القول الفصل في حكم بناء القبب على القبر

القول الفصل في حكم بناء القبب على القبر

( وتاريخ القبة الخضراء )

سليمان بن صالح الجربوع
ويليه: بعض رسائل وفتاوى العلماء فيها.
 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول رب العالمين محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، أما بعد:
فإن المتأمل في هذا الزمان والمطلع على واقع المسلمين يجد أموراً يندى لها الجبين،وخاصة إن كانت من أعظم ذنب عصي الله به، أو سبيل موصل إليه، وهو الشرك بالله تعالى، وهل أرسل الرسل ونزلت الكتب إلا لتحقيق العبادة لله وحدهـ لا شريك له، وإبطال ما سواهـ من الأنداد، قال تعالى (( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت )) [ النحل: 36 ]، هذا وإن من الطرق الموصلة للشرك، بناء القبب على القبور، وهو طريق وسبيل إلى عبادتها أو الاستشفاع بها لله، عياذاً بالله من ذلك.
ولهذه الأسباب وغيرها جاءت فكرة طرح هذا المختصر عن بناء القبب على القبور وحكمها في الكتاب والسنة وأقوال العلماء فيها والعمل تجاهها، عسى الله أن ينفع كاتبها وقارئها.
سائلين المولى عز وجل أن تكون خالصة لوجه الكريم.
مقدمة
جاء في لسان العرب: والقُبَّةُ من البناء: معروفة، وقيل هي البناء من الأَدَم خاصَّةً،
مشتقٌّ من ذلك، والجمع قُبَبٌ وقِـبابٌ. وقَبَّـبها: عَمِلَها. وتَقبَّـبها: دَخَلها،وبيتٌ مُقَبَّبٌ: جُعِلَ فوقه قُبَّةٌ؛ والهوادجُ تُقَبَّبُ. وقَبَبْتُ قُبَّة، وقَبَّـبْتها تَقبيباً إِذا بَنَيْتَها. وقُبَّةُ الإِسلام: البَصْرة، وهي خِزانة العرب.

والمقصود في بحثنا هذا هو ما بُنِيَ على قبر الميت من الأبنية كالقُبّة.
وعن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا أدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا تمثالاً إلا طمسته". أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنه، والحاكم والبيهقي والطيالسي وأحمد من طريق أبي وائل عنه، والطبراني في المعجم الصغير من طريق أبي إسحاق عنه، قال الإمام الشوكاني في شرحه لهذا الحديث: ((... ومن رفع القبور الداخل تحت الحديث دخُولاً أولياء القبب والمشاهد المعمورة على القبور، وهو من اتخاذ القبور مساجد، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاعل، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (( لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )).
واستشار رجل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن يبني فسطاطاً على ميت له، فقال له: "لا تفعل، إنما يظله عمله".
وفي الصحيحين عن أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما أنهما ذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم كنيسة رأينها بأرض الحبشة، وذكرتا حسنها، وتصاوير فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوَّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة".
وروى حرب الكرماني عن زيد بن ثابت أن ابناً له مات فاشترى غلام له جَصاً وآجُراً ليبني على القبر، فقال له زيد: حفرتَ وكفرتَ، أتريد أن تبني على قبر ابني مسجداً؟ ونهاه عن ذلك.
وفي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: كنت أصلي وهناك قبر، فقال عمر بن الخطاب: القبر القبر! فظننته يقول: القمر، وإذا هو يقول: القبر، أو كما قال.
وقد قال ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان: يجب هدم القباب التي بنيت على القبور؛ لأنها أُسست على معصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وقد أفتى جماعة من الشافعية بهدم ما القرافة وهي مقبرة بمصر لها أبنية وسوق قائمة، منهم ابن الجُميزي ( ت 649هـ ) والظهير التزمنتي ( ت 682هـ ) وغيرهما، وقال القاضي ابن كج ( ت 405 ) ولا يجوز أن تجصص القبور ولا أن يبنى عليها قباب ولا غير قباب، والوصية بها باطلة.
وقال الفقيه الشافعي الأذرعي ( ت 781 ): وأما بطلان الوصية ببناء القباب وغيرها من الأبنية، وإنفاق الأموال الكثيرة، فلا ريب في تحريمه.
وقال ابن رشد ( ت 520 هـ ) كرهـ مالك البناء على القبر، وجعل البلاطة المكتوبة، وهو من بدع أهل الطول، أحدثوهـ إرادة الفخر والمباهاة والسمعة.
وقد قال الإمام الشافعي في الأم: رأيت الأئمة بمكة، يأمرون بهدم ما يبنى على القبور ويؤيد الهدم، قوله: ولا قبراً مشرفاً إلا سويته ) وحديث جابر الذي بمسلم ( نهى صلى الله عليه وآله وسلم عن البناء على القبور ).ا.هـ.. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب معلقاً على قول الشافعي السابق: ولأنها أسست على معصية الرسول، لنهيه عن البناء عليها، وأمرهـ بتسويتها؛ فبناء أُسس على معصيته، ومخالفته صلى الله عليه وسلم بناء غير محترم، وأولى بالهدم من بناء الغاصب قطعاً، وأولى من هدم مسجد الضرار، المأمور بهدمه شرعاً، إذ المفسدة أعظم حماية للتوحيد.. انتهى رحمه الله. الدرر السنية الجزء الثاني صفحة 202.
وقد أفتى ابن حجر رحمه الله، كما ذكرهـ في كتاب الزواجر: وتجب المبادرة لهدم المساجد والقباب التي على القبور إذ هي أضر من مسجد الضرار لأنها أسست على معصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت هذه الفتوى في عهد الملك الظاهر إذا عزم على هدم كل ما في القرافة من البناء كيف كان، فاتفق علماء عصرهـ أنه يجب على ولي الأمر أن يهدم ذلك كله ويجب عليه أن يكلف أصحابها رمي ترابها في الكيمان.
هذا وإن من المحدثات المنكرة والبدع التي قد شب عليها الصغير وهرم عليها الكبير القبة الخضراء الموجودة في المسجد النبوي فوق قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنها قد تطبعت عند بعض العوام وأصبحوا يروجون دعاياتهم بصورة للمدينة النبوية والقبة الخضراء، فإنا لله وإن إليه راجعون.
وإنك لتعجب أن أكثر من يدعي العلم ممن هو من هذه الأمة يستحسنون ذلك العمل ولا ينكرونه، بل ينكرون على من أنكر، فلقد أشتدت غربة الإسلام، وعاد المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والسنة بدعة، والبدعة سنة.

عريف مختصر عن القبب عموماً والقبة الخضراء:

أول من بنيت له قبة على قبره هو الخليفة محمد المنتصر بن المتوكل العباسي المتوفى سنة ( 248 ) بعد ما أبرز قبره وعرفت باسم القبة الصليبية، ودفن معه الخليفتان: المعتز المتوفى سنة ( 255 )، والمهدي المتوفى سنة ( 256 ).
القبة الخضراء فوق قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونشأتها:
1/ أول من بنى القبة فوق قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو السلطان محمد بن قلاوون الصالحي عام 678هـ، وكانت مربعة في أسفلها مثمنة في أعلاها وصًفحت بألواح من الرصاص.
2/ وفي عام 881هـ جدد القبة الناصر حسن بن محمد بن قلاوون.
3/ وفي عام 886 تأثرت القبة من جراء الحريق الثاني الذي وقع بالمسجد.
4/ وفي عام 887هـ بعهد السلطان قايتباي، جدد بناء القبة ووضعت لها دعائم قوية في أرض المسجد، وبنيت بالآجر.
5/ وفي عام 892هـ أعيد بناء القبة مرة أخرى بالجبس الأبيض بعد أن تشقق أعلاها، وكان في السلطان قايتباي أيضاً.
6/ وفي عام 1233هـ بعهد السلطان محمود عبد الحميد أعيد بناء القبة لآخرة مرة، حيث تشققت القبة في عهدهـ، فأمر بهدم أعلاها وإعادة بنائه من جديد، حيث لا تزال قائمة إلى اليوم.
7/ وفي عام 1253هـ أمر السلطان عبد الحميد العثماني بصبغ القبة باللون الأخضر، فأصبحت القبة تعرف بعد ذلك بالقبة الخضراء، وكانت تسمى فيما سبق القبة الزرقاء أو القبة البيضاء أو القبة الفيحاء.
وقد قال الإمام محمد الصنعاني في كتابه تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد: فإن هذه القباب والمشاهد التي صارت أعظم ذريعة إلى الشرك والإلحاد، وأكبر وسيلة إلى هدم الإسلام وخراب بنيانه، غالباً، بل كل من يعمرها هم الملوك والسلاطين والرؤساء والولاة، إما على قريب لهم أو على من يحسنون الظن فيه، من فاضل أو عالم أو صوفي أو فقير أو شيخ أو كبير، ويزوره الناس الذين يعرفونه زيارة الأموات، من دون توسل به ولا هتف باسمه، بل يدعون له ويستغفرون، حتى ينقرض من يعرفه أو أكثرهم، فياتي من بعدهم فيجد قبراً قد شيّد عليه البناء، وسرجت عليه الشموع، وفرش بالفراش الفاخر، وأرخيت عليه الستور، وألقيت على الورود والزهور، فيعتقد أن ذلك لنفع أو لدفع ضر، ويأتيه السدنة يكذبون على الميت بأنه فعل وفعل، وانزل بفلان الضرر، وبفلان النفع، حتى يغرسوا جِبلّته كل باطل، فلذلك ثبت الأحاديث النبوية بالمنع من ذلك. أ.هـ
هذا وإن من الشبه في عدم هدم هذا القبة وغيرها:
إنه وقع فيمن مضى ولم يُنكر، ولم تهدم، فهذا رجم بالغيب، فإنه قد يكون أنكرته قلوب كثيرة تعذر عليها الإنكار باليد أوباللسان، والناس يشاهدون أمورا في حياتهم منكرة ولا ينكرونها إلا بقلوبهم، فالسكوت لا يستدل به عارف.
وينبغي لولاة أمور المسلمين وفقهم الله منع البناء على القبور وهدم البناء الموجود، فهذا من أوجب الواجبات على الحاكم، وإذا لم يهدم الحاكم القباب على القبور، أنكر العلماء والقضاة والأمانة عليهم أعظم، كيف لا وقد قال الله تعالى (( وإذ أخذ الله ميثاق الذين آوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ))
سائلاً المولى أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

قد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله السؤال: هذه الرسالة وردتنا من الأردن يقول فيها الأخ خليل زيد محمد النعامي هل يجوز بناء القبر، وإذا لم يجوز أفيدوني ماذا أفعل؟

الجواب: لا أدري هل يريد ببناء القبر اتخاذ مكان للإنسان يدفن فيه مبنياً، أو أنه يريد ببناء القبر البناء عليه، فإن كان الأول وهو أن يتخذ مكاناً يدفن فيه فإن السنة هو أن يكون القبر ملحداً، أي أن تحفر حفرة ويجعل في مقدمة القبر من ما يلي القبلة حفرة أخرى بمقدار جسم الميت يدفن فيها فإن هذا هو السنة التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى هذا فمن اتخذ قبراً مبنياً ببناء فإنه يكون مخالفاً للسنة وإما إذا كان يريد البناء على القبور فإن هذا محرم وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم لما فيه من تعظيم أهل القبور وكونه وسيلة وذريعة إلى أن تعبد هذه القبور وتتخذ آلة مع الله كما هو الشأن في كثير من الأبنية التي بنيت على القبور فأصبح الناس يشركون بأصحاب هذه القبور مع الله سبحانه وتعالى.
وقد سؤل – رحمه الله - في فتاوى نور على الدرب السؤال الآتي:
جزاكم الله خيرا السائل أحمد من اليمن من محافظة إب يقول في هذا السؤال نرجو منكم أن تفتوننا في هذا السؤال يوجد لدينا قبر رجل ويقولون بأنه ولي وقد بني عليه قبة وبجانبه ما يقارب من ثلاثة قبور أخرى والقبة المذكورة قد جعلوا فيها مقدمة ومكان يصلى فيه والقبور المذكورة تقع خلف المصلين ونحن نصلي في هذه القبة والقبور من خلفنا فنرجو من فضيلة الشيخ النصح والتوضيح هل صلاتنا صحيحة أم لا جزاكم الله خيرا.
الجواب: البناء على القبور محرم وكل بناء بني على قبر فأنه يجب هدمه ولا يجوز إقراره والصلاة فيه لا تصح بل هي باطلة فلا يحل لكم أن تصلوا في هذه الساحة وإن صليتم فأنتم آثمون وصلاتكم باطلة مردودة عليكم ثم إني أقول من قال إن هذا قبر ولي قد يكون دجلا وكذبا ثم أقول ما هو الولي قد يكون دجالا دجل على الناس وقال إنه من أولياء الله وهو من أعداء الله وأولياء الله تعالى هم المؤمنون المتقون لقوله تعالى (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون َ* الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) فلابد من هذه المقدمات أن يعلم أن هذا من أولياء الله لكونه مؤمنا تقيا وأن يعلم أنه دفن في هذا وبعد هذا يجب أن تهدم القبة التي عليه ولا تصح الصلاة فيها.
وختاماً،نسأل المولى أن يهد ضال المسلمين وأن يرزقهم اتباع سنة إمام المرسلين، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
 



الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أحمعبن ،، وبعد :
القبة التي على قبر النبي ، ليس لها أصل . إنما وضعت في القرن التاسع ، أو العاشر . وضعها أحد الأمراء الأتراك جهلاً منه . وكرهه أهل العلم إزالتها حتى لا يظن الظان أن في ذلك استهانة بالرسول صلى الله عليه وسلم . سمعت هذا من شيخنا عبد العزيز بن باز .
ثم رأيت كلاماً للإمام المحدث الشهير محمد بن إسماعيل الصنعاني المتوفى سنة 1182هـ رحمه الله في رسالة له " تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد " ص (56) حول هذا القبة ما نصه : " فإن هذه القبة ليس بناؤها منه صلى الله عليه وسلم ولا من أصحابه ولا من تابعيهم ولا تابع التابعين ، ولا من علماء أمته وأئمة ملته ، بل هذه القبة المعمولة على قبره صلى الله عليه وسلم من أبنية بعض ملوك مصر المتأخرين ، وهو قلاوون الصالحي ، المعروف بالملك المنصور في سنة ثمان وسبعين وستمائة ( 678 ) ، ذكره في " تحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة " فهذه أمور دولية لا دليلية ، يتبع فيها الآخر الأول " انتهى .
قال العلامة الشيخ سيد محمد رشيد رضا ـ رحمه الله ـ في كتابه " الوهابيون والحجاز " ( ص 69 ، 70 ، 71 ) مع اختصار وزيادة وتصرف :
" ولعل السبب في ترك هذه القبة على ما هي عليه بعد بنائها إلى زماننا الحاضر ولم تهدم ، درء المفسدة ، حيث أن بعض المنكرات قد تعلقت بها قلوب الكثير من الجهالة في العالم الإسلامي ، لأن مثل هذه المظاهر الفخمة ، والزخارف الجميلة تعد في عرف جميع العوم وكثير ممن يسمون الخواص من قبيل شعائر الإسلام ، والمشعر الحرام ، بل هي عندهم أفضل من الركن والمقام وأهم من الصلاة والصيام ، ومنهم من يذهب إلى الحجاز لأجل الزيارة ، ولا يخشع إلا لرؤية هذه المباني الفخمة ، فكيف والحال فيما يتعلق بالقبة التي على حجرة عائشة رضي الله عنها والتي فيها قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما . فإذا كان في إزالة شيء منها مصلحة من بعض الوجوه كالرجوع في الأمور الدينية وما يتعلق بها إلى مثل ما كانت عليه في عصر السلف ، والتمييز بين ما هو مطلوب شرعاً ، وما هو محذور أو غير مطلوب ، فإن فيه مفسدة أكبر، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح بشرطه المعروف عند العلماء .
وقد ترك المسؤولون والمصلحون والقائمون على شؤون الحرم المدني في هذه الدولة المباركة ـ حرسها الله ـ الحال على ما هو عليه في شأن القبة درءاً للمفسدة ـ كما تقدم ـ واتقاء لتنفير الكثيرين عن الإصلاح المقصود من رفع الظلم عن الناس ودعوتهم إلى توحيد الله تعالى وحده لا شريك له ، ونبذ الشرك به سبحانه . فعملهم هذا موافقاً للشرع .
ومن الدلائل السنة على هذه المراعاة بهذا القصد ما ثبت في صحيح البخاري ( 3 / 429 ) ، ( 6 / 407 ) ، 0 8 / 170 ) . ومسلم ( 2 / 969 ) . وأحمد ( 6 / 113 و 177 و 247 ) . وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كارهاً لما عليه بناء قريش للكعبة مقتصرة من جهة الشمال عن قواعد جده إبراهيم ( عليهما وآلهما الصلاة والسلام ) من جعل بابها مرتفعاً ليدخلوا من شاؤا ، ويمنعوا من شاؤا ، وأنه صلى الله عليه وسلم يود لو نقضها فأعاد بناءها على أساس إبراهيم ، وجعل لها بابين لاصقين بالأرض ليدخل كل من أراد من باب ، ويخرج من الآخر ، وما منعه من ذلك إلا حداثة عهدهم بالكفر والجاهلية كما صرح به لعائشة ، فإذا كان المعصوم صلى الله عليه وسلم خاف أن تنكر قلوب حديثي العهد بالشرك من المؤمنين هدمه للكعبة ، وبناءها على أتم وأفضل مما بناها عليه المشركون ، فمراعاة أهل الأمر من القائمين على المسجد النبوي مثل ذلك عملاً شرعياً "
.


القبة الخضراء في المدينة ، تاريخها ، وحكم بنائها ، وبقائها
السؤال
إذا كانت القبة الخضراء على قبر النبي صلى الله عليه وسلم من البدع والمؤدية إلى الشرك ، فلماذا لا تزيلها الحكومة السعودية ؟

الجواب
الحمد لله
أولاً:
تاريخ القبة الخضراء
لم تكن القبة التي على قبر النبي صلى الله عليه وسلم موجودة إلى القرن السابع ، وقد أُحدث بناؤها في عهد السلطان قلاوون ، وكان لونها أولاً بلون الخشب ، ثم صارت باللون الأبيض ، ثم اللون الأزرق ، ثم اللون الأخضر ، واستمرت عليه إلى الآن .
قال الأستاذ علي حافظ حفظه الله :
" لم تكن على الحجرة المطهرة قبة ، وكان في سطح المسجد على ما يوازي الحجرة حظير من الآجر بمقدار نصف قامة تمييزاً للحجرة عن بقية سطح المسجد .
والسلطان قلاوون الصالحي هو أول من أحدث على الحجرة الشريفة قبة ، فقد عملها سنَة 678 هـ ، مربَّعة من أسفلها ، مثمنة من أعلاها بأخشاب ، أقيمت على رؤوس السواري المحيطة بالحجرة ، وسمَّر عليها ألواحاً من الخشب ، وصفَّحها بألواح الرصاص ، وجعل محل حظير الآجر حظيراً من خشب .
وجددت القبة زمن الناصر حسن بن محمد قلاوون ، ثم اختلت ألواح الرصاص عن موضعها ، وجددت ، وأحكمت أيام الأشرف شعبان بن حسين بن محمد سنة 765 هـ ، وحصل بها خلل ، وأصلحت زمن السلطان قايتباي سنة 881هـ .
وقد احترقت المقصورة والقبة في حريق المسجد النبوي الثاني سنة 886 هـ ، وفي عهد السلطان قايتباي سنة 887هـ جددت القبة ، وأسست لها دعائم عظيمة في أرض المسجد النبوي ، وبنيت بالآجر بارتفاع متناه ،....
بعد ما تم بناء القبة بالصورة الموضحة : تشققت من أعاليها ، ولما لم يُجدِ الترميم فيها : أمر السلطان قايتباي بهدم أعاليها ، وأعيدت محكمة البناء بالجبس الأبيض ، فتمت محكمةً ، متقنةً سنة 892 هـ .
وفي سنة 1253هـ صدر أمر السلطان عبد الحميد العثماني بصبغ القبة المذكورة باللون الأخضر ، وهو أول من صبغ القبة بالأخضر ، ثم لم يزل يجدد صبغها بالأخضر كلما احتاجت لذلك إلى يومنا هذا .
وسميت بالقبة الخضراء بعد صبغها بالأخضر ، وكانت تعرف بالبيضاء ، والفيحاء ، والزرقاء " انتهى .
" فصول من تاريخ المدينة المنورة " علي حافظ ( ص 127، 128 ) .
ثانياً:
حكمها
وقد أنكر أهل العلم المحققين - قديماً وحديثاً – بناء تلك القبة ، وتلوينها ، وكل ذلك لما يعلمونه من سد الشريعة لأبواب كثيرة خشية الوقوع في الشرك .
ومن هؤلاء العلماء :

"فإن قلت : هذا قبرُ الرسولِ صلى اللهُ عليه وسلم قد عُمرت عليه قبةٌ عظيمةٌ انفقت فيها الأموالُ .
قلتُ : هذا جهلٌ عظيمٌ بحقيقةِ الحالِ ، فإن هذه القبةَ ليس بناؤها منهُ صلى اللهُ عليه وسلم ، ولا من أصحابهِ ، ولا من تابعيهم ، ولا من تابعِ التابعين ، ولا علماء الأمةِ وأئمة ملتهِ ، بل هذه القبةُ المعمولةُ على قبرهِ صلى اللهُ عليه وسلم من أبنيةِ بعضِ ملوكِ مصر المتأخرين ، وهو قلاوون الصالحي المعروف بالملكِ المنصورِ في سنةِ ثمانٍ وسبعين وست مئة ، ذكرهُ في " تحقيقِ النصرةِ بتلخيصِ معالمِ دارِ الهجرةِ " ، فهذه أمورٌ دولية لا دليليةٌ " انتهى .

هناك من يحتجون ببناء القبة الخضراء على القبر الشريف بالحرم النبوي على جواز بناء القباب على باقي القبور ، كالصالحين ، وغيرهم ، فهل يصح هذا الاحتجاج أم ماذا يكون الرد عليهم ؟
فأجابوا :
" لا يصح الاحتجاج ببناء الناس قبة على قبر النبي صلى الله عليه وسلم على جواز بناء قباب على قبور الأموات ، صالحين ، أو غيرهم ؛ لأن بناء أولئك الناس القبة على قبره صلى الله عليه وسلم حرام يأثم فاعله ؛ لمخالفته ما ثبت عن أبي الهياج الأسدي قال : قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ألا تدع تمثالاً إلا طمستَه ، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته .
وعن جابر رضي الله عنه قال : ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجصَّص القبر ، وأن يقعد عليه ، وأن يبنى عليه ) رواهما مسلم في صحيحه ، فلا يصح أن يحتج أحد بفعل بعض الناس المحرم على جواز مثله من المحرمات ؛ لأنه لا يجوز معارضة قول النبي صلى الله عليه وسلم بقول أحد من الناس أو فعله ؛ لأنه المبلغ عن الله سبحانه ، والواجب طاعته ، والحذر من مخالفة أمره ؛ لقول الله عز وجل : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) الحشر/ 7 .
وغيرها من الآيات الآمرة بطاعة الله وطاعة رسوله ؛ ولأن بناء القبور ، واتخاذ القباب عليها من وسائل الشرك بأهلها ، فيجب سد الذرائع الموصلة للشرك " انتهى .
الشيخ عبد العزيز بن باز ، الشيخ عبد الرزاق عفيفي ، الشيخ عبد الله بن قعود .
" فتاوى اللجنة الدائمة " ( 9 / 83 ، 84 ).

" ليس في إقامة القبة على قبر النبي صلى الله عليه وسلم حجة لمن يتعلل بذلك في بناء قباب على قبور الأولياء والصالحين ؛ لأن إقامة القبة على قبره : لم تكن بوصية منه ، ولا من عمل أصحابه رضي الله عنهم ، ولا من التابعين ، ولا أحد من أئمة الهدى في القرون الأولى التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالخير ، إنما كان ذلك من أهل البدع ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) ، وثبت عن علي رضي الله عنه أنه قال لأبي الهياج : ( ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ألاَّ تدع تمثالاً إلا طمسته ، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته ) رواه مسلم ؛ فإذا لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم بناء قبة على قبره ، ولم يثبت ذلك عن أئمة الخير ، بل ثبت عنه ما يبطل ذلك : لم يكن لمسلم أن يتعلق بما أحدثه المبتدعة من بناء قبة على قبر النبي صلى الله عليه وسلم " انتهى .
الشيخ عبد العزيز بن باز ، الشيخ عبد الرزاق عفيفي ، الشيخ عبد الله بن غديان ، الشيخ عبد الله بن قعود .
" فتاوى اللجنة الدائمة " ( 2 / 264 ، 265 ) .

" قال العلامة الخجندي ( 1379 هـ ) مبيِّناً تاريخ بناء هذه القبة الخضراء المبنية على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، محققاً أنها بدعة حدثت بأيدي بعض السلاطين ، الجاهلين ، الخاطئين ، الغالطين ، وأنها مخالفة للأحاديث الصحيحة المحكمة الصريحة ؛ جهلاً بالسنَّة ، وغلوّاً وتقليداً للنصارى ، الضلال الحيارى :
اعلم أنه إلى عام ( 678 هـ ) لم تكن قبة على الحجرة النبوية التي فيها قبر النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وإنما عملها وبناها الملك الظاهر المنصور قلاوون الصالحي في تلك السنة - ( 678هـ) ، فعملت تلك القبة .
قلت : إنما فعل ذلك لأنه رأى في مصر والشام كنائس النصارى المزخرفة فقلدهم جهلاً منه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وسنته ؛ كما قلدهم الوليد في زخرفة المسجد ، فتنبه ، كذا في " وفاء الوفاء " ...
اعلم أنه لا شك أن عمل قلاوون هذا -: مخالف قطعاً للأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولكن الجهل بلاء عظيم ، والغلو في المحبة والتعظيم وباء جسيم ، والتقليد للأجانب داء مهلك ؛ فنعوذ بالله من الجهل ، ومن الغلو ، ومن التقليد للأجانب " انتهى.
" جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية " ( 3 / 1660 - 1662 ) .
ثالثاً:
سبب عدم هدمها
فقد بَيَّن العلماء الحكم الشرعي في بناء القبة ، وأثرها البدعي واضح على أهل البدع ، فهم متعلقون بها بناءً ولوناً ، ومدحهم وتعظيمهم لها نظماً ونثراً كثير جدّاً ، ولم يبق إلا تنفيذ ذلك من ولاة الأمر ، وليس هذا من عمل العلماء .
وقد يكون المانع من هدمها درءً للفتنة ، وخشيةً من أن تحدث فوضى بين عامة الناس وجهلتهم ، وللأسف فإن هؤلاء العامة لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من تعظيم تلك القبَّة إلا بقيادة علماء الضلالة وأئمة البدعة ، وهؤلاء هم الذي يهيجون العامة على بلاد الحرمين الشريفين ، وعلى عقيدتها ، وعلى منهجها ، وقد ساءتهم جدّاً أفعالٌ كثيرة موافقة للشرع عندنا ، مخالفة للبدعة عندهم ! .
وبكل حال : فالحكم الشرعي واضح بيِّن ، وعدم هدمها لا يعني أنها جائزة البناء لا هي ولا غيرها على أي قبر كان .
قال الشيخ صالح العصيمي حفظه الله :
" إن استمرارَ هذه القبةِ على مدى ثمانيةِ قرونٍ لا يعني أنها أصبحت جائزة ، ولا يعني أن السكوتَ عنها إقرارٌ لها ، أو دليلٌ على جوازها ، بل يجبُ على ولاةِ المسلمين إزالتها ، وإعادة الوضع إلى ما كان عليه في عهدِ النبوةِ ، وإزالة القبةِ والزخارفِ والنقوشِ التي في المساجدِ ، وعلى رأسها المسجدُ النبوي ، ما لم يترتب على ذلك فتنةٌ أكبر منه ، فإن ترتبَ عليه فتنةٌ أكبر ، فلولي الأمرِ التريث مع العزمِ على استغلالِ الفرصة متى سنحت " انتهى .
" بدعِ القبورِ ، أنواعها ، وأحكامها " ( ص 253 ) .
والله أعلم


الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد بن صالح المنجد
حفظه الله تعالى

نقلا عن صوفية حضر موت :

http://www.soufia-h.net/showthread.php?t=7463

http://www.soufia-h.net/showthread.php?t=10161

 

الرجوع للصفحة الرئيسية