جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية

 جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية

- الباب التاسع -

 

الباب التاسع

في جهود علماء الحنفية في إبطال

شبهات القبورية في التوسلات الشركية والبدعية

وفيه فصول ثلاثة :

- الفصل الأول : في تعريف التوسل والوسيلة لغة واصطلاحاً شرعياً عند علماء الحنفية وعند القبورية .

- الفصل الثاني : في جهود علماء الحنفية في بيان أنواع التوسل ، الشرعية منها والقبورية ، وإبطال التوسلات القبورية ، الشركية منها والبدعية .

- الفصل الثالث : في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية في توسلاتهم الشركية والبدعية .

 

الفصل الأول

في تعريف التوسل والوسيلة لغة واصطلاحاً شرعياً عند علماء الحنفية وعند القبورية .

وفيه مطالب ثلاثة :

- المطلب الأول : في تعريف التوسل والوسيلة لغة .

- المطلب الثاني : في بيان التوسل والوسيلة في اصطلاح الشرع عند علماء الحنفية .

- المطلب الثالث : في بيان التوسل والوسيلة في اصطلاح القبورية وأنواع التوسل عندهم .

المطلب الأول

في تعريف التوسل والوسيلة لغة

لقد ذكرت بعض جهود علماء الحنفية في المباحث السابقة في إبطال عقيدة القبورية في الاستغاثة بغير الله تعالى .

وحققت على لسان علماء الحنفية : أن القبورية باستغاثتهم بالأموات مرتكبون للشرك برب البريات .

بل واقعون في أم لعدة أنواع من الشرك بخالق الكائنات ، وأنهم أشد وأشنع وأبشع شركاً من الوثنية الأولى في باب الاستغاثات .

وأنهم أشد خوفاً ورجاء وأكثر خشوعاًَ وخضوعاً وأعظم عبادة للأموات منهم لخالق الأرضين والسماوات في المساجد والأسحار من الأوقات .

وبهذه التحقيقات والمقارنة التي قام بها علماء الحنفية تحقق أن القبورية فرقة مشركة وثنية . ولما كان توسل القبورية من جنس استغاثتهم بالأموات ، ناسب الكلام عليه عقب باب الاستغاثة . لذا عقدت له في هذا الباب .

ويقتضي وضع هذا الباب أن يكون مشتملاً على فصول ثلاثة .

أما الفصل الأول ففيه مطالب ثلاثة :

أتولى فيها الكلام على التوسل لغة ، واصطلاحاً ، وأميز بين أنواع التوسل الشرعي ، وبين أنواع التوسل الشركي البدعي . وأذكر بعض جهود علماء الحنفية في إبطال التوسل القبوري . كما أذكر بعض جهودهم في إبطال شبهات المتوسلين بالأموات .

فأقول وبربي أستغيث وأستعين ، إذ هو المستغاث المغيث ، المستعان المعين :

أ- التوسل لغة : ((التوسل)) تفعل من مادة (( و س ل)) وله معان ثلاثة :

الأول : التقرب إلى الشيء بشيء : بعمل ، أو كتاب ، أو قرابة ، أو سبب آخر .

فالتوسل : هو التقرب إلى شيء بوسيلة أيا كانت .

وبلفظ آخر : التوسل : هو ابتغاء الوسيلة ليتقرب بها إلى شخص آخر ، للحصول على مطلوبه منه بسببها .

الثاني : الشفاعة : يقال : شفعت : إذا كنت متوسلاً له .

الثالث : السرقة : يقال : أخذ فلان إبل فلان توسلاً : أي سرقة خفية .

قلت : يمكن أن يرجع المعنيان : الثاني والثالث إلى الأول ، لأن الشفاعة أيضاً وصول إلى المطلوب بسبب ، وأخذ فلان إبل فلان توسلاً أيضاً ، حصول لهذا المطلوب بنوع من السبب الخفي .

الحاصل : أن ((التوسل)) مصدر من باب ((التفعل)) .

وباب ((التفعل)) له عدة معان ، منها ((الاتخاذ)) ، نحو ((توسد الحجر)) فمعنى ((التوسل)) اتخاذ الوسيلة إلى الشخص لحصول المطلوب منه .

ب- ((الوسيلة)) لغة : إذا كان التوسل : هو اتخاذ الوسيلة ، وابتغاؤها ، فما معنى الوسيلة ؟ .

والجواب أن الوسيلة لها عدة معان أذكر بعضها :

1 - التوصل إلى الشيء برغبة ، وهي أخص من ((الوصيلة)) لتضمنها لمعنى الرغبة .

2 - كل ما يتوصل به إلى الشيء وما يتقرب به إلى الآخر .

3 - القربة .

4 - الرغبة .

5 - الحاجة .

قلت : من شواهد هذا المعنى للوسيلة قول عنترة بن شداد :

إن الرجال لهم إليك وسيلة ... إن يأخذوك تكحلي وتخضبي

فقد استشهد به السيوطي (111هـ) وغيره لكون الوسيلة بمعنى الحاجة .

ولكن جعله الإمام ابن جرير الطبري (310هـ) وغيره شاهداً لكون الوسيلة بمعنى القربة .

واضطرب صنيع بعض الفضلاء فذكره شاهداً للمعنيين : (الحاجة والقربة) .

قلت : لا يصلح هذا البيت شاهداً لكون الوسيلة بمعنى ((القربة)) لأن الشاعر يقصد (مخاطباً زوجه منكراً على إنكار زوجه على اهتمامه بمهره) : أنه دائماً يهتم بتربية مهره ليكون مستعداً لدفع هجوم أعدائه ، لأنهم إن أسروه استخفوا به ، ويمشي على أقدامه ، وإن أسروها يكرموها ويركبوها ، لأن لهم حاجة ماسة إليها وهي أيضاً ستكتحل لهم وتتخضب لتتزين لهم ، بحكم الأنوثة ، كما يدل على كل ذلك قصيدته التي منها هذا البيت .

6 - المحبة .

7 - الطلب .

8 - المسألة .

قلت : ((المسألة)) و ((الطلب)) و ((الحاجة)) بمعنى واحد .

9 - القربى .

10 - الوصلة .

قلت : يمكن رجوع ((القربى)) إلى ((القربة)) وكذا ((الوصلة)) .

11 - المنزلة عند الملك .

12 - الدرجة .

قلت : هذا المعنى أعم من الذي قبله .

13 - الذريعة والسبب .

قلت : يمكن رجوع هذا المعنى إلى الأول .

14 - وكيل الرجل .

وغيرها من معاني الوسيلة .

أقول : يظهر من كلام أهل اللغة : أن ((الوسيلة)) قد يراد بها المعنى الاسمي ، نحو :

((الحاجة)) ، و ((المنزلة)) ، و ((القرابة)) ، و ((الوكيل )) ، و ((كل ما يتوسل به إلى المقصود)) .

وقد يراد بها المعنى المصدري ، نحو :

((المحبة)) ، و ((الرغبة)) ، و ((الطلب)) ، ونحو ذلك .

هذه كانت عدة معان لغوية للوسيلة ، ذكرتها عن علماء الحنفية وغيرهم ، وبعد هذا أنتقل إلى معنى التوسل والوسيلة الاصطلاحي الشرعي عند علماء الحنفية .

*****

المطلب الثاني

في بيان التوسل والوسيلة في اصطلاح الشرع عند علماء الحنفية

لقد سبق أن ذكرت معاني التوسل والوسيلة اللغوية عن علماء الحنفية وغيرهم .

وفي هذا المطلب أذكر معنى التوسل والوسيلة الاصطلاحي الشرعي عند علماء الحنفية .

فأقول وبالله التوفيق :

لقد صرح علماء الحنفية بأن الوسيلة في شرع الله تعالى هي القربة إلى الله عز وجل ، وما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى .

أقول : ((القربة)) إلى الله عز وجل - معنى مصدري للوسيلة .

و ((ما يتقرب به إلى الله سبحانه)) معناها الأسمى .

والمناسبة بين المعنى اللغوي ، وبين المعنى الاصطلاحي للوسيلة - أن المعنى اللغوي أعم مطلقاً ، وأن المعنى الاصطلاحي أخص مطلقاً ، فيكون معناها الاصطلاحي فرداً من أفراد معناها اللغوي ، وإذا ثبت

أن ((الوسيلة)) الشرعية إنما هي : ((القربة)) أو ((ما يتقرب به)) ، ولكن لا مطلقاً ؛ بل إلى الله جل وعلا - فيكون معنى ((التوسل)) اتخاذ ((القربة)) ، و ((ابتغاؤها)) ، و ((اتخاذ)) ((ما يتقرب به)) و ((ابتغاؤه)) ، ولكن لا مطلقاً ، بل إلى الله سبحانه وتعالى .

ثم المراد من ((القربة)) إلى الله تعالى ، واتخاذ ((القربة)) وابتغاؤها ، ليس مطلقاً أيضاً .

بل المراد من ((القربة)) إلى الله سبحانه وتعالى ، واتخاذ ((القربة)) وابتغائها إليه جل وعلا - ((القربة)) و ((ابتغاؤها)) إليه سبحانه بما يرضيه ، وذلك لا يمكن إلا بطاعته : من امتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، وذلك بفعل الطاعات ، وترك السيئات ، فهذا مسمى ((الوسيلة)) ومصداقها .

فالتوسل الاصطلاحي الشرعي - هو التقرب إلى الله عز وجل بفعل الطاعات ، وترك المنكرات .

هذا هو حاصل كلام علماء الحنفية في تعريف التوسل والوسيلة في اصطلاح الشرع ، وبيان مسماها ومصداقها .

****

المطلب الثالث

في بيان التوسل والوسيلة في اصطلاح القبورية وأنواع التوسل عندهم

لقد ذكرت خلاصة مذهب علماء الحنفية في تعريف التوسل والوسيلة في شرع الله تعالى .

وبيان مصداقهما ، ومسماهما :

أن ((الوسيلة)) هي القربة إلى الله عز وجل بما يرضيه ، وأن ((التوسل)) هو التقرب إلى الله جل وعلا بما يرضاه ، وذلك بامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه .

ولكن القبورية شذوا فأدخلوا في مفهوم ((الوسيلة)) و ((التوكل)) الاستغاثة بالأموات ، لرفع الكربات وجلب الخيرات ، وقد سبق أن ذكرت عقيدة القبورية في الاستغاثة والتوسل بالأموات على وجه التفصيل ، فلا حاجة إلى الإعادة .

ولكن أذكر ما لا بد من ذكره ههنا لعرض مذهب القبورية في التوسل بالأموات ، في عدة من الفقرات والكلمات ، فأقول وبربي أستعين وأستغيث ، إذ هو المعين وهو المغيث :

1 - قول عامة القبورية : إن الاستغاثة والتوسل شيء واحد ، قالوا : (واعلم أن الاستغاثة هي طلب الغوث ، فالمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث منه ، فلا فرق بين أن يعبر بلفظ الاستغاثة ، أو التوسل ، أو التشفع ، أو التجوه أو التوجه ، لأنهما من الجاه ، والوجاهة ، ومعناه : علو القدر والمنزلة ، وقد يتوسل بصاحب الجاه إلى من هو أعلى منه .......) .

2 -قول القبورية : إن ((الباء)) في ((المستغاث به)) ، و ((المتوسل به)) للاستغاثة ، فالتوسل عندهم نوع من الاستغاثة والاستعانة .

قال السبكي (756هـ) وتبعه آخرون من خلطائه القبورية : (وأما الاستغاثة : فهي طلب الغوث ، وتارة يطلب الغوث من خالقه ، وهو الله وحده ..... ، وتارة يطلب ممن يصح إسناده إليه على سبيل الكسب ، ومن هذا النوع الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وفي هذين القسمين تعدى الفعل تارة بنفسه ...، وتارة بحروف الجر ...... فيصح أن يقال : استغثت النبي صلى الله عليه وسلم ، واستغثت بالنبي صلى الله عليه وسلم - بمعنى واحد ، وهو طلب الغوث منه بالدعاء ونحوه - على النوعين السابقين في التوسل ، من غير فرق ، وذلك في حياته ، وبعد مماته ... فصار لفظ الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم له معنيان :

أحدهما : أن يكون مستغاثاً .

والثاني : أن يكون مستغاً به ، ويكون الباء للاستعانة .

فقد ظهر إطلاق ((الاستغاثة)) ، و ((التوسل)) جميعاً ....) .

3 - أحوال جواز التوسل عند القبورية .

لقد سبق أن القبورية يجوزون التوسل بمعنى الاستغاثة والاستعانة بغير الله تعالى : من الأنبياء والأولياء الأحياء والأموات .

4 - بل سبق أنهم يرجحون التوسل بمعنى الاستغاثة بالأموات ، على التوسل بمعنى الاستغاثة والاستعانة بالأحياء .

5 - أنواع التوسل عند القبورية :

الأول : أن يدعوا الله تعالى بذات الميت ، أو ببركته ، أو بحرمته ، أو بحقه ، أو بجاهه ، ونحو ذلك ؛ نحو : اللهم إني أسألك بوليك فلان .

الثاني : أن يطلب من الميت الشفاعة عند الله في قضاء حاجته ، بأن يقول للميت : يا فلان ! ادع الله لي : أن يرد علي بصري .

الثالث : أن يطلب من الميت حاجته نفسه ، ونحو ذلك بأن يقول للميت : يا فلان ! رد علي بصري ، واقض حاجتي ، واشف مريضي ، ونحو ذلك .

6 - ألفاظ التوسل عند القبورية : لقد سبق أن القبورية يجوزون التوسل والاستغاثة بالأموات ، بأنواع من الألفاظ والكلمات وشتى التعبيرات .

فقالوا : يجوز بلفظ الاستغاثة ، والتوسل ، والتشفع ، والتجوه ،

والتوجه . فهذه خمس كلمات .

الكلمة السادسة : أن يقول : بفلان ؛ فقد قال السبكي (756هـ) :

(يسأل الله تعالى به ...) .

الكلمة السابعة : أن يقول : بذات فلان .

الكلمة الثامنة : التوسل ببركة فلان ؛ فقد صرح به السبكي (756هـ) وغيره .

الكلمة التاسعة : التوسل بحرمة فلان .

الكلمة العاشرة : التوسل بشرف فلان .

الكلمة الحادية عشرة : التوسل بقرب فلان .

الكلمة الثانية عشرة : التوسل بحق فلان .

إلى غيرها من ألفاظ التوسل عند القبورية .

الكلمة الثالثة عشرة : التوسل بوجه فلان .

الكلمة الرابعة عشرة : التوسل بروحانية فلان .

إلى غيرها من ألفاظ التوسل البدعي القبورية .

7 - الحاصل : أن القبورية قد أدخلوا في مفهوم التوسل الاستغاثة بالأموات ، التي ليست بشرك فحسب ، بل أم لعدة أنواع من الإشراك بخالق الأرض والسماوات .

وحرفوا دين الله أشنع التحريفات بأبشع التبديلات ، وغيروا المصطلحات الشرعية بما هو عين الوثنيات ، وفسروا بتوسلاتهم البدعية نصوص الكتاب والسنة ، وادعوا إجماع السلف والخلف ، فافتروا على أئمة الأمة ، بل تقولو على الأنبياء والمرسلين ، والصحابة والتابعين .

قال السبكي (756هـ) وتبعه خلطاؤه القبورية إلى يومنا هذا : (اعلم أنه يجوز ويحسن التوسل والاستغاثة والتشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه سبحانه وتعالى .

وجواز ذلك وحسنه من الأمور المعلومة لكل ذي دين ، المعروفة من فعل الأنبياء والمرسلين، وسير السلف الصالحين ، والعلماء والعوام من المسلمين ، ولم ينكر أحد ذلك من أهل الأديان ، ولا سمع به في زمن من الأزمان .

حتى جاء ابن تيمية فتكلم في ذلك بكلام يلبس فيه على الضعفاء الأغمار . وابتدع ما لم يسبق إليه في سائر الأعصار .

وحسبك أن إنكار ابن تيمية للاستغاثة والتوكل ، قول لم يقله عالم قبله ، وصار بين أهل الإسلام مثله ....) .

وقال البروسوي القبوري الحنفي ، الإسلامبولي

الجلوتي الاتحادي الصوفي ، (1127هـ) ، أو (1137هـ) في تفسير الوسيلة ومسماها :

(الوسيلة علماء الحقيقة ، ومشايخ الطريقة) .

قلت : هذه كانت عقيدة القبورية في التوسل والوسيلة وأنواعها ، الشركية والبدعية .

وبعد هذا أنتقل إلى الفصل الثاني ؛ لنعرف أنواع التوسل الشرعية ، وأنواعه القبورية عند علماء الحنفية * .

كما نعرف جهودهم في إبطال توسلات القبورية ، الشركية منها والقبورية * .

* والله المغيث والمستعان * وهو المعين وعليه التكلان *

****

الفصل الثاني

في جهود علماء الحنفية

في بيان أنواع التوسل ، الشرعية منها والقبورية

وإبطال التوسلات القبورية ، الشركية منها والبدعية

وفيه مطالب ثلاثة :

- المطلب الأول : في بيان أنواع التوسل الشرعي عند علماء الحنفية .

- المطلب الثاني : في بيان أنواع التوسل القبوري الشركي والبدعي عند علماء الحنفية .

- المطلب الثالث : في إبطال علماء الحنفية لتوسلات القبورية ، الشركية منها والبدعية .

المطلب الأول

في أنواع التوسل الشرعي عند علماء الحنفية

لقد سبق أن ذكرت معنى التوسل لغة ، ومعناه الاصطلاحي عند علماء الحنفية ، ومعناه عند القبورية .

كما ذكرت أنواع التوسل وكلماته عند القبورية ، وفي هذا الفصل سأذكر جهود علماء الحنفية في بيان أنواع التوسل الشرعي ، وأنواع التوسل الشركي والبدعي وإبطال توسلات القبورية .

أنواع التوسل الشرعي عند علماء الحنفية :

لقد حقق علماء الحنفية أن حقيقة التوسل الشرعي ومصداقها : هو التقرب إلى الله تعالى بفعل الطاعات ، وترك السيئات ، قال العلامة نقيب أحمد الرباطي الملقب بجامع المعقول والمنقول عند الحنفية المعاصرة :

(اعلم أن حقيقة الوسيلة الشرعية ، ومصداقها - أعني ما يكون ذريعة للوصول إلى الله تعالى والفوز بالنعم ، والأمن من النقم - إنما هي اتباع أوامره والاجتناب عن نواهيه بعد الإيمان به واعتقاد أن له سلطة غيبية ، وله الحكم وبيده الأمر ، يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد .

فحقيقة التوسل الشرعي ليست إلا عبادة الله وحده والأعمال الصالحة ، فالتوحيد الاعتقادي والعملي هو حقيقة الوسيلة إلى الله تعالى ، وخلاصة ذلك لبه ، ولله - هو اتباع سنة سيد المرسلين [صلى الله عليه وسلم ] ) .

وقال حفظه الله : (وقال الراغب : حقيقة الوسيلة إلى الله تعالى مراعاة سبيله بالعلم والعبادة ، وتحري مكارم الشريعة ، وهي كالقربة ، تفسير المنار 6\396 ، والتفسير الماجدي 251 ...) .

قلت : إذا ثبت أن حقيقة التوسل إلى الله تعالى عند علماء الحنفية هي التقرب إليه جل وعلا بفعل الطاعات وترك السيئات ؛ فأقول : إن التوسل الشرعي إلى الله تعالى عند علماء الحنفية على عدة أنواع لا تخرج عن التوسل بالطاعات :

الأول : التوسل بالطاعات مطلقاً .

قلت : هو أن يقول : اللهم إن كنت فعلت هذا لرضاك - فارحمني وأجب مسألتي ، واشفني ، واكشف كربتي واقض حاجتي ، ونحو ذلك .

الثاني والثالث : التوسل بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا .

قلت هو : أن يقول : اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الحنان المنان ، بديع السماوات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام ، يا حي يا قيوم ، وغيرها من الأسماء الحسنى .

أو يقول : اللهم إني أسألك بأن لك الحمد ، وأسألك برحمتك وإحسانك وقدرتك ، ونحوها من صفات الله العلي .

قلت : لقد سبق أن ذكرت تلك المقالة الحنفية المشهورة المستفيضة القاطعة للوثنية المؤيدة للحنفية ، وهي مقالة الإمام أبي حنيفة وغيره من كبار أئمة الحنفية : (لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به) .

وقد سبق تفسير هذه المقالة بأن المراد : هو التوسل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا .

الرابع : التوسل بالفقر والحاجة .

قلت : ذلك أن يقال : { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [القصص : 24 ] .

أو يقال : اللهم إني عبدك وابن عبدك .

أو يقال : اللهم أنت الغني ، ونحن الفقراء ، فأنزل علينا الغيث .

أو يقال : اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس .

أو يقال : اللهم أنت رب المستضعفين ، ومغيث المضطرين .

أو يدعو ربه { أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ } [ القمر : 10] .

أو يقول : { رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا } [مريم : 4 ] .

ونحو ذلك من إظهار الفقر والحاجة والتذلل إلى الله عز وجل .

الخامس : التوسل بالاعتراف بالذنب .

قلت : ذلك أن يقول : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } [القصص : 16 ] .

أو يقول : { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } [الأنبياء : 87 ] .

أو يقول : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [الأعراف : 23 ] .

السادس : التوسل بذكر وعد الله جل وعلا .

كأن يقول : { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } [آل عمران : 194 ] .

السابع : التوسل بدعاء الحي الحاضر .

(هو أن يطلب من أحد حي (حاضر) أن يسأل الله تعالى كشف كربته عنه ، ودفع حاجته ، وأمثلته كثيرة من القرآن والحديث ، أذكر ههنا نبذة منها :

قال تعالى : { قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ } [يوسف : 97 ] ....) .

قلت : هذه أهم أنواع التوسل الشرعي عند الحنفية وأشهرها .

وإذا عرفنا أنواع التوسل الشرعي عند علماء الحنفية - ننتقل إلى المطلب الآتي لنعرف أنواع التوسل الشركي والقبوري عند علماء الحنفية .

* والله المستعان * وبه الثقة وعليه التكلان *

*****

المطلب الثاني

في بيان التوسل الشركي والبدعي عند علماء الحنفية

لقد ذكرت في المطلب السابق أشهر أنواع التوسل الشرعي وأهمها عند علماء الحنفية .

وبهذه المناسبة أذكر في هذا المطلب أنواع التوسل الشركي والبدعي عند علماء الحنفية ، فأقول وبالله أستعين ، إذ هو المغيث وهو المعين :

إن أحسن ما رأيته وأجمعه وأدقه من كلام علماء الحنفية في ذكر أنواع التوسل الشركي والبدعي ، هو كلام العلامة الرباطي الملقب عند الحنفية المعاصرة بجامع المعقول والمنقول .

قال حفظه الله : (إلى هذا كان الكلام في تحقيق التوسل الشرعي ، وأما القسم الذي نعبر عنه بالتوسل الغير الشرعي - فحان أن نشرع فيه ؛

فأقول وبالله التوفيق :

التوسل الغير الشرعي على أنحاء سبعة ؛ حسبما وقع عليه عمل كثير من الناس المفتونين بالقبور والمشاهد :

النحو الأول : أن يأتي قبر نبي أو ولي أو غيرهما ممن يحسن عقيدته عليه ، فيقول : يا سيدي فلان ، اشفني ، أو اشف مريضي ، أو اكشف كربتي ، واقض حاجتي ، أو أهلك عدوي ، وعليك أن تفعل كذا وكذا ، وأنت وكيلي ، وأنت كفيلي .

وغير ذلك من الألفاظ المختلفة باختلافهم .

والثاني : أن يدعو غائباً أو ميتاً من بعيد من غير الإتيان إلى قبره والحضور لديه بهذا النحو من الكلمات .

والثالث : أن يأتي القبر ، ويقول : يا فلان ! ادع الله أن يقضي حاجتي ، واشفع لي في حاجتي هذه ، فإنك مقبول الشفاعة ، لا جائز أن يرد الله شفاعتك .

والرابع : أن يدعو غائباًَ أو ميتاً بعيداً عن القبر بهذا النحو من الدعاء .

الخامس : أن يأتي القبر ويسأل الله وحده معتقداً أن الدعاء عند مزار الولي أقرب إلى الإجابة .

السادس : أن يدعو من غير شهود المقابر والمزارات : يا إلهي ! اقض حاجتي بحق فلان ، وفلان .

السابع : أن يقول في دعائه : بوسيلة فلان ، أو ببركته ، أو بخاطره ، أو بطفيله ، أو بحرمته ، أو بجاهه ، وغير ذلك مما يؤدي مراده .

فهذه جملة الأسماء التي يسميها عباد القبور بالتوسل - وينكرون أشد النكير على من أنكر عنها ، وينسبونه إلى إنكار الوسيلة ، وإنكار

الكرامات ، وتوهين الأولياء ، وغير ذلك من المطاعن ....) .

وللشيخ عبد السلام الرستمي أحد كبار علماء الحنفية المعاصرة الرادين على القبورية أيضاً كلام حسن في بيان أنواع التوسل الشركي والبدعي - .

الحاصل : أن هذه عدة أنواع التوسل الشركي والبدعي التي يرتكبها القبورية .

وأما حكمها عند علماء الحنفية فبيانه في المطلب الآتي :

المطلب الثالث

في إبطال علماء الحنفية توسلات القبورية

لقد ذكرت أنواعاً من توسلاتهم الشركية والبدعية بأنحاء من الكلمات وفي عدة من الأوقات .

وذكرت في المطلب الثاني من هذا المبحث بيان علماء الحنفية لبعض أنواع التوسلات الشركية والبدعية التي ترتكبها القبورية .

وأذكر في هذا المطلب جهود علماء الحنفية في إبطال هذه التوسلات القبوريات ببيان أن بعضها من الوثنيات الفاضحات ، وبعضها من البدع الواضحات .

فأقول وبربي أستعين وأستغيث ، إذ هو المعين المستعان ، وهو المستغاث المغيث :

لعلماء الحنفية في إبطال توسلات القبورية عدة وجوه ، أذكر بعضها :

الوجه الأول : قول ستة وثلاثين إماماً من أئمة الحنفية .

لقد سبق أن ذكرت مقالة ستة وثلاثين إماماً من أئمة الحنفية ، وعلى رأسهم أئمتهم الثلاثة على الإطلاق :

أبو حنيفة (150هـ) ، أبو يوسف (182هـ) ، ومحمد (189هـ) ، ثم

بشر الكندي (238هـ) ، وعالم بن العلاء (286هـ) ، والحاكم الشهيد (334هـ) ، والقدوري (428هـ) ، وطاهر البخاري (542هـ) ، والمرغيناني (593هـ) ، وابن أبي العز (792هـ) ، والحلبي (956هـ) ، والبركوي (981هـ) ، والتمرتاشي (1004هـ) ، والقاوي (1014هـ) ، وشيخي زاده (1087هـ) ، والحصكفي (1088هـ) ، والطوري (1138هـ) ، وابن عابدين الشامي (1252هـ) وغيرهم .

مقالتهم : (لا ينبغي لأحد أن يدعو الله تعالى إلا به ، والدعاء

المأذون فيه والمأثور به ، ما استفيد من قوله تعالى : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [ الأعراف : 180] ، وكره قوله : بحق رسلك ، وأنبيائك ، وأوليائك ، أو بحق البيت ...) .

وقد سبق أيضاً شرح قولهم : ((إلا به)) بأن المراد : هو التوسل بذاته وأسمائه وصفاته ، سبحانه وتعالى .

أقول : هذه المقالة لهؤلاء الأئمة الحنفية تقطع دابر القبورية المتوسلين بالأموات . وتبطل التوسل بحق فلان ، والوجه ، والجاه ، والطفيل ، والخاطر ، والحرمة والشرف والبركات .

وإذا تبين بطلان التوسل بمثل هذه الكلمات بطل ما هو عين الاستغاثة بالأموات . لأنه إذا لم يجز أن يقول المرء في دعائه : اللهم اشفني بحق فلان أو ببركة فلان أو بحرمة فلان أو بجاه فلان مثلاً - فلا يجوز أن يقول : يا فلان الولي ! اشفني وأغنني ، واكشف كربتي ، ونحو ذلك من نداء الغائبين والأموات - بالطريق الأولى والأحرى .

الوجه الثاني : أن غالب توسلات القبورية بالأموات إنما هي استغاثات بهم لدفع المضرات وجلب الخيرات ، وقد سبق على لسان علماء الحنفية أن هذا إشراك بخالق الأرض والسماوات .

بل تحقق على لسانهم أنه ليس بشرك فحسب بل أم لعدة أنواع الإشراك برب البريات .

وأن القبورية أشد شركاً من الوثنية الأولى في باب الاستغاثة بالغائبين

والأموات .

وأنهم أشد خوفاً ورجاء وأكثر خضوعاً وأعظم عبادة للموتى منهم لله في المساجد والأسحار من الأوقات .

وقد سقت لتحقيق هذه المطالب ما يقارب مئتي نص من نصوص علماء الحنفية . التي فيها قرة عيون للموحدين ، وسخنة أعين للقبوريين الوثنيين .

فكل توسل فيه نداء الأموات لدفع المضرات وجلب الخيرات ، أو فيه طلب الشفاعة من الموتى لقضاء الحاجات ، كأن يقول : يا فلان اشفني ، واقض حاجتي ، واكشف كربتي . أو يقول : يا فلان : ادع الله تعالى أن يزيل همي ويدفع عني ويغفر حوبتي - كما سبق في الأنواع الأربعة الأول للتوسل القبوري - هو شرك بواح برب البريات ، بل هو أم لعدة أنواع من الشرك بخالق الكائنات .

قال العلامة الرباطي في بيان الحكم على هذه الأنواع الأربعة ، محققاًَ أن هذه الأنواع من التوسل إشراك بالله العظيم : (أما النحو الأول فليس من التوسل المباح في شيء ، بل هو كفر بواح وإشراك بالله في التصرف والقدرة والدعاء ، يجب استتابة المبتدي به ، فإن تاب وإلا يقتل ؛ وليس هذا أقل من شرك المشركين الذين أنزل لإصلاحهم القرآن ، وبعث لدعوتهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، بل هو أزيد من شركهم بكثير) .

ثم ساق الأدلة من الكتاب والسنة على ذلك .

ثم ذكر حكم النوع الثاني ، وبين أنه شرك مثل النوع الأول ، وأقام البراهين القاطعة والسلاطين القاهرة الساطعة من الكتاب والسنة على ذلك أيضاً .

ثم ذكر حكم النوع الثالث ، وبين أيضاً أنه شرك بالله وأنه من قبيل شرك الشفاعة .

وأنه عين وثنية الوثنيين السابقين والمشركين الأولين الذين كانوا يقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله . وأنهم يقربونا إلى الله زلفى .

ثم ذكر حكم النوع الرابع ، وحقق أنه أيضاً إشراك بالله تعالى مثل النوع الثالث ، في أنه شرك وأنه من وثنيات المشركين الأولين في باب الشفاعة الشركية . مع كونه مثل الثالث ، إشراكاً بالله في صفتي العلم والسمع أيضاً

وللشيخين : العلامة عبد السلام الرستمي والفاضل جوهر الرحمن - وهما من فضلاء الحنفية المعاصرة - تحقيق أنيق في كون هذه الأنواع من التوسل

شركاً صريحاً ، وأنها من وثنيات الوثنية الأولى .

الوجه الثالث : بيان حكم التوسل ببركة فلان ، وحقه ، وجاهه ، ووجهه ، وخاطره ، وطفيله ، وحرمته ، وشرفه ، ونحوها .

لقد صرح علماء الحنفية بعدم جواز التوسل الذي يكون من هذا القبيل .

وذلك لأمور ثلاثة :

الأول : أن الدعاء مخ العبادة ولبها ، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عن الصحابة والتابعين ولا عن أحد من أئمة هذا الدين جواز ذلك . فهو لا شك أنه بدعة ضلالة في عبادة الله تعالى .

الثاني : أن مثل هذا النوع من التوسل من أعظم الذرائع الموصلة إلى الشرك ، فيجب سدها والتحذير منها ، حماية لحمى التوحيد ، وحفظاً لجانبه .

الثالث : إن كثيراً من الأئمة قد نهوا عن مثل هذا ، ولا سيما أئمة الحنفية ، هذه الوجوه الثلاثة هي أهم الوجوه التي ذكروها لبطلان هذه الأنواع من التوسل . وذكروا وجوهاً أخرى أيضاً لا حاجة إلى سردها ، وفي هذه كفاية ، لمن له دراية ، وقدر له الهداية .

وأما من تعود أن يقول عنزة وإن طارت - فهو من أهل العناد والمكابرة والغواية .

وإذا ثبت أن هذه الأنواع من التوسل بدعة بلا ريب ، فالتعبد بالبدعة ضلال أيما ضلال ، فصاحبه مبتدع ضال والداعية إليه صاحب الإضلال .

الوجع الرابع : بيان حكم التوسل ببركة فلان خاصة .

لقد صرح بعض فضلاء الحنفية الرادين على القبورية أن قول المتوسل القبوري : اللهم إني أسألك ببركة فلان الولي أن تشفيني أو تكشف كربتي ونحو ذلك - محتمل لأن يكون شركاً بواحاً صراحاً ، ومحتمل لأن يكون بدعة على أقل تقدير ، فلا يجوز التوسل بمثل هذه الكلمة مطلقاً .

قال العلامة عبد السلام الرستمي :

(وما يقولون في أدعيتهم توسلاً ببركة فلان - فلا معنى له ، ولا يجوز ، لأن ذلك المصدر ((البركة)) إما مضاف إلى الفاعل - فالمعنى : المبارك ((بصيغة اسم الفاعل )) هو الفلان

فهذا شرك ، كما ثبت قبل ، وإما مضاف إلى المفعول - فالمعنى : المبارك ((بصيغة اسم الفاعل )) هو الفلان ، فلا معنى لهذا التوسل ، كما لا يخفى على من له أدنى مسكة من العلم .

فهذا اللفظ ((البركة)) موهم للشرك ، وقد نهانا الله عن الألفاظ الموهمة للشرك بقوله : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا } الآية [البقرة : 104 ] .

وقال في الفتاوى الرشيدية ص 145 : ((إن الألفاظ الموهمة ممنوعة شرعاً ، ولذا لا يجوز ما يقولون في ((درود تاج)) ، ((دافع البلاء

والوباء والقحط والألم)) ، وقال في ((منهاج التأسيس)) : ((إن قولهم ببركة فلان - لا يجوز ، لعدم نقله عن السلف في ألفاظ الدعاء ، والدعاء عبادة ، ومبنى العبادات على النقل الشرعي)) .

وقال الجصاص في قوله تعالى : { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ }

الآية [البقرة : 59] .

((يحتج بها فيما ورد من التوقيف في الأذكار والأقوال بأنه غير جائز تغييرها ولا تبديلها [إلى غيرها] إلخ ، أحكام القرآن 1\36 ، شيخ القرآن محمد طاهر .

فيجب على من يدعي الإيمان والتوحيد أن يجتنب من الألفاظ الشركية ، ومن الألفاظ الموهمة للشرك لئلا يصير مثل المنافق المتذبذب

الذي هو في الدرك الأسفل من النار ولن تجد له نصيراً)) .

الوجه الخامس : أن كل ما فيه توجه إلى الأموات ، ونداؤهم عند الكربات * - ليس ذلك من التوسل في اللغة بل هو عين الاستغاثة التي هي إشراك برب البريات * .

قال العلامتان : نعمان الآلوسي (1317هـ) وابن أخيه شكري الآلوسي (1342هـ) ، واللفظ للأول :

(ومن نظر بعين الإنصاف * وتجنب سبيل الاعتساف * ونظر إلى ما كان عليه الأولون ، وعرف كيف كان شركهم [وما عليه القبوريون ] ، و [عرف أنه] بماذا أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكيف التوحيد * وما معنى الإله والتأله ؟ وتبصر في العبادات وأنواعها [بفهم رشيد] - تحقق أن هذا الالتجاء * والتوكل والرجاء [والنداء] * بمثل طلب الشفاعة ، هو الذي نهى عنه الأولون * وأرسل لأجل قمعه المرسلون * وبذلك نطق الكتاب * وبينه لنا خير من أوتي الحكمة وفصل

الخطاب * سيما إذا استغيث بهم لدفع الشدائد والملمات ولرفع الكرب والمهمات * مما لا يقدر على دفعه إلا خالق الأرض والسماوات * .

وقد كان الأولون إذا وقعوا في شدة دعوا الله مخلصين له الدين ، فلما نجاهم إذا هم يشركون * [بخلاف القبورية المتوسلين بالأموات والمستنجدين ] * ومن فعل هذا بحالتي الشدة والرخاء * بل في قسمي المنع والعطاء * - فقد غلا وجاوز حده * [واستحق أن يكون سيف الرسالة غمده] * ....

إذا علمت هذا ، فاعلم : أن الاستغاثة بالشيء طلب الإغاثة والغوث منه ؛ كما أن الاستغاثة بشيء طلب الإغاثة منه ، فإذا كانت بنداء من المستغيث للمستغاث ، كان ذلك سؤالاً منه ، وظاهر أن ذلك ليس توسلاًَ به إلى غيره ، بل طلب منه ؛ إذ جرت العادة أن من توسل بأحد عند غيره - أن يقول لمستغاثه : ((أستغيثك على هذا الأمر بفلان)) ، فيوجه السؤال إليه ، ويقصر أمر شكواه عليه ، ولا يخاطب المستغاث به ، و [لا يناديه ولا يدعوه ، بأن]

يقول له : أرجو منك ، وأريد منك ، أو أستغيث بك .

[أو يناديه] ، و [يخاطبه ، بأن] يقول [له] - : (( إنه [أي إنك] وسيلتي إلى ربي )) - فإن هذا غير معروف [كونه توسلاً في لغة العرب ، بل هذا عين الاستغاثة] .

وإن كان [هذا المستغيث سماه توسلاً] كما يقول - فما قدر عظم المتوسل إليه حق قدره وتعظيمه ، وقد رجا وتوكل والتجأ إلى غيره ، [و] كيف [يصح جعله توسلاً لغة] ؟؟؟ واستعمال العرب يأبى عنه !!!

فإن من يقول : ((صار لي ضيق فاستغثت بصاحب القبر ، فحصل لي الفرج)) - يدل دلالة جليلة على أنه قد طلب الغوث منه ، ولم يفد كلامه أنه توسل به عند غيره .

بل إنما يراد هذا المعنى إذا قال (مخاطباً لله تعالى دون الميت) : (( (اللهم إني) توسلت (إليك بفلان ) )) .

أو (قال ) : ((استغثت عند الله تعالى (أي استغثت بالله) بفلان)) ، أو يقول لمستغاثه - وهو الله سبحانه : (اللهم إني) استغثت إليك بفلان .

فيكون حينئذ مدخول الباء متوسلاً به .

ولا يصح إرادة هذا المعنى إذا قلت : ((استغثت بفلان)) ، وتريد التوسل به .

سيما إذا كنت داعيه ، وسائله (ومخاطبه ومناديه) ، بل قولك هذا

نص على أن مدخول الباء مستغاث ، وليس بمستغاث به .

والقرائن التي تكشفه :

- من الدعاء له ، وقصر الرجاء عليه ، (وخطابه له ، وطلبه منه) - شهود عدول ، ولا محيد عما شهدت به ولا عدول .

فهذه الاستغاثة ، وتوجه القلب إلى المسئول بالسؤال والإنابة - محظورة على المسلمين ، لم يشرعها لأحد من أمته رسول رب العالمين .

قال الشيخ محمد الأمين السويدي الشافعي :

((ولا يجوز ذلك إلا من جهل آثار الرسالة : ولهذا عمت الاستغاثة بالأموات ، عند نزول الكربات ، يسألونهم ويفزعون إليهم ، فكان ما يفعلونه

معهم أعظم من عبادتهم واعتقادهم في رب السماوات )) انتهى ) .

قلت : الحاصل أن توسل القبورية نوعان :

النوع الأول : ما فيه خطاب ونداء للميت وطلب منه ، مثل أن يقول : يا فلان الولي اكشف كربتي واشفني واغفر حوبتي واقض حاجتي ونحوها .

أو يسأله الشفاعة عند الله تعالى لقضاء الحاجة ، مثل أن يقول : يا فلان الولي اشفع لي عند الله أن يقضي حاجتي ويكشف كربتي ، ونحو ذلك - فهذا كله وأمثاله ليس من التوسل بالميت لغة ، بل هو استغاثة بالميت وطلب منه ، وهو إشراك صريح بالله تعالى .

بل هو أم لعدة أنواع من الشرك بالله تعالى ، كالشرك في علم الغيب ، والشرك في التصرف ، والشرك في السمع ، كما سبق تحقيقه على لسان علماء الحنفية .

النوع الثاني : وهو ما لم يكن فيه خطاب ونداء للميت ولا فيه طلب قضاء الحاجة منه ، ولا طلب الشفاعة منه له عند الله لقضاء الحاجة ، بل يكون توجيه الكلام إلى الله والاستغاثة به تعالى ، والطلب منه ، والنداء له تعالى فقط لا للميت :

كأن يقول : اللهم إني أسألك أن تكشف كربتي وتغفر حوبتي وتقضي حاجتي - بجاه فلان ، وحرمة فلان ، ووجه فلان ، ووسيلة فلان ، ونحو ذلك .

فهذا النوع قد يمكن أن يقال فيه : إنه توسل لغة ولكن هل هو جائز شرعاً ؟

الجواب : أن هذا النوع من التوسل غير جائز شرعاً ، لوجهين :

الأول : أنه بدعة ضلالة في العبادة التي هي مخ العبادات . ألا وهي الدعاء ، لأن هذا النوع من التوسل لم يعهد في الكتاب والسنة ، ولم يفعله أحد من الصحابة والتابعين ولا إمام من أئمة الأمة .

الثاني : أنه ذريعة كبيرة لفتح باب الشرك بمصراعيه ، فيجب سدها حماية لحمى التوحيد ، يوضحه النص الآتي :

وهو قول العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) : (إنه (أي التوسل بالذات) مكروه كراهة تحريم ، وهذا إذا كان الداعي متوجهاً إلى ربه متوسلاً إليه بغيره ، مثل أن يقول : أسألك بجاه فلان عبدك أو بحرمته ، أو بحقه .

وأما إذا توجه إلى ذلك الغير - فطلب منه [وليس ذلك من التوسل في شيء] كما يفعله كثير من الجهلة. فهو شرك [بل هو أم لعدة أنواع من الشرك] ، كما تقدم ) .

يوضحه الوجه السادس :

الوجه السادس : أن توسلات القبورية ليست من التوسل الشرعي الاصطلاحي الذي اصطلح عليه الكتاب والسنة ، والصحابة والتابعون ، فإن التوسل في اصطلاح الكتاب والسنة والصحابة والتابعين -

إنما هو التوسل بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى ، أو التوسل بالأعمال الصالحة ، أو التوسل إلى الله تعالى بدعاء شخص حي حاضر ، بأن يطلب منه الدعاء والشفاعة ، ثم هذا الحي الحاضر يدعو الله تعالى ويتضرع إليه ويشفع عنده بالدعاء .

هذا هو التوسل الشرعي الاصطلاحي المسنون المعروف في لغة القرآن واصطلاحه ، ولغة السنة واصطلاحها ، ولغة الصحابة والتابعين واصطلاحهم .

فكل ما هو مخالف لهذا التوسل الشرعي المصطلح عليه في الكتاب والسنة واصطلاح السلف الصالح من الصحابة والتابعين - فهو دائر بين أن يكون إشراكاً بالله تعالى - إذا كان من باب الاستغاثة بالغائبين والأموات - وبين أن يكون بدعة ضلالة مكروهاً محرماً ، منكراً في القول وزوراً ؛ وذريعة إلى الإشراك بالله تعالى .

فلفظ ((التوسل)) فيه إجمال واشتراك بحسب اصطلاح الصحابة ولغة القرآن والسنة ، وبحسب اصطلاح القبورية .

فهو في اصطلاح القرآن والسنة ، والصحابة والتابعين ، وأئمة السنة شيء . وفي اصطلاح القبورية المستغيثين بالأموات شيء آخر .

وما بين هذين الشيئين من البعد كما بين السماء والأرض ، وكما بين التوحيد والشرك ، وكما بين الإسلام والكفر .

ولكن القبورية عمدوا إلى نصوص التوسل الحق المسنون المصطلح عليه في الكتاب والسنة واصطلاح السلف الصالح - فاستدلوا بها على

إثبات التوسل الباطل الذي - نوع منه : استغاثة بالأموات عند الكربات ، وهو إشراك صريح ، بل هو أم لعدة أنواع من الإشراك بالله العظيم .

كقول القبوري : يا فلان الولي ! أغثني ، واكشف كربتي ، واقض حاجتي ، ونحو ذلك .

أو قول القبوري : يا فلان الولي : ادع الله لي ، أو اشفع لي عند الله ! أن يكشف كربتي ويقضي حاجتي ، ويغفر حوبتي ، ومثل ذلك .

ونوع منه : بدعة ضلالة ، ومنكر من القول وزور ، وباب إلى الشرك بالله تعالى ، يجب سده ، كقول القبوري : اللهم اكشف كربتي واقض حاجتي بوسيلة فلان ، وحرمته ، وحقه وجاهه ، ونحو ذلك من التوسل الذي لم يفعله أحد من السلف .

هذا هو حاصل كلام علماء الحنفية في هذا الوجه .

وللعلامة نعمان الآلوسي كلام آخر مثله في غاية من التحقيق والإتقان .

قلت : كلام هؤلاء الحنفية في غاية من الإنصاف والدقة والتحقيق ، وهو الحقيقة الواقعة التي إنكارها مكابرة وعناد ، لا يليق إلا بأهل الإضلال والإفساد والإلحاد ، وقد اعترف بها الشاه أنور الكشميري ، أحد كبار أئمة

الديوبندية وأحد مشاهير الحنفية (1352هـ) .

وأصل هذا التحقيق من كلام المجاهد المجتهد الهمام ، الإمام أبي العباس تقي الدين أحمد بن تيمية ، شيخ الإسلام .

وقد ذكر العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) : أن القبورية يذكرون كلاماً مجملاً في التوسل يحتمل ستة أنواع من التوسل ، بعضها باطل إما شرك وإما بدعة ، وبعضها حق ، فيدخلون الباطل في الحق .

الوجه السابع : أن حمل ((الوسيلة)) المصطلح عليها في الكتاب والسنة ، واصطلاح السلف الصالح وعلماء السنة وأئمة الأمة ، على ((الوسيلة)) المصطلح عليها في اصطلاح القبورية ، تحريف لنصوص الكتاب والسنة وتبديل للمصطلحات الشرعية . حتى باعتراف القبورية ، ولا سيما الكوثرية .

لقد سبق بغاية من التحقيق ، ونهاية من الدقة والتدقيق ، على لسان علماء الحنفية ، الرادين على عقائد القبورية ، أن توسلات القبورية ليست من التوسل المصطلح عليه في لغة الكتاب والسنة ، واصطلاح الصحابة والتابعين وأئمة هذه الأمة ؛ لأن توسل الصحابة والتابعين عين توحيد رب العالمين ، وأما توسلات هؤلاء القبورية ، فإما من الأفعال الوثنية وإما من الأعمال البدعية .

الحاصل : أن توسل القبورية وتوسل السلف أمران متضادان لا

يجتمعان ، كالتوحيد والشرك ، والإسلام والكفر ، والسنة والبدعة ، والنور والظلمة ، والحق والباطل ، فحمل ((الوسيلة)) المصطلح عليها في لغة الكتاب والسنة ، وفي اصطلاح الصحابة والتابعين وأئمة هذه الأمة على ((الوسيلة)) المصطلح عليها عند القبورية ، تحريف لنصوص الكتاب والسنة وتبديل للمصطلحات الشرعية ، ليس إلا ، ولا بد منه ، ولا خلاص ، ولا مفر ولا محيد ، ولا محيص ، ولات حين مناص .

وهذا باعتراف القبورية ، ولا سيما الكوثرية ، فقد وضع الكوثري قانوناً كلياً لا استثناء فيه :

وهو أن حمل نصوص الكتاب والسنة على المصطلحات التي اصطلح عليها بعد عهد التنزيل بدهور - زيغ عن منهج الكتاب والسنة ، وتنكب عن سبيل السلف الصالح ، ومنابذة للغة التخاطب ، وفيما يلي أسوق قانون الكوثري بنصه وفصه ، ثم أقلبه عليه خاصة ، وعلى القبورية ، ولا سيما الكوثرية عامة في باب التوسل والوسيلة ، فأقول : قال الكوثري (1371هـ) في الرد على الصوفية الذين يزعمون أن مصطلحاتهم يدل عليها ظاهر الكتاب والسنة ، مبيناً أن هذا تحريف للكتاب والسنة وزيغ عن منهجهما ، ومنابذة للغة العربية :

(.... وأين التجليات التي اصطلح عليها الاتحادية من تخاطب العرب ؟ ومن تفاهم السلف والخلف بهذا اللسان العربي المبين ؟ ؟

حتى يكون حمل النصوص والآثار على التجليات المصطلح عليها فيما بعد عهد التنزيل بدهور - استعمالاًَ لها في حقائقها ؟ ؟ .

ومن زعم ذلك - فقد [ارتكب سبع طامات موبقات] :

[ الأولى أنه] زاغ عن منهج الكتاب والسنة .

و [ الثانية أنه] تنكب سبيل السلف الصالح .

و [ الثالثة أنه ناقض] مسلك أئمة أصول الدين .

و [ الرابعة لأنه] نابذ لغة التخاطب .

و [ الخامسة أنه] هجر طريقة أهل النقد في الجرح والتعديل ، والتقويم والتعليل .

و [ السادسة أنه ] جانب أصفياء الصوفية القائلين بالتوحيد

الشهودي ، بل [ترقى في الإلحاد فارتكب الطامة]

[ السابعة ] ، حيث حاد عن فرق هذه الأمة جمعاء ، غير الحلولية من طوائف المشبهة) ، انتهى كلام الكوثري .

قلت : أيها المسلم المنصف المنشد لضالة الحق ! هذا كان كلام الكوثري أحد أئمة القبورية والجهمية ، وشيخ عصبة التعصب من المقلدة الحنفية ، وهو كلام حق ، صواب وصدق ، والكذوب قد يصدق ، والأعرج

قد يسبق ، فالكوثري وإن كان أكذب من طغى وسطا ، ولكن ههنا نراه أصدق من القطا ، ولكن صدقه ههنا ليس له ولا لجماعته القبورية ، بل صدقه سيف قطع به دابره ودابر جميع القبورية والجهمية الذين حملوا نصوص الكتاب والسنة ، ومصطلحات السلف وأئمة الأمة ، على مصطلحاتهم البدعية ، وعقائدهم القبورية والجهمية ، فالكوثري مع تناقضه الفاضح ، واضطرابه الواضح ، قد قطع عنقه من قفاه ، لئلا يفتح فاه .

فكان كعنز السوء قامت بظلفها إلى مدية تحت التراب تثيرها ؛ لأن هذا الكوثري البهات المأبون * الصادق المحق في هذا القانون * - قد ناقض وتناقض .

حيث فسر ((الوسيلة)) المصطلح عليها في لغة الكتاب والسنة ، واصطلاح الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة هذه الأمة ، بالوسيلة المصطلح عليها عند القبورية الوثنية ، فتلاعب بنصوص الكتاب والسنة ، ومصطلحات الشرع ، في هذه الأمة .

* حيث قال هذا المحرف * المتقول الأفاك المخرف * : (وهم في إنكارهم التوسل محجوجون بالكتاب والسنة والعمل المتوارث [القبوري الوثني] والمعقول ، [معقول القبورية الوثنية ] ، أما الكتاب ، فمنه قوله تعالى : { وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } [ المائدة : 35] و ((الوسيلة)) بعمومها تشمل التوسل بالأشخاص ، والتوسل بالأعمال ، بل المتبادر من ((التوسل)) في

الشرع ، هو هذا [ أي التوسل بالأعمال ] وذاك [ أي التوسل بالأشخاص ] رغم تقول كل مفتر أفاك ...) .

قلت : أخي المسلم ! لقد اطلعت على قانون الكوثري إمام الكوثرية ، الذي وضعه صارماً لقطع دابره ودابر قومه من القبورية الجهمية .

ثم رأيت أنه عارضه ، فتناقض لأنه ناقضه ، حيث فسر ((الوسيلة)) المصطلح عليها في الكتاب والسنة ، وفي اصطلاح الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة هذه الأمة ، بالوسيلة المصطلح عليها عند القبورية ، فتلاعب بالنصوص والمصطلحات الشرعية .

فالآن يحق لي بحق أن أقلب قانون الكوثري عليه وعلى قومه . وأقلب عليه حجته ، وأحاربه بسلاحه ، وأبين تناقضه ليصحو من غفوته وسباته ونومه وغفلته ؛ فأقول وبربي أستغيث وأستعين ، إذ هو المستغاث المستعان المغيث المعين :

إن القبورية الذين فسروا ((الوسيلة)) المصطلح عليها في لغة الكتاب والسنة وفي اصطلاح الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة هذه الأمة ، بالوسيلة المصطلح عليها عند هؤلاء الوثنية . وحملوا نصوص الكتاب والسنة ، وأقوال أئمة هذه الأمة - في باب ((الوسيلة)) - على ((الوسيلة)) في اصطلاح هؤلاء القبورية ، كما فعل هذا الكوثري وغيره من أئمة هؤلاء الوثنية -

قد تلاعبوا بنصوص الكتاب والسنة ، وحرفوا المصطلحات الشرعية في هذه الأمة ، لأننا نقول لهم في ضوء قانون هذا الكوثري :

أين التوسلات التي اصطلح عليها القبورية الوثنية ، والصوفية الحلولية الاتحادية وأذيالهم من الخرافية ، من تخاطب العرب ؟.

وأين مصطلحات هؤلاء الخلف ، من تفاهم السلف ، وأية مناسبة لها بهذا اللسان العربي المبين ، حتى يكون حمل النصوص والآثار السلفية على التوسلات المصطلح عليها عند هؤلاء القبورية ، التي ابتدعوها بعد عهد التنزيل بدهور .

- فما المناسبة بين الظلمات والنور ؟؟ .

استعمالاً لها في حقائقها ، ومن زعم ذلك ، كالكوثري المتهالك الهالك ، فقد ارتكب سبع طامات ، مع ما عنده من موبقات :

الأولى : أنه زاغ عن منهج الكتاب والسنة .

والثانية : أنه تنكب سبيل سلف الأمة .

والثالثة : أنه ناقض مسلك أئمة أصول الدين .

والرابعة : أنه نابذ لغة التخاطب بلسان عربي مبين .

والخامسة : أنه هجر طريقة أهل النقد في الجرح والتعديل ، والتقويم والتعديل ، للإفساد والتضليل .

والسادسة : أنه جانب أصفياء أهل السنة القائلين بتوحيد الأنبياء والمرسلين الرادين على القبوريين ، بل ترقى في الإلحاد ، فارتكب الطامة :

السابعة : حيث حاد من فرق هذه الأمة جمعاء بتلك التحريفات القبورية الوثنية الحمقاء غير الحلولية ، من طوائف المشبهة القبورية ، والصوفية الاتحادية ، والجهمية ، والوثنية .

أقول : هذا كان قانون الكوثري ، وقد عرفت كيف سلط الله عليه ما وضع بيديه ، ووقع في التناقض الواضح والاضطراب الفاضح بما لديه .

وقد قال الكوثري نفسه :

(والتناقض شأن من اصيب في عقله أو دينه) .

قلت : هذا مثال آخر لانتحار الكوثري !.

انظر عافاك الله تعالى وإياي ، فقد شهد الكوثري على نفسه ببيانه ، واعترف اعترافاً بلسانه وبنانه ، أن الكوثري لتناقضه أصيب في عقله أو دينه .

وأما قول الكوثري في كل من قال بالتوسل المصطلح عليه عند السلف : (رغم تقول كل مفتر أفاك) .

فالجواب عنه من وجهين :

الأول : أن الكوثري هو المتقول على الله ، المفتري على رسوله صلى الله عليه وسلم ، الأفاك على الصحابة والتابعين ، لأنه يحمل نصوص التوسل وأقوال

السلف فيه - على التوسل المصطلح عليه عنده وعند القبورية .

والثاني : أن العلامة محمد أنور شاه الكشميري ، إمام الكوثرية والديوبندية (1352هـ) - الذي أكبره الكوثري نفسه ، وعظم أمره وأجله إجلالاً عظيماً وأقره أبو غدة الكوثري - قد صرح بأن التوسل في اصطلاح السلف وعرفهم ولغتهم - غير التوسل في اصطلاح المتأخرين [أي القبورية] وعرفهم ولغتهم .

فالآن نسأل الكوثري :

هل الشاه أنور الكشميري الذي تجله إجلالاً عظيماً وتكبره إكباراً جليلاً - كان متقولاً ؟ مفترياً ؟ أفاكا ؟ أم الكوثري هو المقول المتقول ، المفتري الأفاك ؟؟.

حيث استدل بالتوسل الحق المصطلح عليه عند السلف - على التوسل الباطل الشركي البدعي المصطلح عليه عنده وعند القبورية .

هذه كانت بعض الحجج الدامغة والبراهين الباهرة القاهرة التي ذكرها علماء الحنفية لإبطال توسلات القبورية ، الشركية منها والبدعية .

وبعد هذا ننتقل إلى المبحث الآتي لنرد على بعض شبهات القبورية

في التوسل ، على لسان علماء الحنفية ، لنعرف جهوداً أخرى لهم في إبطال عقائد القبورية .

والله المستعان وعليه التكلان .

****

الفصل الثالث

في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية

في توسلاتهم الشركية

لقد سبق أن ذكرت بعض جهود علماء الحنفية في بيان التوسل الشرعي وأنواعه ، وبيان التوسل القبوري منه والبدعي ، وصوره وأصنافه ، وبعض جهودهم في إبطال التوسل القبوري ، ولكن لا يتم الرد على الوجه الأكمل إلا بإبطال شبهاتهم ، لذا أذكر بعض جهود علماء الحنفية في هذا المبحث لإبطال أهم شبهات القبورية وأشهرها التي تشبثوا بها في باب التوسل القبوري .

فأقول وبربي أستعين ، إذ هو المستعان المعين ، وبه أستغيث ، إذ هو المستغاث المغيث :

لقد تشبثت القبورية لإثبات توسلهم القبوري ، الشركي منه والبدعي - بشبهات كثيرة لا يمكن لي أن أسردها كلها ثم أذكر أجوبة علماء الحنفية عنها ، لأن هذا يحتاج إلى تأليف مستقل ضخم ، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك بعضه أو جله .

لذا أكتفي بذكر ثلاث من شبهاتهم التي هي أقوى الشبهات على الإطلاق ، وأشهرها لديهم في باب التوسل ، فهي وإن لم تكن جل الشبهات عدداً وكماً ، ولكنها جلها كيفاً وقوة ومعنى ووزناً .

مع كلام علماء الحنفية في الرد عليها والجواب عنها وقلعها وقمع أصحابها .

فأقول وبالله التوفيق ، وبيده أزمة التحقيق :

الشبهة الأولى : تشبث القبورية بقوله تعالى : { وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } [ المائدة : 35] .

لقد استدل عامة القبورية بهذه الآية الكريمة على إثبات توسلهم القبوري ، الشركي منه والبدعي .

فقد قال البروسوي الإسلامبولي الحنفي ، الخلوتي الاتحادي ، الصوفي (1127هـ) أو (1137هـ) مستدلاً بهذه الآية على وثنيته : (الوسيلة علماء الحقيقة ، ومشايخ الطريقة) .

وتبعه بعض الديوبندية القبورية من المعاصرين .

بل صرح بعض غلاة القبورية الوثنية - كابن جرجيس الحنفي (1199هـ) أن المراد من ((الوسيلة)) في هذه الآية - هو التوسل بذوات الصالحين لا غير .

وكثير من هؤلاء القبورية استدلوا بهذه الآية على إثبات التوسل القبوري ، الشركي منه والبدعي ، زعماً منهم أن لفظ ((الوسيلة))عام يشمل التوسل بالأعمال ويشمل التوسل بذوات الصالحين .

وأغرب القضاعي أحد أئمة القبورية (1376هـ) في وضع العنوان وتبعه المالكي أحد أئمة القبورية المعاصرة ؛ ولكنه سارق كلام الأول ، حيث لم يحل عليه لا تصريحاً ولا تلميحاً ، فقالا :

(أدلة ما عليه المسلمون من التوسل [ والاستغاثة بالأنبياء والصالحين] ، قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } والوسيلة كل ما جعله الله سبباً في الزلفى عنده ، ووصلة إلى قضاء الحوائج منه .

ولفظ الوسيلة عام في الآية كما ترى . فهو شامل للتوسل بالذوات الفاضلة من الأنبياء والصالحين في الحياة وبعد الممات ، وبإتيان الأعمال الصالحة على الوجه المأمور به) .

قلت : وجه انحراف هذا العنوان هو قولهما : (أدلة ما عليه المسلمون من التوسل ) فإن فيه تعريضاً بجعل أهل التوحيد غير مسلمين ، وأن المسلمين هم هؤلاء القبورية الوثنية فقط ؟؟.

وأما الكوثر الكرار ، الشاطر الجرار ، الشاتم المهذار ، فيقول جهاراً دون إسرار :

(وهم (يعني أهل التوحيد) في إنكارهم التوسل محجوجون بالكتاب والسنة ، والعمل المتوارث [ أي القبوري الوثني] والمعقول [ معقول الوثنية ] ، أما الكتاب فمنه قوله تعالى : { وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } [المائدة : 35 ] ، و ((الوسيلة)) بعمومها تشمل التوسل بالأشخاص ، والتوسل بالأعمال ، بل المتبادر من ((التوسل)) في الشرع - هو هذا (أي التوسل بالأعمال) ، وذلك (أي التوسل بالأشخاص) رغم تقول كل مفتر أفاك ...) .

قلت : هذا هو استدلال القبورية بهذه الآية على إثبات توسلهم القبوري .

الجواب : لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة القبورية بوجهين ، وحاربوهم من جهتين اثنتين .

الوجه الأول : وهو جواب إجمالي يقمع به هذه الشبهة وغيرها من الشبهات أيضاً ، وهو : أنه قد تحقق على لسان علماء الحنفية كالشمس في رابعة النهار أن التوسل في لغة الكتاب والسنة ، واصطلاح الصحابة والتابعين وأئمة هذه الأمة -

هو التوسل بأسماء الله وصفاته والأعمال الصالحة ، دون التوسل بالأموات والاستغاثة بهم عند الكربات .

وإذا ثبت هذا - فحمل نصوص الكتاب والسنة في التوسل المصطلح عليه في عهد التنزيل على التوسل المصطلح عليه عند القبورية ، ليس إلا تحريفاً لتلك النصوص ، وتلاعباً بالمصطلحات ، وذلك كحمل نصوص الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج ، والوضوء ، والنكاح ، وغيرها من المصطلحات الشرعية ، على مصطلحات أخرى حدثت بعد عهد التنزيل ، وهذا ليس تحريفاً فحسب ، بل هو قرمطة في النقليات ، وسفسطة في العقليات ، وقد صرح الكوثري - الذي يرمي أهل التوحيد بقوله : ((رغم كل مفتر أفاك)) - بأن هذا الصنيع زيغ عن منهج الكتاب والسنة ، وتنكب لسبيل السلف الصالح ، ومسلك أئمة أصول الدين ، ومنابذة للغة التخاطب ، وهجر لطريقة أهل النقد في الجرح والتعديل ، والتقويم والتعليل ، وبعد من تخاطب العرب ، وتفاهم السلف بهذا اللسان العربي المبين .

وإذا ثبت هذا على لسان الكوثري - فقد ثبت ثبوتاً لا يحتمل النقيض

أن الكوثري ومن على شاكلته من القبورية - الذين يستدلون بالوسيلة الواردة في الكتاب والسنة وآثار السلف المصطلح عليها عندهم - بأنها أسماء الله وصفاته ، والأعمال الصالحة - على الوسيلة القبورية ، الشركية منها والبدعية المصطلح عليها عند الكوثري وخلطائه من القبورية - هم متقولون على كتاب الله ، ومحرفون لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومفترون على الصحابة والتابعين ، وأفاكون على أئمة هذا الدين ، وأنهم هم اللعابون بالمصطلحات الشرعيات ، وأنهم يقرمطون في النقليات ويسفسطون في العقليات .

وبهذا القدر من التحقيق تبين بطلان هذه الشبهة ، وأنه لا حجة للقبورية في هذه الآية على توسلهم القبوري البتة .

فقد قال العلامة الكشميري ، محمد أنور ، أحد كبار أئمة الديوبندية ، والكوثرية (1352هـ) الذي أكبره الكوثري والكوثرية ، فضلاً عن الديوبندية غاية الإكبار ، وأعظموه نهاية الإعظام غلواً وإطراءً :

(وأما قوله تعالى : { وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } - فذلك وإن اقتضى ابتغاء واسطة لكن لا حجة فيه على التوسل المعروف بالأسماء فقط [ دون التوسل بدعاء الحي الحاضر ] ....) .

قلت : الآن نسأل الكوثري - القائل : ((رغم تقول كل مفتر أفاك)) - : من هو المتقول المفتري الأفاك ؟؟.

هل الكوثري ومن على شاكلته من القبورية ؟؟ أم الشاه أنور الكشميري الذي يجلونه ويكبرونه ويعظمونه ؟؟.

وفي هذا القدر كفاية لمن له دراية .

الوجه الثاني : أن ((الوسيلة)) في هذه الآية إنما المراد بها فعل الطاعات وترك السيئات ، وقد أطبقت على ذلك كلمة المحققين من الحنفية في تفسير هذه الآية ، وإليكم أمثلة من نصوص بعضهم إقامة للحجة وإيضاحاً للمحجة :

1 - قال الإمام أبو الليث السمرقندي (375هـ) أحد كبار أئمة الحنفية : (أي اطلبوا القربة والفضيلة بالأعمال الصالحة) .

2 - 3- وقال الزمخشري الحنفي اللغوي البلاغي (538هـ) ، وتبعه الإمام النسفي (710هـ) مبيناً معنى ((الوسيلة)) لغة ، وشرعاً ، وأن ((الوسيلة)) الشرعية أخص من ((اللغوية)) : (هي كل ما يتوسل به - أي يتقرب - من قرابة أو صنيعة ، أو غير ذلك ، فاستعيرت لما يتوسل به إلى الله تعالى من فعل

الطاعات وترك السيئات ) .

وهذا بعينه نص كلام الزمخشري ، غير أنه قال :

(الوسيلة كل ما يتوسل به ... فاستعيرت ... من فعل الطاعات وترك المعاصي) .

4 - وقال الإمام أبو السعود العمادي (983هـ) : (هي فعيلة بمعنى ما يتوسل به ويتقرب إلى الله تعالى : من فعل الطاعات وترك المعاصي ) .

5 - 6- وقال الإمام محمود الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) وتبعه ابنه العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) :

(هي فعيلة بمعنى ما يتوسل به ويتقرب إلى الله عز وجل : من فعل الطاعات ، وترك المعاصي .....

واستدل بعض الناس [ من القبورية ] بهذه الآية على مشروعية الاستغاثة بالصالحين ، وجعلهم وسيلة بين الله تعالى وبين العباد .

والقسم على الله تعالى بهم بأن يقال :

((اللهم إنا نقسم عليك بفلان أن تعطينا كذا)) ، ومنهم من يقول للغائب ، أو الميت من عباد الله تعالى الصالحين : ((يا فلان ! ادع الله تعالى ليرزقني كذا وكذا)) .

ويزعمون : أن ذلك من باب ابتغاء الوسيلة ، ويروون عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال : ((إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور)) أو ((فاستغيثوا بأهل القبور)).

وكل ذلك بعيد عن الحق بمراحل) .

الشبهة الثانية : تشبث القبورية بتوسل عمر بالعباس رضي الله عنهما : فعن أنس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب ، فقال : ((اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا)) قال : فيسقون) .

وقد استدل عامة القبورية بهذا الأثر على إثباتهم للتوسل القبوري ، الشركي منه والبدعي ، قديماً وحديثاً .

الجواب : لقد أجاب عن هذه الشبهة علماء الحنفية بعدة وجوه ، أذكر منها أربعة :

الوجه الأول : أنه قد سبق محققاً مدققاً على لسان علماء الحنفية أن التوسل المصطلح عليه في الكتاب والسنة ، وفي اصطلاح الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة الأمة ، هو التوسل بأسماء الله الحسنى ،

وصفاته الكمالية العلى ، والتوسل بالطاعات ، من فعل الحسنات وترك السيئات ، حتى اعترف بهذه الحقيقة الشيخ أنور الكشميري (1352هـ) أحد كبار أئمة الديوبندية .

والكوثري والكوثرية يعظمه غاية التعظيم ويجله غاية الإجلال ، وأما إكبار الديوبندية له وغلوهم فيه غلواً لا نهاية له ، فحدث ولا حرج ، فقوله حجة على الديوبندية ، والكوثري والكوثرية .

وإذا ثبت أن توسل السلف غير توسل القبورية - فقد تبين بطلان حمل توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما - على التوسل المصطلح عليه عند الكوثرية والديوبندية خاصة ، والقبورية عامة .

وظهر أن الاستدلال بهذا الأثر وغيره من نصوص الكتاب والسنة وآثار السلف الصالح - على التوسل القبوري الشركي منه والبدعي - هو من قبيل توجيه قول القائل بما لا يرضى به قائله ، وقد سبق أن ذكرت قانوناً وضعه الكوثري ببيانه وقاله بلسانه ، وكتبه ببنانه .

وهو أن حمل النصوص والآثار على المصطلحات المستحدثة بعد عهد التنزيل بدهور - بعد عن اللسان العربي المبين ، وزيغ عن منهج الكتاب والسنة وتنكب لسبيل السلف ، ومنابذة للغة التخاطب ، وهجر لطريقة أهل النقد .

إلى غير ذلك من المفاسد التي ذكرها الكوثري ، فكيف يجوز

للكوثري وغيره من القبورية بعد وضع هذا القانون وبعد معرفة مذهب السلف في التوسل - أن يستدلوا بنصوص الكتاب والسنة وآثار السلف على التوسل المصطلح عليه عند القبورية ، الذي هو دائر بين أن يكون شركاً بواحاً صراحاً . وبين أن يكون بدعة ضلالة ووسيلة إلى الشرك بالله تعالى .

الحاصل : أن استدلال القبورية عامة والكوثرية والديوبندية خاصة بهذا الأثر - على التوسل المصطلح عليه عندهم - باطل ومحال ، وتحريف ، وتخريف ، إذ هو من قبيل القرمطة في النقليات والسفسطة في العقليات ، بل الحق الحقيق ، والواقع والتحقيق : أن التوسل في هذا الأثر - هو التوسل بدعاء الحي الحاضر .

فاستمع للوجه التالي . وأنصت لتكتسب الدرر العوالي .

الوجه الثاني : أن علماء الحنفية قد صرحوا بأن ((التوسل)) المذكور في هذا الأثر هو التوسل بدعاء الحي الحاضر ، فعمر بن الخطاب الخليفة الراشد فقيه الصحابة رضي الله عنه ، قد توسل بدعاء العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه ، ولم يكن توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما من قبيل التوسل القبوري الشركي منه والبدعي ، فلم يكن هذا التوسل بذات العباس رضي الله عنه ، ولا بحرمته ، ولا بحقه ، ولا بجاهه ، ولا بوجهه ، ولا ببركته .

وإنما هو التوسل بدعائه رضي الله عنه ، وإليكم بعض نصوص كبار أئمة الحنفية في شرح هذا الأثر وتوسل عمر بالعباس رضي الله عنهما :

1 - قال الإمام الشاه ولي الله الدهلوي إمام الحنفية في عصره (1176هـ) : توسل عمر رضي الله عنه بالعباس رضي الله عنه ، إنما كان بدعائه ، ولا شك في جوازه .

2 - وقال الإمام ابن أبي العز أحد كبار علماء الحنفية (792هـ) محققاً أن توسل عمر بالعباس إنما كان بدعائه لا غير : (فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم - لفعلوه بعد موته ، وإنما كانوا يتوسلون في حياته بدعائه [ حيث ] يطلبون منه أن يدعو لهم ، وهم يؤمنون على دعائه ، كما في الاستسقاء وغيره ، فلما مات صلى الله عليه وسلم - قال عمر رضي الله عنه - لما خرجوا يستسقون - :

((اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا ، فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا)) ، معناه : بدعائه هو ربه ، وشفاعته ، وسؤاله .

[ و] ليس المراد : أنا نقسم عليك به ، أو نسألك بجاهه عندك .

إذ لو كان ذلك مراداً - لكان جاه النبي صلى الله عليه وسلم أعظم وأعظم من جاه العباس [ رضي الله عنه ] ...) .

3 -4- وقال الإمام محمود الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) ، وتبعه ابنه العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) واللفظ للوالد :

(إن معنى ((الاستشفاع)) به صلى الله عليه وسلم - طلب الدعاء منه ، وليس معناه : الإقسام به على الله تعالى ... وعلى هذا لا يصلح ((الخبر)) [ أي خبر التوسل والاستشفاع ] ولا ما قبله [ في آية الوسيلة ] - دليلاً لمن ادعى جواز الإقسام [ والتوسل ] بذاته صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً ، وكذا بذات غيره من الأرواح المقدسة مطلقاً ، قياساً عليه ، عليه الصلاة والسلام ، بجامع الكرامة ..

وتساوي حالتي حياته ووفاته صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن - يحتاج إلى نص ، ولعل النص على خلافه ؛ ففي صحيح البخاري ، عن أنس : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس رضي الله عنه ، فقال : ((اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك صلى الله عليه وسلم فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا)) ،

فيسقون ؛ فإنه لو كان التوسل به عليه الصلاة والسلام بعد انتقاله من هذه الدار - لما [ تركوا التوسل به صلى الله عليه وسلم ، ولما ] عدلوا [ عن التوسل به ] إلى [ التوسل بشخص ] غيره [ صلى الله عليه وسلم ] بل كانوا يقولون [ حتى بعد موته صلى الله عليه وسلم ] : ((اللهم إنا نتوسل إليك بنبينا فاسقنا)) ، وحاشاهم أن يعدلوا عن التوسل بسيد الناس إلى التوسل بعمه العباس - وهم يجدون أدنى مساغ لذلك - فعدوا لهم هذا - مع أنهم السابقون الأولون ، وهم أعلم منا بالله تعالى ، ورسوله صلى الله عليه وسلم و [ هم أعرف منا بحقوق الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام ] و [ هم أدرى منا بكل ] ما يشرع [ في دين الله ] من الدعاء وما لا يشرع .

وهم في وقت ضرورة ومخمصة ، [ وكانوا ] يطلبون تفريج الكربات ، وتيسير العسير ، وإنزال الغيث بكل طريق - دليل واضح على أن المشروع [ هو ] ما سلكوه : [ من التوسل بدعاء الحي الحاضر ] دون غيره [ من توسلات القبورية ، الشركية منها والبدعية ] ....

[ فلذلك نقول : ] إن هذا التوسل [ أي توسل عمر بالعباس ] ليس من باب الإقسام [ على الله تعالى ] بل هو من جنس الاستشفاع ، وهو أن يطلب من الشخص الدعاء والشفاعة ، ويطلب من الله تعالى أن يقبل دعاءه وشفاعته ، ويؤيد ذلك أن العباس كان يدعو وهم يؤمنون لدعائه حتى سقوا ، وقد ذكر المجد : أن لفظ ((التوسل)) بالشخص ، والتوجه إليه وبه - فيه إجمال وإشراك [ يختلف المراد منه ] بحسب الاصطلاح [ السلفي ، والقبوري الخلفي ] ، فمعناه في لغة الصحابة [ رضوان الله عليهم أجمعين ] :

أن يطلب منه الدعاء ، والشفاعة ، فيكون التوسل والتوجه في الحقيقة بدعائه وشفاعته ، وذلك مما لا محذور فيه ، وأما في لغة كثير من الناس [ عبدة القبور ] - فمعناه : أن يسأل الله تعالى بذاته ، ويقسم به عليه ، وهذا هو محل النزاع .

وقد علمت الكلام [ والحجج الدالة على خلافه ، وعرفت ما ] فيه [ من المفاسد الشركية والبدعية ] ،

و [ تحقق لك أنه قد ] جعل من الإقسام الغير المشروع قول القائل : ((اللهم أسألك بجاه فلان)) ، فإنه لم يرد عن أحد من السلف أنه دعا كذلك .......) .

5 - وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) في شرح هذا الأثر مبيناً أن توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما إنما كان توسلاً بدعاء العباس رضي الله عنه لا غير : (وقول عمر رضي الله عنه : ((إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا)) .

معناه : نتوسل بدعائه وشفاعته وسؤاله [ صلى الله عليه وسلم ] و [ الآن ] نتوسل إليك بدعاء عمه وسؤاله وشفاعته [ و ] ليس المراد به : أنا نقسم عليك به ، وأما ما يجري هذا المجرى مما يفعل بعد موته وفي مغيبه ، كما يقول الناس [ من القبورية ] : أسألك بجاه فلان عندك ، و [ من هؤلاء القبورية من ] يقولون :

نتوسل إلى الله بأنبيائه ، وأوليائه ، فإنه لو كان هذا [ التوسل القبوري ] هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه ، كما ذكر عمر رضي الله عنه - لفعلوا ذلك بعد موته [ صلى الله عليه وسلم ] ، ولم يعدلوا عنه إلى العباس [ رضي الله عنه ] ، مع علمهم بأن السؤال به ، والإقسام به [ صلى الله عليه وسلم على فرض جوازه شرعاً ] - أعظم من [ التوسل بعمه ] العباس [ رضي الله عنه ] فعلم أن ذلك التوسل الذي ذكروه - هو مما يفعل بالأحياء دون الأموات ، وهو التوسل بدعائهم وشفاعتهم ، فإن الحي يطلب منه ذلك ، والميت لا يطلب منه شيء لا دعاء ولا غيره) .

6 - وله رحمه الله كلام مهم آخر في شرح أثر عمر وتوسله بالعباس رضي الله عنهما ، وتحقيق أن هذا التوسل هو التوسل بدعاء الحي الحاضر لا غير .

7 - وله أيضاً كلام آخر في غاية الدقة والإتقان يقطع دابر القبورية ولا سيما الكوثرية .

8 - تحقيق الشيخ الشاه محمد أنور الكشميري ، الملقب عند الديوبندية والكوثرية بإمام العصر ومحدث العصر (1352هـ) ، وهو من كبار أئمة الديوبندية .

والديوبندية قد أطروه إطراءً لا غاية له ، وأكبروه إكباراً لا نهاية له .

حيث قالوا في إجلاله وإكباره : إنه بحر البحور ، عديم النظير ، بقية

السلف ، حجة الخلف ، أمة وحده ، جمع ميزات كل من الذهبي (748هـ) ، وابن حجر (852هـ) ، وابن دقيق العيد ، والبحتري ، وسحبان ، وأنه إعجاز الدين ، مثل سفيان (161هـ) ، والبخاري (256هـ) ، وأحمد (241هـ) ، والترمذي (279هـ) ، والزهري (124هـ) ، بلا خلاف . إلى غير ذلك من الثناء والمدائح التي كالوها له جزافاً وغلواً ، وأما الكوثري نفسه والكوثرية - فهم أيضاً أتوا بالعجائب من الإجلال له وإكباره وإعظامه :

بأن الكشميري ((إمام العصر المحدث الكبير)) و ((الإمام المحدث الكبير)) و ((الإمام الكشميري)) ، ((والعلامة فقيد الإسلام المحدث المحجاج)) ، وأنه ((لم يأت بعد ابن الهمام مثله)) ، إلى آخر تلك المبالغات الديوبندية والكوثرية في هذا الكشميري .

قلت : إنما أطلت هذه الإطالة في ذكر أمثلة إطراء الديوبندية والكوثري والكوثرية لهذا الكشميري وغلوهم فيه تخرصاًَ وجزافاً وتهوراً ،

لأنقل كلامه في توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما ، ثم أنقل كلاماًَ للكوثري مناقضاً لكلام الكشميري ، ليكون كلام الكشميري قاطعاً لدابر الكوثري خاصة ولدابر الديوبندية والكوثرية عامة ، ولسائر القبورية أيضاً .

فأقول وبالله أستعين ، إذ هو المستعان المعين : قال العلامة الشاه محمد أنور الكشميري ، أحد كبار أئمة الديوبندية والكوثرية (1352هـ) ، في شرح هذا الأثر محققاًَ أن توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما - إنما كان توسلاً بدعائه ، ولم يكن من قبيل توسل المتأخرين : (قوله : ((اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم )) - ليس فيه ((التوسل)) المعهود [ عند المتأخرين ] الذي يكون بالغائب ، حتى قد لا يكون به شعور [ للمتوسل به ] أصلاً ، بل فيه [ أي أثر عمر هذا ] توسل السلف ، وهو : أن يقدم [ المتوسل ] رجلاً ذا وجاهة عند الله تعالى ، ويأمره أن يدعو لهم ، ثم يحيل عليه في دعائه ، كما فعل بعباس رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم ، ولو كان فيه توسل المتأخرين [ القبورية ] - لما احتاجوا بإذهاب عباس رضي الله عنه معهم ، ولكفى لهم التوسل بنبيهم بعد وفاته ، (وكفاهم التوسل أيضاً) بالعباس رضي

الله عنه مع عدم شهوده معهم ....) .

9 - وقال رحمه الله أيضاً مبيناً أن توسل السلف غير توسل الخلف :

(واعلم أن التوسل بين السلف - لم يكن كما هو المعهود بيننا [ أي الديوبندية خاصة والقبورية عامة ] ، فإنهم [ أي السلف الصالح] إذا كانوا يريدون أن يتوسلوا بأحد - كانوا يذهبون بمن يتوسلون به أيضاً معهم ، ليدعو لهم ، ثم يستعينون بالله ويدعونه ، ويرجون الإجابة منه ... أما التوسل بأسماء الصالحين كما هو المتعارف في زماننا - بحيث لا يكون للمتوسلين بهم علم بتوسلنا ، بل لا تشترط فيه [ أي في هذا التوسل القبوري ] حياتهم ، [ فيتوسلون بالأحياء والأموات ] أيضاً .

وإنما يتوسل [ عند القبورية ] بذكر أسمائهم فحسب ، زعماً منهم أن لهم وجاهة عند الله وقبولاً ، فلا يضيعهم بذكر أسمائهم - فذلك أمر لا أحب أن أقتحم فيه ...

وأما قوله تعالى : { وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } [ المائدة : 35] .

فذلك وإن اقتضى ابتغاء واسطة ، لكن لا حجة فيه على التوسل

المعروف ، بالأسماء فقط [ بطلب الدعاء من المتوسل به ] ....) .

10 - وقال رحمه الله أيضاً مبيناً الفرق بين توسل السلف وبين توسل الخلف :

(قوله : ((إنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا ، فيسقون)) قلت : وهذا توسل فعلي [ أي بدعاء حي حاضر وفعله ، كما هو عند السلف] ، لأنه [ أي عمر ] كان يقول له بعد ذلك : ((قم يا عباس فاستسق)) ، فكان [ العباس يدعو الله تعالى ، و ] يستسقي لهم ، فلم يثبت منه [ أي من هذا الأثر من توسل عمر بالعباس ] التوسل القولي [ القبوري] : أي الاستسقاء بأسماء الصالحين [ بمجرد ذكرهم على اللسان ] فقط ،[ بأن يقال : اللهم بوسيلة فلان أو بحرمة فلان أو ببركة فلان أو بحق فلان] بدون شركتهم [ ، وحضورهم ودعائهم ] ....) .

قلت : لقد قرأ القراء الكرام المنصفون المنشدون لضالة الحق هذه النصوص الثلاثة لإمام الديوبندية والكوثرية جميعاً ، ألا وهو العلامة أنور الكشميري (1352هـ) . وهو يقرر في هذه النصوص أمرين مهمين :

الأول : الفرق بين توسل السلف وبين توسل هؤلاء الخلف القبورية .

الثاني : بطلان استدلال هؤلاء الخلف القبورية بهذه الآية الكريمة وهذا الأثر في توسل عمر بالعباس ، محققاً أن هذه الآية وهذا الأثر لا يشملان توسل هؤلاء الخلف القبورية ، لأن توسل عمر بالعباس إنما كان بدعاء العباس ، لأن العباس كان يدعو لهم وهم كانوا يؤمنون بدعائه ،

بخلاف توسل هؤلاء الخلف القبورية ، فإنهم يتوسلون بالشخص من دون أن يدعو لهم ، ومن دون أن يحضر ويشترك معهم في التضرع إلى الله .

قلت : هذه كانت خلاصة نصوص العلامة الكشميري ، وأن ترى أنها تقطع دابر القبورية عامة ، ودابر الديوبندية ، ودابر الكوثري والكوثرية خاصة .

تنبيه : بمناسبة هذه النصوص الثلاثة للعلامة الكشميري (1352هـ) الذي يجله الكوثري والكوثرية فضلاً عن الديوبندية بالمبالغات التي ذكرت أمثلة منها - لا بد من أن أذكر كلمة في إبطال تلك الكلمات الوقحة التي هذى بها الكوثري بلسانه وسجلها ببنانه حيث قال :

إن قوله تعالى : { وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } يشمل التوسل بالأشخاص والتوسل بالأعمال ، (رغم تقول كل مفتر أفاك ...) .

وقال بعد استدلاله بتوسل عمر بالعباس رضي الله عنهما على توسل القبوري :

(قول عمر ... نص على توسل الصحابة بالصحابة ... وقصر ذلك على ما قبل وفاته صلى الله عليه وسلم تقصير عن هوى ، وتحريف لنص الحديث ، وتأويل بدون دليل .

ومن حاول إنكار جواز التوسل بالأنبياء بعد موتهم ، بعدول عمر إلى العباس في الاستسقاء - قد حاول المحال ، ونسب إلى عمر ما لم يخطر

له على بال ، فضلاً عن أن ينطق به ؛ فلا يكون هذا إلا محاولة إبطال السنة الصحيحة الصريحة بالرأي) .

قلت : بتحقيق هؤلاء الأعلام من أئمة الحنفية ولا سيما العلامة الكشميري الذي يجله الكوثري ويكبره إكباراً - تبين : أن الكوثري هو المتقول على الله تعالى ، وأنه هو المفتري على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه هو الأفاك على السلف من الصحابة والتابعين وأئمة الأمة ، وأنه هو المقصر عن هوى ، وأنه هو المحرف لأثر توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما ، وأنه هو الذي قد حاول المحال ، وأنه هو الذي قد نسب إلى عمر ما لم يخطر له على بال ، وأن أفاعيله محاولات لإبطال السنة الصحيحة الصريحة بالرأي ، وإلا لكان هؤلاء الأعلام من أئمة الحنفية - ولا سيما العلامة الكشميري (1352هـ) أحد أئمة الديوبندية والكوثرية - متقولين ، مفترين ، أفاكين ، محرفين للحديث ، مبطلين للسنة الصحيحة ، محاولين للمحال ، ناسبين إلى عمر ما لم يخطر له على بال - بتصريح هذا الكوثري - لكن التالي باطل فالمقدم مثله ؛ لأن الكوثري قد وضع بنفسه قانوناً كلياً في عدم جواز حمل النصوص والآثار على المصطلحات المستحدثة بعد عهد التنزيل بدهور ، وأن من فعل هذا - فقد زاغ عن منهج الكتاب والسنة ، وأنه تنكب سبيل السلف الصالح ، مسلك أئمة أصول الدين ، وأنه نابذ لغة التخاطب ،

وأنه هجر طريقة أهل النقد ، إلى آخر ذلك القانون الكلي الذي وضعه الكوثري بنفسه لقطع دابره ودابر قومه القبوريين .

فالكوثري مع تناقضه الفاضح ، واضطرابه الواضح - ممن يأمرون ولا يأتمرون ، وعلى الكتاب يتقولون ، وعلى السنة يفترون ، ولنصوصهما يحرفون .

حيث يحمل نصوص الكتاب والسنة وآثار السلف على مصطلحات جديدة بدعية قبورية شركية ، فهو المتقول المفتري الأفاك الكذاب .

فهل يرعوي عن أباطيله هذا المرتاب ؟؟؟.

ويجدر بي أن أتمثل بمناسبة حال الكوثري بأبيات آتية ترثي حاله وحال خلطائه :

ودع سليمى إن تجهزت غادياً ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا

على حين عاتبت المشيب على الصبا ... فقلت ألما أصح والشيب وازع

فإن تنج منها تنج من ذي ملمة ... وإلا فإني لا أخالك ناجيا

وأكتفي بهذا القدر وأنتقل إلى الجواب الثالث في الوجه الآتي :

{ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [ الأنبياء : 112] .

الوجه الثالث :

لقد سبق في الوجه السابق أن متن هذا الأثر يدل على أن توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما إنما كان توسلاً بدعائه ، وقد ذكر علماء الحنفية عدة من القرائن الموجودة في متن هذا الأثر الدالة على أن هذا التوسل لم يكن إلا بدعاء العباس رضي الله عنه ، ولم يكن من قبيل توسلات القبورية ، وفي هذا الوجه أذكر كلام علماء الحنفية وتحقيقهم بإقامة شاهدي عدل من كلام عمر والعباس أنفسهما - على أن التوسل إنما كان بدعاء العباس رضي

الله عنه ، ولا أكتفي بذلك ؛ بل أذكر اعتراف كبار أئمة القبورية وشهادتهم على أن هذا التوسل إنما كان بدعاء العباس ، وكفى بذلك إتماماً للحجة وإيضاحاً للمحجة ، فيكون الجواب السابق من قبيل ما قيل :

وتسعدني في غمرة بعد غمرة ... سبوح لها منها عليها شواهد

وهذا معنى قولهم : ((هذه القضايا قياساتها معها)) .

وأما هذا الجواب - فيكون من قبيل ما قيل :

ونديمهم وبهم عرفنا فضله ... والفضل ما شهدت به الأعداء

وما قيل :

ومليحة شهدت لها ضراتها ... والحسن ما شهدت له الضرات

بل هو من قبيل ما قال الله تعالى فيه : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا ... فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [يوسف : 26-27 ] .

فأقول وبربي أستعين وأستغيث ، إذ هو المستعان المعين ، والمستغاث المغيث :

1 - قال الإمام البدر العيني إمام الحنفية في عصره (855هـ) في بيان صفة دعاء العباس في الاستسقاء :

(إن العباس قال ذلك اليوم : اللهم إن عندك سحاباً ، وإن عندك ماء ، فانشر السحاب ، ثم أنزل منه الماء ، ثم أنزله علينا ، واشدد به الأصل ، وأحل به الفرع ، وأدر به الضرع . اللهم شفعنا إليك عمن لا منطق له من بهائمنا ، وأنعامنا .

اللهم اسقنا سقيا وادعة بالغة طبقاً مجيباً . اللهم إنا نشكو إليك سغب كل ساغب ، وعدم كل عادم ، وجوع كل جائع ، وعري كل عار ، وخوف كل خائف ...) .

2 - وقال رحمه الله أيضاً ، ذاكراً دعاء آخر دعا به العباس رضي الله عنه ، محققاً أن هذا التوسل إنما كان بدعائه :

(فلما صعد عمر ، ومعه العباس المنبر - قال عمر رضي الله عنه : ((اللهم إنا توجهنا إليك بعم نبيك ، وصنو أبيه ، فاسقنا الغيث ، ولا تجعلنا من القانطين )) .

ثم قال : ((قل يا أبا الفضل )) ، فقال العباس [ رضي الله عنه ] :

اللهم : لم ينزل بلاء إلا بذنب ، ولم يكشف إلا بتوبة ، وقد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك ، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ، ونواصينا بالتوبة ، فاسقنا الغيث)) .

قال [ ابن عباس ] : فأرخت السماء شآبيب مثل الجبال ، حتى أخضبت الأرض وعاش الناس) .

3 - وقال العلامة الشاه محمد أنور الكشميري أحد أئمة الديوبندية ،

والكوثرية ، والملقب عندهم جميعاً بإمام العصر ، ومحدث العصر ، مبيناً صفة دعاء العباس رضي الله عنه ، محققاً أن هذا التوسل إنما كان بدعائه ليس غير :

(وصفة استسقاء العباس ما أخرجه الحافظ رحمه الله تعالى : ((اللهم لم ينزل بلاء إلا بذنب ...)) ا . هـ) .

قلت : هذه كانت أمثلة لشهادة علماء الحنفية لتحقيق أن توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما - إنما كان بدعائه ليس إلا ، بدليل أن عمر رضي الله عنه طلب منه الدعاء ، وأن العباس رضي الله عنه قد دعا لهم .

وأما شهادة أئمة القبورية وذكرهم طلب عمر الدعاء من العباس وأن العباس قد دعا لهم - فبيان ذلك : أنه ذكر كثير من أئمة القبورية أن عمر طلب من العباس أن يدعو لهم ، وأن العباس قد دعا لهم ، ثم ذكروا نص دعائه ، حتى اعترف بذلك الكوثري ، فشهد بما يقطع وتينه .

وهذا من الحجج القاهرة والسلاطين الباهرة على أن توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما -

إنما كان بدعائه ، فكان العباس رضي الله عنه يدعو لهم ، والباقون يؤمنون .

الحاصل : أنه قد ثبت بنصوص هؤلاء الأعلام من الحنفية وشهادة هؤلاء الخصوم القبورية :

أن توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما إنما كان توسلاً بدعائه ، ولم يكن هذا التوسل من قبيل توسلات هؤلاء القبورية .

ألم تر أن الحق تلقاه أبلجا ... وأنك تلقى باطل القول لجلجا

الوجه الرابع : أن هذا الأثر من أقوى السلاطين القاهرة ، ومن أعظم البراهين الباهرة ، على إبطال توسلات القبورية بجميع أنواعها ، الشركية منها والبدعية .

وأنه من أوضح الأدلة القاطعة ، وأظهر الحجج الدامغة الساطعة ، على إثبات أن توسل عمر بالعباس رضي الله عنهما - إنما كان بدعائه ليس غير .

قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) :

(والجواب : أن المراد من التوسل - الدعاء لهم ، يدل عليه ثبوت دعائه لهم بطلب السقيا ، كما جاء في بقية الروايات . وهذا المعنى هو الذي عناه الفقهاء في كتبهم ، ومرادهم التوجه إلى الله بدعاء الصالحين بأن يدعوا لهم .

ولو كان التوسل بالذوات - هو المطلوب ، والمدلول الذي أقاموا

عليه الدليل - وهم بمقتضى دليلهم لا يخصون الأحياء بهذا التوسل ، ويستحبون التوسل بالذوات الشريفة ، ولو بندائهم ودعائهم كما مر تقريره من دليلهم ، وأنه على معنى الشفعاء ، يدعون لهم . وقالوا : لا مانع من ذلك عقلاً ، وشرعاً . فإنهم أحياء في قبورهم - لكان التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في الأمر المهم - وهم عنده بالمدينة - أولى .

ولكان قولهم - كما في رواية البخاري : ((أن عمر بن الخطاب استسقى بالعباس ، وقال : اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا ، فيسقون)) -

عبثاً ضائعاً ، بل مخلاً بما يقولون ويدعون ، بل هو أقوى الأدلة وأرجحها وأعلاها وأوثقها وأوضحها وأصدقها لما ندعيه .

فإن قول عمر : ((اللهم : إنا إذا أجدبنا توسلنا ...)) إلخ - يدل دلالة ظاهرة على انقطاع ذلك الذي هو الدعاء ، بدليل قوله : ((إنا كنا)) .

ولما كان العباس حياً طلبوه منه ، فلما مات - فات .

فقصرهم له على الموجودين - ولو كانوا مفضولين - دليل ساطع ، وبرهان لامع ، على هذا المراد ، ولو كان المقصود الذوات

- كما يقولون - لبقيت هذه التوسلات عندهم على حالها ، ولم تتغير ولم تتبدل إلى المفضولين بعد وجود الفاضلين ، سيما الأنبياء والمرسلين .

فتأمل في هذا ، فإنه أحسن ما في هذه الأوراق ، حقيق بأن يضرب عليه رواق الاتفاق .

والله يهديك السبيل ، فهو نعم المولى ونعم الوكيل) .

قلت : بهذا القدر أكتفى في قلع هذه الشبهة ، فلا حاجة إلى مزيد من الإطالة ، وبعد قطع دابر القبورية بهذه الصوارم القواطع - ننتقل إلى الشبهة الثالثة ، لنطلع على جواب علماء الحنفية عنها .

الشبهة الثالثة : دعوى القبورية الإجماع على التوسل القبوري .

لقد ادعى السبكي (756هـ) وغيره من خلطائه القبورية الإجماع - إجماع هذه الأمة ، بل إجماع جميع أهل الأديان - على حسن التوسل والاستغاثة بالأموات عند الكربات ، وأنه فعل الأنبياء والمرسلين ، ومن سير السلف الصالحين ، ولم ينكر ذلك أحد من أهل الأديان ، ولا سمع به في زمن من الأزمان

حتى جاء ابن تيمية فأنكر الاستغاثة والتوسل ، وابتدع ما لم يقله عالم قبله ، وصار به بين الأنام مثله .

وقال الكوثري ، الأفاك المفتري :

(وهم في إنكارهم التوسل محجوجون بالكتاب والسنة والعمل المتوارث ، والمعقول ...، رغم تقول كل مفتر أفاك) .

وقال هذا الكوثري الجهمي الوثني :

(وعلى التوسل بالأنبياء والصالحين أحياء وأمواتاً - جرت الأمة طبقة فطبقة ، وقول عمر في الاستسقاء : ((إنا نتوسل إليك بعم نبينا)) - نص على توسل الصحابة بالصحابة .

وفيه إنشاء التوسل بشخص العباس رضي الله عنه ..، وقصر ذلك على ما قبل وفاته عليه السلام ، تقصير عن هوى ، وتحريف للحديث ... ومن حاول إنكار جواز التوسل بالأنبياء بعد موتهم بعدول عمر إلى العباس في الاستسقاء - قد حاول المحال ، ونسب إلى عمر ما لم يخطر له على بال ، فضلاً عن أن ينطق به .

فلا يكون [ يعني إنكار الاستغاثة والتوسل بالأموات] إلا محاولة إبطال السنة الصحيحة الصريحة بالرأي) .

الجواب : لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة الفتاكة الأفاكة

بوجهين ، وحاربوا القبورية من جهتين اثنتين :

الوجه الأول : أنه قد تحقق على لسان علماء الحنفية أن التوسل في اصطلاح السلف الصالح من الصحابة والتابعين - إنما هو التوسل بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا ، والتوسل بالأعمال الصالحة ، والتوسل بدعاء حي حاضر ليس غير ، وقد أقام علماء الحنفية على ذلك براهين باهرة ، وسلاطين قاهرة .

وساقوا لذلك حججاً قاطعة ، وأدلة ناصعة ، وثبت بهذا كله أن أهل التوحيد والسنة هم على ما عليه هذه الأمة وليسوا متقولين ولا مفترين ، ولا كذابين ولا أفاكين ، وأنهم ليسوا مبطلين للسنة ، ولا هم خارجين على إجماع هذه الأمة ، وأنهم ليسوا مثلة بين الأنام ، ولا هم أهل شرك وابتداع كالقبورية الطغام .

وإنما المتقولون والمبطلون للسنة والأفاكون ، والمحرفون للكتاب والسنة ، والخارجون على إجماع هذه الأمة ، وأهل الشرك والابتداع ، والمثلة بين الأنام - هم هؤلاء القبورية الدعاة إلى الوثنية في الإسلام .

فإن السلف لم يستغيثوا بالأموات عند الكربات ، ولا توسلوا بمجرد الذوات عند إلمام الملمات .

قال الإمام محمود الآلوسي (1270هـ) وتبعه ابنه نعمان الآلوسي (1317هـ) في إبطال هذا الإجماع القبوري الباطل ، وذلك في تفسير آية الوسيلة : (واستدل بعض الناس بهذه الآية على مشروعية الاستغاثة بالصالحين ... وكل ذلك بعيد عن الحق بمراحل ، وتحقيق الكلام في

هذا المقام :

أن الاستغاثة بمخلوق وجعله وسيلة بمعنى طلب الدعاء منه ، لا شك في جوازه ، إن كان المطلوب منه حياً .. وأما إذا كان المطلوب منه ميتاً أو غائباً - فلا يستريب عالم أنه غير جائز ، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من السلف .. ولم يرد عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم - وهم أحرص الخلق على كل خير - أنه طلب من ميت شيئاً ... وقد شنع التاج السبكي - كما هو عادته - على المجد ،

فقال : ((ويحسن التوسل والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه ، ولم ينكر ذلك أحد من السلف والخلف حتى جاء ابن تيمية فأنكر ذلك ، وعدل عن الصراط المستقيم ، وابتدع ما لم يقله عالم ، وصار بين الأنام مثلة)) انتهى .

وأنت تعلم أن الأدعية المأثورة عن أهل البيت الطاهرين وغيرهم من الأئمة - ليس فيها التوسل بالذات المكرمة صلى الله عليه وسلم .

ولو فرضنا وجود ما ظاهره ذلك - فمؤول بتقدير مضاف ، كما سمعت ، أو نحو ذلك ، كما تسمع إن شاء الله تعالى . ومن ادعى

النص فعليه البيان) .

قلت : هذا هو كلام علماء الحنفية في إبطال دعوى هؤلاء القبورية الإجماع على استحسان الاستغاثة بالأموات ، والتوسل بهم عند إلمام الملمات لدفع الكربات وجلب الخيرات ، وقد عرفت أن أمثال السبكي والكوثري من أئمة القبورية ، في دعواهم الإجماع على صحة الاستغاثة بالأموات ، وفي قولهم : إن الأمة طبقة فطبقة على ذلك رغم تقول كل مفتر أفاك ، وإن منكر الاستغاثة والتوسل بالأموات مبتدع ومثلة بين الأنام - هم في الحقيقة خارجون على إجماع هذه الأمة ، مبطلون ومحرفون لنصوص الكتاب والسنة ، وأنهم هم المتقولون على الله تعالى ، وأنهم هم المفترون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنهم هم الأفاكون الكذابون على الصحابة والتابعين ، ومن بعدهم من أئمة هذا الدين .

وأنهم هم أهل الشرك والابتداع في صميم الإسلام ، وأنهم هم المثلة بين الأنام ، وأن الأمة طبقة فطبقة من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين ، لم يقل أحد منهم قط بجواز التوسل والاستغاثة بالمقبورين ، لكن هؤلاء القبورية المتهورين زعموا أن لا جواب لدعواهم وإن كذبوا .

فسلط الله عليهم علماء الحنفية فكشفوا عن أسرارهم الأستار وبينوا أكاذيبهم وتلبيساتهم وأظهروا الحق كالشمس في رابعة النهار ، وتحدوهم تحدي الفرسان في مضمار الرهان .

فقطعوا دابرهم وصرعوا لهم أميراً ووزيراً ، فلم يجدوا لهم مجيراً ولا نصيراً ، فانقطعوا منهزمين مكسورين أذلة صاغرين مع كثرتهم نفيراً .

فلم يكن لهم جواب هذا التحدي ولن يمكن لهم ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً .

ستعلم ليلى أي دين تدينت ... وأي غريم في التقاضي غريمها

والحقيقة أن هؤلاء الأعلام من الحنفية غرماء لهؤلاء القبوريين ، وأن هؤلاء القبورية الصرعى لا يمكن لهم قضاء دينهم إلى يوم الدين .

قضى كل ذي دين فوفى غريمه ... وعزة ممطول معنى غريمها

وبعد هذا أنتقل إلى الجواب الثاني في الوجه الآتي :

الوجه الثاني : أن هذا التعامل وهذا الإجماع الذي ذكرهما القبورية ليسا من التعامل والإجماع الشرعيين ، حتى يكونا حجة عند النزاع ، وذلك لوجوه :

الأول : أن أصحاب هذا التعامل وهذا الإجماع - ليسوا من الصحابة والتابعين ولا من الأئمة المجتهدين ، وإنما هم خليط أمشاج من العوام الطغام ، والملوك الجهلة ، ومن انتموا إلى العلم ولكنهم أجهل خلق الله بتوحيد الأنبياء والمرسلين ، كما سيأتي تحقيقه على لسان علماء الحنفية .

والثاني : أن هذا التعامل ، وذلك الإجماع ليسا من الحجج

الشرعية ، لأن بناءهما ليس على الكتاب والسنة ، بل بناؤهما على العادة المتوارثة المأخوذة عن العوام الطغام طبقة فطبقة ، حسب البيئات والتأثيرات الداخلية والخارجية ، ولا شك أن العادات المخالفة للشرع - ليست من الحجج الشرعية .

والثالث : أن التعامل ، والإجماع لا يكونان من الحجج ، إلا عند صلاح الأزمنة التي ينفذ فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد علمت أنها قد تعطلت منذ أزمنة ، كما صرح به علماء الحنفية .

قلت : الحاصل : أنه قد تحقق تحقيقاً لا مزيد عليه أن إجماع الصحابة والتابعين والفقهاء المحققين والأئمة المجتهدين - على عدم جواز الاستغاثة والتوسل بالأموات ، عند إلمام الملمات لدفع الكربات وجلب الخيرات ، فإذا كان في الدنيا إجماع صحيح فهو هذا .

وأما الإجماعات الأخرى : كإجماع الوثنية من أهل الملل والنحل ، أو إجماع القبورية من هذه الأمة ، أو إجماع الفسقة والفجرة من الناس ، أو إجماع أهل البدع ، أو إجماع العوام - فهي من أبطل الباطل * وأنها أمر كاسد فاسد عاطل * فإن كان القبورية يعرضون عن أصح الإجماعات ، ويتشبثون لدعم وثنيتهم بأبطلها -

فحينئذ هم ساقطون عن مرتبة الخطاب * إلى إسطبل الدواب *

وذي سفه يواجهني بجهل ... فأكره أن أكون له مجيبا

فدع عنك الكتابة لست منها ... ولو لطخت وجهك بالمداد

أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم ... من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا

فليس شعاع الشمس يخفى لناظر ... أفيقوا عن الإصرار ما بالكم لد

وفي هذا القدر كفاية * لمن رزق الدراية والهداية * والله الهادي إلى سواء السبيل * وهو حسبي ونعم الوكيل * .

 

الرجوع للصفحة الرئيسية