جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية

 جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية

-الباب الرابع -

وبعد هذا ننتقل إلى الباب الرابع لنعرف جهود علماء الحنفية في التحذير من الشرك وحماية حمى التوحيد وسد الذرائع الموصلة إلى الشرك .

 

* فنقول : وبربنا الرحمن المستعان نستعين * وبه نستغيث إذ هو المستغاث المغيث المعين * :

الباب الرابع

في جهود علماء الحنفية في التحذير من الشرك ، وحماية حمى التوحيد ، وسد جميع الذرائع الموصلة إلى الشرك وردهم على القبورية في ذلك كله

وفيه فصول ثلاثة:

- الفصل الأول: في جهود علماء الحنفية في التحذير من الشرك.

- الفصل الثاني: في ذكر القواعد الأصولية لعلماء الحنفية التي يستفاد منها في حماية حمى التوحيد وسد جميع الذرائع الموصلة إلى الشرك.

- الفصل الثالث: في بيان عدة من ذرائع الشرك التي قد صرح علماء الحنفية بوجوب سدها لئلا يتذرع بها إلى الشرك وحماية لحمى التوحيد.

 

كلمة بين يدي هذا الباب

لقد ذكرت في الفصلين الأولين من الباب السابق نصوص علماء الحنفية في تعريف الشرك وأنواعه وتحقيقهم في مصدر عبادة القبور ونشأة القبورية وانتشارها، كما ذكرت نصوصهم في الرد على القبورية، حيث حرفوا تعريف الشرك وبدلوا مفهومه وغيروا حقيقته ، وتبين أن تعريف الشرك عند القبورية تعريف مزيف باطل غير صحيح وغير جامع لأفراده بل غير صادق على شرك عامة المشركين من قديم الدهر وحديثه.

وفي هذا الفصل أتحدث عن جهود علماء الحنفية في التحذير من الشرك؛ حيث أذكر نصوصهم في تفسير بعض الآيات وشرح بعض الأحاديث التي تحذر من الشرك حماية لحمى التوحيد وسدا لجميع الذرائع الموصلة إلى الشرك، كما سأذكر بعض أقوالهم الأخرى في التحذير من الشرك إن شاء الله ؛

ليعلم المسلمون أن أضرار الشرك ومفاسده وعواقبه وخيمة في أقصى نهاية الشرور والمفاسد؛ إذ الشرك يضادّ التوحيد؛ فكما أن منافع التوحيد وفوائده وثماره الطيبة في أعلى ما يتصور من المنافع والفوائد، كذلك مفاسد الشرك في أقصى المفاسد فكما لا يتصور خير بعد خير التوحيد كذلك لا يتصور شر بعد شر الشرك فالشر يعرف بالخير " وبضدها تتبين الأشياء" .

وبناء على هذا يقتضي طبيعة هذا الفصل أن يكون مشتملًا على ثلاثة مباحث فأقول وبالله التوفيق:

 

الفصل الأول

في جهود علماء الحنفية في التحذير من الشرك

وفي مباحث ثلاثة:

- المبحث الأول: في ذكر بعض الآيات المباركة التي تحذر من الشرك مع أقوال علماء الحنفية في تفسيرها.

- المبحث الثاني: في ذكر بعض الأحاديث التي تحذر من الشرك مع أقوال علماء الحنفية في شرحها.

- المبحث الثالث: في ذكر بعض نصوص علماء الحنفية في التحذير من الشرك وعواقبه الوخيمة.

المبحث الأول

في ذكر بعض الآيات الصريحة التي تحذر من الشرك مع نماذج من أقوال مفسري الحنفية في تفسيرها

إن التالي لكتاب الله والمتدبر لآياته يعلم علما يقينا:

أن القرآن الكريم كله في التوحيد ومكملاته وفي التحذير من الشرك وأسبابه؛ فالآيات في التحذير من الشرك كثيرة جدًا يصعب إحصاؤها.

ولقد اهتم علماء الحنفية بذكر كثير من الآيات التي تحذر من الشرك وذكروا أنها كثيرة جدّا، حتى قالوا: إن موضوع القرآن الكريم إنما هو التوحيد والتحذير مما يضاده وهو الشرك والكفر.

من المعلوم أن " الموضوع " في أي كتاب أو في أي علم إنما هو " المضمون " الأهم المركزي الذي يورد الأدلة لإثباته وتحقيقه والشواهد لتقريره وتصديقه والأمثلة لإيضاحه والشرح لأحواله؛ " كالكلمة والكلام " موضوع علم النحو فكل ما في علم النحو إنما يدور حول هذا الموضوع فإذا كان " موضوع القرآن الكريم ":

إنما هو " التوحيد والتحذير من الشرك " فيكون جميع ما في القرآن الكريم من الأدلة والشواهد والأمثلة والتبشير والتخويف والترغيب والترهيب والقصص وغيرها- إنما يؤتى به لتحقيق هذا الموضوع وإثباته ونقض الشبهات حوله وهذا الموضوع الذي هو مطلوب أساسي للقرآن الكريم إنما هو يتمثل في " التوحيد والتحذير من الشرك "؛ فالقرآن الكريم كله لتقرير التوحيد والتحذير من الشرك، وهذا أمر ذكره كثير من كبار علماء الحنفية:

قال الإمام ابن أبي العز (792هـ) والعلامة القاري (1014هـ) واللفظ للأول:

(وغالب سور القرآن الكريم متضمنة لنوعي التوحيد [ توحيد الربوبية وغيرها من الصفات وتوحيد الألوهية ].

بل كل سورة من القرآن الكريم - فالقرآن الكريم إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله:

وهو التوحيد العلمي الخبري ، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من دونه:

فهذا التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعة- فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن إكرام أهل توحيده وما فعل بهم في الدنيا والآخرة:

فهي جزاء توحيده؛ وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من العذاب:

فهو جزاء من خرج من حكم التوحيد؛ فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه.

وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم.

قلت: إذا كان الأمر كذلك يصعب حصر تلك الآيات الصريحة المحذرة من الشرك ولكن ما لا يدرك كله أو لا يدرك جله لا يترك بعضه.

لهذا أكتفي بذكر بعض الآيات الصريحات * في التحذير من الشركيات* مع ذكر بعض النصوص الحنفيات* في تفسير تلك الآيات* فأقول والله المستعان:

الآية الأولى: في ضرب مثل للمشرك بأنه هالك ما بعد هلاك وممزق كل ممزق .

قال الله تعالى: { حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [ الحج:31].

قال الزمخشري (ت 538) والنسفي (ت 710) والمهايمي (ت 835) والعمادي (951) والبروسوي (1137) والباني بتي (1225) والميرغني (1268) والألوسي (1270) وحسين علي (1362) والمودودي (1979م) والصابوني (؟)، واللفظ للأول:

( قال: من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده نهاية؛

بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير فتفرق مزقا في حواصلها؛ أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطارح البعيدة ).

الآية الثانية : في بيان أن الشرك أعظم الظلم وأظلمه وأكبر الكبائر على الإطلاق .

قال سبحانه وتعالى: { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان:13].

قال هؤلاء العلماء الحنفية الذين ذكرت أسماءهم في تفسير الآية الأولى واللفظ للمودودي ( قال المودودي ما تعريبه):

إن الظلم في الأصل معناه هضم حق آخر والمعاملة بدون الإنصاف والشرك ظلم عظيم لأن فيه استواء أشخاص لا دخل لهم في الخلق والرزق والنعم بالله سبحانه وتعالى في العبادة.

فالشرك ظلم لا يتصور بعده ظلم آخر؛ وللخالق سبحانه على عبده المخلوق حق العبادة فيعبده وحده لا شريك له ولكن المشرك يضيع حق الله فيعبد غيره؛ ثم هو في هذا الظلم يستخدم عدة من القوى التي أعطاها الله في جسمه وما سخر الله له من النعم في السماء والأرض مع أن الله وحده خالق لهذه القوى والنعم؛

فلا يستحق أحد أن يستعمل له تلك القوى والنعم دون الله الذي خلقها ثم للعبد على نفسه حق آخر وهو:

أن لا يذل نفسه ولا يبذلها في عبادة غير الله تعالى لئلا يستحق أليم عقاب الله تعالى ولكن المشرك يذل نفسه بعبادة غير الله تعالى ويوقعها في عذاب الله الأليم بسبب هذا الظلم العظيم وهكذا المشرك يمضي جميع عمره في الظلم إلى أن لا يخلو نفس من نفساته من الظلم العظيم الذي هو الشرك بالله العظيم.

الآيتان الثالثة والرابعة: في أن كل ذنب وظلم يرجى مغفرته بدون التوبة ما خلا الشرك .

قال جل وعلا: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } [النساء: 116]، وقال أيضا:

{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا } .

قلت: هاتان الآيتان من قبيل القضايا التي قياساتها معها؛ فقد حذر الله تعالى المشركين بأنهم لا يغفر لهم بدون التوبة أبد الآبدين* وعوض العائضين* ودهر الداهرين * ثم علل ذلك بأن المشرك قد افترى على الله افتراء عظيما ما بعده افتراء وأنه ضل عن التوحيد ضلالا بعيدا ما بعده ضلال فاستحق بشركه الذي هو ظلم عظيم وذنب أكبر وافتراء أقبح

وضلال أبعد أن لا يغفر له بدون التوبة فيكون من الخالدين * في العذاب الأليم أبد الآبدين * .

هذا حاصل ما ذكره المفسرون من الحنفية في تفسير هذه الآية ...

وإليكم بعض نصوصهم:

1 - قال الإمام أبو الليث السمرقندي (375): ( يعني اختلق على الله كذبا عظيما ويقال : فقد أذنب ذنبا عظيما ) .

2 - وقال النسفي (710): (كذب كذبا عظيما استحق به عذابا أليما ).

3 - وقال العمادي (983): (افترى واختلق مرتكبا إثما لا يقادر قدره ويستحقر دونه جميع الآثام فلا تتعلق به المغفرة قطعا ).

4 - وقال المهايمي (835): ( وكيف يغفر للمشرك بالله تعالى { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى } أي قصد { إِثْمًا عَظِيمًا } تقتضي الحكمة التعذيب عليه بأعظم الوجوه وهو التخليد في النار ).

5 - وقال البروسوي (1137): " افترى واختلق مرتكبا إثما فلا تتعلق به المغفرة قطعا "

6 - وقال الباني بتي (1225): " يعني ارتكب الكذب والفساد كذبا وفسادا عظيما يستحقر دونه الآثام وهذا وجه الفرق بينه وبين سائر الآثام ".

7 - وقال الميرغني (1268): " وأي إثم أكبر من الشرك فإنه لا يصح معه عمل ".

8 - وقال الآلوسي : " استثناء مشعر بتعليل عدم غفران الشرك ... أي ارتكب ما يستحقر دونه الآثام فلا تتعلق به المغفرة قطعا ".

9 - وقال الأستاذ أبو الأعلى المودودي (1979م): " ليس القصد من هذه الآيات أن للإنسان أن يرتكب الذنوب ما خلا الشرك بل القصد منها :

أن الشرك الذي صغروا وحقروا أمره هو أعظم من جميع الذنوب بحيث أن سائر الذنوب يرجى مغفرتها ما خلا الشرك فإنه ذنب لا يغتفر أبدا؛ وقد كان أحبار اليهود يهتمون بصغار المسائل الاجتهادية التي استنبطها أئمتهم ولكنهم يستخفون بشأن الشرك ويرونه هينا بحيث أنهم لم يكونوا يتنزهون من الشرك ولا ينهون أقوامهم من الخيالات الشركية وأعمالها؛ ولا يرون بأسا في تولي المشركين أيضا ".

قلت: لقد صدق الأستاذ المودودي - رحمه الله تعالى - في التحذير

من الشرك وغفلة أحبار اليهود في الاستهانة بشأن الشرك واهتمامهم بصغار الأمور وتعصبهم لآراء أئمتهم؛ فلقد تبعهم في هذا علماء السوء المبتدعة المقلدة المتعصبة الذين اتخذوا أئمتهم في التشريع من التحريم والتحليل أربابا يقدمون أقوالهم وآراءهم الاجتهادية الفقهية على صريح الكتاب والسنة ويتعصبون لهم كأنهم أنبياء أرسلوا إليهم ووصلوا في طاعتهم إلى حد عبدوهم من دون الله ؛ فترى هؤلاء المتعصبة المقلدة ولا سيما بعض من ينسب إلى الحنفية منهم: كالكوثرية والديوبندية يبغضون السنة أشد البغض؛ فرفع اليدين عندهم أشد من وقع السيوف والتأمين بالجهر أشد من الرصاصة في قلوبهم؛ فأخلوا بتوحيد العبادة ومتابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم- فإلى الله المشتكى وإليه الملتجى.

الآية الخامسة: في بيان أنه لا يجوز الاستغفار للمشرك بعد موته لأن الله تعالى لا يغفر للمشرك فلا يجوز الاستغفار له إذ ليس له إلا النار .

قال عز من قائل : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [التوبة :113] ، قال الأستاذ أبو الأعلى المودودي (1979م) :

(إن الاستغفار لأي شخص مذنب يتضمن لأمرين:

(1) أن للمستغفر شفقة ورحمة ومحبة لهذا المذنب .

(2) أن ذنبه قابل للمغفرة .

وهذان الأمران لا يتحققان إلا في عبد وفى بتوحيد الله ولكنه ارتكب ذنبا دون الشرك، ولكن المشرك الذي هو باغ على الله بالعلانية، فالمحبة له وعد إجرامه قابلا للمغفرة- باطل أصلا؛ بل محبتنا له وعد شركه قابلا للمغفرة- يجعلان وفاءنا بالتوحيد مشوها؛ فلو أقدمنا للاستغفار للمشرك لمجرد أنه من أهل قرابتنا- لكان معناه أن القرابة عندنا أحق وأثمن من توحيد ربنا وتعظيمه والوفاء بحقه وأن محبتنا لله ولدينه ليس إلا سطحيا لم تخالط شيئا بشاشة قلوبنا ولم تصل إلى أعماقها؛ وبهذا كله تبين أن الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولي قربى لا ينبغي أن يصدر عن عبد وحد الله عز وجل لأن ذلك خلاف الوفاء بالتوحيد ومناف للإيمان؛ ويجب علينا أن نحب من يحبه الله وأن نعادي من عادى الله؛ ثم في الآية نكتة لطيفة وهي:

أن الله تعالى لم يقل " لا تستغفروا للمشركين "بل قال " ما كان للنبي ... " أي لا ينبغي الاستغفار لهم فليس هذا يزين بكم.

فأفاد هذا الأسلوب:

أنكم لو امتنعتم عن الاستغفار لهم بعد المنع -

فهذا ليس فيه كبير عمل؛ بل الكمال في أن تمتنعوا عما لا يليق بكم ولا يزين لكم؛ بحيث يكون محرك محبتكم لله ووفاءكم له - مثيرا لشعوركم وإحساسكم - على أن لا تحبوا المشرك الباغي على الله، وأن لا تعدوا إجرامه قابلا للمغفرة.

الآية السادسة : في بيان أن جميع أعمال الشرك حابطة وهباء منثورا .

قال جل جلاله :

{ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ الزمر: 65] .

ولقد ذكر الله تعالى ثمانية عشر من أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام.

ثم قال : { ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 83-88] .

قال الزمخشري (538هـ) والنسفي (710هـ):

واللفظ للأول : ( { وَلَوْ أَشْرَكُوا } مع فضلهم وتقدمهم وما رفع لهم من الدرجات لكانوا كغيرهم في حبوط أعمالهم، كما قال تعالى وتقدس : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } ) .

وقال أبو السعود العمادي ( 951هـ) والألوسي (1270هـ) واللفظ للثاني:

( { وَلَوْ أَشْرَكُوا } أي [ أولئك الأنبياء والرسل ] المذكورون ، { لَحَبِطَ } أي لبطل وسقط عنهم مع فضلهم وعلو شأنهم { مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي ثواب أعمالهم الصالحة ؛ فكيف بمن عداهم وهم هم وأعمالهم أعمالهم ) .

وقال البروسوي ( 1137هـ ) والباني بتي (1225هـ) والصابوني واللفظ للأول :

(أي ولو أشرك هؤلاء الأنبياء مع فضلهم وعلو شأنهم { لَحَبِطَ عَنْهُمْ } أي بطل وذهب { مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } من الأعمال المرضية الصالحة فكيف بمن عداهم؟ وهذا غاية التوبيخ والترهيب للعوام والخواص ).

وقال الشيخ حسين علي (1362): (الضمير في قوله تعالى : { وَلَوْ أَشْرَكُوا } يرجع إلى جميع هؤلاء الأنبياء والمرسلين الذين سبق ذكرهم صراحة أو كناية؛ فصدور الشرك من الأنبياء محال، ولكن لو فرض ذلك المحال وأشركوا بالله لضاع جميع أعمالهم الصالحة، والقصد من هذا التعبير بيان غاية شناعة الشرك ونهاية قباحته).

وقال الأستاذ المودودي رحمه الله (1979م):

( يعني لا قرار للعمل الصالح البتة مع الشرك؛

فالذي أشرك بالله وعمل أعمالا كثيرة وظن أنها صالحة ونافعة له فهو ليس بمستحق لأجرها، وأن حياته تمضي كلها في خسران على خسران).

الآية السابعة: في بيان أن المشرك قد حرمت عليه الجنة أبد الآبدين* ومخلد في النار دهر الداهرين* قال عز من قائل:

{ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } [ المائدة: 72].

قال الزمخشري (538هـ) والنسفي (710هـ) والعمادي (951هـ) والبروسوي (1137هـ) والباني بتي (1225هـ) والألوسي (1270هـ) واللفظ للأخير:

( إنه أي الشأن { مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ } أي شيء في عبادته سبحانه أو فيما يختص به من الصفات والأفعال؛ كنسبة علم الغيب وإحياء الموتى بالذات إلى عيسى عليه الصلاة والسلام [ أو إلى غيره].

{ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ } لأنها دار الموحدين والمراد يمنع دخولها كما يمنع المحرم عليه من المحرم .

{ وَمَأْوَاهُ النَّارُ } فإنها معدة للمشركين ؛ وهذا بيان لابتلائهم بالعقاب * أثر بيان حرمانهم الثواب * ؛ ولا يخفى ما في هذه الجملة من الإشارة إلى قوة المقتضي؛

لإدخاله النار).

الآية الثامنة: في بيان أن المشرك نجس؛ قال جل من قائل: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } [ التوبة : 28] .

قال العلامة الآلوسي (1270هـ) مفتي الحنفية ببغداد :

( { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } أخبر عنهم بالمصدر للمبالغة كأنهم " عين النجاسة ". أو المراد : ( ذو نجس ) لخبث بواطنهم وفساد عقائدهم ؛ أو لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس ... ؛ ويجوز أن يكون ( نجس ) صفة مشبهة ؛ وإليه ذهب الجوهري .

ولا بد حينئذ من تقدير " موصوف " مفرد لفظا مجموع معنى ؛ ليصح الإخبار به عن الجمع:

أي " جنس نجس " ونحوه ).

ثم ذكر أن أكثر الفقهاء ذهبوا إلى أن أعيانهم طاهرة ، ثم قال:

(وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما: " أن أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير ".

قال: " وإلى ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما مال الإمام الرازي ".

وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية ولا يعدل عنه إلا بدليل منفصل ؛ قيل : " على ذلك فلا يحل الشرب في أوانيهم ولا مؤاكلتهم ولا لبس ثيابهم "؛ ولكن صح عن النبي صلى الله عليه وسلم والسلف خلافه.

واحتمال كونه قبل نزول الآية -فهو منسوخ- بعيد والاحتياط لا يخفى " ، ثم قال:

( { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } تفريع على نجاستهم؛ والمراد النهي عن الدخول إلا أنه نهى عن القرب للمبالغة ).

قلت : وعلى هذا المنوال فسر الآية كثير من مفسري الحنفية .

الحاصل : أن هذه الآيات تحذر من الشرك غاية التحذير لعواقبه الوخيمة.

* * *

المبحث الثاني

في ذكر بعض الأحاديث الصحيحة التي تبين عواقب الشرك الوخيمة مع ذكر بعض الأقوال الصريحة في شرحها لشارحي الحنفية

لقد ذكرت في المبحث السابق ثماني آيات من الذكر الحكيم مع بعض أقوال مفسري الحنفية في تفسيرها في بيان شناعة الشرك وعواقبه الوخيمة ؛ وفي هذا المبحث أذكر بعض الأحاديث الصحيحة التي تبين عواقب الشرك الوخيمة ومصير أصحابه مع ذكر بعض أقوال علماء الحنفية في شرحها؛ ليكون من أبلغ رد على القبورية الذين يباشرون العقائد الشركية والأعمال الخرافية والأقوال الوثنية مع دعواهم الإيمان وانتسابهم إلى الإسلام.

فأقول وبالله التوفيق :

الحديث الأول: في بيان أن " الشرك " أكبر الكبائر على الإطلاق .

عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم « ألا أنبئكم بأكبر الكبائر - ثلاثا - ، قالوا : بلى يا رسول الله .

قال : " الإشراك بالله.... " » . وفي رواية « أكبر الكبائر الإشراك بالله... » .

وهذا اللفظ عن أنس رضي الله عنه أيضا .

قال الإمام البدر العيني أحد كبائر أئمة الحنفية (855هـ): (وجه تخصيص هذه الأربعة بالذكر لأنها أكبر الكبائر والشرك أعظمها).

وقال ابن الملك وهو من أكابر الحنفية (797): " إذ لا ذنب فوقه فيكون أكبر الكبائر ".

الحديث الثاني: في بيان أن الشرك أعظم الذنوب على الإطلاق * وأكبرها دون شقاق*.

« عن عبد الله قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم : أي ذنب أعظم عند الله ؟.

قال: " أن تجعل لله ندّا وهو خلقك " » .

وفي رواية عن عبد الله « قال رجل يا رسول الله : أي ذنب أكبر عند الله؟ قال : " أن تدعو لله ندّا وهو خلقك " » .

قال الإمام البدر العيني (855): " قوله: (أن تجعل لله ندّا قدمه لأنه أعظم الذنوب ؛

قال الله تعالى : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان: 13 .

وقال العلامة القاري (1014):

والمراد أن أكبر الكبائر مع الشرك بالله بل الكفر مطلقا وإنما خص لأن الشرك لظلم عظيم ".

وقد بوب الشيخ العثماني (1369) على هذا الحديث مثل ما بوب عليه النووي؛ حيث قال: " باب بيان كون الشرك أقبح الذنوب ... ".

الحديث الثالث: في أن الشرك أعظم موبق من الموبقات وأكبر مهلك من المهلكات .

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « " اجتنبوا السبع الموبقات ".

قالوا : يا رسول الله تعالى وما هن ؟ قال: " الشرك بالله تعالى... " » .

وفي رواية : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله تعالى ... » .

قال الإمام البدر العيني ( 855) : ( قوله : " الموبقات ": أي المهلكات : أحدها الشرك بالله ".

وقال : ( لا إثم أعظم من الشرك ).

وقال العلامة القاري (1014) ثم الكاندهلوي (؟): " قوله : ( اجتنبوا) أي احذروا فعلها " الموبقات " أي المهلكات ".

وقال ابن الملك (797هـ ) : " أي احذروا عن فعل الذنوب السبع المهلكة لمن ارتكبها؛ أو معنى " الموبقات " الحابسات على الصراط ".

وقال الإمام الفتني (986): (" الموبقات " أي الذنوب المهلكات ).

* * * * *

 

المبحث الثالث

في نصوص علماء الحنفية في التحذير من الشرك

1 - قال الإمام محيي الدين البركوي أحد عظماء الحنفية (981): (فإن الشرك ملزوم للتنقيص " لله تعالى " والتنقيص لازم له ضرورة شاء المشرك أو أبى؛ ولكون الشرك منقصا للربوبية اقتضى حكمته تعالى وكمال ربوبيته أن لا يغفره ويخلد صاحبه في النار ؛ ولا تجد مشركا قط إلا وهو منتقص لله تعالى ؛ وإن زعم أنه يعظمه ؛ كما أنك لا تجد مبتدعا إلا وهو منتقص للرسول صلى الله عليه وسلم وإن زعم أنه معظم بالبدعة).

2 - وقال رحمه الله تعالى :

" فإن الشرك لما كان أظلم الظلم وأقبح القبائح وأنكر المنكر- كان أبغض الأشياء إلى الله تعالى وأكرهها له؛ ولذلك رتب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب آخر سواه وأخبر أنه لا يغفره وأن أهله نجس ومنعهم قربان حرمه وحرّم

ذبائحهم ومناكحتهم وقطع الموالاة بينهم وبين المؤمنين وجعلهم أعداء له ولملائكته ورسله والمؤمنين ؛ وأباح لأهل التوحيد أموالهم ونساءهم ؛ وأن يتخذوهم عبيدا؛ وهذا لأن الشرك هضم لحقوق الربوبية وتنقيص لعظمة الإلهية وسوء ظن برب العالمين فإنهم ظنوا به ظن السوء حتى أشركوا به ولو أحسنوا الظن لوحدوه حتى توحيده ولم يرجوا شيئا من غيره؛ ولهذا أخبر سبحانه وتعالى عنهم في ثلاثة مواضع من كتابه :

أنهم ما قدروا الله حق قدره ).

3 - وقال العلامة محمود شكري الآلوسي ( 1342):

في بيان أن المشرك هو المنتقص لجناب الله تعالى وهو المسيء للظن بالله عز وجل :

(الوجه الثامن :

أنه من أعرض عن الله وقصد غيره وأعد ذلك الغير لحاجته وفاقته واستغاث به ونذر له ولاذ به فقد أساء الظن بربه ؛ وأعظم الذنوب عند الله تعالى إساءة الظن به ؛ فإن المسيء به الظن قد ظن به خلاف كماله المقدس؛ فظن به ما يناقض أسماءه وصفاته ؛ ولهذا توعد سبحانه وتعالى الظانين به ظن السوء بما لم يتوعد به

غيرهم؛ كما قال تعالى { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } [الفتح : 6].

وقال تعالى { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [فصلت: 23] .

وقال تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام : { أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الصافات : 87- 88] ؛ أي فما ظنكم أن يجازيكم إذا لقيتموه وعبدتم غيره ؛ وما ظننتم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص حتى أحوجكم ذلك إلى عبودية غيره؛ فلو ظننتم به ما هو أهله من أنه بكل شيء عليم ؛ وأنه المنفرد بتدبير خلقه لا يشرك فيه غيره ؛ والعالم بتفاصيل الأمور فلا تخفى عليه خافية من خلقه؛ والكافي لهم وحده لا يحتاج إلى معين والرحمن بذاته فلا يحتاج في رحمته إلى من يستعطفه [ لما عبدتم غيره ولما استعنتم بغيره ولما جعلتم بينه وبينكم وسائط وشفعاء ].

وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرؤساء فإنهم محتاجون إلى من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجهم من الوسطاء الذين يعينونهم على قضاء حوائجهم وإلى من يسترحمهم ويستعطفهم بالشفاعة فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة لحاجتهم وعجزهم وضعفهم وقصور علمهم؛ فأما القادر على كل شيء الغني بذاته عن كل شيء العالم بكل شيء

الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء- فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه تنقص بحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده وظن به ظن السوء؛ وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده؛ ويمنع في العقول والفطر؛ وقبحه مستقر في العقول السليمة فوق كل قبح؛ ويوضح هذا أن العابد معظم لمعبوده متأله له خاضع ذليل له والرب تبارك وتعالى وحده هو الذي يستحق كمال التعظيم والإجلال والتأله والخضوع والذل؛ وهذا في خالص حقه؛ فمن أقبح الظلم أن يعطى حقه لغيره ويشرك بينه وبينه فيه ولا سيما إذا كان الذي جعل شريكه في حقه هو عبده ومملوكه ؛ كما قال تعالى :

{ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ } [ الروم : 28] ؛ أي إذا كان أحدكم يأنف أن مملوكه شريكه في رزقه فكيف تجعلون لي من عبيدي شركاء فيما أنا منفرد به وهي :

الإلهية التي لا تنبغي لغيري ولا تصلح لسواي ؛ فمن زعم ذلك فما قدرني حق قدري ولا عظمني حق تعظيمي ولا أفردني بما أنا منفرد به وحدي دون خلقي فما قدر الله حق قدره من عبد معه غيره كما قال تعالى

{ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الزمر : 68] ، فما قدر من هذا شأنه وعظمته حق قدره من أشرك به في عبادته من ليس له شيء من ذلك البتة بل هو أعجز شيء وأضعفه؛ فما قدر القوي العزيز حق قدره من أشرك معه الضعيف الذليل ).

ثم قال بعد كلام طويل رد فيه على الجهمية المعطلة من الماتريدية والأشعرية وغيرهم:

(فهل قدر الله حق قدره من هذا وصفه ؟)، ثم قال بعد كلام:

( فهذه إشارة لطيفة إلى السر الذي لأجله كان الشرك أكبر الكبائر عند الله تعالى ، وأنه لا يغفر بغير التوبة منه ؛ وأنه يوجب الخلود في النار ؛ وأنه ليس تحريمه وقبحه بمجرد النهي عنه ؛ بل يستحيل على الله سبحانه وتعالى أن يشرع عبادة إله غيره كما يستحيل عليه ما يناقض أوصاف كماله ونعوت جلاله ؛ وكيف يظن بالمنفرد بالربوبية والإلهية والعظمة والجلال أن يأذن في مشاركته في ذلك أو يرضى به ؛ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ".

4 - وقد بوب الإمام الدهلوي ( 1246) للتحذير من الشرك فقال: ( باب الاجتناب عن الإشراك ) ؛

ثم ذكر عدة آيات صريحات * وأحاديث صحيحات* في التحذير عن الشرك وبيان عواقبه الوخيمات* 5-6- وقال الإمام المجاهد الدهلوي (1246) والشيخ أبو الحسن الندوي واللفظ له:

 

(الفصل الأول في التحذير عن الشرك :

قال الله تعالى :

{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا } [ النساء :116] ، الفرق بين الشرك وسائر الذنوب :

اعلم أن هنالك أنواعا من الذنوب والآثام يقترفها الناس إذا جمحت بهم النفوس وغلبهم الهوى؛ فمنهم من لا يميز بين حلال وحرام ومنهم من يقترف سرقة أو عملا من أعمال الفسوق؛ ولكن الذي تورط في الشرك فقد أسرف وظلم ظلما مبينا؛ لأنه قد جنى جناية لا يغفرها الله " بدون التوبة "، الشرك الجلي ثورة وخروج يحرك الغيرة الإلهية :

الشرك الجلي الذي هو من آخر درجات الشرك ويكفر به الإنسان؛ يبقى صاحبه في النار خالدا مخلدا لا يخرج منها؛ ومثل ذلك أن الملك قد يعفو عن أناس من رعيته، يرتكبون سرقة وعن أناس يقطعون الطريق على قوافل؛ أو يشنون غارة ومنهم من يتكاسل عن الحراسة أو الخفارة فينام

عنها؛ ومنهم من يتخلف عن حضور مجلس الملك ...؛ ومنهم من يتولى يوم الزحف ويتسلل عن الحرب...؛ ولكل جناية من هذه الجنايات عقوبات محددة عند الملك إن شاء أخذ بها وإن شاء عفا عنه .

وتقابل هذه الجنايات جنايات تنم عن الثورة على الملك والخروج عليه؛ مثلا يبايع بالملك لأمير أو وزير أو دهقان أو مرزبان ؛ أو عمدة قرية أو موظف حكومي من أصحاب النباهة وأهل النبل؛ أو لكناس أو إسكاف من أهل المهن الوضيعة والطبقات السافلة فيضع له تاجا أو إكليلا ويهيئ له عرشا أو سريرا ؛ أو يخلع عليه الألقاب الملوكية ويخاطبه بجلالة الملك وظل الله في الأرض...؛ فهذه الجناية أكبر من كل الجنايات وصاحبها لا محالة لاق جزاءه؛ وكل ملك يستهين بشأن هذه الجنايات ويغفل عن معاقبة هؤلاء المجرمين كان في ملكه وهن ونسبه العقلاء إلى قلة الغيرة وضعف الرأي وسقوط الهمة، أما مالك الملك تبارك وتعالى فهو أغير من كل غيور وأقوى من كل قوي فيجب أن يخشى بأسه ويتقي سطوته فكيف يعقل أن يتغافل عن المشركين وكيف لا يوفيهم حسابهم؛ لطف الله بالمسلمين ووقاهم آفات الشرك ؛ الشرك ظلم ووضع للشيء في غير محله :

 

قال الله تعالى { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] .

ولقد هدت لقمان الحكمة العميقة التي أكرمه الله تعالى وخصه بها؛ إلى أفحش الظلم أن يجود الإنسان على أحد بحق غيره؛ فمن أعطى حق الله لأحد خلقه فقد عمد إلى حق أكبر كبير؛ فأعطاه أذل ذليل وكان كرجل وضع تاج الملك على مفرق إسكاف؛ وأي جور أكبر من هذا الجور وأي ظلم أفحش من هذا الظلم؟ وليعلم يقينا أن كل مخلوق كبيرا كان أو صغيرا هو أذل من إسكاف أمام عظمة الله وجلالته؛ وقد دلت الآية وشهد بها الشرع والعقل السليم أن الشرك أقبح العيوب؛ وما زال الناس يعتبرون إساءة الأدب مع كبرائهم وسادتهم- أكبر عيب وأعظم خرق؛ فلما كان تبارك وتعالى أكبر من كل كبير كانت إساءة الأدب إليه والإشراك معه عيبا ليس فوقه عيب؛ وخرقا لا يفوقه خرق؛ وقد اتفقت جميع الشرائع على المنع من الشرك والأمر بالتوحيد وهو الصراط المستقيم وطريق النجاة؛ وكل ما عداها من طرق وسبل ، فهي طرق الضلال والسبل المردية...؛ إن الله تعالى لا يقبل إلا خالصا مخلصا ليس لأحد فيه نصيب كما

أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه وأنا منه بريء » .

وقد دل هذا الحديث على أن الله تعالى لا يقبل عملا أشرك فيه معه غيره فلا يقبل عبادة المشرك بل يتبرأ منها ؛ وليس شأنه شأن الذين يأخذون نصيبهم من الشيء المشترك بينهم وبين غيرهم؛ فإنه أغنى من كل غني وأغير من كل غيور فلا يقبل إلا خالصا مخلصا ليس لأحد فيهم سهم أو نصيب "، ثم ذكرا حديث الميثاق في تفسير قوله تعالى : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } [الأعراف:172] ؛ فقالا: ( وقد تبين من الحديث أنه سبق أمر الله بالتوحيد؛ والنهي عن الشرك لكل نسمة في عالم الأرواح وما بعث الرسل ونزلت الصحف إلا لتبين ذلك وتؤكده ؛ وأخرج أحمد عن معاذ بن جبل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تشرك بالله شيئا وإن قتلت وحرقت » .

فيجب على المسلم أن يصبر على ما يصيبه من الأذى ؛ ولا ينبغي أن تحمله هذه الفتنة على وهن في الدين أو فساد في

العقيدة فيحبط بذلك عمله ويخسر بذلك دينه الذي هو ملاك أمره ورأس ماله؛ وقد دل هذا الحديث على أن من مقت الشرك ونبذ الآلهة وكره تقديم النذور والقرابين إليها؛ وحارب العادات الجاهلية والتقاليد الباطلة فأصابته خسارة في المال أو رزية في الأولاد...- فيجب عليه أن يصبر على ذلك ويستقيم على دينه؛ وأخرج الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : « قال رجل يا رسول الله أي الذنب أكبر؟ قال: أن تدعو لله ندّا وهو خلقك » .

وقد دل على هذا الحديث أن إشراك العبد أحدا بالله تعالى في علمه المحيط وقربه من كل أحد وقدرته على كل شيء فيستغيث به ويستصرخه- أكبر الكبائر؛ لأنه ليس في إمكان أحد أن يسعف بحاجته مثله وأن يكون [علمه]:

في كل مكان لا يغيب عنه شيء.

ثم إن كان الواقع أن الله تعالى هو الذي خلقنا وربنا ونحن نقر بذلك وجب علينا أن لا ننادي إلا إياه؛ ولا نستعين إلا به،

وما لنا ولغيره؟ فمن كان من جملة عبيد ملك وصنائعه انقطع إليه كليّا؛ وأطبق عينه عن ملك ورئيس فضلا عن وضيع أو خسيس، أيجمل بنا أن نكون أقل غيرة أو أضعف وفاء من المملوك لمولاه المجازي؟ الموحد المذنب حري بأن يتوب وتدركه رحمة الله ولطفه بخلاف المشرك العابد؛ وأخرج الترمذي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله تعالى : « يا ابن آدم إنك لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة » .

وقد دل هذا الحديث أن الإنسان مهما أتى به من الذنوب واقترف من آثام وإن كانت تعدل ذنوب أكبر العصاة والمجرمين كفرعون وهامان ولكنه سلم عن الإشراك بدل الله سيئاته حسنات وأتاه بقراب هذه الذنوب مغفرة؛ فظهر أن الذنوب تتضاءل أمام عقيدة التوحيد ؛

وأن بركتها تغشى المذنب فتمحو خطاياه ؛ كما أن للشرك شؤما وظلمة تغطي على جميع الحسنات؛ وتحبط جميع العبادات؛ فكان الموحد الفاسق خير من المتقي المشرك ألف مرة؛ كما أن الوفي المقصر من الرعية كان خيرا من الثائر المتملق؛ لأن الأول نادم على تقصيره؛ والثاني معجب بخديعته ونفاقه مدل بنفسه يحسب أنه يحسن صنعا).

 

* * * * *

الفصل الثاني

في عدة قواعد وضوابط فقهية لعلماء الحنفية يستفاد منها في حماية حمى التوحيد وسد جميع الذرائع الموصلة إلى الشرك

كلمة بين يدي هذا الفصل:

لقد جرت عادة الإنسان على حفظ الأشياء الثمينة من الضياع ودل على ذلك النقل الصحيح* والعقل الصريح*.

وكلما كان الشيء أثمن وأغلى* وأنفع وأعظم وأعلى* كان التدبير لحفظه وحمايته أشد وأمتن وأكثر* وأدق وأحكم وأوفر*.

ولما كان شأن التوحيد بتلك المكانة التي ذكرت نبذة منها من أنه الغاية من خلق الجن والإنس ولأجل تحقيقه أرسلت الرسل وللدعوة إليه أنزلت الكتب، وهو أعظم ما يحبه الله ويرضاه؛ وهو الغاية العظمى* والمقصد الأسمى * والهدف الأسنى*

وكان الشرك بعكس ذلك أعظم ما يكرهه الله ويبغضه ويحبط به الأعمال ويخلد صاحبه في النار- استحكم تحذير الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من الشرك ومن كل ما يخل بالتوحيد، أو يكون سببا في الوقوع في ما يضاد التوحيد من الشرك فأوجب الله ورسوله حماية حمى التوحيد وسد كل ذريعة تفضي إلى الشرك؛ ونهى الله ورسوله عن كل ما يضاد التوحيد من الشرك ووسائله.

ولما كان الأمر كما وصفت- سعى أئمة السنة* وأساطين هذه الأمة* سعيا حثيثا وشمروا عن ساق الجد والجهد في التحذير من كل ما يكون سببا للشرك من قريب أو بعيد؛ فحموا حمى التوحيد وسددوا جميع ما يضاده من الشرك وذرائعه.

ولعلماء الحنفية رحمهم الله تعالى أيضا جهود في هذا السبيل فلهم قواعد عامة يمكن الاستفادة منها في هذا الباب من سد ذرائع الشرك.

كما أن لهم أقوال خاصة في التحذير من وسائل الشرك بالله تعالى وفي كل ذلك عبرة للقبورية عامة والحنفية منهم خاصة.

القاعدة الأولى:

1 - " درء المفاسد أولى من جلب المنافع ".

2 - " دفع المضرة أولى من جلب المنفعة ".

أقول: حاصل كلام علماء الحنفية في ضوء هذه القاعدة المهمة:

أن الأفعال التي لا تخلو من بعض المنافع ينظر في ارتكابها إلى مضارها.

ويجب اجتنابها لأجل مضارها وإن كانت مشتملة على بعض المنافع فكيف إذا لم يكن في فعلها منفعة؟ بل يكون ارتكابها محض الضرر وخالص الشر.

فزيارة القبور على الطريقة القبورية التي سيأتي شرحها وتوسلهم المتضمن للاستغاثة بالذوات والاستعانة منهم ونحو ذلك؛ كل ذلك يجب اجتنابها لما في ذلك من المفاسد ما لا يخفى.

القاعدة الثانية:

" اختيار أهون البليتين ".

ولهم في ذلك عدة نصوص:

1 - " الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف ".

2 - " المبتلى بين الشرَّين يتعين عليه أهونهما ".

3 - " يختار أهون الشرين ".

4 - " إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب

أخفهما ".

5 - " إذا اجتمع للمضطر محرمان كل منهما لا يباح بدون الضرورة وجب تقديم أخفهما مفسدة وأقلهما ضررا لأن الزيادة لا ضرورة إليها فلا يباح ".

6 - ونحوها " إن المبتلى في أمرين يختار أهونهما ".

7 - " دفع الضرر العام واجب بإثبات الضرر الخاص ".

8 - " ويتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام ".

هذه القواعد الثمان ترجع إلى قاعدة واحدة:

وهي : اختيار أهون البليتين إذا ابتلي الإنسان بين الشرين كل ذلك لدفع الشر الأكبر .

فلو فرضنا أن هدم القباب والمساجد التي بنيت على القبور ونحوها فيه شيء من الشر- وهو إهدار الأبنية وما قد يتوهمه بعض الناس أن فيه إهانة للقبور- فبقاؤها على حالها وانتياب الناس إليها أفواجا بقصد الاستغاثة بأصحابها ونحوها من المفاسد العظمى * والبلايا الكبرى* التي هي إما شرك صراح * وكفر بواح* أو موصلة إلى الشرك الصريح * والكفر القبيح* وضرر أشد ومفسدة أعظم فلا بد من هدمها وإزالتها وتسوية تلك القبور * درءا لتلك الأضرار والشرور* .

القاعدة الثالثة:

" يتحتم ترك الحلال خشية الوقوع في الحرام ".

1 - " إذا اجتمع حظر وإباحة غُلّب جانب الحظر ".

2 - " إذا اجتمع ما يوجب الحل والحرمة في ذات واحدة ترجح الحرمة ".

3 - " إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام ".

4 - " ما اجتمع محرم ومبيح إلا غلب المحرم ".

5 - " الأصل الإباحة والحظر مقدم ".

6 - " وعند الاجتماع يغلب الحظر " .

7 - " إذا تحقق المعارضة رجح جانب الحرمة على الحل ".

8 - " وإذا تعارض الدليلان ... - قدم التحريم ".

قلت: هذه النصوص الثمانية حاصلها:

أن الترجيح للحرام؛

ومعناه: إذا تردد الأمر بين الحلال والحرام- تعين تركه خشية الوقوع في الحرام.

وقد فرع على هذه القاعدة علماء الحنفية أن أفاعيل القبورية من توسلاتهم وزياراتهم معرضة لهم للوقوع في الشرك الصريح فتحتم عليهم التجنب منها.

هذا لو فرضنا أن زيارتهم وتوسلاتهم مترددة بين الحظر والإباحة مع أن توسلاتهم وزياراتهم متضمنة للشرك الصريح* والكفر القبيح* والبدع الظلماء* والمنكرات الشنعاء*.

القاعدة الرابعة:

إذا تردد الأمر بين كونه سنة وبين كونه بدعة فتركه محتم .

هذه القاعدة من أعظم القواعد التي بنى عليها علماء الحنفية مسائل كثيرة وجعلوها أصلا أصيلا وفرعوا عليه فروعا عديدة.

1 - قال ابن نجيم الملقب بأبي حنيفة الثاني (970هـ):

" ما تردد بين بدعة وواجب اصطلاحي فإنه يترك كالسنة ".

2 -4- وقال العلامة أحمد الرومي (1043هـ) والشيخ سبحان بخش الهندي والشيخ محمد إبراهيم السورتي؛ واللفظ للأول:

(قال ابن الهمام :

وما تردد بين البدعة والسنة يتركه؛ لأن ترك البدعة لازم وأداء السنة غير لازم؛ وفي الخلاصة: مسألة تدل على أن البدعة أشد ضررا من ترك الواجب... ثم عللوا ذلك بأن المعاصي يتاب عنها والبدعة لا يتاب عنها؛ لأن صاحب المعاصي يعلم أنه مرتكب المعصية فيرجى له التوبة والاستغفال وأما صاحب البدعة فيعتقد أنه في طاعة الله وعبادته فلا يتوب ولا يستغفر وهذا ما يريده إبليس فإن إبليس قصم ظهر بني آدم بالمعاصي وهم قصموا ظهره بالتوبة فاحتال عليهم إبليس فأحدث لهم البدع التي لا يتوبون منها ).

5 - قال العلامة اللكنوي :

" والأمر إذا دار بين الكراهة والإباحة ينبغي الإفتاء بالمنع لأن دفع مضرة أولى من جلب منفعة ".

التفريع:

6 - قال شيخ القرآن الفنجفيري ردّا على بدع القبورية بعدما فصل القول في تحقيق هذه القاعدة وطول النفس فيها:

التفريع:

فالبدعات المروجة في ديارنا كلها متروكة بهذا الأصل؛ وحجة المبتدعة بشيوع الفعل أو بعمل الشيوخ داحضة على أن المحققين من العلماء صرحوا في كتبهم على ذمها.

كالميلاد وحيلة الإسقاط الوس والختمات للموتى أو على القبور...؛ وفي الشامي (ص210):

" ترك الشيء من لدن الصحابة إلى الآن حجة واتباع المنقول واجب ".

القاعدة الخامسة:

" متابعة النبي صلى الله عليه وسلم كما تكون في الفعل كذلك تكون في الترك ".

هذه قاعدة مهمة بنى عليها علماء الحنفية كثيرا من المسائل؛ وأصل أصيل فرعوا عليه عدة فروع، وميزوا بذلك بين كثير من البدع من السنن .

1 -4- قال العلامة الملا علي القاري (1014هـ) والشيخ عبد الحق محدث الحنفية في الهند (1052هـ).

والعلامة محمد عابد السندي أحد كبار علماء الحنفية (1257هـ)؛ والشيخ قطب الدين الدهلوي (1289هـ) ، واللفظ للأول:

(والمتابعة كما تكون في الفعل تكون في الترك أيضا.

فمن واظب على فعل لم يفعله الشارع فهو مبتدع ).

5 -7- وقال الإمام أحمد الرومي (1043هـ) والشيخ سبحان بخش الهندي والشيخ محمد إبراهيم السورتي .

واللفظ للأول:

(وأما ما كان المقتضي لفعله في عهده صلى الله عليه وسلم موجودا من غير وجود المانع منه؛ ومع ذلك لم يفعله صلى الله عليه وسلم ؛ فإحداثه تغيير لدين الله تعالى ؛ إذ لو كان فيه مصلحة لفعله صلى الله عليه وسلم أو حثّ عليه؛ ولما لم يفعله صلى الله عليه وسلم ولم يحث عليه- علم أنه ليس فيه مصلحة بل هو بدعة قبيحة سيئة؛ مثاله: الأذان في العيدين؛ فإنه لما أحدثه بعض السلاطين أنكره العلماء وحكموا بكراهيته؛ فلو لم يكن كونه بدعة دليلا على كراهيته؛ لقيل: " هذا ذكر الله تعالى ودعاء الخلق إلى عبادة الله تعالى ؛ فيقاس على أذان الجمعة "؛ أو يدخل في العمومات التي من جملتها قوله تعالى:

{ اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا } [ الأحزاب :41]،

وقوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ } [ فصلت : 33] ، لكن لم يقولوا ذلك؛ بل قالوا : " كما أن فعل ما فعله صلى الله عليه وسلم كان سنة كذلك ترك ما تركه صلى الله عليه وسلم مع وجود المقتضي وعدم المانع منه كان سنة أيضا ؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لما أمر بالأذان في الجمعة دون العيدين كان ترك الأذان فيهما سنة؛ وليس لأحد أن يزيده ويقول:

" هذا زيادة العمل الصالح لا يضر زيادته " ؛ فيقال له: " هكذا تغيرت أديان الرسل وتبدلت شرائعهم، فإن الزيادة في الدين لو جازت ؛ لجاز أن يصلي الفجر أربع ركعات والظهر ست ركعات؛ ويقال: " هذا زيادة عمل صالح لا يضر زيادته "؛ لكن ليس لأحد أن يقول ذلك؛ لأن ما يبديه المبتدع من المصلحة والفضيلة؛ إذا كان ثابتا في عصره صلى الله عليه وسلم ، ومع هذا لم يفعله صلى الله عليه وسلم فيكون ترك مثل هذا الفعل سنة مقدمة على كل عموم وقياس؛ فمن عمل به مع اعتقاده أنه غير مشروع في الدين؛ يكون فاسقا غير مبتدع؛ وإن عمل به مع اعتقاده أنه مشروع في الدين؛ يكون فاسقا ومبتدعا؛ لأن الفسق أعم من البدعة؛ فكل بدعة فسق من غير عكس؛

وكذلك قيل: " البدعة شر من الفسق؛ فإن من يفعل البدعة فهو يتنقص الرسول " صلى الله عليه وسلم "، وإن كان في زعمه أنه يعظمه بالبدعة؛ حيث يزعم أنها خير من السنة وأولى بالصواب؛ فيكون مشاقا لله ولرسوله " صلى الله عليه وسلم "؛ لاستحسانه ما كرهه الشرع ونهى عنه؛ وهو الإحداث في الدين؛ وإنه تعالى قد شرع لعباده من العبادات ما فيه كفاية لهم؛ وأكمل دينهم وأتم عليهم نعمته كما أخبر به في كتابه الكريم.

8 - وقال شيخ القرآن الفنجفيري :

(الأصل الثالث في الاتباع).

والاتباع كما يكون في الفعل كذلك يكون في الترك؛ لأنه قد ثبت أن عدم النقل يدل على الكراهة؛ وأن ما لا دليل عليه فهو مردود...؛ وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحداث في الدين ...؛ واعلم أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما تكون في الفعل تكون في الترك؛ وكما نتقرب إلى الله تعالى بفعل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم- كذلك نتقرب إلى الله تعالى بترك ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم- فالفاعل لما ترك كالتارك لما فعل؛ والكلام مفروض في ترك شيء لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مانع منه وتوفرت الدواعي على فعله؛

وذلك كتركه الأذان للعيدين والغسل لكل صلاة وصلاة ليلة النصف من شعبان والأذان للتراويح والدعاء بعد السنن بهيئة الاجتماع والختم للموتى؛ وقد ثبت أن أكبر الكبائر التقول على الله تعالى .

9 - وقال: (وقال الإمام ابن تيمية : فأما الفعل الذي لم يشرعه هو لنا؛ ولا أمرنا به ولا فعله فعلا سن لنا أن نتأسى به فيه- فهذا ليس من العبادات والقرب فاتخاذ هذا قربة مخالفة له صلى الله عليه وسلم- مجموعة الرسائل 5\98-).

وقال أيضا:

(وقال الحافظ ابن القيم :

فإن تركه صلى الله عليه وسلم سنة كما أن فعله سنة؛ فإذا استحببنا فعل ما تركه، كان نظير استحبابنا ترك ما فعله ولا فرق...).

10 - وقال شيخ القرآن الفنجفيري :

(التفريع على هذه القاعدة:

هذه القاعدة ينفعك في رد جميع ما أحدثوه من البدعات وألفت النفوس بها منذ قرون متطاولة؛ مثل الدعاء بعد السنة بهيئة الاجتماع وتقسيم الفدايا في القبور؛ وتداول الأيدي بها والدعاء بعد الجنازة [بهيئة اجتماعية] والذكر أمام الجنازة والذكر الجهري فيما لم ينقل عن الشارع ونهيقهم في السحور ؛ على رأس المنبر.

وعلى أبواب المساجد : " الصلاة رحمكم الله ".

وخلف المشائخ في السكك؛ والصلاة المسماة بالقضاء العمري، وصلاة الرغائب،

وتخصيص الأيام والليالي بعبادة؛ كقراءة سورة الملك ليلة الجمعة والتصدق فيه.

والقوالي والعرس والميلاد).

11 - وقال أيضا: (ويتفرع على ذلك القيام بالمولد واتخاذ الموسم والعرس للمقبور ).

ثم قال: ( وكل هدي النبي قد رجح ... فما أبيح افعل ودع ما لم يبح ).

القاعدة السادسة:

عدم النقل يدل على العدم كما يدل على الكراهة والبدعة .

هذه القاعدة من أهم القواعد التي ذكرها علماء الحنفية للتمييز بين الأمور البدعية والسنية؛ فقد صرحوا بأن الشيء إذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة رضي الله عنهم- فهو دليل كونه بدعة في الدين؛ فإن قيل: عدم النقل لا يستلزم العدم، لجواز وقوعه وعدم نقله.

قلنا : لقد أجاب علماء الحنفية بأن هذا لا يمكن؛ لأنه لو وقع ولو مرة واحدة،

لا بد من أن ينقل إلينا؛ لأنه من أمور الدين وقد تكفل الله تعالى ذلك؛ فلما لم ينقل إلينا ذلك- دل على أنه لم يقع ولم يفعله النبي محمد صلى الله عليه وسلم فليس من الدين في شيء بل بدعة ضلالة.

وإليك بعض نصوص علماء الحنفية:

1 - قال الإمام ابن الهمام (861هـ):

(نفي المدرك الشرعي يكفي لنفي الحكم الشرعي).

3 - وقال المولوي (1098هـ):

(والمراد بالحكم: الحكم الشرعي، ولا يكون ذلك إلا ثابتا بدليل شرعي).

3 -وقال: (فعدم فعله يدل على الكراهية).

4 - وقال ابن عابدين (1252هـ):

(فما لم يوقف على دليل المشروعية لا يحل فعله بل يكره " ... ثم نقل ذلك عن كثير من كتب الحنفية ).

5 - وقال الإمام الأكمل البابرتي (786هـ) في تحقيق أن عدم النقل دليل على العدم:

( ولنا أنه لم ينقل ، وذلك دليل على أنه لم يفعل ).

6 - وقال شيخ القرآن الفنجفيري ( 1407 هـ ) :

( وفي العناية : وعدم النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على عدم فعله ) .

7 - وقال شيخ القرآن الفنجفيري :

(قال الإمام الحافظ ابن القيم : أما نقلهم لتركه صلى الله عليه وسلم فهو نوعان :

أحدهما : تصريحهم بأنه تركه كذا وكذا؛ والثاني: عدم نقلهم لما لو فعله لتوفرت هممهم ودواعيهم أو أكثرهم أو واحد منهم على نقله؛ فحيث لم ينقل منهم واحد منهم البتة ولا حدّث به في مجمع أبدا- علم أنه لم يكن؛ وهكذا : كتركه التلفظ بالنية عند دخوله في الصلاة؛ وتركه الدعاء بعد الصلاة مستقبل المأمومين )؛ ثم ذكر الأمثلة وقال:

( ومن الممتنع أن يفعل ذلك ولا ينقله عنه صغير ولا كبير، ولا رجل ولا امرأة البتة وهو مواظب عليه هذه المواظبة لا يحل

بها يوما واحدا)؛ ثم مثّل وقال: (ومن ههنا يعلم أن القول باستحباب ذلك خلاف السنة؛ فإن تركه صلى الله عليه وسلم سنة كما أن فعله سنة ؛ فإذا استحببنا فعل ما تركه كان نظير استحبابنا ترك ما فعله ولا فرق، فإن قيل: من أين لهم أنه لم يفعله، وعدم النقل لا يستلزم عدم الفعل؟ فهذا استدلال بعيد جدّا عن معرفة هديه ، وسنته، وما كان عليه، ولو صح السؤال وقيل:

لاستحب لنا الأذان للتراويح، انتهى بتصرف).

التفريع:

قال شيخ القرآن الفنجفيري :

(وقد ابتدعوا بدعا في دين الله ليس لهم بذلك برهان ، وحجة من الكتاب والسنة، إلا اتباع الظن ، أو ألفة العوائد، كالمشركين أو أتباع المشايخ الذين مضوا عليها { مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ } ، { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ } .

وهذه القاعدة تنفعك في ردّ جميع ما أحدثوه من البدعات، وألفت النفوس بها منذ قرون متطاولة ).

ثم ذكر شيخ القرآن عدة مسائل في التفريع على هذه القاعدة.

الحاصل: أن هذه القاعدة الحنفية تقلع جميع بدع القبورية وشركياتهم* كما تقطع أدبارهم وتستأصل جميع توسلاتهم واستغاثاتهم وشبهاتهم* القاعدة السابعة:

" الأمور بمقاصدها "، أو " العبرة للمقصود لا للتبع "، أو " العبرة للمقاصد دون الصور ".

هذه القاعدة من أهم قواعد الحنفية التي ذكروها وفرعوا عدة أحكام عليها، وقالوا : " إنما يبنى اللفظ على المقصود لا على ظاهر اللفظ ".

قلت: لما كان قصد القبورية من زياراتهم للقبور الطواف بها* وأكل ترابها* والتمسح والتبرك بها * والنذر لهم- كان ذلك شركا صريحا، وإن تستروا بستار التوسل، والكرامة،

والولاية ، والزيارة.

قال شيخ القرآن الفنجفيري في الرد على المبتدعة والقبورية :

(وها أنا في زمان تبدلت الشريعة* وجعلوا العبادة ذريعة للمعيشة* ووضعوا الألفاظ الصحيحة للنية الردية* فاستحلوا الرشوة باسم الهدية* والقتل بالرهبة، والزنى بالنكاح ، والربا بالمنافع ، والمغني بالحادي، والمطرب بالقوال، والمداهن بالمصلح، والخداعة بالسياسة، والكتمان بالمصلحة، والشرك بالله العظيم بتعظيم الأولياء الكرام، والعبادة للقبور والشيوخ بالتعظيم لهم، والجحد لصفات الله تعالى بالتنزيه، وإثبات الصفات له تعالى بالتجسم، والبدعة بالسنة ، فبدلوا دين الله تعالى وشرائعه، وحرفوا الكلم عن مواضعه ، { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } [ الشعراء : 227 ] ... ).

قلت : رحمة الله وبركاته على هذا الشيخ، فقد بين لنا حقيقة الجهمية المتكلمين من الماتريدية الحنفية والأشعرية الكلابية؛ كما بين لنا حقيقة القبورية الوثنية، الذين يجوزون التعطيل والوثنية بأسماء براقة خدعة وسترا للتعطيل والوثنية.

وبعد هذا ننتقل إلى الفصل الآتي لنعرف جهود علماء الحنفية في حماية حمى التوحيد ، وسد جميع الذرائع الموصلة إلى الشرك..

وربنا الرحمن المستعان * وبه الثقة وعليه التكلان*.

 

* * * * *

الفصل الثالث

في بيان عدة ذرائع الشرك التي صرح علماء الحنفية بوجوب سدها لئلا يتذرع بها إلى الشرك وحماية لحمى التوحيد

كلمة بين يدي هذا الفصل:

لقد ذكرتُ في المباحث السابقة من الفصول التي مضت بعض جهود علماء الحنفية في تحقيق أن الشرك موجود في هذه الأمة وأن القبورية فرقة مشركة وثنية عباد القبور وعبدة الأوثان كما ذكرت بعض جهود علماء الحنفية في إبطال بعض شبهاتهم وقلعها وقمع أصحابها، وبينت بعض جهودهم في التحذير من الشرك، كما ذكرت عدة قواعد لهم يمكن الاستفادة منها في حماية حمى التوحيد، وأذكر في هذا الفصل جهود علماء الحنفية في حماية حمى التوحيد وسد الذرائع الموصلة إلى الشرك؛ فأقول وبالله توفيقي* وعليه اعتمادي* وبه ثقتي*:

اهتمام علماء الحنفية بسد جميع ذرائع الشرك :

لقد اهتم علماء الحنفية بسد جميع ذرائع الشرك عامة، وصرحوا بوجوب سدها؛ لحماية حمى التوحيد، ولئلا يتذرع بها إلى الشرك بالله تعالى ، ولهم جهود حسنة ، وأقوال مهمة فيها قرة عيون الموحدين وشجى

في حلوق القبورية.

بل ذكروا عدة ذرائع وصرحوا بوجوب سدها لئلا يتذرع بها إلى الشرك، وحماية لحمى التوحيد؛ وفيما يلي أذكر بعض الأمثلة من تلك الذرائع مع كلام الحنفية في وجوب سدها، وهي ثلاثون ذريعة؛ فأقول- وبالله أستغيث وأستعين* ؛ إذ هو المستعان المغيث وهو المعين*:

الذريعة الأولى: الغلو في الصالحين :

لقد اجتهد كثير من علماء الحنفية في سد هذه الذريعة، والتحذير منها، وصرحوا بأن الغلو في الصالحين- أعظم ذريعة على الإطلاق لعبادة الأصنام، والأوثان، والقبور ، وهو السبب الأصل الرئيسي لكفر كثير من بني آدم، وشركهم ، وأن كل ما يرتكبه القبورية قديما وحديثا:

من بناء القبب والمساجد على القبور، والحج إليها، والنذور لأصحابها والاستغاثة بهم واعتقاد علم الغيب والتصرف في الكون فيهم- هو بسبب الغلو في الصالحين.

هذا مجمل كلام الحنفية ومزيد التفصيل والتحقيق يكون في باب (الغلو) إن شاء الله.

الذريعة الثانية: المبالغة في تعظيم الصالحين ومحبتهم :

لعلماء الحنفية كلام وجهود في سد هذه الذريعة، وقد سبق شيء من ذلك في إبطال شبهة التعظيم.

وقد صرح علماء الحنفية بأن محبة الصالحين إنما هو سلوك طريقهم المستقيم.

وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) على المبالغين في تعظيم الصالحين:

( إن المبالغة في تعظيم الرسول- صلى الله عليه وسلم - يحسب ما يراه كل أحد تعظيما:

حتى الحج إلى قبره صلى الله عليه وسلم ، والسجود له، والطواف به ، واعتقاد أنه يعلم الغيب، وأنه يعطي، ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع ، وأنه يقضي حوائج السائلين ويفرج المكروبين، وأنه يشفع فيما يشاء* ويدخل الجنة من يشاء* فدعوى المبالغة في هذا التعظيم- مبالغة في الشرك وانسلاخ من جملة الدين).

الذريعة الثالثة: التوجه إلى غير الكعبة بقصد القربة :

قال العلامة الخجندي ( 1379هـ):

( والعمل الذي أنتم- أيها المدعون- تعملونه من التوجه إلى القبر النبوي بالتواضع- هو بعينه ما يفعله عباد الأوثان...).

وقال: ( والتوجه بقصد القربة مخصوص شرعا بالكعبة خاصة؛ فمن

توجه إلى غيرها بقصد القربة، فقد أشرك في عبادة الله تعالى ...).

وقال: ( ولا شك أن التوجه إلى شيء أو إلى جهة بقصد التقرب وحصول الثواب عبادة حق الله خاصة دون غيره؛ وهذا لا يكون إلا إلى الكعبة فقط؛ فمن توجه إلى غير الكعبة بقصد القربة فقد أشرك بعبادة الله غيره، وهذا مناف للإسلام وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، فقبلة العبادة وقبلة التوجه، وقبلة الفيض والبركة ، وقبلة الدعاء- إنما هي الكعبة لا غير في دين الإسلام...، فالذي يتوجه إلى القبر، ولو قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد اتخذه قبلة وكعبة، وذلك عين الشرك الأكبر، وعين عبادة الأوثان).

قلت: لكون التوجه إلى القبور بنية القربة- من وسائل الشرك- صرح علماء الحنفية بأن استقبال القبر الشريف لم يرد عن الصحابة-رضي الله عنهم- بل كانوا يدعون مستقبلين القبلة؛ فعن أبي حنيفة -رحمه الله-:

أنه كان لا يستقبل القبر بل يستدبر ويستقبل الكعبة وقت الدعاء.

الذريعة الرابعة: تعظيم القبور بما لم يرد به الشرع .

وهذا هو أم الفتن التي افتتن بها القبورية وارتكبوا تحت ستاره الوثنية،

قال النابلسي (1143هـ):

من تعظيم الأولياء بناء القبب على قبورهم، والستور والثياب عليها؛ لأنهم أفضل من الكعبة، وكسوة الكعبة أمر مشروع، ومن تعظيم الأولياء إيقاد القناديل والشموع، عند قبورهم، وكذا وضع اليدين على القبور والتماس البركة من مواضع روحانيات الأولياء؛ ومن تعظيمهم نذر الزيت والشمع للأولياء لتوقد عند قبورهم وكذا نذر الدراهم والدنانير للأولياء؛ وأما قول بعض المغرورين: إن هذه الأمور كلها حرام؛ لأنها وسيلة إلى الشرك بالله واعتقاد العوام التصرف في الأولياء- فهذا إهانة للأولياء؛ بل هو كفر صريح مأخوذ من فرعون .

إلى آخر ما هذى به هذا الصوفي الوثني الكذاب المضل القبوري الحنفي.

وقال الإمام البركوي (981هـ) مبينا مفاسد هذه الذريعة محققا أن هذه الذريعة أعظم سبب للوثنيين وأصل عبادة الأصنام:-وغيره من الحنفية-:

(وأعظم الفتنة بهذه الأنصاب فتنة أصحاب القبور، وهي أصل فتنة عباد الأصنام؛ كما قال السلف من الصحابة والتابعين؛ فإن الشيطان ينصب لهم قبر رجل معظم يعظمه الناس، ثم يجعله وثنا يعبد من دون الله ؛

ثم يوحي إلي أوليائه:

أن من نهى عن عبادته واتخاذه عيدا وجعله وثنا- وقد تنقصه وهضم حقه؛ فيسعى الجاهلون في قتله وعقوبته، ويكفرونه؛ وما ذنبه إلا أنه أمر بما أمر به الله تعالى ورسوله-صلى الله عليه وسلم- ، ونهى عما نهى الله ورسوله).

الذريعة الخامسة: زيارة حديثي العهد بالشرك للقبور ولو كانت على السنة .

يظهر لي من قواعد الحنفية التي ذكرتها في المبحث السابق : أن الشيء الجائز قد ينهى عنه ؛ لما يترتب عليه من المفسدة، ولا شك أن الشخص إذا كان حديث العهد بالخرافات- يجب نهيه عن زيارة القبور مطلقا؛ وقد صرح علماء الحنفية بأن النبي-صلى الله عليه وسلم- قد نهى المسلمين عن زيارة القبور في بدء الأمر لكونهم حديثي عهدهم بالجاهلية، فكان-صلى الله عليه وسلم- يخاف عليهم وقوعهم بسبب زيارة القبور في شيء من الشرك أو وسائله؛ فسد هذه الذريعة من أصلها، ونهاهم عن زيارة القبور نهيا باتا؛ ثم لما تمكن التوحيد في قلوبهم وارتفع خشية الوقوع في بدعة أو شرك- أذن لهم في زيارة القبور ولكن مع بيان طريقها المسنونة.

قلت : بناء على هذا يمنع القبورية منعا باتا من زيارة القبور حتى يتوبوا.

الذريعة السادسة: زيارة القبور على غير السنة .

لعلماء الحنفية جهود كثيرة في أن زيارة القبور على غير السنة من أعظم وسائل الشرك، ومن أعظم طرق الوثنية، ولهم في ذلك تحقيقات نافعة رفعوا بها الأستار عن أسرار القبورية وكشفوا بها عن عوارهم وبينوا أن ذلك القبورية غيروا وبدلوا طريقة الزيارة المسنونة بالزيارة الشركية البدعية.

وسيأتي بعض نصوص علماء الحنفية في مبحث زيارة القبور إن شاء الله.

الذريعة السابعة: اتخاذ القبور عيدا .

لقد عد علماء الحنفية اتخاذ القبور عيدا وانتيابها مرارا وتكرارا لا لأجل التزهيد في الدنيا وتذكير الآخرة والرغبة فيها؛ بل لأجل أمور بدعية، وشركية- ذريعة من أعظم ذرائع الشرك، وقد استدلوا على سدها بقول النبي-صلى الله عليه وسلم - « لا تجعلوا قبري عيدا » .

وذكروا كثيرا من مفاسد هذه الذريعة، كل ذلك لحماية حمى التوحيد وسد ذرائع الشرك.

 

تنبيه على شبهة والجواب عنها:لقد حرف بعض القبورية حديث : « لا تجعلوا قبري عيدا » إلى أن معناه: " لا تجعلوا قبري مثل العيد الذي يكون في السنة مرة أو مرتين، بل زوروا قبري مرارا وتكرارا كثيرا ودائما ".

ولكن علماء الحنفية قد أبطلوا هذا التحريف؛ فقد قال الإمام البركوي (981هـ)، والعلامة شكري الآلوسي (1342هـ) ، واللفظ للأول:

قال ابن القيم في إغاثته:

(لقد حرف هذه الأحاديث بعض من أخذ شبها من النصارى بالشرك، وشبها من اليهود بالتحريف؛ فقال: هذا أمر بملازمة قبره عليه الصلاة والسلام ، والعكوف عنده واعتياده وقصده وانتيابه ، ونهي أن يُجعل كالعيد الذي يكون في العام مرة أو مرتين ؛ فكأنه قال: " لا تجعلوا قبري بمنزلة العيد الذي يكون من الحول إلى الحول؛ واقصدوه كل وقت وكل ساعة ". وهذا محادة ومناقضة لما قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقلب للحقائق ؛ ونسبة الرسول إلى التدليس والتلبيس ؛ إذ لا ريب أن من أمر الناس بملازمة أمر واعتياده ، وكثرة انتيابه بقوله : « لا تجعلوا قبري عيدا » ؛ فهو إلى التلبيس وضد البيان أقرب منه إلى الدلالة والبيان؛ فإن لم يكن هذا تنقيصا، فليس للتنقيص حقيقة فينا؛ ولا شك : أن

ارتكاب كل كبيرة بعد الشرك أسهل إثما وأخف عقوبة من تعاطي مثل ذلك في دينه عليه السلام وسنته ؛ وهكذا غيرت ديانات الرسل [ عليهم السلام]، ولولا أنه تعالى - أقام لدينه الأنصار والأعوان الذابين عنه - لجرى عليه مثل ما جرى على الأديان قبله؛ قال عليه السلام:

« يحمل هذا الدين من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين » .

فإنه عليه السلام بين في هذا الحديث: أن الغالين يحرفون ما جاء به ، وأن المبطلين ينتحلون: أن باطلهم هو ما كان عليه النبي-صلى الله عليه وسلم - ، وأن الجاهلين يتأولونه على غير تأويله؛ وفساد الإسلام من هؤلاء الطوائف الثلاث؛ فلو أراد رسول الله-صلى الله عليه وسلم -ما قاله هؤلاء الضالون لم ينه عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، ولم يلعن من فعل ذلك؛ فإنه عليه السلام إذا لعن من اتخذها مساجد يعبد الله فيها، فكيف يأمر بملازمتها والعكوف عندها؟، وأن يعتاد قصدها وإتيانها؟، ولا تجعل كالعيد الذي يجيء من الحول إلى الحول؛ وكيف يقول: « صلوا عليّ حيثما كنتم » - بعد قوله : « لا تجعلوا قبري » « عيدا » ؟!!؛

وكيف لم يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك ما فهمه هؤلاء الضالون الذين جمعوا بين الشرك والتحريف؟...).

قلت: هذا النص مشتمل على عدة أجوبة عن تحريفات هؤلاء القبورية الوثنية الجامعة بين الشرك بالله وبين التحريف لدين الله؛ وحاصل هذه الأجوبة ما يلي:

1 - أن هذا الذي قاله هؤلاء الوثنية تحريف محض لهذا الحديث.

2 - هذا الذي قاله هؤلاء المحرفة يصادم شريعة الإسلام.

3 - هذا الذي قالوه في تحريف هذا الحديث يفتح باب الوثنية بمصراعيه.

4 - هذا الذي قاله هؤلاء القبورية يناقض سياق هذا الحديث.

5 - هذا التحريف ينفيه قوله-صلى الله عليه وسلم- « وصلوا عليّ حيثما كنتم » ، وهذه الجملة من جملة هذا الحديث.

6 - هذا الذي قاله هؤلاء الوثنية لم يفهمه أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فهل هم أعلم منهم وأفهم بمراد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ؟؟؟

7 - هذا الذي قاله هؤلاء المحرفون يناقض عمل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين؛ فإنهم لم ينتابوا القبر الشريف على صاحبه أفضل الصلاة وأكمل التسليم.

الحاصل: أن جعل القبور أعيادا من أعظم وسائل الشرك، وأنه يجب سد هذه الذريعة حماية لحمى التوحيد وسدّا لباب الوثنية.

الذريعة الثامنة : العكوف على القبور .

لقد صرح علماء الحنفية بأن العكوف على القبور من أعظم أسباب الوثنية ومن أبين وثنيات عباد الأوثان وأنه هو السبب الوحيد لنشأة الشرك في قوم نوح عليه السلام، وبينوا أن القبورية اعتادوا العكوف على القبور كما كان أهل الشرك السابقون يعكفون على تماثيلهم، وذكروا أن عباد القبور وصلوا في الغلو في العكوف على القبور والمجاورة لها إلى أن رجحوه على مجاورة المسجد الحرام، وخدمته ، ولهم جهود في الرد على القبورية في هذا الصدد يشكرون عليها.

قلت: العكوف على القبور ظاهرة من ظواهر الوثنية، وفي معنى العكوف على القبور المراقبة عندها، والمراقبة عند القبور من أشهر سنن الديوبندية القبورية النقشبندية الماتريدية المجددية الحنفية ، حتى التبليغية؛ فهذا إمام الديوبندية الشيخ خليل أحمد السهارنفوري (1346هـ) صاحب " بذل المجهود شرح سنن أبي داود "؛ ومؤلف كتاب " المهند على المفند " ذلكم الكتاب القبوري الوثني الصوفي الخرافي الذي هو عار وشنار على جميع الديوبندية حيث بين حقيقتهم- قد ذهب لزيارة قبر الخواجة معين الدين الجشتي إمام الصوفية الجشتية بمرافقة كبار الديوبندية منهم:

أشرف على التهانوي الملقب عند الديوبندية بـ( حكيم الأمة ) المتوفى (1362هـ).

ثم جلس للمراقبة أمام القبر واستغرق في المراقبة كأنه أغمي عليه، والناس كانوا يطوفون حول القبر ويسجدون له.

قلت: وفي معنى العكوف على القبور- زيارة القبور لأجل حصول الفيوض من القبور. والاستفاضة من القبور من أعظم عقائد القبورية عامة، ومن أهم سنن الديوبندية خاصة؛ فقد نرى كبار أئمة الديوبندية مرضى بهذا الداء العضال الذي هو طريق مستقيم إلى الوثنية؛ وإن كنت في شك من هذا فاستمع لما يقوله هذا السهارنفوري إمام الديوبندية معبرا عن عقيدة جميع أئمة الديوبندية:

(السؤال الحادي عشر: هل يجوز عندكم الاشتغال بأشغال الصوفية، وبيعتهم، وهل تقولون بصحة وصول الفيوض الباطنية عن صدور الأكابر وقبورهم؟؟؟ وهل يستفيد أهل السلوك من روحانية المشائخ الأجلة أم لا ؟؟؟؟ الجواب:

يستحب عندنا إذا فرغ الإنسان عن تصحيح العقائد ، وتحصيل المسائل الضرورية من الشرع:

أن يبايع شيخا راسخ القدم في الشريعة، زاهدا في الدنيا، راغبا في الآخرة، قد قطع عقبات النفس، وتمرن في المنجيات، وتبتل من المهلكات ، كاملا مكملا؛ ويضع يده في يده ويحبس نظره في نظره، ويشتغل باشتغال الصوفية:

من الذكر والفكر، والفناء الكلي فيه، ويكتسب النسبة التي هي النعمة العظمى، والغنيمة الكبرى ، وهي المعبر عنها بلسان الشرع: " الإحسان "...؛ وبحمد الله تعالى وحسن إنعامه نحن ومشائخنا قد دخلوا في بيعتهم واشتغلوا بأشغالهم، وتصدوا للإرشاد والتلقين- والحمد لله على ذلك- ، وأما الاستعانة من روحانية المشائخ الأجلة ، ووصول الفيوض

الباطنية من صدورهم وقبورهم؛ فيصح على الطريقة المعروفة في أهلها وخواصها، لا بما هو شائع في العوام).

ولإمام آخر للديوبندية الملقب عندهم بشيخ الإسلام (1377هـ) ألا وهو الشيخ حسين أحمد مؤلف " الشهاب الثاقب " و " نقش الحياة " ذينكم الكتابين القبوريين الوثنيين الصوفيين الخرافيين- كلام أشد ضررا وفسادا من كلام إمامه السابق السهارنفوري (1346هـ)، فهو يقول جهارا كاشفا عن حقيقته وحقيقة الديوبندية؛ مقارنا بين الوهابية وبين الديوبندية متبرئا من عقائد الوهابية:

( إن الوهابية يعدون الأشغال الباطنية ، والأعمال الصوفية، والمراقبة، والذكر والفكر والإرادة والمشيخة، وربط القلب بالشيخ، والفناء والبقاء ، والخلوة ، وغيرها- من اللغو والباطل والبدعة، والضلالة، ويرون أقوال أكابر الصوفية وأفعالهم- من الشرك، كما يرون الانسلاك في هذه السلاسل مكروها ومستقبحا؛ بل يعدون ذلك أشد من هذا؛ ومن ذهب إلى الديار النجدية وخالط هؤلاء ، يعلم ذلك منهم، والفيوض الروحية ليس بشيء عندهم، وبعكس هؤلاء الوهابية لو نظرت إلى أصول أكابر الديوبندية علمت:

أن جميعهم كانوا منسلكين في طرق الصوفية الباطنية ، والرياضة،

ودوام الفكر، والذكر، وهذا كله من شعارهم) إلى آخر ما شهد عليهم به لسانا وبيانا وبنانا.

وقد تقدم الشيخ أنور شاه في حصول الفيوض من القبور، وهو من أعظم أئمة الديوبند كما سبق ذلك كله.

الحاصل: أن هذه الظواهر من العكوف بالقبور، والمراقبة عندها وحصول الفيوض من القبور كلها ظواهر القبورية وهي وسائل الوثنية السافرة، فيجب سدها حماية لحمى التوحيد؛ ولئلا يتذرع بها إلى الشرك بالله عز وجل ؛ وقد سبق أن فلاسفة اليونان تلامذة أرسطو - كانوا إذا وقعوا في مشكلة فلسفية- لجأوا إلى قبر شيخهم أرسطو لحصول الفيض من قبره؛ فظهر أن ظاهرة حصول الفيوض من القبور من ميراث هؤلاء الفلاسفة اليونانية الوثنية، ولذا اعترف الشاه أنور شاه الكشميري أحد أئمة الديوبندية (1352هـ) بأن الاستفاضة من القبور لم تثبت عند المحدثين، ولكنها جائزة ؛ لأنها ثابتة عند الصوفية.

الذريعة التاسعة: الصلاة إلى القبور، أو عند القبور .

لعلماء الحنفية جهود قيمة وبحوث محققة في تحقيق أن الصلاة إلى القبور من أعظم أسباب الوثنية، وقد صرحوا بوجوب سد هذه الذريعة، حماية لحمى التوحيد؛ ولئلا يتذرع بها إلى عبادة غير الله عز وجل، وقد

ذكروا في هذا الباب تلك الأحاديث الصحيحة التي تنهى عن الصلاة إلى القبور، واستدلوا بها على منع الصلاة إلى القبور ووجوب سد هذه الذريعة.

وقد حذر علماء الحنفية من الصلاة عند القبور أو إلى القبور، ومن كل ما يتذرع به إلى الشرك؛ وعللوا ذلك بأن الشرك بالقبور المعظمة للرجال المعظمين أقرب إلى القلوب، وأسرع إلى النفوس من الشرك بالأحجار والأشجار.

وقد استدل علماء الحنفية بحديث أبي مرثد الغنوي - رضي الله عنه- مرفوعا: « لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها » .

على النهي عن جميع ما ذكروه حماية لحمى التوحيد وسدّا لذرائع الشرك.

الذريعة العاشرة: الدعاء عند القبور .

لقد حقق علماء الحنفية أن زيارة القبور لأجل الدعاء عندها من

أعظم- ذرائع الشرك بالله ومن أعظم وسائل عبادة غير الله وطريق إلى الوثنية، وسبيل إلى جعل القبور أعيادا للمذنبين والمكروبين، فإن الشيطان يستدرج بابن آدم؛ فيزين له أن الدعاء عند القبور أقرب إلى الإجابة؛ ثم يستدرجه إلى نداء الأموات، والاستغاثة بهم عند الكربات، فلم يشرع الدعاء عند القبور؛ ولم يرد عن أحد من السلف أنه أتى إلى قبر نبي أو ولي لأجل الدعاء عنده، ولم يثبت أن الصحابة- رضي الله عنهم أجمعين- يقصدون قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- للدعاء عنده؛ بل لم يشرع النبي- صلى الله عليه وسلم- قط لأمته:

أنه إذا كان لأحد حاجة أن يقصد قبر نبي أو ولي ؛ فيدعو عنده لنفسه، على ظن: أن الدعاء عند قبره يجاب؛ بل كل هذه من وسائل الشرك التي يجب سدها، والتحذير منها ، حماية لحمى التوحيد؛ ولئلا يتذرع بها إلى الشرك بالله، وعبادة غير الله تعالى ، ولذلك صرح الإمام أبو حنيفة : بأن لا يستقبل القبر عند الدعاء ؛ بل يستقبل القبلة؛ ولكن القبورية خالفوا ذلك كله، فتراهم أعظم خشوعا وأكثر خوفا وأشد عبادة وتضرعا وقت الدعاء عند القبور منهم لخالق البريات في المساجد والسحر وغيره من الأوقات، فإن السنة الثابتة في زيارة القبور هي الزيارة لقصد التزهد في الدنيا وتذكر الآخرة، والاستغفار للميت، والدعاء له، ولكن أهل البدع غيروا الدين فبدلوا الدعاء للميت والإحسان إليه بدعائه نفسه أو الدعاء والاستشفاع به.

وبهذا كله تبين بطلان زعم القبورية عامة، والداجوي الديوبندي خاصة:

أن السؤال عند قبور الصالحين ثابت متوارث.

نعم ثابت متوارث ولكن عند الوثنية فقط، كما تبين بطلان زعم الديوبندية :

أن المختار أن يستقبل الزائر القبر عند الدعاء.

الذريعة الحادية عشرة : اتخاذ القبور مساجد .

لقد حقق علماء الحنفية: أن اتخاذ القبور مساجد من أعظم وسائل الوثنية، وأنه من أصول الشرك بالله عز وجل، وأنه من أبين صنائع اليهود والنصارى- الملعونين، وأنه موجب للعنة الله تعالى والطرد من رحمته سبحانه وتعالى ، وقد ذكر علماء الحنفية عدة أحاديث في التحذير من ذلك ولعن فاعله، وقالوا: إن النبي- صلى الله عليه وسلم- قد حسم هذه المادة التي هي من أعظم ذرائع الشرك بلعن فاعلها والتحذير منها؛ حماية لحمى التوحيد ودرءا للمفاسد وسدّا لذرائع الشرك؛ وقد بين علماء الحنفية أيضا:

أن معنى اتخاذ القبور مساجد : هو بناء المساجد عليها، أو بناء المساجد بجوارها أو عندها، أو جعل القبور مساجد بحيث يسجد إليها

وتجعل أوثانا تعبد من دون الله، كل ذلك داخل في اللعن والوعيد كما صرحوا بوجوب هدم تلك المساجد المبنية على القبور؛ لأنها أشد ضررا ومفسدة من مسجد الضرار، ولعلماء الحنفية جهود في كشف أسرار القبورية وبيان مفاسد اتخاذ القبور مساجد، وقلع شبهاتهم وقمعهم وكسر جموعهم.

وبهذه التحقيقات قد قضى على تمويهات الكوثري (1371هـ)، في الدعوة إلى الوثنية بمقالته الفاجرة الماكرة بعنوان: " بناء المساجد على القبور والصلاة إليها ".

كما قضى على تلبيسات صديقه وخليطه في كثير من بدعه ذلكم الغماري الصوفي القبوري الخرافي (1380هـ) في كتابه الوثني : " إحياء

المقبور من أدلة استحباب بناء المساجد والقباب على القبور ".

كما قطع دابر شقيقه؛ وقلع تدليساته في كتيبه:

" إعلام الراكع الساجد بمعنى اتخاذ القبور مساجد ".

الذريعة الثانية عشرة: البناء على القبور .

هذه الذريعة أعم من السابقة؛ بأنها تشمل بناء المساجد على القبور

والقباب عليها، وغيرها؛ كتجصيصها ورفعها عن حدها ونحو ذلك.

ولقد حذر علماء الحنفية من البناء على القبور وصرحوا بأنه من أعظم وسائل الشرك والوثنية، وحققوا أنه من سنن اليهود والنصارى والمشركين، وأن إنفاق الأموال على ذلك إنفاق في الحرام، وصرحوا بوجوب هدم ما بني على القبور من المساجد أو غيرها من القباب ونحوها ؛ فإنها أضر من مسجد الضرار، وقاموا بالرد على شبهات القبورية وقلعها وقمع أهلها، وبينوا مفاسد ذلك وعواقبها الوخيمة الوثنية وهتكوا أستارهم، وكشفوا أسرارهم، وساقوا كثيرا من الأحاديث الصحيحة في ذلك، واستدلوا بها على تحريمه ووجوب هدمه- كل ذلك حماية لحمى التوحيد وسدّا لذرائع الشرك؛ فشكر الله سعيهم ولله درهم.

وهذه المباحث القيمة التي فيها قرة عيون للموحدين وشجى في قلوب الوثنيين- قضاء على كتاب " إحياء المقبور من أدلة بناء المساجد والقباب على القبور " للغماري المذكور خاصة ومزاعم الوثنية عامة.

وللتفصيل موضع آخر.

الذريعة الثالثة عشر: إيقاد السرج على القبور :

لقد شدد علماء الحنفية النكير على القبورية في إيقاد الشموع والسرج على القبور وصرحوا بأن فاعل ذلك ملعون مطرود من رحمة الله تعالى؛ لأنه من أعظم وسائل الشرك بالله تعالى، ودعوة إلى عبادة غير الله عز وجل- واستدلوا على ذلك بما ورد من النهي عنه؛ فصرحوا بوجوب سد هذه الذريعة حماية لحمى التوحيد، وسدّا لذرائع الشرك.

فللحنفية في هذا الصدد كلام هو قرة عيون للموحدين* وسخنة أعين للقبورية الوثنيين*.

وبذلك بطلت مزاعم القبورية كلها في إيقاد السرج والشموع على القبور للتبرك والتعظيم لروح الميت المشرقة على تراب جسده كإشراق الشمس على الأرض، إعلاما للناس: أنه ولي ليتبركوا به ، ويدعوا الله عنده، فيستجاب لهم .

لأن هذا الإعلام دعوة سافرة إلى الوثنية سبحان قاسم العقول! فقد قال الشيخان: عبد القادر الأرناؤطي وبشير بن محمد عيون - وهما من الحنفية- في شرح حديث « لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور »

« والمتخذين عليها المساجد والسرج » :

( إن إيقاد السرج على القبور وثنية لا يرضاها الإسلام).

الذريعة الرابعة عشرة: الكتابة على القبور :

لقد صرح علماء الحنفية بمنع الكتابة على القبور وكتابة الألواح عليها، واستدلوا على ذلك بما ورد من النهي عنها.

لأن ذلك تزيين للقبور وفيه مخافة أن يكون وسيلة إلى تعظيم القبور بما لم يرد في الشرع فيفضي إلى الشرك.

الذريعة الخامسة عشرة: كل ما لم يعهد في السنة عند القبور.

لقد صرح علماء الحنفية بالمنع من ارتكاب كل ما لم يعهد في السنة عند القبور .

سواء كان ذلك من قبيل الأقوال أو من باب الأفعال، فلا يجوز ارتكابه عند زيارة القبور؛ لأنه داخل في " الهجر ".

وإنما تزار القبور وفق السنة النبوية على صاحبها ألف ألف تحية وتسليم؛ كل ذلك حماية لحمى التوحيد وسدّا لجميع وسائل الشرك، الذريعة السادسة عشرة: الحج إلى القبور .

هذه من أعظم ظواهر الوثنية؛ ويعبر عنها بالسفر إلى القبور، وشد الرحال إليها.

لعلماء الحنفية جهود في تحقيق أن الحج إلى القبور وشد الرحال إليها من وثنيات المشركين السابقين؛ وحققوا:

أنه يجب سد هذه الذريعة حماية لحمى التوحيد؛ ولئلا يتذرع بها إلى الوثنية.

ويما يلي نصوص علماء الحنفية إتماما للحجة وإيضاحا للمحجة:

1 - قال الإمام البركوي (981هـ) مبينا مفاسد اتخاذ القبور مساجد وأعيادا :

( ومنها السفر إليها مع التعب الأليم والإثم العظيم؛ فإن جمهور العلماء قالوا:

السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة؛ لم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين، ولا أمر بها رسول رب العالمين، ولا أستحبها أحد من أئمة المسلمين فمن اعتقد ذلك قربة وطاعة- فقد خالف الإجماع، ولو سافر إليها بذلك الاعتقاد - يحرم بإجماع المسلمين؛ فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة؛ ومعلوم؛ أن أحدا لا يسافر إليها إلا لذلك؛ وقد ثبت في الصحيحين أنه عليه السلام قال: « لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ، ومسجدي هذا » ...).

2 -3- وله وللإمام أحمد الرومي (1043هـ) كلام في غاية الأهمية سيأتي نصه.

4 - وقال الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) مبينا أنواع الشرك:

( ومنها الحج لغير الله، وذلك أن يقصد مواضع متبركة مختصة بشركائهم،

يكون الحلول بها تقربا من هؤلاء ؛ فنهى الشرع عن ذلك؛ وقال النبي-صلى الله عليه وسلم- : « لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد » ...).

5 - وله كلام مهم جدّا سيأتي نصه قريبا إن شاء الله تعالى .

6 - وقال العلامة شكري الآلوسي (1343هـ):

( إن بعض غلاة القبورية يحج إلى القبور، وإن بعضهم ذهب للحج ولكن كان منتهى قصده قبر النبي-صلى الله عليه وسلم-؛ فلم يذهب إلى الكعبة، ومثله عند النبهاني وأمثاله أفضل من الحاج، ويعد عمله من الفضائل؛ وقد أفضى ببعض أئمة القبورية إلى أن قال: البيوت المحجوبة ثلاثة: الكعبة، وبيت المقدس، والصنم في الهند؛ وبعض القبورية يعرف عند مقابر الشيوخ كما يفعل بعرفة وهذا واقع في المغرب والمشرق ).

7 -11- وقال الإمامان : البركوي (981هـ) ، والرومي ( 1043هـ)، والشيخان: الهندي والسورتي؛ واللفظ للأولين:

(وقد آل الأمر بهؤلاء الضالين المضلين، إلى أن شرعوا للقبور حجا وصنفوا لها مناسك؛ حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابا وسماه: " مناسك حج المشاهد "؛ مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام؛ ولا يخفى : أن هذا مفارقة لدين الإسلام ، ودخول في دين عباد

الأصنام؛ فانظر إلى ما بين ما شرعه النبي- عليه السلام- : من النهي عما تقدم ذكره في القبور، وبين ما شرعه هؤلاء وما قصدوه: من التباين؛ ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز العبد عن حصره) ، ثم ذكروا بعض تلك المفاسد الوثنية.

قلت: لقد تبين بهذه التحقيقات لهؤلاء العلماء من الحنفية العارفين- حقيقة القبورية من أنهم وثنية وبطلان جميع مزاعم الديوبندية القبورية في الحج إلى القبور، ولا سيما في الحج إلى قبر النبي-صلى الله عليه وسلم- : فإن هؤلاء الديوبندية قد صرحوا جهارا دون إسرار: بأن زيارة قبر سيد المرسلين عندنا وعند مشائخنا من أعظم القربات * ؛ وأهم المثوبات وأنجح لنيل الدرجات قريبة من الواجبات* ؛ وإن كانت بشد الرحال* وبذل المهج والأموال* والزائر ينوي وقت الارتحال زيارة قبره عليه السلام-، وينوي معها زيارة مسجده صلى الله عليه وسلم ؛ بل الأولى ما قاله العلامة ابن الهمام :

إن الزائر يجرد النية لزيارة قبره-صلى الله عليه وسلم- وتكون زيارة المسجد تبعا لزيارة القبر الشريف، زيادة لتعظيمه-صلى الله عليه وسلم-، وكذا نقل عن العارف السامي الجامي.

أنه أفرز الزيارة عن الحج، وهو أقرب إلى مذهب المحبين؛ وأما ما قالت الوهابية:

من أن المسافر إلى المدينة لا ينوي إلا زيارة المسجد؛ استدلالا بحديث « لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد » فمردود؛ فإن البقعة الشريفة التي ضمت أعضاءه-صلى الله عليه وسلم- أفضل من الكعبة والعرش والكرسي؛ كما صرح به فقهاؤنا رضي الله عنهم؛ وقد صرح بهذه المسألة شيخنا العلامة شمس العلماء العاملين مولانا رشيد أحمد الجنجوهي - قدس الله سره- العزيز في رسالته " زبدة

المناسك " ، ولشيخ مشائخنا مولانا المفتي صدر الدين الدهلوي قدس الله سره العزيز، رسالة سماها " أحسن المقال في شرح حديث لا تشدوا الرحال "، أقام فيها الطامة الكبرى على الوهابية، ومن وافقهم؛ وأتى ببراهين قاطعة وحجج ساطعة طبعت واشتهرت، إلى آخر ما قالوه بدون حياء مستندين في ذلك إلى ما ذكروه من أحاديث واهية باطلة ضعيفة في الزيارة واحتجوا بها، وقالوا:

إن الوهابية لا يعتمدون على هذه الأحاديث الواردة في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ؛ بل خالفوها وحكموا عليها بأنها موضوعة وضعيفة.

قلت: أترك المجال للذين بغيتهم الإنصاف* وضالتهم الحق دون العاطفة والتعصب والاعتساف*- أن يحكموا على هؤلاء الديوبندية الصوفية النقشبندية الماتريدية! هل هؤلاء الديوبندية سنية سلفية * أم هم مبتدعة قبورية خرافية* ؟!؟

مع العلم بأن كثيرا من علماء الحنفية قد قاموا بإبطال تلك الأحاديث الواردة في زيارة قبر النبي-صلى الله عليه وسلم - ، وحكموا عليها بأنها باطلة موضوعة* فاسدة عاطلة مصنوعة*.

الذريعة السابعة عشرة: السفر إلى آثار الصالحين للتبرك بها .

لقد حذر علماء الحنفية من السفر إلى آثار الصالحين للتبرك بها سواء كان قبرا أو مسجدا غير المساجد الثلاثة، أو محلا لعبادة ولي من الأولياء، أو الطور أو شجرا أو حجرا أو نحو ذلك ؛ فإن هذا من عادات أهل الجاهلية الوثنية، فيجب الامتناع منه سدّا لذرائع الشر وحماية لحمى التوحيد.

 

وفيما يلي بعض نصوص علماء الحنفية:

1 - قال الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ):

(قوله-صلى الله عليه وسلم- : « لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ، ومسجدي هذا » .

أقول: كان أهل الجاهلية يقصدون مواضع معظمة بزعمهم ، يزورونها ويتبركون بها؛ وفيه من التحريف والفساد ما لا يخفى؛ فسدّ النبي-صلى الله عليه وسلم- الفساد؛ لئلا يلتحق غير الشعائر بالشعائر؛ ولئلا يصير ذريعة لعبادة غير الله تعالى ؛ والحق عندي: أن القبر، ومحل عبادة ولي من أولياء الله والطور كل ذلك سواء في النهي والله أعلم).

2 -3- وقال الإمام البركوي - رحمه الله تعالى- (981هـ) ، والإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ)، واللفظ للأول:

( وقد أنكر الصحابة ما هو دون هذا بكثير، كما روى غير واحد عن المعرور بن سويد أنه قال: صليت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في طريق مكة، صلاة الصبح فقرأ فيها : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ } و { لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ } ؛ ثم رأى الناس يذهبون مذاهب ؛ فقال أين يذهب هؤلاء؟؛ فقيل : يا أمير المؤمنين! مسجد فيه صلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ؛ فهم يصلون فيه؛ فقال: " إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا؛ كانوا يتبعون آثار أنبيائهم، ويتخذونها كنائس وبيعا فمن أدركته الصلاة في هذه المساجد فليصل ومن لا فليمض ولا يتعمدها "...) .

وقد صرح الإمام البركوي (981هـ) والإمام أحمد الرومي (1043هـ)، والشيخان: سبحان بخش الهندي وإبراهيم السورتي ،

وغيرهم من الحنفية بقطع كل شجرة وسدرة وإزالة كل حائط أو حجر ينتاب إليها الناس للتقرب والتبرك، حسما لمادة الفساد، وحماية لحمى التوحيد.

الذريعة الثامنة عشرة: ربط الخيط أو التميمة ونحوها لدفع الحمى أو نحوه :

لقد صرح علماء الحنفية بمنع ربط الخيط للحمى مثلا في العضد، وشدوا النكير على ذلك، قلت: إنه يجر إلى الشرك فما ظنك بما هو أعظم وسيلة إلى الشرك؟ قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ):

( وقد اشتهر عنه صلى الله عليه وسلم : أنه منع من تعليق الأوتار، والتمائم وأمر بقطعها...، حسما لمادة الشرك، وقطعا لوسائله، وسدّا لذرائعه، وحماية للتوحيد، وصيانة لجانبه...) إلى آخر كلامه المهم.

الذريعة التاسعة عشرة: التبرك بكل ما لم يرد التبرك به .

لقد صرح علماء الحنفية بأنه يجب إزالة كل ما يسبب الفتنة، والشرك من قبر نُصِب وعُبد، أو شجر أو حجر، والمساجد المبنية على القبور،

وقنديل ، أو سراج أو شمع على القبور، أو خرقة، أو مسمار، أو حائط، أو عين ، أو عمود ونحوها؛ فالواجب هدم هذه كلها وإزالة أثرها والمبادرة إلى محوها لأنها يقصدها الناس ويعظمونها، ويرجون البرء والشفاء بها، والتبرك بها؛ وإن الفتنة قد عظمت بها واشتدت بها البلوى؛ إذ هي مبنية على معصية الله ورسوله-صلى الله عليه وسلم- وهي سبب للعن الله تعالى والطرد من رحمته، فهي من الكبائر، إذ هي أعظم شرا ومفسدة من مسجد الضرار، كل ذلك حماية لحمى التوحيد، وسدّا لذرائع الشرك؛ لئلا تصير هذه الأشياء أوثانا تعبد من دون الله، كما هو الواقع.

 

وقال الإمامان : الإمام البركوي (981هـ) ، والرومي (1043هـ)، والشيخان: الهندي والسورتي، واللفظ للأول:

( ومن عظيم كيده (أي : الشيطان ) ما نصبه للناس من الأنصاب والأزلام التي هي رجس من عمل الشيطان، وقد أمر الله المؤمنين باجتنابه وعلق فلاحهم بذلك الاجتناب فقال:

{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ المائدة : 90] .

فالأنصاب جمع نصب بضمتين أو بالفتح والسكون ؛ وهو كل ما نُصِبَ وَعُبدَ من دون الله: من شجر أو حجر، أو وثن أو قبر، قال مجاهد وقتادة وابن جريج : " كان حول البيت أحجار، وكان أهل الجاهلية يعظمون تلك الأحجار ويعبدونها ويذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها وهي ليست بأصنام، وإنما الصنم ما يصور وينقش " .

وأصل اللفظ : الشيء المنصوب الذي يقصده من رآه؛ فمن الأنصاب: ما نصبه الشيطان للناس من شجرة أو عمود، أو قبر أو غير ذلك ؛ فالواجب هدم ذلك كله ومحو أثره، ثم ذكروا أن عمر - رضي الله عنه- قطع شجرة الرضوان).

ثم قالوا: ( فما حكمه فيما عداها من هذه الأنصاب التي قد عظمت الفتنة بها واشتدت البلية بسببها؛ وأبلغ من ذلك أنه عليه السلام هدم مسجد الضرار، ففي هذا دليل على هدم ما هو أعظم فسادا؛ كالمساجد المبنية على القبور، فإن حكم الإسلام فيها:

أن تهدم كلها حتى تسوى بالأرض وكذلك القباب التي بنيت على القبور يجب هدمها لأنها أسست على معصية الرسول-صلى الله عليه وسلم- ؛ وكل بناء أسس على معصيته ومخالفته فهو أولى بالهدم من مسجد الضرار؛ لأنه عليه السلام نهى عن البناء على القبور ولعن المتخذين عليها المساجد ؛ وأمر بهدم القبور المشرفة ، وتسويتها بالأرض.

فيجب المبادرة والمسارعة إلى هدم ما نهى عنه ورسوله-صلى الله عليه وسلم- ولعن فاعله؛ وكذلك يجب إزالة كل قنديل وسراج، وشمع أوقدت على القبور؛ فإن فاعل ذلك ملعون بلعنة رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ؛ والله يقيم لدينه ولسنة رسوله-صلى الله عليه وسلم- من ينصرهما ويذب عنهما؛ قال الإمام أبو بكر الطرطوشي :

" انظروا رحمكم الله تعالى ! أينما وجدتم سدرة أو شجرة، يقصدها الناس ويعظمونها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، ويضربون بها المسامر، والخرق فهي ذات أنواط، فاقطعوها ".

وقال الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة - في كتاب " الحوادث والبدع ":

" ومن هذا القسم أيضا: ما قد عم به الابتلاء من تزيين الشيطان للعامة تخليق بعض الحيطان، والعمد، شرح مواضع مخصوصة من كل بلد يحكي لهم حاك:

أنه رأى في منامه بها أحد ممن شهر بالصلاح، والولاية، فيفعلون ذلك، ويحافظون عليه؛ مع تضييعهم فرائض الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ويظنون : أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم بالنذر لها؛ وهي بين شجر ، وحجر، وحائط ، وعين "؛ يقولون: إن هذا الشجر وهذا الحجر، وهذا العين يقبل النذر أي العبادة من دون الله؛ فإن النذر عبادة وقربة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له ويتمسحون بذلك النصب ويستحلونه).

الذريعة العشرون: التبرك بمقام إبراهيم :

قال الإمامان : البركوي (981هـ) ، والرومي (1043هـ)، والشيخان : الهندي والسورتي ، واللفظ للأول: ( ولقد أنكر السلف التمسح بحجر المقام الذي أمر الله تعالى أن يتخذ منه مصلى، كما ذكر الأزرقي في كتاب مكة عن قتادة في قوله

تعالى: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [ البقرة : 125] ؛ قال: " إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا أن يمسحوه " ، بل اتفق العلماء على أن لا يستلم ولا يقبل إلا الحجر الأسود؛ وأما الركن اليماني فالصحيح أنه يستلم ولا يقبل ).

قلت: فيه عبرة للقبورية ولا سيما الديوبندية.

الذريعة الحادية والعشرون: التبرك بالحجر الأسود .

لقد صرح الإمام الشاه ولي الله الدهلوي (1176هـ) الذي عظمته الديوبندية إلى حد قالوا فيه : " حجة الله على العالمين "- بأن قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- : " إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أني رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبلك ما قبلتك ".

دليل على أن الحجر الأسود إذا لا ينفع ولا يضر، وأن تقبيله على خلاف القياس لمجرد التعبد لله عز وجل ، لا لأجل التبرك به؛ فما ظنك بأحجار القبور وأشجارها؛ فلا يقاس عليه تقبيل غيره من الأحجار والأشجار، وفي كلام عمر -رضي الله عنه- إشارة إلى أن تقبيل الحجر لأجل الخوف والطمع والتعظيم فيه خوف الوقوع في الشرك؛ فلهذا نبه الناس بأنه لا يضر ولا ينفع وهذا دليل على أن الصحابة كانوا يهتمون بأمر التوحيد وحماية حماة وسد ذرائع الشرك .

وقال الإمام البدر العيني (855هـ) ، والقاري (1014هـ)، في شرح هذا الأثر، واللفظ للأول:

(إنما قال ذلك؛ لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام؛ فخشي عمر -رضي الله عنه- : أنه يظن الجهال بأن استلام الحجر هو مثل ما كانت العرب تفعله؛ فأراد عمر أن يعلم: أن استلامه لا يقصد به إلا تعظيم الله عز وجل ، والوقوف عند أمر نبيه صلى الله عليه وسلم ؛ وأن ذلك من شعائر الحج التي أمر الله تعالى بتعظيمها ، وأن استلامه مخالف لفعل الجاهلية في عبادتهم الأصنام؛ لأنهم كانوا يعتقدون أنها تقربهم إلى الله زلفى؛ فنبه عمر على مخالفة هذا الاعقتاد، وأنه لا ينبغي أن يعبد إلا من يملك الضر والنفع ، وهو الله تعالى جل جلاله) .

قلت: إذا لا يجوز تقبيل الحجر الأسود، واستلامه والتمسح به؛ لأجل التبرك به والاستشفاء به - فكيف يجوز التبرك بالقبور وأحجارها وأشجارها وخرقها وزيوتها، وشموعها ونحوها، ؟؟ وفي ذلك عبرة للقبورية عامة والديوبندية التبليغية خاصة.!؟! فلو كان التبرك بهذه الأشياء جائزا لكان الحجر الأسود أولى وأحرى

وأليق ؛ لأنه مسته أيدي الأنبياء والمرسلين* والصحابة والتابعين* والأولياء والصالحين* الذريعة الثانية والعشرون: التبرك بشجرة تشبه شجرة أهل الشرك .

لقد صرح علماء الحنفية بمنع التعلق بشجرة تشبه شجرة المشركين ولو كان هذا التشبه في الاسم، فضلا عن التبرك بها، والعكوف عليها؛ فإن ذلك يتسبب إلى الوثنية، وقد استدلوا على سد مثل هذه الذريعة بحديث ذات أنواط؛ فقد قال الإمامان : البركوي (981هـ) ، وأحمد الرومي (1043هـ) والشيخان : الهندي، والسورتي :

( بل قد أنكر رسول الله-صلى الله عليه وسلم- على الصحابة لما سألوه: أن يجعل لهم شجرة يعلقون عليها أسلحتهم، وأمتعتهم بخصوصها كما رواه البخاري في صحيحه:

عن أبي واقد الليثي أنه قال: « خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبل حنين، ونحن حديثو عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم، وأمتعتهم ، يقال لها ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله ! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي-صلى الله عليه وسلم- : " الله أكبر! هذا كما قالت بنو إسرائيل: { اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } " [ الأعراف: 138] ، ثم قال: " إنكم قوم تجهلون، لتركبن سنن من كان قبلكم " » ؛

فإذا كان اتخاذ هذه الشجرة لتعليق الأسلحة، والعكوف حولها- اتخاذ إله مع الله! مع أنهم لا يعبدونها ولا يسألونها شيئا- فما الظن بالعكوف حول القبر ، والدعاء عنده، ودعاء صاحبه، والدعاء به؛ فمن له خبرة بما بعث الله به رسوله-صلى الله عليه وسلم- وبما عليه أهل البدع والضلال اليوم في هذا الباب- علم أن بين السلف ، وبين هؤلاء الخلوف من البعد: أبعد ما

بين المشرق والمغرب).

(فما الظن بغيرها مما يقصده الناس: من شجر، أو حجر، أو قبر، ويعظمونه ، ويرجون منه الشفاء، ويقولون:

إن هذا الشجر، أو هذا الحجر، أو هذا القبر، يقبل النذر الذي هو عبادة وقربة، ويتمسحون بذلك النصب ويستلمونه).

ولعلماء الحنفية نصوص أخرى في الاستدلال بحديث ذات أنواط صرحوا فيها بوجوب قطع كل وسيلة يتذرع بها إلى الشرك ويتبرك بها، وفي ذلك عبرة للقبورية عامة، ونكال للديوبندية المتبركين بكثير مما لم ينزل به الله سلطانا، وقد اعترف القضاعي أحد أئمة القبورية بمفسدة شجرة الرضوان وقطع كل وسيلة شركية.

الذريعة الثالثة والعشرون : التبرك بشجرة ذات حادث معظم كشجرة الرضوان ونحوها .

قال الأئمة الثلاثة : البركوي ( 981هـ) ، وأحمد الرومي (1043هـ) والشاة ولي الله الدهلوي (1176هـ) ، والشيوخ الثلاثة ، سبحان بخش

الهندي، وإبراهيم السورتي ، ومحمد علي المظفري، واللفظ للثاني:

( فالأنصاب ...، كل ما نصب وعبد من دون الله تعالى : من شجر أو حجر ، أو قبر ، أو غير ذلك، والواجب هدم ذلك كله ومحو شره؛ كما " أن عمر -رضي الله عنه- لما بلغه أن الناس يتناولون الشجر التي بويع تحتها بالنبي- عليه السلام- أرسل إليها فقطعها "؛ فإذا كان عمر فعل هذا بالشجر التي بايع الصحابة رسول الله-عليه السلام- وذكر الله سبحانه في القرآن حيث قال:

{ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } [الفتح: 18] ، [فماذا] يكون حكمه فيما عداها من هذه الأنصاب التي قد عظمت الفتنة بها ، واشتدت البلوى بسببها...).

قلت: هذا النص لا يحتاج إلى إيضاح وتعليق، ولكن فيه عبرة للقبورية عامة ، ونكال للديوبندية المتبركين بكثير مما لم ينزل الله به من سلطان!؟!

تنبيه: ليس المراد من قولي : " التبرك بشجرة ذات حادث معظم ": أن التبرك بشجرة عادية جائز؛ بل المراد: أن التبرك إذا كان بشجرة معظمة غير جائز- بل الأولى والأحرى غير جائز بشجرة عادية، وقال العلامة نعمان الآلوسي ( 1317هـ):

( ولا زالت الصحابة تسد ذرائع التوسل الذي ادعاه المجوزون ؛ كما فعل عمر -رضي الله عنه- : من قطع الشجرة التي بويع تحتها رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ).

وللتهانوي (1373هـ) كلام جيد حول قطع شجرة الرضوان فراجعه.

وقد اعترف القضاعي أحد أئمة القبورية (1376هـ) بأن قطع شجرة الرضوان- كان لأجل حسم مادة الفساد، وسد الذريعة إلى الشرك.

قلت: حول صحة قطع هذه الشجرة مبحث نافع ذكرته في كتابي " الماتريدية " فيه رد على شيخنا الألباني حفظه الله تعالى فراجعه ؛ فإنه مفيد للغاية.

الذريعة الرابعة والعشرون: التبرك بالقبور :

لقد صرح علماء الحنفية بمنع التبرك بالقبور،

مخافة وقوع الناس في الشرك الأكبر، إلى أن قالوا : إن الزائر لا يمس القبر ولا يقبله، ولا يعفر خده عليه ولا يأخذ ترابه، فضلا عن الاستغاثة بصاحب القبر؛ كل ذلك محافظة على التوحيد وحماية لحماه، وسدّا لذرائع الشرك؛ لأن كل ذلك من سنن عباد الأوثان التي يفعلونها بأوثانهم.

قلت: لقد بطلت بهذا كله مزاعم القبورية عامة ، والنابلسي الحنفي القبوري (1143هـ) والكوثري الحنفي الجهمي القبوري (1371هـ) خاصة- في الدعوة إلى الوثنية والتبرك بالقبور وأهلها.

وأقول: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } [ آل عمران : 13] ، { فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ } [ الحشر : 2] .

الذريعة الخامسة والعشرون : التبرك والتوسل بالقبر المعظم .

ليس معنى هذا العنوان : أن التبرك والتوسل بالقبر غير المعظم يكونان جائزين؛ بل معناه: أن التبرك والتوسل بقبر معظم : لنبي؛ أو ولي أسرع إيقاعا للمتبرك، والمتوسل في الشرك؛ ولذلك قال الإمامان : البركوي ( 981هـ) ، وأحمد الرومي

(1043هـ) ، والشيخان الهندي، والسورتي ، واللفظ للأول:

( وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور- هي التي أوقعت كثيرا من الأمم، إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك؛ فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بشجر أو حجر؛ ولهذا نجد كثيرا من الناس عند القبور يتضرعون ، ويخشعون، ويخضعون ، ويعبدون بقلوبهم عبادة- لا يفعلونها في مساجد الله تعالى، ولا في وقت السحر؛ ومنهم من سجد لها ، وكثير منهم يرجون من بركة الصلاة عندها ولديها ما لا يرجون في المساجد؛ فلأجل هذه المفسدة حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها....).

قلت: من أعظم الأمثلة التي ضربها علماء الحنفية في صدد عدم جواز الشرك بالقبر المعظم والتوسل به- هو قبر دانيال النبي عليه السلام، فقد ذكر الإمام البركوي (981هـ) رحمه الله أثر أبي العالية أنه :

(قال: " لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرا عليه رجل ميت عند رأسه مصحف، فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر بن الخطاب؛ فدعا كعبا فنسخه بالعربية؛ فأنا أول رجل من العرب قرأته ، فقرأته مثل ما أقرأ القرآن، فقلت لأبي العالية : ما كان فيه؟ قال : سيرتكم، وأموركم ، ولحون كلامكم، وما هو كائن بعد؛ فقلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له دانيال عليه السلام.

فقلت: منذ كم وجدتموه مات؟ قال: منذ ثلاث مئة سنة.

فقلت: ما كان تغير منه شيء؟ قال: لا إلا شعيرات من قفاه؛ إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض، ولا تأكلها السباع.

فقلت: ما كان يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم- أبرزوا السرير، فيمطرون!؛ فقلت: فما صنعتم به؟ قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة ؛

فلما كان الليل دفناه ، وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس؛ فلا ينبشوه " ؛ فانظر القصة ! وما فعله المهاجرون والأنصار!؛ كيف سعوا في تعمية قبره؟! لئلا يفتن به الناس؛ ولم يبرزوا للدعاء عنده ، والتبرك به؛ ولو ظفر به هؤلاء الخلوف*- لحاربوا عليه بالسيوف* ولعبدوه من دون الله تعالى؛ فإنهم قد اتخذوا من القبور أوثانا من لا يدانيه ولا يقاربه؛

وبنوا عليها الهياكل.

وأقاموا لها سدنة، وجعلوها معابد أعظم من المساجد؛ فلو كان الدعاء والصلاة عند القبور فضيلة أو سنة، أو مباحا- لنصب المهاجرون والأنصار هذا القبر علما لذلك؛ ودعوا عنده، وسنوا ذلك لمن بعدهم، ولكنهم كانوا أعلم بالله ورسوله ودينه- من هؤلاء الخلوف الذين ضلوا عن الطريق المستقيم، وكذلك التابعون لهم بإحسان راحوا على هذا السبيل؛ وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمصار عدد كثير،

وهو متوافرون؛ فما منهم من استغاث عند قبر أحد، ولا دعاه، ولا عابه، ولا استنصر به؛ فلو كان وقع شيء منها لنقل؛ إذ من المعلوم : أن مثل هذا ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله؛ فحينئذ يتبين: أن الدعاء عند القبور، والدعاء بأربابها لا يخلو- إما أن يكون أفضل منه في غير تلك البقعة، أو لا؛ فإن كان أفضل- كيف خفي علما وعملا على الصحابة والتابعين وتابعيهم؟!؟؛ فتكون القرون الثلاثة الفاضلة- جاهلة بهذا الفضل العظيم!؛ وتظفر به الخلوف علما وعملا!؟!؛ ولا يجوز أن يعلموه، ويزهدوا فيه- مع حرصهم على كل خير؛ لا سيما إذا ظهر لهم حاجة، فاضطروا إلى الدعاء؛

فإن المضطر يتشبث بكل سبب؛ وإن كان فيه كراهة ما ؛ وهم كيف يكونوا مضطرين في كثير من الدعاء ؟ ويعلمون فضل الدعاء عند القبور؟ ثم لم يقصدوه ؟ هذا محال طبعا وشرعا؛ فتعين القسم الآخر:

الذي هو أنه لا فضل للدعاء عند القبور؛ ولا هو مشروع ولا هو مأذون فيه؛ بل هو مما شرعه عباد القبور؛ ولم يشرعه الله ولم ينزل به سلطانا؛ وقد أنكر الصحابة ما هو دون ذلك بكثير...".

وللعلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) كلام قيم مهم في الاستدلال بهذه القصة على وجوب قطع مادة الشرك وسد ذرائعه حماية لحمى

التوحيد؛ قطع به دابر القبورية.

وللشيخ الفنجفيري (1407هـ) كلام حول هذه القصة مفيد نقله عن شيخ الإسلام.

وقد اعترف الداجوي الديوبندي أحد أئمة القبورية في بلاد الأفغان وباكستان بأن إخفاء قبر دانيال كان لأجل خوف الافتتان.

قلت:

في هذه القصة أمر مهم فيه عبرة للقبورية ونكال للديوبندية لم أعرف أحدا نبه عليه:

وهو أن هذه القصة تدل على أن التوسل بالصالحين من الأنبياء والأولياء عند مس الحاجات* والدعاء عند إلمام الملمات * إنما كان من صنيع المشركين السابقين ، حتى الفرس؛ فإن قول أبي العالية رحمه الله تعالى :

" كانت السماء إذا حبست عنهم أبرزوا السرير فيمطرون "؛ صريح في أن التوسل بالصالحين من خرافات المشركين السابقين ومن عاداتهم الشركية المتوارثة ؛ التي ورثتها عنهم القبورية حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة .

أقول: في هذه القصة أمر مهم آخر فيه جواب عن كثير من أكاذيب القبورية، وهو أن المشرك قد تقضى حاجته بتوسله بالقبر أو بالشجرة أو

بالحجر أو بالولي ونحو ذلك من الوسائل والأسباب المحرمة، ولكن هذا ليس بدليل على جواز تعاطي مثل هذه الأسباب كما سيأتي.

الذريعة السادسة والعشرون : التبرك والتوسل بجثة معظمة أو سرير لشخص صالح ونحو ذلك من الآثار .

قلت: التقرير ههنا هو بعينه ما سبق آنفا في قصة دانيال عليه السلام فلا حاجة إلى إعادته؛ فإن هؤلاء المشركين من الفرس؛ كانوا يتوسلون ويتبركون بسرير دانيال عليه السلام وإذا احتاجوا إلى المطر أبرزه توسلا منهم به إلى الله عز وجل ليغيثهم؛ ولكن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان قد أبطلوا هذا العمل الشركي حسما لمادة الشرك، وفي ذلك عبرة أيما عبرة! الذريعة السابعة والعشرون: القبر المشرف :

وهو من أعظم وسائل الشرك التي أمرنا بإزالتها حماية لحمى التوحيد وسدّا لذرائع الشرك ؛ فقد قال الإمام البركوي (981هـ) رحمه الله مبينا وجوب إزالة القبور المشرفة وهدمها حتى تستوي بالأرض لئلا يتذرع بها إلى الشرك:

(وأمر صلى الله عليه وسلم بهدم القبور المشرفة وتسويتها بالأرض؛ فيجب المبادرة والمسارعة إلى هدم ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ).

قلت: يشير إلى حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه :

" « ألا أبعثك على ما بعثني به رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته » ".

وقد استدل بهذا الحديث كثير من علماء الحنفية على هدم القبور المشرفة وطمس التماثيل والصور حماية لحمى التوحيد وسدًّا لوسائل الشرك وحباله.

الذريعة الثامنة والعشرون : عبادة الله تعالى في مكان يعبد فيه لغير الله تعالى .

لقد صرح علماء الحنفية بمنع عبادة الله تعالى في موضع يعبد فيه لغير الله تعالى ، وصرحوا بوجوب الاحتراز من ذلك ؛ لئلا يتذرع إلى عبادة غير الله تعالى؛ فكيف بالتبرك بما لم يشرع في الشرع التبرك به ؟! وكيف بعبادة غير الله سبحانه وتعالى ؟! فمن عبد الله تعالى من صلاة أو ذبح أو نذر ونحوها في موضع يعبد فيه لغير الله تعالى من سجدة أو ذبح أو نذر أو استغاثة ونحوها- فقد وقع في نوع من التشبه بالمشركين وتكثير سوادهم على أقل

تقدير؛ وإن كانت نيته خالصة لعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، ولكن لما كان هذا الموضع خاصّا بعبادة غير الله تعالى ؛ لا يجوز للمسلم أن يعبد الله تعالى فيه حماية لحمى التوحيد وسدّا لذرائع الشرك.

قال العلامة شكري الآلوسي (1342) محذرا من ارتكاب مثل هذه الصنائع حسما لمادة الفساد* وحماية لتوحيد رب العباد*:

( وقد اشتهر عنه صلى الله عليه وسلم :

أنه منع من تعليق الأوتار والتمائم وأمر بقطعها.

وبعث رسوله بذلك ؛ كما في السنن وغيرها.

قال: " من تعلق شيئا وكل إليه ".

بل نهى عن قول الرجل: " ما شاء الله وشئت "، وقال لمن قال ذلك: « أجعلتني لله ندّا » .

ومنع من التبرك بالأشجار والأحجار)

ثم ذكر رحمه الله تعالى حديث ذات أنواط ، ثم قال:

( ونهى عن الصلاة عند القبور وإن لم يقصدها المصلي.

ولعن من فعل ذلك، وأخبر أنهم شرار الخلق عند الله تعالى .

ونهى عن الذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله .

حسما لمادة الشرك وقطعا لوسائله وسدّا لذرائعه وحماية للتوحيد وصيانة لجنابه؛ فمن المستحيل شرعا وفطرة وعقلا:

أن تأتي هذه الشريعة المطهرة الكاملة وغيرها؛ بإباحة دعاء الموتى والغائبين [ في الكربات] *؛ والاستعانة بهم في الملمات المهمات*؛ كقول النصراني: " يا والدة المسيح ! اشفعي لنا إلى الله "؛ أو: " يا عيسى أعطني كذا وافعل بي كذا "؛ وكذلك قول القائل [ الرافضي القبوري] : " يا علي يا حسين يا عباس

أو يا عبد القادر أو يا عيدروس، أو يا بدوي، أو يا فلان وفلان! أعطني كذا أو أجرني من كذا أو أنا في حسبك ".

ونحو ذلك من الألفاظ الشركية التي تتضمن العدل بالله تعالى والتسوية به تعالى وتقدس؛ فهذا لا تأتي شريعة ولا رسالة بإباحته قط؛ بل هو من شعب الشرك الظاهرة الموجبة للخلود في النار*؛ ومقت العزيز الغفار* وقد نص على ذلك شيخ الإسلام حتى ذكره ابن حجر في الإعلام ، مقررا له؛

وتأويل الجاهلين* والميل إلى شبه المبطلين * هو الذي أوقع هؤلاء وأسلافهم الماضين* من أهل الكتاب والأميين * في الشرك برب العالمين * فبعضهم يستدل على شركه بالخوارق والكرامات *وبعضهم برؤيا المنامات * وبعضهم بالقياس على السوالف والعادات *وبعضهم بقول من يحسن الظن به؛ وكل هذه الأشياء ليست من الشرع من شيء ؛ وعند رهبان النصارى وعباد الصليب والكواكب من هذا الضرب شيء كثير ...".

الذريعة التاسعة والعشرون: الصلاة في المقبرة؛ لقد كره علماء الحنفية الصلاة في المقبرة.

وعللوا الكراهة بأن في ذلك خوف الوقوع في الشرك لأنه قد يتذرع بها إلى الشرك؛ فيجب حسم هذه المادة حماية لحمى التوحيد وسدّا لذريعة الشرك ؛ قال الإمامان: البركوي (981هـ) والرومي ( 1043هـ) ، والشيخان السورتي والهندي :

(فلأجل هذه المفسدة حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها؛ وإن لم يقصد الصلاة عندها ؛ وإذا قصد الرجل الصلاة عند المقبرة متبركا بالصلاة عند تلك البقعة ؛

فهذا عين المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وابتداع دين لم يأذن به الله تعالى؛ فإن العبادات مبناها على الاستنان والاتباع *؛ لا على الهوى والابتداع *؛ فإن المسلمين أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين نبيهم:

أن الصلاة عند المقبرة منهي عنها ..." إلى آخر الكلام الطيب الذي رد على مزاعم كثير من المحرفين المبطلين ).

قلت: هؤلاء العلماء من الحنفية يشيرون إلى أحاديث النهي عن الصلاة في المقبرة؛ منها حديث أبي سعيد مرفوعا:

« الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة » .

وحديث ابن عمرو مرفوعا: « اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبورا » .

أقول: الحاصل: أنه لا يجوز ارتكاب أي قول أو عمل يتسببان إلى أدنى ذريعة إلى الشرك ويخلان بحماية حمى التوحيد والإضرار بجانبه.

الذريعة الثلاثون: الصلاة عند غروب الشمس وعند طلوعها واستوائها .

لقد كره علماء الحنفية الصلاة عند طلوع الشمس واستوائها وغروبها.

وعللوا ذلك بأن فيها تشبها بالمشركين عباد الشمس؛ فيجب سد هذه الذريعة حماية لحمى التوحيد وسدا لذريعة الشرك.

قال الإمامان البركوي (981هـ) والرومي (1043هـ) ، والشيخان الهندي والسورتي :

(فلأجل هذه المفسدة حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها؛ حتى نهى عن الصلاة...، وقت طلوع الشمس وغروبها ووقت استوائها؛ فنهى أمته عن الصلاة وإن لم يقصد ما قصده المشركون).

قلت: هؤلاء العلماء من الحنفية يشيرون إلى أحاديث النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس واستوائها وغروبها؛ منها: حديث ابن عمر مرفوعا:

« لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها؛ فإنها تطلع بقرني شيطان » .

وحديث عقبة بن عامر أنه قال:

« ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيها ؛ أو أن نقبر »

« فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب » .

أقول: الحاصل أن علماء الحنفية قد اجتهدوا في سد جميع ذرائع الشرك سواء كانت بالواسطة أو بدون واسطة مباشرة؛ وذلك حماية لحمى التوحيد وحفظا لجنابه وقطعا لمادة الفساد؛ وفي ذلك عبرة للقبورية عامة وللديوبندية خاصة.

وبعد أن عرفنا جهود علماء الحنفية في التحذير من الشرك وسد جميع ذرائعه حماية لحمى التوحيد- ننتقل إلى الباب الآتي لنعرف حقيقة غلو القبورية في الصالحين، ونطّلع على شركياتهم وكفرياتهم؛ من وصفهم الصالحين بل الطالحين بصفات الله تعالى من الألوهية والربوبية وعلم الغيب والتصرف في الكون والسمع والطاعة والبصر المطلقين والإحياء والإماتة وغيرها من صفات الله عز وجل ، كما نعرف جهود علماء الحنفية في إبطالها وقلع شبهات القبورية وقطع دابرهم.

فنقول وبربنا الرحمن المستعان نستعين * إذ هو المستغاث المغيث المعين*

الرجوع للصفحة الرئيسية