المحلة الموجود بها، ويقولون: إنه عرف بالعريان؛ لأنه في أكثر أوقاته يتجرد من ثيابه، ويدّعون أن ذلك لغلبة الحال عليه( [28]).

        ومن ذلك ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن القبر المشهور في الكرك الذي يقال له قبر نوح، قال:

        "وأما القبر المشهور في سفحه بالكرك الذي يقال إنه قبر نوح فهو باطل محال لم يقل أحد ممن له علم ومعرفة إن هذا قبر نوح ولا قبر أحد من الأنبياء أو الصالحين ولا كان لهذا القبر ذكر ولا خبر أصلا بل كان ذلك المكان حاكورة يزرع فيها ويكون بها الحاكة إلى مدة قريبة؛ رأوا هناك قبراً فيه عظم كبير وشموا فيه رائحة فظن الجهلاء أنه لأجل تلك الرائحة يكون قبر نبي، وقالوا من كان من الأنبياء كبيراً فقالوا نوح فقالوا هو قبر نوح، وبنوا عليه في دولة الرافضة الذين كانوا مع الناصر صاحب حلب ذلك القبر، وزيد بعد ذلك في دولة الظاهر فصار وثناً يشرك به الجاهلون, وقد ثبت عن النبي أنه قال: ((إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء)). فلو كان قبر نبي لم يتجرد العظم. وقد حدثني من ثقات أهل المكان عن آبائهم من ذكر أنهم رأوا تلك العظام الكبيرة فيه وشاهدوه قبل ذلك مكاناً للزرع والحياكة، وحدثني من الثقات من شاهد في المقابر القريبة منه رؤوساً عظيمة جداً تناسب تلك العظام فعلم أن هذا وأمثاله من عظام العمالقة الذين كانوا في الزمن القديم أو نحوهم .. وعلى الجملة غالب ما يستند إليه الواحد من هؤلاء أن يدعى أنه رأى مناماً أو أنه وجد بذلك القبر علامة تدل على صلاح ساكنه إما رائحة طيبة وإما توهم خرق عادة ونحو ذلك وإما حكاية عن بعض الناس أنه كان يعظم ذلك القبر( [29]).

ما يحدث عند هذه الأضرحة من صرف العبادات لغير الله

        من الصعب على الباحث أن يحصر آثار تقديس القبور والأضرحة، ولكن هناك آثاراً يمكن إبرازها لخطورتها، ولكونها تعتبر أمهات لانحرافات أخرى نتجت عن هذا الداء، ويقف على رأس هذه الآثار: أظلم الظلم؛ الشرك بالله تعالى، فالراصد لأحوال القبوريين يلحظ بوضوح انتشار الشرك بينهم بجميع أنواعه وصوره ودرجاته .. شرك في الربوبية، وشرك في الألوهية، وشرك في الأسماء والصفات .. شرك أكبر، وشرك أصغر .. .

        وما أدراك ما يحدثه الشرك من آثار نفسية واجتماعية على الفرد والمجتمع! فمن شرك الربوبية ظهر واضحاً اعتقاد القبوريين في الأضرحة وأصحابها؛ أنهم يسمعون ويبصرون ويجيبون من يتوجه إليهم، وأنهم يعلمون الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وأن لهم قدرة في التصرف والتأثير في الكون بما ليس في طاقة البشر: كالخلق والإفناء، والإحياء والإماتة، وشفاء الأمراض، والنفع والضر، والعطاء والمنع، والإغناء والإفقار، وتحويل الأشياء عن حقيقتها.

        كما زعم القبوريون أن في الأضرحة وأصحابها القدرة على الرفع والوضع في الدنيا والآخرة، وتفريج الكربات، وقضاء الحاجات، ومحو الذنوب وغفرانها.

        فلقد اعتاد القبوريون على "أنهم بزيارتهم لهذه الأضرحة ستأتيهم البركة ويشفون من مرضهم أو يفكون عقم نسلهم ... وكانوا يَمَسُّون عمامة صاحب الضريح - بعد الولائم - أملاً في شفاء أوجاع الرأس، ويَمَسّون قفطانه للعلاج من الحمى، ولحس الحجر لفك عسر اللسان، وتقديم العرائض طلباً لرفع الظلم، وتمسح النساء في الضريح أملاً في إنجاب الذكور"([30]).

        ولم يستح القبوريون في طلبهم المنهوم للبركة المزعومة أن يستسيغوا المعاشرة الزوجية في هذه الأضرحة.

        فهذا الشعراني صاحب أكبر سجل لخرافات القبوريين يذكر من كرامات "البدوي" أنه دعاه إلى فض بكارة زوجته فوق قبة قبره؛ فكان الأمر!([31]).

        وفي السودان  وصل الأمر- في العصر الحاضر- عند بعض الرجال المخرفين إلى مجامعة زوجاتهم عند أضرحة الأولياء، بدعوى نيل البركة.

        وبالطبع فإن هذا التبرك يفتح باب الرقى والتمائم الشركية على مصراعيه من الأصغر إلى الأكبر، فإذا ما تركنا التبرك وقصدنا بيان الشرك الصريح في أقوال المعتقدين في الأضرحة وأفعالهم  فإننا نكاد ألا نستطيع الفصل بين أنواع الشرك في هذه الممارسات؛ فالشرك في الربوبية مصاحب للشرك في الأسماء والصفات، وينبني عليه باعتباره نتيجة حتمية الشرك في الألوهية .. وإليك بعض نماذج لهذا الشرك أو ذاك، ومن ذلك:

        ما أورده أبو بكر العراقي عن أحد القبوريين وهو إمام وخطيب في أحد مساجد ديالى المهمة، يقول: "دعوت الله ست سنوات أن يرزقني الولد فلم أرزق، وذهبت إلى شيخي مصطفى النقشبندي في أربيل فما أن استغثت به وطلبت منه الولد حتى رزقت بطفلين توأمين!"( [32]). تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

        فهذا "الإمام" أشرك في الربوبية لاعتقاده أن لشيخه النقشبندي القدرة على التصرف والتأثير في الكون بالنفع والعطاء من دون الله، ومن ثم فإنه: أشرك في أسماء الله الحسنى: النافع الضار، والوهاب، والرزاق .. وأشرك في الألوهية لصرفه عبادة لغير الله؛ وذلك بدعائه لشيخه النقشبندي أن يرزقه الذرية.

        فالانحراف في توحيد الربوبية عند القبوريين يتبعه دوماً انحراف في توحيد الألوهية، وإليك إيضاحاً آخر: 

        يقول عرفة عبده علي: "وقد احتشدت مؤلفات مناقب السيد البدوي بكرامات أسطورية غريبة لا تحصى، منها، على سبيل المثال: إحياء الموتى، وإنقاذ الأسرى في بلاد الفرنجة، وقوله للشيء كن فيكون بإذن الله! .. فماذا ترتب على هذا الاعتقاد في البدوي؟". يقول الكاتب نفسه: وكثير من أتباعه يجعلونه في منزلة أسمى من مرتبة الأنبياء!([33]). فما هذه المنزلة ؟ 

        استمع إلى شهادة أحد العلماء: فقد رأى الشيخ رشيد رضا جماعة من هؤلاء القبوريين تطوف حول قبر السيد البدوي، الذي تحول إلى كعبة ثانية، وكانت هذه الجماعة تطلب من السيد، لما شاع بينها من القصص والحكايات حول مقدرته العجيبة في قضاء الحوائج، فإذا كان ذلك في أحد القبور، فهل يختلف الحال في الأضرحة الأخرى؟

        إذا شملنا واقع الأضرحة بنظرة عامة وجدنا أن الطقوس التي يمارسها المعتقدون في القبور تعدت إلى كثير من الصور التي تجسد أنواع الشرك بدرجاته المختلفة، وهذا هو واقع القبوريين.

        ويولي المعتقدون في هذه الأضرحة والمزارات اهتماماً كبيراً بعمارتها ومظهرها حيث تكون المباني مزخرفة ومزينة، ولكل قبر قبة مبنية بأحجار قيمة، وتقوم على أمر هذه المزارات لجنة تضم أصحاب السلطة والمنتفعين من ورائها؛ حتى أصبح حالنا وحال هذه الأضرحة كما قال الشاعر المصري حافظ إبراهيم:

أحياؤنـا  لا  يرزقون  بدرهم

 

وبألف  ألف  يرزق  الأموات

من لي  بحظ  النائمين  بحفرة

 

قامت على أحجارها الصلوات

        فالغلو والبدع والانحراف عن التوحيد الخالص عوامل مشتركة بين مرتادي الأضرحة والمعتقدين فيها وإن تنوعت المظاهر حسب بيئة كل بلد وعادات أهله.

        ففي إريتريا مثلاً يقصد كثير من القبوريين الأضرحة حاملين معهم الأغنام والأبقار والسكر والقهوة والشاي وغيرها من أنواع الأطعمة إضافة إلى الأموال؛ ليقدموها قرباناً إلى صاحب الضريح، وقد يذبحون الأنعام تقرباً أيضاً للولي أو الشيخ، ويطوفون بالقبر وبتمرغون بترابه، ويطلبون قضاء الحوائج وتفريج الكربات منه، كما يحصل من الفساد الأخلاقي حول الأضرحة ما يستحيي الإنسان من ذكر تفاصيله وخاصة الاختلاط وانتهاك الأعراض، وتكثر هذه الممارسات حول الأضرحة الشهيرة، كضريح الشيخ "بن علي" وضريح "سيدي هاشم الميرغني" وبنته الست علوية ، وضريح الشيخ "عبد القادر الجيلاني"، وضريح "أحمد النجاشي".

        ويزداد الأمر سوءاً في السودان؛ حيث يحرص أتباع هذه الأضرحة والمنتفعون منها على التأصيل لهذه الانحرافات، فتلقى المحاضرات وتؤلف الكتب في الحث على ذلك، ومن أشهرها: رسالة عبد الله المحجوب الميرغني، المتوفى سنة (1207هـ)، واسمها: "تحريض الأغبياء على الاستعانة بالأنبياء والأولياء"، يقول فيها: "ولهذا يتبين لك وجوب التعلق بالوسائل والأسباب، وتأكد لزوم التزام الوسائط والأبواب، فتعلق بالوسائل والأسباب، والجأ واستغث، وانده [من النداء] لخواص الله والأحباب، واطرق لدى الخطوب ما شئت من الأبواب، تنل بذلك من فيض الوهاب ما لا يدخل في حساب".

        ونتج عن إشاعة هذا الاعتقاد والدعوة إليه أن تأثيره لم يقتصر على الطرقيين فقط، بل امتد ليشمل جماهير عريضة في الشعب السوداني، فهناك عادات ارتبطت بتلك القباب، يقوم بها روادها، منها:

1-     ينبغي أن يخلع الزوار نعالهم خارج القبة، وبعضهم يخلعها خارج ساحة المسجد، احتراماً لصاحب الضريح.

2-     يتم دخول القبة بإذن من حارسها كما يتولى خادم الضريح تطويف الزوار.

3-     يتبرك الزوار بالضريح والقبة بطرق شتى: فمنهم من يأخذ من ترابها، ومنهم من يضع يديه على السياج المعدني الذي حول القبر ويتمسح بها، ثم يمسح على جسده وملابسه.

4-     الطواف داخل القبة حول القبر من الممارسات الشائعة والمألوفة عند هؤلاء الزائرين.

5-     دعاء المقبور والاستعانة به والإلحاح عليه في الدعاء، قال بعض الكتاب:  رأيت بعض الزائرين يجلس عند القبر ممسكاً بسياجه، ويلح في طلب حاجته، وأحياناً يصرخ، وبعضهم الآخر يدعو المقبور أثناء الطواف حول القبر، ومما يندى له الجبين أن امرأة شوهدت عند قبة الشيخ عبد الباقي تحمل طفلاً، ترفعه بيديها وتهزه وهي تخاطب الشيخ المقبور راجية منه البركة في صغيرها، ثم تقول: يا شيخ .. سمعت؟ لتتيقن سماعه وقضاء حاجتها!

6-     ومنهم من يلتزم القبر بداخل القبة، ويصيح عنده ويجأر به.

7-     ومنهم من يسجد وهو مستقبل القبة نسأل الله السلامة.

8-     ومن الناس من يعكف عندها أياماً وشهوراً، التماساً للشفاء أو لقضاء حاجة من حوائجه، وقد أُلحقت ببعض القباب غرف انتظار الزائرين لهذا الغرض.

9-     ومن المعتاد تقديم النذور عند هذه القباب.

10-      وقد لوحظ أن زيارة القباب تتم في جميع أيام الأسبوع، وتزداد في أيام الجمع والأعياد؛ حيث يكتظ كثير من القباب بالزوار في هذه المناسبات، كما لوحظ اختلاط الرجال والنساء في هذه الزيارات، وأن معظم الزائرين من النساء.

        وفي بنجلاديش يأتي الناس إلى المزارات ويظنون أنها أقدس مكان على وجه الأرض، لذا فهم يسجدون أمام الأضرحة إجلالاً لها واحتراماً، ويطلبون من أصحابها الذرية ودفع المصائب وتفريج الكروب، كما يقدمون لهم النذور من الأموال والحيوانات كالغنم والبقر التي تذبح باسم صاحب القبر، وأخيراً ينصرفون وهم يظنون أنهم فعلوا خيراً كثيراً؛ لأنهم يعتقدون أن لأصحاب هذه الأضرحة يداً في تصريف الأمور، بل وفي إدخالهم الجنة، ويكون عدد المترددين أكثر بعد العصر وخاصة ليلة الجمعة.

        وينتشر حول هذه الأضرحة بعض القبوريين الذين يعيشون في ساحاتها ويلازمونها، وهم صنفان من حيث مظهرهم:

        الأول: أناس أصحاب هيئة رثة لا يلبسون إلا القليل من الملابس، التي تكاد ألا تستر غير عوراتهم، ويطلقون شعورهم  وشواربهم التي بدا عليها التلبد والقذارة، فهم لا يغتسلون من أوساخهم ولا ينظفون ملابسهم .. ومع ذلك يختلط الناس بهم طلباً للبركة منهم، وتبيت معهم النساء، ولا يتحرزن عن معاشرتهن.

        الثاني: يهتمون بمظهرهم وينظفون ملابسهم إلى حد ما، يجلس الواحد منهم في ساحة الضريح وحوله الناس ينادونه بكل شوق ورغبة باسم (بابا)، وهم دائماً يحققون ما يأمر به، وتبيت النساء أيضاً عنده من غير تحرز عن ارتكاب الفواحش معه.

        وفي مصر تلقى الأضرحة احتراماً وتبجيلاً لدى كثير من الناس، حيث يندفع أكثرهم لا شعورياً للقيام ببعض الممارسات المتنوعة والمتعلقة بهذه الأضرحة، وتبدأ هذه الممارسات بالحرص على الصلاة في المسجد الذي به الضريح، ثم الحرص على زيارته وترديد بعض الكلمات والصلوات والدعوات.

        وبالطبع فإن هذا الحرص يتفاوت حسب شهرة الضريح ومكانته في نفوس الناس وحسب دوافع الزائر له، ويلي ذلك التمسح بالضريح وتقبيله طلباً للبركة، ويليه التوسل بجاه صاحب الضريح اعتقاداً أن ذلك أقرب إلى إجابة الدعاء، ثم ينتهي المطاف ببلوغ غاية الضلال والخرافة عندما يتوجه إلى صاحب الضريح بالدعاء والرجاء وطلب قضاء الحاجات منه، وغالباً ما يصحب الدعاء استقبال للضريح حتى ولو كانت القبلة خلف ظهره، كما يظهر على الزائر الخشوع والسكينة والتأثر الذي قد يصل إلى حد البكاء، وقد يصل الولع والوجد ببعضهم إلى الإغراق في حالة من انعدام الوعي، فيصبح "مجذوباً". وعادة ما يضع الزائر بعض ما تجود به نفسه في صندوق النذور صدقة أو قربة لصاحب الضريح.

        ومن الملاحظ أن طبيعة النذور المقدمة تطورت من الماضي إلى الحاضر، كما أنها تختلف بحسب وجود الضريح في وسط قرى ريفية أو وسط تجمعات عمرانية حضرية.

        ومن الملاحظ أيضاً: أن حركة الناس في الدخول إلى الضريح والخروج منه تختلف حسب مكانة صاحب الضريح، ولكنها عموماً تزداد في أوقات الصلوات، وهذا بالطبع بخلاف أوقات الموالد التي تعج بالزائرين.

 

من مظاهر الشرك عند الأضرحة والقبور

أولاً: الحلف والإقسام بأصحاب القبور.

        يقول الإمام الصنعاني:  "... ويقسمون بأسمائهم، بل إذا حلف من عليه حق باسم الله تعالى لم يقبلوا منه، فإذا حلف باسم ولي من أوليائهم قبلوه وصدقوه، ولن يصدق أحد من الحالف إلا إذا حلف بواحد منهم، وهذا كان شيئاً طبيعياً كنا نراه في القرى ونحن صغار، ولا زال يجري للآن"([34]).

        وهذا الانحراف العقدي أثر من آثار الإلحاد في أسماء الله؛ العظيم، والرقيب، والشهيد، والعليم.

ثانياً: لاذوا واحتموا بها.

        فكما جعل الله سبحانه البيت الحرام ملاذاً من دخله كان آمناً، جعل سدنة الأضرحة تلك الأضرحة الوثنية حرماً آمناً يهرع إليها المجرمون والفارون، ويلجأ إليها الخائفون، ليأمنوا في رحابها، ويستريحوا في ظلالها. وكثيراً ما عفي عن اللائذين بالأضرحة من المجرمين إكراماً للمدفونين أو خشية ورهبة من انتقامهم وبأسهم. وقد يدخل ذلك في الإلحاد في أسمائه تعالى؛ الكافي، والولي، والنصير، والعزيز.

ثالثاً: توجهوا إليها بالطلب والدعاء.

        وهذه بدأت بأن بث بعض المتصوفة فكرة أن الدعاء عند قبور الأولياء والصالحين مستجاب، وانتهت بأن أخذ العوام يطوفون بقبور الصالحين، يستعينون بهم، ويخاطبونهم، ويستنهضون هممهم بالصياح والصراخ، حتى أصبح الواقع أن الناس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى من الأولياء الأحياء منهم والأموات وغيرهم، مثل: يا سيدي فلان، أغثني! ولا شك أن من الدعاء الاستغاثة والاستعانة.

        ومن المفارقات أن تلك العبادة تتجلى واضحة عند القبوريين في المواطن التي كان المشركون يخلصون فيها الدعاء لله وحده؛ لأنهم يعلمون أن آلهتهم لا تجيبهم ولا تنفعهم في تلك المواطن، ويحكي محمد السنوسي أنه  حين كان راكباً في البحر، وهاجت الرياح، وتلاطمت الأمواج حتى كادت السفينة أن تغرق، أخذ يستجير- كما يقول - بكل ما يستحضره من الأولياء كي يكشفوا كربته! وليس هذا حالة خاصة، بل إن من المشاهد اليوم أن كثيراً من الناس يستغيثون بالمشائخ والأنبياء والأئمة والشهداء.

        فأمثال تلك المشاهدات المستقاة من الواقع الشركي للقبوريين دعت كثيراً من العلماء إلى التصريح بأن شرك الأولين من عباد الأصنام أخف وطأة من شرك القبوريين، وذلك من عدة وجوه بينوها في كتبهم.

        ومن الدعاء أيضاً: الاستشفاء، ولعلنا نوضح هذا الجانب لاحقاً عند الحديث عن الآثار الاجتماعية للاعتقاد في القبور والأضرحة.

        ولا شك أن هذا الانحراف في الدعاء أثر من آثار الإلحاد في أسماء الله تعالى الحسنى، ومنها: السميع، المجيب، المعطي، الرزاق، القادر، النافع, الضار، النصير، العليم، الشافي.

رابعاً: ذبحوا ونذروا لها.

        وهذه أيضاً من الشعائر اللازمة للاعتقاد في القبور والأضرحة، فالرعاة في شرقي الأردن يطوفون بالأغنام حول مقام النبي يوشع في أزمان الأوبئة ويختارون خير النعاج، ويصعدونها إلى سطح المقام وينحرونها فيسيل دمها على عتبته ، فـ "غاية الزيارات لمقامات الأولياء هي تقديم الذبائح"([35]).

        وكثيراً ما يقترن الذبح بالنذر، ولا شك أن الذبح والنذر سواء أكان ذبحاً، أو إهداء زيت، أو إعطاء نقود .. من العبادات التي لا تجوز إلا لله تعالى. لذلك يقول الإمام الصنعاني رحمه الله: والنذر بالمال على الميت ونحوه، والنحر على القبر، والتوسل به، وطلب الحاجات منه، هو بعينه الذي كانت تفعله الجاهلية، وإنما كانوا يفعلونه لما يسمونه وثناً وصنماً، وفعله القبوريون لما يسمونه ولياً وقبراً ومشهداً.

        والأسماء لا أثر لها ولا تغير المعاني، ضرورة لغوية وعقلية وشرعية، فإن من شرب الخمر وسماها ماءً, ما شرب إلا خمراً، وكل ذلك لا يخص ضريحاً دون آخر، بل هو عام في جميع الأضرحة المقصودة بالتوجه والاعتقادات فحيثما كان ضريح يعتقد فيه؛ كان الشرك بجميع صوره وأنواعه ودرجاته. فهذا قبر ابن عربي بدمشق، يحكي عبد الله بن محمد بن خميس مشاهداته عنده، فيقول:

        "لقد ذهبت إلى قبر ابن عربي في دمشق فوجدت فئاماً من الناس يغدون إليه ويروحون .. وجدتهم يطوفون حوله، ويتوسلون به، ويعلنون دعاءهم له من دون الله .. وجدت المرأة تضع خدها على شباك الضريح وتمرغه وتنادي: اغثني يا محيي الدين .. وجدت الصبايا البريئات يجئن إليه، ويمددن أمامه الأكف، ويمسحن الوجوه، ويخشعن، ويتضرعن"([36]).

        وفي الهند أصبح قبر الشيخ بهاء الدين زكريا الملتاني مرجع الخلائق في العصر الأخير، ويطوفون حوله، ويعملون ويصنعون على قبره جميع الأعمال اللائقة بالمعبود، كالسجود، والنذور، وما أشبه ذلك.

        وضريح الشيخ علي الهجوري في لاهور في باكستان، وهو من القبور العظيمة، والناس يزورونه كل سنة، بل كل يوم، ويطوفون حوله، ويسجدون له، ويقدمون النذور، ويستغيثون به، ويطلبون العون والمدد([37]).

        وعند القبر المنسوب إلى هود في حضرموت يحدث من الشرك الأكبر ما يعجز القلم عن وصفه، شأنه في ذلك شأن كل الأضرحة في البلاد الأخرى. وقد بولغ في تقديس هذا الضريح، فتراهم يشدون الرحال لزيارته وعندهم شيء من بقايا الشعور الوثني الذي كان يشعر به العرب لللات والعزى، يستعينون به ويتوجهون إليه، ويولون وجوههم شطره لقضاء الحاجات، واستنزال البركات، ودفع الكربات. 

        بل لقد اعترف أحد كبار منظِّري القبورية وهو الشيخ أحمد بن محمد بن الصديق الغماري بوجود الشرك الأكبر والكفر الصراح في القبورية، فقال: "إن كثيراً من العوام بالمغرب ينطقون بما هو كفر في حق الشيخ عبد القادر الجيلاني، وكذلك نرى بعضهم يفعل ذلك مع من يعتقده من الأحياء، فيسجد له، ويقبل الأرض بين يديه في حال سجوده، ويطلب منه في تلك الحال الشفاء والغنى والذرية، ونحو ذلك مما لا يطلب إلا من الله تعالى، وإن عندنا بالمغرب من يقول في ابن مشيش: إنه الذي خلق الابن والدنيا، ومنهم من قال - والمطر نازل بشدة -: يا مولانا عبد السلام، الطف بعبادك! فهذا كفر([38]).

        وتعدى أمر التشريع عند القبوريين إلى التلاعب في بعض العبادات المفروضة، ويمثل الحج أبرز مثال لهذا التلاعب، الذي بدأ بسن آداب وطقوس معينة لزيارة تلك الأضرحة، "فالزيارة ليست مجرد مرور عابر، ويجب أن تؤخذ بمعناها الدقيق، فعملية الاستقبال داخل الضريح هي لقاء بين الولي "الداعي" والزائر "الضيف"، لذلك لم يقتصر القبوريون على إقامة المباني والأضرحة عليها فحسب، بل صنعوا في آداب زيارتها وترتيبها المصنفات الطوال، منها: كتاب شمس الدين محمد بن الزيات المعروف "الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة"( [39]).

        ومن آداب للزيارة إلى مناسك للحج، فقد  آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجاً، ووضعوا له مناسك، حتى صنَّف بعض غلاتهم في ذلك كتاباً وسماه: "مناسك حج المشاهد" مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ودخول في دين عُبَّاد الأصنام.

        ولم يكتفوا بتصنيف الكتب في ذلك، بل أشاعوا ذلك التشريع في جمهورهم، فالدكتور عبد الكريم دهينة يذكر عن قريته التي بها أكثر من ثلاثين ضريحاً تقام لها موالد ونذور ونسك، أنه "قد أفتى بعضُ الفسقة بأن الحج ينفع إليهم([40]).

        كما أن شطراً من العامة في صعيد مصر يرى أن الطواف سبع مرات بقبر الشيخ القناوي بقنا فيه غناء عن أداء الحج إلى بيت الله الحرام.

        وعلى ذلك فليس بمستغرب أن يقول السخاوي: جاء الحُجاج هذه السنة لسيدي أحمد البدوي من الشام وحلب ومكة، أكثر من حجاج الحرمين!( [41]).

        فهذا باب من التشريع، وهو أثر من آثار الإلحاد في أسماء الله الحسنى: الحكيم، والحكم، والعليم، والعزيز، والملك، والعظيم. وكل ذلك أدى إلى الاستهانة بأوامر الله عز وجل، واستبدالها بتعظيم شعائر الأضرحة وأوامر سدنتها، وبذا كانت القبورية أحد الأسباب التي هيأت شعوب العالم الإسلامي لقبول العلمانية الوافدة وتشريع ما لم يأذن به الله.

شرك في التوحيد، ونكوص عن مجاهدة الأعداء

        وهنا نشير إلى  بيان أثر اعتقاد المعظمين للأضرحة في دورها في جهاد أعداء الأمة، ضمن تأثيرها على حياة الشعوب الإسلامية في شتى المناحي.

فقد اتخذتها الشعوب مثير قتال الأعداء ودافع مجاهدتهم، باعتبار أنها "الرموز المقدسة" التي لا ينبغي أن تمس، ففي ريف المغرب الذي كان يحتله الإسبان قامت القبائل هناك بثورة عارمة ضدهم، حين بنى الإسبانيون مركزاً للحراسة بقرب ضريح تقدسه القبائل، وقد فطن الأعداء لهذا الأمر، فحرصوا على عدم المساس بهذه القبور والأضرحة لعدم إثارة الذين يقدسونها، بل ساهموا في الترويج لها ولطقوسها، بينما كانوا يبدلون منهج حياة المسلمين تبديلاً كاملاً، وينهبون ثروات البلاد نهباً منظماً.

        ويرحل بنا المؤرخ العظيم عبد الرحمن الجبرتي إلى زمن الحملة الفرنسية، يوم تقلد الشيخ خليل البكري نقابة الأشراف ... وفيه سأل صاري عسكر عن المولد النبوي ولماذا لم يعملوه كعادتهم؟! فاعتذر الشيخ البكري بتعطيل الأمور وتوقُّف الأحوال، فلم يقبل، وقال: لابد من ذلك، وأعطى له ثلاثمائة ريال فرنساوية معاونة، وأمر بتعليق تعاليق وأحبال وقناديل، واجتمع الفرنساوية يوم المولد، ولعبوا ميادينهم وضربوا طبولهم([42]).

        وكما مثلت القبور والأضرحة لدى المعتقدين فيها مثير قتال الأعداء ودافع مجاهدتهم، فإنها شكلت عندهم بديلاً لأي جيش يناهض هؤلاء الأعداء. فهي عندهم "هيئة المستشارين" التي تقرر قتال الأعداء أو لا تقرره.

        يقول الدكتور عمر فروخ:

        "لا ريب في أن الأوروبيين قد عرفوا ذلك واستغلوه في أعمالهم الاستعمارية، ذكر مصطفى كامل بطل الوطنية المصرية في كتابه "المسألة الشرقية" قصة غريبة في أذن القارئ العادي، قال: ومن الأمور المشهورة عن احتلال فرنسا للقيروان في تونس: أن رجلاً فرنسياً دخل في الإسلام وسمى نفسه سيد أحمد الهادي، واجتهد في تحصيل الشريعة حتى وصل إلى درجة عالية، وعين إماماً لمسجد كبير في القيروان، فلما اقترب الجنود الفرنساويون من المدينة استعد أهلها للدفاع عنها، وجاؤوا يسألونه أن يستشير لهم ضريح شيخ في المسجد يعتقدون فيه، فدخل "سيد أحمد" الضريح، ثم خرج مهولاً بما سينالهم من المصائب، وقال لهم: إن الشيخ ينصحكم بالتسليم؛ لأن وقوع البلاد صار محتماً، فاتبع القوم البسطاء قوله ولم يدافعوا عن مدينة القيروان أقل دفاع، بل دخلها الفرنساويون آمنين في 26 أكتوبر سنة 1881م"( [43]).

        وهي عندهم حرس الحدود الذي يقوم على صد الأعداء، بل ومنع الفتن والأوبئة! فـ "كل مدينة كبيرة أو صغيرة محروسة بولي من الأولياء، فهو الذي يحميها من العين ومن الغارات ومن نكبات الطبيعة ، ومن طمع الطامعين".

        وبناء على ذلك الاعتقاد يذكر الكوثري أن أرض الشام يحرسها من الآفات  والبلايا أربعة من الأولياء الذين يتصرفون في قبورهم!

        وبخلاف الأضرحة الكبرى التي تحرس المدن المهمة والمراكز الحيوية، يشيع هذا الاعتقاد أيضاً عند القبوريين في القرى والنجوع، ففي مركز مغاغة بالمنيا، وعلى وجه التحديد بقرية بني واللمس على البحر اليوسفي، يشتهر مقام سيدي حسن أبو رايتين. ويعتقدون أنه يحرس القرية ويحفظها من السرقة وعداوات الدم([44])، ويلجئون إليه لرفع المظالم.

        وهي عندهم وسائل دفاع جوي!، فضريح علي الروبي بالفيوم بمصر أنقذ المدينة من الدمار خلال الحرب العالمية الثانية، ببركته التي حولت مسار القنابل إلى بحر يوسف!([45]).

        وهي عندهم معين المدد والذخيرة، فأثناء الثورة العرابية روَّج القبوريون إشاعة قوية مفادها "أن كبار الأولياء الدسوقي، البدوي، عبد العال، أهدوا أحمد عرابي ثلاثة مدافع ليستعين بها على منازلة الإنجليز.

        وعندما يستدعي الموقف الإمداد بـ "قوات خاصة" لمنازلة عدو شديد البأس يطلب القبوريون المدد من الأضرحة وأصحابها أيضاً، فعندما أغار التتار على بلاد الشام كان القبوريون يخرجون يستغيثون بالموتى عند القبور، ولذا قال بعض شعراء القبورية:

يا خائفين  من  التتر

 

لوذوا بقبر أبي عمر

        وحين أغار جنود الفرنسيين والإفرنج على مصر  صاح المحاربون في المسلمين وصرخوا مستغيثين بغير الله مع الله: يا رب يا لطيف، ويا رجال الله، ونحو ذلك.  

        وذكر الشيخ رشيد رضا أنه عندما زحفت روسيا على مدينة بخارى فزع الناس إلى الاستغاثة بحامي بخارى، كما يسميه أهلها، شاه نقشبند، فلم يغن عنهم شيئاً.

        وذكر أيضاً أنه  انتشر بين أهل مراكش، عند حلول النوائب بهم، وتعدي الأجانب عليهم، الاجتماع حول قبر الشيخ إدريس في فاس، طالبين أن يكشف ما نزل بهم من الشدة، تاركين ما تقتضيه حال العصر من التربية والتعليم والإعداد العسكري للأعداء.

        وهي عندهم جيوش متكاملة، فلماذا الإعداد، والقبور والأضرحة عند المعتقدين فيها بمثابة جيوش متكاملة تفعل ما لا يستطيعه المحاربون؟!، فقد قال أحد كبار الصوفية في زمن احتلال الإنجليز لمصر: لو أراد إبراهيم الدسوقي خروج الإنجليز من مصر ما بقي إنجليزي واحد([46]).

        وذكر الدكتور سيد عويس في كتابه المهم "رسائل إلى الإمام الشافعي" أن إحدى الرسائل الموجهة إلى ضريح الإمام الشافعي، والمؤرخة في أكتوبر سنة 1955م، يطلب صاحبها فيها عقد جلسة شريفة يحضر فيها معه سيدنا الحسين وسيدنا الحسن، والست زينب أم هاشم، وجميع أهل بيت النبي! ويطلبون من الله مسح إسرائيل اليهود، وإزالتها من على وجه الأرض المقدسة في الأسبوع، ويكون – إن شاء الله – آخر ميعاد يوم الثلاثاء القادم!

        ولها تعقد احتفالات النصر، فمما يذكره الجبرتي أنه عند مغادرة الفرنسيين للقاهرة سنة (1216هـ) هرع قائد الجيش العثماني حسين باشا القبطان إلى زيارة المشهد الحسيني، وذبح فيه خمس جواميس وسبعة أكباش، واقتسمتها خدمة الضريح. فهل أضر مؤثر بقوة الأمة أعظم من هذا التخدير الذي سرى في جسدها بفعل أفيون تقديس القبور والأضرحة ؟

شرك في التوحيد وتخلف في المجتمع

        وترتفع الخرافة إلى ذروتها حينما يعمد القبوريون إلى إضافة التخصصات للأضرحة بعد تقسيم درجاتها إلى كبرى وصغرى، فمثلما كان للإغريق، ومن بعدهم للرومان واليونان؛ إله لكل شيء، إله للحرب، والهة للحب، وإلهة للخصب، إله للخمر، وجدنا عند القبوريين أضرحة ومزارات تشتهر بتخصصها في حاجات مختلفة، يخصونها بالتوجه إليها لطلب هذه الحاجة منها.

        ولعل من هذا القبيل: الأضرحة والمزارات النسائية، كمقام "الشيخة مريم"، التي يحتفل بمولدها مرتين: مرة في شم النسيم، والأخرى في ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اشتهرت ببركتها في الشفاء من العقم.

        وكذلك يطلب القبوريون من ضريح "الشيخة صباح" في طنطا إبراء النساء من العقم، ومزار "بنات عين" في معان بالأردن انتشر ذكره بين العواقر، يفدن إليه بالقرابين والمصابيح لنيل البرء والشفاء، وهو مختص بالنساء فقط ويدعونه بالمستشفى النسائي!  

        إضافة إلى تلك الأضرحة والمزارات التي اشتهرت بتخصصها النسائي،  هناك ضريح "النبي شعيب" في وادي السلط الجنوبي بالأردن، وهو ولي! مرهوب مختص بالأقسام الكبرى، إذا أشكلت الدعاوى واستعجمت مذاهبها، ويطلب القاضي البدوي القسم الرهيب في بركة شعيب([47]).

        وفي حلب بسورية اعتاد بعض الناس هناك أن يسافروا إلى ضريح الشيخ ريح زاعمين أنهم يشفون من ريحهم.

        وللناس في قبر أبي العلاء المعري "بمعرة النعمان" بسورية أيضاً اعتقاد عظيم، يبيِّتون على قبره شربة ماء ويستعملونها للبرء من الحمى.

        وفي مدينة طنطا بمصر يطلب الناس هناك من ضريح عز الرجال، وهو أحد تلاميذ البدوي شفاء الأطفال، ومن ضريح محمد الحدري المعروف بالعمري شفاء أمراض الروماتيزم!

        وفي بنجلاديش تكون الاحتفالات حول الأضرحة أسبوعية وسنوية، حيث تعتبر ليلة الجمعة عيداً أسبوعياً حول الضريح يأتي إليه الزوار من جميع الأصناف، أغنياء، وفقراء، ومسؤولين في الحكومة، وغيرهم، ويشاركون في المعاصي من شرك واختلاط وغناء، وتكون الفرصة مهيأة للفاحشة والزنا، ويستمر هذا الاحتفال حتى الصباح، ويكون لكل "بابا" مجلس خاص ويتحلق حوله مريدوه .

        وبمثل هذا ولكن بشكل موسع يتم الاحتفال السنوي الذي يسمى "عرساً" تحت إشراف لجنة نظامية حكومية ويستمر مدة أطول قد تصل إلى أسبوع، فيجتمع الناس من أماكن مختلفة بعيدة حاملين معهم نذورهم من ماشية وأموال، وتنتشر كل مجموعة حول صاحب بدعة "البابا" الذي يرتدي ملابس غير ساترة مدعين أنهم وصلوا إلى مرتبة تؤهلهم لعدم التمثل بشريعة الله، ويصدقهم الجهلاء في ذلك، ويشيع في هذه الاحتفالات شرب الخمر والمخدرات ولعب الميسر والخرافات إضافة إلى ترك الصلاة، وأيضاً السجود لغير الله، وغير ذلك من الشرك الصريح.

        كما يحضرها كذلك كبار المسؤولين والأغنياء والفقراء على حد سواء، وبعض هؤلاء من يشاركون "البابات" الإثراء والمنافع المادية الكبيرة من وراء رواج سوق الخرافة حول الأضرحة.

        ويقول الكاتب المصري مصطفى المنفلوطي: كتب إليّ أحدُ علماء الهند كتاباً يقولُ فيه: إنه اطلع على مؤلف ظهر حديثاً بلغة "التاميل"، وهي لغة الهنود الساكنين بناقور وملحقاتها بجنوب مدراس، موضوعه "تاريخ حياة السيد عبد القادر الجيلاني، وذكرُ مناقبه وكراماته"، فرأى فيه من الصفات والألقاب التي وصف بها الكاتب السيد عبد القادر ولقّبه بها صفات وألقاباً هي بمقام الألوهية أليق منها بمقام النبوة، فضلاً عن مقام الولاية كقوله: سيد السموات والأرض، والنفّاع الضرّار، والمتصرّف في الأكوان، والمطلع على أسرار الخليقة، ومحيي الموتى، ومبرئ الأعمى والأبرص والأكمه، و أمره من أمر الله، وماحي الذنوب، ودافع البلاء، والرافع الواضع، وصاحب الشريعة، وصاحب الوجود التام، إلى كثير من أمثال هذه النعوت والألقاب!

        ويقول الكاتب: إنه رأى في ذلك الكتاب فصلاً يشرح فيه المؤلف الكيفية التي يجب أن يتكيّف بها الزائر لقبر السيد عبد القادر الجيلاني يقول فيه: أول ما يجب على الزائر أن يتوضأ وضوءاً سابغاً، ثم يصلي ركعتين بخشوع واستحضار، ثم يتوجّه إلى تلك الكعبة المشرفة، وبعد السلام على صاحب الضريح المعظم يقول: يا صاحب الثقلين، أغثني وأمدّني بقضاء حاجتي وتفريج كربتي، أغثني يا محيي الدين عبد القادر، أغثني يا ولي عبد القادر، أغثني يا سلطان عبد القادر، أغثني يا بادشاه عبد القادر، أغثني يا خوجة عبد القادر، يا حضرة الغوث الصمداني، يا سيدي عبد القادر الجيلاني، عبدك ومريدك مظلوم عاجز محتاج إليك في جميع الأمور في الدين والدنيا والآخرة.

        ويقول الكاتب أيضاً: إن في بلدة "ناقور" في الهند قبراً يسمى "شاه الحميد" وهو أحد أولاد السيد عبد القادر كما يزعمون وأن الهنود يسجدون بين يدي ذلك القبر سجودَهم بين يدي الله، وأن في كل بلدة من بلدان الهنود وقراها مزاراً يمثل مزار السيد عبد القادر، فيكون القبلة التي يتوجه إليها المسلمون في تلك البلاد، والملجأ الذي يلجأون في حاجاتهم وشدائدهم إليه، وينفقون من الأموال على خدمته وسدانته، وفي موالده وحضراته ما لو أنفق على فقراء الأرض لصاروا أغنياء.

دور بدعة المولد في تقديس القبور وعبادتها

        بدعة الموالد من أعظم أسباب الغلو في قبور الأولياء والصالحين، فعلى سبيل المثال تكثر الموالد في مصر، ويشتهر منها: المولد النبوي، ومولد البدوي الذي حضره عام 1996م حوالي 3 ملايين زائر، حسب تقرير الحالة الدينية في مصر الصادر عن مركز الدراسات الاستراتيجية، ومولد إبراهيم الدسوقي، ومولد أبي الحسن الشاذلي، ومولد المرسي أبي العباس، ومولد أبي الحجاج الأقصري، ومولد إبراهيم القنائي.

        والاحتفال بالمولد النبوي كغيره من الموالد يغلب عليه مظاهر الاحتفال الشعبي الفولكلوري المصطبغ بالصبغة الدينية، ويشترك مع غيره من الموالد في سمة حضور جمهور كبير من أنحاء متفرقة، وإقامة بعضهم حول أحد الأضرحة، وإنشاد المدائح الخاصة بصاحب المولد، مع نشاط اقتصادي واجتماعي حول أحد الضريح، إضافة إلى ما سبق أن ذكرناه من ممارسات وطقوس يقوم بها الزائر تجاه صاحب الضريح.

        وتعجب أشد العجب أن تجد بعضاً ممن ينتسب إلى العلم والدعوة يحضر بعض هذه الموالد، بل ويروج لها عند العامة، ولا يتورع عن ممارسة بعض البدعيات المحدثة، فيكون قدوة سيئة للجهلة، نعوذ بالله من الخذلان.

        وتعرّف هيام فتحي دربك في صدر مقالها عن موالد الأولياء في مصر "المولد" بأنه: الاحتفال بيوم ميلاد ولي من أولياء الله، والاحتفالات بالموالد تمارس في المنطقة التي فيها قبر الولي، وهي حفلات فولكلورية شعبية من غناء ورقص وتسلية، والاستماع إلى الموسيقى الصاخبة، وألعاب الأطفال والمراجيح وحلقات الذكر الذي يتخذ مظهر الرقص أحياناً ومظهر الشعوذة أحياناً أخرى، ففيها يقوم الرجال بعمل حركات من قيام وقعود والى الشمال وإلى اليسار وهم يذكرون لفظ الجلالة .. الله، الله، حي، حي .. وقد يندمج بعضهم في حلقات الذكر فيشد شعره ويتمرغ على الأرض!

        ويوم الاحتفال بالمولد النبوي يكون إجازة رسمية في البلاد، ويقام بصفة رسمية في كل محافظة بمصر حيث تشرف عليه السلطات لضمان سيره بانتظام وأمان، وهو يقام في ساحة عامة بجوار أحد المساجد الكبيرة غالباً، وعادة يكون المسجد ضريحاً لأحد الأولياء المشهورين، وقبل المولد تهيأ الساحة والشوارع بالزينات والأضواء، ويستعد أصحاب كل نشاط بما يلزم من جلب البضائع ونصب الملاهي، ويزدهر نشاط الباعة والمحلات وبخاصة أنشطة بيع الحلوى والألعاب، وأنشطة المقاهي والمطاعم وبيع الأدوات المنزلية، وتزدحم الفنادق، وهي غالباً ذات مستوى متدنٍ .. ويشيع جو من المرح والضجيج في مكان المولد.

        وقد شاهد مندوب "البيان" احتفال "الليلة الكبيرة" للمولد النبوي في القاهرة، حيث سار موكب ممثلي الطرق الصوفية لمدة (45) دقيقة تقريباً مشياً على الأقدام حاملين الأعلام والرايات في جو من البهجة والاحتفال بدءاً من ضريح الشيخ صالح الجعفري بمنطقة الدرّاسة إلى مسجد الحسين، وهناك وجدوا في انتظارهم بعض المستقبلين، على رأسهم شيخ مشايخ الطرق الصوفية، فقاموا بالسلام عليه وقراءة الفاتحة والدعاء جماعياً.

        ويشهد هذا الاحتفال أيضاً كبار رجال الدولة أو ممثلون عنهم، وعلى رأسهم شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية ورئيس جامعة الأزهر ووزير الأوقاف ومحافظ القاهرة؛ حيث يلقي معظمهم كلمات في الاحتفال، كما يشهد حضوراً إعلاميّاً واضحاً من صحافة وإذاعة وتلفاز.

        وبعد نهاية الاحتفال الرسمي ينصرف أتباع الطرق الصوفية لإلقاء أناشيدهم ومدائحهم وأذكارهم في أماكن معدة لذلك سلفاً، ويستمرون في ذلك حتى منتصف الليل تقريباً.

        ولا تختلف نوعية زوار المولد النبوي عما ذكره تقرير الحالة الدينية بمصر عن زوار مولد البدوي، فهم يشملون:

        فريقاً هدفه إحياء ذكرى المحتفل به، وآخرين يحرصون على التبرك، ومنهم البسطاء والفقراء والأغنياء، الأميون والمثقفون، ويرى هؤلاء أنه إذا لم يتمكنوا من الحضور لأي سبب، سواء أكان بإرادتهم أو رغماً عنهم، فسيصيبهم أذى أو ضرر، ويعتقدون أن الزيارة ستفتح أبواب الرزق أمامهم، بل وتغمرهم بسعادة بالغة.

        ومنهم من كان مريضاً جاء لطلب الشفاء، أو من كانت عاقراً وعقيماً تأمل في تحقيق أملها بإنجاب طفل، وفريقاً آخر يبحث عن الترفيه والسياحة وقضاء وقت ممتع ، وهم الفئة الشبابية .

        وهناك نمط آخر من الزوار يهدف للتسويق والتجارة سواء بالبيع أو الشراء. وبالإضافة إلى ذلك: هناك الجمع الغفير من أتباع الطرق الصوفية، هدفهم إحياء الذكرى ونوال البركة ونشر طريقتهم الصوفية.

        أما عن المشاركة بين المسلمين والأقباط فهي قديمة جدّاً؛ إذ إن التاريخ يذكر أن ابن طولون كان يقيم الولائم وكان المسلمون يحتفلون بالأعياد القبطية مشاركة للأقباط، وسار على نهج الطولونيين الإخشيديون في الاحتفال بأعياد النصارى.

        ولا تزال هذه المشاركة موجودة حتى عصرنا الراهن! ومن أغرب الأمور بهذا الصدد؛ أن مولداً يقام سنوياً باسم مولد سيدي أبو حصيرة، وهو يقام عند ضريح لرجل يهودي بهذا الاسم، وتأتيه كل عام وفود كبيرة من السياح اليهود من إسرائيل، وتقام حراسة مشددة لحماية الاحتفال حتى ينفض!!

        ويجدر بالذكر هنا الإشارة إلى الأثر النصراني واليهودي في هذه الموالد، حيث تكاد تتطابق أشكال طقوس احتفالات أعياد الميلاد والموالد للقديسين والأولياء النصارى واليهود مع ما يحدث في موالد الأولياء المسلمين.

        وفي السودان يتم الاحتفال بالمولد النبوي في صورتين: 

        الصورة الأولى: الاحتفال في الميادين والساحات، وقد تأصل هذا النوع من الاحتفالات حتى خصصت لها ميادين معينة، عرفت بميادين المولد؛ ففي كل مدينة ميدان يسمى ميدان المولد الكبير، وهو ساحة متسعة مخصصة لهذا الغرض، وتلتقي فيه كل الطرق الصوفية المشتركة في الاحتفال بالمولد، وتتم المشاركة فيه بعد الحصول على تصديق رسمي من الدولة يتم بموجبه السماح للطريقة المعينة بنصب سرادقها في المكان المخصص لها في ساحة المولد، وعمل تجهيزاتها اللازمة لها.

        وتقوم كل طريقة بعمل الأذكار التي تخصها والمدائح المتعلقة بالمولد، كما تتم قراءة الكتب المؤلفة في المولد النبوي في شكل حلقات تشبه حلقات تلاوة القرآن، وعند مرورهم بمواطن معينة في هذه الموالد المؤلفة يقف الحاضرون اعتقاداً منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر عند ذكر ولادته، ويرددون في صوت واحد عبارة: مرحبا بالمصطفى يا مرحبا.

        وفي بعض المواضع من القراءة يضعون الأيدي على الرؤوس، وفي مواضع أخرى يضربونها أو يوجهونها نحو الأرض عند الاستعاذة من بعض الأمراض أثناء قراءة المولد. وفي المولد يضربون أيضاً على الطبول الكبيرة "النوبة" التي تصدر أصواتاً قوية، ويرددون معها القصائد الملحنة كنوع من الذكر الذي يُتقرب به إلى الله .. وكل هذا مع الحركة والاضطراب الشديد، وربما دار أحد الدراويش على رجل واحدة وهو "يترجم"، أي: يصدر أصواتاً لا تفهم، فيوصف بأنه غرق في الذكر.

        ويزداد الزحام في الليلة الأخيرة، ويكون الناس في هذه الساحات خليطاً من الرجال والنساء، وقد شاهد أحد الباحثين  في أحد الموالد نساءً يصفقن ويتحركن مع رجال يضربون هذه الدفوف "النوبة" حتى انتهين إلى أحد السرادقات المقامة وهن يصفقن على أصوات المديح، ويتحركن على صوت ضربات الطبول، إلى أن يستقبلهن شيخ ممسك بمسبحته وهو يهز رأسه استحساناً لهذا الصنيع.

        أما الصورة الثانية للمولد: فهي الاحتفال به في المساجد والزوايا الخاصة: وفيها يتم قراءة كتاب المولد المؤلف لكل طريقة، وإطعام الطعام لا سيما في الليلة الختامية، ويكون صبيحة هذه الليلة عطلة رسمية في البلاد بمناسبة ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن ماذا عن حالة المولد فيما مضى؟

        يصف المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي أحد الموالد على عهده منذ حوالي مئتي عام، فيقول: "ينصبون خياماً كثيرة، وصواوين، ومطابخ، وقهاوي، ويجتمع العالَم الأكبر من أخلاط الناس، وخواصهم وعوامهم، وفلاحي الأرياف، وأرباب الملاهي والملاعب والغوازي والبغايا والقرادين والحواة، فيملؤون الصحراء والبستان، فيطؤون القبور، ويبولون ويتغوطون، ويزنون ويلوطون ويلعبون ويرقصون ويضربون بالطبول والزمور ليلاً ونهارا"ً([48]).

        فالموالد ما هي إلا فرصة للتحلل من كل الضوابط والتفلت من كل القيود سواء أكانت أخلاقية أو شرعية أو حتى تنظيمية، حتى أصبحت كلمة "مولد" تطلق على المواقف التي تشيع فيها الفوضى وعدم الانضباط. فالمولد أصبح مجال حياة الناس في الترويح عن أنفسهم ومكاناً للهو والرقص والغناء الساقط. فليس هذا خاصاً ببلد دون آخر، بل هو موجود حيثما كانت قبورية وأينما كانت موالد أو احتفالات أو أعراس للأضرحة.

من الأسباب التي أدت إلى ظهور المقامات والأضرحة

1-     دور الباطنية والشيعة في بناء وتقديس القبور والمقامات:

        قال شيخ الإسلام: "ولم يكن في العصور المفضلة "مشاهد" على القبور، وإنما كثر بعد ذلك في دولة بني بويه لما ظهرت القرامطة بأرض المشرق والمغرب، وكان بها زنادقة كفار مقصودهم تبديل دين الإسلام، وكان في بني بويه من الموافقة لهم على بعض ذلك.

        ومن بدع الجهمية والمعتزلة والرافضة ما هو معروف لأهل العلم، فبنوا المشاهد المكذوبة كمشهد علي وأمثاله. وفي دولتهم أُظهر المشهد المنسوب إلى علي بناحية النجف، وإلا فقبل ذلك لم يكن أحد يقول: إن قبر علي هناك، وإنما دفن علي بقصر الإمارة بالكوفة.

        فعندما بدأت المحدَثات تدب في حياة المسلمين، كان منها ذلك الأمر الجلل؛ فظهرت بدعة التشيع التي هي مفتاح باب الشرك، ثم لما تمكنت الزنادقة أمروا ببناء المشاهد وتعطيل المساجد. ورووا في إنارة المشاهد وتعظيمها والدعاء عندها من الأكاذيب ما لم أجد مثله فيما وقفت عليه من أكاذيب أهل الكتاب، حتى صنف كبيرهم ابن النعمان كتاباً في "مناسك حج المشاهد"، وكذبوا فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته أكاذيب بدلوا بها دينه، وغيروا ملته، وابتدعوا الشرك المنافي للتوحيد، فصاروا جامعين بين الشرك والكذب"([49]).

 

        وعلى ذلك يتضح أن الذين بذروا بذورَ شرك القبور كانوا شيعة، وهذا ما تؤكده لنا عالمة الآثار الدكتورة سعاد ماهر فهمي عندما تسرد أوائل الأضرحة ذات القباب، فتقول: ".. ويليها من حيث التاريخ: ضريح إسماعيل الساماني المبني سنة 296 هـ في مدينة بخارى، ثم ضريح الإمام في النجف الذي بناه الحمدانيون سنة 317 هـ، ثم ضريح محمد بن موسى في مدينة قم بإيران سنة 366 هـ ، ثم ضريح السبع بنات في الفسطاط سنة 400هـ ، وقد احتفظت لنا جبّانة أسوان بمجموعة كبيرة من الأضرحة ذات القباب التي يرجع تاريخ معظمها إلى العصر الفاطمي في القرن الخامس الهجري"([50]).

        فبدايات تعظيم القبور واتخاذها مشاهد وأضرحة ارتبطت تاريخياً بأسماء: القرامطة، وبني بويه، والفاطميين "العبيديين"، والسامانيين، والحمدانيين.

 وجميعهم شيعة وإن تفاوتوا في درجة الغلو .

        كما أن مكانة القبور والأضرحة "المقدسة"! غير قابلة للمساومة في دين الشيعة؛ فطائفة البهرة الإسماعيلية من غلاة الرافضة ذات نشاط واسع في عمارة وتجديد المساجد ذات الأضرحة بحجة الاهتمام بالعمارة الإسلامية، وبخاصة في مصر.

        والقبر الأول الذي يحظى بحج الجماهير في دمشق وهو القبر المنسوب إلى السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ما زال مكتوباً عليه إلى الآن: قام بعمارة البناية الضخمة عليه والمسجد حولها والقبة المزخرفة: محمد بن حسين نظام وأولاده من طائفة الشيعة.

        وأيضاً فإن أصحاب الأضرحة الكبرى ممن ينسب إلى التصوف هم في الحقيقة من غلاة الشيعة الباطنية؛ حيث من العراق انطلق أحد أتباع الرفاعي إلى مصر، وهو أبو الفتح الواسطي جد إبراهيم الدسوقي لنشر دعوتهم الباطنية بها، وقد كان ذلك في العهد الأيوبي، وبعد موت الواسطي جاء البدوي ليخلفه في دعوته تلك، وقد توزع هؤلاء الدعاة في مصر، فكان الدسوقي بدسوق وأبو الحسن الشاذلي بالإسكندرية، و أبو الفتح الواسطي ما بين القاهرة وطنطا والإسكندرية، ولما مات الواسطي حل محله البدوي بطنطا، وجميعهم من فلول العبيديين الذين طردهم صلاح الدين الأيوبي من مصر، ثم حاولوا العودة تحت ستار التصوف والزهد.

        كما أن كلاّ من ابن بشيش وابن عربي قد تتلمذا على يد أبي مدين بالمغرب.

        وفي أواخر عهدهم أنشأ الفاطميون المشهد الحسيني عام 550هـ عندما شعروا بأن سلطتهم قد ضعفت ليجذبوا إليهم المصريين، وعهدوا إلى ابن مرزوق القرشي (564هـ) تربية مريدي الصوفية، فانتظم أتباعه في طوائف وطرق لنشر الدعوة الشيعية؛ إلا أن هذه التنظيمات انهارت بانهيار الدولة الفاطمية وتحول المشهد الحسيني إلى ضريح صوفي([51]).

2-     الصوفية وارتباطهم بتقديس الأضرحة والقبور:

        أصبح تقديس القبور والأضرحة لازماً من لوازم الطرق الصوفية؛ بحيث لا يتصور أحد وجود طريقة صوفية من غير ضريح أو أكثر تقدسه.

        فعلى سبيل المثال الدولة العثمانية زاد توغل واتساع الطرق الصوفية في تلك الدولة في مراحل انحدارها، مما كان له أثره الضار على شرائح كبيرة من المجتمعات الإسلامية التابعة لها في مصر والشام وبلاد المغرب والحجاز والعراق وغيرها، وزاد الطين بلة أن السلاطين العثمانيين كانوا يتخذون من مشايخ الطرق خاصة الطريقة النقشبندية مرجعية دينية، فظلت للصوفية هيمنتها وسيطرتها على العامة من الناس، وظلت للخرافة والبدع بذلك تأثيراتها عليهم.

        استمر هذا حتى بعد سقوط الدولة العثمانية، حيث احتضنت سلطات الاحتلال الأجنبي الطرق الصوفية في البلاد التي بسطت سلطانها عليها.

        وعمل بعض أولئك على رد الجميل للمحتلين، فكانوا يضفون الشرعية على وجودهم ويسوّغون للناس بقاءهم، ووصل الأمر إلى أن بعض مشايخ الصوفية في مصر، قاموا بجمع توقيعات أثناء ثورة 1919م تطالب ببقاء الإنجليز في مصر! وكان من هؤلاء شيخ الطريقة السمانية: محمد إبراهيم الجمل.

        لقد أدرك الإنجليز أن الطرق الصوفية تلعب دوراً مهماً من خلال مزاولة أنشطتها بين الطبقة العامة من الشعب، فالصوفية بدعوتها الظاهرية إلى الزهد وترك مباهج الحياة والانصراف عن الدنيا، يمكن أن تضفي الصبغة الدينية على موقف الخنوع والخضوع للمحتل الأجنبي بخلفيات قدرية اتكالية استسلامية، ولهذا حرصت سلطات الاحتلال في مصر وغيرها على إطلاق يد الطرق الصوفية في ممارسة أنشطتها، وقد ساعد على ذلك سيطرة سلطات الاحتلال على وزارة الداخلية مما مكنها من السيطرة على تلك الطرق ومعرفة تحركاتها وأساليبها وتوجيهها إلى الوجهة التي تضمن للمحتل خدمات أكثر.

        سنأخذ من مصر مثالاً على العلاقة بين السياسة والخرافة، وسنرى أنه كان في مصر كما في بلاد كثيرة غيرها ذلك الحلف غير المقدس بين هاتين القوتين.

        لقد كانت الصوفية في عهد الملكية المصرية، تضفي طابعاً دينياً على المناسبات المتعلقة بالحكام، حتى تلك المناسبات الخاصة منها؛ فكان مشايخ الطرق يعدون العدة مثلاً للاحتفال بعيد ميلاد الملك، الذي يبدأ من صلاة الفجر بالمواكب التي تجوب الشوارع بالرايات والشارات، وكانت المشيخة العامة تصدر منشوراً عاماً يوزع على الطرق في هذه المناسبة، وتتصل بمأموري المراكز لحماية تلك المواكب، وكانوا كذلك يحرصون على إحياء الذكريات الحزينة لوفاة من يموت من الأسرة الملكية ، كذكرى اليوم السابع ويوم الأربعين، والذكرى السنوية الأولى والثانية والثالثة ...إلخ.

        وكانت بعض الطرق الصوفية بدورها تتلقى المكافأة على تلك المداهنة إلى حد يوصلها إلى المنزلة والقربى بل تتعداها أحياناً إلى السطوة والسيطرة على ساحة التوجيه.

        ومن الأمثلة الصارخة على هذا، أن الملك فؤاد عندما تطلع إلى تولي منصب (الخلافة) في أعقاب إلغاء الخلافة العثمانية في تركيا، صدّر لهذه المهمة الشيخ محمد ماضي أبو العزايم أحد مشايخ الطرق المشهورين في مصر في ذلك الوقت .. ولكن جهود الملك لإعلان نفسه خليفة لم تكلل بالنجاح بعد ذلك، لأسباب كثيرة منها تخلي أبي العزايم نفسه عن هذه الدعوة لصالح الملك فؤاد، وانتهى الأمر بوفاة الملك دون أن يحقق هذا الأمل.

        وجاء بعد فؤاد ابنه فاروق، وظلت آمال أبيه تداعبه، ومن أجل ذلك سعى لدى نقيب الأشراف في مصر في ذلك الوقت علي أحمد البيلاوي كي يبحث له عن أية وسيلة للربط بين أسرة محمد علي "الألبانية" التي جاء منها فؤاد وفاروق وبين النسب النبوي الشريف!! وبالفعل شكل نقيب الأشراف هذه اللجنة وكان صوفياً وجعل تلك اللجنة تحت إشرافه، وفي عضويتها جمع من مشايخ الطرق وبعض الأزهريين والشخصيات العامة وكان الهدف المعلن من تشكيل اللجنة إثبات نسب الأسرة المالكة بالنسب النبوي الشريف.

        لم تكن الحكومات فقط هي التي تستعمل الصوفية مستغلة لها في كل أغراضها، بل كذلك كانت الأحزاب السياسية المعارضة، حتى ذوات الصبغة العلمانية منها.

        فحزب الوفد العريق في علمانيته، كان يعتمد على بعض الطرق الصوفية لحشد التأييد الشعبي له، وكان من هذه الطرق "الطريقة البغدادية" وشيخها سيد عفيفي البغدادي، واستل أيضاً "الطريقة العفيفية" وشيخها عبد العزيز عفيفي، وهذه الطريقة تولى مشيختها بعد وفاة شيخها أحد أعضاء حزب الوفد وهو أحمد الساكت، وقد بذل زعيم الوفد مصطفى النحاس جهوداً لترشيح عضو الوفد أحمد الصاوي شيخاً لمشايخ الطرق الصوفية بمصر! ولما انتهى العهد الملكي في مصر، كان لضباط الثورة مواقف خاصة بهم لضمان ولاء الطرق الصوفية لهم.

        لقد كانت الثورة تنظر نظرة عدائية لأي نشاط إسلامي حر، باستثناء الطرق الصوفية؛ حيث اعتبرتها أداة لفريق الثورة الذي كان يستهدف فرض الاشتراكية الإلحادية لا في مصر وحدها ، بل في المحيط العربي كله.

        وأصبح للطرق الصوفية مجلة تصدر عن مجلسهم الأعلى، وكانت شبه ناطقة باسم الحكومة، ومسوّغة لكل إجراءاتها الثورية الاشتراكية.

        لقد اتسع انتشار الصوفية في بدايات عهد الثورة، حتى إن المجلس الصوفي الأعلى لم يكن بمستطاعه وحده أن يشرف على أنشطة الصوفية، فدفعت السلطة بحزبها السياسي الوحيد في ذلك الوقت وهو "الاتحاد الاشتراكي" لكي يستغل احتفالات ونشاطات الصوفية ليوزع المنشورات ويطلق الشعارات وربما الشائعات للدعاية للنظام.

        وظلت السلطة مستمرة في دفع عجلة الصوفية للأمام على حساب الاتجاهات الدعوية الأخرى، حتى إنها صدّرت رجلاً من رجالها وهو "أحمد رضوان" وأقحمته لرئاسة مشيخة الطريقة "الخلوتية" التي كان تدعيم الحكومة لها أكثر من غيرها.

        ولما توفي الشيخ الحكومي سنة 1967م، بُني له ضريح، ونُسجت حوله الأساطير، وأسندت إليه الكرامات، والخواراق والمعجزات، التي ربما لم يُسمع عنها لغيره، وربما لم يعلم هو عنها شيئاً طيلة حياته.

        وقد استمر الدعم الحكومي للطرقية بعد عهد عبد الناصر، حتى أصبحت الطرق الصوفية التي تقرب من الخمسين طريقة، هي النشاط الديني الوحيد التابع لرئاسة الجمهورية رأساً، وله ميزانيته الخاصة في الدولة.

        وإمعاناً في تسويغ الصوفية وتلميع رموزها، تم تعيين أستاذ جامعي في منصب شيخ مشايخ الطرق الصوفية وهو أبو الوفا التفتازاني واعتبرت الصوفية هذا تكريماً زائداً لهم وعدّوه رداً كافياً على خصومهم الذين يتهمون الطرقية باللاعصرية والجهل مقارنة بالجماعات الإسلامية الأخرى.

        وهكذا أخذت الخرافة والدجل والشعوذة باسم الدين طابعاً "أكاديمياً" وإلى الله المشتكى!

3-     تقديس الرمز:

        تقديس الرمز واتخاذه واسطة أو وسيلة لقضاء الحاجات وللشفاعة عند الله:

        جاء في الرسالة (42) من رسائل إخوان الصفا (4/21) قولهم: "من الناس من يتقرب إلى الله بأنبيائه ورسله وبأئمتهم وأوصيائهم أو بأولياء الله وعباده الصالحين، أو بملائكة الله المقربين والتعظيم لهم ومساجدهم ... فإن قصر فهمه ومعرفته بهم فليس له طريق إلا اتباع آثارهم والعمل بوصاياهم والتعلق بسننهم والذهاب إلى مساجدهم ومشاهدهم والدعاء والصلاة والصيام والاستغفار، وطلب الغفران والرحمة عند قبورهم وعند تماثيلهم المصورة على أشكالهم، لتذكار آياتهم وتعرف أحوالهم من الأصنام والأوثان وما يشاكل ذلك، طلباً للقربة إلى الله والزلفى لديه".

        ومما نقله الشيخ محمد رشيد رضا عن كتاب لأحد دعاة القبور: "وكل ما في الأمر أنه - أي: المتوسّل بغير الله - يرى نفسه ملطخاً بقاذورات المعاصي، أبعدته الغفلات عنه _ أي : عن الله - أيما إبعاد، فيفهم من هذا أنه جدير بالحرمان من تحقيق مطالبه وقضاء حاجاته، وله الحق في هذا الفهم".

        وهكذا هي في مكنون تراثهم الشعبي؛ فإذا استطلعنا الأمثال الشعبية المصرية كنموذج لهذا التراث في العالم الإسلامي نجد منه قولهم: "من زار الاعتاب ما خاب"، أي: من زار الأضرحة والأعتاب المقدسة قضيت حاجته ونال مراده. فالاعتقاد الشعبي في الأولياء يتلخص في أن الله قد منح بعض عباده المقربين امتيازات لا حدود لها يكوّنون حول الرسول ديواناً سماوياً ينشر قدرته.

  ونجد في هذا التراث أيضاً: "يوضع سره في أضعف خلقه"، والمفهوم من كلمة "سره" أنها القدرة المستندة إلى أسباب غيبية ومحيرة، وأضعف خلقه مقصود بهم: المجانين والمجاذيب والأطفال.

        وكذلك هي في واقعهم؛ يقول أحدهم: "إن الوهابيين يقولون: إن أولياء الله لا يستطيعون دفع الذباب عن قبورهم، ولكنهم لا يعلمون أن لهم قدرة أن يقلبوا العالم كله، ولكنهم لا يتوجهون إلى ذلك".

        ونقلوا عن محمد الحنفي أنه قال في مرض موته: من كانت له حاجة فليأت إلى قبري، ويطلب حاجته أقضها له([52]).

        فالاعتقاد السائد: أن البركة إنما تسري من الولي إلى الضريح إلى المناديل والملابس التي مسحت بها، والأغرب من ذلك: ما يحدث عند تغيير كسوة الضريح وعمامة الولي الخاصة، هنا يسعى الجميع للحصول على قطع من هذه الكسوة أو العمامة مع استعدادهم لسداد أي مبلغ يطلب منهم.

        وذكر المؤرخ الحضرمي صلاح البكري: أن بعض المرضى يأكلون من تراب بعض تلك القبور طلباً للشفاء .

        وتقول إحدى الفرق في قبر شيخها: إن قبره ومزاره دار الشفاء للمرضى، وأنه حلاّل المشاكل، ومسهّل الأمور، وقاضي الحاجات، وإن المرضى كانوا يستشفون من عيسى، ولكن أحمد رضا يحيي الأموات!.

        والمسألة في حقيقتها: اعتقاد في تأثير الأرواح؛ فإنهم قالوا: الميت المعظم الذي لروحه قرب ومزية عند الله تعالى لا يزال تأتيه الألطاف من الله تعالى وتفيض على روحه الخيرات؛ فإذا علق الزائر روحه به وأدناه منه: فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية والماء ونحوهما على الجسم المقابل له.

        يقول الشيخ أخلاق حسين القاسمي، أحد أبناء طائفة الديوبندية الصوفية: إن أرواح المؤمنين وخاصة أرواح الأولياء والصالحين قادرة على التصرف في هذا الكون بعد مفارقة الأجساد([53]).

        وهذا ما يشهد به واقعهم: فالناس في الأردن يسمّون المقام ولياً؛ لأن أرواح الصالحين تقطن في ذلك البناء، بل يزعمون أن أرواح الأولياء تسكن في القبور حيث يرقد جثمانها، وهي كالبشر في جميع احتياجاتهم من أكل وشرب، فيدّعون أن الرياح والثلوج تؤثر بهم، والجوع يفنيهم([54]).

        وينقل الشيخ محمد رشيد رضا عن أحد دعاة القبورية قوله: إن الدعاء والاستغاثة بالموتى وبالأحياء من هؤلاء الأحباب سواء؛ لأن الموتى منهم أحياء في قبورهم يفعلون أفعال الأحياء فيها وفي خارجها. ويقول آخر: إن تصرف الأولياء يزداد بعد وفاتهم. 

        فالقبوريون أمام قبر الولي يركعون ويبكون ويتوسلون إليه، معتقدين أن الولي ينظر إليهم ويراهم، وأن روحه الطاهرة تحوم حولهم.

        ومما يؤكد اعتقاد القبوريين في تأثير أرواح الأولياء بالتصرف أن كثيراً من هؤلاء المقبورين كانوا في معظم حياتهم (غير فعالين) في الخوارق، ووجد  القبوريون فيهم ذلك بعد مماتهم؛ فالشيخ عبد الله في معان بالأردن عاش بالصلاح والتقوى وكان خطيباً ينذر القوم بالوعد والوعيد، فلم يجد في عشيرته من يعي كلامه ويحفظه، فلما استوفى أيامه أظهر الله كراماته بشفاء كثير على ما زعموا.

        بل وصل الأمر إلى حد أن الأكراد عظموا شريفاً صالحاً مر عليهم في سفره، ولحبهم فيه أرادوا قتله ليبنوا عليه قبة يتوسلون بها.

        وهكذا هي في التراث الشعبي، فمن الأمثال الشعبية المصرية: "بعد ما راح المقبرة بقى سكّره" أي: أصبح مرغوباً فيه مثل السكر .. فما الفرق بين الحياة والممات إلا في انفصال الروح عن الجسد؟!.

        وهذا ما يقرره أحد مشائخ القبوريين، الذي يقول: إن صاحب هذا القبر شيخنا محمد إلياس يوزع النور الذي ينزل من السماء في قبره بين مريديه حسب قوة الارتباط والتعلق به([55]).

        فكلما توغل القبوري في غيّه كلما حرص على إبراز قوة الارتباط والتعلق بالضريح وشدة تعظيمه وغلوه فيه، وفي ذلك قال ابن الرومي في "شرح المختار": قد قرر الشيطان في عقول الجهال أن الإقسام على الله بالولي والدعاء به أبلغ في تعظيمه، وأنجح لقضاء حوائجه، فأوقعهم بذلك في الشرك ، وعلى ذلك فقد يقسم الأعرابي بالله دفعات متوالية على أنه يخشى أن يذكر اسم شعيب بالكذب مرة واحدة؛ لأنه مظهر الأسرار وموضح الخفيّات.

        وعندما سئل أحد التجار: لماذا يقسم بصندوق ضريح القرية، ولا يقسم بالله عندما يحاسب زبائنه؟ أجاب: إنهم هنا لا يرضون بقسم الله، ولا يرضون إلا بقسم صندوق نذور الضريح أو سور الضريح لسيدنا فلان.

        فهل هذا إلا للتعظيم والإجلال والرهبة وتعلق القلب بالضريح وصاحبه؟  وأحوالهم في ذلك عديدة: فمقام النبي هارون بالأردن: يهجع الزائر المؤمن تحت ظله فيشعر بما لا يوصف من المسرة والحبور، وتزور المرأة العاقر مقام النبي يوشع حافية خاشعة، وتجثو أمام الضريح وتقبله بدموع وتضرع .. ومنهن من يرقدن الليالي الطويلة بين أسواره بالصوم والصلاة ثم يغادرنه وفي أنفسهنّ الآمال والمسرات.

        ويلخص هذا التعلق أبو الثناء الآلوسي عندما يصف موقفاً مر به في إحدى زياراته للأضرحة والمزارات، فيقول: حتى أتينا قرية يقال لها قارحين وهناك قبر عليه قبة ثلجية قد زرناه فلم نحس منه بروحانية.

        ويقول البريلوي أحمد رضا المسمي نفسه بعبد المصطفى: إنني لم أستعن في حياتي بأحد ولم أستغث بغير الشيخ عبد القادر، وكلما أستغيث أستغيث به، ومرة حاولت أن أستغيث وأستعين بولي آخر، وعندما أردت النطق باسمه للاستغاثة والاستعانة ما نطقت إلا بـ (يا غَوْثاه)، فإن لساني يأبى أن ينطق الاستعانة بغيره([56]).

        وهذا الموقف النفسي يرصده شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عندما يتحدث عن تفرق القبوريين حسب تمسك كل منهم بالضريح الذي تتوق نفسه إليه، فيقول: "ولهذا كان المتخذون القبور مساجد لما كان فيهم من الشرك ما فيهم قد فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، فتجد كل قوم يعظمون متبوعهم أو نبيهم، ويقولون: الدعاء عند قبره يستجاب، وقلوبهم معلقة به دون غيره من قبور الأنبياء والصالحين وإن كان أفضل منه، كما أن عباد الكواكب والأصنام كل منهم قد اتخذ إلهه هواه، فهو يعبد ما يألهه وإن كان غيره أفضل منه".

        وهكذا هي في تراثهم الشعبي، فيقول المثل الشعبي: "الشيخ البعيد سره باتع"، أي: صاحب الضريح البعيد سره مؤكد مقطوع به، والبعد: مسألة نسبية، فالبعيد بالنسبة إلى هؤلاء قريب لغيرهم، والقريب إليهم الذي لا يرغبونه بعيد عن غيرهم، فما الذي يجعل الضريح البعيد مرغوباً أكثر من غيره؟ إنه شوق القلب وحنينه الذي يساعد البعد في تولده. وهذا ما يعبرون عنه في مثل آخر يقول: "ابعد حبة - بعض الشيء - تزيد محبة". فتعلق القلب رغبة ورهبة ومحبة تجعل آمال وآلام الزائرين لا تمضي إلى أي ضريح بالمصادفة، ولكن شهرة الولي واختصاصه بالشفاعة، والبعد المكاني، لهم تأثير كبير في قصد الزيارة ؛ فالضريح الذي نتكبد إليه مشاق السفر يصبح أكثر جذباً ورهبة من ذلك الضريح القريب المتاح زيارته في أي وقت.

4-     إشباع رغبة وفطرة التأله:

        إن الذي حمل عبّاد القبور على كل ذلك وحمل غيرهم على نظيره هو إشباع (التأله) لدى قلوبهم المحرومة من التأله للإله الحق؛ وهذا ما يقرره الإمام ابن تيمية رحمه الله حين يقول: "ومن لم يكن محبّاً مخلصاً لله، عبداً له، قد صار قلبه معبّداً لربه وحده لا شريك له، بحيث يكون الله أحب إليه من كل ما سواه، ويكون ذليلاً له خاضعاً، وإلا استعبدته الكائنات واستولت على قلبه الشياطين. وهذا أمر ضروري لا حيلة فيه؛ فالقلب إن لم يكن حنيفاً مقبلاً على الله معرضاً عما سواه، كان مشركاً"([57]).

        ويقرر ذلك أيضاً تلميذه الإمام ابن القيم رحمه الله، حين يقول: "العبد لا يترك ما يحبه ويهواه إلا لما يحبه ويهواه، ولكن يترك أضعفهما محبة لأقواهما محبة"([58]).

        وهذا ما تقرره أيضاً الدراسات الإنسانية الحديثة، فقد أيدت دراسات الأنثربولوجيا "علم الإنسان" و"علم الأديان" أن الحاجة إلى الدين موجودة عند جميع الناس في كل العصور وفي جميع المجتمعات، فالإنسان منذ القدم وهو يبحث عن إله يعبده، ويتوسل إليه، يعتقد أنه قوي مسيطر على الكون، خالق كل شيء، حي لا يموت([59]).

        وهذه الفطرة حقيقة أجمع عليها الباحثون في تاريخ الأمم والأديان والحضارات، فقد وجدوا الإنسان منذ أقدم العصور يتدين ويتعبد ويؤمن بإله، حتى قال أحد كبار المؤرخين: لقد وُجدت في التاريخ مدن بلا قصور، ولا مصانع، ولا حصون، ولكن لم توجد أبداً مدن بلا معابد.

        وهذه الغريزة هي التي أضفت على (الرمز) حتى عند أهل الإلحاد أشكال المهابة و(القداسة)، ففي ظل نظام كالنظام الشيوعي الذي لا مكان للدين في فكره العلمي، اصطبغ الإيمان بالمادية الديالكتيكية بصبغة الحماس الديني، واتخذت الاجتماعات والاستعراضات سمة الاحتفالات والمواكب الدينية، وأحيط واضعو النظرية ومؤسسو الدولة بهالة دونها هالة القديسين والرسل؛ فهم يوصفون بالخالدين، أو بالشمس التي لا تغرب، وها هي تماثيلهم الضخمة وصورهم وقد حلت مكان التماثيل الدينية والأيقونات تطل على الجماهير في الساحات وكافة المباني العامة، وعلى الأفراد في مساكنهم الخاصة، وها هي قبورهم وقد تحولت إلى مزارات مقدسة تحج إليها الملايين، وتصطف الصفوف خارجها لساعات من أجل إلقاء نظرة، أما كتبهم فهي بمثابة الكتب المقدسة، من قبيل التجديف أن ينسب إلى فكرة فيها الخطأ، بل ويبيت البعض ليلهم؛ كالحرس الأحمر في الصين، وهي إلى جوارهم أو تحت وسائدهم حتى تصرف الشرور عنهم!.

        ويؤيد القول بأن دافع إشباع التأله هو الذي يحرك القبوريين عدة أمور، منها:

        أولاً: إن بعض طقوس القبوريين تعتبر امتداداً لعادات وثنية كانت سائدة في أجدادهم قبل الإسلام، وأول هذه العادات: تقديس الأولياء، تلك العادة التي لقيت رواجاً سريعاً وعميقاً في نفوس المصريين لارتباطها بطبيعتهم منذ فجر التاريخ، ففكرة تشييد المساجد الجميلة فوق أجساد الموتى وتقديسهم تتصل بجذور الفكر الديني المصري منذ العصر الفرعوني، ولا سند لها في القرآن والسنة.

        وعلى ذلك نرى أن الطقوس التي كانت تقام داخل معبد الأقصر للإله (آمون) في عصر الفراعنة هي الطقوس ذاتها التي تتبع في مولد "أبي الحجاج الأقصري" والذي يقع ضريحه داخل معبد الأقصر نفسه، وأهم ظاهرة في هذا المولد: تلك المراكب التي يجرها جموع المريدين وسط صيحات التكبير والتهليل، مما يلقي بظلاله على ما كان يحدث في المهرجانات الدينية في عصور الفراعنة؛ حيث كان لمعظم الآلهة عدد من القوارب التي تلعب دوراً رئيساً في طقوس الاحتفالات الدينية، وإلى الآن يستمر هذا التقليد في مولد أبي الحجاج الأقصري، على الرغم من تأكيد أهالي الأقصر على أن هذه القوارب مرتبطة بمجيء أبي الحجاج من مكة، أو بحجه إليها، كما يتماثل أيضاً في مولد عبد الرحيم القنائي الذي أقيم قبره على طلل معبد إله من آلهة قدماء المصريين.    ولعل منشأ كل ذلك عائد إلى التقديس الخاطئ للرموز الإسلامية إضافة إلى القياس الفاسد على من كانوا يعظمونهم في جاهليتهم، فقد يبدأ الأمر بالرغبة في تعظيم الرمز الإسلامي والزعم بأن الأولياء ليسوا بأقل من الذين كانوا يعظمونهم في جاهليتهم، فيعظمونهم بمثل ما كانوا يمارسونه مع معبوداتهم الوثنية.

        ومن أمثلة ذلك أيضاً: ضريح الشيخ "هلال" المقام على قبر مزعوم قرب دمشق، حيث كان القدماء يعبدون "القمر" .. وكذلك: فإن عبادة الأشجار معروفة في الوثنيات القديمة والحديثة، وقد ظهر التأثر بهذا الانحراف الوثني عند القبوريين إما في صورة شجرة قائمة إلى جوار الضريح، وإما بزعم أن روح الولي المقبور تسكن فيها، وكثيراً ما يحظر قطع الأشجار المحيطة بقبر الولي.

        ثانياً: إن بعض هذه الطقوس تعتبر طقوساً مشتركة بين القبوريين وأصحاب الديانات الأخرى، يقول الشيخ محمد رشيد رضا معقباً على ما ادعاه أحد مشايخ القبورية في تسويغ اتخاذ القبور والأضرحة واسطة للشفاعة: هذا عين ما كان يحتج به المشركون الأولون وحكاه الله تعالى عنهم وهو ما يفعله بعض النصارى عند قبور القديسين.

        ويقول أيضاً: ولا تظنوا أن الهندوس ليس عندهم كهنة يتأولون لهم بدعهم الوثنية كما تأول هذا العالم الأزهري. واحتج لهم بأنهم كأنجاس الهند المنبوذين ، ليس لأحدهم أن يتقرب إلى الله تعالى بنفسه، بل لا بد له من أحد هؤلاء المعتقدين ليقربه إليه زلفى.

        ويقول الشيخ أبو الحسن الندوي: وكل ما كان يدور حول قبور الأولياء والمشايخ كان تقليداً ناجحاً للأعمال والتقاليد التي كانت تنجز في معابد غير المسلمين وقبور المقدسين عندهم؛ فالاستغاثة منهم والاستعانة بهم، ومدّ يد الطلب والضراعة إليهم، كل ذلك كان عاماً شائعاً بينهم.

        ويذكر الشيخ محمد رشيد رضا صورة من هذا التشابه، فيقول: في بنارس في الهند قبر أبي البشر آدم عليه السلام وقبر زوجه وقبر أمه! ويقال: إنهم يعبرون بأمه عن الطبيعة وقبور قضاته، وهي تحت قباب مصفحة بالذهب كقبة أمير المؤمنين علي في النجف وقباب غيره. وجميع هذه القبور تعبد بالطواف حولها والتمسح بها وتلاوة الأدعية والأوراد عندها كغيرها من تماثيل معبوداتهم، مع الخشوع وبذل الأموال والنذور لها ولسدنتها وكهنتها، فلا يحسبن الجاهل بالتاريخ وبعقائد الملل والنحل أو التعبدات فيها أن علماء وثنيي الهند يعتقدون أن هذه الأشياء تنفع وتضر بنفسها، وأنهم ليس لهم فلسفة في عبادتها.

        ومن الطرائف ذات المغزى في هذا المعنى أن شريف مكة "الشريف عون" عندما استجاب للشيخ أحمد بن عيسى في هدم جميع القباب بالحجاز، اعترض القناصل الأجانب في جدة على هدم قبر حواء، بحجة أن حواء أم لجميع الناس وليست أمّاً للمسلمين فقط([60]).

        فحقيقة الأمر: أن ما يفعله القبوريون عند القبر والضريح هو بعينه الذي تفعله الجاهلية الوثنية، وإنما كانوا يفعلونه لما يسمونه وثناً وصنماً، وفعله القبوريون لما يسمونه ولياً وقبراً ومشهداً، والأسماء لا أثر لها ولا تغير المعاني.

        ثالثاً: إن الاهتمام بالقبور والتوجه إليها تجاوز حواجز الملل والمذهبيات والفرق ليشكل طقساً مشتركاً من طقوس التدين الباطل يجتمع عليه القبوريون مع إخوانهم في التأله للمقبورين؛ ففي كثير من الأحيان يمارس القبوريون هذه الطقوس بالاشتراك مع غيرهم ممن أشرنا إليهم.

        ولأن النصارى يعيشون بين المسلمين أكثر من غيرهم من أهل الديانات الأخرى فقد ظهر هذا الاشتراك جليّاً منذ القِدَم، فقد ثبت أن منشأ الأضرحة الموهومة والمكذوبة كان واحداً عند النصارى والقبوريين، وهو "أضرحة الرؤيا"، إلا أن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل أخذ شكل الاشتراك العملي في ممارسة الطقوس والعبادات؛ فشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يذكر أن كثيراً من جهال المسلمين ينذرون للمواضع التي يعظمها النصارى، كما قد صار كثير من جهالهم يزورون كنائس النصارى ويلتمسون البركة من قسيسيهم ورهابينهم ونحوهم.

        وكثير من (موالد) النصارى ليست مقصورة عليهم، بل يشارك فيها كثير من جهلة المسلمين، وهذا أمر ليس بمستغرب، فهم يذهبون أيضاً لبعض القساوسة ليخلصوهم من الأرواح الشريرة! وكما تتردد بعض القبطيات على أضرحة الأولياء؛ لتحقيق أمنية بالحمل، وتنذر نذراً إن تحققت أمنيتها. 

        وأيضاً فإن بعض النصارى يشارك جهلة المسلمين في الاعتقاد في ضريح الشيخ أبي الحجاج الأقصري كما تقدم.

        ومثل ما توضع الرسائل في أضرحة الأولياء وخاصة ضريح الإمام الشافعي توجد أوراق وأقلام على قبر البابا كيرلس السادس وغيره، لمن يرغب في تحقيق أمنية أو رجاء منه، ويوضع في مدخل الكنيسة أو الدير صندوق للنذور، كذلك توهب الأضاحي التي تذبح هناك.

        والأهالي على اختلاف مللهم ومذاهبهم وطبقاتهم يزورون مقام النبي يوشع في أكبر الأعياد الإسلامية وأيام المصائب والنكبات.

        ويحكي الأستاذ عبد المنعم الجداوي عن تجربة شخصية له كيف أن إحدى قريباته عندما مرضت أصر أهلها على الطواف بها على بعض الأضرحة والكنائس أيضاً.

        فما الذي جعل هؤلاء يشاركون أولئك إلا أنهم جميعاً وجدوا في القيام بتلك المظاهر إشباعاً لدافع واحد يجمعهم هو: التدين  أو التأله؟

        رابعاً: من أوضح الأمور التي تدل على أن الدافع لدى القبوريين هو إشباع التأله في قلوبهم: تعلقهم بمشخصات لا علاقة لها بالأولياء مطلقاً، بل هي أنصاب وأوثان صريحة، يصرفون إليها مشاعر المحبة والخوف والرهبة والرجاء. فإضافة إلى ما زعمه القبوريون من القبور المكذوبة على أصحابها، والقبور المنسوبة إلى صحابة وأولياء مزعومين ليس لهم وجود في السيرة والتاريخ .. هناك القبور الموهومة التي ليس بها أي دفين، فلقد وُجِدت بعض الأضرحة الوهمية التي لا يوجد بها جثمان لأحد المشايخ، بل عبارة عن هيكل أو كوم من الطوب تحت قبة توارث الناس الاعتقاد فيها، وتفيد محافظ المجلس الصوفي عن حالة كهذه، واتضح أنه ليس هناك شيخ، بل هناك كوم تراب يدعونه الناس سيدي فرج.

        ولأن أمر هذه القبور المكذوبة والموهومة أصبح شائعاً، ولأن الأمر ليس في حقيقته إلا إشباع التأله في القلوب، فقد قرروا ذلك في صراح ، فقال أحدهم: ولا يحتاج أن يطلب دليل وسند لصحة نسبة هذه الآثار إلى أصحابها، ويكفي أن تكون نسبتها مشهورة بين الناس.

        وقال الآخر: وعلى كل حال فلا بأس من زيارته - أي القبر - على من توهم من وجوده، فالمهم أنه يجب علينا التسليم في ذلك كله، واعتقاد تعظيم القبور المذكورة بما يعد تعظيماً، وبكل ما يليق من الاحترام، ولو على تقدير توهم الصحبة.

        ليس هذا فحسب، بل وصل الأمر إلى أَضْرَحة "دواب الأولياء"، ففي اللاذقية بسورية حضرة يقال إنها مدفن الفرس التي كان يركبها الولي المغربي، لا تزال حتى اليوم تزار وتبخر، فالقبوريون عباد كل ضريح حتى لو ثبت عدم صحة نسبة الضريح إلى صاحبه أو كان الضريح لدابة أو ثبت عدم وجود قبر أصلاً.

        وما دام الأمر كذلك، فما الفرق بين كوم تراب وحجارة أو أخشاب أو نحاس أو أي شيء من المخلوقات؟ لا فرق، المهم وجود السر والتوجه إلى صاحبه! وهذا ما أوقع القبوريين في وثنية صريحة لا خفاء فيها ولا مواربة.

        ففي الهند يأخذون قليلاً من التراب من مكان ما، ويعطونه حكم نعش الإمام الحسين، ويضعونه على مكان مرتفع كصُفّة وغيرها، ثم يقدمون له كل يوم أنواعاً من الشراب والحلاوة، والزهور والعطور وغيرها، ولا يسمحون لأحد أن يمر بتلك الصفة متنعلاً، ويسجدون لذلك التراب الذي أعطوه حكم قداسة جنازة الحسين، ويطلبون منه المال والأولاد.

        ولقد شاهد الشيخ محمد رشيد رضا بعض الرجال والنساء من العامة في مسجد (الحسين) بالقاهرة يطوفون بعمود من الرخام، ويتمسحون به التماساً للبركة وتقرباً إلى (السيد البدوي)! معتقدين بأنه يجلس بجانب هذا العمود عند زيارة جده الحسين، ومنهم من يزعم أن روح السيد ترفرف دائماً هناك.

        وفي نابلس بفلسطين عمود حجري كان مقدساً قبل الإسلام فوجد من يطلق عليه بعد انحراف الناس عن دينهم الحق: قبر الشيخ العمود.

        وفي أوزبكستان أوقع الفراغ الروحي الذي خلفته الشيوعية الناس هناك في التعلق بأي شيء (مقدس)، وهذا ما دعاهم إلى ترتيب عملية سطو منظمة للظفر بقطعة من كسوة الكعبة، ومن ثم: جلبوها إلى بلادهم ووضعوها في إطار زجاجي علق في فناء المسجد؛ ليأتي الناس للتمسح والتبرك بها، كما يتبركون ويتمسحون هناك أيضاً بصورة الكعبة!

        بل ويتزاحم الناس في مولد البدوي بمصر حول حمار يأتي به دراويش الطريقة الشناوية إلى قبر السيد، فيتسابقون لنزع شعرات من جسمه يصنعون منها الأحجبة، وهذا بالضبط ما كان قدماء المصريين يفعلونه بهذا الحيوان! إلى غير ذلك من مظاهر لا يقبلها عقل رشيد ولا دين صحيح.

5-     أئمة الضلال ومشايخ السوء:

        حضور المشائخ الداعين بأقوالهم أو أفعالهم إلى القبورية لهذه الأماكن وعدم إنكارهم لما يحدث فيها، بل مشاركتهم في طقوسها في أحيان كثيرة فتنَ كثيراً من الدهماء.

        فمما يذكره الجبرتي بعد وصف المنكرات التي تحدث في أحد الموالد (مولد العفيفي): "ويجتمع لذلك أيضاً الفقهاء والعلماء، ويقتدي بهم الأكابر من الأمراء والتجار والعامة من غير إنكار، بل ويعتقدون أن ذلك قربة وعبادة، ولو لم يكن كذلك لأنكره العلماء، فضلاً عن كونهم يفعلونه".

        يقول محمد أحمد درنيقة: وهذه الأمور كانت تجري في بيت الله ويراها ويسمعها العلماء الذين لا يفعلون شيئاً للتخلص من هذه الانحرافات، لا، بل  ذهب بعض العلماء إلى تهنئة هذه الفئة بهذا الموسم الشريف والدعاء لهم بأن يطول بهم العمر لإحياء مثله أعواماً عديدة.

        يرى رشيد رضا أن هذا السكوت من قِبَل العلماء قد أوقع في ذهن العامة أن هذه الأعمال وأضرابها من مهمات الدين.

        ومن المواقف المعاصرة العديدة في ذلك: أنه قد زعم الخليفة الحالي للسيد البدوي في مولد عام 1991م: أن السيد البدوي موجود معك أينما كنت، ولو استعنت به في شدتك وقلت: يا بدوي مدد، لأعانك وأغاثك! قال ذلك أمام الجموع المحتشدة بسرادق وزارة الأوقاف في القاهرة أمام العلماء والوزراء، وقد تناقلته الإذاعات وشاشات التلفاز.

        ليس هذا فحسب، بل تؤلف الكتب في الدعوة إلى ذلك، ويتواطأ العلماء في إقرارها، فقد ذكر رشيد رضا أن أحد المنسوبين للعلم ألّف كتاباً يدعو فيه إلى ذلك التوجه المنافي للحنيفية، وواطأه على ضلاله وإضلاله عالماً أزهرياً كما ادع ، وذكر أسماءهم وإمضاءات أكثرهم بخطوطهم، وبناء على هذا أنه انعقد الإجماع؛ لأن سائر علماء الأزهر يوافقونهم فيه، وأنه يجب على جميع المسلمين اعتقاده والعمل به([61])

        والأمر تجاوز التنظير والتسويغ ليصل إلى الممارسة الفعلية كما يقوم بها أي خرافي، فهذا أحد المشايخ الكبار في عهد إسماعيل باشا كتب شكوى ضده وأرسلها بالبريد إلى طنطا، ومنها إلى قبر السيد البدوي، حيث تقوم محكمته داخل قبره! 

        ولما وقع صراع بين الأحناف والشوافع حول مشيخة الأزهر بسبب تعيين أحد مشايخ الأحناف شيخاً للأزهر، هرع الشوافع بقيادة الشيخ محمد بن الجوهري الشافعي إلى ضريح الإمام الشافعي، ولم يزالوا فيه حتى نقضوا ما أبرمه العلماء والأمراء وردوا المشيخة إلى الشافعية!([62]).

        وانظر إلى إنكارهم لأي شيء وقع؟! فعندما صودر أولاد سعد الخادم وهم سدنة ضريح السيد البدوي هاج العلماء في الأزهر وامتنعوا عن التدريس إنكاراً لمن قام بمصادرته، ولم يعودوا إلا بعد أن طيبت خواطرهم ووعدوا بتلبية رغبتهم.

        ثم انظر إلى إقرارهم على أي شيء وقع؟

        ذكر الشيخ رشيد رضا أنه كان مرة في قبة الإمام الشافعي، وكان ثَمّ جماعة من أكابر علماء الأزهر وأشهرهم، فأذن المؤذن العصر مستدبراً القبلة، فقال لهم: لِمَ لم يستقبل هذا المؤذن القبلة كما هي السنة؟ فقال أحدهم: إنه يستقبل ضريح الإمام! وذكر أيضاً أنهم لا ينكرون على من يستقبل قبر الإمام في صلاته.

        ثم هم لا يسكتون على من يقوم بواجب إنكار المنكر حقيقة، بل ينكرون على من ينكر المنكر الشركي، كما حدث حين اعترض الواعظ الرومي (التركي) في سنة 1711م،  وأبدى رأيه في اعتباره زيارة الأضرحة وإيقاد الشموع والقناديل على قبور الأولياء وتقبيل أعتابهم من قبيل الكفر، بل وطالب بهدم الأضرحة والتكايا، فثار عليه مشايخ الأزهر الصوفية وأصدروا فتوى بكرامات الأولياء وتوسطوا لدى الحاكم السياسي حتى نفاه.

        فما الذي يحمل هؤلاء (العلماء) على تلك الممارسات؟ يحملهم على ذلك ما يحمل غيرهم من دهماء القبوريين:  فهم يرون أن ذلك من شعائر الدين، حتى إن أحد علماء الأزهر كتب مقالاً يقول فيه لمنكر وجود السيدة زينب في هذا القبر ووجود رأس الحسين في القبر المنسوب إليه: إنك جئت تفجأ المسلمين في اعتقاداتهم المقدسة النبوية، فإنك تريد أن تطيّر البقية من دينهم.

        وهم يعتقدون في القبور والأضرحة وأصحابها الضر والنفع، تماماً مثلما يعتقد الدهماء والعامة من القبوريين.

        ويبين رشيد رضا أن الذي دفع العلماء إلى السكوت عن هذه الأمور خوفهم من الوقوع في قضية إنكار الكرامات أو الاعتراض على الأولياء الذي يخشى معه أن يلحقوا بهم الأذى والضرر.

        وليس أدل على ذلك من أنه في أيام حكم السلطان المملوكي جقمق قيل لأحد العلماء أن يفتي بإبطال مولد البدوي لما يحدث فيه من زنا وفسق ولواط وتجارة مخدرات، وما يشيعه الصوفية من أن البدوي سيشفع لزوار مولده، فأبى هذا العالم أن يفتي، قائلاً ما معناه: إن البدوي ذو بطش شديد([63]).

        فإذا كان هذا هو حال شريحة من العلماء المقتدى بهم، فماذا يُنتظر من العامة والدهماء؟ إن الذي يعرض منهم عن السماع للعلماء الربانيين ويتخذ مثل هؤلاء قدوة وأسوة فلا بد أن يتخبط من مس الخرافة والأوهام.

6-     العوامل النفسية:

        يرتبط بما سبق بعض الأسباب النفسية التي تعمل على انتشار تقديس القبور والأضرحة واستمراره، حيث يمثل الخوف منها الذي نتج عن الاعتقاد فيها حاجزاً لمنع هدم الأسطورة التي قامت عليها، وكذلك تمثل المسرة والحبور الناتجين عن الاعتقاد فيها أيضاً أحد المرغبات في استمرار هذا الكيان.

        وهذا ما يذكره الأستاذ عبد المنعم الجداوي عن تجربته القبورية: "شيء آخر أشعل في فؤادي لهباً يأكل طمأنينتي في بطء أن الدكتور الذي يدعوه إلى الكفر بهذه الطقوس الوثنية يضعني في مواجهة صريحة ضد أصحاب الأضرحة الأولياء، والخطباء على المنابر صباح مساء يعلنونها صريحة: إن الذي يؤذي ولياً فهو في حرب مع الله سبحانه وتعالى، وأنا لا أريد أن أدخل في حرب ضد أصحاب القبور والأضرحة؛ لأنني أعوذ بالله من أن أدخل في حرب معه جل جلاله".

        وعن أحد أسباب عشقهم يقول: "لأني أحب أشعارهم، وأحب موسيقاهم وألحانهم التي هي مزيج من التراث الشعبي، وخليط من ألحان قديمة متنوعة، أو ناي مصري حزين ينفرد بالأنين مع بعض أشعارهم التي تتحدث عن لقاء الحبيب بمحبوبه. وكل حجتي التي أبسطها في معارضة الدكتور أنه وأمثاله من الذين يدعون إلى التوحيد لا يريدون للدين روحاً، وإنما يجردونه من الخيال!  ولعل ذلك الخيال الذي كان يريد للدين أن يسبح فيه هو ما عبّر عنه بقوله: أحياناً أخترع لهم كرامات، أو أتصورها، أو أتخيلها".

        وهنا تلعب الإشاعات ونسج الأكاذيب دوراً مهماً في بناء العامل النفسي؛ فالصوفية دأبوا على تحذير الناس من غضب الأولياء، وقد صاغوا هذه الأفكار المخيفة في صورة حكايات مرعبة حول رجال لهم سمعتهم العلمية ومكانتهم الفقهية اعترضوا على الصوفية فأذاقهم طواغيتهم من العذاب الأليم ألواناً، وليس هذا الإرهاب النفسي مع العلماء والفقهاء فقط، فمع أن الحكام من المماليك كانوا يسيرون في ترهات أباطيل الصوفية ويقيمون لهم الخوانق والرباطات والزوايا، فلم تخل قصص التخويف من تخويفهم، وأطلقوا على البدوي لقب: العطاب).        فإذا كان هذا الحال هو ما يشاع بين العلماء والحكام فما بالنا بما يروج بين دهماء الناس ويؤثر على نفسيتهم المستسلمة لهذا الداء؟ 

        لننظر إلى بعض الصور: فأهالي الإسكندرية بمصر يتحدثون بكثرة عن الكرامات التي تحدث لضريح أبي الدرداء، ويذكرون على سبيل المثال ما حدث عندما أرادت بلدية الإسكندرية سنة 1947م نقل الضريح إلى مكان آخر. وبدأت فعلاً في تنفيذ المشروع، ولكن واحداً من العمال الذين يعملون في نقل الضريح توقفت يداه وأصيب بالشلل! فامتنع باقي العمال عن العمل. واضطرت البلدية أن ترضخ لاعتقاد العامة وأبقت الضريح كما هو([64]).

        ومما رصده الشيخ رشيد رضا بخصوص هذه الظاهرة أنه شاع لدى العامة أن من تعوّد على حضور هذه الموالد أو على إنفاق شيء فيها، ثم امتنع عن قيامه بعادته تلك: لا بد أن يصاب بنكبة أو مصيبة. فماذا لو تم بالفعل إبطال أحد الموالد؟!

        حدث أن السلطان جقمق أبطل مولد البدوي لما فيه من الوثنيات الموبقات والفواحش بين الرجال والنساء، وحدث لبعض المقيمين بإبطال هذا المولد ابتلاء لهم، فمنهم من عزل من منصبه، ومنهم من أمر السلطان بنفيه، ومنهم من وضع في السجن، فأشاع الصوفية أن كل ذلك من عمل البدوي؛ لأنه غضبان عليهم، فآلة الحرب النفسية الصوفية تعمل على كل حال.

        وهناك بعد آخر في العامل النفسي، وهو أن أضرحة الأولياء تمثل للعامة تعويضاً وهميّاً لانتصارها أوقات الاستبداد والتسلط السياسي؛ فالإنسان المقهور يكون بحاجة إلى قوة تحميه تجسدت في الأولياء، فهم المحامون والملاذ؛ ويتضح هذا جليّاً في كرامات الأولياء؛ فهي تشكل النقيض تماماً لوضعية الإنسان المقهور، وحيث ترسم صورة الإنسان المتفوق ضد الإنسان المهان واقعياً، وتجسد أماني المغلوبين في الخلاص من خلال وجود نموذج الولي صاحب الخوارق الذي يفلت من قيود الزمان والمكان، ولذا: نرى أن الجماهير المقهورة تتجمع حول أضرحة الأولياء كما يتجمع أعضاء حزب معين حول شخص زعيمهم.

7-     دور النساء في استفحال داء القبور والأضرحة:

        لوحظ من خلال متابعة الواقع وتتبع الوقائع أن للنساء دوراً ملحوظاً في ترويج تقديس القبور والأضرحة والمزارات، نشأةً وارتياداً؛ فأم الخليفة العباسي المنتصر هي أول من أنشأ قبة في الإسلام، ويذكر أن الخيزرانة أم هارون الرشيد هي أول من كسا الحجرة النبوية الشريفة، وصارت من بعدها سنة الملوك والسلاطين، ويذكر أيضاً أنها أول من حوّل البيت الذي ولد فيه الرسول إلى مسجد، كما قامت والدة السلطان العثماني عبد العزيز بترميم قبب مسجد الزبير بن العوام بالبصرة وتكبيره.

        ويسجل الشيخ أحمد بن عبد الأحد السرهندي الملقب عند الحنفية بالإمام الرباني ومجدد الألف الثاني ظاهرة كثرة ارتياد النساء للقبور والأضرحة في الهند فيقول: وأكثر النساء مبتليات بهذا الاستمداد الممنوع عنه بواسطة كمال الجهل فيهن، يطلبن دفع البلية من هذه الأسماء الخالية عن المسميات، ومفتونات بأداء مراسم الشرك وأهل الشرك، خصوصاً وقت عروض مرض الجدري، بحيث لا تكاد توجد امرأة خالية من دقائق هـذا الشرك إلا من عصمها الله تعالى.

        كما لوحظ أيضاً تخصيص بعض الأضرحة والمزارات بالنساء، كمزار بنات العين بالأردن الذي يعرف بـ "المستشفى النسائي"، وضريح الشيخة مريم التي اشتهرت ببركتها في الشفاء من العقم، وضريح الشيخة صباح بطنطا التي اشتهرت بالبركة ذاتها! ... إلى غير ذلك من الأضرحة والمزارات الخاصة بالنساء، بينما لم يبلغ علمنا اهتمام الرجال بتخصيص أضرحة تقتصر عليهم وحدهم أو يزعمون أن لها ميزات تخصهم دون غيرهم.

        ولعل ذلك راجع إلى طبيعة نفسية النساء التي تغلب عليها العاطفة والانبهار بالمظاهر، كما يتعاظم فيهن الإحساس الفطري بالضعف البشري وحاجتهن إلى قوة خفية تجبر هذا الضعف، ولعل لهذا السبب أيضاً جاء في السنة النبوية تخصيص النساء بالزجر الشديد عن أن يكن زوارات للقبور، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لعن زوارات القبور))([65])، وورد فيهن كذلك أنهن أكثر أتباع الدجال. فيكون أكثر من يخرج إليه النساء، حتى إن الرجل ليرجع إلى حميمه وإلى أمه وابنته وأخته وعمته فيوثقها رباطاً مخافة أن تخرج إليه)([66]).

8-     العوامل الاجتماعية:

        حيث تمثل المسايرة الاجتماعية والمجاملات دوراً مهماً في انتشار هذا الداء وعدم الانخلاع عنه، وهذا ما يسجله الأستاذ عبد المنعم الجداوي في تجربته أثناء خروجه من الاعتقادات القبورية، وذلك عندما وجد نفسه في صراع بين ما اعتقده من خطأ هذه الاعتقادات الباطلة وما يمليه عليه الواجب الاجتماعي من ضرورة مجاملة ابنة خالته وأسرتها، بمشاركته لهم في الوفاء بنذر تقديم "القربان" إلى السيد البدوي؛ حتى يعيش ابنهم الوحيد كما يعتقدون.

        ويدخل في هذه العوامل أيضاً: صفة الهيبة والوجاهة الاجتماعية التي يخلعها تقديس القبور والأضرحة على سدنتها وخدمها والقائمين عليها، مما يصعب معه إلا على من رحم الله الاعتراف بخطأ الاعتقادات والممارسات التي تقام وتنسج حول هذه الأضرحة؛ الأمر الذي يعني تخليهم عن هذه المكانة التي أكسبتها لهم الأضرحة والقبور، فلقد كان سادن الضريح سيداً مطاعاً وشخصاً مهاباً، يستمد طاعته وهيبته من الضريح الذي يقوم على سدانته. وكانت سدانة الأضرحة وظيفة متوارثة يرثها الأبناء عن الآباء، وتنتقل في عقبهم وذراريهم، ولا ينزعها منهم إلا ظالم كما يزعمون، ولم تكن لتنزع من أسرة إلا ليعهد بها إلى أسرة أخرى.

        ويدخل في هذه العوامل كذلك: التفاخر بين أهل القرى والمدن والمحلات بهذه القبور والأضرحة؛ حيث يعتبر المعتقدون فيها أن وجود ضريح وخاصة إذا كان من ذوي الشهرة والمكانة من دواعي فخرهم بين أهل البلاد الأخرى.

        يقول الغزي بعد أن ذكر الخلاف في دفين الجامع الأموي بحلب: وعلى كل حال فليس يخلو الجامع من أثر شريف نبوي جدير أن تفتخر حلب بوجوده.        ومن هذا الوجه أيضاً: الاهتمام بالأضرحة باعتبارها آثاراً وتراثاً تاريخياً ينبغي عدم تضييعه، فالدكتورة سعاد ماهر ترثي وتأسف لحال ضريح ذي النون المصري، حيث تقول: والضريح في مكان مهجور خرب وبحالة سيئة للغاية، ومكانه بجوار مسجد سيدي عقبة بن عامر بجبانة الإمام الليث، وإني أناشد وزارة الأوقاف أن تعيد بناء ضريح أول صوفي في مصر الإسلامية، بل ومن أبرز متصوفي الرعيل الأول في العالم الإسلامي كله.

        فكيف بعد هذا كله يستمعون لمن يقول لهم: إن بقاء هذا الكيان عار على عقيدتهم ودينهم وعقولهم؟

9-     العوامل الاقتصادية:

        ونستطيع أن نطلق عليها: المنافع المادية، وهذه المنافع ظهرت مصاحبة لهذا الداء، فمنذ القدم استعمل الشيعة القبور والأضرحة والعتبات المقدسة وسيلة للتكسب والعيش، مثل الفاتحة والقصاص، وجعلوا شعارهم لزوم المشاهد والقبور، وعندما راجت هذه التجارة وازدهرت ظهر من يبتكر للناس أصنافاً من هذه الأضرحة لزيادة دخله.

        وهذا ما يذكره ابن تيمية رحمه الله، حيث يقول: "حدثني بعض أصحابنا أنه ظهر بشاطئ الفرات رجلان، وكان أحدهما قد اتخذ قبراً تجبى إليه أموال ممن يزوره وينذر له من الضلال، فعمد الآخر إلى قبر، وزعم أنه رأى في المنام أنه قبر عبد الرحمن بن عوف، وجعل فيه من أنواع الطيب ما ظهرت له رائحة عظيمة".

        واستمرت هذه البضاعة رائجة عند أهل الوهم والدجل حتى أضحى استمرار تقديس القبور والأضرحة ضماناً لاستمرار تدفق مورد رزق مهم لكثير من فئات المنتفعين بترويج هذا الداء.

        ويقف على رأس هؤلاء المنتفعين: سدنة الأضرحة وخدمها والقائمون عليها، فقد مثّلت هذه الأضرحة مراكز حضرية جذابة، مما دعا الأهالي إلى بناء مساكن حول الأضرحة، وأصبحت الأضرحة بذلك وسط المدن والقرى توحي للسكان باستمرار هذه العادات.

        ومن أهم العادات التي تبعت هذه العادة: تقديم النذور والصدقات، وهو أمر أثّر في مزيد من الإقبال على العمل في هذه الأضرحة، فصناديق النذور شكّلت وعاءً استثمارياً مهماً لمروجي الخرافة، ومما يوضح أهمية هذا المورد بالنسبة للمجلس الصوفي وكافة الطرق التابعة له أيضاً؛ الموقف الشديد الذي وقفوه ضد المفتي حين أصدر فتوى شرعية ببطلان النذور شرعاً، واعتبار الباب الثالث من لائحة الطرق الصوفية الذي يقر ويبيح هذه النذور مخالفاً للشرع والدين.

        وهذا الأمر يدعو البعض لتفسيره بأنه دفاع عن مصالح طبقية أكثر من كونه دفاعاً عن مبادئ شرعية.

        ومن الموارد المهمة أيضاً: الصدقات التي كان يمنحها أصحاب الجاه والقادرون سواء أكان عطاؤها سراً أم جهراً، وسواء أكانت عينية أم نقدية .

        ليس ذلك فحسب، بل يضاف إلى ذلك الموارد الرسمية كالأوقاف التي كانت توقف على هذه الأضرحة وخدامها وسدنتها، والإعانات المالية والعينية التي تصرف لهم من وزارتي الأوقاف والشؤون الاجتماعية، وهكذا صار لهذه الأضرحة ألوف من السدنة يعيشون في رغد وثراء من ورائها، وكانوا يتوارثون هذه الوظائف.

        ويكفي أن تعلم أن ما كان يصل إلى ضريح الجيلاني في السنة من أموال الزائرين، يفوق ما كانت تنفقه الدولة العثمانية على الحرمين الشريفين في السنة الواحدة أضعافاً مضاعفة.

        والأمر لا يقتصر فقط على الأوقاف والصدقات والنذور التي يدفعها المعتقدون في الأضرحة لدفع الضرر عن أنفسهم أو لشكر نعمة، والتي تمثل المصدر الرئيس لهذا الدخل، بل يتعداه إلى كل الطرق الموصلة إلى المال بما فيها الاحتيال على السذج المعتقدين في هذه الأضرحة، فعند تغيير كسوة الضريح وعمامة الولي يمزقون الكسوة والعمامة القديمتين إلى قصاصات صغيرة، وهنا تظهر العملية التجارية غير الرسمية التي يقوم بها خدم المسجد، فيبيعون هذه القصاصات نظير مبالغ كبيرة، وبالطبع يتم ذلك وسط تهافت هـؤلاء المعتقدين في الأضرحة للحصول على أي بركة من (ريحة) الولي، وربما لأجل مثل هذه النشاطات وغيرها ذكر الجبرتـي عن سدنة الأضرحة أنهم أغنى الناس!

        ويتحدث الدكتور زكريا سليمان بيومي عن أهمية فئة خدام الأضرحة باعتبارها مركز ثقل دعائي واقتصادي للطرق الصوفية فيقول: "فئة خدام الأضرحة، التي تشكل أكبر فئة من حيث العدد والأهمية الاجتماعية والاقتصادية بالنسبة للطرق الصوفية، فهم بمثابة مراكز متناثرة في كل مصر لنثر أساليب هذه الطرق والدعوة لها، ويروجون للاعتقاد في الأولياء بكل مراتبهم، ويكثرون من ذكر كراماتهم وخوارقهم، مدفوعين إلى ذلك بدافع الانتماء للطرق من خلال عملهم، وبدافع أساسي وهو أن هذه الأضرحة تمثل مصدر معيشتهم".

        وكانت هذه  الأضرحة تستوعب عدداً كبيراً من الخدم، فمن الممكن أن نجد أسرة كاملة تخدم في ضريح واحد، ولم تكن هذه الوظيفة مقصورة على الفقراء والمحتاجين، بل كانت لما تدره من دخل كبير مغرية لفئات متعددة؛ فنجد مشايخ طرق كبيرة يسعون لهذه الوظيفة، بل ويفضلونها أحياناً على مشيخة الطرق. فكيف يهدمون بأيديهم الكيان الذي يغلون من وراء إقامته مصدر دخلهم ورغد عيشهم؟ لا بد أنهم سينافحون بكل ما يملكون لاستمرار هذا الكيان، إلا من رحمه الله ولفظ من قلبه حب الدنيا وشهواتها.

        ومن المنتفعين باستمرار وجود كيان الأضرحة والقبور آلاف من الفقراء الذين يتعيشون بجوار الأضرحة ويستفيدون من الموالد، وهذا أمر واضح عياناً بياناً، لاحظه الباحث في كل الأضرحة التي زارها، وخاصة الحسين والسيدة زينب، ولقد كان الفلاحون يحرصون على المشاركة في الولائم التي تقام حول الضريح، حيث يقصدون بها استجلاب البركة. كما أن هناك مئات الأسر التي تتعيش على استمرار الأضرحة من خلال المقاهي والمطاعم والفنادق وغيرها من الخدمات المنتشرة حول كل ضريح، إضافة إلى السيارات ووسائل المواصلات التي تغدو وتروح على حساب الزوار.

        ومن الموارد المهمة التي ارتبطت بتقديس القبور والأضرحة ما يجري في الاحتفالات والموالد التي تقام لهذه الأضرحة التي اعتبرها رجال الصوفية مواسم للإرشاد وتعليم الآداب الاجتماعية والدينية، وكمدارس شعبية للوعظ والإرشاد الديني، ولكنها تحولت إلى بؤر متحركة لنشر المفاسد والانحرافات، وقد تعددت هذه الموالد وكثرت حتى إنها لم تكن تقام أحياناً بمناسبة تاريخ وفاة صاحب الضريح أو مولده، وكان يصادف أحياناً أن تقام في مواسم الحصاد.

        ونادراً ما كان يحدث مولد لشيخين في ليلة واحدة إلا إذا كانت المسافة بينهما بعيدة حيث كان مشايخ الطرق يحرصون على ترتيب هذه الموالد بحيث يتمكنون من الانتقال بينها، وقد كانت ليالي الموالد تصل في بعض الأحيان إلى شهرين ونصف، يصاحبها نشاط وافر لفئام من المنشدين والمداحين والمشببين الذين يحيون هذه الموالد بشتى أنواع الاحتفالات، ومنها ما يطلقون عليه "الذكر"، وقد اعتاد من يحضر "الذكر" أو يمارسه أو يشاهده خصوصاً في السرادقات المقامة أمام المسجد من أن يقوم بدفع "النقوط"، وهي المبالغ التي تدفع للمنشد لتشجيعه على حسن الأداء، وهي في هذه المناسبة تعتبر تحية لولي الله نفسه، حيث يعتقد بأن هذه النقوط هدية ترد إلى مقدمها من جانب الولي صاحب المولد، سوف يردها في شكل آخر، فينعم عليه بكثير من الهبات التي تتمثل في زيادة الدخل ووفرة المحصول وسداد الديون.

        أما النشاطات الأخرى: فـيبدو الجامع كتلة من الأنوار المبهرة، وتنتشر السرادقات حوله في ساحته وفي المنطقة المحيطة به، وتظل المطاعم والمقاهي تستقبل روادها طوال (24) ساعة، ومع غروب الشمس ليس هناك موطئ لقدم، ضجيج الميكروفونات يتصاعد من جميع السرادقات.

        روائح البخور والعطارة والشواء تتضوع في الأجواء، شوادر الحمص والحلوى بأنواعها تشارك بالإعلان عن بضاعتها في الضجيج العام، باعة الشاي على الأرصفة، وباعة المسابح والطراطير الملونة ولعب الأطفال فهي أنشطة حياتية متكامل.

        وهذا ما أكده علي مبارك باشا، فيقول: "وفي هذه الموالد ما لا يخفى على أحد من المزايا والمنافع، كمنفعة من يكترى منهم الدواب أو المراكب أو سكة الحديد للمضي إليه والانصراف عنه، ومنفعة من يكون فيه من الفراشين والطباخين وغيرهم من أرباب الحرف والصناع وأصحاب الدور التي تكترى والأشياء التي تشترى، ثم ما يكون فيه من سعة التجارة، فإنا نرى كثيراً من التجار في طنطا وغيرها من سائر مدن مصر يعلقون أداء ديونهم وقضاء بعض شؤونهم على هذا المولد".

        وبالطبع، فخلف كل نشاط جمهور من المنتفعين الذين يحرصون على استمرار هذه الموالد التي تقام حول الأضرحة ضماناً لتدفق مورد رزقهم.

        وأخيراً، فإن من العوامل الاقتصادية لاستمرار تقديس القبور والأضرحة اهتمام بعض الدول بهذه الأضرحة باعتبار ما تدره الأنشطة المرتبطة بها وحصيلة صناديق نذورها والأوقاف التي توقف عليها أحد الموارد الاقتصادية للدولة التي بها مثل هذه الأضرحة.

10-      العوامل السياسية:

        حرص كثير من الحكام والسياسيين من قديم الزمان على توظيف الدين أو المظاهر الدينية في توطيد أركان حكمهم واستمرار نظمهم السياسية أو الترويج لها، وهكذا التقت مصالح السياسيين مع مصالح القائمين على الخرافة التي ألبسوها الدين كذباً وزوراً.

        يقول الباحث عمار علي حسن:

        "واستعراض تاريخ مصر منذ الفراعنة وحتى الوقت الراهن يشير إلى أن كل مرحلة خلقت لنفسها الوسائل التي تجذب الجماهير من طقوس دينية وفلكلور شعبي ... الخ، وذلك لدعم النظام السياسي القائم والتمكين لوحدة المجتمع واستقراره، وقد التقى الحكام مع أصحاب النفوذ الديني وغيرهم على هذه القاعدة، وكان المتصوفة من أصحاب السبق في هذا المضمار خاصة بعد الفتح الإسلامي لمص ، فالإسلام كدين لم يكن طيعاً في يد الحكام ليستخدموه في الأغراض السياسية؛ لذا بحثوا عن الرجال الذين يطوعون لهم النصوص لتتوافق مع مسلكهم في الحكم".

        وقد ظهر التوظيف السياسي للخرافة بارزاً في عصر دولة العبيديين الذين أطلقوا على أنفسهم لقب الفاطميين؛ حيث كثرت الأضرحة وما صاحبها من طقوس واحتفالات تهدف إلى تدعيم حكمهم، حيث تعددت الاحتفالات بالموالد وكثرت؛ وكانت الوظيفة المستهدفة والمقصودة هي العمل على نشر الدعوة الفاطمية والهاء الشعب عن التغيير الديني الذي يحدث في البلاد، واستخدمت من الوسائل والأساليب ما يساعد على تحقيق هذه الوظيفة واستمالة الشعب لحب الفاطميين.

        وقد استمر الهدف من إقامة الموالد لأسباب سياسية في عصر الأيوبيين والمماليك رغم اختلاف الظروف الاجتماعية.

        ولكن يبدو أن إدراك الأيوبيين لأهمية هذا العنصر في الترويج للفاطميين دعاهم إلى إدخال تغيير نوعي في هذه الاحتفالات، وهذا ما دعا الباحث عرفة عبده علي إلى القول:

        "في عصر الدولة الأيوبية، أبطلت كل مظاهر الاحتفالات الدينية، فقد كان السلطان صلاح الدين يوسف يهدف إلى توطيد أركان دولته لمواجهة ما يتهددها من أخطار خارجيـة واقتلاع المذهب الشيعي بمحو كافة المظاهر الاجتماعية التي ميزت العصر الفاطمي، ولا شك أن هذا السبب السياسي هو أحد الأسباب التي دعت صلاح الدين إلى محاربة هذه البدع، ولكن لا تظن أنه السبب الوحيد. واستمر هذا التوظيف حتى من حكام وسياسيين غير منتسبين للإسلام".

        ولقد ذكر الجبرتي في أخبار الحملة الفرنسية على مصر أن الجنرال مينو وقف يعدد للمصريين ما أداه لهم نابليون من الخدمات، وما كان في نيته أن يؤديه لهم، فقال: وكذلك كان مراده يا مشايخ ويا علماء أن يسفر الحج الشريف هذه السنة، ويفتتح زيارة طنطا لأجل حفظ مقام السيد أحمد البدوي"([67]).

مظاهر الدعم السياسي

        إذا نظرنا إلى مظاهر التوظيف السياسي للأضرحة والقباب رأينا أنها كثيرة، تشمل: إنشاء القباب والأَضرحة وتشييدها، وإعمار الأضرحة وإصلاحها وتزيينها وإكرامها وتسهيل زيارتها وتنظيم الاحتفال بها، والمشاركة الفعلية في هذه الاحتفالات. وإليك بعض بيان لذلك:

        فعن إنشاء القباب والأضرحة وتشييدها يذكر الباحث على حسن أنه "في أوقات الحروب والمحن أدرك الحكام أن الناس يلوذون بالأضرحة طلباً لرفع البلاء، فتوسعوا في بنائها بدعوى أنها تنفيذ لرؤيا في منامهم".

        وما زال هذا الانحراف عن السنة من أكبر الشبهات التي يدلي بها القبوريون حتى اليوم.

        وعلى ذلك مضت سيرة كثير من الملوك والأمراء والولاة، فأول من بنى ضريحاً على قبر السيدة نفيسة بالقاهرة هو عبيد الله بن السري بن الحكم والي الأمويين على مصر.

        وأول من أنشأ قبة على قبر النبي صلى الله عليه وسلم هو السلطان قلاوون الصالحي، بناها على حجرة النبي صلى الله عليه وسلم سنة 678 هـ .

        والسلطان سليم هو الذي بنى القبة التي على قبر ابن عربي بدمشق، وكانت من قبل كهفاً موحشاً، والمسجد الموجود حالياً على قبر السيدة سكينة في القاهرة يرجع إلى عهد الأمير عبد الرحمن كتخدا سنة 1173هـ .

        أما إعمار الأضرحة بالإصلاح والتزيين والإكرام، فنذكر منه بعض ما يدل على المقصود من الدعم السياسي للقبورية:

        فالأمير عبد الرحمن كتخدا السابق ذكره عمّر المشهد النفيسي ومسجده، وبنى الضريح على هذه الهيئة الموجودة وذلك سنة 1183 هـ.

        ويذكر الجبرتي في حوادث سنة 1225هـ، عن عثمان أغا المتولي أغات مستحفظان، أنه قام بتجديد "مشهد الرأس"، وهو رأس زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، ويعرف هذا المشهد عند العامة بزين العابدين، ويقصدونه صباح يوم الأحد.

        وعن جهود الدولة العثمانية في ذلك حدّث ولا حرج، فقد فاقت مصروفات الدولة العثمانية على ضريح الجيلاني في السنة الواحدة ما كانت تصرفه على الحرمين الشريفين أضعافاً مضاعفة.

        وقد ذكر النبهاني أن الدولة العثمانية قد أعفت أهالي البصرة من الرسوم والتكاليف احتراماً لصاحب الحضرة الشريفة، يعني الزبير بن العوام ، وأن العثمانيين بنوا على ضريحه مسجداً، وقامت والدة السلطان عبد العزيز بترميم وتكبير المسجد، فصار جامعاً حسناً.

        والسلطان عبد الحميد الثاني – رغم جهوده المشكورة في الحفاظ على أراضي المسلمين ومحاولاته لوقف انهيار الخلافة الإسلامية – كان له من الخرافة نصيب!

        فقد أمر واليه على البصرة ناصر باشا السعدون بتعمير المراقد الشريفة في البصرة بالعراق سنـة 1293هـ، ثم في سنـة 1305هـ أمر بكسوتين لضريحي الزبير وعتبة بن غزوان من الحرير الأحمر المفتخر المطرز بالفضة، كما أهدى ستاراً حريرياً مزركشاً بآيات قرآنية وضع على محراب ضريح الحسين بحلب بسورية وفرشت أرض قبليته بالطنافس الجميلة( [68]).

        أما "المشهد الحسيني" بالقاهرة فيذكر علي باشا مبارك صاحب كتاب "الخطط التوفيقية الجديدة" عنه أنه اعتنى به الأكابر والأمراء في كل عصر بعمارته وزخرفته وإعلاء شأنه.

        وعن ضريح البدوي بطنطا بمصر يتحدث الجبرتي في تاريخه ذاكراً ما قام به على بك الكبير، فيقول: "ومن مآثره العمارة العظيمة بطنطتا، وهي: المسجد الجامع، والقبة التي على مقام سيدي أحمد البدوي".

        وليست تلك الرعاية السياسية للقبور والأضرحة بإعمارها من التاريخ القديم، بل إنها ما زالت ممتدة في هذا العصر، ففي عام 1972م أهدى الرئيس الراحل السادات مقصورة جديدة لضريح أبي الحسن الشاذلي صنعت بدار الكسوة الشريفة بالقاهرة، وفي عام 1979م أعدت وزارة الأوقاف مشروعاً لتوسعة الضريح وتجديده([69]).

        ولم تقتصر هذه الرعاية على الإعمار، بل امتدت لتشمل تسهيل زيارة الأضرحة وتنظيم الاحتفال بها، فأصحاب الحكم في السلط بشرقي الأردن اهتموا منذ زمن بإصلاح الطرق المؤدية إلى مقام "النبي هوشع" وترميمها بعد أن كانت خربة وعرة.

        ووزارة الأوقاف المصرية رأت أن تساهم بدورها في إحياء هذا التقليد - زيارة القبور والأضرحة - فشاركت في إحياء ذكرى أصحاب هذه الأضرحة التي يزيد عدد المشهور منها على الألف، بإقامة احتفالات في مواعيد معينة عرفت بالموالد.

        ومن ذلك: أنه استعداداً لهذا المولد الكبير "مولد البدوي" الذي لا يفوقه في الاحتفال والجمع غير موسم الحج الشريف، يجتمع في بداية سبتمبر من كل عام قيادة المولد الأحمدي المكونة من: محافظ الغربية، ومديري الإدارات الحكومية، وخليفتي السيد البدوي، وشيخ الجامع الأحمدي، من أجل تنسيق دور الأجهزة المحلية في اتجاهات محددة، كتوفير المياه والكهرباء، والحفاظ على الصحة العامة، وتحقيق سهولة المرور، وتشديد الإجراءات الأمنية، والالتزام بالآداب العامة، وتصدر التوجيهات الرسمية، وفي النهاية: يظهر المولد وكأنه أعد دون تخطيط أو تعاون في سبيل إخراجه، بل يذكر أن المولد تم بفضل كرامات السيد البدوي([70]).

        ويتجاوز الدعم السياسي للقبورية تنظيم الاحتفالات وتسهيل الزيارات ليصل – في أحيان كثيرة – إلى المشاركة الفعلية في هذه الاحتفالات.

        يقول الاستاذ محمد فهمي عبداللطيف:

        "ولماذا نرجع إلى الوراء بعيداً؟ ألسنا نرى في هذه الأيام الحكام والوزراء وكبار رجال الدولة يقصدون إلى مقام (السيد) لتلمس البركات والنفحات وبذل الرعاية لضريحه ولأتباعه، وكأنهم بهذا يؤدون قسطاً مما عليهم من الواجب نحو الشعب؟".

        ويذكر العلامة أبو الوفا درويش خبراً ورد في الجرائد المصرية، جاء فيه: "احتفل أمس بتغطية ضريح السيدة زينب حفيدة الرسول صلى الله عليه وسلم بالكسوة  الفضية الموشاة بالذهب، وقد شهد الحفل فريق كبير من رجـال السلك السياسي".

        ومن الشهادات الحية في ذلك تذكر الكاتبة هيام فتحي دربك أنه "قد تشارك الحكومة في هذه المواكب، فيتقدم الموكب بعض رجال الشرطة الذين يركبون خيولهم، وبعضهم يكون مرتجلاً، كما يحضر المولد عدد من رجال السلطة هذا بالإضافة إلى شيخ  مشايخ الطرق الصوفية وأعضاء المجلس الصوفي .. ".

        ومن هذه الشهادات يذكر الكاتب عرفه عبده أن (زفة) المولد النبوي بمدينة بورسعيد – ومثلها المدن الأخرى – تبدأ في التحرك عقب وصول ركب محافظ بورسعيد إلى مسجد العباسي بشارع محمد علي، حيث بدأت مراسم الاحتفال الرسمي بعد أداء  صلاة المغرب.

أسباب الدعم السياسي للقبورية

     إذا كان هذا هو الواقع، فما هي الأسباب والدوافع وراء دعم السياسيين وأصحاب السلطة القبورية؟ هناك دوافع عديدة وراء هذا الدعم السياسي للقبورية، نذكر منها:

أولاً: اعتقاد بعض السياسيين في الخرافة.

        فالعثمانيون – أصحاب الدعم القوي للقبورية – اعتنقوا الإسلام على يد مشايخ الطرق الصوفية من قبل استقرارهم في آسيا الصغرى. ومن هؤلاء المعتقدين أيضاً: المماليك، فالسلطان قايتباي – مثلاً – كان كثير الإعجاب بالبدوي والاعتقاد فيه "وقد زار ضريحه عام 888هـ ووسع في مقامه وشيد له المباني العظيمة، وقد كان السلطان قايتباني هذا يعتقد في الشيوخ والأولياء عامة, وكان كثير الانجذاب إليهم والإقبال عليهم ..".

        وليس هذا الاعتقاد في الخرافة خاصاً بالسياسيين القدامى فقط، فالعصر الحديث يشهد أنظمة كاملة يعتقد أعضاؤها في الخرافة، كما لا يقتصر أيضاً على السياسيين المنتسبين إلى الإسلام فقط.

        فالفلكي المنجم حميد الأرزي يرد على سؤال نصه "التقيتم شخصيات علمية عدة طلبوا منك أن تقرأ طالعهم .. أمثال نيكسون وبن بللا وغيرهما .. هل يطلب منك حالياً بعض المشاهير ذلك؟" بقوله: "لا شك! المعروف عني – هذا ليس سراً أكشفه – أنني أقابل كثيراً من الشخصيات في العالم العربي، أو في العالم بعامة .. ".

        ويقول في الحديث نفسه: "على سبيل المثال: جاءني الرئيس الأمريكي نيكسون عندما وقعت فضيحة ووترجيت، وطلب رأيي في بعض الحلول لهذه القضية .. وجاءني أيضاً الرئيس الأسبق للجزائر بن بللا، وسألني إن كان له الحظ في العودة إلى رئاسة الجزائر"([71]).

        ومن المعروف أن الرئيس الأمريكي الأسبق "ريجان" كان يستشير عرافة مشهورة في كثير من شؤونه.

ثانياً: استمداد الشرعية.

        ويظهر هذا الاستمداد للشرعية ممزوجاً باستمداد البركة عند المعتقدين في القبور والأضرحة.

        فقد "اعتادت الدولة العثمانية أن تقيم في جامع أبي أيوب الأنصاري حفلة تقليد السيف، وهي حفلة تقام كلما ارتقى أمير من آل عثمان إلى عرش أجداده ونودي به سلطاناً، فيذهب السلطان الجديد إلى هذا الجامع ويقلد سيف عمر بن الخطاب في حفلة عظيمة تقوم مقام التتويج عند ملوك أوروبا، وعند تقليد السيف يصلي ركعتين عند ضريح أبي أيوب الأنصاري".

         وفي المغرب "عندما تولى السلطان الحسن بن محمد (المتوفى سنة1311هـ) مقاليد الحكم في بلاده سارع إلى تقديم الذبائح إلى الضريح الإدريسي".

        ولا شك أن الشرعية الدينية للدول والأنظمة – مثلها مثل الشرعيات الأخرى، كالشرعية التاريخية والدستورية والثورية – تعد إحدى أهم الدعائم التي تقوم عليها نظم الحكم، فكيف ننتظر من نظام الحكم أن يقوم بهدم دعائمه وتقويض أركانه؟ لا بد ما دام يعتقد أنه قام على هذه الشرعية أن يدعمها حتى ولو شكلاً وظاهراً، وهذا ما يستغله القبوريون.

ثالثاً: الدعاية السياسية والتأثير على الجماهير.

        يقول الباحث علي بن بخيت الزهراني:

        "وكان كثير من الملوك والحكام في ذلك الزمن يلجئون إلى عمارة تلك الأضرحة والإنفاق عليها, ليس إيماناً بها بقدر ما كان إرضاءً لمشاعر الناس, ومحاولة لكسب ولائهم والعمل على إلهائهم بتلك الأضرحة التي تعبد من دون الله عز وجل, واطمئناناً على الأقل نتيجة لما كان يمارسه هؤلاء الحكام من ظلم وطغيان. لقد كان ذلك علامة على صلاح وعدل من يفعله من الحكام والأمراء  فمن كان منهم مكرماً للأولياء بزعمهم, يبني الأضرحة على قبورهم, ويشد القباب عليها, ويزور تربهم ويمرغ خديه على عتباتهم, فهو الحاكم الصالح المحبوب عند رعيته ولو كان من أظلم الظالمين"([72]).

        وما زالت الخرافة إلى الآن تستخدم لهذا الغرض, جاء في تقرير لمجلة "الشرق الأوسط" عن حاخام يهودي يحترف الشعوذة: "ونظرا للنفوذ والتأثير الواسع لمثل هؤلاء المشعوذين على اتباعهم وزبائنهم يلاحظ أن القادة السياسيين في إسرائيل يحاولون استمالة هؤلاء الحاخامات والاستفادة من تأثيرهم لخدمة مصالحهم الحزبية, خاصة خلال الحملات الانتخابية للبرلمان والمجالس البلدية والمحلية ".

        ويقول الباحث عمار علي حسن: "كانت الصوفية على رأس القوة الدينية التي استخدمها النظام المصري في تبرير وتدعيم سياساته, فحرص المسؤولون على حضور موالد الصوفية واحتفالاتها, وخاصة المولد النبوي ومولد الحسين والسيدة زينب والسيد البدوي"([73]).

ثالثاً: ضرب الاتجاهات الدينية المعارضة لهم.

        فرغم إعلان السياسيين العلمانيين أن لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين, إلا أننا رأيناهم يدعمون القبوريين بانتهازية واضحة, باعتبارها مظهراً من مظاهر الدين يمكن ضرب الصحوة الإسلامية به, وذلك بسحب البساط من تحت أرجلها باعتبار الدين أرضيتها التي تنطلق منها.

        يقول الباحث عمار علي حسن: "النظام الحاكم كان معنياً بدرجة كبيرة إن يقدم نفسه في صورة المدافع عن الإسلام في وجه جماعات العنف والإرهاب  ودعاة التطرف والخروج. فالاستراتيجية التي تبنتها الحكومة لم تكن مقابلة أفكار الجماعات الإسلامية بأفكار علمانية, ولكن كانت الخطة هي منافسة هذه الجماعات داخل مساحة الإسلام نفسها لتمييع الموقف وسد الطريق أمام هذه الجماعات، ولذا نجد أن الخطاب الذي واجه به نظام مبارك هذه الجماعات والحكومة ليس صراعاً بين الإسلام واللاإسلام, ولكنه صراع على تطبيق الإسلام الصحيح, والذي يرى كل منهما أنه هو الذي يمثله.

        على هذا الأساس خلقت الظروف الملائمة لتحالف النظام مع الصوفية ضد الجماعات الإسلامية, فالنظام يلتحف بها باعتبارها طرحاً دينياً له مكانته لدى المصريين ليحسن صورته أمام الرأي العام بأنه يعرف حدود الدين, والصوفية تحتمي بالنظام من جماعات الإسلام السياسية التي تهدد الصوفية بحرق وتدمير الأضرحة وتسعى إلى تقويض أركان التصوف من منبعه، ومن هذه المنطلق استمر المسؤولون في حرصهم على حضور الحفلات الصوفية المختلفة في كافة أنحاء مصر".

رابعاً: المنافع الاقتصادية التي تجنيها الدولة من وراء إقامة هذا الكيان والمحافظة عليه, وقد مر سابقاً الحديث عن هذا الجانب.

علاج هذا الداء العظيم

        بعد الاطلاع على حقيقة هذا الداء العظيم الذي أصاب الأمة لا بد من عرض الدواء وكيفية القضاء على هذا الأمر الخطير الذي انتشر وعم والذي يتطلب جهوداً متظافرة. والعلاج كالآتي :

أولاً: المسلك العلمي. 

        وهذا المسلك يقوم به أهل العلم وطلابه تجاه دعاوى القبوريين وشبهاتهم، وسنعرض لجملة من الأجوبة العلمية على النحو الآتي:

1-  إذا كان أهل السنة ينطلقون من منهج متين أصيل في التلقي والاستدلال، فإن القبوريين يعوّلون في تلقيهم واستدلالهم على المنامات والأحاديث المكذوبة والحكايات المزعومة. فيحتجون بأحلام شيطانية على تجويز شركهم وكفرهم بالله تعالى، ومن ذلك أن أبا المواهب الشاذلي يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: إذا كانت لك حاجة وأردت قضاءها فأنذر لنفيسة الطاهرة ولو فلساً؛ فإن حاجتك تقضى([74]).

        فهذا حلم شيطاني، ودعوة صريحة للشرك بالله عز وجل، ونقض التوحيد، وتنقّص لمقام سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم الذي مكث ثلاثاً وعشرين عاماً يدعو إلى إفراد الله تعالى بالعبادة، ويسد كل طريق يفضي إلى الشرك. وعلى كلّ؛ فالمنامات لا يمكن ضبطها، وصاحبها ليس نبياً معصوماً، ومن ثم فلا يعتمد عليها؛ فكيف إذا كانت حلماً شيطانياً وخالف الأحكام الشرعية، بل وخالفت الأصل الأصيل وهو إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة؟ 

        يقول شيخ الإسلام: وكذلك مشاهد تضاف إلى بعض الأنبياء أو الصالحين بناء على أنه رُئِيَ في المنام هناك؛ ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم أو الرجل الصالح في المنام ببقعة لا يوجب لها فضيلة تقصد البقعة لأجلها، وتتخذ مصلى بإجماع المسلمين، وإنما يفعل هذا وأمثاله أهل الكتاب. ويحتجون بأحاديث مكذوبة مثل: ((إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور)). فهذا الحديث كذب مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم، بإجماع  العارفين بحديثه لم يروه أحد من العلماء بذلك، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة.

        وأشار ابن القيم رحمه الله إلى أن هذا الحديث من الأحاديث المختلَقة التي وضعها أشباه عبّاد الأصنام من المقابرية على رسول الله([75]).

        كما يعتمدون على حكايات في تجويز الغلو في القبور والاستغاثة بها، وأن الدعاء عندها هو الترياق المجرّب. وغالب هذه الحكايات من اختلاق الدجّالين الأفاكين الذين لا يهمهم إلا أكل أموال الناس بالباطل والصدّ عن دين الله تعالى.

        وقد أشار ابن تيمية إلى أن هذه الحكايات إما كذب، أو غلط، أو ليس حجة. كما ذكر أن إجابة الدعاء، قد يكون سببه اضطرار الداعي وصدقه، وقد يكون سببه مجرد رحمة الله له، وقد يكون أمراً قضاه الله لا لأجل دعائه، وقد يكون له أسباب أخرى.

        وقد تكون تلك الحكايات صحيحة، ولكنها من الشيطان، فإنه قد يتراءى لبعضهم في صورة من يعتقد فيه، ويتسمى باسمه، وقد تقضي الشياطين بعض حوائج من استغاث بالأموات. 

        يقول ابن تيمية: وهكذا كثير من أهل البدع والضلال والشرك المنتسبين إلى هذه الأمة؛ فإن أحدهم يدعو ويستغيث بشيخه الذي يعظمه وهو ميت، ويرى ذلك الشخص قد أتاه في الهواء ودفع عنه بعض ما يكره، أو كلّمه ببعض ما سأله عنه،وهو لا يعرف أن تلك شياطين تصوّرت على صورته لتضله، وتضل أتباعه، فتحسّن لهم الإشراك بالله ودعاء غير الله.

        فيتعين على أهل العلم كشف عوار مسلك القبوريين وبيان تهافته، وفساد التعويل على المنامات والأحلام، والأحاديث الموضوعة، والحكايات المزعومة، مع تقرير المنهج الصحيح في التلقي والاستدلال كالاعتماد على الكتاب والسنة الصحيحة، واعتبار فهم السلف الصالح ونحو ذلك([76]).

2-  وإذا انتقلنا إلى الجواب عن شبهاتهم، فنقول ابتداءً: لا يوجد لدى القبوريين دليل صحيح صريح في تجويز استغاثتهم بالقبور، وما قد يصح من شبهاتهم إنما قد يُستدل بها عند البعض على جواز التوسل إلى الله تعالى بالذوات، فلا تدل على جواز الاستغاثة بالقبور. والتوسل إلى الله تعالى بالذوات بدعة محدثة، بينما الاستغاثة بالقبور كفر وردة، فالفرق بينهما ظاهر.

        ومن شبهات القبوريين قولهم: إن مشركي العرب لم يكونوا يعترفون بالربوبية لله تعالى ونحن نعترف بأن الله تعالى هو الرب المدبّر الخالق.

        فالجواب عن هذه الشبهة: أن مشركي العرب مقرون بتوحيد الربوبية، فلم ينازعوا فيه، بل إن هذا التوحيد لم ينازع في أصله أحد من بني آدم، والدليل على أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واستحل دماءهم كانوا مقرين بأن الله هو الخالق الرازق المدبّر لقوله سبحانه: }قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ{ [يونس : 31].

        قال قتادة رحمه الله: إنك لست تلقى أحداً منهم إلا أنبأك أن الله ربه وهو الذي خلقه ورزقه وهو مشرك في عبادته.

        وقال ابن جرير رحمه الله عند قوله تعالى:}فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ{ [يونس:31]: أفلا تخافون عقاب الله على شرككم وعبادتكم معه من لا يرزقكم شيئاً ولا يملك لكم ضراً ولا نفعاً.

        فالإقرار بربوبية الله تعالى لا يتحقق به التوحيد المطلوب، فمشركو العرب مقرون بتوحيد الربوبية، ومن ذلك قاتلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم ، واستحل دماءهم حتى يفردوا الله عز وجل بجميع أنواع العبادة.

        ومن شبهاتهم: دعواهم أن الآيات القرآنية نزلت فيمن يعبد الأصنام والأحجار فلا تشملهم.

        وجوابها: أن الشرك بالله أن يجعل لله نداً في العبادة سواءً كان صنماً أو حجراً أو نبياً أو ولياً.

        ومما قاله العلامة محمد بن علي الشوكاني رحمه الله جواباً عن هذه الشبهة: "الشرك هو أن يفعل لغير الله شيئاً يختص به سبحانه سواءً أطلق على ذلك الغير ما كان تطلقه عليه الجاهلية كالصنم والوثن أو أطلق عليه اسماً آخر كالولي والقبر والمشهد".

        وإن أراد القبوريون بمقولتهم: هذه الآيات نزلت فيمن يعبد الأصنام، بأنه لا يجوز تنزيل هذه الآيات على من عمل عملهم؛ فهذا من أعظم الضلال.

        يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله عن هذه المقولة: فهذا ترس قد أعدّه الجهال الضلاّل لردّ كلام، إذا قال لهم أحد: قال الله كذا، قالوا: نزلت في اليهود، نزلت في النصارى، نزلت في فلان.

        وجواب هذه الشبهة الفاسدة أن يقال: معلوم أن القرآن نزل بأسباب، فإن كان لا يُستدل به إلا في تلك الأسباب بطل استدلاله، وهذا خروج من الدي ، وما زال العلماء من عصر الصحابة فمن بعدهم يستدلون بالآيات التي نزلت في اليهود وغيرهم على من يعمل بها.

        ومن شبهاتهم: أن سؤالهم أرباب القبور من أجل طلب الشفاعة، فهؤلاء الموتى شفعاء بينهم وبين الله تعالى.

        والجواب: أن الله قد سمى اتخاذ الشفعاء شركاً، فقال سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس : 18].

        وأمر آخر أن الشفاعة كلها لله تعالى كما قال سبحانه: {قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [الزمر : 44]، وقال عز وجل: {وَلا يَمْلِكُ الَذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} [الزخرف : 86].

        يقول ابن تيمية : فلا يملك مخلوق الشفاعة بحال، ولا يتصور أن يكون نبي فمن دونه مالكاً لها، بل هذا ممتن ، كما يمتنع أن يكون خالقاً ورباً. قال سبحانه: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23]، فنفى نفع الشفاعة إلا لمن استثناه، لم يثبت أن مخلوقاً يملك الشفاعة، بل هو سبحانه له الملك وله الحمد، لا شريك له في الملك.

        وجواب ثالث: أن الله تعالى أعطى الأنبياء والأولياء الشفاعة، لكن نهانا عن سؤالهم ودعائهم، فقال سبحانه: {وَلا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإن فَعَلْتَ فَإنَّكَ إذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106]، والشفاعة نوع من الدعاء، ولا يكون الدعاء إلا لله تعالى وحده.

        كما أن إعطاء الله الأنبياء والأولياء الشفاعة ليس تمليكاً مطلقاً، بل هو تمليك معلّق على الإذن والرضا، وسيد الشفعاء صلى الله عليه وسلم لا يشفع حتى يقال له: ((ارفع رأسك ، وقل يسمع ، واشفع تشفّع))([77]).

        والحديث عن شبهات القبوريين والرد عليها طويل جداً، وإنما ذكرنا بعضاً منها.

        وقد صُنفت مصنفات نافعة تتضمن الرد على شبهات القبوريين، مثل "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة"، و"الرد على البكري" و"الرد على الأخنائي" كلها لشيخ الإسلام ابن تيمية، و"إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم، و"الصارم المنكي في الرد على السبكي" لابن عبد الهادي، و"كشف الشبهات" للشيخ محمد بن عبد الوهاب، و"تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد" للصنعاني، و"النبذة الشرعية النفيسة في الرد على القبوريين" لحمد بن معمر، و"الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد" لمحمد بن علي الشوكاني، و"صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان" لمحمد بشير السهسواني، و"تطهير الجنان والأركان عن درن الشرك والكفران" لأحمد بن حجر آل بوطامي، و"تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد" لمحمد ناصر الدين الألباني، و"الدعاء ومنزلته في العقيدة الإسلامية" لجيلاني بن خضر العروسي، وغيرها كثير.

3-  ومن دعاويهم العريضة: احتجاجهم بأن الكثير من المسلمين في القديم والحديث يبنون على القبور، ويتخذون المشاهد والقباب، ويتحرون الدعاء عندها.

        والجواب عن هذه الدعوى من وجوه: 

        أحدها: أن أكثر هذه المشاهد مكذوبة لا تصح نسبتها إلى أصحابها، وكما يقول شيخ الإسلام: وكم من مشهد يعظمه الناس وهو كذب، بل يقال إنه قبر كافر، كالمشهد الذي بسفح جبل لبنان الذي يقال إنه قبر نوح؛ فإن أهل المعرفة يقولون إنه قبر بعض العمالقة، وكذلك مشهد الحسين الذي بالقاهرة، وقبر أبيّ بن كعب الذي في دمشق، اتفق العلماء على أنه كذب.

        ويقول في موضع آخر: عامة أمر هذه القبور والمشاهد مضطرب مختلق، لا يكاد يوقف منه على العلم إلا في القليل منها بعد بحث شديد؛ وهذا لأن معرفتها وبناء المساجد عليها ليس من شريعة الإسلام بل قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عما يفعله المبتدعون عندها.

        ثانياً: إن البناء على القبور وتحري الدعاء عندها ونحو ذلك من البدع المنكرة التي حذّر منها الشارع أيما تحذير، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذّر ما صنعوا) ([78]).

        يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: قد كان من قبور أصحاب رسول بالأمصار عدد كثير، وعندهم التابعون، ومن بعدهم من الأئمة، وما استغاثوا عند قبر صاحب قط، ولا استسقوا عند قبره ولا به، ولا استنصروا عنده ولا به.

        ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، بل على نقل ما هو دونه، ومن تأمل كتب الآثار، وعرف حال السلف، تيقن قطعاً أن القوم ما كانوا يستغيثون عند القبور، ولا يتحرون الدعاء عندها أصلاً، بل كانوا ينهون عن ذلك من كان يفعله من جُهّالهم.

        ويقول ابن القيم مبيّناً أن صنيع القبوريين مفارق لما كان عليه سلف الأمة:  هل يمكن لبشر على وجه الأرض أن يأتي عن أحد منهم، أي السلف الصالح، بنقل صحيح أو حسن أو ضعيف أو منقطع أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها، وتمسحوا بها، فضلاً أن يصلّوا عندها، أو يسألوا الله بأصحابها، أو يسألوهم حوائجهم، فليوقفونا على أثر واحد، أو حرف واحد في ذلك.

        يقول العلامة الصنعاني جواباً عن هذه الشبهة: إن أردت الإنصاف وتركت متابعة الأسلاف وعرفت أن الحق ما قام عليه الدليل، لا ما اتفق عليه العوالم جيلاً بعد جيل وقبيلاً بعد قبيل؛ فاعلم أن هذه الأمور التي ندندن حول إنكارها، ونسعى في هدم منارها صادرة عن العامة الذين إسلامهم تقليد الآباء بلا دليل، ينشأ الواحد فيهم فيجد أهل بلدته يلقنونه: أن يهتف باسم من يعتقدون فيه، ويراهم ينذرون له، ويرحلون إلى محل قبره.

        فنشأ على هذا الصغير، وشاخ عليه الكبير، ولا يسمعون من أحد عليهم من نكير.

        ولا يخفى على أحد يعرف بارقة من علم الكتاب والسنة والأثر أن سكوت العالم على وقوع المنكر ليس دليلاً على جواز ذلك المنكر.

        ويقول العلامة الشوكاني: اعلم أنه قد اتفق الناس سابقهم ولاحقهم وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى هذا الوقت أن رفع القبور والبناء عليها من البدع التي ثبت النهي عنها واشتد وعيد رسول صلى الله عليه وسلم لفاعلها، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين.

        ثالثاً: أن سكوت العلماء عن هذه المظاهر الشركية والبدعية عند المشاهد والقبور لا يعني الرضا والإقرار، فقد يتعذر عليهم الإنكار باليد وباللسان، ولم يبق لهم إلا الإنكار بالقلب، لا سيما وهذه المشاهد والقباب قد بناها حكام وسلاطين ؛ كما يقول الصنعاني: فما كل سكوت رضى؛ فإن هذه منكرات أسسها من بيده السيف والسنان، ودماء العباد وأموالهم تحت لسانه وقلمه، وأعراضهم تحت قوله وكلامه، فكيف يقوى فرد من الأفراد على دفعه عما أراد. فإن هذه القباب والمشاهد أعظم ذريعة إلى الشرك والإلحاد، وأكبر وسيلة إلى هدم الإسلام وخراب بنيانه، وغالب بل كل من يعمرها هم الملوك والسلاطين والرؤساء والولاة إما على قريب لهم، أو على من يحسنون الظن فيه.

        ومن هذا القبيل ما يحتج به القبوريون بأن قبر النبي صلى الله عليه وسلم قد ضُمّن المسجد النبوي دون نكير، ولو كان ذلك حراماً لم يدفن فيه، كما يحتجون بوجود القبة على قبره صلى الله عليه وآله وسلم.

        والجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم دفن في حجرة عائشة رضي الله عنها شرقي المسجد، فلم يدفن في المسجد، والأنبياء يدفنون حيث يموتون كما جاءت بذلك الأحاديث.

        كما أن الصحابة رضي الله عنهم دفنوه في حجرة عائشة كي لا يتمكن أحد بعدهم من اتخاذ قبره مسجداً؛ كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، قالت: فلولا ذلك أُبرِزَ قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً)) ([79]).

        وأمر آخر وهو أن الحجرة النبوية إنما أُدخلت في المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك بعد موت عامة الصحابة الذين كانوا بالمدينة([80])؛ حيث أمر الوليد بن عبد الملك سنة ثمان وثمانين بهدم المسجد النبوي وإضافة حُجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه على سبيل التوسعة، فأدخل فيه الحجرةَ النبويةَ حجرةَ عائشة، فصار القبر بذلك في المسجد([81]).

        فلا يصح الاحتجاج بما وقع بعد الصحابة؛ لأنه مخالف للأحاديث الثابتة وما فهمه سلف الأمة، وقد أخطأ الوليد في إدخاله الحجرة النبوية ضمن المسجد، وكان باستطاعته أن يوسعه من الجهات الأخرى دون أن يتعرض للحجرة النبوية.

        وأما دعوى عدم الإنكار فهذه دعوى بلا دليل، وعدم العلم ليس علماً بالعدم ، وسكوت العلماء لا يعني الرضا والإقرار؛ كما سبق الإشارة إليه آنفاً؛ لا سيما وأن الذي أدخل القبر النبوي ضمن المسجد خليفة ذو شوكة وسلطان وهو الوليد بن عبد الملك وكذا الذي اتخذ القبة هو السلطان قلاوون. ومع ذلك فإن المعوّل عليه هو الدليل والبرهان وليس واقع الناس وحالهم،والله المستعان.

        ومما يبين تهافت هذه الدعوى؛ ما نقل عن علماء أنكروا هذا الصنيع وحذّروا منه.

        فيحكى عن سعيد بن المسيب رحمه الله: أنه أنكر إدخال حجرة عائشة في المسجد، كأنه خشي أن يتخذ مسجداً.

        وأشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى إنكار هذه القبة؛ حيث قال: ثم بعد ذلك بسنين متعددة بنيت القبة على السقف، وأنكره من كرهه([82]).

        يقول العلاّمة حسين بن مهدي النعمي في الرد على هذه الدعوى: قوله - أي المخالف - ومن المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم له قبة، وأولياء المدينة وأولياء سائر البلدان.

        أقول: الأمر كذلك؛ فكان ماذا؟ بعد أن حذر صلى الله عليه وسلم وأنذر وبرأ جانبه المقدس الأطهر صلى الله عليه وسلم، فصنعتم له ما نهى عنه، أفلا كان هذا كافياً لكم عن أن تجعلوا أيضاً مخالفتكم عن أمره حجة عليه وتقدماً بين يديه! فهل أشار بشيء من هذا أو رضيه أو لم ينه عنه؟

        وقال العلاّمة الصنعاني في الجواب عن هذه الشبهة: فإن قلت: هذا قبر رسول الله قد عمرت عليه قبة عظيمة، أنفقت فيها الأموال.

        قلت: هذا جهل عظيم بحقيقة الحال، فإن هذه القبة ليس بناؤها منه، ولا من الصحابة، ولا من تابعيهم، ولا تابعي التابعين، ولا من علماء أمته وأئمة ملته، بل هذه القبة المعمولة على قبره صلى الله عليه وسلم، من أبنية بعض ملوك مصر المتأخرين، وهو قلاوون الصالحي المعروف بالملك المنصور في سنة 678هـ، ذكره في "تحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة"، فهذه أمور دولية لا دليلية، يتبع فيها الآخر الأول.

        ويُذكر أن فئة من طلبة العلم رحمهم الله قد هموا في زمن الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود رحمه الله عند دخولهم المدينة المنورة أن يزيلوا هذه القبة، ولكنهم خشوا من قيام فتنة أعظم من إزالة القبة.

ثانياً: المسلك الدعوي.

        ويتمثل هذا المسلك من خلال عدة أمور:

1-  أن يُعنى العلماء والدعاة بتقرير التوحيد في تلك المجتمعات المولعة بتعظيم القبور والغلو فيها، وأن يجتهدوا في تجلية مفهوم التوحيد من خلال القصص القرآني وضرب الأمثال وضرورة تعلق القلب بالله سبحانه وتعالى، وأن الله عز وجل هو المتفرد بالنفع والضر والخلق والتدبير، ومن ثَمّ فهو المألوه المعبود الذي تألهه القلوب محبة وإجلالاً وخشية ورجاءً.

        وأن يضمّن هذا التقرير بيان عجز المخلوقين وضعفهم، وأنهم لا يملكون لأنفسهم فضلاً عن غيرهم نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.

        وأن يسعى إلى تحبيب هذا التوحيد إلى الناس من خلال الحديث عن فضائل التوحيد وبيان ثمراته وآثاره، وأخبار الأنبياء عليهم السلام والصالحين الذين حققوا التوحيد ، كما ينبغي الاهتمام بإظهار أثر التوحيد على الحياة العامة.

2-  أن تربى الأمة عموماً وهذه المجتمعات المعظمة للقبور خصوصاً على أهمية التسليم لنصوص الكتاب والسنة والتحاكم إليها وانشراح الصدر لها. يقول سبحانه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].

        وإذا كان الساسة هذا العصر يفرضون على الناس احترام الشرعية الدولية والإذعان والتسليم لقرارات الأمم المتحدة؛ فإن علينا معشرَ الدعاة إلى الله أن ندعو المسلمين إلى ما أوجبه الله عليهم من التسليم والانقياد لنصوص الوحيين وعدم معارضتها بأي نوع من المعارضات سواءً أكان تقليداً، أو معقولاً، أو ذوقاً، أو سياسة أو غيره؛ فالإيمان مبني على التسليم لله تعالى والإذعان لشرعه.

        يقول أبو الزناد رحمه الله: إن السنن لا تخاصم ولا ينبغي لها أن تتبع بالرأي، ولو فعل الناس ذلك لم يمضِ يوم إلا انتقلوا من دين إلى دين، ولكنه ينبغي للسنن أن تُلزَم ويُتمسك بها على ما وافق الرأي أو خالفه.

3-  أن يدعى الناس إلى الالتزام بالشرع والعمل بالسنة؛ فإن إظهار السنن والتمسك بها يستلزم زوال البدع واندثارها، وكذا العكس فإنه ما ظهرت بدعة إلا رفع مثلها من السنة، والنفوس إن لم تشتغل بسنة وتوحيد ؛ فإنها ستشتغل ببدعة وشرك ؛ فالنفوس خلقت لتعمل لا لتترك.

        وقد تتثاقل النفوس تجاه الالتزام بالأحكام الشرعية، وتنشط تجاه ما أحدثته من بدع ومحدثات، ومن ثم يتعين على دعاة الإصلاح أن يأخذوا على أيدي هؤلاء ويذكّروهم بفضل التمسك بالشرائع، وأن هذه الشرائع غذاء وروح، وقرة عين وسرور قلب.

        يقول أبو الوفاء ابن عقيل متحدثاً عن تلك النفوس المتثاقلة تجاه الشرائع:  "لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم؛ إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، قال: وهم كفار عندي بهذه الأوضاع، مثل: تعظيم القبور وإكرامها بما نهى الشرع عنه، ومن إيقاد النيران، وتقبيلها، وخطاب الموتى بالألواح، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا.

4-  دعوة المخاطبين إلى تدبر آيات القرآن الحكيم، وحثهم على التأمل والتفكر في معاني القرآن، كما قال سبحانه: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29].

وقال عز وجل: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء 82].

        وإن من أعظم أسباب الضلال واستفحال الشرك الإعراض عن تدبر آيات القرآن، والاقتصار على مجرد قراءته دون فهم أو فقه.

        فإذا نظرنا مثلاً إلى مسألة إفراد الله عز وجل بالدعاء والاستغاثة، فإنها من أوضح الواضحات في كتاب الله، فقد تحدث عنها القرآن في ثلاثمائة موضع، ومع ذلك فما أكثر الذين يتلون هذه الآيات بألسنتهم وينقضونها بأفعالهم وأحوالهم.

        يقول العلاّمة حسين بن مهدي النعمي رحمه الله (ت/1187هـ) متحدثاً عن ضلال القبوريين: لا جرم لما كان ملاك أمر الجميع وحاصل مبلغهم وغايتهم هو التلاوة دون الفقه والتدبر والاتباع، خفي عليهم ذلك، وعموا وصموا عنه، وأنّى لهم ذلك؟ وقد منعهم سادتهم وكبراؤهم من أهليهم، وممن يقوم عليهم ويسوسهم، وقالوا: كتاب الله حجر محجور، لا يستفاد منه، ولا يقتبس من أنواره، ولا ينال ما فيه من العلم والدين.  فلعمر الله للخير أضاعوا، وللشر أذاعوا، وإلا فلولا ذلك لكانت هذه المسألة - إفراد الله بالدعاء - من أظهر الظواهر، لما أن العناية في كتاب الله بشأنها أتم وأكمل، والقصد إليها بالتكرير والتقرير والبيان في كتاب الله أكثر وأشمل.

        ويقول الشيخ العلاّمة عبد الرحمن بن حسن رحمه الله في هذا المقام:  فمن تدبر عرف أحوال الخلق وما وقعوا فيه من الشرك العظيم الذي بعث الله أنبياءه ورسله بالنهي عنه، والوعيد على فعله، والثواب على تركه، وقد هلك من هلك بإعراضه عن القرآن وجهله بما أمر الله به ونهى عنه.

        وعلينا أن نتواصى بتطهير القلوب وتزكيتها لكي يحصل الانتفاع بمواعظ القرآن وأحكامه.

        يقول ابن القيم عند قوله: {لا يَمَسُّهُ إلاَّ المُطَهَّرُونَ} [الواقعة : 79]: دلّت الآية بإشارتها وإيمائها على أنه لا يدرك معانيه ولا يفهمه إلا القلوب الطاهرة، وحرام على القلب المتلوّث بنجاسة البدع والمخالفات أن ينال معانيه وأن يفهمه كما ينبغي.

5-  مخاطبة عقولهم، ودعوتهم إلى التفكير والتأمل؛ فإن الولوع في تقديس الأضرحة والغلو فيها لا يظهر إلا عند أقوام ألغوا عقولهم، وعطلوا تفكيرهم، وأشربوا حبّ التقليد ومحاكاة الآباء دون حجة أو برهان.

        وقد عني القرآن بمخاطبة ذوي الألباب وأثنى عليهم، وحضّ على التفكر والنظر في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، كما تضمن القرآن أدلة عقلية وحججاً برهانية في تقرير التوحيد والنبوة والمعاد .

  ومن ذلك قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن  ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22-23].

        يقول ابن القيم عند هذه الآية الكريمة: فتأمل كيف أخذتْ هذه الآية على المشركين بمجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك وسدتها عليهم أحكم سد وأبلغه؛ فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود لما يرجو من نفعه وإلا فلو لم يرجُ منه منفعة لم يتعلق قلبه به، وحينئذ فلا بد أن يكون المعبود مالكاً للأسباب التي ينفع بها عابده أو شريكاً لمالكها، أو ظهيراً أو وزيراً ومعاوناً له، أو وجيهاً ذا حرمة، وقد يشفع عنده؛ فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجه وبطلت، انتفت أسباب الشرك وانقطعت مواده ، فنفى سبحانه عن آلهتهم أن تملك مثقال ذرة في السموات والأرض، فقد يقول المشرك: هي شريكة لمالك الحق فنفى شركتها له، فيقول المشرك : قد تكون ظهيراً ووزيراً ومعاوناً، فقال: {وما لَه مِنهُم من ظَهير}، فلم يبق إلا الشفاعة فنفاها عن آلهتهم، وأخبر أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه.

        ومن الأجوبة العقلية في الرد على دعوى القبوريين في أنهم ينتفعون بهذه الأضرحة ما ذكره شيخ الإسلام بقوله: عامة المذكور من المنافع كذب؛ فإن هؤلاء الذين يتحرون الدعاء عند القبور وأمثالهم إنما يستجاب لهم في النادر، ويدعو الرجل منهم ما شاء الله من دعوات، فيستجاب له في واحدة، ويدعو خلق كثير فيستجاب للواحد بعد الواحد، وأين هذا من الذين يتحرون الدعاء أوقات الأسحار، ويدعون الله في سجودهم وأدبار صلاتهم وفي بيوت الله؟ فإن هؤلاء إذا ابتهلوا من جنس ابتهال المقابريين لم تكن تسقط لهم دعوة إلا لمانع، بل الواقع أن الابتهال الذي يفعله المقابريون إذا فعله المخلصون، لم يُرَد المخلصون إلا نادراً ، ولم يُستجب للمقابريين إلا نادراً، والمخلصون كما قال النبي: ((ما من عبد يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ول قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث: إما أن يعجل الله دعوته، أو يدخر له من الخير مثلها، أو يصرف عنه من الشر مثلها. قالوا: يا رسول الله! إذن نكثر. قال : الله أكثر))([83]). فهم في دعائهم لا يزالون بخير. وأما المقبريون فإنهم إذا استجيب لهم نادراً، فإن أحدهم يضعف توحيده ، ويقل نصيبه من ربه، ولا يجد في قلبه من ذوق الإيمان وحلاوته ما كان يجده السابقون الأولون.

6-  من الجوانب الدعوية المهمة أن نميّز بين مراتب الشر والانحراف؛ فالغلو في القبور والافتتان بها له مراتب متعددة ومتفاوتة، فمنها ما يكون شركاً بالله تعالى في توحيد العبادة كالاستغاثة بأرباب القبور، ومنها ما يكون أشنع من ذلك كأن يستغيث بالأموات معتقداً فيهم الضر والنفع والتصرف في الكون، ومن الغلو في القبور ما يكون محرماً ووسيلة إلى الشرك كالصلاة عند القبور وتحري الدعاء عندها.

        ويخطئ بعض الدعاة فلا يفرقون بين هذه المراتب من جهة الحكم عليها، كما قد يخطئون فلا يميّزون من جهة ترتيبها وأولويتها في الإنكار، والمتعيّن أن تميّز هذه الانحرافات وفق ما جاءت به الأدلة الشرعية، وكما نهتم بآكد الأمور تقريراً ونقدمها، فكذا علينا أن نُعنى بأشنعها تحذيراً.

        فيحذّر ابتداء من الشرك في الربوبية؛ فالشرك في الإلهية، ثم ينظر إلى وسائل الشرك وذرائعه فما كان أشدها حرمة وأعظمها وسيلة للشرك فيشتغل بمنعها، ثم ينتقل إلى ما دونها.

        يقول شيخ الإسلام في هذه المسألة: والمؤمن ينبغي له أن يعرف الشرور الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة، فيفرق بين أحكام الأمور الواقعة الكائنة، والتي يراد إيقاعها في الكتاب والسنة، ليقدم ما هو أكثر خيراً وأقل شراً على ما هو دونه، ويدفع أعظم الشرين باحتمال أدناهما، ويجتلب أعظم الخيرين بفوات أدناهما ، فإن من لم يعرف الواقع في الخلق، والواجب في الدين، لم يعرف أحكام الله في عباده، وإذا لم يعرف ذلك كان قوله وعمله بجهل، ومن عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح.

7-  من الوسائل الوقائية النافعة تجاه هذا الانحراف؛ العمل بقاعدة سدّ الذرائع؛ فكل ما كان وسيلة أو ذريعة تؤول إلى الشرك فينبغي التحذير منها ومنعها حماية لجناب التوحيد؛ فالتهاون في هذه الوسائل يفضي إلى الوقوع في الشرك بالله عز وجل والخروج عن الملة، فمثلاً الصلاة عند القبور والبناء عليها أمور حرمها الشارع؛ لأنها طريق ووسيلة تفضي إلى الشرك بالله تعالى.

        وقد أشار العلامة الشوكاني رحمه الله إلى أن البناء على القبور سبب رئيس في عبادة القبور فقال: فلا شك ولا ريب أن السبب الأعظم الذي نشأ منه هذا الاعتقاد في الأموات هو ما زينه الشيطان للناس من رفع القبور ووضع الستور عليها وتجصيصها وتزيينها بأبلغ زينة، وتحسينها بأكمل تحسن؛ فإن الجاهل إذا وقعت عينه على قبر من القبور قد بنيت عليه قبة فدخلها ، ونظر على القبور الستور الرائعة، والسرج المتلألئة، وقد سطعتْ حوله مجامر الطيب، فلا شك ولا ريب أنه يمتلئ قلبه تعظيماً لذلك القبر، ويضيق ذهنه عن تصور ما لهذا الميت من المنزلة، ويدخله من الروعة والمهابة ما يزرع في قلبه من العقائد الشيطانية التي هي من أعظم مكائد الشيطان للمسلمين، وأشدّ وسائله إلى ضلال العباد ما يزلزله عن الإسلام قليلاً قليلاً، حتى يطلب من صاحب ذلك القبر ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه ، فيصير في عداد المشركين.

ثالثاً: المسلك الاحتسابي.

        وهذا مسلك يقوم به أصحاب الحسبة، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ، لاسيما أصحاب النفوذ والسلطة والشوكة وهم ولاة الأمر.

        ويتمثل هذا المسلك في أمرين:

        أحدهما: أن يسعى إلى هدم هذه القباب ونقضها وإزالتها، امتثالاً للوصية النبوية واتباعاً لسلف الأمة.

فعن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ((ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته))([84]).

        ولما ذكر ابن القيم هدم مسجد الضرار وتحريقه، قال: ففي هذا دليل على هدم ما هو أعظم فساداً منه، كالمساجد المبنية على القبور، فإن حكم الإسلام فيها أن تهدّم كلها حتى تسوّى بالأرض، وهي أوْلى بالهدم من مسجد الضرار، وكذلك القباب التي على القبور، يجب أن تهدم كلها؛ لأنها أسست على معصية الرسول؛ لأنه قد نهى عن البناء على القبور، فبناءٌ أسس على معصيته ومخالفته بناء غير محترم([85]).

        ومن الأمثلة على هذا المسلك الاحتسابي ما فعله الحارث بن مسكين رحمه الله (ت 250هـ) عندما هدم مسجداً كان قد بني بين القبور([86]).

        قال ابن كثير في حوادث سنة (236هـ): فيها أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي بن أبي طالب، وما حوله من المنازل والدور، ونودي في الناس: من وجد هنا بعد ثلاثة أيام ذهبنا به إلى المطبق "السجن"([87]).

        وقال أبو شامة (ت 665هـ): ولقد أعجبني ما صنعه الشيخ أبو إسحاق الجبينأني أحد الصالحين ببلاد أفريقية في المائة الرابعة، حكى عنه صاحبه الصالح أبو عبد الله محمد بن أبي العباس المؤدّب أنه كان إلى جانبه عين تسمى عين العافية كانت العامة قد افتتنوا بها، يأتونها من الآفاق، من تعذّر عليها نكاح أو ولد قالت: امضوا بي إلى العافية، فتعرف بها الفتنة، قال أبو عبد الله: فإنا في السحر ذات ليلة إذ سمعت أذان أبي إسحاق نحوها، فخرجت فوجدته قد هدمها، وأذّن الصبح عليها، ثم قال: اللهم إني هدمتُها لك فلا ترفع لها رأساً، قال: فما رُفِعَ لها رأس إلى الآن([88]).

        وذكر ابن غنام في تاريخه ما فعله الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مع عثمان بن معمر من هدم القباب وأبنية القبور فقال: فخرج الشيخ محمد بن الوهاب ومعه عثمان بن معمر وكثير من جماعتهم إلى الأماكن التي فيها الأشجار التي يعظمها عامة الناس والقباب وأبنية القبور، فقطعوا الأشجار وهدموا المشاهد والقبور، وعدلوها على السنة، وكان الشيخ هو الذي هدم قبة زيد بن الخطاب بيده، وكذلك قطع شجرة الذيب مع بعض أصحابه.

        ومما يجدر التنبيه عليه أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد سلك هذا المسلك الاحتسابي العملي لما كان عنده من شوكة وقوة، ولكنه كان في أول أمره قد سلك مسلك الدعوة برفق ولين كما قال تلميذه وحفيده الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله: كما جرى لشيخنا محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في ابتداء دعوته، فإذا سمعهم يدعون زيد بن الخطاب قال: الله خير من زيد. تمريناً لهم على نفي الشرك بلين الكلام، نظراً إلى المصلحة وعدم النفرة([89]).

        ومما سطره المؤرخ ابن بشر عن بعض الأعمال التي قام بها الأمير سعود بن عبد العزيز رحمه الله ما يلي:  ففي حوادث سنة 1216هـ حين توجه سعود بالجيوش إلى كربلاء، فهدم القبة الموضوعة على قبر الحسين.

        ويقول أيضاً: وفي حوادث سنة 1217هـ حين دخل سعود مكة وطاف وسعى، فرّق جيوشه يهدمون القباب التي بنيت على القبور والمشاهد الشركية، وكان في مكة من هذا النوع شيء كثير في أسفلها، وأعلاها، ووسطها، وبيوتها. فأقام فيها أكثر من عشرين يوماً، ولبث المسلمون في تلك القباب بضعة عشر يوماً يهدمون، يباكرون إلى هدمها كل يوم، وللواحد الأحد يتقربون، حتى لم يبق في مكة شيء من تلك المشاهد والقباب إلا أعدموها، وجعلوها تراباً.

        وفي سنة 1343هـ قام أتباع الدعوة السلفية بهدم القباب والأبنية على القبور بمكة، مثل القبة المبنية على قبر أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها.

        وقام الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي في جنوب الجزيرة العربية بهدم قبة في الساحل بمشاركة بعض زملائه، وبقايا قبة على قبر الشريف حمود المكرمي في سامطة.

        ويقول الشيخ الألباني: ومن تلك الأشجار شجرة كنت رأيتها من عشر سنين شرقي مقبرة شهداء أحد، خارج سورها، وعليها خرق كثيرة، ثم رأيتها سنة 1371هـ قد استأصلت من أصلها، والحمد لله، وحمى المسلمين من شر غيرها من الشجر وغيره من الطواغيت التي تعبد من دون الله تعالى([90]).

        الأمر الثاني: أن يسعى إلى فضح وكشف مكائد أرباب القبور وسدنتها، وبيان حقيقة هؤلاء الدجالين الملبسين، وما هم عليه من الفجور والولوغ في الفواحش، وأكل أموال الناس بالباطل ، وأنهم خونة وعملاء للاستعمار وأذنابه   وقد كشف أهل العلم حقائق مخزية وأحوالاً فاضحة لأولئك السدنة المضلين وأتباعهم، وما يرتكبونه من انخلاع عن شرائع الله تعالى، وولع بالفجور والقاذورات.

        يقول العلاّمة النعمي حاكياً بعض أوضاعهم: ومن ذلك أن رجلاً سأل من فيه مسكة عقل، فقال: كيف رأيتَ الجمع لزيارة الشيخ؟

        فأجابه: لم أرَ أكثر منه إلا في جبال عرفات، إلا أني لم أرهم سجدوا لله سجدة قط، ولا صلوا مدة الأيام فريضة.

        فقال السائل: قد تحمّلها عنهم الشيخ.

        قلت [النعمي]: وباب "قد تحمّل عنهم الشيخ" مصراعاه ما بين بصرى وعدن، قد اتسع خرقه، وتتابع فتقه، ونال رشاش زقومه الزائر والمعتقد، وساكن البلد والمشهد.

        ومما سوّده المؤرخ الجبرتي في شأن مشهد عبد الوهاب العفيفي (ت1172هـ) وما يحصل عنده من أنواع الفسوق والفجور ما يلي: ثم إنهم ابتدعوا له موسماً وعيداً في كل سنة يدعون إليه الناس من البلاد، فينصبون خياماً كثيرة ومطابخ وقهاوي، ويجتمع العالم الأكبر من أخلاط الناس وخواصهم وعوامهم وفلاحي الأرياف وأرباب الملاهي والبغايا، فيملؤون الصحراء، فيطؤون القبور ويوقدون عليها النيران، ويصبون عليها القاذورات ويبولون ويتغوطون ويزنون ويلوطون ويلعبون ويرقصون ويضربون بالطبول والزمور ليلاً ونهاراً، ويستمر ذلك نحو عشرة أيام أو أكثر( [91]).

        وتحدث الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ عن مفاسد عُبّاد القبور، فكان مما قاله: ومنها: ما يقع ويجري في هذه الاجتماعات من الفجور والفواحش، وترك الصلوات وفعل الخلاعات التي هي في الحقيقة خلع لربقة الدين والتكليف، ومشابهة لما يقع في أعياد النصارى والصابئة والإفرنج ببلاد فرنسا وغيرها من الفجور والطبول والزمور والخمور.

        وسرد الكاتب أحمد منصور أقوال المؤرخين في الانحلال الخلقي عند مشهد الإنبابي .. وأن فيه من الفساد ما لا يوصف، حتى إن الناس وجدوا حول هذا المشهد أكثر من ألف جرة خمر فارغة، وأما ما حكي من الزنا واللواط فكثير لا يحصى .. حتى أرسل الله تعالى عليهم ريحاً في تلك الليلة كادت تقتلع الأرض بمن عليها.

        وأمعن عبّاد القبور في أكل أموال الناس بالباطل، وارتكبوا أنواع الأكاذيب والدجل في سبيل نهب أموال العامة وممتلكاتهم.

        وقد حكى العلامة الشوكاني هذه الحالة فقال: وربما يقف جماعة من  المحتالين على قبر ويجلبون الناس بأكاذيب يحكونها عن ذلك الميت ليستجلبوا منهم النذور، ويستدروا منهم الأرزاق ويقنصوا النحائر، ويستخرجوا من عوام الناس ما يعود عليهم وعلى من يعولون ويجعلون ذلك مكسباً ومعاشاً.

        وصندوق النذور عند ضريح البدوي في مصر يستقطع من الدهماء ملايين الجنيهات، وللحكومة 39% من هذه الأموال!! وسائر الأموال لسدنة الضريح والعاملين عليه!! وحسبك أن تعلم أن ما يناله خادم الضريح من هذه الأموال أكثر مما يناله كبار الأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات.

        ومع ذلك لم يقف طمع أولئك السدنة وشرههم عند هذا الحد، بل ويعمدون إلى التلاعب والتزوير في هذا الصندوق من أجل مزيد من الأموال.

        وأما الحديث عن خيانتهم وعمالتهم للاستعمار، فنكتفي بهذا المثال وقد مر ذكره وهو أن فرنسياً أسلم وتنسّك وصار إماماً لمسجد كبير في القيروان بتونس، فلما اقترب الجنود الفرنسيون من المدينة استعد أهلها للدفاع عنها، وجاؤوا يسألونه أن يستشير لهم ضريح شيخ في المسجد يعتقدون فيه، فدخل الضريح ثم خرج مهولاً لهم بما سينالهم من المصائب، وقال لهم بأن الشيخ ينصحكم بالتسليم، فاتبع أولئك البسطاء قوله واستسلموا لعدوهم([92]).

من النماذج التي نجحت في الإصلاح

        أمامنا نموذجان لدعوات رامت الإصلاح واستهدفت إقامة شعائر الدين، وجعلت التمكين للتوحيد غايتها ورايتها.

        النموذج الأول: دعوة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله.

        النموذج الثاني: دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.

        أما دعوة ابن تيمية، فكما نعلم أنها جاءت في ظروف تاريخية حرجة، جابه سلطان الإسلام فيها أعظم الأخطار؛ فالمغول من بعد الصليبيين؛ واجهت الأمة بهم فتناً دهماء بكماء صماء، وقد ولد ابن تيمية رحمه الله في أيام حكم المماليك الذين كانت دولتهم تضم ما يمثل في عصرنا مصر وسورية ولبنان وفلسطين، وكانوا قوة لا يستهان بها في ذلك الوقت بالرغم من الضعف العام الذي انتاب بقية أجزاء العالم الإسلامي.

        وكان ابن تيمية مدركاً لطبيعة عصره، متفهماً لحقيقة الصراع، وكان على يقين بحاجة الأمة في مصر والشام إلى ولاية شرعية عامة، تقف وراءها لمواجهة الفتن، ولم يكن أمامه من يصلح لتمثيل تلك الولاية إلا المماليك، فقد رأى فيهم قوة للدين بالرغم من مثالبهم المتعددة، فأعطاهم تأييده المشروط وهو الطاعة في المعروف.

        لقد استطاع هؤلاء المماليك أن يؤسسوا حكماً مستقلاً، فكانوا بذلك أملاً في الخروج من المحنة، ورأى ابن تيمية المصلحة في شد أزرهم وتقويم اعوجاجهم وتقويم الأمة بهم حتى تتعافى أمام الصعاب.

        والمتأمل في سيرته رحمه الله يرى أنه كان يستمد من تلك السلطة العون بعد الله في إنكار المنكرات، ومواجهة أصحاب البدع والمحدثات، الذين زادوا الأمة ببدعهم وهناً على وهن.

        وبالنظر إلى عداوته الشديدة لهؤلاء المبتدعة وأمثالهم من الأحمدية والكسروانية والحشاشين، فقد سعى جاهداً لإزالتهم من الوجود، وحث السلطة على إبادتهم قدر الإمكان.

        وقد أعلن حرباً لا تعرف الهوادة ضد فكر الصوفية الغلاة، وخاصة ابن عربي الملحد، فلم يدخر وسعاً في تفنيد آرائه ونقض أفكاره، وكذلك إقناع الحكام بوضع حد لسريان خدعه وبدعه وضلالاته التي كانت تسري في العامة سريان النار في الهشيم.

        لقد رأى ابن تيمية أن أوضاع المسلمين تسير نحو الأسوأ إذا تُرِكَ أمثال هؤلاء الذين يوجهون الأمة نحو الشعوذة والسحر والخرافة بما ينتهي بهم إلى ضروب من البدع الاعتقادية الشركية.

        ولم يشأ أن يقصر جهده على مقاومة العدو الخارجي، بل كان على يقين أن عدو الداخل من المنافقين، هو السند والمعين لعدو الخارج {هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون:4].

لقد رأى غلاةَ الصوفية يستغلون ضعف العلم والإيمان في طبقات من الناس فيغرونهم بأفكار عن وحدة الوجود ووحدة الشهود، وكرامات الأولياء ومنازل الأقطاب وقداسة الأضرحة والأعتاب، فتصدى لهم وكان لهم بالمرصاد في دمشق ومصر.

        وقد كان من حسن حظ المسلمين في ذلك العصر، أن بعض الولاة بالرغم من مثالب كثيرة عندهم كانوا يكنون للعلماء احتراماً، ويمكنون لهم في دعوتهم ، ويرون لهم حقاً في توجيه مسار الأمة.

        وكان ابن تيمية بدوره يعطي لهم ما أرادوا من الطاعة في غير معصية، ويستعين بهم بعد الله في إنكار المنكرات وإظهار الشعائر وإقامة الدين.

        وكان يقول في ذلك: يجب أن يُعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها([93]).

        وكان يستصحب هذا المفهوم النظري في تطبيقه العملي، ففي عام خمس وسبعمائة خرج ابن تيمية مع طائفة من جيش المسلمين في صحبة نائب السلطنة، فساروا في بلاد تسيطر عليها طائفة غالية من الروافض، فغزوهم وانتصروا عليهم بإذن الله، وهلك كثير من فرقتهم الضالة وعاد نائب السلطنة إلى دمشق وفي صحبته ابن تيمية وجنود الجيش.

        وكان قد قام قبل ذلك بأمر من قبيل إنكار المنكر باليد، فذهب إلى مسجد يسمى "التاريخ" وعمد هو وأصحابه إلى صخرة مجاورة للمسجد على ضفاف نهر، كان الجهال يزورونها ويفعلون عندها الأفاعيل الشركية، فاصطحب معه حجّاري ، وتعاون هو وأصحابه معهم في تحطيمها وتقطيعها.

        قال ابن كثير: فأزاح عن المسلمين شبهة كان شرها عظيماً، وبهذا وأمثاله حسده الأعداء، وأبرزوا له العداوة([94]).

        والنموذج الثاني الذي سنعرض له، هو نموذج دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فقد كانت الفترة التي عاصرها (مطلع القرن الثاني عشر الهجري)، فترة انتكاس في الفطر، وارتكاس في العقائد؛ ذلك أن مظاهر الشرك الجلي قد ظهرت في مواطن كثيرة من بلاد الإسلام، وتمثل هذا الشرك في تحول فئام من الناس إلى عبادة الأولياء والصالحين أمواتاً وأحياءً؛ فكل ما يجب أن يصرف لله تعالى من العبادات القلبية والعملية ، كان يصرفها أولئك للمقبورين بزعم أنهم كانوا صالحين، فاستغاثوا بهم في النوازل ونذروا وطافوا وتمسحوا بآثارهم ومدافنهم ،  بل تعدى الأمر إلى الشرك بالجمادات كالأحجار والأشجار، وقد كان في بلاد نجد من تلك الانحرافات ما قض مضجع الشيخ وأنقض ظهره، فلم ير لنفسه عذراً في السكوت على هذا الشر المنتشر في الآفاق.

        ففي "الجبيلة" كان الناس يقصدون قبر (زيد بن الخطاب) ويدعونه لتفريج الكرب وكشف النوب، فعكف الناس على عبادتها، وصارت لعبادة تلك المقابر أعظم المنزلة في صدور الناس رغباً ورهباً، وكان في أسفل الدرعية غار كبير يزعم الجهال أن الله تعالى شقه في جبل لإنقاذ امرأة من بعض الفسقة الذين أرادوها بسوء، فكان الجهلة يرسلون إلى الغار وهو أحجار اللحم والخبز وصنوف الهدايا.

        وفي شعيب (غبيرة) كان الناس يأتون من المنكر ما لا يعهد مثله عند قبور الصالحين وخاصة عند القبر الذي يزعمون أن فيه (ضرار بن الأزور) وكانت طوائف من الخلق تأتي إلى شجرة "الطرفية" فيتبركون بها ويعلقون الخرق عليها إذا رزقوا ولداً لعله يسلم من الموت! هذا في بلاد نجد، أما في بلاد الحجاز، فلم يكن الأمر بأقل سوءاً من هذا؛ ففي مكة كانت تعلو الاستغاثات والأدعية عند قبر (أبي طالب) وقبر (المحجوب) وكان تعظيم هذين القبرين يفوق تعظيم الكعبة عند كثير من الجهال؛ حتى إن السارق أو المعتدي أو الغاصب إذا لجأ إلى أحد هذين القبرين لم يتعرض له أحد بما يكره، أما إن تعلق بالكعبة فإنه يسحب فيها بالأذيال؛ تفريطاً منهم بحقها.

        وكذلك كانت ترتكب الشنائع الاعتقادية والأخلاقية عند قبر ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها في "سَرِف"، وكذلك عند قبر أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها في "المعلاّة".

        وفي الطائف كان قبر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يُتخذ مزاراً يقف أمامه المكروبون مستغيثين، والخائفون متضرعين، وأصحاب الحاجة والمسألة داعين مسترزقين.

        أما في المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام فقد خالف الناس سنته، واتخذوا قبره عيداً، وهو الذي برئ من ذلك وقال ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد))([95]).

        ولكن تلك المظاهر الوثنية التي حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منها تسللت إلى جزيرة الإسلام، وأبت إلا أن تشوه نقاء التوحيد فيها، وحق على بعض أهلها قول الرسول: ((لا تقوم الساعة حتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان))([96]). فتعددت البقاع التي يعصى فيها الله بتلك الموبقات.

        فإلى جانب ما ذكرنا كانت ذرائع الشرك تقام على نطاق كبير في الأماكن المحيطة بالمدينة، وفي المزارات التي تكثر فيها مقابر الصحابة، في قباء والبقيع وغيرها.

        أما في جدة، فقد بلغ الضلال والفحش غايته عند القبر المزعوم أنه لحواء عليها السلام فكانت تجبى إليه الأموال كل عام، ويأكل السدنة عنده أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله

        وإذا كانت هذه بعض مظاهر الانحراف داخل الجزيرة العربية مهد الإسلام فما بالنا بما كان خارجها من الانحرافات؟! المقصود هنا أن مظاهر الانحراف في العقيدة عمت تلك الجزيرة إلا من رحم الله.

        ولكن  الله بمنه وكرمه استنقذ الناس من هذه الوهدة بمحمد بن عبد الوهاب رحمه الله فقد قام بوجه الفتنة كأمة وحده، ونافح ودافع عن عقيدة التوحيد الخالص لينقيها ويصفيها من شوائب الشرك وأدران الوثنية، وهذا ما سارت عليه كل الدعوات الإصلاحية في تاريخ أمة الإسلام بعد ذلك .

        هذا ما يسر الله من تهذيب كتاب دمعة على التوحيد نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفع بهذا الكتاب والحمد لله الواحد الأحد .

                               *        *       *



(1)                        [1]         البخاري (1/422) ومسلم (2/67).

(2)                        [2]         البخاري (1/416) ومسلم (2/66)

(3)                        [3]         رواه البخاري رقم (5622)، ومسلم (1/58).

(4)                        [4]         رواه البخاري رقم (1425)، ومسلم (1/50).

(5)                        [5]         رواه الإمام أحمد في "مسنده" (1/214)، وسنده صحيح.

(6)                        [6]         رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/84) وإسناده صحيح على شرط الشيخين.

(7)                        [7]         رواه البخاري في "صحيحه"، كتاب الجنائز، معلقاً، ووصله ابن سعد كما ذكر ابن حجر رحمه الله.

(8)                        [8]         رواه عبد الرزاق في "المصنف" (3/418) وسنده صحيح.

(9)                        [9]         "إغاثة اللهفان" لابن القيم (1/319).

(10)                     [10]        أبوداود في "السنن" برقم (2042)، وأحمد في "المسند" (367) بسند حسن.

(11)                     [11]        رواه أحمد في "مسنده" (2|246).

(12)                     [12]        رواه مسلم  في "صحيحه" (3/61)، وأبو داود في "سننه" (3/70).

(13)                     [13]        رواه مسلم في "صحيحه" (3/62) والسياق له، وأبو داود في "سننه" (2763).

(14)                     [14]        رواه الترمذي وأبو داود، وحسنه أحمد شاكر.

(15)                     [15]        "مجموع الفتاوى" (27|466).

(16)                     [16]        "موالد مصر" (ص7).

(17)                     [17]        "الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة" (ص126).

(18)                     [18]        "مجموع الفتاوى" (27|456)

(19)                     [19]        "مجموع الفتاوى" (27|493)

 

(20)                     [20]        ولذلك قال بعض السلف: لو علمت الشيعة قبر هذا الذي يعظمونه بالنجف لرجموه بالحجارة، هذا قبر المغيرة بن شعبة. انظر: "البداية والنهاية" (7/330).

(21)                     [21]        "الانحرافات العقدية" (ص288).

(22)                     [22]        "المزارات في شرق الأردن" (ص902).

(23)                     [23]        "الانحرافات العقدية" (283).

(24)                     [24]        ومن يطالع "الموسوعة الفلسطينية" يجد عشرات الأضرحة والمقامات في القرى والمدن الفلسطينية.

(25)                     [25]        "مجموع الفتاوى" (27|446).

(26)                     [26]        "مساجد مصر وأولياؤها الصالحون" (1/102)قلت : ومن ذلك مقام الصحابي ضرار بن الأزور في غور الأردن بني بناء على رؤيا رآها أحد أئمة المساجد هناك .

(27)                     [27]        "الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة" (ص125).

(28)                     [28]        "الانحرافات العقدية" (ص300).

(29)                     [29]        "مجموع الفتاوى" (27/61-457).

(30)                     [30]        "الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة" (129).

(31)                     [31]        "جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية" (744).

(32)                     [32]        "حوار مع الصوفية" (ص56).

(33)                     [33]        "موالد مصر المحروسة" (ص80).

(34)                     [34]        "تطهير الاعتقاد" (ص26)، و"الأضرحة وشرك الاعتقاد" (ص89).

(35)                     [35]        "مزارات شرقي الأردن" (ص903).

(36)                     [36]        " شهر في دمشق" (ص64).

(37)                     [37]        "الانحرافات العقدية" ص327

(38)                     [38]        "جهود علماء الحنفية" (ص479).

(39)                     [39]        "مساجد مصر" (1/47).

(40)                     [40]        "الأضرحة وشرك الاعتقاد" (ص128).

(41)                     [41]        "بدع الاعتقاد" ( ص268).

(42)                     [42]        "موالد مصر" (ص14).

(43)                     [43]        "التصوف بين الحق والخلق" (ص211).

(44)                     [44]        "وهذا ما سمعناه من الناس في منطقة الغور في الأردن فقد حدثنا الناس أن آباءهم وأجدادهم كاتوا يحفظون السمن والعسل وغير ذلك عند قبر أبي عبيدة ولا يجرأ أحد أن يقترب خوفا من صاحب المقام!

(45)                     [45]        "موالد مصر" (ص53).

(46)                     [46]        "الأضرحة وشرك الاعتقاد" (ص120).

(47)                     [47]        "المزارات في شرقي الأردن" (ص907).

(48)                     [48]        "هذه هي الصوفية" (ص161).

(49)                     [49]        "مجموع الفتاوى" (27|162).

(50)                     [50]        "مساجد مصر" (1|46).

(51)                     [51]        "الصوفية والسياسة" (ص88).

(52)                     [52]        "جهود علماء الحنفية" (ص1083).

(53)                     [53]        "الديوبندية تعريفها عقائدها" (ص78).

(54)                     [54]        "المزارات في شرقي الأردن" (ص911).

(55)                     [55]        "البريلوية عقائد وتاريخ" (ص60).

(56)                     [56]        "البريلوية" (ص58).

(57)                     [57]        رسالة "العبودية" (ص66).

(58)                     [58]        "الجواب الكافي" (ص264).

(59)                     [59]        "الصحة النفسية في ضوء علم النفس والإسلام" (ص103).

(60)                     [60]        "تطهير الاعتقاد" (ص18).

(61)                     [61]        "مجلة المنار" (3|216).

(62)                     [62]        "الانحرافات العقدية" (ص352).

(63)                     [63]        الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة (ص84)

(64)                     [64]        "مساجد مصر" (2/33).

(65)                     [65]        الترمذي وابن ماجة وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

(66)                     [66]        أحمد وابن ماجة وإسناده صحيح لغيره.

(67)                     [67]        "السيد البدوي ودولة الدراويش"( ص141).

(68)                     [68]        "الانحرافات العقدية" (ص288).

(69)                     [69]        "موالد مصر" (ص64).

(70)                     [70]        "السيد البدوي ودولة الدراويش" (ص142).

(71)                     [71]        "مجلة الشروق" (عدد 245).

(72)                     [72]        "الانحرافات العقدية" (ص297).

(73)                     [73]        "مجلة الشرق الأوسط" (عدد557).

(74)                     [74]        "طبقات الشعراني" (2|74).

(75)                     [75]        "إغاثة اللهفان (1|332).

(76)                     [76]        قال ابن كثير: فمن ذلك العمود الذي في رأسه مثل الكرة في سوق الشعير عند قنطرة أم حكيم وهذا المكان يعرف اليوم بالعلبين، ذكر أهل دمشق أنه من وضع اليونان لعسر بول الحيوان فإذا داروا بالحيوان حول هذا العمود ثلاث دورات انطلق باطنه فبال وذلك مجرب من عهد اليونان. قال ابن تيمية عن هذا العمود: إن تحته مدفون جبار عنيد كافر يعذب فإذا داروا بالحيوان حوله سمع العذاب فراث وبال من الخوف قال: ولهذا يذهبون بالدواب إلى قبور النصارى واليهود والكفار فإذا سمعت أصوات المعذبين انطلق بولها والعمود المشار إليه ليس له سر ومن اعتقد أن فيه منفعة أو مضرة فقد أخطأ خطأ فاحشاً.انظر: "البداية والنهاية" (9/151).

(77)                     [77]        رواه البخاري ومسلم.

(78)                     [78]        سبق تخريجه.

(79)                     [79]        أخرجه البخاري ومسلم.

(80)                     [80]        "مجموع الفتاوى" (27|323).

(81)                     [81]        "البداية والنهاية" (9|74).

(82)                     [82]        "اقتضاء الصراط المستقيم" (2|279).

(83)                     [83]        الترمذي وأحمد في "مسنده" وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

(84)                     [84]        سبق تخريجه.

(85)                     [85]        "إغاثة اللهفان" (1|327).

(86)                     [86]        "ترتيب المدارك" (1|332).

(87)                     [87]        "تاريخ ابن كثير" (1|315).

(88)                     [88]        "الباعث على إنكار البدع والحوادث" ( ص103).

(89)                     [89]        "مجموعة التوحيد" (ص339).

(90)                     [90]        "تحذير الساجد" (ص 139).

(91)                     [91]        "تاريخ الجبرتي" (1|304).

(92)                     [92]        "التصوف بين الحق والخلق" (ص211).

(93)                     [93]        "السياسة الشرعية" (ص72).

(94)                     [94]        "البداية والنهاية" (14|36).

(95)                     [95]        رواه الإمام مالك في "الموطأ" (85).

(96)                     [96]        أبوداود وابن ماجة وإسناده صحيح.

الرجوع للصفحة الرئيسية