جهود علماء الحنفية في إبطال عقائ

 جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية

- الباب الثالث - 1-

 

 

 

في جهود علماء الحنفية في تعريف الشرك وأنواعه وتطوره ، ومصدر عبادة القبور ، ونشأة القبورية وانتشارهم ، وتحقيق أن الشرك موجود في القبورية من هذه الأمة ، وردهم على القبورية في ذلك كله .

وفيه فصول ثلاثة :

- الفصل الأول : في تعريف الشرك وأنواعه ومصدره وتطوره ، ونشأة القبورية وتطورهم وانتشارهم ، عند علماء الحنفية وردهم على القبورية في ذلك كله .

- الفصل الثاني : في جهود علماء الحنفية في تحقيق أن الشرك موجود في القبورية من هذه الأمة ، والمقارنة بين القبورية وبين الوثنية الأولى ، وردهم على القبورية في ذلك كله .

الفصل الثالث : في جهود علماء الحنفية في إبطال شبه القبورية التي تشبثوا بها لتبرير إشراكهم وعبادتهم للقبور وأهلها .

 

الفصل الأول

في جهود علماء الحنفية في تعريف الشرك وأنواعه ومصدر عبادة القبور وتطور القبورية ، وانتشارهم ، وردهم على القبورية في ذلك كله

وفيه مباحث ثلاثة :

- المبحث الأول : في تعريف الشرك عند علماء الحنفية وردهم على القبورية في ذلك كله .

- المبحث الثاني : في بيان أنواع الشرك عند علماء الحنفية وردهم على القبورية .

- المبحث الثالث : في جهود علماء الحنفية في بيان مصدر الشرك بعبادة القبور ، وتطور القبورية ، وتحقيقهم أن القبورية عبدة الأوثان .

المبحث الأول

في تعريف الشرك عند علماء الحنفية

وردهم على القبورية في ذلك

وفيه مطالب ثلاثة :

- المطلب الأول : في عرض عقيدة القبورية في تعريفهم للشرك .

- المطلب الثاني : في تعريف الشرك عند علماء الحنفية .

- المطلب الثالث : في جهود علماء الحنفية في إبطال تعريف الشرك عند القبورية .

المطلب الأول

في عرض عقيدة القبورية في تعريفهم للشرك

لقد انحرفت القبورية عن الصراط المستقيم في مفهوم الشرك كما انحرفت في مفهوم التوحيد ، والعبادة ، ولا سيما توحيد الألوهية كما سبق تفصيله ؛ فالقبورية بناء على تعريفهم للتوحيد وللعبادة عرفوا الشرك بتعريف غيروا وبدلوا به حقيقة الشرك ؛ فزعموا : أن الشرك : عبارة عن أن يجعل العبد مع الله أحدًا - شريكًا في الربوبية والخلق والتدبير والإيجاد ، والإحياء والإماتة ، واعتقاد الاستقلال فيه بالنفع والضر بنفسه وبذاته ونفوذ المشيئة له لا محالة وتأثيره في الكائنات من تلقاء نفسه بدون حاجته إلى الله تعالى ؛ فكل معاملة مع غير الله إذا لم تكن مقرونة بهذا الاعتقاد - فليس من العبادة ، ولا من شرك ؛ ولو كان سجودًا ، واستغاثة ، ونذرًا ، وذبحًا ، وغيرها ، وليس في المسلمين المؤمنين الموحدين المستغيثين بالأولياء - من يعتقد في الأولياء ذلك الاعتقاد .

هذه هي خلاصة عقيدة القبورية في تعريف الشرك ؛

وبذلك قد برروا ما يرتكبونه من الإشراك الأكبر الأعظم وعبادة القبور وأهلها بأنواع من العبادات ، من النذور لهم عند إلمام الملمات * والاستغاثة عند الكربات * .

وهذا التعريف ظاهر البطلان لأنه لا وجود للشرك أصلًا على هذا التعريف كما ستقف عليه في رد علماء الحنفية عليهم إن شاء الله .

*****

المطلب الثاني

في تعريف علماء الحنفية للشرك

لقد عرف علماء الحنفية ((الشرك)) لغة واصطلاحًا :

أما لغة : فذكروا أن ((الشرك)) بمعنى : الحصة والنصيب ، وكون أحد الشيئين فأكثر خليطًا مع آخر في أمر ما حسيا كان أو معنى .

والشرك جمعه أشراك كشبر وأشبار .

و ((الإشراك)) إفعال : وهو جعل الشيء خليطًا مع آخر في حصة ونصيب .

وأما اصطلاحًا : فالشرك عند علماء الحنفية - له عدة تعريفات :

التعريف الأول : هو ما قاله الإمام ابن أبي العز (792هـ) رحمه الله :

هو الاعتقاد في الصالحين أنهم شفعاء عند الله ،

واتخاذهم وسيلة إلى الله عز وجل ، وعبادتهم على هذا الأساس وهذا أصل شرك العرب ؛ فإنهم لم يعتقدوا في الأصنام أنها مشاركة لله في الخلق والتدبير فإنهم كانوا يقرون بتوحيد الربوبية لله عز وجل .

قلت : لقد ذكرت عدة نصوص لعلماء الحنفية تثبت هذا .

كما سيأتي نصوص أخرى لهم فلا حاجة إلى سردها هاهنا .

وأقول : هذا التعريف يدل على أن القبورية مرتكبون للشرك الأكبر .

التعريف الثاني : ما قاله الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) رحمه الله :

( حقيقة الشرك : أن يعتقد إنسان في بعض المعظمين من الناس أن الآثار العجيبة - أي الكرامات وكثرة العبادة ونحوها - الصادرة منه إنما صدرت لكونه متصفًا بصفة من صفات الكمال :

مما لم يعهد في جنس الإنسان ؛ بل يختص بالواجب جل مجده ، لا يوجد في غيره - إلا أن يخلع هو خلعة الألوهية على غيره... ؛ ونحو ذلك مما يظنه هذا المعتقد من أنواع الخرافات ؛ كما ورد : أن المشركين كانوا يلبون بهذه التلبية :

((لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك)) .

فيتذلل عنده أقصى التذلل ويعامل معه معاملة العبادة مع الله تعالى) .

قلت : هذا التعريف لا يختلف عن الأول ؛ وحاصله : أن الشرك : اعتقاد الإنسان في معظم :

أن الله تعالى خلع عليه خلعة يستحق بها أن يعامل معاملة الله تعالى من أقصى التذلل له ؛ وأقول : إن استدلال الإمام ولي الله في صدد تعريفه للشرك بتلبية المشركين - يدل على أن الشاه ولي الله رحمه الله يرى : أن شرك المشركين لم يكن لاعتقادهم في آلهتهم : أنها مالكة خالقة أربابًا للكون ، بل كانوا يعتقدون أن آلهتهم مملوكة لله وأن الله هو المالك الخالق المدبر للكون ؛ وإنما شركهم : زعمهم أن هؤلاء معظمون مقربون عند الله فهم شفعاؤهم عنده واسطة بينهم وبين الله ، وعلى هذا الأساس كانوا يعبدونهم بأنواع من العبادات .

التعريف الثالث : وهو أيضًا قاله الإمام ولي الدهلوي (1176هـ) :

(الشرك أن يثبت لغير الله سبحانه وتعالى شيئًا من صفاته المختصة به :

كالتصرف في العالم بالإرادة التي يعبر عنها بكن فيكون ؛ أو العلم الذاتي من غير اكتساب بالحواس ...) ؛ ثم قال رحمه الله :

(وإن كنت متوقفًا في تصوير حال المشركين وعقائدهم وأعمالهم - فانظر إلى حال العوام والجهلة من أهل الزمان ؛ خصوصًا من سكن منهم بأطراف دار الإسلام ؛ كيف يظنون بالولاية ؟ وماذا يخيل إليهم منها ... ؛ ويذهبون إلى القبور والآثار ، ويرتكبون أنواعًا من الشرك ...) .

قلت : هذا التعريف من أوضح التعاريف للشرك عند الحنفية ، وهو نص صريح على أن القبورية أهل شرك ؛ فإن هذا الإمام قد مثل للشرك وأهله بالقبورية وما يرتكبون عند زيارة القبور :

من النذور والاستغاثة بالأموات عند إلمام الملمات .

التعريف الرابع : ما قاله الإمام الشاه عبد القادر الدهلوي (1230هـ) :

الشرك هو : أن يعتقد في غير الله صفة من صفات الله تعالى ، كالعلم بكل شيء ، أو فعل كل شيء ؛ أو أن بيد فلان خيرًا وشرا ، أو يصرف لغير الله من التعظيم ما لا يليق إلا لله تعالى كالسجدة وطلب الحاجة ، أو اعتقاد أن فلانًا له الاختيار أي التصرف .

قلت : هذا التعريف للشرك دليل قاطع على أن ما يرتكبه القبورية من أنواع الاعتقاد في الأموات الذين ينذرون لهم ويستغيثون بهم في الملمات ، واعتقادهم علم الغيب والتصرف في الكون فيهم - هم عين الشرك الأكبر ، وأنهم أهل الشرك .

التعريف الخامس : ما قاله الإمام محمد إسماعيل الدهلوي (1246هـ) ، وتبعه أبو الحسن الندوي واللفظ للثاني :

(اعلم أن الشرك لا يتوقف على أن يعدل الإنسان أحدًا

بالله ويساوي بينهما بلا فرق ؛ بل حقيقة الشرك : أن يأتي الإنسان بخلال وأعمال خصها الله بذاته العلية وجعلها شعارًا للعبودية - لأحد من الناس ؛ كالسجود لأحد ، والذبح باسمه ، والنذر له ، والاستغاثة به في الشدة واعتقاد أنه حاضر وناظر في كل مكان ؛ وإثبات التصرف - في الكون - له ، كل ذلك يثبت به الشرك ويصبح الإنسان به مشركًا ...) .

قلت : هذا التعريف لا يحتاج إلى تعليق وفيه عبرة للقبورية !؟!

التعريف السادس : ما قاله العلامة السهسواني (1326هـ) :

(إن الشرك : هو دعاء غير الله في الأشياء التي تخص به سبحانه أو اعتقاد القدرة لغير الله فيما لا يقدر عليه سواه ، أو التقرب إلى غيره بشيء

مما لا يتقرب به إلا إليه) ؛ وقال : (الشرك : هو أن يفعل لغير الله شيئًا يختص به سبحانه) ؛ ثم قال مبرهنًا عليه :

(وقد علم كل عالم أن عبادة الكفارة للأصنام - لم تكن إلا بتعظيمها ، واعتقاد أنها تضر وتنفع ، والاستغاثة بها عند الحاجة ، والتقريب لها في بعض الحالات بجزء من أموالهم ؛ وهذا كله قد وقع من المعتقدين في القبور [وأهلها] ....) ؛ ثم ذكر رحمه الله أن القبورية أشد خوفًا وعبادة للأموات منهم لله تعالى .

قلت : سيأتي مفصلًا أن القبورية أشد إشراكًا من الوثنية الأولى وأعظم عبادة للأموات منهم لخالق البريات .

أقول : هذه كانت عدة تعريفات للشرك عند علماء الحنفية ، ذكرتها لتكون ردا على تعريف القبورية للشرك ؛ فأنت رأيت أن علماء الحنفية لم يشترطوا في تعريفاتهم للشرك تلك القيود التي اشترطها القبورية في تعريف الشرك :

من قيد ((الاستقلال بالنفع والضر)) وقيد ((الربوبية)) .

وقيد ((بنفسه وبذاته)) وقيد ((من دون الحاجة إلى الغير)) .

وقيد ((الخالقية والإحياء والإماتة)) وقيد ((نفوذ المشيئة لا محالة)) ونحوها من القيود الباطلة ؛

ثم رأيت تصريح علماء الحنفية في صدد تعريفاتهم للشرك :

أن القبورية مرتكبون للشرك الأكبر بعبادتهم للقبور وأهلها من تقديم النذور والاستغاثة بهم عند الكربات * ، وغيرها من أنواع العبادات * .

*****

المطلب الثالث

في جهود علماء الحنفية في إبطال تعريف القبورية للشرك

لقد سبق أن عرضت عقيدة القبورية في تعريف الشرك ، فقد رأيت أخي المسلم : أن القبورية قد عرفوا الشرك بحيث يبرر لهم جميع ما يرتكبونه من الشرك الأكبر وعبادة غير الله - تحت ستار الوسيلة والواسطة والشفاعة والولاية والكرامة ؛ ولكن علماء الحنفية قد ردوا عليهم وأبطلوا تعريفهم للشرك ؛ وذلك من وجوه :

الوجه الأول : أن علماء الحنفية قد عرفوا الشرك بعدة تعريفات كما ذكرت أمثلة منها أمام القراء الكرام وليس في هذه التعريفات شيء من تلك القيود الفاسدة التي ذكرتها القبورية في تعريفهم للشرك ؛ كقيد ((الاستقلال بالنفع والضر)) ، وقيد ((الربوبية)) ، وقيد ((بنفسه وبذاته)) ، وقيد ((نفوذ المشيئة لا محالة)) ، وقيد ((الخالقية والإماتة والإحياء)) ونحوها ، فدل ذلك على أن الشرك يتحقق بدون هذه القيود ؛ فذكر هذه القيود كلا أو بعضًا يفسد حقيقة الشرك ويغير مفهومه ويحرف معناه ، وهذا دليل على أن تعريف القبورية للشرك -

تعريف مزيف باطل فاسد * ، عاطل كاسد * ، وليس إلا محاولة فاشلة لتبرير الإشراك بالله وجواز عبادة غير الله سبحانه وتعالى .

الوجه الثاني : أن علماء الحنفية قد صرحوا - كما ظهر في تعريفاتهم للشرك - بأن الشرك يتحقق بعبادة غير الله سبحانه على سبيل الاستشفاع ، واعتقاد التصرف في الكون لغير الله جل وعلا ، واعتقاد علم الغيب في غير الله تعالى ، سواء اعتقد ذلك في غير الله عز وجل - على سبيل الاستقلال أم على سبيل الإعطاء من عند الله سبحانه .

قلت : فهذا كله يدل على إبطال تعريف القبورية للشرك وأنه تعريف باطل فاسد .

الوجه الثالث : أن الحنفية قد صرحوا بأن القبورية هم أهل الشرك وهم عباد القبور وأهلها سواء اعترفوا بذلك أم لا ، وسواء سموا شركهم تعظيمًا أو محبة أو تقديرًا ، أم سموه بأسماء أخرى ، فهم في الشرك على طريقة الوثنية الأولى :

قال الإمام إسماعيل الدهلوي (1246هـ) وتبعه الشيخ أبو الحسن الندوي ، واللفظ للثاني :

(اعلم أن الشرك قد شاع في الناس في هذا الزمان وانتشر ...؛

والحاصل : أنه ما سلك عباد الأوثان في الهند طريقًا مع آلهتهم - إلا وسلكه الأدعياء من المسلمين مع الأنبياء والأولياء ... ، وتبعوا سنن جيرانهم من المشركين شبرًا بشبر وذراعًا بذراع وحذو القذة بالقذة والنعل بالنعل ... ؛ فإذا عارضهم معارض وقال لهم : أنتم تدعون الإيمان ، وتباشرون أعمال الشرك ...؟!؟ ، قالوا : نحن لا نأتي بشيء من الشرك ؛ إنما نبدي ما نعتقده في الأنبياء والأولياء من الحب والتقدير ، أما إذا عدلناهم بالله واعتقدنا : أنهم والله جل وعلا بمنزلة سواء - كان ذلك شركًا ، ولكننا لا نقول بذلك ، بل نعتقد بالعكس : أنهم خلق الله وعبيده ؛ أما ما نعتقد فيهم من القدرة ، والتصرف في العالم - فهما مما أكرمهم الله وخصهم به ، فلا يتصرفون في العالم إلا بإذن منه ورضاه ؛ فما كان نداؤنا لهم واستعانتنا بهم إلا نداء الله واستعانة به ، ولهم عند الله دالة ومكانة ليست لغيرهم ، قد أطلق أيديهم في ملكه ، وحكمهم في خلقه ؛ يفعلون ما يشاءون ، وينقضون ويبرمون ، وهم شفعاؤنا عند الله ، ووكلاؤنا عنده - فمن حظي عندهم ووقع عندهم بمكان - كانت له حظوة ومنزلة عند الله ... ؛

إلى غير ذلك من التأويلات الكاسدة والحجج الفاسدة ... ؛ وإن كانوا عولوا على كلام الله ورسوله ((صلى الله عليه وسلم )) ، وعنوا بتحقيقه - عرفوا أنها نفس التأويلات والحجج التي كان كفار العرب يتمسكون بها في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ويحاجونه بها ، ولم يقبلها الله منهم ، بل كذبهم فيها ؛ فقال في سورة يونس : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [يونس : 18 ] ...

وقد تبين من هذه الآية : أن من عبد أحدًا من الخلق اعتقادًا بأنه شفيعه - كان مشركًا بالله ... ، وقد وضح من ذلك : أن من اتخذ وليًا من دون الله - وإن كان ذلك على أساس : أن عبادته تقربه عند الله - كان مشركًا بالله كاذبًا ، كافرًا بنعمة الله ... ؛ وكذلك تبين : أن الكفار الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم - لم يكونوا يعدلون آلهتهم بالله ... ؛ بل كانوا يقرون بأنهم مخلوقون وعبيد ... ؛ فما كان كفرهم ، وشركهم إلا نداؤهم لآلهتهم والنذور التي كانوا ينذرون لها .... ؛

واتخاذهم لهم شفعاء ووكلاء ؛ فمن عامل أحدًا بما عامل به الكفار آلهتهم - وإن كان يقر بأنه مخلوق وعبد - كان هو وأبو جهل في الشرك بمنزلة سواء .... ؛ فاعلم : أن الشرك لا يتوقف على أن يعدل الإنسان أحدًا بالله ويساوي بينهما بلا فرق ، بل حقيقة الشرك : أن يأتي الإنسان بخلال وأعمال خصها الله بذاته العلية ، وجعلها شعارًا للعبودية - لأحد من الناس :

كالسجود لأحد ، والذبح باسمه ، والنذر له ، والاستغاثة به في الشدة ، واعتقاد أنه حاضر ناظر في كل مكان ، وإثبات التصرف له - كل ذلك يثبت به الشرك ويصبح الإنسان به مشركًا .... ؛ لا فرق في ذلك بين الأولياء والأنبياء والجن والشياطين ، والعفاريت ، والجنيات - فمن عاملها هذه المعاملة - كان مشركًا ... ؛ فمن كان يلهج باسم أحد من الخلق ويناديه ....، ويستصرخه ويستغيث به عند نزول البلاء ... ، ويعتقد أنه لا يخفى عليه من أمره شيء .... ؛ كان بذلك مشركًا ، وكل ذلك يدخل في الشرك ؛ ويسمى هذا النوع : ((الإشراك في العلم)) .... ،

 

سواء اعتقد : أنه يعلم من ذاته ، أو يعلم أنه منحة من الله وعطاء منه ؛ كل ذلك شرك ... ؛ إن التصرف في العالم ، وإصدار الأمر والنهي ... ، وإنجاح المطالب ، وتحقيق الأماني ، ودفع البلايا ، والإغاثة في الشدائد ، وإلهاف الملهوف ، وإنهاض العاثر - هذه كلها من خصائص الله تعالى ؛ لا يشاركه فيها أحد من الأنبياء والأولياء والشهداء والصلحاء والعفاريت والجنيات ؛ فمن أثبت هذا التصرف المطلق لأحد ، وطلب منه حاجته : وقرب القرابين والنذر لأجل ذلك ، واستصرخه في نازلة - كان مشركًا ؛ ويقال لهذا النوع : ((الإشراك في التصرف)) ؛ سواء اعتقد أنهم يقدرون على ذلك بأنفسهم ، أو اعتقد : أن الله سبحانه وهبهم هذه القدرة ...) ، ثم ذكرا عدة أنواع من العبادات التي يصرفها القبورية للقبور وأهلها ، ثم قالا :

(كل هذه الأعمال علمها رب العالمين عباده ، وأفردها لنفسه ؛ فمن أتى بها لشيخ طريقة ، أو نبي ، أو جني ، أو قبر محقق ، أو مزور ، أو لنصب أو لمكان عبادة ...، - فقد تحقق عليه الشرك ؛ ويسمى : ((إشراكًا في العبادة)) ؛

سواء اعتقد : أن هذه الأشياء تستحق التعظيم بنفسها ، وأنها جديرة بذلك ، أو اعتقد : أن رضا الله في تعظيم هذه الأشياء ، وأن الله يفرج الكرب ببركة هذا التعظيم ) .

الوجه الرابع : أن علماء الحنفية قد حققوا :

أن المشركين السابقين كانوا معترفين بتوحيد الربوبية ، وأنهم لم يشركوا آلهتهم بالله في الخلق والتدبير والتصرف والاستقلال ونحو ذلك .

ومع ذلك كانوا مشركين ؛ فدل هذا دلالة قاطعة لا تحتمل النقيض على أن تعريف القبورية للشرك فاسد باطل .

الوجه الخامس : أن تعريف القبورية للشرك - دليل على أنهم لم يعرفوا الشرك ولا تاريخ الوثنية ، ولا عقيدة المشركين ، وما كانوا عليه من القصد والدين كما أن القبورية لم يعرفوا ما كان عليه الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم من توحيد رب العالمين .

لذلك هم عرفوا الشرك بهذا التعريف الباطل - الذي ذكروا فيه تلك القيود والشروط التي لم تكن متحققة في شرك المشركين الأولين .

الوجه السادس : أن نقول : لو صح تعريف القبورية للشرك -

لزم منه - أن يكون المشركون السابقون غير مشركين ؛ لكن التالي باطل فالمقدم مثله ؛ ولو صح أن المشركين السابقين كانوا مشركين - لزم منه - أن يكون تعريف القبورية للشرك باطلًا فاسدًا * عاطلًا كاسدًا * ؛ لكن المقدم حق فالتالي مثله .

ودليل هذين البرهانين القاهرين * والسلطانين الباهرين * - ما قاله العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) :

(وهذا الأحمق [ ابن جرجيس ] زاد في غير موضع من كتابه قيدًا فقال :

لا يشرك إلا من قصد واعتقد الاستقلال من دون الله .

مع أن تلبية المشركين في الجاهلية :

((لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك )) ؛ فهؤلاء لم يدعوا الاستقلال ؛ وعلى زعم هذا (( العراقي ابن جرجيس )) فليسوا بمشركين ) .

وقال رحمه الله :

(وأما جعل الأموات أسبابًا يستغاث بها وتدعى وترجى وتعظم على أنها وسائط - فهذا دين عبادة الأصنام ؛

يكفر فاعله بمجرد اعتقاده وفعله ؛ وإن لم يعتقد الاستقلال :

كما نص عليه القرآن في غير موضع ؛ فالغلاة معارضون للقرآن مصادمون لنصوصه) .

قلت : أنشده بهذه المناسبة ما قاله الإمام ابن القيم رحمه الله (751هـ) :

والله ما بعد البيان لمنصف ... إلا العناد ومركب الخذلان

الحاصل : أن تعريف القبورية للشرك - تعريف باطل فاسد غير جامع لأفراده ؛ بل غير صادق على شرك المشركين الأولين والآخرين ، وأن الصحيح الحق الصواب - هو تعريف هؤلاء العلماء من الحنفية للشرك ؛ فإنه جامع شامل لجميع أفراده صادق على شرك الوثنية القديمة وعلى شرك القبورية في آن واحد .

وبعد أن عرفنا بطلان تعريف القبورية للشرك وعرفنا صحة تعريف الحنفية للشرك ننتقل إلى المبحث الآتي ؛ لنعرف أنواع الشرك عند الحنفية .

فنقول وبربنا الرحمن نستغيث ونستعين * إذ هو المستعان المغيث وهو المعين * :

*****

المبحث الثاني

في بيان أنواع الشرك عند علماء الحنفية

وردهم على القبورية

كلمة بين يدي هذا المبحث :

لقد ذكرت تعريف الشرك لغة واصطلاحًا عند علماء الحنفية ، كما ذكرت بعض جهودهم في إبطال تعريف القبورية للشرك .

وتبين من نصوصهم أن الشرك له أنواع توجد كثير منها في القبورية ؛ فعلماء الحنفية - في تعريفهم للشرك تعريفًا صحيحًا واسعًا جامعًا لأنواع الشرك - ردوا ردا قويا على القبورية بحيث جعلوهم صرعى لا نهوض لهم .

وفي هذا المبحث أريد أن أذكر أهم ما ذكره علماء الحنفية من أنواع الشرك التي يرتكبها القبورية قديمًا وحديثًا ليكون هذا أبلغ رد من علماء الحنفية لمزاعم القبورية وأقمع لعقائدهم فأقول وبالله التوفيق :

لقد ذكر كبار علماء الحنفية عدة أنواع للشرك :

بأساليب مختلفة وعبارات متنوعة وطرق متعددة وكلها في الرد على القبورية ؛ ليبينوا للناس أن هذه الأفاعيل الشركية والأباطيل الخرافية -

التي ترتكبها القبورية ويبررونها بتلك القيود التي يذكرونها في تعريف الشرك :

كقيد : ((استقلال الأنبياء والأولياء بالنفع والضر)) أو ((اعتقاد الربوبية فيهم)) أو ((أنهم ينفعون ويضرون بذواتهم)) ) .

كلها داخلة في تعريف الشرك وأنها من أنواع الشرك لا محالة .

سواء كان يعتقد فيهم ((الاستقلال بالنفع والضر)) ويعتقد فيهم الربوبية أم لا ؛ وفيما يلي أذكر بعض أقوال علماء الحنفية في بيان أنواع الشرك .

1 - قول الإمام أحمد بن عبد الأحد السرهندي الملقب عند الحنفية بالإمام الرباني ومجدد الألف الثاني (1034هـ) :

ذكر للشرك نوعين :

الأول : الشرك في وجوب الوجود .

الثاني : الشرك في العبادة .

ولما كان النوع الأول غير واقع والثاني هو الواقع في المشركين عامة والقبورية خاصة - اهتم ببيان الشرك في العبادة ردا على القبورية فقال :

(ما أشد سفاهة من لا يشركون بالله شيئًا في وجوب الوجود ومع ذلك

يشركون به تعالى في العبادة ..... ، بل الأهم والأحوج إليه والأنفع في هذه الطرق نفي شريك استحقاق العبادة المخصوص بدعوة الأنبياء عليهم الصلوات والتسليمات ؛ فإن المخالفين الذين ليسوا بملتزمين ملة نبي من الأنبياء عليهم الصلوات والتسليمات ؛ أيضًا ينفون شريك وجوب الوجود ...... ، ولكنهم غافلون عن معاملة استحقاق العبادة .

وفارغون عن نفي شريك استحقاق العبادة ، لا يتحاشون من عبادة الغير ، ولا يتكاسلون من عمارة الدير ، الأنبياء هم الذين يهدمون الدير وينهون عن عبادة الغير ، والمشرك في لسان هؤلاء الأكابر - من يكون أسيرًا لعبادة غير الحق سبحانه ، وإن كان قائلًا بنفي وجوب الوجود ، فإن اهتمامهم في نفي عبادة ما سوى الحق سبحانه المتعلق بالعمل والمعاملة المستلزم لنفي شريك وجوب الوجود ؛ فمن لم يتحقق بشرائع هؤلاء الأكابر عليهم الصلوات والتسليمات المنبئة عن نفي استحقاق ما سوى الله للعبادة - لا يتخلص من الشرك ، ولا ينجو من شعب شرك عبادة الآلهة) ؛ ثم ذكر أن المقصود من بعثة الرسل إنما هو تحقيق توحيد العبادة

والنجاة من الشرك في عبادة الله عز وجل .

أقول : هذا النص مشتمل على نكات مهمات وكلها رد على القبورية :

الأولى : أن القبورية أشركوا في عبادة الله تعالى .

الثانية : أن القبورية اهتموا بتعمير ما أمر الأنبياء بهدمه من الدير والمشاهد .

الثالثة : المشرك في اصطلاح الأنبياء هو من أشرك في عبادة الله .

الرابعة : أن من عبد غير الله تعالى فهو مشرك وإن اعترف بتوحيد الربوبية .

الخامسة : الفرق بين توحيد الربوبية وبين توحيد العبادة .

السادسة : أن الأنبياء والمرسلين إنما بعثوا لتحقيق توحيد الألوهية ونفي عبادة غير الله تعالى .

2 - قول الإمام أحمد الرومي أحد عظماء الحنفية الذي له جهود عظيمة في إبطال عقائد القبورية (1043هـ) ، 3- قول الشيخ سبحان بخش الهندي ، 4- قول الشيخ محمد السورتي ، فهؤلاء العلماء ذكروا ستة أنواع للشرك منها الشرك في العبادة ، وقالوا في بيان هذا النوع من الشرك - واللفظ للأول - :

(والثالث من أنواع الشرك - شرك تقريب :

وهو عبادة غير الله ليقرب إلى الله ؛

كشرك متقدمي عبدة الأصنام ، فإنهم لما رأوا أن عبادتهم للمولى العظيم على ما هم عليه من غاية الدناءة ونهاية الحقارة - سوء أدب عظيم - تقربوا إليه بعبادة من هو أعلى منهم عنده .....) .

ثم بوبوا فقالوا ؛ واللفظ للأول أيضًا :

(المجلس السابع عشر في بيان عدم جواز الصلاة عند القبور والاستمداد من أهلها واتخاذ السروج والشموع عليها) .

ثم أطنبوا في الرد على عقائد القبورية وحققوا أن هذا النوع من الشرك - وهو عبادة غير الله - موجود في القبورية ، وأتوا بتحقيقات دقيقة وتدقيقات عميقة في إبطال عقائد القبورية مما فيه عبرة للقبورية وسخنة الأعين للخرافية وقرة عيون السنية .

5 - قول الشيخ محمد أعلى الفاروقي أحد علماء الحنفية .

لقد ذكر عدة أنواع للشرك في مبحث طويل رد فيه على القبورية :

منها الشرك في العبادة .

ومنها الشرك في الطاعة أي في التحليل والتحريم .

ومنها الشرك في التسمية .

ومنها الشرك في العلم ، ومنها الشرك في القدرة .

ثم قال في بيان سبب عبادة الأوثان :

(ولا بد من بيان سبب عبادة الأوثان ؛ إذ عبادة الأحجار من جم غفير عقلاء ، ظاهر البطلان) ؛ ثم ذكر عدة أسباب ، منها التقرب إلى الله وقال في بيان ذلك :

(وعابدو الأوثان فيهم من كانوا لا يقولون : إنهم شركاء الله في الخلق وتدبير العالم ؛ بل كانوا يقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، فثبت أن الأكثر منهم كانوا مقرين بأن الله إله العالم واحد ، وأنه ليس في الإلهية - بمعنى خلق العالم وتدبيره - شريك ونظير كما يدل عليه قوله تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ } [الزخرف : 9 ] .

ثم تصدى للرد على القبورية وبيان كشف زيغهم وإبطال عقيدتهم في الشفاعة ، والتوسل الشركيين ، فقال :

(والفرقة الرابعة هي فرقة عباد الشيوخ وأنصارها :

يقولون : حيث إن الرجل الكبير مستجاب الدعوات مقبول الشفاعات بسبب كمال الرياضة والمجاهدة فإنه ينقل قوة عظيمة وبسطة من هذه الدنيا إلى روحه ، فكل من يجعل صورته برزخًا أو يسجد على قبره ويتذلل أو يذكره في

مكان عبادته ، أو ينذر نذرًا باسمه ، أو يفعل نحو ذلك - فإن روح ذلك الشيخ - بسبب كماله - تطلع على هذا الأمر وتشفع له في الدنيا والآخرة) ؛ وقال أيضًا في بيان إبطال توسل القبورية :

(ومن جملتهم الأشخاص الذين يدعون الآخرين لدفع البلاء عنهم ويتوسلون بالآخرين في تحصيل المنافع ، ويعدون الآخرين عالمين بالغيب وذوي قدرة مطلقة مستقلين بذاتهم .

وهذا نوع من الشرك في العلم والقدرة ) .

قلت : هذا النص في غاية من الأهمية لإبطال عقائد القبورية وبيان أنهم يرتكبون أنواعًا من الشرك كالشرك في العبادة حيث يعبدون القبور وأهلها بنذور وسجود ونداء واستغاثة لدفع البلاء وتحصيل المنافع وأن القبورية يرتكبون شفاعة شركية ووسيلة خرافية .

وأنهم يعتقدون فيمن يدعونهم ويستغيثون بهم من الأولياء - أنهم عالمون بالغيب وقادرون بقدرة مطلقة مستقلين بذاتهم ، وأن القبورية لأجل هذه العقائد الشركية مرتكبون شركًا في العلم وشركًا في القدرة .

تنبيه : قوله : ((مستقلين بذاتهم)) - ليس قيدًا لتحقيق الشرك ، بل بيان أن القبورية قد وصلوا في شركهم إلى حد - اعتقد بعضهم : أن للأولياء قدرة مطلقة ، مستقلين بذواتهم ،

وهذا تكذيب للقبورية أيما تكذيب !؟! ؛ إذ ليس هذا إلا شركًا في الربوبية والصفات ؛ فالقبورية أشركوا بالله حتى أشركوا في الربوبية فضلًا عن الشرك في العبادة .

6- قول الإمام ولي الله رحمه الله .

لقد بوب الإمام ولي الله الدهلوي أحد كبار أئمة الحنفية (1176هـ) ليرد على مزاعم القبورية ويبطل عقائدهم ببيان أنواع الشرك فقال :

((باب أقسام الشرك)) .

ثم ذكر تعريف الشرك وقد تقدم نصه ثم قال : ((ورد في الحديث : أن المشركين كانوا يلبون بهذه الصيغة :

((لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك)) .

ثم ذكر : أن المشرك يتذلل عند معبوده الباطل أقصى التذلل ، ويعامل معه معاملة العباد مع الله تعالى ؛ ثم ذكر للشرك عدة أنواع سماها الشرك ومظانه على ما يلي :

1 - الشرك في السجود .

2 - الشرك في الاستعانة .

3 - الشرك في النذور .

وقال :

((ومنها أنهم كانوا يستعينون بغير الله في حوائجهم من شفاء المريض وغناء الفقير وينذرون لهم يتوقفون إنجاح مقاصدهم بتلك النذور ،

ويتلون أسماءهم رجاء بركتها ، فأوجب الله عليهم أن يقولوا في صلاتهم { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5] ، وقال تعالى : { فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [الجن : 18 ] ؛ وليس المراد من الدعاء العبادة ، كما قال بعض المفسرين بل هو الاستعانة لقوله تعالى : { بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ } ...) ؛ [ الأنعام : 41] ؛ ثم ذكر نوعين آخرين للشرك :

4 - تسمية بعض شركائهم بنات الله وأبناء الله .

5 - الشرك في الطاعة وهو طاعة الأحبار والرهبان في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحله الله .

ثم ذكر في إبطاله قوله تعالى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } [ التوبة : 31] ، وحديث عدي بن حاتم المعروف .

ثم قال :

((وسر ذلك أن التحليل والتحريم عبارة عن تكوين نافذ في الملكوت أن الشيء الفلاني يؤاخذ به أو لا يؤاخذ به ، فيكون هذا التكوين سببًا للمؤاخذة وتركها ، وهذا في صفات الله)) .

ثم ذكر أن من فعل هذا الشرك فهو مشرك بالله تعالى ، ثم ذكر أنواعًا ثلاثة أخرى للشرك :

6 - الشرك في الذبح والإهلال باسم غير الله .

7 - تسييب السوائب والبحائر تقربًا إلى غير الله .

8 - الشرك في الحلف بغير الله .

وقال : (ومنها أنهم كانوا يعتقدون في أناس أن أسماءهم مباركة معظمة وكانوا يعتقدون أن الحلف بأسمائهم على الكذب يستوجب حرمًا في ماله وأهله ، فلا يقدمون على ذلك ؛ ولذلك كانوا يستحلفون الخصوم بأسماء شركائهم بزعمهم ، فنهوا عن ذلك وقال النبي صلى الله عليه وسلم :

« من حلف بغير الله فقد أشرك » وقد فسره بعض المحدثين على معنى التغليظ والتهديد ، ولا أقول بذلك ، وأن المراد عندي : اليمين المنعقدة ، واليمين الغموس باسم غير الله تعالى على اعتقاد ما ذكرنا)) .

ثم ذكر نوعًا آخر للشرك :

9 - الشرك في الحج لغير الله .

وقال في شرحه وبيانه :

(ومنها الحج لغير الله تعالى :

وذلك أن يقصد مواضع متبركة مختصة بشركائهم - يكون الحلول بها تقربًا من هؤلاء ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :

« لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد » ) .

وقال : (كان أهل الجاهلية يقصدون مواضع معظمة بزعمهم يزورونها ويتبركون بها ، وفيه من التحريف والفساد ما لا يخفى ، فَسَدَّ النبي صلى الله عليه وسلم الفساد ، لئلا يلتحق غير الشعائر بالشعائر ، ولئلا يصير ذريعة لعبادة غير الله ، والحق عندي أن القبر ومحل عبادة ولي من أولياء الله والطور كل ذلك سواء في النهي) .

وذكر نوعًا آخر للشرك ، وهو :

10 - الشرك في التسمية بأن يسمي ابنه عبد العزى وعبد الشمس ونحو ذلك .

ثم قال بعد ذكر هذه الظاهرة للشرك :

(فهذه أشباح وقوالب للشرك نهى الشارع عنها) .

وذكر أن شرك الطاعة التي هي عبادة الأحبار والرهبان قد وقع فيه بعض المقلدين الجامدين للأئمة الذين لا يتركون التقليد وإن ظهر الدليل

على خلاف قول إمامهم .

7 - قول الشاه محمد إسماعيل المجاهد (1246هـ) .

8 - وقول الشيخ أبي الحسن الندوي .

لقد مشى على طريقة الإمام ولي الله حفيده العلامة إسماعيل الدهلوي وتبعه الشيخ أبو الحسن الندوي في بيان أنواع الشرك الموجودة في القبورية فقالا واللفظ للثاني :

(استفحال فتنة الشرك والجهالة في الناس .

اعلم أن الشرك قد شاع في الناس في هذا الزمان وانتشر) ، ثم ذكر بعد عنوان : (( مظاهر الشرك وأشكاله المتنوعة )) - ما يلي :

1 - الشرك بدعاء الأولياء والاستغاثة بهم .

2 - الشرك بالاستعانة من الأولياء .

3 - الشرك بالنذر والذبح للأولياء .

4 - الشرك في التسميات بأن ينسب الأولاد إلى الأولياء بمعنى أنهم من عطاء غير الله ككثير من الأسماء الشركية ؛ نحو عبد النبي ، وهبة علي ، وهبة حسين ، وهبة المدار وهبة سالار وذلك طمعًا في رد البلاء عنهم .

5 - الحلف بأسماء الأولياء .

6 - إرسال الظفيرة باسم ولي من أولياء الله .

7 - تعليق القلادة لولي من الأولياء .

8 - إلباس الولد لباسًا خاصًا باسم ولي من الأولياء .

9 - صفد الابن بقيد في رجله باسم ولي من الأولياء .

10 - السجود لغير الله .

11 - اعتقاد علم الغيب في غير الله .

12 - إثبات قدرة التصرف لغير الله .

ثم قالا : (كل ذلك يثبت به الشرك ويصبح الإنسان به مشركًا ) .

قلت : في هذا النص أبلغ الرد على القبورية في صميم اعتقاداتهم الباطلة .

9 - قول آخر للشاه المجاهد المذكور (1246هـ) وقد شن الغارة على القبورية لإبطال عقائدهم الوثنية .

فذكر أن الشرك أولًا على نوعين ؛ 1- الشرك في الربوبية .

2 - الشرك في الألوهية .

ثم ذكر أنه تفرع منها أربعة أنواع أخرى وهي :

1 - الشرك في العلم بمعنى علم الغيب .

2 - الشرك في التصرف .

3 - الشرك في العبادة .

4 - الشرك في العادة يعني في الأعمال العادية .

10 - وتبعه أيضًا الشيخ أبو الحسن الندوي في بيان هذه الأنواع الأربعة ، وشدد النكير على القبورية لإبطال عقائدهم الخرافية .

11- قال العلامة السيد محمود شكري الآلوسي (1342هـ) :

(إن الشرك نوعان :

1 - شرك في الربوبية : بأن يجعل معه لغيره تدبيرًا ما ...

2 - وشرك في الألوهية : بأن يدعي غيره دعاء عبادة أو دعاء مسألة ...) .

12 - قول العلامة حسين علي (1362هـ) أحد عظماء الحنفية .

13 - قول غلام الله الملقب عند الحنفية بشيخ القرآن (1980م) .

فقد تصديا لإبطال عقائد القبورية وبيان أن القبورية ارتكبوا عدة أنواع من الشرك ، فذكرا من تلك الأنواع ما يلي :

1 - الشرك في العلم .

2 - الشرك في التصرف .

3 - الشرك في الدعاء .

4 - الشرك الفعلي .

ثم ذكرا تعريفات كل نوع منها ، وكشفا عن تمويهات القبورية وخرافاتهم .

14 - قول الأستاذ أبي الأعلى المودودي (1979م) رحمه الله .

لقد قسم الأستاذ المودودي رحمه الله الشرك أولًا إلى قسمين :

1 - الشرك الاعتقادي .

2 - الشرك العملي .

وقسم الشرك الاعتقادي إلى أربعة أقسام :

1 - الشرك في الذات .

2 - الشرك في الصفات ، وهو إثبات صفة من صفات الله تعالى لغيره سبحانه كاعتقادهم الغيب في غيره تعالى .

أو أن غيره تعالى يسمع كل ما يسمع ويبصر كل شيء أو منزه عن كل عيب ونقص وخطأ .

3 - الشرك في الاختيار وهو إثبات التصرف والنفع والضر والإغاثة والحفظ والإجابة والخير والشر فوق الأسباب العادية لغيره تعالى ، والتصرف في التشريع من التحليل والتحريم والتقنين .

4 - الشرك في الحقوق وهو الشرك في العبادة .

كالسجود والركوع والقيام والنذر والذبح والقربان ورجاء رفع الحوائج والمشكلات والدعاء وقت نزول المصائب والبلايا لغير الله سبحانه .

وكذا كل ما يدخل في العبادة بجميع أنواعها وصورها .

وهكذا الطاعة لغير الله تعالى طاعة مطلقة .

كل ذلك من قبيل الإشراك بالله تعالى في حقوقه وعبادته .

قلت : الشرك في الاختيار هو في الحقيقة داخل في الشرك في الصفات .

فالأولى أن يقال : الشرك في الذات ، الشرك في الصفات ، الشرك في العبادات ؛ غير أن الشرك في الذات أمر ذهني يتصوره العقل فقط وليس له وجود في الخارج فلا تعرف طائفة كائنة من بني آدم ارتكبت الشرك في الذات .

15 - قول شيخ القرآن الفنجفيري (1407) رحمه الله .

16 - قول الشيخ الرستمي حفظه الله .

لقد تصدى الشيخ محمد طاهر الفنجفيري الملقب عند الحنفية بشيخ القرآن وتبعه تلميذه الشيخ عبد السلام الرستمي ، للرد على القبورية وإبطال عقائدهم الوثنية فكشفا الستار عن كثير من أسرارهم ونبها على مفاسدهم وأضرارهم ، وبينا عدة أنواع للشرك ، فقالا ، واللفظ للثاني :

 

(بحث أقسام الشرك :

اعلم أن الشرك في التفصيل له أنواع كثيرة ؛ لأن الإشراك بالله تعالى في كل صفة مختصة به تعالى - نوع من الشرك ، وكذا الإشراك في كل حق من حقوقه تعالى - نوع مستقل [من أنواع الشرك] ؛

والصفات والحقوق الإلهية كثيرة ؛ فالأنواع للشرك بجنبها كثيرة ، لكنها في الأصل ترجع إلى نوعين :

(1) شرك اعتقادي ، (2) وشرك فعلي ، والأول على أربعة أقسام :

(1) الشرك في العلم ((علم الغيب)) ، (2) والشرك في التصرف والاختيار ، (3) والشرك في الدعاء ؛ يعني النداء والاستغاثة .

(4) والشرك في العبادة .

فنذكر هذه الأقسام بالنهج الذي ساقه القرآن) .

17 - وقد ذكر الشيخ الرستمي أنواعًا أخرى بترتيب آخر ، وهي :

1 - الشرك في المالكية .

2 - الشرك في الربوبية لا يعني الشرك في ((الحكم)) أي الطاعة .

3 - الشرك في التصرف .

4 - الشرك في الاستعانة .

5 - الشرك في الاستعاذة .

6 - الشرك في الاستجارة .

7 - الشرك في البركة .

8 - الشرك في الصفات .

9 - الشرك في العلم .

10 - الشرك في العبادات القولية .

11 - الشرك في العبادات العملية .

12 - الشرك في الدعاء .

13 - الشرك في الألوهية . ويعني به الشرك في الربوبية .

الحاصل : أن هذه عدة أنواع للشرك .

ذكرتها عن علماء الحنفية الذين ردوا على القبورية وهي تدل دلالة قاطعة على أن القبورية قد ارتكبوا أنواعًا من الشرك الأكبر بالله سبحانه ، وذلك بعبادتهم للقبور وأهلها .

وبعدما عرفنا الشرك وأنواعه - ننتقل إلى المبحث الآتي - لنعرف كيف بدأ الشرك وكيف تطور ؟ ؛

ليكون ذلك أبلغ رد من علماء الحنفية على القبورية ؛ فنقول وبالله نستعين وبه نستغيث * إذ هو المستعان المعين المغيث * :

*****

المبحث الثالث

في مصدر الشرك بعبادة القبور وتطوره ، ونشأة القبورية

وانتشارهم في العالم عند علماء الحنفية

وتحقيقهم : أن القبورية عبدة الأوثان

وفيه مطالب ثلاثة :

- المطلب الأول : في مصدر الشرك بعبادة القبور ونشأة القبورية عند علماء الحنفية .

- المطلب الثاني : في تطور الشرك والقبورية ، وانتشارهم في العالم عند علماء الحنفية .

- المطلب الثالث : في تحقيق علماء الحنفية : أن القبورية أهل الشرك وثنية : عبدة الأوثان ، وعباد القبور ، والأنصاب ، والأحجار والغارات ، والأشجار .

المطلب الأول

في مصدر الشرك بعبادة القبور وأهلها ونشأة القبورية عند علماء الحنفية

لعلماء الحنفية جهود في بيان مصدر الشرك بعبادة القبور وأهلها ونشأة القبورية ، والكلام هاهنا في أمور ثلاثة :

الأمر الأول : في تصريح علماء الحنفية بأن الناس قبل نشأة القبورية كانوا موحدين كلهم :

لقد صرح علماء الحنفية بأن الناس كانوا أمة واحدة على الإسلام موحدين متفقين على الحق والتوحيد ، في زمن أبينا آدم عليه السلام إلى زمن قوم نوح عليه السلام ، ثم اختلفوا بدسائس الشيطان وحيله ومكره الخفي ، كما قال تعالى : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } [ البقرة : 213] ، وقال سبحانه : { وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا } [يونس : 19 ] .

الأمر الثاني : في مصدر عبادة القبور وكيف بدأ شرك عبادة القبور فيهم ؟

لقد ذكر جمع من علماء الحنفية أثر ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } [ نوح : 23] :

(صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح - في العرب بعد :

أما ((ود)) فكانت لكلب بدومة الجندل ، وأما ((سواع)) فكانت لهذيل ، وأما ((يغوث)) فكانت لمراد ، ثم لبني غطيف بالجوف عند سبأ ، وأما ((يعوق)) فكانت لهمدان ، وأما ((نسر)) فكانت لحمير ، لآل ذي الكلاع - أسماء رجال صالحين من قوم نوح ؛ فلما هلكوا - أوحى الشيطان إلى قومهم :

أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون - أنصابًا ، وسموها بأسمائهم ؛ ففعلوا ، فلم تعبد -

حتى إذا هلك أولئك ، وتنسخ العلم - عبدت) .

قلت : لقد استدل الحنفية بهذا الأثر لبيان مصدر عبادة القبور وأهلها ، وأن الشرك قد بدأ بعبادة القبور وأهلها بسبب غلوهم في الصالحين .

الأمر الثالث : نشأة القبورية بعبادتهم للقبور وأهلها .

انتبه أيها المسلم إلى تاريخ الوثنية - الذي ذكرت عن الحنفية نبذة منه في مصدر عبادة القبور آنفًا ، وأن الشرك كيف بدأ فيهم ؟

لقد عرفت أن الشرك بعبادة القبور بدأ ؛ ثم تطور وانتشر في العالم بحيل الشيطان ومكره ولطيف تدبيره .

وقد ذكر علماء الحنفية في بيان كيفية بداية عبادة القبور ونشأة القبورية ، وأن الشيطان كيف استدرج الناس بحيله ومكره إلى الشرك بعبادة القبور ، وكيف أدخل عليهم الشرك ؟ حتى نشأت القبورية ؛ فقالوا : إن هؤلاء الخمسة كانوا رجالًا صالحين ذوي شرف في قومهم فلما ماتوا حزن عليهم قومهم كثيرًا - ؛ فجاءهم الشيطان في صورة إنسان ، وقال لهم :

حزنتم كثيرًا ؟ فقالوا : نعم ،

فقال : هل لكم أن أصورهم لكم في قبلتكم إذا نظرتم إليهم - ذكرتموهم فيذهب حزنكم وتنشطون في العبادة - فقالوا : نكره أن تجعل لنا في قبلتنا شيئًا نصلي عليه .

فقال : أصورهم في مؤخرة المسجد ، قالوا : نعم ، فصورهم لهم ، ثم لما تقدم الزمن وانقرضت الآباء والأبناء وأبناء الأبناء ونسي العلم جاء الشيطان في صورة الإنسان وقال لمن بعدهم :

إن من كان قبلكم من سلفكم الصالح كانوا يعبدونهم ؛ فعبدوهم ، ثم صارت سنة في العرب في الجاهلية .

أقول : تبين من هذا أنهم لم يكونوا يعبدون الأحجار كما تزعم القبورية بل كانوا يعبدون الصالحين ، وقد صرح علماء الحنفية : أن عبادة القبور - هي أصل شرك العالم ، وأن المشركين القبوريين قد ظهروا في عهد نوح عليه الصلاة والسلام بسبب عبادة هؤلاء الأولياء الخمسة ، وعكوف القبورية في ذلك العهد على قبورهم ، وبذلك وجدت القبورية على الأرض ، ثم تطورت القبورية حتى انتشرت في العرب وغيرهم .

هذه كانت قصة مصدر الشرك ومبدأ نشأة القبورية ، وبدايتها ؛ كيف بدأت ؟ وكيف ظهرت ؟ ذكرتها عن علماء الحنفية ، وأما تطور شرك عبادة القبور على نطاق أوسع وانتشار القبورية في العالم - ففي المطلب الآتي :

*****

المطلب الثاني

في تطور الشرك بعبادة القبور وأهلها وانتشار القبورية في العالم عند علماء الحنفية

وردهم على القبورية

والكلام هاهنا في تحقيق عشرة أمور :

الأمر الأول : في تحقيق أن أول فرقة قبورية هي قوم نوح عليه الصلاة والسلام ؛ وأما سائر فرق القبورية فتبع لها .

لقد تبين من كلام علماء الحنفية :

أن الإشراك بالله تعالى أول ما ظهر وبدأ - إنما ظهر وبدأ في قوم نوح بمكر الشيطان وحيله الخفية المزخرفة اللطيفة وكيده لبني آدم في الإغواء والإضلال بسبب عبادة القبور وأهلها :

فصار قوم نوح أول فرقة مشركة قبورية وثنية - ظهرت على وجه الأرض في تاريخ البشرية ، وانشقت عن المسلمين الموحدين ، فقبورية قوم نوح هم السلف الشرير السوء الطالح لكل مشرك قبوري ولجميع الفرق القبورية في شرق الأرض وغربها ، عجمها ، وعربها ، تركها ، وبربرها ، هندها ، وغيرها ؛ سواء تنتمي إلى الإسلام أم إلى الرفض أم إلى الفلسفة ، أم إلى الصوفية ، أم إلى الكلام ، أم إلى ملة من ملل الكفر ونحله .

فعبادة القبور هي أصل شرك العالم ، وقبورية قوم نوح هي أم القبوريات ؛ ثم انتشرت القبورية في اليهود والنصارى والعرب والعجم من الهند والترك والبربر وغيرهم ؛ فقد قال الإمام ابن أبي العز (792هـ) ، والعلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) ، واللفظ للأول ، في بيان مبدأ عبادة القبور وتطور القبورية في العالم :

(فإن المشركين من العرب كانوا يقرون بتوحيد الربوبية ... ؛ ولم يكونوا يعتقدون في الأصنام أنها مشاركة لله في خلق العالم ؛ بل كان حالهم فيها كحال أمثالهم من مشركي الأمم :

من الهند ، والترك والبربر ، وغيرهم ؛ تارة يعتقدون : أن هذه تماثيل قوم صالحين من الأنبياء والصالحين ، ويتخذونهم شفعاء ويتوسلون بهم إلى الله ؛ وهذا أصل شرك العرب ؛ قال الله تعالى حكاية عن قوم نوح ؛ { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } [نوح : 23 ] ؛ وقد ثبت في صحيح البخاري وكتب التفسير ، وقصص الأنبياء وغيرها ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وغيره من السلف :

أن هذه أسماء قوم صالحين في قوم نوح ؛ فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ، ثم طال عليهم الأمد ، فعبدوهم ، وأن هذه الأصنام بعينها -

صارت إلى قبائل العرب ؛ ذكرها ابن عباس رضي الله عنهما قبيلة قبيلة) .

وقال الإمامان : محمد البركوي (981هـ) وأحمد الرومي (1043هـ) ، والشيخان : سبحان بخش الهندي ، وإبراهيم السورتي - في تحقيق مبدأ عبادة القبور وأهلها ، ونشأة القبورية وتطورها وانتشارها في العالم ، مبينين أن القبورية قديمًا وحديثًا يعبدون الصالحين دون الأحجار ، واللفظ للأول :

(ومن أعظم مكائده - أي الشيطان - التي كاد بها أكثر الناس ، وما نجا منها إلا من لم يرد الله تعالى فتنته - ما أوحاه قديمًا وحديثًا إلى حزبه وأوليائه :

من الفتنة بالقبور ، حتى آل الأمر فيها إلى أن عبد أربابها من دون الله تعالى ، وعبدت قبورهم ، واتخذت أوثانًا ، وبنيت عليها الهياكل ، وصورت صور أربابها فيها ، ثم جعلت تلك الصور أجسادًا لها ظل ، ثم جعلت أصنامًا ، وعبدت مع الله تعالى ، وكان ابتداء هذا الداء العظيم في قوم نوح ) ، ثم ساقوا أثر ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية المذكورة

كما نقلته عن ابن أبي العز آنفًا ، ثم قالوا :

(وكان هذا مبدأ عبادة الأصنام :

فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين :

فتنة القبور ، وفتنة التماثيل ؛ وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ...، :

« أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح ، أو الرجل الصالح - بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور ؛ أولئك شرار الخلق عند الله » .

ففي هذا الحديث : ما ذكر من الجمع بين التماثيل والقبور) .

قلت : لقد ظهر من كلام هؤلاء الأعلام من الحنفية :

أن القبورية نشأت في قوم نوح ، ثم تطورت وانتشرت فيمن بعدهم من الأقوام والأمم حتى جاءت نوبة اليهود والنصارى ؛ فهم صاروا من أعظم فرق القبورية وشرارها حتى آل الأمر إلى جزيرة العرب ؛ فكان العرب في الجاهلية من أعظم قبورية العالم ؛ وكانوا جميعًا قد جمعوا بين فتنتين :

فتنة الشرك بعبادة القبور .

وفتنة الصور والتماثيل .

كما تبين من ذلك أنهم كانوا يعبدون الصالحين دون الأحجار لا كما يزعم القبورية .

الأمر الثاني : في تحقيق أن مشركي العرب كانوا قبورية كسلفهم قوم نوح عليه السلام .

أقول : بالنسبة إلى مشركي العرب في الجزيرة وكونهم قبورية فالأمر أوضح وأشهر من أن يبرهن عليه ويذكر ؛ فإنهم كانوا قبورية يعبدون القبور وأهلها ، فقد صرح الإمام محمود الآلوسي (1170هـ) :

أن (( اللات )) كان رجلًا من ثقيف يلت السويق بالزيت ؛ فلما توفي جعلوا قبره وثنًا ، وأنه كان يلت السويق على الحجر ؛ فلا يشرب منه أحد إلا سمن ، فعبدوه ، وعبدوا ذلك الحجر إجلالًا .

وذكر الشيخ جوهر الرحمن .

عن الحافظ ابن كثير (774هـ) قوله :

(فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه) .

قلت : فإن قيل ماذا كان نوع عبادة العرب لللات ؟

قلت : لقد صرح الحنفية بأنهم كانوا يستعينون به عند الشدائد كدأب قبورية اليوم وبذلك كفروا وأشركوا بالله في عبادته ؛ قال الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) :

(وكفر الله مشركي مكة لقولهم لرجل سخي كان يلت السويق للحاج :

إنه نصب منصب الألوهية ؛ فجعلوا يستعينون به عند الشدائد ) .

قلت : هذا كله برهان بل براهين على أن مشركي العرب من أعظم فرق القبورية في العالم ، وأنهم أقحاح في القبورية ، ومنه تبين أن المشركين كانوا يعبدون الصالحين دون الأحجار لا كما هو زعم القبورية الآن .

ومن أعظم الحجج الباهرة القاهرة على أن مشركي العرب كانوا قبورية يعبدون القبور وأهلها - نهي النبي صلى الله عليه وسلم في بداية الإسلام عن زيارة القبور ؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم :

« نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها » .

وقال صلى الله عليه وسلم :

« نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها ولا تقولوا هجرا » .

قلت : ولقد علل كثير من علماء الحنفية نهي النبي صلى الله عليه وسلم هذا عن زيارة القبور في بداية الإسلام ؛ أنه صلى الله عليه وسلم كان يخاف عليهم ، لكون القبور مبدأ لعبادة الأصنام في العرب وقبلهم ، فنهاهم أولًا لكونهم حديثي عهد بالشرك سدا لذريعة الشرك وحماية لحمى التوحيد ؛ لأن زيارة القبور كانت تفتح عليهم باب عبادة القبور وأهلها ؛ ثم لما تمكن التوحيد في قلوبهم واطمأنت نفوسهم على تحريم عبادة غير الله - أذن لهم في زيارة القبور للتزهيد في الدنيا وتذكير الآخرة والدعاء للأموات بالمغفرة .

أقول : انتبه أخي المسلم إلى أن النبي أذن لهم فيما بعد في زيارة القبور ، ولكن حذرهم من الشرك وشوائبه بقوله صلى الله عليه وسلم : « ولا تقولوا هجرا » .

وقد صرح علماء الحنفية في شرح كلام النبي صلى الله عليه وسلم هذا : ((هجرا)) :

(هجرًا : أي فحشًا :

وأي فحش أعظم من الشرك عندها قولًا وفعلًا ؟!) .

قلت : بعد هذا لا حاجة إلى البرهنة على أن مشركي العرب كانوا قبورية أقحاح بأكثر من هذه البراهين القاهرة الباهرة ؛

فلقد تبين من هذه النصوص أن المشركين كانوا يعبدون الصالحين المقربين عند الله على زعمهم أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى ، ولم يكونوا يعبدون الأحجار لذاتها ؛ لا كما هو زعم القبورية الكذبة مبررين شركهم بالأكاذيب ؛ ولذلك قال الشيخ ابن آصف الفنجفيري الملقب عند الحنفية بشيخ القرآن بعد سرد أقوال المفسرين :

(فاتفقت كلمتهم على أن المشركين [كانوا] يدعون العباد الصالحين ويتوسلون بهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ... ، ويعطون النذور لهم باعتقاد أنهم يقربونا إلى الله زلفى فكان شركهم العبادة للمقبورين والدعاء من الغائبين والأموات أن أصحاب القبور يسمعون الدعاء والنداء ويعلمون السر وأخفى ويتصرفون في الأمور كيف يشاءون) .

الأمر الثالث : في تحقيق أن اليهود والنصارى - كانوا قبورية أقحاحًا .

أما اليهود والنصارى - فقد سبق في نصوص علماء الحنفية :

أنهم من شر القبورية الذين كانوا يعبدون الصالحين ويتخذون قبورهم مساجد ،

وقد نص على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي قريبًا فكانوا يعبدون القبور وأهلها ، مع ارتكابهم فتنة التماثيل والصور بجانب فتنة الشرك بعبادة القبور وأهلها ، ويوضح هذا أن كثيرًا من علماء الحنفية - قد استدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم :

« لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » .

وفي لفظ « عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي لم يقم منه - وفي لفظ : ((مات فيه)) -:

لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد .

قالت : (ولولا ذلك لأبرزوا قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا) » .

ورواه أبو هريرة رضي الله عنه أيضًا بهذا اللفظ على تحريم اتخاذ القبور مساجد والبناء على القبور ، وأن ذلك من أعظم وسائل الشرك ووسائل عبادة القبور وأهلها قديمًا وحديثًا ؛

وهذا كله حجج ساطعة وأدلة قاطعة على أن اليهود والنصارى من أعظم فرق القبورية في العالم وأشرارها .

الأمر الرابع : في تحقيق أن جميع الأمم من المشركين كانوا قبورية .

الظاهر أن جميع الأمم من المشركين كعاد وثمود ومدين وغيرهم - كانوا قبورية كسلفهم قوم نوح عليه السلام ؛ لما ذكره علماء الحنفية من قول النبي صلى الله عليه وسلم قولًا عاما شاملًا لجميع المشركين قبل العرب : « ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك » ، قاله قبل أن يموت بخمس .

وقد استدل بهذا الحديث جمع من علماء الحنفية ؛ فدل ذلك على أن جميع الأمم المشركة كانوا قبورية .

الأمر الخامس : في تحقيق أن فلاسفة اليونان كانوا قبورية أجلادا .

لقد صرح الرازي (606هـ) بأن فلاسفة اليونان كانوا يستمدون الفيوض من القبور وأهلها إذا اعترتهم مشكلة من المشكلات وكان الفلاسفة من تلاميذ أرسطو إذا دهمتهم نازلة - ذهبوا إلى قبره للحصول على المدد والفيض ، وهكذا يعبدون القبور وأهلها ؛

كعادة قبورية هذه الأمم ، قلت : هذا الرازي من أعظم أئمة القبورية ولا سيما الكوثري والكوثرية .

فإن الكوثري ينهل من قبورياته المستنقعات ، ويعتمد على بحوثه الكلامية غاية الاعتماد ، حتى نقل كلامه عن هذه الصفحة من مطالبه ويقول : إن الأئمة : الرازي والتفتازاني والجرجاني من كبار أئمة أصول الدين الذين يفزع إليهم في المشكلات ومعرفة الإيمان والكفر والتوحيد والشرك ، معظمًا كتاب المطالب العالية .

والفلاسفة اليونانية الوثنية المشركة من أعظم السلف للديوبندية في الاستفاضة من القبور !؟! .

الأمر السادس : في تحقيق أن المتفلسفة في الإسلام أمثال الفارابي (339هـ) الضال الكافر وابن سينا الحنفي القرمطي (428هـ) ونصير الشرك الطوسي الساحر الوثني (672هـ) .

الذين لعبوا بالإسلام ما لعب بولس بالنصرانية - كانوا من أعظم القبورية الوثنية الأجلاد ، ولهم تفلسف في زيارة القبور الشركية والوثنية - في غاية الضلال والإضلال ؛

كما ذكره عنهم كثير من علماء الحنفية ، وسيأتي نص كلامهم بالتفصيل إن شاء الله تعالى .

الأمر السابع : في تحقيق أن الروافض بجميع فرقهم قبورية أجلاد وثنية أقحاح ؛ فهم أول من وضع الأحاديث القبورية والروايات الوثنية - لزيارة المشاهد ، فعطلوا المساجد وعمروا المشاهد التي كانوا يشركون فيها .

ولهذا كانت الرافضة من أبعد الناس عن العلم والدين ؛ إذ عمروا المشاهد وعطلوا المساجد ؛ وألف بعض أعناقهم كتابًا وثنيا سماه ((مناسك حج المشاهدة)) ؛ مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام ؛ ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ؛ ودخول في دين عبادة الأصنام كما صرح بذلك علماء الحنفية .

وقد بني مشهد الحسين بن علي رضي الله عنهما بالقاهرة بأيدي الروافض .

الأمر الثامن : في تحقيق : أن الصوفية قبورية ؛

بل هم أشنع قبورية هذه الأمة على الإطلاق وأبشعها ؛ فهم ملاحدة اتحادية وزنادقة حلولية ، يعبدون القبور وأهلها على طريقة الوثنية .

ولعلماء الحنفية كلام قامع لهم ، قاطع لدابرهم ، قالع لشبهاتهم ؛ قال العلامة محمود شكري الآلوسي (1342هـ) مبينًا كثرة القبورية وانتشارهم في البلاد والعباد ، وأنهم أشنع شركًا من المشركين السابقين :

(وأما من ينتسب إلى طريقة من الطرائق الكثيرة - فعنده : أن الاستمداد من روحانية مشائخهم والاستغاثة بهم من الواجبات الشهيرة ؛ فلا حفظ الله لهم حريمًا * ولا صان لهم أديمًا * نسأله أن يطهر الأرض من أمثالهم * ويريح المسلمين من كفرهم وإضلالهم) .

الأمر التاسع : في تحقيق أن كثيرًا من المتكلمين من الماتريدية والأشعرية وغيرهم - قبورية ؛ لتأثرهم بالفلاسفة والمناطقة والصوفية ، وجعلهم حقيقة توحيد الألوهية عين توحيد الربوبية كما سبق على لسان علماء الحنفية .

الأمر العاشر : أن كثيرًا بل أكثر من ينتمون إلى المذاهب الأربعة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة قبورية ،

ولعلماء الحنفية جهود في كشف الستار عن أسرارهم وكتب ألفوها في قمعهم وقلع شبهاتهم ؛ وهؤلاء القبورية المنتسبة إلى الأئمة الأربعة - فرق وألوان * وصنوف وأفنان * ؛ وهم أكثر من أهل التوحيد - تكتظ بهم البلاد والبلدان * ؛ كما سيأتي تفصيل ذلك على لسان علماء الحنفية الرادين على القبورية ؛ فهم - كما قال الإمام الآلوسي (1270هـ) :

(عبدة القبور الناذرون لها المعتقدون للنفع والضر :

ممن الله تعالى أعلم بحاله فيها ؛ وهم اليوم أكثر من الدود) .

وقال ابن آصف الفنجفيري الملقب عند الحنفية بشيخ القرآن :

(وقد صنف العلماء الربانيون في ردهم تواليفًا ، وشنعوا عليهم تشنيعًا بليغًا ، لكن الزائغين المحرفين في دين الله يبتغون لذلك حيلًا ، وأسسوا قواعد مزخرفًا بالأقوال المموهة الباطلة ؛

والعجب عن بعض من ينتمون أنفسهم بشيوخ الحديث فيدرسون في المشاهد دروسًا ، ويقولون : قال الله تعالى ، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم ، ويكتمون الحق ويغمضون البصر مما يرون عباد القبور عليها عكوفًا ، وينحرون عندها نذورًا ، يمسحون أجداثًا ، وشرعوا دينًا لم يأذن به الله ؛

أعادوا بها معنى سواع ومثله ... يغوث وود بئس ذلك من ود

وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالواحد الصمد

وكم نحروا في سوحها من بحيرة ... أهلت لغير الله جهلًا على عمد

وكم طائف عند القبور مقبلًا ... ويلتمس الأركان منهن بالأيدي

فيجب على علماء الإسلام إزالة مواضع الشرك وهدم الطواغيت) .

قلت : لقد عرفت بالتجربة والاستقراء وبما قرأت وبما سمعت :

أن أكثر القبورية في المنتسبين إلى المذاهب الأربعة - هم الحنفية لكثرتهم ونفوذ سلطانهم ودولهم في شرق الأرض وغربها ، من صينها إلى مغربها ؛ وهندها ، وأفغانها ، وتركها ، وشامها ، ومصرها ، ورومها ، وغيرها من البلاد .

ولكثرة الفرق الضالة المبتدعة في الحنفية أيضًا .

ثم في الشافعية ، ثم في المالكية ، ونزر قليل من الحنابلة ؛ لكون عامة الحنابلة من أهل الحديث والأثر والسنة المحضة ولكونهم أقل عددًا من بقية أهل المذاهب .

وأقول : هذه كانت نبذة من تاريخ القبورية الوثنية ، من لدن قوم نوح عليه السلام ؛ مرورًا بعامة الأمم من المشركين ؛ أمثال عاد ، وثمود ، ومدين ، بل اليهود والنصارى ، فضلًا عن مشركي العرب ، والعجم ، في الجزيرة ، والهند ، وفارس ، والروم ، وغيرها ؛ بل فلاسفة اليونان ، من المناطقة المشائية ، والصوفية الإشراقية ؛ ومن طريق هؤلاء دخل شرك القبور إلى المتفلسفة في الإسلام أمثال الفارابي وابن سينا والطوسي ، فهم قبورية أجلاد ، وإلى الروافض بصفة عامة ، فهم قبورية أقحاح ، كما أن الصوفية قديمًا وحديثًا قبورية وثنية حلولية اتحادية إلا من شاء الله منهم ، ثم من طريق الصوفية والروافض ، وهؤلاء المتفلسفة - تسربت القبورية إلى كثير من المتكلمين ، ومنهم جميعًا إلى كثير من المنتسبين إلى المذاهب الأربعة ؛

حتى طمت القبورية ، وشملت الوثنية البلاد * وعادت الجاهلية الأولى وعمت العباد * ؛ إلا من شاء الله تعالى وما شاء .

حتى أصيب بهذا الداء العضال كثير من أهل الفقه والعلم والفضل والزهد ، وهم لا يدرون ولا يشعرون * إنا لله وإنا إليه راجعون *

فضلًا عن العوام * الذين هم في الجهل كالأنعام * ؛ وسيأتي لذلك مزيد تفصيل وتحقيق على لسان علماء الحنفية في الرد على القبورية ؛ فاستمع لما في المطلب الآتي وما في الفصل بعده من عجائب انتشار القبورية في هذه الأمة وغرائب نفوذهم في البلاد والعباد ، وأن القبورية فرقة مشركة ، وثنية يعبدون القبور وعباد الأوثان وعبدة الأنصاب ، إنا لله وإنا إليه راجعون ؛ لتكون على علم تام أن القبورية في إنكارهم وجود الشرك فيهم - إما منخدعون ، جاهلون ممرضون * وخادعون مغالطون متجاهلون .

فنقول وبربنا الرحمن نستغيث ونستعين *

إذ هو المغيث المستعان المعين * :

*****

المطلب الثالث

في تحقيق علماء الحنفية أن القبورية أهل الشرك وثنية عبدة الأوثان وعباد القبور والأنصاب والأحجار

لقد أقام علماء الحنفية عدة براهين قاطعة وكثيرًا من الحجج الساطعة على كون القبورية أهل شرك وثنية عبدة الأوثان والقبور .

فأريد أن ألخص أهم ما برهنوا به على ذلك في وجوه :

الوجه الأول :

أن علماء الحنفية قد حققوا أن القبورية يرتكبون أنواعًا من الشرك الأكبر بعبادة القبور وأهلها :

من السجدة لها والطواف بها واتخاذها مساجد ، والحج إليها ونحوها ، والصوم لأصحابها والنذور لهم ، والاستغاثة بهم في الملمات واعتقاد علم الغيب فيهم ،

وإثبات التصرف في الكون لهم ، وغيرها من العقائد الشركية الكفرية الوثنية .

فتحقق أن القبورية ؛ عبدة القبور وعباد الأوثان ، ووثنية وأهل الشرك .

الوجه الثاني :

أنه قد حقق علماء الحنفية أن القبورية أشد شركًا من المشركين السابقين ؛ من حيث إنهم كانوا يخلصون الدعاء لله وحده في الملمات والكربات ، بخلاف القبورية ؛ فإنهم يستغيثون بالأموات عند إلمام الملمات ؛ بل القبورية قد وصلوا في الشرك والكفر إلى حد - رجحوا الاستغاثة بالأموات عند الكربات ، على الاستغاثة برب البريات ، وقالوا : جهارًا بدون حياء ولا إسرار :

إن المكروب تضره الاستغاثة بالله عند البليات ، بخلاف استغاثته بالولي فإنه أسرع إجابة من الله !؟!

فتحقق أن القبورية أهل الشرك مناقضون للتوحيد على أقل تقدير بلا ريب .

الوجه الثالث :

أن علماء الحنفية قد حققوا : أن القبورية أعظم عبادة للقبور وأهلها منهم لله في المساجد وأوقات الأسحار ، وأن خوفهم من الأموات أشد من خوفهم من الله تعالى ، وهذا سلطان قاهر وبرهان باهر وحجة قاطعة ساطعة على أن القبورية أهل شرك ، وعباد القبور بلا امتراء .

الوجه الرابع :

أن القبورية لما كانوا يعبدون القبور وأهلها - صح - عند علماء الحنفية - إطلاق عدة أسماء وصفية تشعر بأنهم وثنية ، أهل شرك ، عابدو غير الله جل وعلا ؛ وليس هذا من باب نبذ الألقاب بل من باب بيان الحق والجرح ، فمنها ما يلي :

1 - عباد القبور .

2 - عبدة القبور .

3 - أهل الشرك .

4 - أشباه عباد الأصنام .

5 - هم من جنس عباد الأصنام ، والأوثان .

6 - المقابرية .

7 - القبوريون .

8 - الوثنية .

9 - المشركون .

10 - عبدوا القبور وأصحابها .

11 - عابدو القبور .

12 - أشباه النصارى .

الوجه الخامس :

أن علماء الحنفية قد حققوا :

أن ((القبر)) إذا عبد من دون الله تعالى - يصير ((وثنا)) من الأوثان التي عبدت وتعبد من دون الله :

فالوثن أعم من الصنم ؛ فيشمل القبر وكل ما عبد من دون الله ؛ فإن الصنم ما كان له جسم أو صورة ، وينقش ، والوثن يطلق على ما لم يكن له صورة فالوثن عام ، فقد يطلق الوثن على الصليب أيضًا ، وعلى كل ما يشغل عن الله تعالى .

وبناء على أن القبورية جعلوا القبور أوثانًا يعبدونها من دون الله - صح أنهم وثنية ، كما صح أنهم عباد القبور ، وتحقق أنهم أهل الشرك بلا شك .

الوجه السادس :

أن علماء الحنفية قد ذكروا قول النبي صلى الله عليه وسلم : « اللهم لا تجعل قبري »

« وثنًا يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » .

واستدلوا به على أن القبر إذا سجد إليه وعبد - يصير وثنًا من الأوثان التي تعبد من دون الله .

ولذلك ترى علماء الحنفية يطلقون كلمتي ((الوثن)) و ((الأوثان)) على القبور التي عبدتها وتعبدها القبورية في أكناف العالم .

وهذا كله برهان باهر وسلطان قاهر على أن القبورية وثنية ، مشركة ، عبدة القبور وعباد الأوثان ، والله المستعان ؛ قال الشيخ الرستمي :

(فصح أن القبر الذي ينقل بالنذور إليه ويسجد له ويدعى صاحبه في الحاجات ويعبد ؛ فهو داخل في الوثن والصنم والنصب ، فما قال تعالى في كتابه في شأن الأنصاب يشمل القبر ... وما قال في شأن الأوثان يشمل القبور أيضا) .

تنبيه النبيه : على سؤال وثني خلفي * وجواب حنفي سلفي حنيفي *

لقد رمى النبهاني (1350هـ) الإمام ابن القيم (751) رحمه الله

بالتناقض ؛ فقال :

(إن ابن القيم عبر عن القبر المزور بالوثن .

لكنه تناقض ؛ حيث قال :

ولقد نهانا أن نصير قبره ... عيدًا حذار الشرك بالديان

ودعا بأن لا يجعل القبر الذي ... قد ضمه وثنًا من الأوثان

فأجاب رب العالمين دعاءه ... وأحاطه بثلاثة الجدران

حتى اغتدت أرجاؤه بدعائه ... في عزة وحماية وصيان

انظر إلى تناقضه ! ، فإنه أولًا قرر أن القبر المزور وثن من الأوثان ، وفي هذه الأبيات قرر أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم ليس بوثن ؛ مع أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم أعظم القبور المزارة) .

الجواب : لقد أجاب عن هذه الشبهة العلامة محمود شكري الآلوسي (1342هـ) : بأن المراد من القبور التي جعلت أوثانًا - القبور التي تكون في الصحراء ، أو في مكان يصل إليه الزائرون ، بحيث يسجدون إليه ويتمسحون به ، ويتمكنون من الوصول إليه ليعبدوه ؛ كما يتمكن الوثنيون من الوصول إلى أوثانهم ، بخلاف قبر النبي صلى الله عليه وسلم ؛

فإنه قد دعا ربه تبارك وتعالى أن لا يجعل قبره وثنًا ؛ فاستجاب له ، وأحاط قبره بثلاثة من الجدران ؛ فلا يمكن لأحد من القبورية الوثنية أن يصل إليه ؛ ويؤيده قول عائشة رضي الله عنها في تعليل عدم إبراز قبره صلى الله عليه وسلم :

(ولولا ذلك لأبرزوا قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا) ؛ فالآن بحمد الله تعالى لا يمكن لأحد من القبورية الوثنية أن يصل إليه ليعبده ويسجد إليه ، ويتخذه مسجدًا ووثنًا .

الوجه السابع :

أن علماء الحنفية قد حققوا :

أن الأنصاب جمع نصب بضمتين أو بالفتح والسكون وهو كل ما نصب وعبد من دون الله :

من شجر أو حجر ، أو قبر ونحوه ، فالنصب أعم من هذه كلها ؛ فإنه كل ما ينصب ليعبد ، ((فالقبر)) إذا عبد من دون الله - صح أن يطلق عليه ((النصب)) ؛ فإن من عظيم كيد الشيطان ما نصبه للناس من الأنصاب والأزلام ، وهي رجس من عمل الشيطان ، وأصل اللفظ : ((المنصوب)) ، فالفعل بمعنى المفعول ؛ كالخلق بمعنى المخلوق ؛

فالنصب هو الذي يقصده من رآه ، سواء كان شجرًا ، أو عمودًا ، أو قبرًا ، أو غير ذلك ؛ وأعظم هذه الأنصاب - القبور التي نصبت وجعلت أنصابًا تعبد من دون الله ، وأعظم الفتنة بهذه الأنصاب - هي فتنة هذه القبور التي جعلت أنصابًا وأوثانًا تعبد من دون الله ؛ فإن الشيطان ينصب لهم قبر رجل معظم يعظمه الناس ، ثم يجعله وثنًا يعبد من دون الله .

الحاصل : أنه ثبت من هذا أن القبورية عبدة الأنصاب كما أنهم عبدة الأوثان .

الوجه الثامن : أن علماء الحنفية قد برهنوا على أن القبورية ليسوا عباد القبور وأهلها فقط ؛ بل هم عباد مغارات وعبدة الأشجار والأحجار والآبار أيضًا ؛ 1- فقد ذكر الشيخ مسعود الندوي (1373هـ) أن أكثر المسلمين في العالم الإسلامي قبيل مجدد الدعوة الإمام (1206هـ) كانوا على طريقة الوثنية الأولى :

يعبدون القبور والأشجار والمغارات ، ويرتكبون من السفاهات والحماقات ما يسخر منه الكفار

المستشرقون .

2 - وقد ذكر علماء الحنفية : أن القبورية عباد القبور أشباه عباد الأصنام قد وضعوا لتبرير إشراكهم بالله عدة من الأكاذيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

منها أخلوقتهم الوثنية وأسطورتهم الشركية :

((لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه )) .

3 - وقد صرح العلامة محمود شكري الآلوسي بأن القبورية يطلبون قضاء الحاجات من الأحجار والآبار * والصخور والأشجار * أيضًا .

قلت : هذا برهان باهر وسلطان قاهر على أن القبورية عباد الأحجار أيضًا ؛ كما أنهم عبدة الأوثان والأنصاب والغارات والأشجار فضلًا عن كونهم عباد القبور وأهلها ، فتحقق : أن القبورية وثنية أجلاد أهل شرك أقحاح وعباد غير الله أصلاب .

وأقول : لأجل أن فتنة الشرك بقبر رجل معظم - أشد وأعظم وأسرع سراية إلى القلوب - قال علماء الحنفية : كالبركوي (981هـ) والرومي (1043هـ) والشاه ولي الله الدهلوي (1176هـ) ، واللفظ للأول :

(فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه - أسرع إلى النفوس -

من الشرك بشجر أو حجر ؛ ولذا نجد كثيرًا من الناس عند القبور يتضرعون ويخشون ويخضعون ويعبدون بقلوبهم - عبادة لا يفعلونها في مساجد الله تعالى ولا في وقت السحر ، ومنهم يسجد لها ؛ وكثير منهم يرجون من بركة الصلاة عندها ولديها ما لا يرجون في المساجد) .

قلت : لقد تبين وتحقق من هذا كله :

أن القبورية - عند الحنفية - عباد ((الأنصاب )) أيضًا ، كما أنهم عبدة ((الأوثان)) ، بل هم عباد الأحجار والأشجار والمغارات أيضًا .

الحاصل : أن هذه المباحث والتحقيقات الدقيقة المحققة براهين باهرة وسلاطين قاهرة وأدلة ساطعة وحجج قاطعة على أن القبورية - فرقة مشركة ، وثنية ، يعبدون القبور والأحجار والأشجار والمغارات والأنصاب والأوثان .

وبهذا كله تبين بطلان زعم القبورية : أن المشركين كانوا عباد الأوثان والأنصاب والأحجار ،

بخلاف زوار القبور فإنهم يستغيثون بالأولياء ويتوسلون بالصالحين إلى الله ؛ فهم ليسوا بمشركين ، ولا عباد الأنصاب والأوثان ؛ بل هم مؤمنون موحدون .

قلت : بعد ما عرفنا : أن القبورية فرقة مشركة وثنية ، عباد الأنصاب ، وعبدة الأوثان ؛ بل عباد الأحجار والأشجار والمغارات - ننتقل إلى الفصل الآتي لنعرف جهود علماء الحنفية في بيان انتشار القبورية في شرق الأرض وغربها ، كما نعرف جهودهم في الرد على شبهات القبور في هذا الصدد ؛ * مستغيثين بربنا الرحمن * المستعان على ما يصفون *

* إذ هو المغيث المعين ؛ * فإياه نعبد وإياه نستعين *

*****

المبحث الأول

في تحقيق علماء الحنفية أن الشرك موجود في القبورية ، وأن القبورية عمت البلاد وطمت العباد ، إلا من رحمه الله ، بذكر أمثلة من إشراك القبورية بعبادة القبور وأهلها في شرق الأرض وغربها ، الموجودة في أكثر البلاد ، والتي ارتكبها أكثر العباد

وفيه مطلبان :

- المطلب الأول : في تاريخ القبورية إجمالًا .

- المطلب الثاني : في جهود علماء الحنفية في بيان أن الشرك بعبادة القبور وأهلها قد طم البلاد وعم العباد إلا من شاء الله تعالى من أهل التوحيد .

 

 

الرجوع للصفحة الرئيسية