جهود علماء الحنفية في إبطال عقائ

 جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية

-الباب الثامن-

 

 

الباب الثامن

في جهود علماء الحنفية

في إبطال شبهات القبورية التي تشبثوا بها

لتبرير الاستغاثة بالأموات

كلمة بين يدي هذا الباب

للقبورية شبهات كثيرة ، فإن جميع عقائدهم مبنية على الشبهات الشيطانية ، وقد ذكرت منها أربعاً وأربعين شبهة ، مع أجوبة علماء الحنفية عنها :

منها شبهة في تعريف التوحيد ، وشبهة في تعريف الشرك ، وست شبهات في جعلهم توحيد الألوهية عين توحيد الربوبية ، وأربع عشرة شبهة في زعمهم أن المشركين الأولين كانوا مشركين في توحيد الربوبية ، والخالقية ، والرازقية ، والمالكية .

وشبهة في حصرهم للعبادة في عدة أعمال .

وشبهة في تعريفهم للعبادة .

وشبهة في عدم جعلهم للقبور أوثاناً .

وشبهة في عدم وقوع الشرك .

وشبهة الأحجار والأصنام .

وشبه التكفير والخروج .

وشبهة قول لا إله إلا الله .

وشبهة التعظيم والمحبة للأولياء .

وشبهة تنقيص الأولياء .

وشبهة في تعظيم القبور .

وشبهة في جعل القبور أعياداً .

وشبهة إيقاد السرج على القبور .

وشبهة في الحج والسفر إلى القبور .

وشبهة التبرك الباطل .

وشبهتان في الحياة البرزخية .

وشبهتان في سماع الموتى.

وشبهة الاستقلال والعطاء .

وشبهة المجاز والحقيقة .

وشبهة الكرامة والولاية .

وشبهة الكسب والسبب .

وستأتي ثلاث شبهات في باب التوسل ، مع جهود علماء الحنفية في قلعها وقمع أصحابها ، كما سأذكر ثماني شبهات في باب النذر لغير الله ، والبناء على القبور ، فتصير خمساً وخمسين شبهة قبورية باطلة ، على لسان علماء الحنفية .

وسأذكر في هذا الباب عشرين شبهة ، تشبثت بها القبورية لتبرير الاستغاثة بالأموات ، وهي أشهر شبهاتهم في هذا الباب ،

مع جهود علماء الحنفية في قلعها وقمع أصحابها ، وقطع دابرهم ، كل ذلك بتوفيق الله عز وجل ، وتكون مع أخواتها خمساً وسبعين شبهة * إن في إبطالها للموحد نزهة * .

فأقول ، وبربي أستغيث * إذ هو المستغاث المغيث * وبه أثق وأستعين * إذ هو المستعان المعين * :

الشبهة الأولى :

حياة الأولياء في قبورهم :

تشبثت القبورية في جواز الاستغاثة بالأموات عند الكربات * بأن الأولياء أحياء في قبورهم ، فلا مانع من الاستغاثة بهم في الملمات لأنهم أحياء غير أموات * .

ولذلك نرى القبورية يذكرون مباحث حياة الأموات في قبورهم - حياة دنيوية للأموات - * تمهيداً لجواز الاستغاثة بهم عند الكربات * .

وقد سبق الجواب عن هذه الشبهة على لسان علماء الحنفية ، بما لا داعي لإعادة جوابهم ههنا .

فجزى الله هؤلاء الحنفية الرادين على القبورية خيراً ، حيث قلعوا شبهات القبورية ، كما قطعوا أدبارهم .

الشبهة الثانية :

هي تلك الحكايات التي شحنت بها القبورية كتبهم ، أو تناقلوها كابراً عن كابر ، لإثبات جواز الاستغاثة بالأموات عند الكربات * بل لإثبات وجوبها وترجيحها على الاستغاثة بالله عز وجل عند الملمات * :

من أن فلاناً استغاث بالولي الفلاني فأغاثه .

وفلان ذهب إلى قبر فلان فتعافى ، وقضى حاجته .

والقبورية يذكرون لتأييد قبوريتهم أقوال كثير ممن ينتسبون إلى العلم والفضل والزهد . وقد ذكرت عدة نماذج في الفصل الأول من الباب السابع .

وهذه الشبهة أقوى سلاح للقبورية لدعم قبوريتهم ، وإجلال أوليائهم ، والتنويه بكراماتهم ، وفي ذلك دعوة سافرة للمضطرين إلى الاستغاثة بهم وندائهم عند الكربات ، ونزول الملمات * موهمين الناس أنه لو لم تكن الفائدة في الاستغاثة بالأموات عند الكربات ، لما تقضى الحوائج عند قبورهم ، ولما تنكشف البليات بالاستغاثة بهم - إلى آخر تلك الحكايات *

الجواب : لقد شمر كثير من علماء الحنفية عن ساق الجد والجهد لإبطال هذه الشبهة ، وكشفوا عن حقيقة حكايات هؤلاء القبورية ، وبينوا فضائحهم بعدة أجوبة ، أذكر منها :

الجواب الأول :

أن علماء الحنفية قد صرحوا بأن هذه الحكايات التي تناقلتها

القبورية لدعوة المضطرين إلى الاستغاثة بالأموات بحجة أن هذه الحكايات كرامات لهؤلاء الأولياء * - .

هي محض الأساطير ، وعين الأكاذيب ، وهي ليست كرامات ، بل هي أباطيل الحكايات ؛ لأن رواتها هم هؤلاء القبورية السفهاء * ؛ وهم من أكذب الناس ، ومعادن الكذب ، وبيوت الإفك ، فلا اعتبار لرواياتهم ، فهم في نقل هذه الحكايات فسقة كذبة ساقطون من مكانة الصدق والديانة * إلى دركات الفسق والفجور والكذب والخيانة * وفيما يلي بعض نصوص علماء الحنفية لتحقيق هذا المطلوب :

1 - قال الأئمة الثلاثة : محمد البركوي (981هـ) ، وأحمد الرومي (1043هـ) ، والشاه ولي الله (1176هـ) .

والشيوخ الثلاثة : سبحان بخش الهندي ، وإبراهيم السورتي ، ومحمد علي المظفري ، وشيخ القرآن الفجنفيري ، في بيان أسباب الشرك - واللفظ للأول - :

(ومنها حكايات حكيت لهم عن أهل تلك القبور :

أن فلاناً استغاث بالقبر الفلاني في شدة فخلص منها .

وفلان دعاه ، أو دعا به في حاجة فقضيت حاجته .

وفلان نزل به ضر فاسترجى صاحب ذلك القبر فكشف ضره .

وعند السدنة والمقابرية من ذلك شيء كثير ، يطول ذكره .

وهم من أكذب خلق الله تعالى على الأحياء والأموات) .

2 - وقال الإمام صنع الله الحلبي المكي (1120هـ) مبيناً أكاذيب القبورية في حكاياتهم وأنه لا اعتماد على نقل تلك الأساطير :

(وأما ما ذكروه عن فلان ، وفلان :

أنهم رأوه بعد الموت يتصرف -

فهو من التصرفات الدجالية * والزخارف الخيالية الشيطانية * ) .

3 - وقال رحمه الله :

(وينقلون عن فلان ، وفلان ، افتراءات الإفك .

مما ليس للأصدقاء ناصر * ولا للأعداء كاسر * ) .

4 - وقال الإمام محمود الآلوسي الجد (1270هـ) في الكشف عن مخازي القبورية وحكاياتهم المكذوبة ، وذلك في تفسير قوله تعالى : { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ } [الزمر : 45] ، ونقل كلامه العلامتان : ابنه نعمان الآلوسي (1317هـ) ، وحفيده شكري الآلوسي (1342هـ) ، والشيخ الرستمي :

(وقد رأينا كثيراً من الناس على نحو هذه الصفة التي وصف الله تعالى بها المشركين ؛ يهشون لذكر أموات يستغيثون بهم ويطلبون منهم ، ويطربون من سماع حكايات كاذبة عنهم ، توافق هواهم واعتقادهم فيهم ، ويعظمون من يحكي لهم ذلك ، وينقبضون من ذكر الله تعالى وحده .... )

إلى آخر كلامه القاطع لدابر القبورية ، والكاشف لإلحادهم وأكاذيبهم ، وقد ذكرته بطوله .

5 - وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) مبيناً أكاذيب وحكايات القبورية :

(إن قول النبهاني في شأن ما استشهد به من الشعر والأبيات .... دعوى كاذبة ليس عليها دليل سوى حكايات يرويها الغلاة ، وهم بيت الكذب ..... وأكثر ما يدعو هؤلاء الغلاة إلى دعاء القبور والصالحين - ما يحكونه من أن فلاناً دعا فاستجيب له ، واستغاث فأغيث ، وفلان رد عليه بصره ، وعند السدنة وعباد القبور من هذا شيء كثير ، قد أورد منه النبهاني شيئاً كثيراً ، جعله من قواعد مذهبه وأدلة شركه) .

6 - وقال رحمه الله أيضاً في تحقيق أن أهل الحديث والقبورية في طرفي النقيض :

(وقد صان الله أهل الحديث وحفاظ السنة من الكذب والحمد لله ، نعم ! إن المتصوفة والمتشيخين هم بيت الكذب ومعدنه) .

7 - وقال رحمه الله مبيناً أكاذيب حكاياتهم وقلة دينهم وعلمهم :

(وإنما يصنع مثل هذه الحكايات من يقل علمه ودينه ، وإما أن يكون المنقول من هذه الحكايات عن مجهول لا يعرف ، ونحن لو روي لنا مثل هذه الحكايات المسيبة عمن لا ينطق عن الهوى -لما جاز التمسك بها حتى تثبت بطرق أهل الحديث ، فكيف بالمنقول عن غيره ؟) .

8 - وقال رحمه الله في الكشف عن مخازي ابن جرجيس ، أحد أئمة القبورية (1299هـ) ، مبيناً أنه نقل تلك الحكايات المكذوبة عمن لا خلاق لهم من الغلاة عباد القبور :

(والجواب أن يقال :

قد رأينا ما ساقه من الأدلة التي هي أوهن من بيت العنكبوت * ويا ليته قد كسا فمه لثام السكوت * ؛ فإن ما ذكره ما بين حكايات مصنوعة * وأخبار موضوعة * وأحاديث ضعيفة لا مساس لها بالمقام * وآيات قرآنية قد صرفها بفهمه الفاسد بما هو بعيد عن مراد الملك العلام * .

وقد افترى على العلماء في نسبته ذكرها إليهم ،

إذ لم يذكرها إلا بعض من لا خلاق له من الغلاة وعباد القبور ) .

9 - وقال رحمه الله مبيناً أن القبورية أشد كذباً ، وأعظم افتراء على الله ورسوله من الخوارج والروافض :

(ولا ريب أن الروافض والخوارج لم يصلوا إلى ما وصل إليه هؤلاء :

من الجهل والكذب على الله ورسوله وعلى الأمة) .

10 - وقال العلامة الخجندي (1379هـ) مبيناً دسائس الشياطين لإيقاع القبورية في الشرك ، وتبديل اسم الشرك باسم التوسل ، والتشفع ، وتعظيم الصالحين ، وبيان أن القبورية يكذبون في حكاياتهم المضلة :

(وإن من أعظم مكائد الشيطان على ابن آدم قديماً وحديثاً ، إدخال الشرك فيهم في قالب تعظيم الصالحين وتوقيرهم بتغيير اسمه بالتوسل ، والتشفع ، ونحوه .

فالمشرك مشرك شاء أم أبى ، والزنى زنى وإن سمي جماعاً ، والخمر خمر وإن سمي شراباً ، وكل معبود من دون الله فهو جبت وطاغوت ، ويدخل فيه رءوس الضلال والكهان وسدنة الأوثان وعباد القبور وغيرهم بما يكذبون من الحكايات المضلة للجهال الموهمة: المقبور يقضي حاجة من توجه إليه وقصده ، فيوقعهم في الشرك الأكبر وتوابعه) .

11 - وقال شيخ القرآن الفنجفيري (1407هـ) مبيناً كذب القبورية ، وأنه لا اعتماد على حكاياتهم الكاذبة :

(باب فضائل الأعمال والأماكن والقبور ، اتسع فيه الكذب والبهتان - بأمور ، منها : قضاء حوائجهم عند القبور ، والمستنجدين بهم ، وعباد الكواكب ودعاة الشياطين :

أنه استغاث بالقبر الفلاني فاستجيب له ، وقضيت حاجته ، وشفي مريضه وخيله ، ويقولون : نحن نذهب بالفرس التي بها مغل إلى قبورهم - فتشفى عند قبورهم ) .

12 - وقال رحمه الله :

(فالمبتدعون هم إخوان الشياطين ، لا يبالون بالكذب والافتراء ... { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } [الأعراف : 112] ، و .... { يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } [النساء : 50] ...) .

الجواب الثاني :

أن قضاء الحوائج عند الاستغاثة بالموتى ليس لأجل الاستغاثة بالموتى ، بل ذلك بمحض قدرة الله تعالى وتقديره المقدر بوقته ، فيصادف ذلك الاستغاثة بالموتى ، فيظن المستغيث أن المستغاث هو الذي قضى حاجته ، فيعد ذلك من كرامته ويجعله دليلاً على كونه ولياً متصرفاً في الكون مغيثاً ، ويهشون ويفرحون ، ويرفعون الرايات إظهاراًَ لقدرة صاحب القبر .

وقد صرح كثير من علماء الحنفية بهذا ، وأجابوا بذلك عن حكاياتهم القبورية .

الجواب الثالث :

أن علماء الحنفية صرحوا في الجواب عن تلك الحكايات الشركية بأن كثيراً ما تقضى حاجات المستغيثين بالأموات ، لا لأجل أنه استغاث بالمقبور ، بل لأجل أن هذا المستغيث يكون مضطراً مكروباً فيدعو بحرقة وانكسار وذلة ، فيستجيب الله تعالى له ويقضي حاجته ، لصدق توجهه وتضرعه واضطراره وانكساره وذلته , ولكن الجاهل يظن أن للمقبور تأثيراً في إجابة تلك الدعوة وقضاء تلك الحاجة .

الجواب الرابع :

أن علماء الحنفية قد صرحوا في الجواب عن حكايات القبورية بأن الله تعالى كثيراً ما يستجيب دعاء الكفار والمشركين عند أصنامهم لاضطرارهم ، وإظهار إنكسارهم ، فيجيب الله تعالى دعاء المضطر ، ولو دعا في الخانة والخمارة ، والحمام ، والسوق ، بل قد يستجيب لمن يدعو عند الأوثان ، فيظن الجاهل أن للمقبور تأثيراً في قضاء الحوائج واستجابة الدعاء .

الجواب الخامس :

أن علماء الحنفية قد صرحوا بأنه كثيراً ما تقضى حوائج القبورية عند التجائهم إلى القبور وأهلها ، ولكن لا لأجل أن للمقبور تأثيراً في ذلك ، بل يحدث ذلك استدراجاً من الشياطين لهذا القبوري المشرك الذي يستغيث بالأموات ، فتأتي الشياطين وتساعده في بعض حاجاته استدراجاً له ، وازدياداً له في الإضلال والإغواء ، بل قد تطيعه الشياطين فيقضون بعض حوائجه لما بينه وبينهم من الصلة والأخوة بسبب الشرك وعبادة غير الله تعالى من الاستغاثة بالأموات .

وكثيراً مما تتمثل له الشياطين في صورة صاحب القبر وتكلمه ، فيرى أن القبر قد انشق وخرج منه المقبور ، وهو يظن لأنه ذلك الولي فيعانقه ويكلمه ، فيعد ذلك من كراماته ، وهكذا تلعب الشياطين بالقبورية كما كانت تلعب بالكفار عبدة الأصنام .

وقال الإمام صنع الله الحلبي المكي (1120هـ) :

(وإذا قضى الله حاجة لهم نصبوا لمشائخهم رايات ، وعدوا ذلك لهم كرامات ، وهذا من زخارف الشيطان للإنسان ، قال جل ذكره : { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } [الزخرف : 36-37] ...) .

الجواب السادس :

أنه قد يكون سبب كوني معقول لقضاء بعض حوائج القبورية عند بعض القبور ، فقد يكون لبعض القبورية فرس مريض بمرض الإمساك الشديد والقبض المؤلم ، بحيث لا يستطيع أن يتروث ، فيذهب به صاحبه القبوري إلى بعض القبور التي يكون المقبور فيه كافراً أو فاجراً يعذب عذاباً شديداً ، ويصيح صيحات مرتفعة مخيفة مهولة ، فيسمعها ذلك الفرس ، فيخاف خوفاً شديداً بحيث يسهل ويتروث

من شدة الخوف ، فيزول منه الإمساك فيتعافى ، فيظن ذلك القبوري أن المقبور قد قضى حاجته وشفى فرسه ، مع أن الفرس قد تعافى بسبب الإسهال الذي حدث له لأجل خوف شديد لما سمع من صراخ ذلك المقبور الذي كان يعذب في قبره .

وفي ذلك يذكر شيخ القرآن الفنجفيري كلاماً عجيباً عن شيخ الإسلام لا ينتبه له إلا مثل شيخ الإسلام من الجهابذة والنحارير ، يقول : (ويقولون : نحن نذهب بالفرس التي بها مغل إلى قبورهم فتشفى عند قبورهم ، قال الحافظ [يعني شيخ الإسلام] فقلت لهم : هذا من أعظم الأدلة على كفرهم ، وطلبت طائفة من سياس الخيل ، فقلت : أنتم بالشام ومصر [إذا أصاب الخيل مغل أين تذهبون بها ؟ فقالوا : في الشام] نذهب بها إلى القبور التي ببلاد الإسماعيلية كالعليقة والمنقية ونحوهما ، وأما في مصر فنذهب بها إلى دير هناك للنصارى ،

[ونذهب بها] إلى قبور الأشراف ، وهم يظنون أن العبيديين شرفاء ، لما أظهروا أنهم من أهل البيت ، فقلت : هل تذهبون بها إلى قبور صالحي المسلمين مثل قبر الليث بن سعد ، والشافعي ، وابن القاسم ، وغير هؤلاء ؟ .

فقالوا : لا .

فقلت لأولئك : اسمعوا . إنما يذهبون بها إلى قبور الكفار والمنافقين ، وبينت لهم سبب ذلك .

قلت : لأن هؤلاء يعذبون في قبورهم ، والبهائم تسمع أصواتهم ، كما ثبت في الحديث الصحيح ، فإذا سمعت ذلك فزعت ، فبسبب الرعب الذي يحصل لها - تنحل بطونها فتروث ، فإن الفزع يقتضي الإسهال ،

فيعجبون من ذلك ) .

الجواب السابع :

إن علماء الحنفية قد صرحوا بأنه لو سلم صحة بعض تلك الحكايات فغاية ما فيها أن ذلك قد يكون سبباً لقضاء الحاجة ، ولكن لا يلزم من ذلك جواز الاستغاثة بالأموات ، والتضرع عند القبور ، والالتجاء إلى أهلها لدفع الكربات وجلب المنافع ؛ لأنه لا يجوز تناول كل سبب من الأسباب إلا ما هو مباح شرعاً منها ؛ لأن الأسباب منها ما هو حرام ، ومنها ما هو مباح ، فلا يجوز الوصول إلى مقصود بسبب حرام .

ولا ريب أن الاستغاثة بالأموات ، والالتجاء إلى القبور وأهلها لدفع البليات وجلب المنافع ، من الأسباب المحرمة في دين الله تعالى ، فلا يجوز تناول هذا السبب أبداً ؛ لأن الاستغاثة عبادة ، بل مخ العبادة ؛ فصرفها لغير الله شرك قطعاً ، وكم من عبد دعا دعاء غير مباح فقضيت حاجته في ذلك الدعاء ، وكان ذلك سبب هلاكه في الدنيا والآخرة ، وكثير من الكفار والمشركين يدعون عند الأوثان فيستجاب لهم ، وكثير من المقاصد تحصل بأسباب محرمة قطعاً كالسحر ، والتكهن ، وشهادة الزور ، والفاحشة ، والظلم ، والسرقة ، والخمر ، بل الشرك والكفر قد يحصل بهما بعض المقاصد ، فليس كل من قضيت حاجته بسبب يقتضي أن يكون مشروعا ؛

فلا يجوز تعاطي الأسباب المحرمة لإنجاح المقاصد .

قلت :

هذا الجواب في غاية من الدقة ، والتحقيق ، والإنصاف ، لأن من لا يفكر في الأسباب ولا يميز المباح منها عن المحرم منها ، ويريد الوصول إلى المقاصد بأية وسيلة كانت - فهو من الملحدين الذين يقولون : ((الغاية تبرر الوسيلة)) .

الجواب الثامن :

أن علماء الحنفية قد صرحوا بأنه لا يمكن إثبات شرع الله تعالى بمثل هذه الحكايات ، فإن هذه الحكايات دائرة بين نقل عمن ليس قوله حجة من الحجج الشرعية ؛ فلا يجوز إثبات الشرع بمثله ؛ فإن أصحاب هذه الحكايات ليسوا من الأنبياء ولا الصحابة ولا الأئمة المجتهدين ؛ فالدين لا يثبت بفعل أمثال أصحاب هذه الحكايات من العوام ، والجهلة ، والمتصوفة الغلاة .

وبين قياس لا يجوز استحباب العبادات بمثله .

وإنما المتبع في إثبات الأحكام والعبادات إنما هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإجماع أئمة السنة ؛

وهو سبيل السابقين الأولين من هذه الأمة ؛ فلا يجوز إثبات حكم شرعي بدون هذه الأصول الثلاثة ، نصاً أو استنباطاً بحال أصلاً عند المسلمين .

وإثبات الشرع بمثل هذه الحكايات إنما هو طريق اليهود والنصارى وأمثالهم ممن ينقلون عن غير الأنبياء ؛ فإن اليهود والنصارى عندهم من الحكايات والقياسات من هذا النمط شيء كثير .

قلت : بعد هذا كله إن أصرت القبورية وتشبثوا بالخرافات والمنامات ، وأقوال الغلاة ، وتركوا نصوص الكتاب والسنة ، ونبذوا أقوال أئمة السنة ، وسلف هذه الأمة - يبقى الخلاف بين القبورية وبين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، والسلف الصالح ، وكفى به خزياً مبيناً .

الجواب التاسع :

أن علماء الحنفية قد أجابوا عن تلك الأقوال التي يذكرها القبورية في كتبهم لتأييد قبوريتهم عن كثير ممن ينتمون إلى العلم والفقه والفضل والزهد - بأن بعض هذه الأقوال المنقولة عن هؤلاء ما قد يكون صاحبه قاله أو فعله باجتهاد يخطئ أو يصيب ، أو قاله بقيود وشروط كثيرة على وجه لا

محذور فيه ، فحرف النقل عنه .

وبعضهم قد لا يريدون بلفظة التوسل الاستغاثة بالأموات القبورية ، فحرفوا اصطلاحهم وأرادوا من التوسل الاستغاثة بالأموات .

قلت :

الحاصل أن هذه الأقوال والحكايات تطرقت إليها عدة احتمالات أخرجتها عن حيز الاستدلال ، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال ؛ فلا يصح للقبورية أن يستدلوا بتلك الأقوال التي نقلوها عن بعض من ينتمي إلى العلم والصلاح والزهد - على جواز الاستغاثة بغير الله والالتجاء إلى القبور وأصحابها بوجه من الوجوه ، ولله الحمد .

الجواب العاشر :

أن علماء الحنفية صرحوا بأن كثيراً ممن ينتمون إلى العلم والفضل والصلاح والزهد ، قد وقعوا في الشرك بالله ، والاستغاثة بالأموات ، وارتكبوا الأفعال والأقوال الشركية ، وكانوا يدعون الناس إلى الشرك والاستغاثة بالأموات ، بأفعالهم وأقوالهم الشركية ، وهؤلاء القبورية إنما ارتكبوا الأفعال الشركية ، وقالوا تلك الأقوال القبورية - لأجل عادة العوام التي جروا عليها ، لا لأجل أن لهم دليلاً شرعياً على ذلك ، ولكن لما كان خطؤهم عن حسن قصد ونية صالحة ، ونبهوا على

خطئهم - انتبهوا ورجعوا عن تلك الشركيات دون عناد ولا إصرار .

وليس هذا احتمالاً عقلياً ذهنياً فحسب ، بل قد وقع هذا فعلاً ، فقد كان بعض الشيوخ الذين لهم فضل وعلم وزهد - إذا نزل به أمر خطا إلى جهة قبر الشيخ عبد القادر الجيلاني خطوات معدودة ، واستغاث به - كعادة كثير من الناس ، ولما نبه على خطئه وبين له أن هذا من الشرك بالله عز وجل - انتبه وعلم أن ما كان عليه لم يكن من دين الإسلام ، بل مشابهة لعباد الأصنام .

ولهذا ما بينت مسألة التوحيد قط لشخص يعرف أصل الإسلام - إلا تفطن لها ، واعترف وقال جهاراً دون إسرار : ((إن هذا أصل دين الإسلام )) .

وكان بعض أكابر الشيوخ الذين كانوا يستغيثون بالأموات عند الكربات ، لما بينت له مسألة التوحيد ، وأن الاستغاثة بالأموات عند الكربات إشراك برب البريات -تاب وكان يقول : هذه أعظم ما بين لنا ، لعلمه أن هذا أصل دين الإسلام .

وكان هذا الشيخ وأمثاله من ناحية أخرى يدعون الأموات ويسألونهم ويستجيرون بهم ويتضرعون إليهم ، وربما كان ما يفعلونه أعظم ،

لأنهم إنما كانوا يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم ، فكانوا يدعونه دعاء المضطر .

قلت :

هذا الجواب في غاية من الدقة والتحقيق والإتقان ، فقد رأيت كثيرا ممن لقب بشيخ القرآن ، وشيخ الحديث ، وجامع المعقول والمنقول ، ومن له اطلاع واسع على المنطق والفلسفة وعلم الكلام ، ومن له خبرة تامة على دقائق علم الفقه والأصول - من أعظم الناس إشراكاً بالله ، واستغاثة بالأموات عند الكربات ، وذلك جرياً منهم على عادات وعوائد وتقاليد عاشوا عليها ، فصاروا مع علومهم الواسعة ، كالعوام الطغام * وأضل من الأنعام * .

ثم من كان في قلبه إنابة إلى الله وإخبات ، وإقبال على الحق ، ولم يكن معانداً ولا مكابراً ، وكان خطؤه عن حسن قصد ونية صالحة - إذا نبه على خطئه وبين له أن هذا إشراك بالله تعالى - انتبه ورجع إلى التوحيد الخالص فوراً بدون إصرار ولا عناد .

الحاصل : أنه لا يجوز التمسك بزلات العلماء وأخطائهم الاجتهادية وعاداتهم الجاهلية وتقاليدهم العامية ، فما نقل عنهم من الأقوال الشركية ، فهو من هذا القبيل ، فلا يجوز به التمسك والاستدلال * بحال من الأحوال * .

الشبهة الثالثة :

هي ما تشبثت به القبورية من نصوص الكتاب والسنة ، التي تدل على جواز استغاثة بعض الناس ببعضهم ، والاستمداد والاستنصار والاستعانة فيما تحت الأسباب ،

وهي نصوص كثيرة لا تعد ولا تحصى .

أما من كتاب الله تعالى :

فكقوله تعالى : { فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } [القصص : 15] .

وقوله تعالى عن ذي القرنين : { فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ } [الكهف : 95] .

وقوله تعالى : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } [الأنفال : 60] .

وقوله سبحانه : { وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ } [الأنفال : 72] .

وقوله تعالى : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } [المائدة : 2] .

وغير ذلك من الآيات الكريمات .

وقوله تعالى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } [التوبة : 71] .

وقوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } [يوسف : 42] فقد استغاث يوسف [عليه السلام] بالمخلوق .

وغيرها من الآيات الكريمات .

وأما من السنة النبوية :

فكحديث الشفاعة الطويل :

« ((فبينا هم كذلك استغاثوا بآدم ، ثم بموسى ، ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم )) » .

وفي لفظ : « ((يا محمد ارفع رأسك واشفع تشفع ، وسل تعطه)) » .

وفي لفظ : « ((يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، وسل تعطه ، واشفع تشفع)) » .

وأحاديث ترغيب المسلم في قضاء حاجة أخيه ، كحديث : « ((من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ، ومن فرج »

« عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة )) » . الحديث .

وحديث : « ((والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)) » . الحديث . وغير ذلك .

الجواب :

لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة التي تتضمن عدة شبهات :

أن القبورية في التشبث بهذه الآيات والأحاديث - محرفون الكلم عن مواضعه ، وواضعون لنصوص الكتاب والسنة في غير موضعها ، وموردون للأدلة خارج محل النزاع .

فهم في هذا الصنيع ملبسون * مدلسون * متلاعبون بالنصوص * تلاعب اللصوص * ؛ لأن هذه النصوص إنما تدل على جواز مناصرة بعض الناس بعضاً ، واستغاثة بعضهم ببعض فيما يقدرون عليه ، وهو المعني بما تحت الأسباب * .

ولا تدل إطلاقاً بحال من الأحوال على جواز استغاثة الناس بعضهم ببعض فيما لا يقدر عليه إلا الله ، وهو المعني بما فوق الأسباب * .

ولكن القبورية المحرفين الملبسين يستدلون بنصوص الاستغاثة المباحة على الاستغاثة المحرمة الشركية * كدأب أهل التحريف من اليهود

والمتفلسفة المتكلمة الجهمية * ولعل بعضهم لجهله لم يتصور محل النزاع * ولا عرف منار البحث والدفاع * فإن طلب الدعاء من الأحياء مسألة ، ونداء غير الله تعالى أمواتاًَ وأحياءً بما هو من خصائص الألوهية مسألة أخرى ، وبين المسألتين بون بعيد * وفرق ما عليه من مزيد * .

فهذا النوعان من الاستغاثة الاستعانة والاستنصار والاستمداد ، أمران متضادان * ومسألتان متباينتان * وهما حقيقتان مختلفتان * ومفهومان متغايران * .

لكل واحد حكم مغاير لحكم الآخر ، فلا يجوز الخلط بين الحكمين حتى لا يكون تلبيساً .

فالنوع الأول جائز بلا ظنون * لا بد منه ، ولا ينكره إلا مجنون * لكنه خارج عن محل النزاع .

وأما النوع الثاني فهو محل النزاع وهو لا يجوز ؛

لأنه إشراك بالله عز وجل ، ومتضمن لعبادة غير الله سبحانه وتعالى .

قلت :

هذا الذي ذكره علماء الحنفية في الفرق بين النوعين من الاستغاثة - حقيقة قد اعترف بها بعض كبار أئمة القبورية ، أمثال ابن جرجيس (1299هـ) ، ((وكفى الله المؤمنين القتال)) .

وهذا التحقيق في غاية من الإتقان والتدقيق * فهو بالقبول حقيق * .

وأول من قاله فيما أعلم هو شيخ الإسلام .

الشبهة الرابعة :

استدلالهم بحديث الاستسقاء .

وفيه : « أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة ...، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب ...، ثم قال : يا رسول الله : هلكت الأموال ، وانقطعت السبيل ، فادع الله يغيثنا ، قال : فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال : ((اللهم أغثنا .....)) ثلاثاً » .

وفي لفظ : « أن رجلاً دخل يوم الجمعة ... فقال : يا رسول الله هلكت المواشي ، وانقطعت السبيل فادع الله يغيثنا ، قال : فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال : »

« ((اللهم اسقنا ..... ثلاثاً)) » .

والجواب :

أن القبورية باستدلالهم بهذا الحديث على جواز الاستغاثة بالأموات - ملبسون ، ومحرفون الكلم عن مواضعه ؛ فإن هذا الحديث لا يدل على جواز الاستغاثة بالغائب والميت ، كما لا يدل على طلب ما لا يقدر عليه إلا الله ؛ بل يدل على جواز طلب الدعاء من الحي الحاضر ، وهذا مما لا كلام فيه ؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء ، وكان صلى الله عليه وسلم يدعو لهم .

وكذلك يجوز الآن أن تأتي رجلاً صالحاً فتطلب منه الدعاء ، بل يجوز للأعلى أن يطلبه من الأدنى ؛ وهذا الحديث في الاستسقاء مثال لذلك ؛ حيث طلبوا منه صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله عز وجل لهم ليغيثهم ويسقيهم .

الشبهة الخامسة :

وهي استدلال القبورية بقوله تعالى : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ } [البقرة : 45] .

ولهم عجائب من الخزعبلات وغرائب من المخازي في الاستدلال بهذه الآية على جواز الاستغاثة بالأموات عند الكربات ، فقد قال ابن

برجيس (1299هـ) .

(وأمرنا الله بالاستعانة بالأعراض قال تعالى :

{ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ } .

ولم يقل : استعينوا بالله .... ) .

ونقل النبهاني (1350هـ) إمام القبورية النبهانية ، عن عبد الغني النابلسي (1143هـ) إمام القبورية النابلسية .

من قال : لا ينبغي الاستعانة بغير الله فقد كفر ، لمخالفته نص الكتاب في قوله تعالى : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ } ....

وقال القضاعي إمام القبورية القضاعية (1376هـ) ، وتبعه علوي المالكي - أحد أئمة قبورية هذا العصر - : (وكيف تنكر الاستعانة بغيره تعالى وقد جاء الأمر في مواضع كثيرة من الكتاب والسنة ، قال تعالى : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ } . . . )

والجواب :

أن القبورية قد وصلت في التمويه ، والتخريف * والتلبيس ، والتحريف * إلى حد لا يتصور بالبال * كأنهم تلاميذ اليهود الضلال * ؛ فإن هذه الآية الكريمة لا علاقة لها بجواز الاستغاثة بالأموات عند

الكربات * والاستعانة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله رب البريات * .

بل هذه الآية من أقوى الأدلة ، وأعظم البراهين ، على وجوب الالتجاء إلى الله عز وجل والاستغاثة به عند الملمات * والتوسل إليه تعالى بالأعمال الصالحات *

والصبر والصلاة من أعظم الأعمال الصالحات * التي يتوسل بها إلى الله عند الكربات * .

فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر توسل إلى الله تعالى بالصلاة ، وقد صرح المفسرون من علماء الحنفية في بيان معنى هذه الآية بأن الله تعالى لما أمر اليهود بترك الضلال والالتزام بالشرائع ، وكان ذلك شاقاً عليهم - عالج مرضهم بهذا الخطاب ، فأمرهم بالاستعانة بالصبر بأن يصبروا ؛ لما فيه من كسر الشهوة ، وتصفية النفوس ، الموجبين للانقطاع إلى الله تعالى ، ولأن الصبر موجب لإجابة الدعاء .

وأما الاستعانة بالصلاة - فلما فيها من أنواع العبادة مما يقرب إلى الله تعالى قرباً يقتضي الفوز بالمطلوب * والعروج إلى المحبوب * .

وناهيك عن عبادة تكرر في اليوم والليلة خمس مرات ، يناجي فيها العبد علام الغيوب * ويغسل بها العاصي درن العيوب * .

وقد روى حذيفة رضي الله عنه ، « أنه صلى الله عليه وسلم : إذا حزبه أمر صلى » ،

وروى أحمد : « أنه إذا حزنه أمر فزع إلى الصلاة » ، إلى آخر ما قاله علماء الحنفية في تفسير هذه الآية .

قلت :

قد اعترف بهذه الحقيقة كثير من القبورية أيضاً .

وقال الإمام محمود الآلوسي (1270هـ) ، وحفيده العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) في معنى هذه الآية ، واللفظ للأول :

(واطلبوا المدد والعون ممن له القدرة الحقيقية ، بالصبر على ما يفعل بكم لكي تصلوا إلى مقام الرضا ، والصلاة التي هي المراقبة وحضور القلب) .

وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) في بيان كشف سفاهة ابن جرجيس الذي استدل بهذه الآية على جواز الاستعانة بغير الله :

(ثم تكلم العراقي بكلام هو محض هذيان * يظهر ذلك لأقل الصبيان * ... ؛ فما أدري ما أقول فيه ؟ ! * وأي عبارة تصف ما فيه من الجهل والتمويه * ) .

ثم ذكر رحمه الله كلاماً عن المفسرين في تفسير هذه الآية ثم قال :

(فتبين بما ذكرنا أن الآية ليست مما نحن فيه ؛ إذ لم يرد سبحانه بالأمر بالاستعانة بالصبر والصلاة - نداءهما وطلب الحوائج منهما ، وذلك ظاهر ، بل الآية من قبيل قوله تعالى { وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } [ المائدة : 35 ] ،

وقد سبق أن المراد بها الأعمال الصالحة) .

الشبهة السادسة :

استدلال القبورية بقصة هاجر رضي الله عنها .

والقصة : أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما ترك ابنه إسماعيل صلى الله عليه وسلم ، وزوجه هاجر رضي الله عنها بوادي مكة قبل أن يبني فيها الكعبة ، وقبل ظهور ماء زمزم ، ولم يكن بمكة يومئذ أحد ولا ماء ، ووضع عندهما جراباً فيه تمر ، وسقاء فيه

ماء ، فجعلت أم إسماعيل ترضع ابنها وتشرب من ذلك الماء ، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش إسماعيل عليه السلام ، وجعل يتمرغ من شدة العطش ، فوجدت هاجر الصفا أقرب جبل إليها ، فقامت عليها لترى أحداً ، فلم تر أحداً ، فهبطت من الصفا ثم أتت المروة ، فقامت عليها فلم تر أحداً ، فعلت ذلك سبعاً ، ( « فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً .. ؛ فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث ، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم ، فبحث بعقبه ، أو قال : بجناحه ، حتى ظهر الماء ... ؛ فشربت وأرضعت ولدها ، فقال لها الملك : لا تخافوا الضيعة ، فإن ههنا بيت الله يبني هذا الغلام وأبوه ، وإن الله لا يضيع أهله » ...) الحديث .

وفي لفظ : (... « فإذا هي بصوت فقالت : أغث إن كان عندك خير . فإذا جبريل » ...) الحديث .

قلت :

هذه القصة أقوى الأدلة على الإطلاق للقبورية فيما أعلم ، فإن فيها تنصيصاً على الاستغاثة بالغائب عن البصر * وعلى طلب الغوث والمدد من

الغائب عن النظر * .

ولا أعلم للقبورية دليلاً يكون في القوة والتنصيص مثل هذه القصة ، ثم يزيد هذا الدليل قوة على قوة أن البخاري رحمه الله رواه في صحيحه .

ولذا قال ابن جرجيس هاشاً باشاً في صدد استدلاله بهذه القصة ، على جواز الاستغاثة بالأموات * وطلب الغوث والمدد منهم عند الكربات * :

(فلو كان طلب الغوث من غير الله شركاً لما جاز لها استعماله ، ولما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه ، ولما نقله الصحابة من بعده ، [ولما] ذكره المحدثون ، [و] لا سيما البخاري الذي أجمعت الأمة على أن ما بعد كتاب الله أصح من كتابه .

فإن هذا الغائب الذي طلبت منه الغوث - وإن كان في الحقيقة هو ملك - لكن في حال غيبته محتمل أن يكون شيطاناً ، ومحتمل أن يكون جنياً ، ومحتمل أن يكون ملكاً ، ومحتمل أن يكون إنساناً .

والمانعون لا يجوزون الاستغاثة بالغائب مطلقاً ، لا بنبي مرسل ، ولا ملك مقرب ، كالميت ، كما صرحوا به في مواضع ، فلو يعلم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك محذوراً - لوجب التنبيه عليه ، خصوصاً إذا كان شركاً أكبر مخرجاً من الملة) .

قلت :

هذا هو كان تقرير القبورية للاستدلال بهذه القصة على جواز

الاستغاثة بالأموات ، ولكن سرعان ما ينتبه من دقق النظر في هذه القصة إلى أن القبورية في استدلالهم بهذه القصة على جواز الاستغاثة بالأموات عند الكربات * لمن أعظم أصحاب التمويهات والتلبيسات * كما سيظهر الآن الجواب * الذي يقطع دابر أهل الارتياب *:

الجواب :

أن هذه القصة لا صلة لها بالاستغاثة بالغائب الذي لا يقدر ولا ينفع * أو الميت الذي لا يعلم ولا يرى ولا يسمع *

كما لا علاقة لها بطلب ما لا يقدر عليه إلا الله .

بل تدل على جواز الطلب من الحي الحاضر فيما يقدر عليه ، فإن هاجر قد سمعت جبريل الحي الحاضر ، فطلبت منه ما كان يقدر عليه وإن لم تكن تراه ، ومن ظن غير ذلك فقد افترى على أمنا هاجر ، وتقول على أهل بيت النبوة * وبهت أهل الصفوة والفتوة * .

وأتى بتمويه وتحريف * وجاء بتلبيس وتخريف * .

قال العلامتان : نعمان الآلوسي (1317هـ) ، وابن أخيه شكري الآلوسي (1342هـ) ، واللفظ للأول :

(إن كلامنا فيمن يستغاث به عند إلمام ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، أو لسؤال ما لا يعطيه ويمنعه إلا الله سبحانه .

وأما فيما عدا ذلك مما يجري فيه التعاون والتعاضد بين الناس ،

واستغاثة بعضهم ببعض - فهذا شيء لا نمنعه ولا ننكره .

كما قال تعالى : { فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } [ القصص : 15 ] [بل] نعد منعه جنوناً ، كما نعد إباحة ما لا يقدر عليه إلا الله شركاً وضلالاً) .

قلت :

هذا جواب عام عن هذه القصة وعن كل ما استدل به القبورية من هذا القبيل .

وأما الجواب الخاص عن هذه القصة - فهو ما يلي :

قال العلامة شكري الآلوسي مبيناً مخازي ابن جرجيس في التشبث بهذه القصة :

والجواب عن سخافة هذا العراقي أن يقال :

(إن هذه القصة من أقوى الدلائل على أن سيدنا إبراهيم وآل بيته صلى الله تعالى عليه وعليهم أجمعين - قد بلغوا من الوثوق بالله والالتجاء إليه - ما لا يمكن بيانه ، ولا يسعنا شرحه ........

وقد ترك ولده الذي هو من أعز الناس عليه ، مع أمه ، في أرض قفراء غبراء ، لا ماء فيها ولا مرعى ، ولا أنيس ولا جليس ، مع شيء نزر من التمر

والماء ، ثم انصرف إلى أهله بالشام ، ثقة بأن الله تعالى سيخلفه على أهله ، ويرزقهم من حيث لا يحتسبون .....

وانظر إلى حسن ظن أهل بيته بالله تعالى ؛ فإن هاجر لما رأت منه العزيمة على السفر إلى دياره - قالت له : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء ؟ فقالت له ذلك مراراً ، حتى قال لها : إن ذلك بأمر الله ، فقالت : إذن لا يضيعنا ، ثم رجعت ؛ علماً منها أنه سبحانه خير حافظاً وهو أرحم الراحمين ، وبقيت صابرة على ما تكابده من قضاء الله وقدره ، على ما تراه من حال ولدها ، وشدة ما يقاسيه من الجوع والعطش ، وهو يومئذ ابن سنتين ، حتى أشرف على الهلاك ، وجعل يشهق ويعلو صوته وينخفض ، كالذي ينازع الموت ، فقامت تسعى سعي الإنسان الجهود ، وتنتظر فرج الله ، فسعت سبع مرات ، وهي تتشوف بريد الفرج .

وكانت كل مرة تتفقد إسماعيل وتنظر ما حدث له بعدها ، فتشاهده في حال الموت ....

فلما أشرفت على المروة في المرة الأخيرة - سمعت صوتاً وأيقنت بحصول ما كانت ترجوه من الله تعالى ، وتيقنت أنه من رسل رب الأرض والسماء ، قالت : قد أسمعت * وتحققت الذي قد أزمعت * وعرفت أنك حاضر * وإن لم ترمقك النواضر * .

فأغثني إن كان عندك خير * فقد لحقنا الجوع والعطش ، والضر

والضير * .

فإذا هي بالملك عند موضع زمزم ، فبحثه بعقبه حتى ظهر الماء بإذن الحكيم الأحكم .... فشربت وأرضعت ولدها ، فقال لها الملك : لا تخافوا الضيعة ، فإن هنا بيتاً لله يبني هذا الغلام وأبوه ، وإن الله لا يضيع أهله ....

وفي حديث علي عند الطبراني بإسناد حسن :

((فناداها جبريل فقال : من أنت ؟ قالت : أنا هاجر أم ولد إبراهيم ، قال : فإلى من وكلكما ؟ قالت : إلى الله . قال : وكلكما إلى كاف)) .

فقد تبين أن هاجر لم تطلب إلا ممن هو حاضر محسوس ، ليس ما طلبته مما اختص طلبه بالله سبحانه ، فإنها طلبت من صاحب الصوت ما يسد جوعتها ، ويروي غلتها ، كما يقول المنقطع في الطريق العادم الزاد والماء - إذا مر عليه أحد أو أحس به :

أغثني بما عندك من ماء وطعام * وأعطني مما تفضل الله به عليك من الإنعام * .

أفيقال لهذا : إنه طلب ما لا يقوم عليه إلا الله * والتجأ في شدته إلى من سواه * ؟ .

وفي زعم هذا العراقي : أن هاجر رضي الله عنها طلبت من غائب

مخلوق شيئاً منع المانعون طلبه من غيره سبحانه ، حتى احتمل عنده أن يكون المستغاث به المطلوب منه شيطاناً ، والعياذ بالله تعالى .

فانظر إلى هذا الجهل الوخيم * والتجاسر العظيم * حتى نسب ما نسب إلى بيت النبوة * وأهل الصفوة والفتوة * فقاتل الله أهل الكفر والضلال * كيف لعب الشيطان بعقولهم حتى أوردهم المهالك والأهوال * ؟ .

ولا بدع من هذا العراقي أن يصدر منه ما صدر * فقد بلغ به الكفر والجهل والوقاحة إلى حد لا يمكن أن يذكر * .

نسأل الله تعالى العفو والعافية * وقلوباً عن أكدار الجهل صافية *) .

الشبهة السابعة :

تشبثت القبورية بحديث ابن مسعود مرفوعاً :

( « وإذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة ، فليناد : يا عباد الله احبسوا ، يا عباد الله احبسوا ، فإن لله عز وجل في الأرض حاضراً سيحبسه » ) .

قلت :

إن القبورية يعدون هذا الحديث من أقوى حججهم في الاستغاثة بالأموات عند الكربات ، ويزعمون أنه يفيد الاستغاثة برجال الغيب ، وأن هذا

مجرب ، وأن المانعين لا يرون الاستغاثة بالغائب ، كالميت ، سواء كان نبياً أو ملكاً أو جنياً .

ولعل القبورية بنوا على هذه الأسطورة المصنوعة أخلوقتين حول أحمد بن علوان ، وعمر بن حمدان .

الجواب :

أن علماء الحنفية قد أجابوا عن هذه الشبهة بجوابين اثنين :

الجواب الأول :

أن هذا الحديث غير ثابت ، فلا يصح للاستدلال * إلا عند الأغمار الضلال * وذلك لوجهين مهمين :

الوجه الأول : أن في إسناده معروف بن حسان ، وهو ضعيف ، منكر الحديث .

والوجه الثاني : أن إسناده منقطع ، فالحديث ضعيف ساقط عن حيز الاحتجاج .

وأما الجواب الثاني :

فسيأتي تقريره وتحقيقه بعد الجواب الأول عن الشبهة الآتية إن شاء

الله تعالى .

الشبهة الثامنة :

تشبثت القبورية بحديث عتبة بن غزوان مرفوعاً :

( « إذا أضل أحدكم شيئاً ، أو أراد عوناً ، وهو بأرض ليس بها أنيس ، فليقل : يا عباد الله أغيثوني ، يا عباد الله أغيثوني ، فإن لله عباداً لا نراهم » ) .

قلت :

هذا الحديث كسابقه أيضاً من أقوى حجج القبورية على الاستغاثة بالأموات عند الكربات ، ويزعمون أن هذا مجرب محقق ، وأن المسافرين يحتاجون إليه ، وأن فيه حفظاً للأمة .

ويقولون : إن في هذا الحديث تنصيصاً على نداء الغائب ، والمانعون لا يجوزون نداء الغائب مطلقاً .

الجواب :

إن علماء الحنفية قد أجابوا عن هذا الحديث بجوابين :

الجواب الأول : أن هذا الحديث إسناده منقطع ، فهو ضعيف لا

يصلح للاحتجاج ، والاستناد * ولا سيما باب الاعتقاد *

وأما الجواب الثاني : - وهو الجواب عن الحديث السابق أيضاً - :

فهو أن القبورية في الاستدلال على مثل هذه الأحاديث - بعد تسليم صحتها - محرفون للكلم عن مواضعه ؛ لأن مثل هذه الأحاديث لا علاقة لها بالاستغاثة بالأحياء الغائبين * ولا صلة لها بطلب المدد من الأموات عند الكربات ، والاستنجاد بالمقبورين * بل غاية ما فيها أنها تدل على جواز الطلب من الحي الحاضر فيما يقدر عليه .

قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) في الكشف عن تمويهات ابن جرجيس وتلبيساته في التشبث بهذين الحديثين :

(والجواب عن هذا هو الجواب عن سابقه ، فإنه على نمطه ، فإن ما يفيده الحديث - [هو] نداء حاضر ، كنداء زيد عمراً مثلاً ليمسك دابته ، أو ليرجعها ، أو ليناوله ماء ، أو طعاماً ، أو نحو ذلك ، وهذا مما لا نزاع فيه .

غاية ما في الباب أن عمراً مثلاً محسوس ، وهؤلاء لا يرون ، لأنهم إما مسلمو الجن ، أو ملائكة موكلون ؛ لا نداء لأجل شيء لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، وأين هذا من الاستغاثة بأصحاب القبور من الأولياء والمشايخ ؟ .

وكون المراد بعباد الله غير من ذكر - كما زعم بعض المتصوفة : أنهم ((رجال الغيب )) ، أو أنهم كذا وكذا - مردود ، بل هو من الخرافات ، والعياذ بالله تعالى .

ومثله : زعم وجود الأوتاد ، والأقطاب ، والأربعين ، وما أشبه ذلك من الهذيان * والأسماء التي لا حقائق لها في العيان * بل هي أشبه شيء بالعنقاء * وثور السماء * ضحك الشيطان بها على عقولهم السخيفة * وآرائهم الضعيفة * .

والحكايات التي أوردها العراقي لا تفيد شيئاً أيضاً لما قدمناه ....

وأما قوله : إن المانع لا يجوز نداء الغائب .... إلخ -فمردود أيضاً بأن هؤلاء العباد ليسوا بغائبين ، وعدم رؤيتهم لا يستلزم غيبتهم ،

فإنا لا نرى الحفظة ، ومع ذلك فهم حاضرون ...

وقوله : ثم ما يدريك أن هذا الغائب [شيطان] إلخ - فيه من الجهل والخبط ما يعجز القلم عن ذكره ، كيف يكون شيطاناً وقد خلق الشيطان للإفساد ، لا للإصلاح ، وللتفرقة لا للإجتماع ، ثم إن في هذا الحديث إضافة العباد إلى الله ، وقد قال تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الحجر : 42 ، والإسراء : 65] ، وهو سبحانه طيب لا يقبل إلا طيباً ، ولا يضاف إليه إلا الطيب ، يقال للكعبة : ((بيت الله)) لما فيه من الهدى والبركة ما لا يمكن بسطه ، وكذلك المساجد ، ولا يضاف إليه البيوت المستقذرة ، مع أن لله ما في السماوات وما في الأرض ، فلا يقال للشياطين : ((عباد الله)) بهذا المعنى في مثل هذا المقام) .

وللإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) ، والشيخ محمد المظفري كلام يؤيد ما ذكره الآلوسي .

الشبهة التاسعة :

استدلال القبورية بأسطورتين وثنيتين :

الأولى : حديث مفتعل مصنوع : * : ( « إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا من أهل القبور » ) .

والثانية : حديث مختلق موضوع * :

(( « إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور » )) .

الجواب الأول :

أنهما من الأساطير المفتعلة الموضوعة * والروايات المختلقة المصنوعة * التي وضعها القبورية أشباه عبدة الأصنام * الجهلة الطغام الذين هم أضل من الأنعام * .

والجواب الثاني :

أنهما مع كونهما مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم مناقضة لدين الإسلام * وهما مما أوقع عباد القبور في الشرك الذي كان عليه عباد الأصنام * .

الشبهة العاشرة :

تشبثت القبورية بحديث وثني :

( « لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه » ....) .

الجواب :

أن علماء الحنفية قد أجابوا عن هذه الأخلوقة بأجوبة ثلاثة :

الجواب الأول :

أن هذه الأسطورة من المكذوبات المختلقات * والمفتعلات الموضوعات * التي وضعها المقابرية أشباه عباد الأصنام * وهي مناقضة

لدين الإسلام * .

الجواب الثاني :

أن علماء الحنفية قد صرحوا في الجواب عن هذه الخرافة الوثنية * والأسطورة القبورية الشركية * بأنها مناقضة لدين الإسلام * ومناصرة لدين عباد الأصنام *

فلقد أنزل الله الكتب وأرسل الرسل لقتل من أحسن ظنه بالأحجار والأشجار * .

فعباد القبور لهم أسوة بعباد الأصنام ، وفي ذلك نكال للأشرار وعبرة لأولي الأبصار * .

الجواب الثالث :

ما ذكره العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) :

(إنك تجد كثيراً من هؤلاء الذين يستغيثون عند قبر نبي أو غيره - كل منهم قد اتخذ وثناً أحسن به الظن وأساء الظن بآخر ، وكل منهم يزعم أن قبره يستجاب عنده ، ولا يستجاب عند غيره ، فمن المحال إصابتهم جميعاً ، وموافقة بعضهم دون بعض تحكم وترجيح بلا مرجح ، والتدين بدينهم جميعاً جمع بين الأضداد ؛

فإن أكثر هؤلاء إنما يكون تأثيرهم فيما يزعمون بقدر إقبالهم على وثنهم ، وانصرافهم عن غيره ، وموافقتهم جميعاً فيما يثبتونه دون ما ينفونه - يضعف التأثير على زعمهم ، فإن الواحد إذا أحسن الظن بالإجابة عند هذا وهذا وهذا - لم يكن تأثيره مثل تأثير حسن الظن بواحد دون آخر ، وهذه كلها من خصائص الأوثان) .

الشبهة الحادية عشرة :

شبهة الواسطة :

ولها صورتان عند القبورية قديماً ، وحديثاً :

الأولى : صورة فلسفية منطقية كلامية .

والثانية : صورة أمية عامية عادية .

أما صورة هذه الواسطة صورة فلسفية منطقية كلامية - فتقريرها : ما ذكره كثير من القبورية المتفلسفة الكلامية ، كالرازي فيلسوف الأشعرية (606هـ) ، والتفتازاني فيلسوف الماتريدية (792هـ) ، والنبهاني (1350هـ) ، والكوثري (1371هـ) :

أن النفوس التي فارقت أبدانها أقوى من هذه النفوس المتعلقة بالأبدان من بعض الوجوه ؛ لأنها لما فارقت أبدانها - زال عنها الغطاء والوطاء ، وانكشف لها عالم الغيب ، فالإنسان إذا ذهب إلى قبر إنسان قوي النفس كامل الجوهر شديد التأثير ،

ووقف عند قبره ساعة ، وتأثرت نفسه من تلك التربة - حصل لنفس هذا الزائر تعلق بتلك التربة ، وقد عرفت أن لنفس ذلك الميت تعلقاًَ بتلك التربة أيضاً ، فحينئذ يحصل لنفس الحي ولنفس الميت ملاقاة بسبب اجتماعهما على تلك التربة ، فصارت هاتان النفسان شبيهتين بمرآتين صقيلتين وضعتا بحيث ينعكس الشعاع من كل واحدة منهما إلى الأخرى ، وبهذا السبب ينعكس النور من نفس الميت المزور إلى نفس هذا الحي الزائر ، وبهذا الطريق تصير تلك الزيارة سبباً لحصول المنفعة الكبرى ، فهذا هو السبب الأصلي في شرعية الزيارة ، ولهذا ينتفع بزيارة القبور والاستعانة بنفوس الأخيار من الأموات في استنزال الخيرات واستدفاع الملمات .

ولأجل هذه الواسطة الفلسفية قال الرازي فيلسوف الأشعرية (606هـ) :

(وأيضاً سمعت : أن أصحاب أرسطا طاليس كلما أشكل عليهم

بحث موضوع - ذهبوا إلى قبره وبحثوا في تلك المسألة ، فكانت المسألة تنفتح ، والإشكال يزول) .

هكذا يرى القبورية حصول المدد من الأموات ووصول الفيوضات من قبورهم إلى المستغيثين بهذه الواسطة الفلسفية .

وأما الصورة الأمية العامية العادية للواسطة - فتقريرها عند القبورية ما ذكروه للاستدلال على جواز الاستغاثة بالأموات عند الكربات ، بل على وجوبها : من أن الأنبياء عليهم السلام والأولياء ، واسطة في العون والمدد والإغاثة بين الله وبين المكروبين المضطرين ، لعلو شأنهم ، ورفيع منزلتهم عند الله تعالى ، وأن المكروب المستغيث يرى نفسه ملطخاً بالذنوب ، فهو بعيد عن الله تعالى لا يصل إليه إلا بواسطة أحبابه من الأولياء الذين يشفعون لهم عند الله تعالى ، وقاسوا رب العباد على ملوك البلاد ، وقاسوا الأنبياء والأولياء على الوزراء والأمراء *

فقالوا : كما أنه لا يمكن للرعايا الوصول إلى الملوك إلا بواسطة الوزراء والأمراء * كذلك لا يمكن الوصول إلى الله لإنجاح الحوائج إلا بواسطة الأنبياء والأولياء * .

وهذه الشبهة من أعظم براهين القبورية العقلية وأشهرها ، وعامة القبورية يتشبثون بها قديماً وحديثاً ، حتى إخوان الصفا من القرامطة الباطنية .

واختلقوا استناداً إلى هذه الشبهة أساطير كثيرة ، منها أخلوقة السلطان الحنفي .

وقال النبهاني (1350هـ) في تقرير الواسطة العادية وشفاعتهم الشركية :

(ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم له عند الله تعالى قدر علي ومرتبة رفيعة وجاه عظيم ، وفي العادة : أن من كان له عند الشخص قدر بحيث إنه إذا استشفع عنده قبل شفاعته) .

وقال : (فالمستغيث على هذا هو الذي يدعو الله تعالى ، ويجعل واسطة القبول عنده عز وجل نبيه الأعظم ، وحبيبه الأكرم صلى الله عليه وسلم ) .

وقال : فما الذي يمنع الاستغاثة بالأنبياء وجعلهم واسطة بين العباد وبينه عز وجل ووسيلة إلى قضاء حوائجهم الدنيوية والأخروية .

ويحسن أن أسوق بعض نصوص أئمة القبورية في تقرير الصورة الأمية العامية العادية للواسطة :

1 - قال اليافعي (768هـ) :

2 - ثم القباني (1157هـ) :

(قد جرت العادة أن من له حاجة قد يتوسل ذلك الوجيه بأوجه إلى من يراد منه قضاء الحاجة ؛ كما يتوسل الإنسان من الرعية بالأمير ، والأمير يتوسل بالوزير ، والوزير يشفع عند السلطان في قضاء حاجة ذلك الإنسان ، فكذلك نحن نتوسل إلى اله الكريم بنبينا عليه أفضل الصلاة والتسليم ، وقد نتوسل بالأولياء في نادر من الأوقات في قضاء بعض الحاجات ، والأولياء يتوسلون بالنبي الكريم فيشفع عند الله عز وجل فيسمع سبحانه شفاعته ويقبل) .

3 - وقال الحمامي (1168هـ) في بيان تقرير هذه الواسطة العامية العادية :

(وكل ما في الأمر أن المتوسل يرى نفسه ملطخاً بقاذورات المعاصي ، أبعدته الغفلات عنه تعالى أيما إبعاد ، فيفهم من هذا أنه جدير بالحرمان من تحقيق مطالبه ، وقضاء حاجاته [إن دعا الله مباشرة ] .... لأجل هذا يتقدم المتوسل إليه تعالى بأحبابه الذين لا يعرفون إلا طاعته ، مبتهلاً إليه بجاههم عنده ، وحرمتهم لديه :

أن يقضي له حاجته لأجل هؤلاء الأحباب الذين عودهم تعالى ، وإذا كان هذا هو السر في التوسل - فلا أثر إذن فيه لحياة المتوسل بهم أو موتهم ؛ فإنهم أحباب ربنا تعالى على أي حال كانوا .... أحياء كانوا أم أمواتاً) .

4 - ولمحمد علوي المالكي - أحد المشاهير المناضلين عن القبورية - تلبيس عجيب في التشبث بشبهة الواسطة حيث يقول :

(لابد من الواسطة ، وليس كل من اتخذ بينه وبين الله واسطة يكون مشركاً ، وإلا لكان البشر كلهم مشركين ؛ لأن أمورهم جميعاً تنبني على الواسطة ؛ فجبريل واسطة للنبي صلى الله عليه وسلم في تلقي القرآن ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واسطة للصحابة رضي الله عنهم ، فكانوا يفزعون إليه في الشدائد ويتوسلون به إلى الله ، ويجوز وصف أي شخص عادي بأنه فرج الكربة ، وقضى الحاجة ، أي بالواسطة ، فكيف بالنبي العظيم الكريم ، أشرف الكونين ، وسيد

الثقلين ، وأفضل خلق الله ) .

5 - وقال إخوان الصفا - من القرامطة الباطنية ، الوثنية ، القبورية :

إن الحكماء لما عرفوا أن للعالم صانعاً - طلبوا القربة إليه ، والتوسل بصفوة خلقه ، وطلبوا الزلفى لديه بتعظيمهم لهم كما يفعل أبناء الدنيا من القربة إلى ملوكهم بالتوسل إليهم بأقاربهم وندمائهم ووزرائهم ، وكتابهم ، وخواصهم ، وقوادهم ؛ فهكذا وعلى هذا المثال فعل الحكماء .

اعلم يا أخي ، أن أهل المعارف الذين يعرفون الله حق معرفته وهم أولياء الله - فهم لا يتوسلون إليه بأحد غيره ، وأما من قصر فهمه ومعرفته - فليس له طريق إلى الله تعالى إلا بأنبيائه ، ورسله ، والأئمة ، وأوصيائهم ، وأولياء الله ، فبهم يتقرب إلى الله ، وبتعظيمهم ، والذهاب إلى مساجدهم ومشاهدهم ، والدعاء ، والصلاة ، والصيام عند قبورهم ، طلبا للقربة إلى الله والزلفى لديه .

الجواب :

لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة بعدة أجوبة ، وجعلوها هباء منثورا .

الجواب الأول :

أن القبورية في تشبثهم بكلمة ((الواسطة)) ملبسون ومدلسون ؛ حيث إنهم خلطوا الباطل بالحق ؛

فإن كون الأنبياء عليهم السلام واسطة بين الله وبين سائر الناس ، يحتمل معنى حقاً ومعنى باطلاً ؛ فمن أراد أنهم واسطة في تبليغ أوامر الله ونواهيه ، وبيان دينه وشرحه وتوضيح ما يحبه الله ويرضاه ، وما يكرهه - فهذا معنى حق وصواب ؛ فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه ، وما يكرهه ، وماذا أمر به وماذا نهى عنه إلا بواسطة الرسل عليهم السلام ، فإنهم المبلغون عن الله سبحانه وتعالى .

وأما من أراد بالواسطة أن الأنبياء والأولياء واسطة بين العباد وبين رب العباد في جلب المنافع ، ودفع المضار ، والرزق ، والنصر ، والإغاثة ، وكشف الكربات *

والناس يرجعون إلى الأنبياء والأولياء في ذلك ، ويسألونهم قضاء الحاجات * وكشف الكربات * ويستغيثون بهم عند نزول النوازل وإلمام الملمات * وينادونهم في غيابهم في الحياة وبعد الممات لجلب الخيرات ودفع الآفات *- (فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين ... فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط ، يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار :

مثل أن يسألهم غفران الذنوب ، وهداية القلوب ، وتفريج الكروب ، وسد الفاقات ، فهو كافر بإجماع المسلمين ....

فمن أثبتهم وسائط بين الله وبين خلقه - كالحجاب الذين بين الملك ورعيته ، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه -

وزعم أن الله إنما يرزق العباد بتوسطهم ، فالخلق يسألونهم ، وهم يسألون الله - كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك الحوائج للناس لقربهم منهم ، والناس يسألونهم أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملك ، أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك [مباشرة] لكونهم أقرب من الطالب للحوائج - فمن أثبتهم وسائط بين الخلق وبين الله على هذا الوجه - فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب ، فإن تاب ، وإلا قتل .

وهؤلاء مشبهون لله بالملوك ، وشبهوا المخلوق بالخالق ، وجعلوا لله أنداداً .

وفي القرآن من الرد على هؤلاء ما لا يتسع له هذه الفتوى ....

والمقصود أن من أثبت وسائط بين الله وبين خلقه ، كالوسائط التي تكون بين الملوك والرعية ، فهو مشرك ؛ بل هذا دين المشركين عباد الأوثان ) .

قلت :

لقد تبين بهذا أن القبورية يتشبثون بلفظة ((الواسطة)) ، ليتستروا بهذا اللفظ المجمل الذي يحتمل المعنى الحق والباطل ، ليخفوا إشراكهم الصريح الذي هو دين المشركين السابقين ،

وهكذا عادة أهل البدع .

فقد صرح علماء الحنفية أيضاً بأن المتكلمين من الماتريدية والأشعرية وغيرهم ، تشبثوا بكثير من الألفاظ المجملة التي تحمل حقاً وباطلاً :

كالمكان ، والجهة ، والحد ، والحيز ، ونحوها من الألفاظ المجملة الكلامية ، وتستروا بها ليخفوا بها تعطيلهم لصفات الله تعالى .

والقاعدة الكلية في ذلك أنه لا يجوز الحكم عليها نفياً أو إثباتاً إلا بعد التفصيل ، وتبين المعنى الحق من المعنى الباطل ، فيقبل المعنى الحق ، ويرد المعنى الباطل ، وبذلك ينكشف أمر أهل البدع .

الجواب الثاني :

أن علماء الحنفية قد صرحوا بأن القبورية في جعلهم الأنبياء والأولياء واسطة بين العباد ورب العباد ، كالوزراء والأمراء بالنسبة للملوك لجلب المنافع ودفع المضرات * ليستغيثوا بهم عند الكربات - * مرتكبين للشرك الأكبر الذي كان عليه الوثنية الأولى التي كانت في الأيام الخاليات *

فإن المشركين السابقين كان شركهم هو هذه الواسطة التي هي أصل الوثنيات * وتبعتهم القبورية ، فالقبورية والوثنية الأولى في هذه الواسطة من واد واحد .

فمن اتخذ هذه الواسطة فهو كافر مشرك ، حلال الدم ، يستتاب وإلا

قتل .

وقد قال كثير من علماء الحنفية : إن المشركين السابقين زعموا أن الله سبحانه في غاية من الرفعة ونهاية في التعالي .

فلا يمكن وصولنا إليه إلا بواسطة عباده المقربين إليه ، وقاسوا ذلك على الملوك ووزرائهم قياساً باطلاً .

فقالوا : كما أن الرعية لا يمكن لهم الوصول إلى الملوك إلا بواسطة الوزراء والأمراء - وهم يشفعون للرعية عند الملوك لا يردون شفاعتهم - كذلك لا يمكن لنا الوصول إلى الله تعالى إلا بواسطة أوليائه المقربين عنده ، فنحن نلتجئ إليهم في دفع المضرات وجلب الخيرات وهم يقربوننا إلى الله زلفى ، ويشفعون لنا عند الله ، فالله يقبل شفاعتهم لنا .

فجاءت القبورية فسلكوا مسلك الوثنية الأولى في الواسطة والتوسل * والشفاعة والتوصل * حذو النعل بالنعل ، والقذة بالقذة .

والحاصل : أن هذه الواسطة طريقة الكفار والمشركين عباد الأصنام السابقين * .

فمن اتخذ هذه الواسطة فهو مشرك حلال الدم يستتاب وإلا

قتل ، بفتوى الحنفيين * ؛ كما سبق آنفاً .

وإليك بعض نصوص علماء الحنفية في إبطال هذه الواسطة ، وأن هذه من دين المشركين :

1 -4- قال الإمام محمد البركوي (981هـ) ، والعلامتان : نعمان الآلوسي (1317هـ) ، وشكري الآلوسي (1342هـ) ، وشيخ القرآن الحنفي (1407هـ) - في بيان إبطال تلك الواسطة الفلسفية ، المنطقية ، الكلامية ، الشركية ، وأنها مأخوذة من المشركين السابقين ، وأنها هي أصل عبادة الأصنام ، وأن هذه الواسطة الفلسفية قد أخذها عنهم أمثال الفارابي (339هـ) ، وابن سينا (428هـ) ، وغيرهما من المتفلسفة الملاحدة القبورية ، الذين يرون حصول المدد ووصول الفيوض من القبور بهذه الواسطة الفلسفية - واللفظ للأول :

(وأما الزيارة البدعية : فزيارة القبور لأجل الصلاة عندها ، والطواف

بها ، وتقبيلها واستلامها ، وتعفير الخدود عليها ، وأخذ ترابها ، ودعاء أصحابها ، والاستعانة بهم ، وسؤالهم النصر ، والرزق ، والعافية ، والولد ، وقضاء الديون ، وتفريج الكربات * وإغاثة اللهفات *

وغير ذلك من الحاجات التي كان عباد الأوثان يسألونها من أوثانهم [المعبودات *] فليس شيء من ذلك مشروعاً باتفاق أئمة المسلمين * ؛ إذ لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة والتابعين وسائر أئمة الدين * بل أصل هذه الزيارة البدعية الشركية - [التي دان بها القبورية الطغام * ] مأخوذة عن عباد الأصنام ، [المشركين في غابر الأيام *] ؛ فإنهم قالوا : الميت المعظم الذي لروحه قرب ومزية عند الله تعالى لا يزال تأتيه الألطاف من الله تعالى ، وتفيض على روحه الخيرات ، فإذا علق الزائر روحه به وأدناه منه - فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها ، كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية ، والماء الصافي ، ونحوهما على الجسم المقابل له .

ثم قالوا : فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بروحه إلى الميت ، ويعكف بهمته عليه ويوجه قصده وإقباله عليه ، بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره .

وكلما كان جمع الهمة والقلب عليه أعظم - كان أقرب إلى انتفاعه به .

وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سينا ،

والفارابي ، وغيرهما ، وصرح به عباد الكواكب ،

وقالوا : إذا تعلقت النفس الناطقة بالأرواح العلوية فاض عليها منها نور .

ولهذا السر عبدت الكواكب واتخذ لها الهياكل ، وصنفت لها الدعوات واتخذت لها الأصنام .

وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها مساجد ، وبناء المساجد عليها * وتعليق الستور عليها * وإيقاد السرج عليها * وإقامة السدنة لها * ودعاء أصحابها * والنذر لهم ، وغير ذلك من المنكرات * [التي ترتكبها القبورية عند الملمات] * والله هو الذي بعث رسله * وأنزل كتبه * لإبطاله وتكفير أصحابه * ولعنهم وإباحة دمائهم وأموالهم * وسبي ذراريهم * .

وهو الذي قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطاله ومحوه بالكلية ، وسد الذرائع المفضية إليه * [وقاتل المشركين عليه] * .

فوقف هؤلاء الضالون المضلون في طريقه ، وناقضوه في قصده وقالوا [تأسياً بالمشركين من فلاسفة اليونان وغيرهم] :

إن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه المقرب عند الله تعالى ، وتوجه إليه بهمته وعكف بقلبه عليه - صار بينه وبين ذلك الميت اتصال يفيض به عليه نصيب مما يحصل له من الله تعالى .

وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وقرب من السلطان ، وهو شديد التعلق به ، فما يحصل من السلطان من الإنعام والإفضال - ينال ذلك المتعلق به من حصته بحسب تعلقه به .

وبهذا السبب عبدوا القبور وأصحابها واتخذوهم شفعاء ، على ظن أن شفاعتهم تنفعهم عند الله تعالى في الدنيا والآخرة ؛ والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من الرد عليهم وإبطال رأيهم ....

قال الله تعالى : { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } [ الأنبياء : 28 ] .

وقال الله تعالى : { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [ سبأ : 23 ] ....

وقال الله تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ ...... سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ يونس : 18 ] .

فبين سبحانه وتعالى : أن المتخذين شفعاء مشركون ، وأن الشفاعة لا تحصل باتخاذ الشفعاء ، وإنما تحصل بإذن الله تعالى للشافع ورضاه عن المشفوع له ، فمن اتخذ شفيعاً من دون الله - فهو مشرك ، لا تنفعه شفاعته ، ولا يشفع فيه ....) .

5 - وقال الإمام ولي الله الدهلوي إمام الحنفية في عصره على

الإطلاق (1176هـ) في إبطال هذه الواسطة الأمية العامية العادية ، مبيناً عقيدة المشركين السابقين * ومحققاً أن القبورية على طريقة إخوانهم الوثنيين * في جعل الصالحين * واسطة بينهم وبين رب العالمين * :

(ومنهم من اعتقد أن الله هو السيد ، وهو المدبر ، لكنه قد يخلع على بعض عبيده لباس الشرف والتأله ، ويجعله متصرفاً في بعض الأمور الخاصة ، ويقبل شفاعته في عباده ، بمنزلة ملك الملوك يبعث على كل قطر ملكاً ويقلده تدبير تلك المملكة فيما عدا الأمور العظام ....

وهذا مرض جمهور اليهود والنصارى والمشركين وبعض الغلاة من منافقي دين محمد صلى الله عليه وسلم يومنا هذا) .

6 - وقد حقق الإمام ابن أبي العز (792هـ) أن هذا النوع من الشفاعة والتوسل هو أصل شرك العرب وغيرهم من مشركي الهند والترك والبربر .

7 - وقال العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) بعد ذكر عقائد المشركين الأولين ، مبطلاً تلك الواسطة الشركية ؛ وأنها أصل دين المشركين :

(فكان جل أحوال المشركين مع آلهتهم - التوكل عليهم والالتجاء بشفاعتهم - ظناً منهم أنها نافعة عنده تعالى لهم ، فرد الله تعالى عليهم ....) .

8 - وقال رحمه الله تعالى :

(إذا تبين هذا فالمشركون قد كانت عبادتهم لآلهتهم هذا الالتجاء والرجاء والدعاء لأجل الشفاعة ، معتقدين أنها المقربة لهم ؛ فبسبب هذا الاعتقاد والالتجاء أريقت دماؤهم واستبيحت أموالهم .... فهذا الالتجاء بطلب الشفاعة ورجائها عبادة لا تصلح إلا له عز وجل ، وأنها من صرف حقوقه تعالى ومن الشرك) .

9 - وقال رحمه الله أيضاًَ :

(وإذا اعتقد أنهم وسائل لله عز وجل بذواتهم ، فسأل منهم الشفاعة للتقريب إليهم - فذلك عين ما كان عليه المشركون الأولون ) .

10 - وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) مبيناًَ أن القبورية في جعلهم الصالحين وسائط بين الله وبين الناس لجلب الخيرات ودفع المضرات - على طريقته الوثنية الأولى ، راداً على بعض القبورية :

(وسمعت من بعض أغبياء الغلاة وجهلتهم من أهل الثياب المعلمة * والأقفاء المورمة ، والألقاب المفخمة * :

قال : .... فإذا قال القائل مستغيثاً بأحد من الأموات : يا فلان .. افعل كذا وكذا - فالمقصود الطلب من الله أن يقضي حاجته .

[يعني أن الميت واسطة وشفيع وسبب فقط] .

وبعد أن فرغ من هذا الهذيان وسكت - قلت له : ..... وينبغي على قولك هذا أن يطلب من المخلوق كل شيء يطلب من الخالق ، وينبغي أن لا يعترض على عبدة الأصنام وطلبهم ما يطلب من الله ، فإنهم أيضاً كانوا يعتقدون أن أصنامهم وسائط ووسائل وشفعاء ، وكانوا : { وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } [ يونس : 18] ، ويقولون : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [ الزمر :3 ] ، ونحو ذلك من الكلام .

وإذا سئلوا : { مَنْ يَرْزُقُكُمْ } [ يونس : 31] ، و { مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [ لقمان : 25] .

وقد سبق في هذا الكتاب في عدة مواضع بيان ذلك ، وأن كلام الغلاة هذا ، وكلام عبدة الأصنام من واد واحد ، وقد تشابهت قلوبهم ، وأوردت له عدة آيات ونصوص) .

11 - وقال رحمه الله تعالى أيضاً ، مبيناً أن هذه الواسطة الشركية ، وتلك الشفاعة - هي طريق مشركي العرب : (عبدة الأصنام ، وهم الذين أقروا بالخالق ، وابتداء الخلق ، ونوع الإعادة ... وعبدوا الأصنام وحجوا إليها ونحروا لها الهدايا ، وقربوا القرابين وتقربوا إليها بالمناسك والمشاعر ، وأحلوا وحرموا ، وهم الدهماء من العرب .

وإقرارهم بالخالق - هو الذي يسمى توحيد الربوبية ، وهو الذي أقر به الكفار جميعهم ، ولم يخالف أحد منهم في هذا الأصل إلا الثنوية وبعض المجوس .... وأما غيرهما من سائر فرق الكفر والشرك - فقد اتفقوا على أن خالق العالم ورازقهم ومدبر أمرهم ، ونافعهم وضارهم ومجيرهم واحد ؛

لا رب ، ولا خالق ، ولا رازق ، ولا مدبر ، ولا نافع ، ولا ضار ، ولا مجير غيره .

كما قال سبحانه وتعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [لقمان : 25] ...

{ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ } [يونس : 31] .

وكانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنام - عبادة الله تعالى والتقرب إليه ، لكن بطرق مختلفة :

فرقة قالت : ليس لنا أهلية لعبادة الله تعالى بلا واسطة ، لعظمته ، فعبدناها لتقربنا إليه تعالى ، كما قال حكاية عنهم : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [الزمر : 3] .

وفرقة قالت : الملائكة ذوو جاه ومنزلة عند الله ؛ فاتخذنا أصناماً على هيئة الملائكة ؛ ليقربونا إلى الله .

وفرقة قالت : قد جعلنا الأصنام قبلة لنا في عبادة الله تعالى ، كما أن الكعبة قبلة في عبادته ...) .

الجواب الثالث :

أن علماء الحنفية قد أجابوا عن شبهة الواسطة :

1 - بأن القبورية في جعلهم الصالحين واسطة بين الخلق وبين الحق تعالى لدفع المضرات * وجلب الخيرات * مشبهة مرتين بتشبيهتين من جهتين اثنتين * .

فمرة شبهوا المخلوق بالخالق في صفات الكمال ، فصاروا مشبهة * وأخرى شبهوا الخالق بالمخلوق في صفات النقص فصاروا مشبهة * .

2 - 4- أما كون القبورية مشبهة شبهوا المخلوق بالخالق في صفات الكمال - فقد صرح علماء الحنفية بأنهم قد غلوا في الصالحين ورفعوهم فوق منزلتهم ووصفوهم بصفات الله تعالى من العلم والقدرة والسمع والإغاثة ونحوها ، فعبدوهم من دون الله تعالى .

5 - وقال العلامة شكري الآلوسي في تحقيق كون القبورية مشبهة ، شبهوا الصالحين بالله تعالى في صفات الكمال * يستغيثون بهم عند الشدائد والأهوال * :

(إن المشبهة هم الذين يشبهون المخلوق بالخالق في العبادة ، والتعظيم ، والخضوع ، والحلف به ، والنذر له ، والسجود له ، والعكوف عند بيته ، وحلق الرأس له ، والاستغاثة به ، والتشريك بينه وبين الله تعالى في قولهم :

ليس لي إلا الله وأنت ، وأتكل على الله وعليك ، وهذا من الله ومنك ، وأنا في حسب الله وحسبك ، وما شاء الله وشئت ، وهذا لله ولك ، وأمثال ذلك .

فهؤلاء هم المشبهة حقاً ...) .

6 - وقال قولاً عاماً ، وكلاماً كلياً ، وقانوناً مطرداً :

(كل مشرك فهو مشبه لإلهه ومعبوده بالله سبحانه ....) .

7 - وأما كون القبورية مشبهة شبهوا الخالق بالمخلوق في صفات النقص - فقد صرح كثير من علماء الحنفية بأن القبورية - قد قاسوا رب العالمين * بالملوك والسلاطين * وشبهوا خالق الأرض والسماء * بالملوك الذين لا يتوصل إليهم إلا بالأمراء والوزراء * .

8 - وقال الإمام ولي الله الدهلوي ، إمام الحنفية على الإطلاق في عصره (1176هـ) ، مبطلاً شبهة الواسطة ، ومزيفاً قياس رب الأرباب على الملوك في هذا الباب ، ومحققاً أن المشركين بسبب هذه الواسطة وهذا القياس مشبهون :

(فمن تلك الأصول [المسلمة عندهم] : القول بأنه لا شريك لله تعالي في خلق السماوات والأرض وما فيها من الجواهر ،

ولا شريك له في تدبير الأمور العظام ، وأنه لا راد لحكمه ، ولا مانع لقضائه إذا أبرم وجزم .

وهو قوله تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [لقمان : 25] .

وقوله تعالى : { بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ } [الأنعام : 41] .

وقوله تعالى : { ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ } [الإسراء : 67] .

لكن كان من زندقتهم قولهم :

إن هنالك أشخاصاً من الملائكة والأرواح تدبر أهل الأرض فيما دون الأمور العظام ، من إصلاح حال العابد فيما يرجع إلى خويصة نفسه وأولاده وأمواله ، وشبهوهم بحال الملوك بالنسبة إلى ملك الملوك ، وبحال الشفعاء والندماء بالنسبة إلى السلطان المتصرف بالجبروت ... قياساً للغائب على الشاهد ، وهو الفساد ) .

وللعلامة الخجندي (1379هـ) تحقيق منهم في كون القبورية مشبهة بقياسهم ملك الملوك على هؤلاء الملوك ، وابتغاء الوسيلة إليه بواسطة الأولياء - ابتغاء الناس الوسائل إلى الملوك بواسطة الوزراء والأمراء * .

الجواب الرابع :

أن علماء الحنفية قد حققوا أن المسلمين ، بل الكافرين ، يدعون

الله تعالى مباشرة بلا واسطة ، والله تعالى يجيبهم ، فزالت شبهة الواسطة من أصلها :

قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) :

(وبالجملة فقد علم المسلمون كلهم أن ما ينزل بالمسلمين من النوازل في الرغبة والرهبة - مثل دعائهم عند الكسوف ، والاعتداد لدفع البلاء ، وأمثال ذلك - إنما يدعون في مثل ذلك الله وحده لا يشركون به شيئاً ، لم يكن للمسلمين أن يرجعوا بحوائجهم إلى غير الله ؛ بل كان المشركون في جاهليتهم يدعونه بلا واسطة فيجيبهم الله ، أفتراه بعد التوحيد والإسلام لا يجيب دعاءهم إلا بهذه الواسطة التي ما أنزل الله بها من سلطان ؟ ..... ) .

الجواب الخامس :

أن علماء الحنفية قد حققوا أن هذه الواسطة التي تشبثت القبورية بها باطلة من أصلها ، إذ هي متضمنة لعدة مفاسد كفرية ؛ كما حققوا أن قياس القبورية لله على الملوك قياس من أفسد الأقيسة ، إذ هو قياس مع الفارق الذي استلزم عدة من أنواع الكفر :

الأول : أن الملوك لأجل جهلهم بحقائق الأمور وعدم علمهم بأحوال الرعية - يحتاجون إلى الوسائط من الأمراء والوزراء والندماء والوجهاء والعرفاء ليبلغوهم أحوال الرعية ، ويرفعوا إليهم حوائجهم ، بخلاف عالم الغيب والشهادة الذي لا تخفى عليه خافية ، فمن ظن أن الله تعالى مثل الملوك

فهو كافر .

الثاني : أن الملوك عاجزون عن تدبير أمورهم والقيام على حقوق رعاياهم ودفع أعدائهم ، فهم في حاجة إلى أعوان وأنصار من الوزراء ليعينوهم في تدبير مملكتهم وسياسة رعاياهم وحفظ بلدانهم وأوطانهم ، بخلاف رب الكائنات ، الخالق ، الحي ، القيوم ، القادر ، المالك ، الغني ، القاهر ، القوي ، العزيز ، فمن ظن أن الله تعالى مثل الملوك فهو كافر .

الثالث : أن الملوك ليسوا مريدين لنفع الرعية والإحسان إليهم ورحمتهم - إلا بمحرك يحركهم من خارج ، فاحتاجوا في ذلك إلى الشفعاء والنصحاء ينصحوهم ويشفعوا عندهم للمضطرين والمكروبين من رعاياهم ، ليقوموا بقضاء حوائجهم بهذا الترغيب والنصيحة والشفاعة .

بخلاف الله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، الرءوف ، الذي هو أرحم الراحمين ، وأرحم بخلقه من أية والدة بولدها ، ومن ظن أن الله تعالى مثل الملوك فقد كفر كفراً مبيناً .

الرابع : أن الملوك مضطرون إلى قبول شفاعة أمرائهم ووزرائهم لحاجتهم إليهم في حفظ البلاد وسياسة العباد ؛ فالملوك يقبلون شفاعتهم بإذنهم وبدون إذنهم ، لمن يرضون عنه ولمن يسخطون عليه ، بخلاف رب الأرباب ، فإنه غني حي قيوم ، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً ، ولم يكن له شريك في الملك ، ولم يكن له ولي من الذل ، وهو مالك الأكوان ، ليس له لأحد فيها من شريك ، ولا له من خلقه من ظهير ، فهو سبحانه وتعالى لا يقبل الشفاعة إلا لمن أذن له ، ورضي له قولاً ، ومن

ظن أن الله تعالى مثل الملوك فقد كفر كفراً صراحاً .

فتبين من هذا أن هذه الواسطة الكفرية الشركية باطلة فاسدة من عدة وجوه ، متضمنة عدة من المفاسد ؛ وأن قياس خالق الملوك على الملوك قياس فاسد أشد الفساد ؛ إذ هو قياس مع الفارق الذي يستلزم عدة من أنواع الكفر البواح .

وبهذا القياس الفاسد عبدت الأصنام ، وهذا أصل شرك الخلق ، فهم أجهل الناس بالله وبحقه وما يجب له ، وما يمتنع عليه ، حيث قاسوا الخالق المالك الرب المعبود الغني ، على المخلوق المملوك المربوب العابد الفقير المحتاج .

الجواب السادس :

أن شبهة الواسطة باطلة من أصلها ، مجتثة من جذورها ، بل تصور وجود الواسطة ههنا غير وارد أصلاً ، وذلك لوجوه :

الأول : أن الأموات لا يعلمون بحال المضطرين المكروبين المستغيثين المستشفعين بهم ، كما سبق في باب علم الغيب . فكيف يشفعون لهم ؟ وكيف يكونون واسطة بينهم وبين الله ؟ .

الثاني : أن الأموات لا تصرف لهم في الكون ، كما سبق في باب

التصرف ، فكيف يتصرفون تصرف الشفعاء والوزراء ؟ .

الثالث : أن الأموات لا يسمعون دعاء المستغيثين بهم ، كما صرح بذلك علماء الحنفية ، فكيف يمكن لهم الشفاعة والتوسط بدون أن يسمعوا نداءهم ؟ .

الرابع : أنه لم يثبت في الشرع أن الميت يشفع لمن يستغيث به ، كما حققه علماء الحنفية .

الشبهة الثانية عشرة :

شبهة الشفاعة :

وهي أن الصالحين أحياء وأمواتاً يشفعون للمستغيثين بهم عند الله سبحانه وتعالى ، والله عز وجل يقبل شفاعتهم فيهم فتقضى حوائجهم .

هذا حاصل تقرير القبورية لشبهة الشفاعة ، وهي في الحقيقة شبهة الواسطة .

الجواب :

جواب شبهة الشفاعة هو بعينه جواب شبهة الواسطة ، فراجعه .

الشبهة الثالثة عشرة :

شبهة التوسل :

وتقرير هذه الشبهة عند القبورية : أن نداء الأموات عند الكربات * والاستغاثة بهم عند الملمات * نوع من أنواع التوسل بالصالحين * الأحياء منهم والمقبورين *

فإذا جاز التوسل بالصالحين أحياء وأمواتاً - جاز طلب المدد منهم والاستغاثة بهم .

هكذا يشركون بالله ، ويستغيثون بالأموات عند البليات * تحت ستار التوسلات * .

والجواب :

سيأتي إن شاء الله تعالى في باب التوسل .

الشبهة الرابعة عشرة :

شبهة الكسب والسبب :

تزعم القبورية أنه يجوز الاستغاثة بالصالحين ونداؤهم عند الكربات ، وطلب الغوث منهم ، على أن الغوث منهم كسباً وتسبباً ، ومن الله تعالى خلقاً وإيجاداً .

والجواب عنها قد سبق بعون الله سبحانه وتعالى .

الشبهة الخامسة عشرة :

شبهة المجاز العقلي :

لقد تسترت القبورية المستغيثين بالأموات عند الكربات ، تحت ستار لفظ ((المجاز)) ليخفوا شركهم البواح ، فاعتذروا بعذر باطل كذب فاسد عاطل * .

فزعموا أن كل ما نطلبه من الأولياء فإنما نطلبه على سبيل المجاز ، وإنما الطلب في الحقيقة من الله تعالى .

وقالوا : إن قول القائل في الاستغاثة بغير الله : أغثني يا رسول الله ، فهو من الإسناد المجازي .

وقول القائل للولي : افعل كذا وكذا .

وقول القائل : يا محمد ، يا علي ، يا عبد القادر ، يا أولياء الله ، اقض حاجتي ، أو اشف مريضي ، أو انصرني على عدوي ، ونحو ذلك ، مجاز في الإسناد .

وقول القائل : نفعني النبي ، أو الولي ، أو أخذ بيدي ، أو أغاثني . وقول القائل : رد علي بصري . ونحو ذلك ، إسناد مجازي .

أما الجواب عنها فقد تقدم بحول الله تعالى وتوفيقه .

الشبهة السادسة عشرة:

شبهة الاستقلال :

تزعم القبورية المستغيثون بالأموات عند الكربات لإخفاء شركهم : أننا لا نعتقد استقلال الأولياء بالنصر والإغاثة وكشف الكربات ، وإنما المستقل بذلك هو الله تعالى وحده .

قلت :

الحقيقة أن شبهة الاستقلال وشبهة المجاز ، وشبهة الكسب والسبب ، وشبهة التوسل ، وشبهة الشفاعة ، وشبهة الواسطة ، ونحوها من الشبهات - كلها شبهة واحدة :

وهي أن القبورية يقولون : إننا لا نعتقد في الأولياء الاستقلال بالتأثير ، ولا الخلق والإيجاد ، بل نعتقد أن الاستقلال بالتأثير وإيجاد النفع لله تعالى ، وإنما نعتقد فيهم أنهم أسباب ووسائل ووسائط ، وأنهم شفعاء لنا عند الله تعالى لما لهم من المنزلة الرفيعة عند الله سبحانه وتعالى .

وقد سبق الجواب عن شبهة الاستقلال .

وجميع الأجوبة عن هذه الشبهات جواب عن كل شبهة من هذه الشبهات .

الشبهة السابعة عشرة :

شبهة الأحجار والأشجار والأصنام :

تزعم القبورية - معتذرين بعذر باطل * ليخفوا شركهم - بستر عاطل * :

أن مشركي العرب كانوا يعبدون الأحجار ، والأشجار ، والأصنام ، التي لا احترام لها عند الله تعالى ، ولم يكونوا يستغيثون بالصالحين ، ولم يتشفعوا بهم إلى الله ، وأما نحن فنستغيث بالأنبياء ، والأولياء ، ونتوسل بهم ، أحياء وأمواتاً ، لما لهم من المكانة العظيمة ، والمنزلة الرفيعة عند الله تعالى .

قلت : وهذه من أعظم شبهاتهم ، وعامتهم يتشبثون بها .

وقد سبق الجواب عنها ، فصارت كأمس الدابر بتوفيق الله تعالى .

الشبهة الثامنة عشرة :

شبهة كفرية ، زندقية ، إلحادية * حلولية ، اتحادية وجودية * .

تعتقد غلاة القبورية جهاراً دون إسرار ، ولا حياء من العباد ولا من رب العباد * أن الولي قد يصل إلى درجة ، يصل إلى الله ، تعالى [عن الأنداد] * بحيث أن الله تعالى إنما يحل فيه فيكون الولي مظهراً من مظاهر الله

تعالى ، أو يكون الولي عين الله تعالى ؛ فيكون يد الولي وسمعه وبصره - يد الله وسمعه وبصره ؛ فحينئذ طلب المدد من الولي والاستغاثة به - في الحقيقة طلب من الله تعالى واستغاثة به .

وتشبثوا لإثبات هذا الإلحاد والزندقة وجواز الاستغاثة بالأموات ، وطلب الغوث والمدد منهم بناء على أن الولي عين الله ، أو أن الله حل في الولي - بحديث قدسي :

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( إن الله قال : (( « من عادى لي ولياًَ فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ، وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته - كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش »

« بها ، ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه » )) ...) .

ويجدر بي أن أسوق بعض أقوال القبورية في تقرير هذه الشبهة الكفرية الإلحادية ، وتشبثهم بهذا الحديث الصحيح بعد تحريفهم له تحريفاً معنوياً ، باطنياً ، قرمطياً ، زندقياً ، ليثبتوا الحلول والاتحاد أولاً ، ثم يبنوا عليه دعاء الأموات عند الكربات :

1 - قال ابن جرجيس ، أحد أئمة القبورية العراقية (1299هـ) :

(إن الحديث القدسي الوارد في أولياء الله تعالى كما في البخاري :

(( « لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها » ...)) - مما يدل على أن الطلب من أولياء الله طلب من الله تعالى .) .

2 - وقال أيضاً : ((والاستعانة بأنبياء الله وأوليائه استعانة بالله في الحقيقة) .

3 - وقد نقل العلامة شكري الآلوسي عن صوفية عصره كلاماً أصرح من هذا في التشبث بهذا الحديث لجواز الاستعانة بغير الله .

4 - والصوفية القبورية الملاحدة يستدلون بهذا الحديث ويقولون :

(إن العبد في القرب الأول [أي القرب بالفرائض] يصير جارحة لله

جل مجده ، والله سبحانه نفسه يكون جارحة لعبده في القرب الثاني [أي القرب بالنوافل ] ....) .

5 - ويقول ابن الفارض (632هـ) أحد كبار أئمة الملاحدة الزنادقة الوثنية الاتحادية :

فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن ... منادى أجابت من دعاني ولبت)

يعني هذا الغاوي الغوي : إن دعوت الله فقد دعوت الولي ، وإن دعوت الولي فقد دعوت الله ، لأن الله والولي شيء واحد ، ومن خبثه أنه عبر عن الله بالأنثى ! .

6 - وقال ابن عربي (638هـ) تشبثاً بهذا الحديث بعد تحريفه

تحريفاً قرمطياً * كفرياً اتحادياً وثنياً * :

أخبر محمد صلى الله عليه وسلم عن الحق تعالى :

(بأنه عين السمع ، والبصر ، واليد ، والرجل ، واللسان ، أي هو عين الحواس) .

7 - وقال عبد الكريم الجيلي (832هـ) أحد ملاحدة الصوفية الاتحادية

مستدلاًَ بهذا الحديث على كفره الاتحادي ، محرفاً له تحريفاً قرمطياً إلحادياً :

(وها هو سمع بل لسان أجل بدا ... لنا هكذا بالنقل أخبر شارع

فعم قوانا والجوارح كونه ... لساناً وسمعاً ثم رجلاً تسارع)

8 - وهكذا نرى الحلاج إمام هؤلاء الملاحدة الإلحادية * والزنادقة الاتحادية * (309هـ) ينفخ في بوق إلحاده وكير اتحاده قائلاًَ :

(يا عين عين وجودي يا مدى هممي ... يا منطقي وعباراتي وإيمائي

يا كل كلي ويا سمعي ويا بصري ... يا جملتي وتباعيضي وأجزائي)

9 - ونقل العلامتان : محمود الآلوسي (1270هـ) ، وحفيده شكري الآلوسي (1342هـ) عن الصوفية قولهم :

(إن الاستغاثة بالأولياء محظورة إلا من عارف يميز بين الحدوث والقدم ، فيستغيث بالولي لا من حيث نفسه ؛ بل من حيث ظهور الحق فيه ، فإن ذلك غير محظور ؛ لأنه استغاث بالحق حينئذ) .

10 - وقال هؤلاء الملاحدة الحلولية الاتحادية الوثنية - في تحريف قوله تعالى : { فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا } [النازعات :5] ، تحريفاً قرمطياً كفرياً حلولياً وثنياً :

(إن المراد بها قلوب الكاملين ، فإنهم إذا وصلوا إلى الحق - يتصفوا بصفات الله تعالى ، فيرجعوا من تدبير دعوة الحق إلى الخلق) .

11 - وبعض غلاة القبورية الصوفية الملاحدة الحلولية الاتحادية يزعمون ، مستدلين بهذا الحديث بعد تحريفهم له تحريفاً قرمطياً إلحادياً قبورياً وثنياً : أن الولي إذا وصل إلى هذا الحد الذي ذكر في هذا الحديث - يكون مسلوب الاختيار عن نفسه ، ويكون في قبضته تعالى ، وأن الله تعالى يتصرف بجميع أموره ، فحينئذ تضمحل ذاته في ذاته ، وصفاته في صفاته ، ويغيب عنه كل ما سواه ، فلا يرى في الوجود إلا هو ، وهذا ما يسمونه الفناء في الله ، أي الانسلاخ عن دواعي نفسه .

قلت :

قصدهم بهذه القرمطة الإلحادية أن الولي إذا صار سمع الله وبصره

ويده -تسلب عنه قواه البشرية ، ويعطى القوة الربوبية والألوهية ، فيستحق العبادة ، ولا سيما الاستغاثة به ، فإنه هو الله * أو حل فيه الله * ! .

12 - وإلى هذه يهدف حجة إسلام الجهمية والقبورية والصوفية في آن واحد : أبو حامد محمد بن محمد الغزالي (505هـ) بقوله :

وهل أنا إلا أنت ذاتاً ووحدة ... وهل أنت إلا نفس عين هويتي

فصرت إذا وجهت وجهي مصلياً ... فرائض أوقاتي فنفسي كعبتي

فصار صيامي لي ونسكي وطاعتي ... ونحري وتعريفي وحجي وعمرتي

وحولي طوافي واجب وخلاله است ... تلامي لركني من مناسك حجتي

وذكري وتسبيحي وحمدي وقربتي ... لنفسي وتقديسي وصفو سريرتي

ولو لم أؤد الفرض مني إلي لم ... يصح بوجه لي ولم تبر ذمتي

الجواب :

لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة الإلحادية الزندقية بعدة أجوبة ، أذكر منها :

الجواب الأول :

أن القبورية قد برهنوا بهذه الشبهة كتابة ببنانهم * وشهدوا على أنفسهم إقراراً بلسانهم * بأنهم أهل الحلول والاتحاد * اللذين هما من أقبح أنواع الزندقة ، وأشنع أصناف الإلحاد * لأن هذه الشبهة مبنية على الحلول والاتحاد * وهما من أعظم أنواع الكفر ، وأقبح الإلحاد * ولكن زندقة الاتحاد أعظم من إلحاد الحلول .

فالقبورية في التشبث بهذه الشبهة بناء على تحريفهم هذا الحديث الصحيح تحريفاً باطنياً * قرمطياً حلولياً اتحادياً إلحادياً كفرياً وثنياً * لجواز الاستغاثة بالأموات عند الكربات * وعبادتهم أنواعاً من العبادات * - مسايرون للملاحدة الزنادقة الإلحادية * الاتحادية الصوفية الوثنية * :

أمثال : الحلاج (309هـ) .

وابن الفارض (632هـ) .

وابن عربي (638هـ) .

وابن سبعين (669هـ) .

والقونوي (673هـ) .

والتلمساني (690هـ) .

وأمثالهم من الذين نعقوا بالزندقة ، ونهقوا بالإلحاد * ونقوا بالاتحاد * محرفين لنصوص الكتاب والسنة تحريفاً باطنياً ، قرمطياً ، لإثبات إلحادهم الاتحادي ، ومن تلك النصوص التي حرفوها تحريفاً باطنياً * قرمطياً ، إلحادياً ، اتحادياً * - هو هذا الحديث الصحيح ، ليتذرعوا بذلك إلى عبادة الأموات * والاستغاثة بهم عند الكربات * .

وبعد هذا التمهيد أذكر نصوص علماء الحنفية في عدة مطالب لتحقيق هذا الجواب * وبيان أن القبورية على طريقة الحلولية والاتحادية في هذا الباب * .

****

المطلب الأول

في ذكر زندقة رءوس هؤلاء الملاحدة على سبيل الإجمال

قال الإمام تاج الدين أبو محمد أحمد بن عبد القادر القيسي ، المعروف بابن مكتوم ، أحد كبار الحنفية (749هـ) ، والعلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) - نقلاً عن أبي حيان الأندلسي (754هـ) في بيان زندقة هؤلاء الصوفية الاتحادية الحلولية الإلحادية - واللفظ للثاني :

(إن من النصارى من قال : إن المسيح هو الله ، ومنهم من قال : هو ابن الله ، ومنهم من قال : هو ثالث ثلاثة ،

وتقدم أنهم ثلاث طوائف : ملكانية ، ويعقوبية ، ونسطورية ،

وكل منهم يكفر بعضهم بعضاً .

ومن بعض اعتقادات النصارى استنبط من تسربل بالإسلام ظاهراً ، وانتمى إلى الصوفية - حلول الله تعالى في الصور الجميلة .

ومن ذهب من ملاحدتهم إلى القول بالاتحاد والوحدة :

كالحلاج [309هـ] ، والشوذي ، وابن أحلى ، وابن عربي

[638هـ] ، المقيم بدمشق ، وابن الفارض [632هـ] ، وأتباع هؤلاء ، كابن سبعين [669هـ] ، والششتري تلميذه [668هـ] ، وابن مطرف المقيم بمرسية ، والصفار المقتول بغرناطة ،

وابن لباج ، وابن الحسن المقيم كان بلورقة ، وممن رأيناه يرمى بهذا المذهب الملعون ، العفيف التلمساني (690هـ) ، وله في ذلك أشعار كثيرة ، وابن عياش المالقي الأسود الأقطع المقيم كان بدمشق ، وعبد الواحد المؤخر المقيم كان بصعيد مصر ، والأيكي العجمي الذي

كان تولى المشيخة بخانقاه سعيد السعداء بالقاهرة من ديار مصر ، وأبو يعقوب بن مبشر ، تلميذ الششتري المقيم كان بحارة زويلة

في القاهرة ، والشريف عبد العزيز المنوفي ، وتلميذه عبد الغفار القوصي .

وإنما سردت أسماء هؤلاء - نصحاً لدين الله - يعلم الله تعالى ذلك - وشفقة على ضعفاء المسلمين ؛ ليحذروا منهم أشد من الفلاسفة الذين كذبوا الله ورسله ، ويقولون بقدم العالم ، وينكرون البعث .

وقد أولع جهلة ممن ينتمي للتصوف بتعظيم هؤلاء ، وادعائهم أنهم صفوة الله تعالى وأولياؤه .

والرد على النصارى والحلولية والقائلين بالوحدة هو من علم أصول الدين) .

***

المطلب الثاني

في ذكر أمثلة زندقة هؤلاء الحلولية والاتحادية

ونماذج كفريات هؤلاء الملاحدة على سبيل التفصيل

بعد هذا الإجمال أود أن أذكر أمثلة لكفريات بعض سلاطين هؤلاء الملاحدة الوثنية * وأساطين هؤلاء الزنادقة الاتحادية * على لسان علماء الحنفية ، فأقول :

أولاً : الحلاج :

1 - أما الحلاج (309هـ) فكان لغلوه في الزندقة والإلحاد والاتحاد يقول :

(أنا الحق) ، (وما في الجبة إلا الله) .

2 - ومثل هذا قولهم :

(أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا

فإذا أبصرتني أبصرته ... وإذا أبصرته أبصرتنا)

3 - ومن كفرياته الاتحادية قوله :

جحودي لك تقديسي ... وعقلي فيك منهوس

فما آدم إلاكا ... وما في الكون إبليس)

4 - والحلاج كان ادعى الربوبية وصار يقول لأصحابه :

(أنت آدم ، ولهذا : أنت نوح ، ولهذا : أنت محمد ) .

5 - وكان يدعي التناسخ ، وكان كافراً ، خبيثاً ، ساحراً ، مشعوذاً ، مموهاً ، سيئ الاعتقاد .

6 - وكان يقول : (من نظف بيتنا وصلى فيه كذا وطاف به كذا ، وتصدق بكذا - أغناه عن الحج) .

فاتفق علماء بغداد على كفره ، وأجمعوا على قتله وصلبه .

قلت :

هذا كله مبني على اعتقاده الإلحادي الاتحادي الكفري الزندقي .

7 - وكان هذا الملحد يقول : أنا الحق ، وكان يعتقد صحة كل مذهب من أهل الملل والنحل .

8 - وادعى النبوة ، كما ادعى حلول الله تعالى في خلقه .

9 - وأحل اللواطة ، وكان مردوداً .

10 - ومن كفرياته الصريحة ، وزندقته الفضيحة ، قوله القبيح :

(كفرت بدين الله والكفر واجب ... لدي وعند المسلمين قبيح)

قلت :

وكان الشيخ نقشبند (691هـ) إمام النقشبندية الوثنية القبورية ، وإمام

المجددية ، والديوبندية ، والتبليغية ، والفنجفيرية ، من أكثر الحنفية - يستشهد بهذا البيت الكفري ويتمثل به مستدلاً به ....

ثانياً : ابن الفارض :

وأما ابن الفارض (632هـ) فكان يقول بمثل قول بعضهم :

1 - (ما في الجبة إلا الله ، وأنا الحق) .

2 - وقال في تائيته الكبرى المسماة بنظم السلوك ، جاهراً بالاتحاد * صارخاً بالإلحاد * :

(لها صلواتي في المقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لي صلت

كلانا مصل , واحد ناظر إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة

وما كان لي صلى سواي ولم تكن ... صلاتي لغيري في أدا كل ركعة)

3 - وقال ابن الفارض أيضاًَ صارخاً بزندقته الإلحادية * الاتحادية الوثنية * :

وما زلت إياها وإياي لم تزل ... ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت

إلي رسولاً كنت مني مرسلاً ... وذاتي بآياتي علي استدلت

فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن ... منادى أجابت من دعاني ولبت

إلى أمثال هذا الكلام .

4 - ولهذا كان القائل عند الموت ينشد [وهو ابن الفارض نفسه] :

(إن كان منزلتي في الحب عندكم ... ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي

أمنية ظفرت نفسي بها زمناً ... واليوم أحسبها أضغاث أحلامي)

فإنه كان يظن أنه هو الله ، فلما حضرت ملائكة الله لقبض روحه - تبين له بطلان ما كان يظنه .

ثالثاً : ابن عربي :

وأما ابن عربي (638هـ) فمن أمثلة كفره الاتحادية * ونماذج زندقته الإلحادية * :

1 - ما نقل عنه الإمام ابن أبي العز (792هـ) ، والعلامة شكري الآلوسي (1342هـ) :

أنه كان يعتقد : أن كل كلام : من شرك ، وكفر ، وكذب ، وزور ، وقبيح ، نثراً كان أو شعراً - هو كله كلام الله تعالى .

وفي ذلك يقول هذا الملحد :

(وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره أو نظامه)

2 - ومن نماذج كفره ما نقله عنه الإمام ابن أبي العز (792هـ) ، والعلامة شكري الآلوسي : من أنه كان يزعم أن الولي أفضل من النبي .

وفي ذلك يقول هذا الزنديق :

(مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي)

3 - ولقد اشتهر إلحاد ابن عربي وزندقته الاتحادية * وكفرياته الإلحادية الوثنية * .

فوقف له الشيخ أبو عبد الله علاء الدين محمد بن محمد بن محمد البخاري الحنفي (841هـ) بمرصاد ، فنادى بتكفيره ، وتجرد لكشف الأستار عن أسراره الإلحادية * وزندقته الاتحادية * وألف في الرد عليه كتابه : ((فاضحة الملحدين وناصحة الموحدين)) .

كما ألف في الرد عليه العلامتان : الثاني التفتازاني فيلسوف الماتريدية (792هـ) * والعلامة القاري (1014هـ) أحد كبار الحنفية * .

4 - وقد وصفه الإمام ابن أبي العز (792هـ) بأنه إمام الاتحادية ، وذكر عنه أنه قال :

إن أهل النار يتلذذون بها .

5 - وذكر الشيخ أحمد السرهندي الملقب عند الحنفية بالإمام الرباني مجدد الألف الثاني (1034هـ) شيئاً كثيراً من كفريات هذا

الملحد الإلحادية * وزندقته الاتحادية * .

6 - وقد رفع السؤال إلى المفتي الإمام شيخ الإسلام سعدي أفندي الجلبي (945هـ) وهو استفتاء فيه ذكر أمثلة لكفريات ابن عربي الاتحادية * وزندقته الإلحادية * الموجودة في فصوص كفر هذا الملحد .

وفي آخر هذا الاستفتاء بعد ذكر كفرياته ما نصه :

(أفتونا مأجورين بالوضوح والبيان * كما أخذ الله الميثاق للبيان * لأن الملحدين بسبب هذا الكتاب [فصوص الكفر لابن عربي الملحد] يجعلون الكفر إيماناً * والجهل عرفاناً * والشرك توحيداً والعصيان طاعة ، لا يستحق العاصي عنده وعيداً * ولا فرق عنده بين عبادة الصنم و [بين عبادة] الصمد ، وأن من سجد للصنم هو عنده أعظم ممن كفر به ...).

فأفتى شيخ الإسلام المذكور قائلاً :

(الجواب يرحمك الله تعالى : الله يقول الحق ، وهو يهدي السبيل ، ما تضمنته هذه الصحيفة * من الكلمات الشنيعة السخيفة * يأباه المعقول * وترده النقول * بعضه سفسطة ، وبعضه كفر وزندقة ، ومروق من الدين * وخرق لإجماع المسلمين بل المليين* وإنكار لما هو من ضروريات الإسلام * وإلحاد في كلام المهيمن العلام * فمن صدقه ، بل تردد ، أو شك فيه - فهو كافر بالله العظيم ،

وإن أصر عليه ولم يتب يقتل) .

7 - وقال الإمام صفي الدين ، أحد كبار علماء الحنفية (1200هـ) ، والعلامة شكري الآلوسي (1342هـ) في بيان بعض إلحاد ابن عربي الاتحادي :-

في فصوصه وفتوحاته أشياء تقتضي الكفر .

8 - وقد كفره جماعة من العلماء ، منهم : الحافظ ابن حجر ؛ وقد باهل أحد أتباعه فقتله الله ، وقال السراج البلقيني : هو كافر .

وقد صنف بعض العلماء جزءًا حافلاً جمع فيه كلاماً في ذم ابن عربي .

9 - فمما قال في الجزء المذكور :

إن الذهبي قال في العبر : إن ابن عربي قدوة القائلين بوحدة الوجود ، وقد اتهم بأمر عظيم .

10 - وقال في تاريخ الإسلام : إن ابن عربي سمع من طيش دماغه خطاباً اعتقده من الله ولا وجود له في الخارج .

11 - وقال في الميزان : إن ابن عربي تصوف تصوف الفلاسفة وأهل الوحدة ، وقال أشياء منكرة عدها طائفة من العلماء مروقاً وزندقة .

12 - الحاصل : أن ابن عربي ومن على شاكلته ضلال جهال خارجون عن طريقة الإسلام ؛ فهم باسم الزندقة أحق .

13 - وقال العلامة القاري (1014هـ) مبيناًَ بعض كفريات ابن عربي الاتحادية الإلحادية : وأما ما ذكره المولوي الجامي : أن معنى ((لا إله إلا الله )) * :

ليس شيء مما يدعي إلهاً غير الله * -

فهو غير صحيح * بل كفر صريح * .

محصله : كل ما يدعى إلها فهو إله ،أي كل شيء إله .

وهذا كقول ابن عربي :

من عبد الصنم فقد عبد الصمد ! .

نعوذ بالله من هذا الباطل ، وإنما هو من مشرب الوجودية .

14 - وهذا الملحد قد جوز إمامة النساء للرجال .

15 - وقال بإيمان فرعون .

16 - وكان يقول بقدم العالم ، ولا يحرم فرجاً .

17 - وفصوصه وفتوحاته فيهما كفر صريح .

قلت : هذا كله مبني على عقيدته الإلحادية الاتحادية * الكفرية الوثنية * .

18 - وقال العلامة نعمان الآلوسي :

(وقال العلامة القاري أيضاً : ثم اعلم أن من اعتقد حقيقة عقيدة ابن عربي ، فكافر بالإجماع * من غير نزاع *) .

19 - إن من شك في كفر اليهود والنصارى وطائفة ابن عربي فهو كافر .

20 - ومن كفرياته الاتحادية * قوله السافر عن الوثنية * :

(العبد رب والرب عبد ... فليت شعري من المكلف)

21 - ولقد قال هذا الملحد ومن على شاكلته :

إن عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله سبحانه .

لأن الله تعالى قضى أن لا تعبدوا إلا إياه ، فما وقع إلا ما قضى ، فلم يعبد إلا الله .

22 - وأن قوم نوح كانوا مصيبين محقين في قولهم :

{ لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا } [نوح : 23] ؛ لأنهم لو تركوا عبادتهم لتركوا عبادة الله ؛ لأن لله في كل معبود وجهاً .

23 - والعارف يعرف من يعبده ، في أي صورة ظهر ، أما الجاهل : فيقول : هذا حجر ، وهذا شجر ، وأما العارف فيقول : هذا محل إلهي يجب تعظيمه ، فلا يقصر معبوده في شيء .

24 - لأن النصارى قد خصصوا معبودهم في شيء ، ولم يعمموا فأخطأوا ، وأما العارف فهو يعبد كل شيء ، والله تعالى أيضاً يعبد كل شيء ؛ لأنه ما ثم إلا هو ، وما ثم غيره ، واسمه العلي ، ولكن عماذا ؟ وما ثم إلا هو ! وعلى ماذا ؟ وما ثم غيره ! فالمسمى محدثات ، وهي علية لذاتها ، وليست إلا هو .

25 - فالله ما نكح إلا نفسه ، وما ذبح إلا نفسه [فهو الناكح المنكوح ؟ !] .

والمتكلم هو عين المستمع .

26 - وإن موسى إنما عتب على هارون ؛ لأن هارون قد نهاهم عن

عبادة العجل ، مع أنهم لم يعبدوا إلا الله تعالى ، فكان موسى أعلم من هارون ؛ لأن موسى علم أنهم لم يعبدوا إلا الله ، وأن هارون ظن أنهم عبدوا العجل ، وأن أعلى ما عبد فهو الهوى ، وأن كل من اتخذ إلهه هواه - فما عبد إلا الله .

27 - وإن فرعون كان من أعظم العارفين .

28 - وإن السحرة قد صدقوه في قوله :

{ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } [النازعات : 24] ......

29 - ومن أشنع كفره الإلحادي الاتحادي :

أنه يمدح الكفار مثل قوم نوح ، وهود ، وفرعون ، وغيرهم ، وبعكس ذلك ينتقص الأنبياء : كنوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وهارون ، وغيرهم ، صلوات الله وسلامه عليهم .

30 -كما أنه يذم شيوخ المسلمين ، وبعكس ذلك يمدح المذمومين ، كالحلاج ونحوه من الملاحدة الاتحادية * والزنادقة الحلولية القبورية الوثنية * .

31 -بل هذا الملحد لغلوه في الإلحاد والاتحاد - أنكر على الجنيد قوله :

(التوحيد : إفراد الحدوث عن القدم) ؛ حيث بين الجنيد الفرق بين الخالق والمخلوق ، وأما هذا الملحد [ ابن عربي ] فلا يرى الفرق بينهما ، فلذا أنكر قول الجنيد ، وقال له في مخاطبته الخيالية الشيطانية * [الوهمية الوثنية] * :

(يا جنيد : هل يميز بين المحدث والقديم إلا من يكون غيرهما ؟) ؛ لأن قول هذا الملحد أن وجود المحدث عين وجود القديم .

32 - فقد قال في فصوصه :

(ومن أسمائه الحسنى : ((العلي)) على من ؟ وما ثم إلا هو ، وعماذا ؟ وما هو إلا هو ؛ فعلوه لنفسه ، وهو عين الموجودات ، فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها ؛ وليست إلا هو ) .

33 - فيقال لهذا الملحد : ليس من شرط المميز بين الشيئين بالعلم والقول - أن يكون ثالثاًَ غيرهما ؛ فإن كل واحد من الناس يميز بين نفسه وبين غيره ، وليس هو ثالث ؛ فالعبد يعرف أنه عبد ، ويميز بين نفسه وبين خالقه ،

والخالق جل جلاله يميز بين نفسه وبين مخلوقاته ، ويعلم أنه ربهم وأنهم عباده .

34 - ومن كفرياته الاتحادية * وتأويلاته الباطنية * وتحريفاته القرمطية لكتاب الله عز وجل ، بحيث جعل الكفار أولياء الله ، وجعل النار عذباً - ما ذكره العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) بقوله :

إن هذا الملحد الاتحادي الزنديق القرمطي المحرف الباطني ، قال في تفسير قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ } [البقرة : 6-7] :

إن الذين كفروا : ستروا محبتهم ، سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم استوى عندهم إنذارك وعدم إنذارك ؛ لما جعلنا عندهم ، لا يؤمنون بك ولا يأخذون عنك ، إنما يأخذون عنا ، ختم على قلوبهم : فلا يعقلون إلا عنه ، وعلى سمعهم : فلا يسمعون إلا منه ، وعلى أبصارهم غشاوة : فلا يبصرون إلا إليه ، ولا يلتفتون إليك ، وإلى ما عندك ، بما جعلناه عندهم وألقيناه إليهم ، ولهم عذاب : من العذوبة . عظيم ) .

35 - وقد وصل الكفر الاتحادي بهذا الملحد الزنديق إلى حد - وصف الله عز وجل ورماه جل وعلا بجميع الأفعال القبيحة الموجودة في المخلوقات ، من الكفر ، والشرك ، والزنى ، واللواط ، والكذب ، والخيانة ، والسرقة ، وغيرها من الفسق ، والفجور ؛ لأن الله عند هذا الخبيث هو بعينه المخلوقات ، والمخلوقات عنده بعينها هي الله سبحانه وتعالى .

36 - وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) مبيناً بعض كفريات ابن عربي الاتحادية :

(وفي كتاب ((فصوص الحكم)) ما تقشعر به جلود المؤمنين .

37 - قال شرف الدين إسماعيل المعروف بابن المقري ، من قصيدة [يرد فيها على ابن عربي الملحد الاتحادي الإلحادي] :

فقال : بأن الرب والعبد واحد ... فربي مربوب بغير تغاير

وأنكر تكليفاً إذ العبد عنده ... إله وعبد , فهو إنكار حائر

وخطأ إلا من يرى الخلق صورة ... وهوية لله عند التناظر

وقال : يحل الحق في كل صورة ... تجلى عليها وهو إحدى المظاهر

وأنكر أن الله يغني عن الورى ... ويغنون عنه لاستواء المقادر

إلى آخر ما قال ، والقصيدة طويلة في ديوانه .

38 - وهو الذي قال ما قال الشيخ محيي الدين [ ابن عربي الزنديق] الذي يقول :

وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره أو نظامه

والمقصود أن من يذهب مذهب الغلاة من أهل القبور فريقان :

الفريق الأول : من يقول بالاتحاد والحلول ، .... الفريق الثاني الجهال ..) .

رابعاً : ابن سبعين :

وأما ابن سبعين (669هـ) فقد وصل في الزندقة والإلحاد والاتحاد إلى حد - :

1 - ضاقت عليه بلاد الإسلام بما رحبت ، فقد كان يريد الذهاب إلى الهند ، وقال : إن أرض الإسلام لا تسعه ؛ لأن الهند مشركون يعبدون كل شيء حتى النباتات والحيوانات ،

وهذا حقيقة قول الاتحادية .

2 - وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) في بيان بعض مخازي ابن سبعين :

(وهؤلاء الذين يقولون بالوحدة - يقدمون الأولياء على الأنبياء ، ويذكرون أن النبوة لم تنقطع ، كما يذكر ابن سبعين ونحوه .

3 - ويجعلون المراتب ثلاثاً :

يقولون : العبد أولاً يشهد طاعة ومعصية ، ثم طاعة بلا معصية ، ثم لا طاعة ولا معصية ) ، ثم قال في الرد على هذا الكفر البواح :

(الشهود الأول - وهو الشهود الصحيح - هو الفرق بين الطاعات والمعاصي .

4 - وأما الثاني : - فيريدون به شهود القدر ، كما أن بعض هؤلاء يقول :

5 - ((أنا كافر برب يعصى)) .....

6 - ويقول شاعرهم :

((أصبحت منفعلاً لما تختاره ... مني ففعلي كله طاعات))

....)

7 - ثم قال : والمرتبة الثالثة : أن لا يشهد طاعة ولا معصية ، فإنه يرى أن الوجود واحد ، [أي الخالق والمخلوق شيء واحد] ، وعندهم أن هذا هو غاية التحقيق ، والولاية لله ،

وهو في الحقيقة غاية الإلحاد في أسماء الله تعالى وصفاته ، وغاية العداوة لله .

8 - فإن صاحب هذا المشهد - يتخذ اليهود والنصارى وسائر الكفار - أولياء ...؛ ولا يتبرأ من الشرك والأوثان ؛ فيخرج عن ملة إبراهيم الخليل) عليه السلام .

خامساً : القونوي :

وأما صاحب ابن عربي : الصدر الرومي القونوي (673هـ) :

1 - فهو أبعد عن الشريعة والإسلام ؛ لأن حقيقة قوله في الإلحاد والاتحاد : أنه ليس لله وجود أصلاً .

2 - وكان هو وشيخه ومن على شاكلة هؤلاء يصرحون بأن ذات الكلب والخنزير والبول والعذرة عين وجود الله تعالى .

سادساً : التلمساني :

1 - وأما الفاجر التلمساني الملقب بالعفيف (690هـ) -

2 - فهو أخبث القوم ، وأعمقهم كفراً .

3 - فما ثم - عنده - غير ، ولا سوى بوجه من الوجوه .

4 - وكان إباحياً يستحل جميع المحرمات.

5 - وكان يقول : (البنت ، والأم ، والأجنبية ، شيء واحد ، ليس في ذلك حرام علينا .

6 - وإنما هؤلاء المحجوبون [يعني علماء الإسلام ] قالوا : حرام ؛ فقلنا : حرام عليكم) .

7 - وكان يقول : (القرآن كله شرك ليس فيه توحيد .

8 - وإنما التوحيد في كلامنا ) .

9 - وكان يقول : (أنا ما أمسك شريعة واحدة) .

10 - وكان إذا أحسن القول يقول :

(القرآن يوصل إلى الجنة ، وكلامنا يوصل إلى الله تعالى) .

11 - وله ديوان شعر في صناعة الشعر جيد ولكنه كما قيل : (لحم خنزير في طبق صيني) .

12 - وقد صنف التلمساني للنصيرية عقيدة ، وحقيقة أمرهم : أن الله تعالى بمنزلة البحر ، والموجودات

بمنزلة أمواجه .

13 - ولم أر قط أحداً فيهم كفر مثل كفر التلمساني ، وآخر يقال له البلباني من مشائخ شيراز .

14 - وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) مبيناً زندقتهم الإلحادية الاتحادية :

(وأما هؤلاء الملاحدة فيزعمون ما كان يزعمه التلمساني منهم ، وهو أحذقهم في إلحادهم .

15 - لما قرئ عليه ((الفصوص)) [نصوص الكفر لابن عربي الملحد] - قيل له : القرآن يخالف قولكم .

16 - فقال : (( القرآن كله شرك ، وإنما التوحيد في كلامنا )) .

17 - فقيل له : إذا كان الوجود واحداً - فلم كانت الزوجة حلالاً والأخت حراماً ؟ قال : ((الكل عندنا حلال ، ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا - حرام ، فقلنا : حرام عليكم)) .

18 - وهذا مع كفره العظيم تناقض ظاهر ؛ فإن الوجود إذا كان واحداً فمن المحجوب ؟ ومن الحاجب ؟

19 - ولهذا قال بعض شيوخهم لمريده :

((من قال لك : إن في الكون سوى الله فقد كذب)) ،

فقال له مريده : فمن هو الذي يكذب ؟

20 - وقالوا لآخر : ((هذه مظاهر)) ، فقال لهم : المظاهر غير الظاهر أم هي هو ؟ فإن كانت غيرها - فقد قلتم بالتثنية ، وإن كانت هي إياها - فلا فرق ) .

21 - وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) أيضاً :

(وهؤلاء الاتحادية يقولون ما يقوله التلمساني :

إنه ثبت عندنا بالكشف ما يناقض صريح العقل ، ويقولون : من أراد التحقيق - فليترك العقل والشرع ) .

22- ثم قال في الرد على كفرهم هذا :

ومعلوم أن كشف الأنبياء أعظم وأتم من كشف غيرهم ، وخبرهم أصدق من خبرهم ؛ والأنبياء صلوات الله عليهم يخبرون بمجازات العقول لا بمحالات العقول ، ولا يمكن أن يكون في خبرهم ما يناقض العقل ؛ لامتناع تعارض الدليلين القطعيين ، سواء كانا عقليين أو سمعيين ، أو أحدهما سمعياً والآخر عقلياً .

23- فكيف يترك العقل والشرع لكشف هؤلاء المتخيلين * الذين يظنون تلبيسات الشياطين * أنها من كرامات الصالحين *

سابعاً : البلباني :

1 - وآخر يقال له البلباني من مشائخ شيراز - .

كفره مثل كفر التلمساني .

2 - فمن شعر هذا البلباني :

وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه عينه

3 - ومن قوله الاتحادي الكفري :

وما أنت غير الكون بل أنت عينه ... ويفهم هذا السر من هو ذائقه

4 - ومن كفرياته الصريحة قوله :

وتلتذ إن مرت على جسدي يدي ... لأني في التحقيق لست سواكم

5 - ومن زندقته الاتحادية قوله :

وما البحر إلا الموج لا شيء غيره ... وإن فرقته كثرة المتعدد

ثامناً : الجيلي (832هـ)

1 - ذكر العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) : أن عبد الكريم الجيلي (832هـ) لغلوه في إلحاده الاتحادي - قد حرف قوله تعالى :

{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تحريفاً قرمطياً * إلحادياً ، كفرياًَ ، اتحادياً * بأن معناه : أن محمداً صلى الله عليه وسلم بعينه هو الله أحد ؛ فضمير ((هو)) يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

2 - ثم قال العلامة الآلوسي في الرد على هذا الملحد الزنديق الإلحادي الاتحادي :

(وهل هذا من الشطحات والسكر * أم من الضلالات والكفر *) ؟

*****

المطلب الثالث

في الكلام على هؤلاء

الملاحدة الإلحادية القبورية الوثنية عامة

1 - قال العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) في بيان بعض فضائح هؤلاء الوثنية عامة :

وهؤلاء الملاحدة الزنادقة ، الاتحادية * منهم ، والحلولية الإلحادية * - ظهورهم أكبر أسباب ظهور التتار ، واندراس شريعة الإسلام ، وأن هؤلاء مقدمة الدجال الأعور الكذاب ، الذي يزعم أنه هو الله ؛ فالدجال عند هؤلاء مثل فرعون من كبار العارفين ، وأكبر من الرسل بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ ولهذا كان سلف الأمة وسادات الأئمة يرون كفر الجهمية [الحلولية منكري علو الله على خلقه وفوقيته على عباده ، القائلين بأن الله في كل مكان] - أعظم من كفر اليهود ؛ كما قال عبد الله بن المبارك ، والبخاري ، وغيرهما ، وإنما كانوا يلوحون تلويحاً ، وقل أن كانوا يصرحون بأن ذاته في كل

مكان ، وأما هؤلاء الاتحادية - فهم أخبث وأكفر من أولئك الجهمية ، وكان السلف والأئمة أعلم بالإسلام وبحقائقه ، فكانوا يعرفون سر أقوال هؤلاء الملاحدة وينفرون منها ؛ ولذا قال بعضهم :

(متكلمة الجهمية لا يعبدون شيئاً ، ومتعبدة الجهمية يعبدون كل شيء ، وذلك أن المتكلمين من الجهمية المعطلة ينفون صفات الله تعالى ويصفونه بصفات العدم [بل بصفات الممتنع] ؛ فيقولون : إن الله ليس بكذا ، وليس بكذا : [أي إن الله لا فوق العرش ، ولا تحت العالم ، ولا اليمين ، ولا الشمال ، ولا الخلف ، ولا الأمام ] ؛ [فهؤلاء المتكلمون لا يعبدون شيئاً موجوداً ، بل يعبدون معدوماً ممتنعاً] ، أما الصوفية الاتحادية الملاحدة - فهم يزعمون أن الله هو كل شيء ، وكل شيء هو الله ، فيعبدون جميع المخلوقات والكائنات بما فيها الشمس ، والقمر ، والبشر ، والأوثان ، فيجمعون كل شرك يرتكبه أصناف المشركين في العالم كله ، وقد يجمع الرجل بين إلحاد المتكلمين وبين اتحاد هؤلاء الصوفية في آن واحد ، فينفي صفات الله تعالى معطلاً لها واصفاً ربه بصفات المعدوم

والممتنع على طريقة المتكلمين المعطلة نفاة الصفات ، فيعبد المعدوم بل الممتنع ، ومع ذلك يرى في الوقت نفسه : أن الله هو كل شيء ، وكل شيء هو الله ، على طريقة الصوفية الاتحادية الملاحدة ، فيعبد كل شيء ، وهكذا يتناقض فيجمع بين النقيضين .

فإذا قيل له : لم تجمع بين ، النقيضين إلى هذا الحد ؟ أين ذلك النفي من هذا الإثبات؟

قال في الجواب : ذلك وجدي ، وهذا ذوقي ! ! .

فيقال لهذا الضال : كل ذوق ووجد لا يطابق الاعتقاد - فأحدهما أو كلاهما باطل .

وهؤلاء الملاحدة لو سلكوا طريق الأنبياء والمرسلين الذين أمروا بعبادة الله تعالى وحده لا شريك له ، ووصفوه بما وصف به نفسه وبما وصفته به رسله ، واتبعوا طريق أئمة السنة * سلف هذه الأمة * - لسلكوا طريق الهدى ووجدوا برد اليقين * وقرة العين * ؛ فإن الرسل جاءوا بإثبات مفصل ونفي مجمل ؛ بخلاف المعطلة فإنهم جاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل .

2 - وقال رحمه الله تعالى :

وهؤلاء الزنادقة الملاحدة الاتحادية - مع هذا الكفر البواح والاتحاد الصراح - يوهمون الناس أنهم مشائخ الإسلام ، وأئمة الهدى - الذين جعل الله لهم لسان صدق في الأمة ،

أمثال سعيد بن المسيب ، والحسن البصري ، وعمر بن عبد العزيز ، والأوزاعي ، والثوري ، وابن المبارك ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد .

3 - وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) :

ومن أشنع كفر هؤلاء الملاحدة زعمهم أن الولي أفضل من النبي ، ويقولون في ذلك :

(مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي)

ولذا يقول بعضهم : أنا أحتاج إلى محمد في علم الظاهر دون الباطن ، لأنه بعث بعلم الظاهر دون الباطن ، وهذا القائل كافر ، أكفر وأشر من اليهود والنصارى ، وكفر هؤلاء أعظم من كفر اليهود والنصارى ومشركي العرب .

4 - وقال رحمه الله تعالى :

وهؤلاء الملاحدة المدعون ولاية الله تعالى من أشنع كفرياتهم :

أن جبريل كان خيالاً في نفس النبي [صلى الله عليه وسلم ] ، ويزعمون أنهم أعلم من الأنبياء ، مع أن جبريل عليه السلام قد وصفه الله تعالى بأنه روح القدس ، ووصفه بصفات يتبين منها :

أنه من أعظم مخلوقات الله تعالى الأحياء العقلاء ، وأنه جوهر قائم لا خيال كما يزعم هؤلاء الملاحدة .

5 - وقال رحمه الله تعالى :

إن حقيقة أمر هؤلاء الملاحدة الوجودية الاتحادية - جحد الخالق ، فإنهم جعلوا وجود المخلوق هو وجود الخالق ، وحقيقة قول هؤلاء الزنادقة - قول فرعون الذي عطل الصانع ، لكن هؤلاء الملاحدة أضل من فرعون ؛ لأنهم زعموا أن فرعون هو الله ، بل جعلوا عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله ؛ بل قال هؤلاء الملاحدة المحرفين تحريف القرامطة :

إن السحرة لما عرفوا صدق قول فرعون ، وعلموا أنه ربهم الأعلى - قالوا لفرعون : صدقت { فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ } [طه : 72] .

6 - وقال رحمه الله تعالى :

ثم هؤلاء أنكروا حقيقة اليوم الآخر :

فجعلوا أهل النار يتنعمون كما يتنعم أهل الجنة ، فصاروا كافرين بالله واليوم الآخر وبملائكته وكتبه ورسله ، مع دعواهم أنهم خلاصة الخاصة من أهل الله ، وأنهم أفضل من الأنبياء ، مع أنهم أعظم الناس ولاية للشيطان ، فقد قيض الله تعالى لهم شياطين ، تخاطبهم وتتمثل لهم، فيظنون أنها ملائكة ، وأنها من كرامات الأولياء ، ومن هذه الأرواح الشيطانية -

ذلك الروح الذي يزعم ابن عربي صاحب الفتوحات : أنه ألقى إليه ذلك الكتاب ((الفتوحات)) ؛ مع أن هذه كلها من الأحوال الشيطانية ، وهم كانوا بها مناقضين للرسل صلوات الله عليهم.

7 - وقال رحمه الله تعالى :

ومن أشنع نماذج كفرهم الذي ارتكبوه بسبب القول بوحدة الوجود أنهم :

(يقولون بأن النصارى إنما كفروا - لما خصصوا المسيح بأنه هو الله ، ولو عمموا - لما كفروا ، وكذلك يقولون في عباد الأصنام :

إنما أخطئوا - لما اعتقدوا بعض المظاهر دون بعض ، فلو عبدوا الجميع - لما أخطئوا عندهم .

وهذا مع ما فيه من الكفر العظيم - فيه ما يلزمهم دائماً من التناقض ، لأنه يقال لهم : فمن المخطئ ؟ ) .

8 - وقال رحمه الله تعالى :

ومن كفرياتهم الإلحادية ، وهذيانهم الاتحادي الذي وصلوا بسببه إلى غاية التنقص بالله عز وجل ، ووصفهم له سبحانه ، ورميهم له جل وعلا بجميع الأفعال القبيحة

التي توجد في المخلوقات : من الكفر ، والشرك ، والزنى ، واللواط ، والكذب ، والخيانة ، والغش ، والسرقة ، وكل ما يتصور من القبائح ، وبعكس ذلك يصفون المخلوق بجميع الصفات الكمالية لرب العالمين ؛ وفي ذلك يقول العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) كاشفاً الأستار عن أسرار هؤلاء الملاحدة الكفرة الزنادقة :

(يقولون : إن الرب هو الموصوف بجميع النقائص التي يوصف بها المخلوق ، ويقولون : إن المخلوقات توصف بجميع الكمالات التي يوصف بها الخالق .... وهم مع هذا الكفر لا يندفع عنهم التناقض ؛ فإنه من المعلوم بالحس والعقل : أن هذا ليس هو ذلك) .

9 - ثم هؤلاء الملاحدة الزنادقة الحلولية الاتحادية * الوجودية القبورية الوثنية * - مع تلك الكفريات ، وهذه الزندقة التي ذكرت بعض أمثلتها الوثنيات * - يزعمون أنهم أولياء الله تعالى ، وأنهم أصحاب الكرامات * - وأنهم خلاصة الخاصة من أهل الله تعالى ؛ بل يزعمون أنهم أفضل من الأنبياء ، وأعلم منهم .

10 - وقال الشيخ أبو الحسن علي الندوي الحنفي في بيان كفريات هؤلاء الملاحدة الزنادقة من الصوفية الاتحادية ، أمثال ابن عربي (638هـ) ، مبيناً عقيدة وحدة الوجود لهؤلاء الملاحدة عامة ، ولا سيما ملاحدة الصوفية في الهند خاصة :

(وقد كانت هذه الصبغة الوجودية في القرن العاشر .... هي السائدة في الهند ؛ حتى كان الشعراء المتذوقون لهذه المعاني [العقائد الوجودية] يتغنون بهذه العقيدة ، ويساوون بين الكفر والإيمان ؛ بل قد يتعدون حدود ذلك إلى ترجيح الكفر على الإيمان ، وكان الناس يرددون أبياتاً معناها :

الكفر والإيمان قرينان ، فمن لم يتمتع بالكفر لم يتمتع بالإيمان .

ثم قيل في بعض الكتب شرحاً لهذا البيت ، وإيضاحاً لمعناه :

((ثبت من ذلك أن الإسلام في الكفر ، والكفر في الإسلام ؛ يعني : { تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ } [آل عمران : 27] ؛ فالمراد بالليل هو الكفر ، والمراد بالنهار هو الإسلام )) ....) .

قلت :

الحاصل : أن هذه الشبهة في الحقيقة من أعظم كفر هؤلاء الملاحدة الاتحادية * الصوفية ، الحلولية ، الزنادقة ، الإلحادية ، وقلدهم هؤلاء القبورية الوثنية * وقد عرفت بعض أمثلة كفرهم وإلحادهم وزندقتهم ، وارتدادهم الصريح عن دين الإسلام * وخروجهم على النقل والعقل والحس وإجماع الأنام ، ولا سيما الأئمة الأعلام * .

ومن تلك الطامات هذه الشبهة التي تشبث بها القبورية * بدون أن يعرفوا حقيقة هؤلاء الاتحادية * تمهيداً لجواز الاستغاثة بالأموات * عند إلمام الملمات * .

تعالى الله عما يشركون * وسبحانه عما يصفون * .

هذا هو الجواب الأول ، وأما الجواب الثاني فهو ما يلي :

الجواب الثاني :

أن هؤلاء القبورية الذين تشبثوا بهذا الحديث بعد تحريفهم له تحريفاً معنوياً * - قرمطياً حلولياً اتحادياً وثنياً * - هم مقلدون لهؤلاء الزنادقة الحلولية * الملاحدة الاتحادية * الذين ذكرت أمثلة كفرهم ونماذج زندقتهم في الجواب الأول :

1 - قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) في تحقيق هذا الجواب :

( والنبهاني الضليل * ليس من أولئك القبيل *

بل خسته مشهورة * ودناءته مذكورة * مع ما ضم إلى ذلك الضلال من العقائد الفاسدة في الإله عز اسمه ، حيث أنه ممن قلد القائلين بالحلول والاتحاد ، والغلو في النبي صلى الله عليه وسلم ؛ حتى اعتقد فيه أنه موجود في كل زمان ومكان ، والإغراء على دعاء غير الله , والالتجاء إلى ما سواه ، وكل ذلك من متفرعات القول بوحدة الوجود ؛ فإن القائلين بها لم يخطئوا عبدة الأصنام في عبادتهم ، وكل كلام الله تعالى ينطبق على كلام غيره ، فعندهم : أن ما تكلم به الإنسان نظماً ونثراً - فهو كلامه ، وعليه قول الشيخ محيي الدين [ ابن عربي الاتحادي الإلحادي] :

((وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه ))

فلا شك أن روح النبهاني الخبيثة من جنود هذه الأرواح ، وقد تعانقت مع أرواح الغلاة فائتلفت * وتناكرت مع أرواح الأصفياء الطاهرة القدسية فاختلفت * .

..... أفلا يستحي من هذا حاله ؟ * ووصفه ، أو اعتقاده ، وجهله وضلاله * أن يخاصم أهل الحق ، وفرسان العلم ، وأئمة الإسلام ، وبحور الفضل ، وورثة الأنبياء ، وهو ليس من قبيل هؤلاء الرجال * بل ولا ممن يعد في صف النعال * .

وقد حمله شيطانه على إلقاء نفسه في هذه المهالك * وقاده إلى هذه المعارك * .

وما أحسن ما قال القائل :

ولقد أقول لمن تحرش بالهوى ... عرضت نفسك للبلا فاستهدف)

2 - وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) مبيناً أن من تشبث النبهاني بقوله في الاستغاثة بالأموات عند الكربات : من الشعراء - هم من الحلولية أو الاتحادية * القبورية الوثنية * وأن القول بالحلول والاتحاد هو الذي سوغ له ولهم ذلك الشرك .

( الوجه السابع : أن الشعراء الذين أورد النبهاني من شعرهم في الاستدلال على جواز الاستغاثة بغير الله والاحتجاج على مشروعية دعاء من سواه سبحانه - بل كل من كان على هذا المنهج من الغلاة - فهو إما من القائلين بالحلول والاتحاد ، وهو الذي يسوغ له ذلك الدعاء والالتجاء ؛ إذ الكل واحد ؛ وعلى ذلك قول قائلهم :

((وتلتذ إن مرت على جسدي يدي ... لأني في التحقيق لست سواه))

وقال آخر :

((الرب عبد والعبد رب ... يا ليت شعري من المكلف))

وعندهم الوجود واحد ؛ ولذلك قال من قال : ((سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها ))؛ فإذا كان الله عين كل شيء [عند هذا الملحد] -

فله أن يعبد كل شيء ، إذ هي عين الحق . . . .

والمقصود : أن من يذهب مذهب الغلاة في أهل القبور - فريقان : .

الفريق الأول : من يقول بالاتحاد والحلول ؛ إذ لا فرق حينئذ بين الخالق والمخلوق ، ولا بين التراب ورب الأرباب ، ومنهم النبهاني الزائغ ؛ على ما أشعر كلامه واعتقاده في النبي صلى الله عليه وسلم ؛ مع ما هو عليه من المسلك ، وقد ذكرنا ذلك في أول الكتاب ، ومثله كثير ممن أورد شعره .

الفريق الثاني : الجهال بحقائق الدين ودقائقه ، وهم أكثر من نقل النبهاني شعره ؛ فهم لا يعلمون ما في كلامهم من المحاذير ، ولو نبهوا عليها لانتبهوا ؛ وهم في شعرهم وما قالوه في النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو - { يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } [ الكهف : 104 ] ، وقد رأينا من يعمل في قبور الأصفياء ما يعمل من المنكرات والأعمال التي لم تشرع - كلهم من العوام ، وإن كانوا في زي العلماء الأعلام ؛ فبطل جميع ما استشهد به من الشعر والحمد لله ) .

الجوابان : الثالث والرابع :

ما قاله الإمام محمود الآلوسي ( 1270 هـ ) ، وتبعه في ذلك حفيده

العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) ، والشيخ الرستمي :

(وقال بعض .... الصوفية :

((إن الاستغاثة بالأولياء محظورة إلا من عارف يميز بين الحدوث والقدم ، فيستغيث بالولي لا من حيث نفسه ؛ بل من حيث ظهور الحق فيه ، فإن ذلك غير محظور ؛ لأنه استغاثة بالحق حينئذ)) .

وأنا أقول : إذا كان الأمر كذلك ، فما الداعي للعدول عن الاستغاثة بالحق من أول الأمر ؟ .

وأيضاً إذا ساغت الاستغاثة بالولي من هذه الحيثية -

فلتسغ الصلاة والصوم وسائر أنواع العبادة له - من تلك الحيثية أيضاً ، ولعل القائل بذلك قائل بهذا ! بل قد رأيت لبعضهم ما يكون هذا القول بالنسبة إليه تسبيح ! ولا يكاد يجري قلمي أو يفتح فمي بذكره ! .

فالطريق المأمون عند كل رشيد قصر الاستغاثة والاستعانة على الله عز وجل ، فهو سبحانه الحي القادر العالم بمصالح عباده ؛ فإياك والانتظام في سلك الذين يرجون النفع من غيره تعالى) .

قلت :

هذا النص مشتمل على جوابين :

حاصل الجواب الأول :

أنكم أيها القبورية الحلولية في قولكم الكفري هذا - قد طولتم الطريق على أنفسكم ؛ فإنكم تزعمون جواز الاستغاثة بالولي من حيث ظهور الحق تعالى فيه ، وأن المقصود هو الاستغاثة بالله تعالى لا بالولي ؛ فهلا تستغيثون بالله تعالى مباشرة من أول الوهلة ، ولم تطولون الطريق إلى الله على أنفسكم ؟ .

فمثلكم - مع كفركم الحلولي - كمن يمسك أذنه اليمنى من جانب الأذن اليسرى من قفاه .

وقد قيل في أمثالكم من الحمقى ما قيل * مع كونكم من أهل الضلال والتضليل * :

(أرى الأمر يفضي إلى آخر ... يصير آخره أولا)

ولله در القائل الذي قال في أمثالكم السفهاء * أهل السفسطة والقرمطة مجانين العقلاء * :

(أقام يعمل أياماً رويته ... وشبه الماء بعد الجهد بالماء)

وأنتم أيها القبورية الحلولية في زعمكم هذا - كالماتريدية ، والأشعرية ، ونحوهم من الجهمية المعطلة المحرفة الذين يحرفون صفة ((الاستواء)) إلى ((الاستيلاء))؛ ثم يقولون : المراد من (( الاستيلاء )) ما هو اللائق بالله عز وجل ؛

فهلا قالوا ذلك في ((الاستواء)) - قبل تعطيلهم وتحريفهم - من أول الوهلة ؟ ؟ .

ولذلك نرى الإمام محمود الآلوسي (1270هـ) يقول مبيناً حماقتهم وتناقضهم وجهدهم الخاسر :

(وأنت تعلم أن المشهور من مذهب السلف في مثل ذلك تفويض المراد منه [أي الكيف لا المعنى] إلى الله تعالى ؛ فهم يقولون :

استوى على العرش على الوجه الذي عناه سبحانه .... وأن تفسير ((الاستواء)) بـ ((الاستيلاء)) - تفسير مرذول ؛ إذ القائل به لا يسعه أن يقول : ((كاستيلائنا)) ؛ بل لابد أن يقول : هو ((استيلاء)) لائق به عز وجل ، فليقل من أول الأمر : هو ((استواء)) لائق به جل وعلا) .

 

قلت : هذا إذا صدقناكم أنكم في استغاثتكم بالولي تقصدون الله عز وجل - مع أن هذا حلول بواح وإلحاد صراح ؛ وإلا فالأمر أدهى وأمر وأعظم * والبلية أشد وألهم وأعم * .

هذا هو حاصل الجواب الأول ، وهو الثالث بالنسبة إلى ما تقدم .

وحاصل الجواب الثاني :

أنكم أيها القبورية إذا جوزتم الاستغاثة بالولي من حيث إن الله تعالى قد حل فيه - فعليكم أن تجوزوا للولي الصلاة والصوم والزكاة وغيرها من العبادات من هذه الحيثية أيضاً ؛ واعبدوا الأولياء بجميع العبادات * كما تعبدونهم بالاستغاثة بهم عند

الملمات * - بحجة أن الله تعالى قد حل فيهم ، وإذا لم تعبدوا الأولياء بالصلاة والصوم والزكاة ونحوها من العبادات * فأحرى وأولى أن لا تستغيثوا بالأولياء عند الكربات * لأن الاستغاثة عند الكربات - مخ العبادات ولبها .

وهذا هو الجواب الرابع بالنسبة إلى ما تقدم .

الجواب الخامس :

ما قاله العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) ، مبيناً مفاسد هذه الشبهة وعواقبها الوخيمة ، كاشفاً عن تحريفهم القرمطي الوثني لهذا الحديث ، محققاً أن هؤلاء الزنادقة يقولون بتعدد الآلهة :

1 - (ومن العجيب أن كثيراً من الغلاة [في] أهل القبور الذين يندبون الصالحين ويستغيثون بهم ويستمدون منهم في السراء والضراء * والشدة والرخاء * - يعتقدون أن مدعويهم يسمعون الأصوات * سواء في ذلك من قرب ومن كان في أبعد الجهات * ، وإذا توجهت إلى أحدهم سهام الطعن - يقول : ألم تسمع قوله صلى الله عليه وسلم : (( « ما زال عبدي يتقرب إلي .... كنت سمعه الذي يسمع به » ....)) الحديث ، وقد حمله بعض أهل الزيغ على ما يدعونه : من أن العبد إذا لزم العبادة الظاهرة والباطنة - حتى يصفى من الكدورات -

أنه يصير في معنى الحق - تعالى الله عن ذلك - ..... [أي أن الولي صار مثل الله في السمع والبصر والعلم والقدرة والإعطاء والمنع] .

وقد تكلمت مع بعضهم يوماً حيث استمد بأحد شيوخه الذين أماتهم الله تعالى منذ مئين من السنين ؛ فزعم أنه يحضر روحه ، فينال الاستفاضة منه ، فقلت له : بينك وبين مدعوك هذا عدة فراسخ وأميال ، وربما كان مثلك في مائة بلدة وأكثر ، وكلهم استمدوا من هذا الشيخ في آن واحد ! فهل يسمعهم ويحضر عندهم ؟ ..... قال : نعم . فقلت : قال الله تعالى : { يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ } [النساء : 171 ، والمائدة : 77] . قال : هذا ليس من الغلو - وذكر الحديث السابق - قال : فإذا كان الله سمع المقربين - لا يستغرب مثل ذلك ؛ فإن الله لا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء .

قلت : فإذن تعددت الآلهة - تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً - حيث لم يبق فرق عند هؤلاء الزنادقة - بين الله سبحانه وبين من يدعون أنه كان يتقرب بالنوافل ....) .

2 - وقال رحمه الله أيضاًَ ، كاشفاً عن كفريات النبهاني (1350هـ) ،

وسلفه السبكي (756هـ) ، وغيره من غلاة القبورية قديماً وحديثاً ؛ مبطلاً شبهتهم في تحريف هذا الحديث تحريفاًَ وثنياً حلولياً ؛ محققاً أن هذا يتضمن الكفر البواح الصراح من القول بتعدد الآلهة :

(الوجه السابع : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، يعلم - عند النبهاني وأسلافه - ما كان وما يكون ، بل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، فما فائدة إعلامه بما أعلمه به السبكي [756هـ] ؟ :

((من أنه رجل شافعي المذهب ، أشعري العقيدة ! إلى آخر ما هذى ....)) ؛ وهذا الذي ذكرناه - من أن الغلاة يعتقدون في النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكرناه - هو مما لم يمكنهم إنكاره ؛ كيف والنبهاني - على ما أسلفنا - يقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم موجود في كل مكان * وكل زمان * وقد تكلمت يوماً مع أحد الغلاة الرفاعية الزنادقة ومشركيهم - إذا استغاث بالرفاعي (578هـ) قبل الشروع في ذكرهم - فقلت له : هل يسمع الآن نداءك الرفاعي - وهو في قبره في أم عبيدة ويمدك ؟ قال : نعم .

قلت : فإذا اتفق مثلك في بلاد كثيرة ومواضع متعددة ألوف مؤلفة ، وإن كانوا في أقطار شاسعة - [وكلهم ينادونه لدفع الضر مثلاً] فهل يسمعهم أحمد الرفاعي ويمدهم ويغيثهم ؟؟ قال : نعم .

قلت : هذا هو الغلو الذي نهى الله عنه في كتابه الكريم .

قال : ليس هذا من الغلو ، بل هو مقتفى الدين ؛ ألم تسمع حديث الأولياء ..... (( « كنت سمعه الذي يسمع به » ...)) الحديث ؟ فظن هذا الغبي الجاهل أن معناه ما يعتقده إخوانه أهل الزيغ والإلحاد : من أن العبد إذا لازم العبادة الظاهرة والباطنة - حتى يصفى من الكدورات - يصير في معنى الحق - تعالى الله عن ذلك ....

والمقصود : أن الغلاة يعتقدون أن الولي يعلم كما يعلم الله ، ويبصر كما يبصر الله ، ويسمع كما يسمع الله ! فكيف بالنبي صلى الله عليه وسلم - وهو سيد الأولياء والأصفياء ؟ فلا بد أنهم يعتقدون [فيه صلى الله عليه وسلم ] فوق اعتقادهم في الولي ....

إن السبكي أخطأ فيما فعله وأبان به جهله وغيه وضلاله ، هذا حال السبكي الذي أعده النبهاني المسكين سلاحاً في ميدان الطعن بشيخ الإسلام [728هـ] وجرحه ،

والحمد لله الذي جعل أعداء أهل الحق في كل عصر وزمان - من أجهل الناس وأضلهم وأغواهم ....

ومن العجائب أن السبكي - مع هذه ..... - قد جعله ابن حجر المكي [794هـ] من المجتهدين الاجتهاد المطلق .... وأنه إمام التحقيق والتدقيق ، وأنه ليس له نظير ولا قريب في كل فن .... فإذا جرى ذكر تقي الدين ابن تيمية وأصحابه من أهل الحديث الحفاظ المتقنين - شتمهم بكل ما خطر له ... فانظر إلى هذا التعصب وعدم الإنصاف ؛ وهذا أحد الأسباب التي أوجبت انحطاط الإسلام إلى ما نرى ، وأعظمها تطاول السفهاء ، وإناطة الأمر إلى غير أهله ، وعنده يترقب الخراب العام .

وابن السبكي [771هـ] الذي جرى مجرى أبيه [في مناصرة القبوريات] - لم يدع منقبة من مناقب الأولين والآخرين إلا وأثبتها لوالده !! ظناً منه أن الحقائق تخفى ، وما درى هذا المسكين أن الأمر كما قيل :

ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم

وفي المثل السائر : ((كل فتاة بأبيها معجبة)) .

والمقصود : أن قدح السبكي بمثل شيخ الإسلام - كصرير باب * وطنين ذباب * ولولا التقى لقلنا : لا يضر السحاب * نبح الكلاب* ).

الجواب السادس :

استئصال هذه الشبهة باجتثاث جذورها بإبطال تحريفهم لهذا الحديث ، وبيان معناه الصحيح :

1 - قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) مبيناً عدة معان لهذا الحديث :

والجواب من وجوه :

الأول : أن معناه : كنت سمعه وبصره في إيثاره لأمري وطاعتي .

والثاني : أن معناه : أنه لا يسمع إلا ما يرضيني ولا يرى إلا ما أمرته به .

والثالث : أن معناه : أني أعجل له مقاصده .

والرابع : أن معناه : كنت له في النصرة كسمعه وبصره ويده على عدوه .

والخامس : أنه على حذف المضاف والتقدير : كنت حافظ سمعه وبصره ، بمعنى : أنه لا يسمع ولا يبصر إلا ما يحل له .

والسادس : أن السمع مصدر بمعنى المسموع ، كالأمل بمعنى المأمول .

والمعنى : أنه لا يسمع إلا ذكري ، ولا ينظر إلا في عجائب ملكوتي ،

ولا يمد يده إلا فيما يرضيني .

والسابع : أن هذه عبارة عن ساعة إجابة دعائه .

أي أن الله تعالى يقضي حوائجه السمعية والبصرية واللمسية .

الحاصل : أن هذا الحديث كناية عن نصرة الله تعالى لعبده المطيع له ، وتأييده وإعانته .

ولهذا وقع في رواية : (( « فبي يسمع ، وبي يبصر ، وبي يبطش ، وبي يمشي » )) .

والمحصول : أنه لا دلالة في هذا الحديث على ما زعمته الاتحادية [ * القبورية الوثنية الحلولية *] ولا متمسك لهم فيه بوجه من الوجوه ، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً .

ومن أعظم الحجج الساطعة ، والبراهين القاطعة لدابر هؤلاء الاتحادية قوله صلى الله عليه وسلم في آخر هذا الحديث : (( « ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه » )) فإنه صريح في الرد على هؤلاء الاتحادية [* الزنادقة الحلولية القبورية الوثنية* ] ؛ فكما أن آخر هذا الحديث وما قدمناه في المعنى الصحيح يرد على الاتحادية ، كذلك يرد على ابن جرجيس [إمام قبورية البغداية * المسائل لهؤلاء الوثنية الاتحادية *] ، وكذلك النصوص القطعية دالة على أن لا يدعى غير الله تعالى فيما هو من خصائصه سبحانه .

2 -7- قلت : هكذا فسر هذا الحديث كثير من علماء الحنفية ؛

وردوا على الملاحدة الحلولية والزنادقة الاتحادية * الذين هم أشنع أنواع القبورية الوثنية * - تحريفهم الاتحادي والحلولي لهذا الحديث .

قلت :

المقصود : أن هذه الشبهة باطلة فاسدة ؛ وهي من كفريات الملاحدة الاتحادية ، والزنادقة الوجودية ، والوثنية الحلولية .

الشبهة التاسعة عشرة :

أن دعاء الأموات عند الكربات * ليس من العبادات * فليس من الشركيات *

لقد سبق أن القبورية قد انحرفت عن الجادة الصحيحة في مفهوم العبادة ، فحصرت العبادة في عدة الأعمال الظاهرة الإسلامية من الصلاة

والزكاة والصوم والحج ونحوها ، وبعض الأعمال القلبية من اعتقاد الربوبية .

بناء على ذلك أخرجوا الدعاء والاستغاثة من مفهوم العبادة ؛ فقالوا : إن الدعاء والاستغاثة بالأولياء * ونداءهم وطلب المدد منهم عند البلاء * - ليست هذه الأمور من العبادة في شيء ، ولا من الشرك بالله عز وجل ؛ لأن العبادة لا تتحقق إلا إذا اعتقد في غير الله القدرة الذاتية ، والاستقلال بالنفع والضر ، والربوبية ، ونفوذ المشيئة لا محالة ، وإذا كان الأمر كذلك - فمن استغاث بالأولياء ودعاهم لدفع الضر وجلب النفع ، وطلب منهم المدد فهو لم يعبد غير الله ، وإذا لم يعبد غير الله تعالى - لم يشرك به سبحانه أحداً من خلقه ؛ إذن لا حرج على المضطر المكروب أن يستغيث بأولياء الله تعالى عند الكربات .

ولقد سقت كثيراً من نصوص القبورية في مبحث العبادة في الباب الأول .

ولكن يحسن للبرهنة على ذلك أن نسوق بعض نصوص القبورية الآخرين في صدد تقريرهم لهذه الشبهة :

1 - قال ابن جرجيس أحد أئمة القبورية العراقية (1299هـ) :

إن أعداء الله الخوارج الوهابية ترويجاً لبدعته ، وحرصاً على تكفير

المسلمين بنوا قواعد مذهبهم على أن نداء أهل القبور والتشفع بهم إلى الله - عبادة ، وهو خطأ محض ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا العبادة ،وهي الدين كما في حديث جبريل ، من الشهادتين ، والصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج ، والإيمان بالله ، والملائكة ، وكتبه ، ورسله ، والقدر ، والعبادة عبارة عن هذه الأشياء ، وهي الصلاة ، والصيام ، والزكاة ، والحج ، ولا يتصور أن أحداً يؤمن بالله - يفعل شيئاً من هذه لأحد غير الله ، ولم يقل أحد : إن النداء والتوسل عبادة ، ولا أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك .

2 - وقال : (وأما التوسل ، والنداء ، فليس من العبادة عند جميع المسلمين ، لا لغة ، ولا شرعاً ، ولا عرفاً ) .

3 - وقال هذا الملبس ابن جرجيس أيضاً :

(إن الدعاء الذي ذكره الله عن الكفار والمشركين - معناه : ((العبادة)) التي هي السجود والركوع والذبح والتقرب إلى ذواتهم على أنهم أرباب وآلهة ، ولم يكن هذا في المسلمين ولله الحمد ممن يتوسل بالصالحين ويناديهم

والنداء لأهل القبور والغائبين يسمى دعاء في اللغة ، ولكن ليس هو ((دعاء العبادة)) ، ولو كان مطلق النداء والطلب يكون ((دعاء عبادة)) - لزم أن جميع من ينادي أحداً حياً أو ميتاً ، ويطلب منه شيئاً - يكون مشركاً ، عابداً للمنادى والمطلوب ، ولا قائل بذلك لا عاقل ولا مجنون) .

4 - ومثله كلام للقضاعي (1376هـ) ، هكذا ترى القبورية يعمدون إلى جميع تلك الآيات الناهية عن دعاء غير الله فيحرفونها بتأويلها الباطل * القبوري الفاسد العاطل * :

وهو أن المراد بالدعاء في تلك الآيات - هو العبادة بمعنى الصلاة والزكاة والركوع والسجود والذبح ، على اعتقاد الربوبية لغير الله تعالى ، وليس المراد من الدعاء في تلك الآيات - نداء الأموات وطلب الغوث منهم عند الملمات * والاستغاثة بهم عند الكربات * ؛ فإن ذلك ليس من العبادة في شيء ، وليس فيه أي محذور .

والقبورية بناء على تعريفهم للعبادة تعريفاً غير جامع لجزئياتها وقصرها على بعض أفرادها - لإخراج دعاء الأموات عند الكربات * والاستغاثة بهم لدفع

الملمات * - صرحوا بإبطال تعريف أئمة السنة وعلماء هذه الأمة للعبادة ؛ فقد قالت القبورية في تعريف شيخ الإسلام للعبادة :

(وقوله [أي شيخ الإسلام] : ((العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة)) - هراء ، ليس بتعريف للعبادة) .

الحاصل : أنه قد تبين من نصوص القبورية :

أنهم قد حصروا ((العبادة)) على بعض أفرادها بتعريفهم الباطل للعبادة ، الذي هو غير جامع لأفرادها ، وأن تعريف أئمة السنة وأعلام الأمة للعبادة ولا سيما ما قاله شيخ الإسلام - باطل عندهم وهراء ؛ كل ذلك لإخراج دعاء الأموات عند الكربات * والاستغاثة بهم لدفع الملمات * .

هذا هو كان تقرير هذه الشبهة ، والآن أنتقل إلى الجواب عنها وإبطالها بنصوص علماء الحنفية ، فأقول ، والله المستعان * وعليه التكلان :

إبطال هذه الشبهة :

لقد تصدى كثير من علماء الحنفية للرد على شبهة القبورية هذه ، كما تصدوا لغيرها من شبهاتهم ، فقد كشفوا تدليسهم عن تلبيسهم للحق بالباطل بعدة أجوبة ، أذكر

منها : خمسة :

الجواب الأول :

بذكر معاني ((العبادة)) و ((النداء)) و ((السؤال)) ، و ((الشفاعة)) و (الاستشفاع)) و ((النصر)) و ((الاستنصار)) و ((المدد)) و ((الاستمداد)) و ((العون)) و ((الاستعانة)) و ((الغوث)) و ((الاستغاثة)) و ((الدعاء)) ، وتحقيق أن دعاء الأموات عند الكربات ، والاستغاثة بهم عند الملمات من أعظم أنواع العبادات .

فأقول وبالله التوفيق * وبيده أزمة التحقيق * :

1 - العبادة :

أما ((العبادة)) فقد تقدم في ضوء علماء الحنفية معنياها اللغوي ، والاصطلاحي الشرعي ، وأن الحق والصواب عند علماء الحنفية في تعريف العبادة - هو : أنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة ، مع مراعاة غاية الخضوع وغاية الذل ، وأن هذا التعريف للعبادة هو التعريف الصحيح طرداً وعكساً ، جامع لجميع أفرادها ، مانع عن دخول غيرها فيها .

وأن تعريف القبورية للعبادة تعريف باطل مزيف ، غير جامع لأفرادها ، لخروج كثير من أنواع العبادات عن هذا التعريف ، كالحب ، والخضوع ، والتوكل ، والإنابة ، والخوف ، والرجاء ، والطاعة ، والدعاء ، فكل هذا يصرف لغير الله سبحانه وتعالى بحجة أنها ليست من العبادة .

وفيه قصر العام على بعض أفراده ، وهو باطل بدون دليل مخصص ؛ إذ لابد في التعريف الصحيح من أن يكون جامعاً مانعاً .

وبناء على هذا يدخل ((الدعاء)) ، ونداء الأموات ، والاستغاثة بهم في تعريف العبادة ، بل ذلك من أعظم أنواع العبادة وأجلها .

2 - النداء :

وأما النداء : (فهو إحضار الغائب ، وتنبيه الحاضر ، وتوجيه المعرض ، وتفريغ المشغول ، وتهييج الفارغ ، وهو في الصناعة : تصويتك بمن تريد إقباله عليك لتخاطبه ... والنداء : رفع الصوت وظهوره ، وقد يقال للصوت المجرد ...

والنداء للاستحضار ...)

وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) :

(إن النداء - هو : رفع الصوت بالدعاء ، أو الأمر ، والنهي ، ويقابله النجى الذي هو المسارة وخفض الصوت ، هذا بإجماع أهل اللغة ...، وسمي هذا النداء دعاء ......) .

قلت :

ويظهر من هذا التعريف للنداء - أن النداء أعم من الاستنصار ، والاستمداد ، والاستعانة ، والاستغاثة ، لأن النداء قد يكون لمجرد الإقبال والمحبة ، ولا يقصد به طلب العون والغوث ، غير أن المنادي إذا قصد بندائه إقبال المنادى وإرضاءه معتقداً أنه يسمع ويعلم فوق الأسباب العادية - فقد أشرك بالله تعالى في صفة السمع والعلم .

وأما إذا قصد مع ذلك طلب ما لا يقدر به إلا الله - فهو إشراك بالله تعالى بالطريق الأولى . كما سبق تحقيقه في ضوء نصوص علماء الحنفية .

3 -4- السؤال ، والطلب :

أما السؤال : فهو طلب الأدنى من الأعلى .

وأما الطلب : فهو عام فيما تسأله من غيرك ومن نفسك .

والسؤال : لا يقال إلا فيما تطلبه من غيرك .

قلت :

تقدم تحقيق علماء الحنفية في أن من طلب من غير الله تعالى ما لا يقدر عليه إلا الله - فقد أشرك بالله تعالى .

أما من طلب من غير الله ما يقدر عليه فهذا خارج عن الموضوع ، ومنعه جنون ، والخلط بين المسألتين تلبيس للحق بالباطل ، كما تفعله القبورية .

5 -6- الشفاعة ، والاستشفاع :

وأما الشفاعة : (فهي سؤال فعل الخير ، وترك الضر عن الغير لأجل الغير على سبيل الضراعة ، ولا تستعمل لغة إلا بضم الناجي إلى نفسه من هو خائف من سطوة الغير) .

وأما الاستشفاع : فهو استفعال : وهو طلب الشفاعة ، يقال : (أشفعه إلى فلان : سأله أن يشفع له إليه) .

قلت :

بناء على هذا - من طلب من الحي الغائب أو الميت أن يشفع له عند الله في جلب النفع أو دفع الضر -

على اعتقاد أنه يسمع ويعلم بحاله - فقد وقع في الشرك الذي وقع فيه الوثنية الأولى ؛ فإن أصل إشراكهم بالله - هو هذا الاستشفاع كما حققه علماء الحنفية .

7 -8- النصر ، والاستنصار :

فأما النصر (فهو أخص من المعونة ، لاختصاصه بدفع الضر) .

والاستنصار : استفعال ، وهو طلب النصر من الغير ، يقال : (استنصره على عدوه : سأله أن ينصره عليه) .

قلت :

لقد سبق في ضوء نصوص علماء الحنفية أن الشرك ، منه طلب النصر والمعونة من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله .

أما طلب النصر من الشخص فيما يقدر عليه لا شك في جوازه ، ولا يمنعه أحد ، بل يعد منعه جنوناً ؛ ولكن لا يجوز أن يجعل ما هو المباح دليلاً على ما هو الشرك ، لأن هذا تلبيس للحق بالباطل ، وخروج عن الموضوع ، ووضع الأدلة في غير موضعها ؛ لأن النوع الأول [وهو طلب النصر من الغائب أو الميت ] شرك بالله تعالى ؛ لأن الغائب وكذا الميت لا يسمعان نداء المكروب ، ولا يعلمان

بحاله ، ولا يقدران على نصره .

قال الإمام الآلوسي رحمه الله (1270هـ) في تفسير قوله تعالى :

{ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ ... لَا يَسْمَعُوا } ... ) [الأعراف : 197-198] :

( { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } أي تعبدونهم ، أو تدعونهم من دونه سبحانه وتعالى للاستعانة بهم ..... { لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ } في أمر من الأمور ... { لَا يَسْمَعُوا } أي دعاءكم ، فضلاً عن المساعدة والإمداد ) .

أما النوع الثاني - وهو طلب النصر من الحي تحت الأسباب العادية - جائز لا محذور فيه ؛ لقوله تعالى : { وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ } [الأنفال : 72] ؛ قال الإمام النسفي (710هـ) :

(أي إن وقع بينهم وبين الكفار قتال وطلبوا منكم المعونة فواجب عليكم أن تنصروهم على الكافرين) .

9 -11- المدد ، والإمداد ، والاستمداد :

وأما المدد فهو : (ما يمد به الشيء ، أي يزاد ويكثر ، ومنه : أمد الجيش بمدد : إذا أرسل إليه زيادة) .

وأما ((الإمداد)) : فهو الإعطاء ، والإعانة .

وأكثر ما يستعمل ((الإمداد)) في الخير بخلاف ((المد)) .

وأما ((الاستمداد)) : فهو استفعال ، وهو طلب المدد .

قلت :

التفصيل في الاستمداد كالتفصيل في الاستنصار والدعاء والطلب ، فيجوز الاستمداد من الحي الحاضر تحت الأسباب ، وأما الاستمداد من الغائب أو الميت - فهو إشراك بالله تعالى - على ما سبق مفصلاً محققاً بنصوص علماء الحنفية ؛ فلا يجوز الخلط بين المسألتين ، لأنه تلبيس للحق بالباطل .

12 -14- ((العون)) ، و ((المعونة)) ، و ((الاستعانة)) :

وأما ((العون)) : فهو المعين والظهير على الأمر .

وأما ((المعونة)) : فهي : الإعانة .

وأما ((الاستعانة)) : فهي استفعال ، معناه : طلب المعونة وطلب الإعانة .

ولقد صرح علماء الحنفية بأن الاستعانة من غير الله تعالى على

نوعين :

الأول : الاستعانة من الحي الحاضر فيما تحت الأسباب العادية ، فهذا لا حرج فيه .

والثاني : الاستعانة من الغائب أو الميت ، فهذا إشراك بالله تعالى ؛ إذ هذا النوع من الاستعانة من أعلى أنواع العبادة ؛ ولكن القبورية يلبسون الحق بالباطل ؛ فيستدلون بالمباح منها على الشرك منها .

15 -16- ((الغوث)) ، و ((الاستغاثة)) :

وأما ((الغوث)) : (فهو النصر والعون) .

وأما ((الاستغاثة)) فاستفعال : وهي (طلب الغوث والنصر) .

وقال العلامتان : نعمان الآلوسي (1317هـ) ، وشكري الآلوسي (1342هـ) :

(اعلم أن الاستغاثة بشيء : طلب الإغاثة منه ، كما أن الاستعانة بشيء طلب الإعانة منه ، فإذا كانت بنداء من المستغيث للمستغاث - كان ذلك سؤالاً منه ، وظاهر أن ذلك ليس توسلاً إلى غيره) .

قلت :

يظهر من موارد لفظة ((الاستغاثة)) : أنها أخص من الاستمداد ، والاستنصار ، والاستعانة ؛ لأن ((الاستغاثة)) تكون عند مس الحاجات * ونزول الملمات * وحدوث الكربات * فالنصر ، والمدد ، والعون الذي يطلبه المضطر والمكروب عند الكربة والشدة - هو الغوث ، وفعل ذلك المضطر وطلب ذلك المكروب يسمى ((استغاثة)) ، يظهر ذلك من كلام أهل اللغة من الحنفية ؛ فقد قال الزبيدي (1205هـ) ، والمفسر الآلوسي (1270هـ) ، واللفظ للأول :

(ويقال : استغثت فلاناً ............. قال شيخنا : قالوا : الاستغاثة : طلب الغوث ، وهو التخليص من الشدة والنقمة ، والعون على الفكاك من الشدة ، ولم يتعد في القرآن إلا بنفسه كقوله تعالى : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } [الأنفال : 9] .

وقد يتعدى بالحرف كقول الشاعر :

حتى استغاث بما لا رشاء له ... من الأباطح في حافاته البرك

ويقول المضطر الواقع في بلية : أغثني ، أي فرج عني ) .

وقال الإمام ابن معط :

(وتلحق اللام إذا استغثتا ... بمن تناديه إذا دهمتا)

قلت :

لأجل أن ((الغوث)) هو النصر عند الكربة خاصة - قالت الوثنية من الصوفية القبورية :

(الغوث : هو القطب حينما يلجأ إليه ، ولا يسمى في غير ذلك الوقت غوثاً) .

ولذلك ترى هؤلاء القبورية الوثنية يسمون آلهتهم الباطلة أغواثاً ، لاعتقادهم أنهم يغيثون المضطرين المكروبين المستغيثين بهم .

قلت :

إن من الواقع الملموس والشاهد المحسوس : أن عامة القبورية إنما يدعون الأموات * ويطلبون منهم المدد والنصر عند نزول الملمات ومس الحاجات وحدوث الكربات * .

ولقد سبق عدة نصوص لعلماء الحنفية على أن القبورية أعظم عبادة وأشد تضرعاً وانكساراً وأكثر خضوعاً وذلاً للأموات * عند الاستغاثة بهم لدفع الكربات * - منهم في المساجد وأوقات الأسحار لخالق الكائنات * .

فكيف يقال : إن الاستغاثة بالأموات لدفع الكربات * - ليست من العبادات ؟ !! .

وسبق أيضاً عدة نصوص لعلماء الحنفية :

على أن القبورية في باب الاستغاثة بالأموات - أعظم شركاً من الوثنية الأولى ، فكيف يقال : إن الاستغاثة بالأموات لدفع البليات * - ليست من الإشراك بخالق البريات * ؟ !! فمن زعم أن الاستغاثة بالأموات عند إلمام الملمات * ليست من العبادات ، وليس من الإشراك بخالق البريات * - فهو أجهل من أبي جهل بالله سبحانه ، وبحقوقه جل وعلا .

17 - (( الدعاء )) :

وأما ((الدعاء)) - فهو مصدر ((دعا)) ((يدعو)) وهو لغة يأتي لعدة معان ذكرها علماء الحنفية :

1 ) النداء : يقال : دعوت فلاناً وبفلان : ناديته وصحت به .

2 ) السؤال : دعوت فلاناً : سألته .

3 ) الاستغاثة : دعوت فلاناً : استغثته ، والدعاء : الغوث ، فالدعاء :

النداء والاستغاثة .

4 ) والطلب : دعوت فلاناً : استدعيته ، وطلب جلب النفع ودفع الضر .

5 ) الحث على فعل الشيء والدعوة إليه : دعا إليه : طلبه إليه .

6 ) السوق : يقال : دعاه : ساقه إلى الأمير .

7 ) التسمية : يقال : دعوت الولد زيداً ، أو بزيد : إذا سميته بهذا الاسم .

8 ) الجعل : { أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا } [مريم : 88] : أي جعلوا .

9 ) العبادة : يطلق ((الدعاء)) ويراد به ((العبادة)) .

10 ) رفعة القدر ، ورفع الذكر .

و ((الدعاء)) في الاصطلاح الشرعي : اسم لجميع العبادة والاستعانة ، فالدعاء الاصطلاحي نوعان : دعاء العبادة ، ودعاء المسألة .

أما النوع الأول : وهو دعاء العبادة - فمعناه :

(الطلب والمسألة بامتثال الأمر واجتناب النهي) .

وأما النوع الثاني : وهو دعاء المسألة - فمعناه :

(المسألة ، والطلب بالصيغة القولية) .

فالدعاء على هذا : (الرغبة إلى الله تعالى فيما عنده من الخير ، والابتهال إليه بالسؤال ، ومنه قوله تعالى : { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } [الأعراف : 55] ...) .

تعريف آخر للدعاء وهو : (استدعاء العبد ربه جل جلاله العناية واستمداده إياه) .

تعريف آخر للدعاء وهو : ( سؤال الله تعالى والاستعانة به في الشدائد وطلب إنجاح الحوائج وكشف المشكلات - معتقداً بأنه مالك للنفع والضر بلا حاجة إلى سبب) .

قلت :

معنى ((دعاء العبادة)) بعبارة أوضح : هو العبادة نفسها ، فيكون ((الدعاء)) و ((العبادة)) اسمين مترادفين لمسمى واحد .

أما ((دعاء المسألة)) فمعناه : النداء والاستمداد والاستنصار والاستغاثة لدفع الضر وجلب النفع ، قولاً وسؤالاًَ وطلباًَ باللسان ، ثم دعاء المسألة - فوق الأسباب - مخ العبادة ، فإذا أردنا من ((الدعاء)) ((دعاء

العبادة)) - يكون ((الدعاء)) بعينه ((العبادة)) ، وهما شيء واحد ؛ كالأسد ، والغضنفر ، وغيرهما من المترادفات .

وأما إذا أردنا من ((الدعاء)) ((دعاء المسألة)) - فإن كان فيما فوق الأسباب - يكون ((الدعاء)) نوعاً من أنواع العبادة ، وفرداً من أفرادها ، وجزيئاً من جزيئاتها ؛ فيكون دعاء غير الله شركاً في العبادة ، بل أمّا للشرك ؛ لأن ((العبادة)) أمر كلي شامل لعدة من الجزئيات التي تندرج تحتها ، ومن تلك الجزئيات ((دعاء المسألة)) ؛ فيكون ((دعاء المسألة)) خاصاً وأخص من ((العبادة)) التي هي أمر عام وأعم ، فتكون النسبة بينهما عموم وخصوص مطلقاً :

بأن يكون الدعاء أخص مطلقاً ، والعبادة أعم مطلقاً .

وأن كل دعاء عبادة ولا عكس .

قلت :

حاصل هذه المباحث اللغوية والاصطلاحية الشرعية التي ذكرها علماء الحنفية - هو إثبات أن دعاء الأموات * ونداءهم عند الكربات * والطلب منهم لإزالة المشكلات * والاستغاثة بهم لجلب المنافع ودفع المضرات * والاستغاثة بهم عند إلمام الملمات * والاستمداد منهم عند نزول الكربات - نوع من أعظم أنواع العبادات ؛ فيكون شركاً من أكبر أنواع الإشراك بالله تعالى ؛ فبطلت شبهة القبورية ، وراحت أدراج الرياح .

الجواب الثاني :

بإثبات ورود لفظ ((الدعاء)) بالمعنيين السابقين .

لقد صرح علماء الحنفية بأن لفظ ((الدعاء)) قد ورد في الكتاب والسنة بمعنى ((السؤال)) تارة ، وبمعنى ((العبادة)) أخرى .

أما ورود الدعاء بمعنى السؤال ، والنداء ، والطلب ، والاستغاثة ، من الكتاب :

1 - فكقوله تعالى { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } [الأعراف : 55] - قد فسر بدعاء المسألة .

2 - وقوله تعالى : { بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ } [الأنعام : 41] .

3 - وقوله تعالى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [الجن : 18] - قد فسر بدعاء المسألة ، أي الاستغاثة .

فقد قال الإمام ولي الله وغيره من علماء الحنفية مستدلين بهاتين الآيتين :

إن المراد من الدعاء فيهما : هو الاستعانة ، لا العبادة ؛ لأن المشركين كانوا يستعينون بغير الله في حوائجهم ، فرد الله تعالى عليهم وأمرهم أن لا يدعوا إلا إياه .

4 - وقوله تعالى : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ } [الإسراء : 67] .

5 - وقوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [الأنعام : 40] .

6 - وقوله تعالى : { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [العنكبوت : 65 ] .

قال العلامة شكري الآلوسي في الاستدلال بهذه الآيات على أن الدعاء فيها دعاء المسألة :

الدعاء في هذه الآيات دعاء المسألة حال الشدة والضرورة ، لمناسبة الحال والضرورة ، وما زال أهل العلم يستدلون بالآيات التي فيها الأمر بالدعاء ، والنهي عن دعاء غيره - على المنع من مسألة المخلوق ودعائه بما لا يقدر عليه إلا الله ، وكتبهم مشحونة بذلك .

7 - وقوله تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [البقرة : 186 ] .

وقوله تعالى : { وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ } [ يونس : 12] .. فالدعاء ههنا : النداء والاستغاثة . أي دعاء المسألة .

وقد ساق بعض علماء الحنفية عدة آيات غير ما ذكر لتحقيق أن ((الدعاء)) هو السؤال والنداء والاستغاثة لدفع الكربات * والاستمداد والاستنصار والطلب لجلب الخيرات * .

وأن الدعاء بهذا المعنى نوع من أنواع العبادة ، بل من أعظم أنواعها وأجلها ، وأن دعاء الأموات لدفع الكربات وجلب الخيرات من أعظم أنواع الشرك وأكبرها :

9 - كقوله تعالى : { وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا } [ الأعراف : 56] .

10 - وقوله تعالى : { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ } [ الرعد : 14] .

11 - وقوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام : { إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ } [إبراهيم : 39 ] .

12 - وقوله تعالى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا } [ الإسراء : 56] .

13 - وقوله تعالى : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [الإسراء : 110 ] .

14 - وقوله تعالى : { وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ } [ الزمر : 8] .

15 - وقوله تعالى : { وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ } [يونس : 106 ] .

16 -17- وقوله تعالى : { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ } ) [فاطر : 13-14 ] .

18 - وقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [الأعراف : 194 ] .

19 -20- وقوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام : { هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ } [الشعراء : 72-73 ] .

21 - وقوله تعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ } [ الأحقاف : 5] .

إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن ((الدعاء)) نداء ، وطلب ،

واستغاثة عند الكربات * وأنه من أعظم أنواع العبادات وأجلها ، وأن نداء الأموات من أكبر الشركيات * .

والمقصود : أن أهل العلم يستدلون بهذه الآيات التي فيها الأمر بدعاء الله وحده ، والنهي عن دعاء غيره سبحانه - على المنع من سؤال المخلوق ما لا يقدر عليه ؛ فكيف يصح زعم القبورية : أن المراد من ((الدعاء)) في هذه الآيات - هو الدعاء ، بمعنى العبادة التي هي الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج ، لا الدعاء بمعنى السؤال ، والطلب ، والاستعانة ، والاستغاثة .........؟

وأما ورود ((الدعاء)) بمعنى السؤال ، والطلب في السنة :

فكقول الله فيما يرويه عليه الصلاة والسلام : (( « من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه » ....)) .

وأما ما ورد في الكتاب والسنة من احتمال لفظ ((الدعاء)) للمعنيين : ((العبادة)) ، و ((الاستعانة)) .

1 - فكقوله تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر : 60 ] .

فالدعاء في هذه الآية يحتمل المعنيين :

الأول : ((العبادة)) : فمعنى ((ادعوني)) : (اعبدوني وأطيعوا أمري) .

ومعنى ((أستجب لكم)) : (أثبكم) .

والثاني : ((السؤال والطلب)) : فيكون معنى ((ادعوني)) : (استغيثوني إذا نزل بكم ضر) و (سلوني) .

ومعنى ((أستجب لكم)) : (أعطكم) .

2 - وكقوله صلى الله عليه وسلم : (( « الدعاء هو العبادة » )) .

فقد فسر هذا الحديث بكلا النوعين من الدعاء : ((العبادة)) ، و ((السؤال)) .

الحاصل :

أنه قد تبين من تحقيق علماء الحنفية في ضوء الكتاب والسنة :

أن ((الدعاء)) يرد بمعنى ((العبادة)) - وهذا نزر قليل جداً ، وحينئذ تكون ((الاستغاثة)) نوعاً من أنواع الدعاء الذي هو بمعنى ((العبادة)) .

ويرد بمعنى ((النداء ، والطلب ، والسؤال ، والاستغاثة ، والاستعانة)) وهذا الاستعمال أكثر في القرآن والسنة ، وأغلب وأظهر وأصرح * وأقرب وأوفر وأوضح * .

وحينئذ يكون ((الدعاء)) نوعاً من أنواع العبادة ، بل من أفضل أنواعها وأجلها * ومخها ولبها * .

فمن دعا الأموات وناداهم واستغاث بهم عند الكربات * فقد عبد غير الله تعالى بأعظم أنواع العبادات * وأشرك أكبر أنواع الشرك بخالق الكائنات * .

الجواب الثالث :

أن (( الدعاء )) ، و ((العبادة)) بينهما تلازم ، فأحدهما يستلزم الآخر ، قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) :

(والمقصود هنا : أن دعاء الله - قد يكون ((دعاء عبادة)) لله ، يثاب العبد عليه في الآخرة ، مع ما يحصل له في الدنيا .

وقد يكون ((دعاء مسألة)) تقضى به حاجته ، ثم قد يثاب عليه إذا كان مما يحبه الله ، وقد لا يحصل له إلا تلك الحاجة ، وقد يكون سبباً لضرر دينه ، فيعاقب على ما ضيعه من حقوق الله تعالى) .

وقال رحمه الله : (فإن ابتغاء الوسيلة إليه - هو طلب ما يتوسل - أي يتوصل ويتقرب به إليه سبحانه وتعالى ، سواء كان على وجه العبادة ، والطاعة ، وامتثال الأمر [واجتناب النهي ، وهذا هو الدعاء بمعنى العبادة] .

أو كان على وجه السؤال له [سبحانه وتعالى] ، والاستعاذة به رغبة في جلب المنافع ودفع المضار [وهذا هو الدعاء بمعنى السؤال ، والنداء ، والطلب ] .

ولفظ ((الدعاء)) في القرآن [وكذا في السنة] يتناول هذا وهذا :

((الدعاء)) بمعنى ((العبادة)) ، و ((الدعاء)) بمعنى ((المسألة)) ، وإن كان كل منهما يستلزم الآخر ، لكن العبد قد تنزل به النازلة ، فيكون مقصوده طلب حاجاته ، وتفريج كرباته ، فيسعى في ذلك بالسؤال ، والتضرع - وإن كان ذلك من العبادة ، والطاعة .... ثم الدعاء ، والتضرع يفتح له من أبواب الإيمان بالله عز وجل ومعرفته ، ومحبته ، والتنعم بذكره ودعائه - ما يكون أحب إليه وأعظم قدراً عنده من تلك الحاجة التي أهمته .... وقد يفعل العبد ابتداءً ما أمر به لأجل العبادة لله ، والطاعة له ، ولما عنده من محبة ، وإنابة إليه ، وخشية ، وامتثال أمره - وإن كان ذلك يتضمن حصول الرزق ، والنصر ، والعافية) .

وقال رحمه الله : (إنهما متلازمان ، فكل عابد سائل ، وكل سائل عابد .... ولفظ الصلاة في اللغة بمعنى الدعاء ، سميت به لتضمنها معنى الدعاء : دعاء العبادة والمسألة ....) .

الجواب الرابع :

أن علماء الحنفية قد حققوا بالكتاب والسنة :

أن ((الدعاء)) بمعنى النداء ، والطلب ، والسؤال ، والاستمداد ، والاستعانة ، والاستغاثة فيما فوق الأسباب - من أعظم أنواع العبادة ، وأجلها * ومخها ، ولبها * .

أ- أما الكتاب :

1 - فقوله تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60] .

وقد سبق كلام علماء الحنفية - آنفاً - في تفسير هذه الآية على أحد الوجهين :

أن معناها : استغيثوني إذا نزل بكم الضر واسألوني ، أعطكم وأغثكم .

ومعنى قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي } (عن دعائي) .

قلت :

لقد صرح كثير من علماء الحنفية في تفسير هذه الآية : بأن إطلاق ((العبادة)) على ((الدعاء)) - * لأجل أن ((الدعاء)) مخ العبادة ولبها * ومن أعظم أنواعها ، وأجل أفرادها * .

قال الإمام محمود الآلوسي (1270هـ) وغيره من علماء الحنفية ،

واللفظ للأول :

(وجوز أن يكون المعنى : ((اسألوني أعطكم)) - وهو المروي عن السدي .

فمعنى قوله تعالى : { يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي } - : (يستكبرون عن دعائي) ، لأن الدعاء نوع من العبادة ، ومن أفضل أنواعها ، بل روى ابن المنذر ، والحاكم وصححه ، عن ابن عباس أنه قال : (( « أفضل العبادة الدعاء » )) ، وقرأ الآية ، والتوعد على الاستكبار عنه ؛ لأن ذلك عادة المترفين المسرفين ، وإنما المؤمن يتضرع إلى الله تعالى في كل تقلباته ، وفي إيقاع ((العبادة)) صلة الاستكبار - ما يؤذن بأن ((الدعاء)) باب من أبواب الخضوع ؛ لأن ((العبادة)) خضوع ، ولأن المراد بالعبادة ((الدعاء)) ، والاستكبار إنما يكون عن شيء إذا أتي به لم يكن مستكبراً ....

وهذا الوجه [أي جعل الدعاء بمعنى السؤال ، وجعل العبادة ههنا بمعنى الدعاء] - أظهر بحسب اللفظ ، وأنسب إلى السياق ؛ لأنه لما جعل المجادلة في آيات الله تعالى من الكبر -

جعل ((الدعاء)) وتسليم آياته من الخضوع ؛ لأن الداعي له تعالى ، الملتجئ إليه عز وجل - لا يجادل في آياته ...) .

2 - وقوله تعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [الأحقاف : 5-6 ] .

لقد استدل بهذه الآية الكريمة كثير من علماء الحنفية ، منهم الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) ، والشيخ محمد المظفري - على أن الاستغاثة بالأموات شرك ؛ لأنها عبادة لغير الله تعالى ، بدليل قوله تعالى : { وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } ؛ وأن القبورية قد عبدوا الأموات بسبب استغاثتهم بهم عند الملمات من حيث لا يشعرون .

ب- وأما السنة :

1 - فقوله صلى الله عليه وسلم : (( « الدعاء هو العبادة » )) ، ثم قرأ الآية ؛

فقد استدل بهذا الحديث جمع من علماء الحنفية على أن ((الدعاء)) - بمعنى النداء والاستعانة ، والاستمداد ، والاستغاثة - من أعظم أنواع العبادة وأجلها وأفضلها ومخها ولبها .

وفيما يلي بعض نصوص علماء الحنفية لتحقيق هذا المطلوب :

قال العلامة القاري (1014هـ) في شرح هذا الحديث ، وكثير غيره من علماء الحنفية ، واللفظ له :

( (( « الدعاء هو العبادة » )) أي هو العبادة الحقيقية التي تستأهل أن تسمى عبادة ، لدلالته على الإقبال على الله * والإعراض عما سواه * ؛ بحيث لا يرجو ولا يخاف إلا إياه * قائماً بوجوب العبودية * معترفاً بحق الربوبية * عالماً بنعمة الإيجاد * طالباً لمدد الإمداد * على وفق المراد * وتوفيق الإسعاد * ، ((ثم قرأ { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر : 60 ] ؛ قيل : استدل بالآية على أن ((الدعاء)) ((عبادة)) ؛ لأنه مأمور به ، والمأمور به عبادة ، وقال القاضي :

استشهد بالآية لدلالتها على أن المقصود يترتب عليه ترتب الجزاء على الشرط ، والمسبب على السبب ، ويكون أتم العبادات ، ويقرب من هذا قوله : (( « مخ العبادة » )) .

أي خالصها .

وقال الراغب : ((العبودية إظهار التذلل ، ولا عبادة أفضل منه ، لأنها غاية التذلل ، ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال ، وهو الله تعالى )) .

وقال الطيبي رحمه الله : ((يمكن أن تحمل ((العبادة)) على المعنى اللغوي :

وهو غاية التذلل والافتقار والاستكانة ، وما شرعت ((العبادة)) إلا للخضوع للباري ، وإظهار الافتقار إليه ، وينصر هذا التأويل ما بعد الآية المتلوة : { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر : 60 ] ؛ حيث عبر عن عدم الافتقار والتذلل بالاستكبار ، ووضع : { عِبَادَتِي } موضع : (دعائي) ، وجعل جزاء ذلك الاستكبار الهوان والصغار)) .

قال ميرك :

أتي بضمير الفصل ، والخبر المعرف باللام ؛ ليدل على الحصر في أن ((العبادة)) ليست غير ((الدعاء)) مبالغة ،

ومعناه : ((الدعاء)) معظم ((العبادة)) ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( « الحج عرفة » )) . أي معظم أركان الحج الوقوف بعرفة ، أو المعنى : أن ((الدعاء)) هو ((العبادة)) سواء استجيب أو لم يستجب ؛ لأنه إظهار العبد العجز والاحتياج من نفسه ، والاعتراف بأن الله تعالى قادر على إجابته ، كريم لا بخل له ولا فقر ولا احتياج له إلى شيء ، حتى يدخر لنفسه ويمنعه عن عباده ، وهذه الأشياء هي العبادة ، بل مخها ....

2- وقوله صلى الله عليه وسلم : (( « الدعاء مخ العبادة » )) .

لقد استدل كثير من علماء الحنفية بهذا الحديث على أهمية الدعاء بمعنى النداء والطلب والاستعانة والاستغاثة ، وأنه مخ العبادة ولبها ، وأنه من أهم أنواع العبادة :

وفيما يلي بعض نصوص علماء الحنفية في شرح هذا الحديث لتحقيق هذا المطلوب :

1 - قال الحكيم الترمذي (320هـ) :

(الأصل السابع والعشرون والمائة في بيان أن الدعاء لم صار مخ العبادة ... إنما صار مخاً لها ، لأنه تبري من الحول والقوة ، واعتراف بأن الأشياء كلها له ، وتسليم إليه ، إن كان رزق ، أو عافية ، أو نوال ، أو دفع عقاب ، فمنه ، إذا سأله فقد تبرأ من الاقتدار ، والتملك ، والحول ، والقوة ، والدعاء سؤال حاجة وافتقار ، فإنما يظهر على القلب ، ثم على اللسان ، فما على القلب يسمى عبودة ، وما على اللسان عبادة) .

2 -4- وقال العلامة القاري (1014هـ) ، والشيخ عبد الحق الدهلوي (1052هـ) ، والغورغوشتوي (1388هـ) واللفظ للأول :

(الدعاء مخ العبادة : أي لبها ، والمقصود بالذات من وجودها ، قيل : مخ الشيء خالصه ، وما يقوم به كمخ الدماغ الذي هو نقيه ، ومخ العين ومخ العظم شحمهما ، والمعنى : أن العبادة لا تقوم إلا بالدعاء ،

كما أن الإنسان لا يقوم إلا بالمخ) .

5 - وقال الإمام الفتني الملقب عند الحنفية بملك المحدثين (986هـ) :

(الدعاء مخ العبادة ، لأنه امتثال أمر الله بقوله : { ادْعُونِي } [غافر :60] ، ولأنه إذا رأى نجاح الأمور من الله قطع أمله عما سواه ، ودعاه لحاجته وحده ، وهذا أصل العبادة ، ولأن الغرض من العبادة الثواب عليها ، وهو المطلوب بالدعاء) .

6 - وقال الإمام ولي الله الدهلوي الملقب عند الحنفية بحجة الله على العالمين ، وحجة الهند (1176هـ) :

(ومنها الدعاء ، فإنه يفتح باباً عظيماً من المحاضرة ، ويجعل الانقياد التام والاحتياج إلى رب العالمين في جميع الحالات بين عينيه ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : (( « الدعاء مخ العبادة » )) ....) .

7 - وللعلامة شكري الآلوسي كلام مهم في شرح هذا الحديث وتحقيق أن الدعاء لب العبادة ، ومن أجل أنواع العبادة ، وأن الدعاء إيمان ، أي من أعظم أعمال الإيمان .

8 - وللشيخ فضل الله الجيلاني الحنفي (1979م) كلام نحو هذا .

3 - وقوله صلى الله عليه وسلم : (( « أشرف العبادة الدعاء » )) .

قال الشيخ فضل الله الجيلاني الحنفي (1979م) في شرح هذا الحديث :

(أشرف العبادة : أي الأمور التي يظهر فيها المرء عبوديته وكونه عبد

الله - فمن أشرفها الدعاء ، أي ليس الدعاء إلا إظهار المرء فاقته والاستكانة إلى ربه .... إذ الدعاء هو إظهار غاية التذلل والافتقار إلى الله ، والاستكانة له ، ولذا جعل جزاء الاستكبار الصغار والهوان ...... وإذا اعتبرنا العبادات الشرعية سوى الدعاء - وجدنا الشارع قد شرع الدعاء في كل منها بما يوافق ذلك القصد ، فصار الدعاء عبارة عن الأمرين : السؤال باللسان ، والقصد بالجنان ؛ لأن الدعاء باللسان إنما هو ترجمة لذلك القصد ، فإذا صح هذا : فإننا إذا أفرزنا الدعاء من العبادة - وهو القصد القلبي ، وترجمته اللسانية - لم يبق من العبادة إلا صورتها ، ولا شك أن القصد القلبي مع الترجمة عنه - أكرم على الله تعالى وأشرف من صورة العبادة مجردة عن ذلك ، ولهذا صح أن (( « الدعاء مخ العبادة » )) .

وهو معنى : أن الدعاء هو العبادة ، على وزان قوله [صلى الله عليه وسلم ] : (( « الحج عرفة » )) ...) .

الحاصل :

أن علماء الحنفية قد حققوا في ضوء نصوص الكتاب والسنة أن نداء الأموات عند الملمات * والاستغاثة بهم من أعظم العبادات * وأن هؤلاء

القبورية بسبب استغاثتهم بالأموات عند البليات * قد عبدوهم وأشركوهم بخالق الأرضين والسماوات * .

ولذلك قال الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) ، والشيخ محمد المظفري ، بعد ذكر عدة آيات كريمات ، منها : قوله تعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ .... وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ الأحقاف : 5-6] :

لقد تبين أن هذا النوع من الدعاء في الحقيقة نوع من أنواع العبادة ، لأن الله تعالى قد بين أن هؤلاء المدعوين سيكفرون بعبادة هؤلاء الداعين ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر : 60 ] .

وقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( « الدعاء هو العبادة » )) ، وقوله صلى الله عليه وسلم : (( « الدعاء مخ العبادة » )) ، فثبت أن دعاء هؤلاء القبورية ونداءهم الأولياء عند الكربات * واستغاثتهم بهم عند الملمات * أو زيارة قبورهم للاستعانة بهم - هو في الحقيقة عبادة من هؤلاء القبورية لهؤلاء الأولياء ، وإن هم يزعمون أنهم يذهبون لزيارة قبورهم ، ولا يعبدونهم ، فهم قد عبدوهم وهم لا يشعرون .

قلت :

المقصود أنه قد ثبت بالكتاب والسنة ونصوص علماء الحنفية أن الدعاء والاستغاثة من أعظم أنواع العبادة ومخها ولبها ،

وأن القبورية باستغاثتهم بالأموات عند الكربات والملمات * قد عبدوا غير الله ، وأشركوا بخالق البريات * فبطل زعمهم : أن الدعاء ليس من العبادات .

الجواب الخامس :

أن علماء الحنفية حققوا : أن المشركين السابقين قد كانت عبادتهم لآلهتهم الباطلة - هي هذا الالتجاء إليهم ، من الدعاء والنداء عند الملمات * والاستعانة بهم والاستغاثة عند الكربات * وأن إشراكهم بالله هو استغاثتهم بغير الله عند البليات * وأن القبورية في ذلك على طريقة الوثنية الأولى ، فكيف يصح زعمهم أن الدعاء ليس من العبادة ؟ .

وفيما يلي بعض نصوص علماء الحنفية لتحقيق هذا المطلوب ، وبالله التوفيق :

1 -2- قال العلامتان : نعمان الآلوسي (1317هـ) ، وشكري الآلوسي (1342هـ) ، بعد تحقيق أن المشركين لم يشركوا بالله في الخالقية ، والرازقية ، والربوبية ، واللفظ للأول :

(فكان جل أحوال المشركين مع آلهتهم - التوكل عليهم ، والالتجاء إليهم بشفاعتهم .... ومن تأمل بعين الاستبصار في الشفاعة المنفية أولاً - علم أن المقصود بنفي الشفاعة نفي الشرك : وهو أن لا يعبد إلا الله ، والدعاء عبادة كما ورد ، وقال سبحانه : { فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [ الجن : 18] ؛ فلا يسأل غيره ، ولا يتوكل على غيره لا في شفاعة ، ولا في

غيرها .... فالشفاعة التي نفاها القرآن مطلقاً ... ما كان فيها شرك ، وتلك منفية مطلقاً ، والشفاعة المثبتة ما يكون بعد الإذن يوم القيامة ، ولا تكون الشفاعة إلا لمن ارتضى ....

إذا تبين هذا - فالمشركون قد كانت عبادتهم لآلهتهم هذا الالتجاء والرجاء والدعاء لأجل الشفاعة ، معتقدين أنها المقربة لهم ، فبسبب هذا الاعتقاد والالتجاء - أريقت دماؤهم ، واستبيحت أموالهم ...... فهذا الالتجاء بطلب الشفاعة ورجائها - عبادة لا تصلح إلا له عز وجل ، وإنها من صرف حقوقه ، ومن الشرك .

فإن قلت :

((إن المشركين كانوا يعبدونهم ونحن لا نعبدهم)) .

فالجواب :

أن عبادتهم هي هذا الالتجاء الذي أنت فيه ، وكما أنك تدعو النبي صلى الله عليه وسلم ....... وتدعو غيره ملتجئاً إليهم بطلب الشفاعة منهم - كذلك الأولون كانوا يدعون صالحين أنبياء ومرسلين * طالبين منهم الشفاعة عند رب العالمين * كما قال تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } [ يونس : 18] ، فبهذا الالتجاء والتوكل على هذه الشفاعة والرجاء -

أشركوا) .

3 -4- وقالا أيضاً ، واللفظ للثاني :

(ولئن قلت : ((إن النبي صلى الله عليه وسلم مأذون له فيها)) .

فالجواب :

أنه صلى الله عليه وسلم الآن موعود بالشفاعة ، ووعد الله حق ، لكنها مشروطة بيوم القيامة ، وأنها بعد إذن الله ورضاه عن المشفوع فيه ، فلا تطلب منه الآن - ولو كانت تطلب منه الآن - لجاز لنا أن نطلبها أيضاً ممن وردت الشفاعة لهم ، كالقرآن ، والملائكة ، والأفراط ، والحجر الأسود ، والصالحين - ولجاز لنا أن ندعوهم ، ونلتجئ إليهم ، ونرجوهم بهذه الشفاعة ؛ إذ لا فرق بين الجميع في الثبوت والإذن - فنصير إذن والمشركين الأولين في طريق واحد ، وحال واحد ، ولم نفترق إلا بالأسماء الظاهرة ، وقول كلمة التوحيد من غير عمل بما فيها ولا اعتقاد لحقيقتها ، ولا يقدم على ذلك من له أدنى مسكة من عقل ، أو فكرة فيما صح من النقل .

ومن نظر بعين الإنصاف * وتجنب سبيل الاعتساف * ونظر إلى ما كان عليه الأولون ، وعرف كيف كان شركهم ؟ وبماذا أرسل الله لهم النبي صلى الله عليه وسلم ؟ وما هو التوحيد ؟ وما معنى الإله والتأليه ؟ وتبصر في العبادات وأنواعها - تحقق له : أن هذا الالتجاء والتوكل والرجاء ، بمثل طلب الشفاعة - هو الذي حورب من أجله الأولون * وأرسل لأجل قمعه المرسلون * وبذلك نطق الكتاب * وبينه لنا خير من أوتي الحكمة وفصل الخطاب * سيما إذا استغيث بهم لدفع الشدائد والملمات * مما لا يقدر على دفعه ورفعه إلا خالق الأرض والسماوات * وقد كان المشركون الأولون إذا وقعوا في شدة - { دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } [العنكبوت : 65 ] ، ومن فعل ذلك بحالتي الشدة والرخاء * بل في قسمي المنع والعطاء * - فقد جاوز حده * واستحق أن يكون سيف الرسالة غمده * قال سبحانه :

{ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ } [ الرعد : 14] .

إذا علمت هذا -

ظهر لك قول العراقي [ابن جرجيس] :

((إن هذه الآية واردة في الأصنام )) الخ .

فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، كما نبه عليه الأصوليون ، وإلا لتعطلت جميع المسائل ، وكذا قوله [ ابن جرجيس ] : ((فهي رد على الكفار لا على المسلمين)) الخ .

فإنا قد ذكرنا : أنه لا فرق بين الفعلين * ولا تغاير بين الصنيعين * فما يستوجبه أحدهما يستوجبه الآخر ؛ فإنه سبحانه إذا ذم فعلاً ورتب عليه حكماً - لا يختص به فرد دون فرد ، ولا شخص دون شخص) .

5 - وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) محققاً أن عبادة المشركين لآلهتهم - هي هذا الدعاء والالتجاء والنداء والاستغاثة :

(فالجواب عن هذه العبارة الركيكة ، والكلام السخيف : قد سبق غير مرة ، وذلك أن يقال : إن غالب عبدة الأصنام - لم تكن عبادتهم لها سوى ما ذكره العراقي ، كما يدل على ذلك قوله سبحانه :

{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [الزمر : 3 ] ، وغير ذلك من الآيات ، فطلب ما لا يقدر عليه أحد إلا الله سبحانه ، والنداء في الشدائد ، والالتجاء ، ونحوه من أي مخلوق كان - هو عين عبادة الأصنام * من غير فرق عند ذوي البصائر ، والأفهام * والتفرقة بينهما من غير فارق * ومن فرق فهو زائغ مارق* ) .

تنبيه : للعلامة الخجندي كلام - يأتي نصه - يصلح أن يكون جواباً سادساً ، وهو وجه عقلي وجيه .

الشبهة العشرون :

شبهة التسمية :

تزعم القبورية أن المشركين السابقين كانوا يسمون آلهتهم أرباباً ، ويسمون معاملتهم معهم عبادة ، بخلافنا نحن ، فنحن لا نسمي الأولياء أرباباً ، ولا نسمي معاملتنا معهم عبادة ، بل نتوسل بهم ، ونستغيث بهم ، وهذا ليس بعبادة .

وفي ذلك قال ابن جرجيس (1299هـ) :

(أولاً : أن المشركين الكفار اتخذوا من دون الله أولياء أي أرباباً ....

ثانياً : أن الكفار يقولون : نعبدهم .

وأما التوسل ، والنداء ، فليس من العبادة عند جميع المسلمين ، لا

لغة ، ولا شرعاً ، ولا عرفاً) .

ومثله كلام لجميل صدقي الزهاوي العراقي (1354هـ) .

والجواب : أن الحقائق لا تتغير بتغيير الأسماء ، فالعبرة للحقائق الثابتة الواقعة ، لا للأسماء ، فالخمر خمر وإن غير اسمها ، والزنى زنى وإن غير اسمه باسم مزخرف .

وفيما يلي بعض نصوص علماء الحنفية لإبطال هذه الشبهة :

1 - قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) بعد نقله قول ابن جرجيس العراقي (1299هـ) السابق :

(وأما قول العراقي : ........ فقد أراد به التفرقة بين الفريقين :

أعني هو وأضرابه المغالين في خلص عباد الله ، والمشركين .

وحاصل ما فرق به :

أن المشركين كانوا يسمون أولياءهم أرباباً ، وهؤلاء لا يسمونهم بهذا الاسم .

وأن معاملتهم مع أوليائهم كانوا يسمونها عبادة ، وهؤلاء لا يسمون استغاثتهم بالصالحين وطلب ما لا يقدر عليه إلا الله منهم ، ونداءهم في الملمات ، ودفع الشدائد ، والالتجاء إليهم ، والنذر لهم ، والحلف بهم - لا يسمون ذلك عبادة ...... وهذا كله باطل ، قاده إليه سوء فهمه ، واتباعه لهواه ، وبدعته ، فإنه قد سبق أن الرب وضع للمعبود ، كما وضع للمالك ، والمربي ، والخالق ، وكذا لا يلزم أن لا يكون العمل عبادة إلا بالتسمية ، فمن سجد لآخر - فقد اتخذه ربا وعبده ، وإن لم يسم سجوده عبادة والمسجود له رباً ، كما أسلفنا ذلك .

وقد مر أيضاً مراراً عديدة : أن من العبادة طلب ما لا يقدر عليه إلا الله ، ونحو ذلك من خصائص الألوهية ، والعبادة ليست منحصرة في الركوع والسجود) .

2 - وقال رحمه الله محققاً أن العبرة بالمسميات لا بالتسمية :

(وأما قوله : ...... -

فمما يضحك الثكلى ، بل لا تجد له معنى ولا محصلاً ، وكأن مراده : أن الأفعال الشركية لا تكون شركاً - ما لم يسمها فاعلها عبادة ،

فيلزم أن لا يكون السجود مثلاً لغير الله تعالى شركاً - ما لم يسمه الساجد عبادة ، (( { سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } )) .

وقد صرح العلماء بأن المسميات ليست تابعة للأسماء ، فالذهب مثلاً ذهب وإن سميناه رصاصاً ، أو لم نسمه باسم) .

3 - وقال رحمه الله أيضاً ، مبيناً أن لا عبرة للأسماء ، وإنما العبرة للحقائق والمسميات :

(قال تعالى : { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } [الزمر : 64 ] ؛ فسجل على من أمر بدعاء الصالحين والاستعانة بهم - بالجهالة ، سواء سمى ذلك توسلاً وتشفعاً واستنصاراً أو كرامة ، أو لم يسمه) .

4 - وقال الإمام محمد البركوي (981هـ) مبيناً أن العبرة للحقائق والمسميات ، مبطلاً شبهات القبورية في الأسامي :

(فالمعرض عن التوحيد مشرك وكافر ، شاء أم أبى . والمعرض عن السنة مبتدع ضال ، شاء أم أبى) .

5 - وقريب منه كلام للإمام أحمد الرومي (1043هـ) .

6 -7- والشيخين : سبحان بخش الهندي ، وإبراهيم السورتي .

8 -9- وقد سبق قريباً كلام الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) وتبعه الشيخ المظفري :

أن القبورية باستغاثتهم بالأموات عند الكربات - يعبدونهم من حيث لا يشعرون ، وإن هم يقولون : لا نعبدهم .

10 - وقال العلامة الخجندي (1379هـ) محققاً أن محاولة تغيير الحقائق والمسميات والمصطلحات - بتغيير أسمائها - مكيدة من مكائد الشيطان التي أدخل بسببها الشرك على القبورية في قوالب شتى مزينة ، وأسماء مزخرفة :

(نحن نعلم بالضرورة : أن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يشرع لأحد أن يدعو أحداً من الأموات ، لا الأنبياء ، ولا الصالحين ، ولا غيرهم - بلفظ الاستغاثة ، ولا بغيرها ، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ، ولا إلى ميت ، ونحو ذلك ، بل نعلم يقيناً أنه نهى عن هذه الأمور كلها ، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن من أعظم مكائد الشيطان على بني آدم قديماً وحديثاً - إدخال الشرك فيهم في قالب تعظيم الصالحين ، وتوقيرهم ، بتغيير اسمه بالتوسل والتشفع ، ونحوه ، فالمشرك مشرك ، شاء أم أبى ،

والزنى زنى ، وإن سمي جماعاً ، والخمر خمر وإن سمي شراباً ، وكل معبود من دون الله - فهو جبت وطاغوت ، ويدخل فيه رءوس الضلال ، والكهان ، وسدنة الأوثان ، إلى عباد القبور ، وغيرهم - بما يكذبون من الحكايات المضلة للجهال ، الموهمة أن المقبور يقضي حاجة من توجه إليه وقصده - فيوقعهم في الشرك الأكبر وتوابعه * نعوذ بالله منه وطابعه * ) .

11 - وقال رحمه الله أيضاً ، محققاً أن الحقائق والمسميات - لا تتغير بتغير الأسماء ، مع تحقيق أن ((نداء الأموات)) عبادة :

(اعلم : أن كثيراً من الناس يسمون أنفسهم : ((موحدين)) ، وهم يفعلون مثل ما يفعل جميع المشركين :

من دعاء الأموات ، والاستغاثة بهم ، والنذر لهم ، ولكنهم لا يسمون أعمالهم هذه : ((عبادة)) ، فيفسدون في اللغة ، كما يفسدون في الدين ، وقد يسمونها : ((توسلاً)) ، و ((شفاعة)) ، ولا يسمون من يدعونهم من دون الله أو مع الله : ((شركاء)) ، ولكنهم لا يأبون أن يسموهم : ((أولياء)) ، و ((شفعاء)) ، وإنما الحساب والجزاء على الحقائق ، لا على الأسماء ،

ولو لم يكن منهم إلا دعاء غير الله ، ونداؤه - لقضاء الحاجات * وتفريج الكربات * - لكفى ذلك عبادة له ، وشركاً بالله عز وجل ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( « الدعاء مخ العبادة » )) ، رواه أبو داود ، والترمذي ، وهذا يفيد حصر العبادة الحقيقية في الدعاء ، ومن تأمل تعبير الكتاب العزيز عن ((العبادة)) بـ ((الدعاء)) - في أكثر الآيات الواردة في ذلك - يعلم كما يعلم من اختبر أحوال البشر في عباداتهم : أن ((الدعاء)) هو : ((العبادة)) الحقيقية الفطرية - التي يثيرها الاعتقاد الراسخ من أعماق النفس ، ولا سيما عند الشدة ، وأما ما عدا الدعاء من العبادات في جميع الأديان - فكله أو جله ، تعليمي تكليفي ، يفعل بالتكليف ، والقدوة ، وقد يكون في الغالب خالياً عن الشعور - الذي به يكون القول ، أو العمل : ((عبادة)) ، وهو الشعور بالسلطة الغيبية - التي هي وراء الأسباب العادية ، أما ترى إلى حافظ الأدعية الراتبة - يحرك بها لسانه - وقلبه مشغول بشيء آخر ،

وإنما العبادة جد العبادة : في الدعاء - الذي يفيض على اللسان من سويداء القلب ، وقرارة النفس ، وهذا الدعاء الخالص - الذي يغشاه جلال الإخلاص ) . [ولذا نقول : إنه هو العبادة ومخها ولبها] .

قلت :

لقد تبين للقراء الكرام بعد اطلاعهم على تحقيقات علماء الحنفية وجهودهم وأجوبتهم عن شبهات القبورية - التي تشبثوا بها لدعم وثنيتهم ، وجواز استغاثتهم بالأموات * عند الكربات لدفع المضرات وجلب الخيرات * .

أن القبورية لا يمكن لهم الآن أن يخوفوا أحداً من أهل التوحيد بشبهاتهم التي هي أوهن من بيت العنكبوت * الذي لا قرار له ، ولا له شيء من الثبوت * وتبين أن شبهاتهم كصرير باب * أو كطنين ذباب * .

فدع الوعيد فما وعيدك ضائري ... أطنين أجنحة الذباب يضيرني ؟

وستعلم القبورية أيضاً أن علماء الحنفية قد حاسبوهم حساباًَ شديداً ، حيث كشفوا الأستار عن أسرارهم ، وبينوا أكاذيبهم وتلبيساتهم ، وحققوا أنهم في استغاثاتهم بالأموات وثنية على دين الوثنية الأولى ، وبهذه المناسبة أتمثل بالبيت الآتي :

ستعلم ليلى أي دين تدينت ... وأي غريم في التقاضي غريمها

وستعرف القبورية أن أهل التوحيد الذين ينبزونهم بالوهابية ليسوا وحدهم ، رادين على القبورية .

فلست وحيداً يا ابن حمقاء فانتبه ... ورائي جنودي كالسيول تدفق

وبعد ما عرفنا بطلان أهم شبهات القبورية في باب الاستغاثة - ننتقل إلى الباب الآتي في التوسل ، لأن توسل القبورية في الحقيقة استغاثة بغير الله ، وبذلك يستوفى الرد على القبورية في الاستغاثة بالأموات عند الكربات ، فنقول وبربنا الرحمن المستعان نستعين *وعليه التكلان وبه نستغيث إذ هو المعين .

 

الرجوع للصفحة الرئيسية