أحكام الجنائز

مقتطفات من تلخيص أحكام الجنائز

تأليف:محمد ناصر الدين الألباني

 اللحد والشق

اللحد هو الشق في عرض القبر من جهة القبلة - والشق هو الضريح وهو أن يحفر على أسفل كالنهر.

ويجوز في القبر اللحد والشق لجريان العمل عليهما في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الأول أفضل وفي ذلك أحاديث أذكر اثنين منها :
الأول: عن أنس بن مالك قال:
لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كان بالمدينة رجل يلحد وآخر يضرح فقالوا: نستخير ربنا ونبعث إليهما فأيهما سبق تركناه فأرسل إليهما فسبق صاحب اللحد فلحدوا للنبي صلى الله عليه وسلم.

الثاني: عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللحد لنا والشق لغيرنا"
 
والسنة إدخال الميت مؤخر القبر لحديث أبي إسحاق قال:  
أوصى الحارث أن يصلي عليه عبد الله بن يزيد فصلى عليه ثم أدخله القبر من قبل رجلي القبر وقال : هذا من السنة.
وعن ابن سيرين قال: كنت مع أنس في جنازة فأمر بالميت فسل من قبل رجل القبر.

 

ويجعل الميت في قبره على جنبه اليمين ووجه قبالة القبلة ورأسه ورجلاه إلى يمين القبلة ويسارها على هذا جرى عمل أهل الإسلام من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وهكذا كل مقبرة على ظهر الأرض. كذا في  المحلى   5 / 173  وغيره.
 - ويقول الذي يضعه في لحده:

بسم الله وعلى سنة رسول الله أو: ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم. 
أو يقول:
بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أمر بذلك كله صلى الله عليه وسلم.
- ويستحب لمن عند القبر أن يحثو من التراب ثلاث حثوات بيديه جميعا بعد الفراغ من سد اللحد لحديث أبي هريرة :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة ثم أتي بالميت فحثا عليه من قبل رأسه ثلاثا. 
- ويسن بعد الفراغ من دفنه أمور :
الأول:
أن يرفع القبر عن الأرض قليلا نحو شبر ولا يسوى بالأرض ليتميز فيصان ولا يهان لحديث جابر رضي الله عنه :
أن النبي صلى الله عليه وسلم
ألحد له لحد ونصب عليه اللبن نصبا ورفع قبره من الأرض نحوا من شبر 
الثاني: أن يجعل مسنما لحديث سفيان التمار قال : رأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم  وقبر أبي بكر وعمر  مسنما 
الثالث: أن يعلمه بحجر أو نحوه ليدفن إليه من يموت من أهله لحديث المطلب بن أبي وداعة رضي الله عنه قال:
لما مات عثمان بن مظعن أخرج بجنازته فدفن أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا أن
يأتيه بحجر فلم يستطع حمله فقام إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسر عن ذراعيه قال المطلب: قال الذي يخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كأني أنظر إلى بياض ذراعي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حسر عنهما ثم حملها فوضعها عند رأسه وقال:
أتعلم بها قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي
الرابع: أن لا يلقن الميت التلقين المعروف اليوم لأن الحديث الوارد فيه لا يصح بل يقف على القبر يدعو له بالتثبيت ويستغفر له ويأمر الحاضرين بذلك لحديث عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال:
"استغفروا لأخيكم وسلو له التثبيت فإنه الآن يسأل"
 

- ويجوز الجلوس عنده أثناء الدفن بقصد تذكير الحاضرين بالموت وما بعده لحديث البراء بن عازب لا بأس من ذكره على طوله لما فيه من الرغبة والرهبة والموعظة قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم  مستقبل القبلة  وجلسنا حوله وكأن على رءوسنا الطير وفي يده عود ينكت في الأرض  فجعل ينظر إلى الأرض وجعل يرفع بصره ويخفضه ثلاثا فقال استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثا ثم قال اللهم إني أعوذ من عذاب القبر  ثلاثا  ثم قال :
إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الطيبة  وفي رواية المطمئنة  اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان قال فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها  وفي رواية حتى إذا خرج روحه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض وكل ملك في السماء وفتحت له أبواب السماء ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله أن يعرج بروحه من قبلهم فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط  فذلك قوله تعالى: توفته رسلنا وهم لا يفرطون  ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض قال فيصعدون بها فلا يمرون يعني بها على ملإ من الملائكة إلا قالوا ما هذا الروح الطيب فيقولون فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح لهم فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهى به إلى السماء السابعة فيقول الله عز وجل اكتبوا كتاب عبدي في عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون  فيكتب كتابه في علييين ثم قال: أعيدوه إلى الأرض فإني  وعتهم إني  منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى قال فيرد إلى الأرض  وتعاد روحه في جسده قال فإنه يسمع خفق نعال أصحابه إذا ولا عنه مدبرين فيأتيه ملكان شديدا الانتهار فينتهرانه و  يجلسانه.
فيقولان له : من ربك ؟ فيقول: ربي الله.
فيقولان له: ما دينك فيقول: ديني الإسلام.
فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيقولان له: وما علمك ؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت  فينتهره فيقول: من ربك ؟ ما دينك؟ ما نبيك؟ وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن فذلك حين يقول الله عز وجل:
{ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فيقول: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم  فينادي مناد في السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة قال فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره.
قال: وفي رواية يمثل له 
رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول أبشر بالذي يسرك  أبشر برضوان من الله وجنات فيها نعيم مقيم  هذا يومك الذي كنت توعد فيقول له:  وأنت فبشرك الله بخير  من أنت فوجهك الوجه يجيء بالخير فيقول أنا عملك الصالح  فوالله ما علمتك إلا كنت سريعا في طاعة الله بطيئا في معصية الله فجزاك الله خيرا  ثم يفتح له باب من الجنة وباب من النار فيقال هذا منزلك لو عصيت الله أبدلك الله به هذا فإذا رأى ما في الجنة فيقول : رب عجل قيام الساعة كيما أرجع إلى أهلي ومالي  فيقال له: اسكن قال:
وإن العبد الكافر  وفي رواية : الفاجر  إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة  غلاظ شداد  سود الوجوه معهم المسوح من النار فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب قال فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود  الكثير الشعب من الصوف المبلول فتقطع معها العروق والعصب فيلعنه كل ملك بين السماء والأرض وكل ملك في السماء وتغلق أبواب السماء ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله ألا تعرج روحه من قبلهم  فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملإ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث ؟ فيقولون: فلان بن فلان - بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهى به إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله
صلى الله عليه وسلم :
{لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} فيقول الله عز وجل : اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى  ثم يقال : أعيدوا عبدي إلى الأرض فغني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى فتطرح روحه  من السماء  طرحا  حتى تقع في جسده  ثم قرأ {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} فتعاد روحه في جسده  قال: فإنه ليسمع خفق نعال أصحابه إذا ولو عنه. 
ويأتيه ملكان  شديدا الانتهار فينتهرانه ويجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول: هاه هاه لا أدري فيقولان له: فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فلا يهتدي لاسمه فيقال: محمد فيقول: هاه هاه لا أدري  سمعت الناس يقولون ذاك قال: فيقال: لا دريت ولا تلوت فينادي مناد من السماء أن كذب فافرشوا له من النار وافتحوا له بابا إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ويأتيه  وفي رواية: ويمثل له  رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوءك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول: وأنت فبشرك لله بالشر  من أنت ؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر فيقول: أنا عملك الخبيث فوالله ما علمت إلا كنت بطيئا عن طاعة الله سريعا إلى معصية الله  فجزآك الله شرا ثم يقيض له أعمى أصم أبكم في يده مرزبة لو ضرب بها جبل كان ترابا فيضربه ضربة حتى يصير ترابا ثم يعيده الله كما كان فيضربه ضربة أخرى فيصيح صيحة يسمعه كل شيء
إلا الثقلين ثم يفتح له باب من النار ويمهد من فرش النار فيقول: رب لا تقم الساعة. 

 

- ويجوز إخراج الميت من القبر لغرض صحيح كما لو دفن قبل غسله وتكفينه ونحو ذلك .
- ولا يستحب للرجل أن يحفر قبره قبل أن يموت فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك وهو ولا أصحابه والعبد لا يدري أين يموت وإذا كان مقصود الرجل الاستعداد للموت فهذا يكون من العمل الصالح.
 

ما ينتفع به الميت:
وينتفع الميت من عمل غيره بأمور:
أولا :
دعاء المسلم له إذا توفرت فيه شروط القبول لقول الله تبارك وتعالى:
{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 
وأما الأحاديث فهي كثيرة جدا وقد سبق بعضها ويأتي بعضها في زيارة القبور ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم وأمره بذلك. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: 
"دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل"
بل إن صلاة الجنازة جلها شاهد لذلك لأن غالبها دعاء للميت واستغفار له كما تقدم بيانه.
ثانيا: قضاء ولي الميت صوم النذر عنه وفيه أحاديث:
الأول: عن عائشة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:  "من مات وعليه صيام صام عنه وليه".  وهو محمول على صيام النذر دون صيام رمضان وبيانه في الأصل.
الثاني : عن ابن عباس رضي الله عنه: أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن الله تبارك وتعالى أنجاها أن تصوم شهرا فأنجاها الله عز وجل فلم تصم حتى ماتت فجاءت قرابة لها  إما أختها أو ابنتها  إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال:
"أرأيتك لو كان عليها دين كنت تقضيه ؟ قالت : نعم . قال: فدين الله أحق أن يقضى".  [ف] "اقضي عن أمك".
ثالثا: قضاء الدين عنه من أي شخص وليا كان أو غيره كما تقدم.
رابعا: ما يفعله الولد الصالح من الأعمال الصالحة فإن لوالديه مثل أجره دون أن ينقص من أجره شيء لأن الولد من سعيهما وكسبهما والله عز وجل يقول : ؟ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى؟ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه"


ويؤيد ما دلت عليه الآية والحديث أحاديث خاصة وردت في انتفاع الوالد بعمل ولده الصالح كالصدقة والصيام والعتق ونحوه وهذه بعضها:
الأول : عن عائشة رضي الله عنها:  أن رجلا قال: إن أمي افتلتت نفسها " أي ماتت فجأة" ولم توص  وأظنها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها  ولي أجر؟ قال: نعم  فتصدق عنها.  
الثاني: عن عبد الله بن عمر:  أن العاص بن وائل السهمي أوصى أن يعتق عنه مائة رقبة فأعتق ابنه هشام خمسين رقبة وأراد ابنه عمرو أن يعتق عنه الخمسين الباقية قال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أبي أوصى أن يعتق عنه مائة رقبة وإن هشاما أعتق عنه خمسين وبقيت عليه خمسون أفأعتق عنه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه لو كان مسلما فأعتقتم أو تصدقتم عنه أو حججتم عنه بلغه ذلك"  وفي رواية: "فلو كان أقر بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك".

خامسا: ما خلفه من بعده من آثار صالحة وصدقات جارية لقوله تبارك وتعالى: ؟ ونكتب ما قدموا وآثارهم ؟ وقوله صلى الله عليه وسلم:
"إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء: إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح1 يدعو له"
وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: 
كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار فجاءه أقوام حفاة عراة مجتابي النمارأو العباء متقليدي السيوف  وليس عليهم أزر ولا شيء غيرها  عامتهم من مضر بل كلهم من مضر فتمعر  وفي رواية : فتغير - ومعناهما واحد  وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذن وصلى الظهر ثم صعد منبرا صغيرا  ثم خطب  فحمد الله وأثنى عليه  فقال:
أما بعد فإن الله أنزل في كتابه:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} والآية التي في  الحشر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}. تصدقوا قبل أن يحال بينكم وبين الصدقة  تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره  من شعيره من صاع تمره حتى قال: ولا يحقرن أحدكم شيئا من الصدقة  ولو بشق تمرة فأبطؤوا حتى بان في وجهه الغضب قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة  من ورق - وفي  رواية : من ذهب -كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت  فناولها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على منبره فقال: يا رسول الله هذه في سبيل الله   فبضها رسول الله صلى الله عليه وسلم  ثم قام أبو بكر فأعطى ثم قام عمر فأعطى ثم قام المهاجرون والأنصار فأعطوا  ثم تتابع الناس  في الصدقات   فمن ذي دينار ومن ذي درهم ومن ذي ومن ذي  حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها و  مثل  أجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن سنة في الإسلام سيئة كان عليه وزرها ومثل وزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء". ثم تلى هذه الآية:
{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} قال: فقسمه بينهم.  


زيارة القبور:

- وتشرع زيارة القبور للاتعاظ بها وتذكرة الآخرة شريطة أن لا يقول عندها ما يغضب الرب سبحانه وتعالى كدعاء المقبور والاستغاثة به من دون الله تعالى أو تزكيته والقطع له بالجنة ونحو ذلك وفيه أحاديث معروفة لا ضرورة لذكرها هنا فمن شاء راجعها في الأصل.

- والنساء كالرجال في استحباب زيارة القبور لوجوه:
الأول: عموم قوله صلى الله عليه وسلم:
"فزوروا القبور" فيدخل فيه النساء وبيانه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نهى عن زيارة القبر في أول الأمر فإن مما لا شك فيه أن النهي كان شاملا للرجال والنساء معا فلما قال: كنت نهيتكم عن زيارة القبور  كان مفهوما أنه كان يعني الجنسين ضرورة أنه يخبرهم عما كان في أول الأمر من نهي الجنسين فإذا كان الأمر كذلك كان لزاما أن الخطاب في الجملة الثانية من الحديث وهو قوله: فزوروها  إنما أراد به الجنسين أيضا.
ويؤيده أن الخطاب في بقية الأفعال المذكورة في روايته: ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكرا. 
أقول: فالخطاب في جميع هذه الأفعال موجه إلى الجنسين قطعا كما هو الشأن في الخطاب الأول:  كنت نهيتكم  فإذا قيل بأن الخطاب في قوله: فزوروها  خاص بالرجال اختل نظام الكلام وذهبت طلاوته الأمر الذي لا يليق إلصاقه بمن أوتي جوامع الكلم ومن هو أفصح من نطق بالضاد صلى الله عليه وسلم ويزيده تأييدا الوجوه الآتية:
الثاني: مشاركتهن الرجال في العلة التي من أجلها شرعت زيارة القبور: فإنها ترق القلب وتدمع العين وتذكر الآخرة. 
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رخص لهن في زيارة القبور في حديثين حفظتهما لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:
1- عن عبد الله بن أبي مليكة:
أن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر فقلت: لها: يا أم المؤمنين من أين أقبلت ؟ قالت: من قبر عبد الرحمن بن أبي بكر فقلت لها: أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور ؟ قالت : نعم: ثم أمرنا بزيارتها.
وفي رواية عنها:  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في زيارة القبور. 
2 - عن محمد بن قيس بن مخرمة بن المطلب أنه قال يوما: ألا أحدثكم عني
وعن أمي؟ فظننا أنه يريد أمه التي ولدت قال : قالت عائشة: ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلنا : بلى قالت:
لما كانت ليلتي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم فيها عندي انقلب فوضع رداءه وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه وبسط طرف إزاره على فراشه فاضطجع فلم يلبث إلا ريثما ظهر أنه قد رقدت فأخذ رداءه رويدا وانتعل رويدا وفتح الباب  رويدا  فخرج ثم أجافه رويدا فجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري1 ثم انطلقت على إثره حتى جاء البقيع فقام فأطال القيام ثم رفع يديه ثلاث مرات ثم انحرف فانحرفت وأسرع فأسرعت فهرول فهرولت فأحضر فأحضرت فسبقته فدخلته فليس إلا أن أضجعت فدخل فقال : مالك يا عائش2 حشيا3 رابية ؟ قالت: قلت: لا شيء يا رسول الله قال: لتخبرني أو ليخبرني اللطيف الخبير قالت قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي فأخبرته  الخبر  قال: فأنت السواد الذي رأيته أمامي؟ قلت: نعم فلهزني في صدري لهزة4 أوجعتني ثم قال: أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله ؟ قالت : مهما يكتم الناس يعلمه الله  قال: نعم.
قال: فإن جبريل أتاني حين رأيت فناداني فأخفاه منك فأجبته فأخفيته منك ولم يكن ليدخل عليك وقد وضعت ثيابك وظننت أن قد رقدت فكرهت أن أوقظك وخشيت أن تستوحشي فقال : إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم.
قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال قولي: 
"السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون"

لكن لا يجوز لهن الإكثار من زيارة القبور والتردد عليها لأن ذلك قد يفضي بهن إلى مخالفة الشريعة من مثل الصياح والتبرج واتخاذ القبور مجالس للنزهة وتضييع الوقت في الكلام الفارغ كما هو مشاهد اليوم في بعض البلاد الإسلامية وهذا هو المراد - إن شاء الله - بالحديث المشهور:
"لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم  وفي لفظ : لعن الله زوارات القبور"
قال القرطبي :
اللعن المذكور في الحديث إنما هو للمكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصيغة من المبالغة ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج والتبرج وما ينشأ من الصياح ونحو ذلك وقد يقال : إذا أمن جميع ذلك فلا مانع من الأذن لهن لأن تذكر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء. 
قال الشوكاني في نيل الأوطار 4 / 95:
وهذا الكلام هو الذي ينبغي اعتماده في الجمع بين أحاديث الباب المتعارضة في الظاهر. 
119 - ويجوز زيارة قبر من مات على غير الإسلام للعبرة فقط لحديث أبي هريرة وغيره:
زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال: 
استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت. 


والمقصود من زيارة القبور شيئان:
1- انتفاع الزائر بذكر الموت والموتى وأن مآلهم إما إلى جنة وإما إلى نار وهو الغرض الأول من الزيارة كما يدل عليه ما سبق من الأحاديث.
2 - نفع الميت والإحسان إليه بالسلام عليه والدعاء والاستغفار له وهذا خاص بالمسلم وفيه أحاديث أذكر بعض صيغها:

 الأول: السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين وإنا وإياكم وما توعدون غدا مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد. 
الثاني:  السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون. 
الثالث: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله  بكم  للاحقون  أنتم لنا فرط ونحن لكم تبع  أسأل الله لنا ولكم العافية. 
 

- وأما قراءة القرآن عند زيارتها فمما لا أصل له في السنة بل الأحاديث المذكورة في المسألة السابقة تشعر بعدم مشروعيتها إذ لو كانت مشروعة لفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمها أصحابه لا سيما وقد سألته عائشة رضي الله عنها - وهي من أحب الناس إليه صلى الله عليه وسلم - عما تقول إذا زارت القبور؟ فعلمها السلام والدعاء ولم يعلمها أن تقرأ الفاتحة أو غيرها من القرآن فلو أن القراءة كانت مشروعة لما كتم ذلك عنها كيف وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز كما تقرر في علم الأصول فكيف بالكتمان ؟ ولو أنه صلى الله عليه وسلم علمهم شيئا من ذلك لنقل إلينا فإذا لم ينقل بالسند الثابت دل على أنه لم يقع.
ومما يقوي عدم المشروعية قوله صلى الله عليه وسلم:
"لا تجعلوا بيوتكم مقابر فإن الشيطان يفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة" فقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى أن القبور ليست موضعا للقراءة شرعا فلذلك حض على قراءة القرآن في البيوت ونهى عن جعلها كالمقابر التي لا يقرأ فيها كما أشار في

 

 الحديث الآخر إلى أنها ليست موضعا للصلاة أيضا وهو قوله: "صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا"
وترجم له البخاري بقوله :  باب
كراهية الصلاة في المقابر  فأشار به إلى أنه يفيد كراهة الصلاة في المقابر فكذلك الحديث الذي قبله يفيد كراهة قراءة القرآن في المقابر ولا فرق ولذلك كان مذهب جمهور السلف كأبي حنيفة ومالك وغيرهم كراهة القراءة عند القبور وهو قول الإمام أحمد فقال أبو داود في  مسائله  سمعت أحمد سئل عن القراءة عند القبر ؟ فقال: لا 
 

- ويجوز رفع اليدين في الدعاء لها لحديث عائشة رضي الله عنه قالت:
حسن خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فأرسلت بريرة في أثره لتنظر أين ذهب قالت : فسلك نحو بقيع الغرقد فوقف في أدنى البقيع ثم رفع يديه ثم انصرف فرجعت إلي بريرة فأخبرتني فلما أصبحت سألته فقلت: يا رسول الله أين خرجت الليلة؟ قال:
"بعثت إلى أهل البقيع لأصلي عليهم"


-
ولكنه لا يستقبل القبور حين الدعاء لها بل الكعبة لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور كما سيأتي والدعاء مخ الصلاة ولبها كما هو معروف فله حكمها وقد قال صلى الله عليه وسلم:
"الدعاء هو العبادة" ثم قرأ:
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.

 

- وإذا زار قبر الكافر فلا يسلم عليه ولا يدعوه له بل يبشره بالنار كذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سعد بن أبي وقاص قال:
جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أبي كان يصل الرحم وكان وكان فأين هو؟ قال: في النار. فكأن الأعرابي وجد من ذلك فقال: يا رسول الله فأين أبوك؟ قال: 
"حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار"
قال: فأسلم الأعرابي بعد فقال: لقد كلفني رسول الله تعبا ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار.


-
ولا يمشي بين قبور المسلمين في نعليه لحديث بشير بن الحنظلية المتقدم. قال:
بينا أماشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على قبور المسلمين فبينما هو يمشي إذ حانت منه نظرة فإذا هو برجل يمشي بين القبور عليه نعلان فقال:
"يا صاحب السبتيتين ألق سبتيتك".  فنظر فلما عرف الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم خلع نعليه فرمى بهما. 


-
ولا يشرع وضع الأس ونحوها من الرياحين والورود على القبور لأنه لم يكن من فعل السلف ولو كان خيرا لسبقونا إليه وقد قال ابن عمر رضي الله عنهما:
"كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة"


ما يحرم عند القبور:
- ويحرم عند القبور ما يأتي:
1 - الذبح لوجه الله لقوله صلى الله عليه وسلم:
"لا عقر في الإسلام" قال عبد الرزاق بن همام: كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة
2- رفعها زيادة على التراب الخارج منها.
3 - طليها بالكلس ونحوه.
4 - الكتابة عليها.

5 - البناء عليها.
6 - القعود عليها.


وفي ذلك أحاديث:
الأول: عن جابر رضي الله عنه قال: 
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه  أو يزاد عليه أو يكتب عليه.  
الثاني: عن أبي سعيد وهو الخدري:  أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبنى على القبر. 
الثالث: عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالا وفي رواية: صورة في بيت إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته. 
الرابع: عن ثمامة بن شفي قال: خرجنا مع فضالة بن عبيد إلى أرض الروم وكان عاملا لمعاوية على الدرب وفي رواية: غزونا أرض الروم وعلى ذلك الجيش فضالة بن عبيد الأنصاري  فأصيب ابن عم لنا  برودس -جزيرة معروفة في البحر الأبيض المتوسط-  فصلى عليه فضالة وقام على حفرته حتى واراه فلما سوينا عليه حفرته قال: أخفوا عنه وفي الرواية الأخرى: خففوا عنه  فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا بتسوية القبور. 
وظاهره تسويتها بالأرض بحيث لا ترفع إطلاقا وهذا غير مراد قطعا بدليل أن السنة الرفع قدر شبر كما مرت الإشارة إليه سابقا ويؤيد هذا من الحديث
نفسه قول فضالة خففوا أي التراب فلم يأمر بإزالة التراب عنه بالكلية وبهذا فسره العلماء. انظر المرقاة 2 / 372. 
الخامس: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: 
"لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس"  وفي رواية: "يطأ على قبر"
السادس : عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن أمشي على جمرة أو سيف أو أخصف نعلي برجلي أحب إلي من أن أمشي على قبر مسلم وما أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي أو وسط السوق"
السابع: عن أبي مرثد الغنوي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها"
7 - الصلاة إلى القبور للحديث المتقدم آنفا.
وفيه دليل على تحريم الصلاة إلى القبر لظاهر النهي وهو اختيار النووي فقال المناوي في فيض القدير  شارحا للحديث :
أي مستقبلين إليها لما فيه من التعظيم البالغ لأنه من مرتبة المعبود فجمع - يعني الحديث بتمامه - بين النهي عن الاستخفاف بالتعظيم والتعظيم البليغ. 
ثم قال في موضع آخر: فإن ذلك مكروه فإن قصد إنسان التبرك في الصلاة في تلك البقعة فقد ابتدع في الدين ما لم يأذن به الله والمراد كراهة التنزيه قال النووي: كذا قال أصحابنا ولو قيل بتحريمه لظاهر الحديث لم يبعد . ويؤخذ من الحديث النهي عن الصلاة في المقبرة فهو مكروه كراهة تحريم. 
وينبغي أن يعلم أن التحريم المذكور إنما هو إذا لم يقصد بالاستقبال تعظيم
القبور وإلا فهو شرك ...قال الشيخ علي القاري في المرقاة  2 / 372  في شرحه لهذا الحديث: ولو كان هذا التعظيم حقيقة للقبر ولصاحبه لكفر المعظم فالتشبه به مكروه وينبغي أن يكون كراهة تحريم وفي معناه بل أولى منه : الجنازة الموضوعة وهو مما ابتلي به أهل مكة حيث يضعون الجنازة عند الكعبة ثم يستقبلون إليها. 

8- الصلاة عندها ولو بدون استقبال وفيه أحاديث :
الأول : عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام"
الثاني: عن أنس: 
"أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بين القبور"
الثالث: عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبورا"
الرابع: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة"

9- بناء المساجد عليها.
وفيه أحاديث أذكر بعضها:
الأول: عن عائشة وعبد الله بن عباس معا قالا:  لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر  مثل  ما صنعوا.

قالت في رواية : فلولا ذاك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا.
الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: 
"اللهم لا تجعل قبري وثنا لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"
الثالث : عن جندب قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول:
"قد كان لي فيكم أخوة وأصدقاء و  إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله تعالى قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك"
الرابع: عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء ومن يتخذ القبور مساجد"
الخامس: عن عائشة قالت:  لما كان مرض النبي صلى الله عليه وسلم تذاكر بعض نسائه كنيسة بأرض الحبشة يقال لها  مارية وقد كانت أم سلمة وأم حبيبة قد أتتا أرض الحبشة فذكرن من حسنها وتصاويرها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة".  


والاتخاذ المذكور في الأحاديث المتقدمة يشمل عدة أمور:
الأول: الصلاة إلى القبور مستقبلا لها.
الثاني: السجود على القبور.
الثالث: بناء المساجد عليها.


10 - اتخاذها عيدا تقصد في أوقات معينة ومواسم معروفة للتعبد عندها أو لغيرها لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا تتخذوا قبري عيدا ولا تجعلوا بيوتكم قبورا وحيثما كنتم فصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني"
11 - السفر إليها:
وفيه أحاديث:
الأول: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا تشد الرحال إلا وفي رواية: إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومسجد الأقصى"
الثاني: عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
"لا تشد وفي لفظ: لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى"
الثالث: عن أبي بصرة الغفاري أنه لقي أبا هريرة وهو جاء فقال: من أين أقبلت؟ قال: أقبلت من الطور صليت فيه قال: أما إني لو أدركتك لم تذهب إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى".

  الرابع: عن قزعة قال: 
أردت الخروج إلى الطور فسألت ابن عمر فقال : أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى"
ودع عنك الطور فلا تأته. 

 
12 - إيقاد السرج عندها.
والدليل على ذلك عدة أمور:
أولا: كونه بدعة محدثة لا يعرفها السلف الصالح وقد قال صلى الله عليه وسلم:
"كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار". رواه النسائي وابن خزيمة في  صحيحه  بسند صحيح.
ثانيا: أن فيه إضاعة للمال وهو منهي عنه بالنص كما تقدم في المسألة 42. 
ثالثا: أن فيه تشبها بالمجوس عباد النار قال ابن حجر الفقيه في  الزواجر 1 / 134:
صرح أصحابنا بحرمة السراج على القبر وإن قل حيث لم ينتفع به مقيم ولا زائر وعللوه بالإسراف وإضاعة المال والتشبه بالمجوس فلا يبعد في هذا أن يكون كبيرة. 
قلت: ولم يورد بالإضافة إلى ما ذكر من التعليل دليلنا الأول مع أنه دليل وارد بل لعله أقوى الأدلة لأن الذين يوقدون السرج على القبور إنما يقصدون بذلك التقرب إلى الله تعالى - زعموا - ولا يقصدون الإنارة على المقيم أو الزائر بدليل إيقادهم إياها والشمس طالعة في رابعة النهار فكان من أجل ذلك بدعة ضلالة.


13 - كسر عظامها: والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "إن كسر عظم المؤمن ميتا مثل كسره حيا"
والحديث دليل على تحريم كسر عظم الميت المؤمن ولهذا جاء في كتب الحنابلة: ويحرم قطع شيء من أطراف الميت وإتلاف ذاته وإحراقه ولو أوصى به. 
كذا في  كشاف القناع   2 / 127  ونحو ذلك في سائر المذاهب بل جزم ابن حجر الفقيه في  الزواجر 1 / 134  بأنه من الكبائر قال:
لما علمت من الحديث أنه ككسر عظم الحي. 
وقال النووي في  المجموع 5 / 303  ما مختصره:
ولا يجوز نبش القبر لغير سبب شرعي باتفاق الأصحاب ويجوز بالأسباب الشرعية كنحو ما سبق  في المسألة 107  ومختصره:
أنه يجوز نبش القبر إذا بلي الميت وصار ترابا وحينئذ يجوز دفن غيره فيه ويجوز زرع تلك الأرض وبناؤها وسائر وجوه الانتفاع والتصرف فيها باتفاق الأصحاب وهذا كله إذا لم يبق للميت أثر من عظم وغيره ويخلف ذلك باختلاف البلاد والأرض ويعتمد فيه قول أهل الخبرة بها. 
قلت : ومنه تعلم تحريم ما ترتكبه بعض الحكومات الإسلامية من درس بعض المقابر الإسلامية ونبشها من أجل التنظيم العمراني دون أي مبالاة بحرمتها أو اهتمام بالنهي عن وطئها وكسر عظامها ونحو ذلك . ولا يتوهمن أحد أن التنظيم المشار إليه يبرر مثل هذه المخالفات كلا فإنه ليس من الضروريات وإنما هي من الكماليات التي لا يجوز بمثلها الاعتداء على الأموات فعلى الأحياء أن ينظموا أمورهم دون أن يؤذوا موتاهم.
ومن العجائب التي تلفت النظر أن ترى هذه الحكومات تحترم الأحجار
والأبنية القائمة على بعض الموتى أكثر من احترامه للأموات أنفسهم فإنه لو وقف في طيق التنظيم المزعوم بعض هذه الأبنية من القباب أو الكنائس أو نحوها تركتها على حالها وعدلت من أجلها خارطة التنظيم إبقاء عليها لأنهم يعتبرونها من الآثار القديمة وأما قبور الموتى أنفسهم فلا تستحق عندهم ذلك التعديل بل إن بعض تلك الحكومات لتسعى - فيما علمنا - إلى جعل القبور خارج البلدة والمنع من الدفن في القبور القديمة وهذه مخالفة أخرى في نظري لأنها تفوت على المسلمين سنة زيارة القبور لأنه ليس من السهل على عامة الناس أن يقطع المسافات الطويلة حتى يتمكن من الوصول إليها ويقوم بزيارتها والدعاء لها.
والحامل على هذه المخالفات - فيما أعتقد - إنما هو التقليد الأعمى لأوروبا المادية الكافرة التي تريد أن تقضي على كل مظهر من مظاهر الإيمان بالآخرة وكل ما يذكر بها وليس هو مراعاة القواعد الصحية كما يزعمون ولو كان ذلك صحيحا لبادروا إلى محاربة الأسباب التي لا يشك عاقل في ضررها مثل بيع الخمور وشربها والفسق والفجور على اختلاف أشكاله وأسمائه فعدم اهتمامهم بالقضاء على هذه المفاسد الظاهرة وسعيهم إلى إزالة كل ما يذكر بالآخرة وإبعادها عن أعينهم أكبر دليل على أن القصد خلاف ما يزعمون ويعلنون وما تكنه صدورهم أكبر.
 

- أنه لا حرمة لعظام غير المؤمنين لإضافة العظم إلى المؤمن في قوله:
عظم المؤمن، فأفاد أن عظم الكافر ليس كذلك وقد أشار إلى هذا المعنى الحافظ في الفتح بقوله: يستفاد منه أن حرمة المؤمن بعد موته باقية كما كانت في حياته.ذكره في الفيض 4/551. 


ومن ذلك يعرف الجواب عن السؤال الذي يتردد على ألسنة كثير من الطلاب في كليات الطب وهو: هل يجوز كسر العظام لفحصها وإجراء التحريات الطبية فيها؟

 والجواب: لا يجوز ذلك في عظام المؤمن ويجوز في غيرها ويؤديه ما يأتي في المسألة التالية :
- ويجوز نبش قبور الكفار لأنه لا حرمة لها كما دل عليه مفهوم الحديث السابق ويشهد له حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال :
قدم النبي صلى الله عليه وسلم فنزل أعلى المدينة في حي يقال لهم: بنو عمرو بن عوف فأقام فيهم أربع عشرة ليلة ثم أرسل إلى بني النجار فجاؤوا متقلدي السيوف كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته وأبو بكر ردفه وملأ من بني النجار حوله حتى أتى بفناء أبي أيوب وكان يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة ويصلي في مرابض الغنم وكان أمر ببناء المسجد فأرسل إلى ملأ من بني النجار فقال :
"يا بني النجار ثامنوني بحائطم هذا"
قالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله
قال: فكان فيه قبور المشركين وخرب ونخل فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت ثم بالخرب فسويت وبالنخل فقطع فصفوا النخل قبلة المسجد وجعل عضادتيه الحجارة .

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بغير باء التعدية بمعنى لبست إزاري فلهذا عدي بنفسه.
2  يجوز في عائش فتح الشين وضمها وهما وجهان جاريان في كل المرخمات.
3  بفتح المهملة وإسكان المعجمة معناه وقع عليك الحشا وهو الربو والتهيج الذي يعرض للمسرع في مشيه من ارتفاع النفس وتواتره وقوله رابية أي مرتفعة البطن.
4  اللهز: الضرب بجمع الكف في الصدر.

 

الصفحة الرئيسية