جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية

 جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية

- الباب الثاني-

 

الباب الثاني

في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية من قولهم باتحاد توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية ، وإبطال جعلهم توحيد الربوبية هو الغاية ، وبيان التعريف الصحيح للعبادة ، وأركانها ، وأنواعها ، وشروط صحتها ، وإبطال عقيدة القبورية في ذلك كله

وفيه أربعة فصول :

- الفصل الأول : في عرض عقيدة القبورية في القول باتحاد توحيد الربوبية والألوهية وجعلهم توحيد الربوبية الغاية .

- الفصل الثاني : في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في القول باتحاد هذين التوحيدين وإبطال جعلهم توحيد الربوبية هو الغاية .

- الفصل الثالث : في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية التي تشبثوا بها للقول باتحاد هذين التوحيدين ، وجعلهم توحيد الربوبية هو الغاية ، وزعمهم أن المشركين كانوا مشركين آلهتهم بالله في الخالقية والمالكية والربوبية والرازقية ونحوها.

- الفصل الرابع : في جهود علماء الحنفية في تعريف العبادة ، وأركانها ، وأنواعها ، وشروط صحتها ، وإبطال عقيدة القبورية في ذلك كله .

 

الفصل الأول

في عرض عقيدة القبورية في قولهم باتحاد توحيد الربوبية والألوهية وجعلهم توحيد الربوبية هو الغاية

لقد أصيبت القبورية بطامة كبرى ، هي أم الطامات - فتولدت منها طامات أخرى ، هي أكبر من أمها ، في الضلال والفساد * والإضلال والإفساد *

وهي : جهلهم بحقيقة توحيد العبادة ، وجعلهم إياه مترادفًا لتوحيد الربوبية ، وعينه ، وأنهما شيء واحد بلا تمييز ولا فرق كما أصيب بهذا الداء العضال خلطاؤهم المتكلمون من الماتريدية والأشعرية ،

وهذه الطامة الكبرى التي هي أم الطامات المتولدة منها - :

أعني جهل القبورية بحقيقة توحيد الألوهية وجعلهم إياه عينًا لتوحيد الربوبية - هو السبب الوحيد لوقوعهم في أنواع من الشرك الأكبر من عبادة القبور وأهلها .

كما أوقع هذا الجهل خلطاءهم من الماتريدية والأشعرية أيضًا - في أنواع من الإشراك بالله من عبادة القبور وأصحابها .

وفيما يلي أذكر أم الطامات وأذكر الطامات المتولدة منها فأقول وبالله التوفيق :

1 - الطامة الأولى أم الطامات : تعتقد القبورية أن الألوهية بعينها هي الربوبية بدون فرق وتمييز بينها فهما متحدان لا مفهومان متغايران .

ويحسن أن أسوق بعض نصوص أئمة القبورية لتوضيح مقالتهم الفاسدة هذه :

1 - قال ابن جرجيس (1299هـ) وتبعه السمنودي (بعد

1326 هـ) ، واللفظ للأول :

(..... الرب والإله معناهما ومفادهما واحد ....) .

2 - 3 - وقال : (إن الإله والرب واحد) و (إن الإله هو الرب) .

4 - 5 - وقال دحلان (1304هـ) وتبعه السمنودي (المتوفى بعد

1326 هـ) ، واللفظ للأول :

(وأما جعلهم التوحيد نوعين : توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية - فباطل أيضًا - ؛ فإن توحيد الربوبية هو توحيد الألوهية ...) .

6 - 7 - وقالا واللفظ أيضًا للأول :

(وقالوا : إن التوحيد نوعان : توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية ، وتوصلوا بذلك إلى تكفير المسلمين ....، هؤلاء الملحدة المكفرة للمسلمين ....) .

8 - 10 - وقالا ، وتبعهما الحداد (1232هـ) ، واللفظ للأول :

(ومن المعلوم : أن من أقر بالربوبية ، فقد أقر بالألوهية ؛ إذ ليس الرب غير الإله ، بل هو الإله بعينه) ، 11 - 13 - وقالوا جميعًا واللفظ أيضًا للأول :

(فهل سمعتم أيها المسلمون في الأحاديث والسير :

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدمت عليه أجلاف العرب ؛ ليسلموا على يده - يفصل لهم توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية ؛ ويخبرهم : أن توحيد الألوهية هو الذي يدخلهم في الإسلام) .

14 - 15 - وقال الدجوي (1365هـ) وتبعه ابن مرزوق ، واللفظ

للأول :

(توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية : ...... ، من ذا الذي فرق بينهما ؟ ... ؛ إن صاحب هذا الرأي هو ابن تيمية الذي شاد بذكره ؛ قال : إن الرسل لم يبعثوا إلا لتوحيد الألوهية ؛ وهو إفراد الله بالعبادة ؛ وأما توحيد الربوبية ؛ وهو اعتقاد أن الله رب العالمين المتصرف في أمورهم ؛ فلم يخالف فيه أحد من المشركين ... ؛ ثم قالوا :

إن الذين يتوسلون بالأنبياء ويتشفعون بهم ؛ وينادونهم عند الشدائد - هم عابدون لهم ، فقد كفروا بما كفر به عباد الأوثان والملائكة والمسيح سواء بسواء ؛ فإنهم لم يكفروا باعتقادهم الربوبية في تلك الأوثان وما معها ؛ بل بترك توحيد الألوهية - بعبادتها ؛ وهذا ينطبق على زوار القبور المتوسلين بالأولياء ؛ المنادين لهم ، المستغيثين بهم ؛

الطالبين منهم ما لا يقدر عليه غير الله ؛ بل قال محمد بن عبد الوهاب :

إن كفرهم أشنع من كفر عباد الأوثان .... ؛ فنقول : قولهم : إن التوحيد ينقسم إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية - تقسيم غير معروف لأحد قبل ابن تيمية ، وغير معقول أيضًا ...، وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد دخل في الإسلام : إن هناك توحيدين ؛ ....، ولا سمع ذلك عن أحد من السلف الذين يتبجحون باتباعهم في كل شيء ؛ ولا معنى لهذا التقسيم ، فإن الإله الحق هو الرب الحق) .

وقال : (وإني أعجب من تفريقهم بين توحيد الألوهية والربوبية ؛ وجعل المشركين موحدين توحيد الربوبية ) .

16 - 17 - وقال القضاعي (1736هـ) وابن مرزوق (؟) واللفظ

للأول :

(إن توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر في الوجود وفي الاعتقاد) ، 18 - 19 - وقالا : ( ((إن لا رب سواه)) هو معنى ((لا إله إلا الله)) في قلوب جميع المسلمين) .

20 - 21 - وقالا : (فالناطق بـ ((لا إله إلا الله)) معترف بالتوحيد لله في ألوهيته وربوبيته جميعًا ، والقائل : ((ربي الله)) معترف بكلا التوحيدين جميعًا ) .

22 - 23 - كما أنهما صرحا بأن توحيد الربوبية كاف للمرء في دخوله في الإسلام ، وكاف له في النجاة .

24 - وقال هذا القضاعي الداعي إلى الشرك طاعنًا في شيخ الإسلام * ببذاءة الكلام :

(لم يقتصر هذا الحراني على رمي زوار سيد المرسلين بالشرك ؛ بل جرت به أوهامه إلى أن يرمي بالشرك جميع المسلمين ..؛

وقسم التوحيد إلى قسمين :

توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية ؛ وقال : إن المقصود ببعثة الأنبياء إنما هو الثاني ...) .

25 - وقال هذا القضاعي الوثني أيضًا هاذيًا في أئمة الإسلام * ولا سيما شيخ الإسلام ، ورميهم بدائه ، محرفًا تلك الآيات الصريحة الناصعة على اعتراف المشركين بتوحيد الربوبية :

(وقول هؤلاء المغرورين إن الكافرين الذين بعث لهم الرسل - كانوا قائلين بتوحيد الربوبية ، وأن آلهتهم لا تستقل بنفع ولا ضر ؛ وإنما كان شركهم بتعظيم غير الله بالسجود والاستغاثة به والنداء له ، والنذر ، والذبح له - إنما هو قول من لم يعرف ((التوحيد)) ولا ((الشرك)) ولا ((المعقول)) ولا ((المنقول)) ....، ولا ألم بتاريخ الأمم قبل البعثة) .

26 - وعنون ابن مرزوق بقوله : (الإله هو الرب والرب هو الإله) .

27 - وله كلام فضح به نفسه ونال به من شيخ الإسلام (728هـ) * ومجدد الدعوة الإمام (1206هـ) حاول فيه اتحاد توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية .

28 - وقال هذا المجهول المخذول :

(توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية - الذي اخترعه ابن تيمية ...؛ وهو الإقرار بأن الله خالق كل شيء ، وزعم : أن هذا اعترف به المشركون ؛ فكفر به جميع المسلمين ،

وقلده فيه محمد بن عبد الوهاب ، كما قلده في غيره) .

29 - وقال محمد نوري رشيد النقشبندي الديرشوي (؟) :

(إن شر بدعة أحدثها السلفية - هي : بدعة : توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية ....، وتوحيد الأسماء والصفات .

وليت شعري من ذلك السلف ؟

بل أي دين سوى دين النصرانية ذلك الدين الذي يبث لله تعالى أقانيم ثلاثة ؛ فاقتدى به هؤلاء السلفية ، واتخذوه الدين الخالص والتوحيد المحض ... ؛ وفسر رئيس نحلتهم وإمام بدعتهم محمد بن عبد الوهاب الأنواع الثلاثة ) .

30 - وقال : (إن توحيدهم أشبه شيء بتثليث النصارى ، إنهم يقولون : توحيد الربوبية ، وتوحيد الألوهية ، وتوحيد الأسماء والصفات - إله واحد .

والنصارى يقولون : الأب ، والابن ، وروح القدس إله واحد) .

31 - وقال هذا النوري الوثني القبوري هاذيًا في شيخ الإسلام (728هـ) :

(توحيد الربوبية وهذا لا ينفي الكفر ولا يكفي ؛ هذا قول ابن تيمية ، وسنكتفي بالرد على قول ابن تيمية باعتباره الرئيس الأول للسلفية ومبدع بدعتهم) .

32- وهكذا طول لسانه في أئمة الإسلام ولا سيما شيخ الإسلام ومجدد الدعوة الإمام (1206هـ) وحاول إثبات اتحاد الربوبية والألوهية .

2 - الطامة الثانية :- بناء على الطامة الأولى - إنكارهم لتقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية :

لقد أنكر القبورية تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية إنكارًا باتا قاطعا) ، وشنوا الغارات على أهل التوحيد في هذا الصدد ، وشنعوا عليهم ورموهم بكلمات نابية وشتائم وسباب لا تصدر إلا عن الرعاع والأوباش ؛ ووقعوا في أعراض أئمة الإسلام * أمثال شيخ الإسلام (728هـ) ومجدد الدعوة الإمام الهمام (1206هـ) .

وقد ذكرنا بعض نماذج من ذلك .

3 - الطامة الثالثة : جعلهم توحيد الربوبية هو الغاية العظمى لما سبق ولما يلي :

4 - والطامة الرابعة : أن القبورية بسبب جهلهم بتوحيد العبادة - وجعلهم توحيد الألوهية عين توحيد الربوبية - قالوا صراحة جهارًا نصا : إن توحيد الربوبية كاف لدخول المرء في الإسلام والنجاة .

وإن من اعترف بتوحيد الربوبية فقد اعترف بتوحيد الألوهية .

5 - والطامة الخامسة : أنهم غيروا مفهوم الشرك وزعموا أنه لا يتحقق الشرك إلا إذا اعتقد في غير الله أنه رب مستقل بالتصرف والتأثير بنفسه .

6 - والطامة السادسة : تحريفهم لمعنى العبادة حسب تبديلهم لمعنى الشرك .

7 - والطامة السابعة : جعلهم المشركين السابقين مشركين في توحيد الخالقية والرازقية والربوبية والتدبير للكون ، وأنهم اعتقدوا في آلهتهم التصرف بالاستقلال وأنها مستقلة بالتأثير .

وأن لها شرفًا ذاتيا واختيارًا وتدبيرًا .

8 - الطامة الثامنة : تحريفهم لتلك الآيات الصريحة الناصة على أن المشركين كانوا يعترفون بتوحيد الربوبية - تحريفًا معنويا قرمطيا - ، ولهم في هذا التحريف القرمطي طرق عجيبة غريبة ، كل هذه التحريفات لمحاولة إثبات أن المشركين لم يكونوا معترفين بربوبية الله تعالى .

وهكذا يفضح الله المحرفين المبطلين .

أقول : إن تحريفات هؤلاء القبورية لهذه الآيات لا شك أنها تحريفات قرمطية ؛ ولكن المدعو بعلوي المالكي ارتكب تحريفًا لا إخاله أوحاه إليه مشائخه ، وخلطاؤه الإنسية ،

ولعله أخذ هذا التلبيس مباشرة من إبليس :

فقد صرح بأن المشركين لم يكونوا جادين في جميع تلك الاعترافات التي حكى الله عنهم في القرآن بربوبيته وخالقيته ومالكيته وتدبيره وجعلهم الآلهة شفعاء عند الله .

9 - الطامة التاسعة : إنكارهم وجود الشرك في المنتسبين إلى الإسلام إنكارًا قاطعًا باتا ؛ وأن الشرك لم يقع في المستغيثين بأهل القبور ، ويبررون كل ما يرتكبه القبورية من الإشراك الصريح من استغاثتهم بالأموات عند الكربات * وعبادتهم للقبور وأهلها بأنواع العبادات * بأن هذا ليس من قبيل الإشراك بالله سبحانه ، *

ولا من باب عبادة غير الله ؛ *

لأن الشرك والعبادة لا يتحققان إلا باعتقاد الربوبية لغيره تعالى والاستقلال بالنفع والضر والإيجاد والخلق ونفوذ المشيئة لا محالة والتأثيرات بالذات دون الحاجة إلى الغير فليس في المسلمين الموحدين المستغيثين بالصالحين شرك ، وهم برآء من الشرك .

10 - الطامة العاشرة : وهي أكبر من أمها ، فكيف بأخواتها فهي أشنع الطامات * وأبشع البليات * :

وهي ارتكاب القبورية أنواعًا من الإشراك برب البريات *

من دعاء الأموات والاستغاثة بهم عند الكربات والملمات *

وعبادتهم للقبور وأهلها أنواعًا من العبادات *

فقد وصلوا في الشرك إلى حد لم يصله أهل الجاهلية في الأيام الخاليات *

كما سيأتي تحقيقه بنصوص علماء الحنفية وأقوالهم القاطعات *

فقد حقق علماء الحنفية أن القبورية أعظم شركًا من أهل الوثنيات * وأنهم أعظم عبادة وخشوعًا وهيبة للأموات عند الكربات * منهم لخالق الكائنات في المساجد وفي الأسحار وغيرها من الأوقات * - 11 - الطامة الحادية عشرة : تسمية القبورية أنفسهم موحدين مع إشراكهم .

من تلك الطامات التي تشعبت من الطامة الأولى الأم ، والطامات التي بعدها :

من جهلهم بتوحيد الألوهية وجعله عين توحيد الربوبية ، ثم تحريفهم مفهوم الشرك وتبديلهم معنى العبادة ، ثم وقوعهم في الشرك الأكبر الذي يفوق إشراك الوثنية الأولى -

طامة أخرى :

وهي أن القبورية مع ارتكابهم الشرك الأكبر - يسمون أنفسهم موحدين مؤمنين .

12 - الطامة الثانية عشرة : أنهم يسمون - بعكس ذلك - أئمة التوحيد والسنة دعاة العقيدة السلفية - خوارج كلاب النار ؛ ويتهمونهم بأنهم مكفرون جميع الأمة الإسلامية برمتها ، وأنهم يكفرون المؤمنين الموحدين المستغيثين بالصالحين .

بل تصل القبورية إلى أبعد الحدود في الكذب والبهتان والبغي والظلم والافتراء والعدوان على أئمة التوحيد والسنة والإيمان ؛ فيتهمونهم بأنهم كفروا الصحابة والتابعين وأتباعهم من الفقهاء والمحدثين ؛ على طريقة أسلافهم الخوارج كلاب النار .

13 - الطامة الثالثة عشرة : تبرير إشراكهم بأنهم لا يعبدون الأصنام والأحجار والأشجار التي لا منزلة لها عند الله تعالى بخلاف المشركين ؛ ويقولون - في أئمة التوحيد والسنة الرادين عليهم -:

إنهم يعمدون إلى تلك الآيات التي نزلت في المشركين ؛ فيحرفونها ، ويحملونها على المؤمنين الموحدين المتوسلين المستغيثين بالأنبياء والأولياء ؛

كما يحرفون الآيات التي نزلت في الأصنام ؛ فيحملونها على الأنبياء والأولياء ؛ فقاس هؤلاء الخوارج المكفرون للمؤمنين الموحدين المستغيثين بالصالحين - الاستغاثة بالأنبياء والأولياء عند الكربات *

والنذر لهم والذبح لهم وطلب الدعاء منهم عند الملمات *

على عبادة الأصنام والأحجار والأشجار التي لا مكانة لها عند الله ؛ فظنوا أن كليهما إشراك بالله وعبادة لغير الله سبحانه .

مع أن هذا القياس قياس فاسد ؛ لأنه لا يصح قياس مؤمن موحد يستغيث بالأنبياء والأولياء ويناديهم وينذر لهم - على مشرك يعبد الأصنام والأحجار والتماثيل والأشجار التي لا تضر ولا تنفع ولا تعقل ولا تسمع ولا مكانة لها عند الله ؛ كما لا يصح قياس الاستغاثة بالأنبياء والأولياء ودعائهم والنذر لهم - على عبادة الأصنام والأحجار * والأوثان والأشجار * ؛ فأين هذا من ذاك ؟ .

قلت : هذه ثلاث عشرة طامة - هي خلاصة عقيدة القبورية في جعل توحيد الألوهية عين توحيد الربوبية بدون تفريق وتغائر ، وجعلهم توحيد الربوبية هو الغاية ، وبعد عرض عقيدة القبورية في قولهم باتحاد توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية ننتقل إلى الفصل الآتي ؛ لنعرف بعض جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية - في القول بعينية هذين التوحيدين ، وجعلهم توحيد الربوبية هو الغاية ؛ فأقول مستعينًا بالله العظيم :

****

الفصل الثاني

في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة

القبورية باتحاد وتوحيد الألوهية وتوحيد الربوبية

لعلماء الحنفية جهود في الرد على عقيدة القبورية ، وإبطال جعلهم توحيد الألوهية عين توحيد الربوبية ، وجعل توحيد الربوبية هو الغاية ؛ ويحسن أن أعرض بعض جهود علماء الحنفية في الجواب عن جعل القبورية توحيد الربوبية هو الغاية ، وإبطال عقيدتهم في جعلهم توحيد الألوهية عين توحيد الربوبية في وجوه ؛ ليكون كل وجه جوابًا عن قولهم وإبطالًا لعقيدتهم ؛ فأقول وبالله التوفيق .

الوجوه : الأول إلى الثالث عشر:

لقد سبق أن ذكرت جهود علماء الحنفية في بيان أهمية توحيد الألوهية وعرضت كلامهم في ثلاثة عشر وجهًا ؛ كلها تدل على الفروق بين توحيد الربوبية وبين توحيد الألوهية وهذه الوجوه كل واحد منها برهان قاطع وسلطان باهر على أن توحيد الألوهية غير توحيد الربوبية وكل هذه الوجوه حجج ساطعة على أن المقصود الأعظم والغاية العظمى والهدف الأسمى والمطلب الأسنى الأعلى من خلق الجن والإنس ، ومن إنزال الكتب وإرسال الرسل - هو توحيد العبادة المتضمن لتوحيد الربوبية .

فلا حاجة إلى إعادة تلك الوجوه هنا .

الوجه الرابع عشر :

أن الرب والإله مفهومان متغايران لغة ؛ وليسا مترادفين حتى يكونا بمعنى واحد ويتحدا مفهومًا :

وفيما يلي كلام علماء اللغة من الحنفية :

أ- أما لفظ : ((الرب)) :

فهو ينبئ عن القيام بالشيء وإصلاحه ، وحفظه ، وتنميته ، وكون الشيء مالكًا لآخر ومتصرفًا له وسيدًا له وسائسًا له ، ومصلحًا ، حافظًا وقائمًا بأموره .

ب- وأما لفظ : ((الإله)) :

فهو فعال بمعنى مفعول ؛ أي ((مألوه)) بمعنى : ((معبود)) ؛ كإمام : بمعنى : مؤتم به :

من أله يأله إلهة وتألهًا :

أي : عبد يعبد عبادة وتعبدًا .

ومنه قول رؤبة بن العجاج (145هـ) :

لله در الغانيات المده ... سبحن واسترجعن من تألهي

أي : من تعبدي .

و ((المده)) جمع ((ماده)) كركع جمع راكع ، من ((المده)) وهو المدح .

ومنه قراءة ابن عباس رضي الله عنهما : ((ويذرك وإلهتك)) [الأعراف : 127] : أي : عبادتك .

قلت : لقد تبين من نصوص هؤلاء الحنفية من أهل اللغة :

أن ((الرب)) و ((الإله)) مفهومان متغايران لغة .

إذن لا يصح أن يكون ((الرب)) و ((الإله)) من المترادفات .

وأما تغايرهما اصطلاحا فبيانه في الوجه الآتي .

الوجه الخامس عشر :

أن : ((الإله)) و ((الرب)) مفهومان متغايران اصطلاحا كما أنهما متغايران لغة :

لقد تبين في الوجه السابق أن ((الرب)) و ((الإله)) مفهومان متغايران لغة ؛ وأريد أن أذكر كلام الحنفية لتحقيق أنهما متغايران اصطلاحا أيضًا ليتبين أن جعل القبورية توحيد الألوهية عين توحيد الربوبية باطل لغة واصطلاحًا :

أ- فأما ((الإله)) اصطلاحا فهو لا يختلف معناه عما كان معناه لغة ؛

فالإله اصطلاحا - كما صرح به الحنفية - :

((كل معبود سواء كان حقا أم باطلا)) ، بخلاف ((الله)) ؛ فإنه لا يطلق إلا على ((الإله الحق)) ، وهو الله سبحانه وتعالى .

وقد اعترف بهذه الحقيقة بعض أئمة القبورية أيضًا :

ب- وأما ((الرب)) معرفًا باللام مطلقًا عن الإضافة ؛ فلا يطلق إلا على الله سبحانه وتعالى ، وهو الاصطلاح المعروف المشهور ؛ بخلاف ((الإله)) .

فإنه يطلق على ((المعبود)) بالحق وعلى ((المعبود)) بالباطل ، وأما إذا أضيف ((الرب)) وصار مقيدًا فيطلق على غير الله نحو ((رب الدار)) ، نعم أطلق ((الرب)) بدون الإضافة على غير الله تعالى في الشعر لا في النثر ، ولكنه نادر شاذ فلا اعتبار له ؛ لأنه لم يصدر إلا مرة واحدة من شاعر واحد .

الوجه السادس عشر :

أنه قد تبين من الوجهين السابقين اللذين ذكرت فيهما كلام علماء الحنفية من أهل اللغة في بيان معنى ((الرب)) و ((الإله)) لغة واصطلاحًا ؛ ومن النصوص التي ذكرت عن علماء الحنفية في فصل أهمية توحيد الألوهية :

أن كلمة الإسلام هي : ((لا إله إلا الله)) ؛ وأنه لا يمكن لأحد أن

يدخل في دين الإسلام إلا بكلمة :

((لا إله إلا الله)) .

وأما غيرها من الكلمات مثل :

1 - ((لا رب إلا الله)) .

2 - ((لا خالق إلا الله)) .

3 - ((لا رازق إلا الله)) .

4 - ((لا موجود إلا الله)) .

5 - ((لا مقصود إلا الله)) .

6 - ((الله موجود)) .

7 - ((الله إله)) .

ونحو ذلك من الكلمات .

فلا يدخل بها المرء في الإسلام البتة ؛ لأن هذه الكلمات لا تفرق بين الإسلام والكفر ؛ وليست هي مفترق الطرق بين المسلمين والكافرين ؛ لأن جميع الكفار يعترفون بهذه الكلمات .

بل بعضها من كلمات الملاحدة الصوفية الاتحادية الوجودية والحلولية .

قلت : هذا كله حجة قاطعة على أن توحيد الألوهية غير توحيد الربوبية ، إذن لا يصح جعل توحيد الألوهية عين توحيد الربوبية .

يوضحه الوجه الآتي .

الوجه السابع عشر :

أنه كما تبين من الوجوه السابقة ولا سيما كلام الحنفية في الوجهين :

الرابع عشر والخامس عشر :

أن ((الإله)) غير ((الرب)) لغة واصطلاحًا ، وأنهما مفهومان متغايران ، وليسا اسمين مترادفين ؛ كذلك تبين أنه لا يصح أن يكون معنى كلمة التوحيد : ((لا إله إلا الله)): ((لا رب إلا الله)) ؛ فلو كان معنى ((توحيد الربوبية)) بعينه معنى ((توحيد الألوهية)) لصح أن يكون معنى ((لا إله إلا الله)) هو : ((لا رب إلا الله)) ؛ لكن التالي باطل فالمقدم مثله ، وإذا لم يجز أن يكون معنى ((لا إله إلا الله)) هو ((لا رب إلا الله)) لزم أن لا يصح كون ((توحيد الألوهية)) عينًا لتوحيد الربوبية ؛ لكن المقدم حق فالتالي مثله .

بل قد صرح علماء الحنفية أن المعنى الصحيح لكلمة ((لا إله إلا الله )) هو : ((لا معبود بحق إلا الله)) ، ولا يصح معنى آخر لهذه الكلمة العظيمة .

كما لا يصح أن يقال في معناها :

((لا إله موجود إلا الله)) ، أو ((لا إله في الوجود إلا الله)) ؛ لأنه يكذبه الواقع ؛ لأن الله تعالى قد أخبر عن وجود آلهة كثيرة متعددة غير الله تعالى ولا يمكن التخلص عن هذا الإشكال إلا إذا قلنا : إن معناها : ((لا إله بحق

إلا الله)) ؛ لأن تلك الآلهة كلها باطلة وإنما الإله الحق هو الله وحده )) .

الحاصل : أنه قد تبين من كلام الحنفية في الوجهين البالغين ، وغيرها من الوجوه السابقة أن الفرق بين ((الرب)) وبين ((الإله)) واقع واضحًا لغة واصطلاحًا ، فهما مفهومان متغايران لا أنهما اسمان مترادفان بمعنى واحد ؛ وهذه كلها حجج باهرة وبراهين قاهرة على أن جعل القبورية توحيد الألوهية عينًا لتوحيد الربوبية باطل أيما بطلان .

الوجه الثامن عشر :

أن علماء الحنفية الرادين عقائد القبورية قد صرحوا وحققوا بنصوص الكتاب والسنة واستنادًا إلى تاريخ الوثنية وسبر عقائد المشركين :

أن المشركين كافة بألوانهم وأصنافهم ، ولا سيما مشركي العرب لم ينكروا توحيد الربوبية والخالقية والرازقية لله سبحانه ؛ بل كانوا يعترفون ويقرون :

بأن الله تعالى هو وحده : الرب الخالق الرازق المالك المدبر للأمور المتصرف في العالم نافذ المشيئة في الكون ، وهو يحيي ويميت ويجيب المضطر ، وحده لا شريك له ، فلا راد لقضائه ولا دافع لأمره .

وقد ذكر كثير من علماء الحنفية كثيرًا من الآيات القرآنية التي تنص على اعتراف المشركين وإقرارهم :

بأن الله تعالى هو وحده الخالق الرازق المالك المحيي المميت المدبر للأمور المتصرف في الكون ، ونحوها من المعارف التي تتعلق

بتوحيد الربوبية .

قال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) موردًا عدة للبرهنة على اعتراف المشركين ؛ محققًا الفرق بين التوحيدين ، قاطعًا دابر القبورية الجهلاء في ذلك :

(ومن بلغت به الجهالة والعماية * إلى هذه الغاية * فقد استحكم على قلبه الضلال والعناد * ولم يعرف ما دعت إليه الرسل سائر الأمم والعباد * ، ومن له أدنى نهمة في العلم والتفات إلى ما جاءت به الرسل يعرف : أن المشركين من كل أمة في كل قرن ما قصدوا من معبوداتهم التي عبدوها مع الله تعالى إلا التسبب والتوسل والتشفع ؛ ليس إلا ؛ ولم يدعوا الاستقلال والتصرف لأحد من دون الله ) .

ثم ذكر عدة آيات على ذلك ثم قال :

(ولم يريدوا منهم تدبيرًا ولا تأثيرًا ولا شركة ولا استقلالًا ؛ يوضحه قوله تعالى :

{ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } [ يونس : 31 - 32] ؛ وقوله : { قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } [المؤمنون : 84-89 ] وقوله : { أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ النمل : 61-63] ، فتأمل هذه الآيات * وما فيها من الحجج والبينات * تطلعك على جهل هذا العراقي وأمثاله ، وأنهم ما عرفوا شرك المشركين * وما كانوا عليه من القصد والدين * ؛ ولم يعرفوا ما كان عليه أنبياء الله وأتباعهم من توحيد رب العالمين *) .

وقال رحمه الله تعالى أيضًا مبينًا جهل القبورية بحقيقة التوحيد والشرك ، محققًا الفرق بين التوحيدين : (إنه [ ابن جرجيس ] لم يفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية ؛ فلذا خبط خبط عشواء ؛ وإذا بسطنا ذلك يتبين فساد قوله وبطلانه حتى لصغار المتعلمين ؛ - فنقول - وبالله التوفيق *

وبيده أزمة التحقيق * : توحيد الربوبية : هو الذي أقرت به الكفار جميعهم ؛ ولم يخالف أحد منهم في هذا الأصل إلا الثنوية وبعض المجوس ؛ وأما غيرهما من سائر فرق الكفر والشرك - فقد اتفقوا على أن خالق العالم ، ورازقهم ، ومدبر أمرهم ، ونافعهم ، وضارهم ، ومجيرهم واحد ، لا رب ، ولا خالق ، ولا رازق ولا مدبر ، ولا نافع ولا ضار ، ولا مجيد غيره كما قال سبحانه وتعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [لقمان : 25 ] ......، ولا يستقيم التوحيد للربوبية فضلًا عن توحيد الألوهية إلا بتوحيد الصفات المترتب على الذات ؛ لأن صفاته تعالى لا تشبه صفات المخلوقين ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرًا ، وأهل الكلام يسمون هذا النوع من التوحيد توحيد الأفعال ؛ لما ذكره بعض المحققين : أن صفة الربوبية تستلزم جميع صفات الفعل ؛ وصفة الألوهية تستلزم جميع أوصاف الكمال والجلال ؛ إلى آخر ما قال .

وأما توحيد الألوهية فهو إفراد العبادة لله الواحد الصمد ؛ لأن ((الإله)) من يقصد للعبادة ويعامل بما يجب على المكلفين ...؛ وإذا علمت هذا تبين لك : أن المعركة بين أهل التوحيد والمشركين في الألوهية فقط ...؛ فقد تبين لك أن أكثر المشركين كانوا مقرين بتوحيد الربوبية ؛ وإنما أشركوا في الألوهية ؛ وعلى ذلك كتب العقائد السلفية والحديث والتفسير ؛ والحكم باتحاد التوحيد نشأ من جهل هذا العراقي لكتاب الله وسنة رسوله [صلى الله عليه وسلم ] ؛ وتقليده الأعمى للذين زعموا أنفسهم علماء ومؤلفين من المقلدين أمثاله الذين كل مؤلفاتهم أو أكثر ما فيها ضلال وبعد عن الهدى ؛ أو نشأ من حبه لضلاله واتباعه لهواه....) .

الوجه التاسع عشر :

أن علماء الحنفية قد صرحوا استنادًا إلى نصوص الكتاب والسنة وحقيقة الشرك والتوحيد ومعرفة تاريخ الوثنية : أن المشركين لم يعتقدوا في آلهتهم التي كانوا يعبدونها : أنها خالقة ، رازقة مالكة لهم ، مدبرة لأمورهم ، متصرفة في شئونهم ولم يعتقدوا فيها القدرة الذاتية والاستقلال بالنفع والضر ، بدون إذن من الله وبدون عطاء من الله سبحانه ؛ فلم يجعلوا آلهتهم شريكة مع الله سبحانه في الخلق والرزق والتدبير والتصرف في الكون والربوبية للعالم ، والإحياء والإماتة ونحوها من المعارف .

قال الإمام ابن أبي العز (792هـ) والعلامة نعمان الآلوسي (317هـ) واللفظ للأول بعد ذكرهما عدة نصوص قرآنية على اعتراف المشركين :

(ولم يكونوا يعتقدون في الأصنام أنها مشاركة لله في خلق العالم ؛ بل كان حالهم فيها كحال أمثالهم من مشركي الأمم من الهند والترك والبربر وغيرهم ؛ تارة يعتقدون : أن هذه تماثيل قوم صالحين من الأنبياء والصالحين ويتخذونهم شفعاء ، ويتوسلون بهم إلى الله ؛ وهذا كان أصل شرك العرب ...) .

الوجه العشرون :

أن المشركين لم يعبدوا آلهتهم - لأجل اعتقادهم فيهم :

أنهم قادرون على النفع والضر والتدبير بذاتهم استقلالًا دون الحاجة إلى الله تعالى ودون إذن الله سبحانه ، ودون عطاء الله تعالى لهم .

الوجه الحادي والعشرون :

أن المشركين لم يعبدوا الأحجار والأشجار لذاتها ولا اعتقدوا فيها الألوهية فضلًا عن الربوبية ؛ فإن هذا لم يصدر عن عاقل قط ؛ إذ لا يتصور أن ينحت الشخص حجرًا ونحوه ويجعله صنمًا ثم يعتقد فيه أنه إلهه فضلًا عن أن يعتقد فيه أنه خالقه ورازقه وربه .

الوجه الثاني والعشرون :

أن المشركين إنما أشركوا بالله تعالى شرك الشفاعة والتوسل إلى الله تعالى بعباده الصالحين ؛ فظنوا أنهم لا يمكن لهم الوصول إلى الله تعالى مباشرة إلا بواسطة الصالحين الذين لهم مكانة عند الله ، وأن الله تعالى لا يرد شفاعتهم لمنزلتهم عنده ؛ وكانوا يقيسون الله تعالى بملوك الدنيا ؛ فزعموا أنه كما لم يكن يمكن الوصول لعامة الناس إلى الملوك إلا بواسطة الأمراء والوزراء ؛ فكذلك عامة العباد لا يمكن لهم الوصول إلى الله تعالى مباشرة إلا بواسطة عباد الله المقربين عنده ، وعلى هذا الأساس صوروا لهم الصور ونحتوا لهم التماثيل تذكارًا لهم وجعلوها قبلة للتوجه إلى هؤلاء الصالحين المقربين ، فكانوا على هذا الأساس يدعونهم ويستغيثون بهم في المهمات وينذرون لهم ويعبدونهم بأنواع العبادات ؛ وهذه العقيدة الفاسدة في التوسل والواسطة والاستشفاع بعينها هي عقيدة القبورية اليوم

حذو القذة بالقذة .

وقد ذكرت كثيرًا من نصوص علماء الحنفية بنصها وفصها متفرقة في عدة مواضع من هذه الرسالة ؛ فلا حاجة لسردها هاهنا .

وسأذكر كثيرًا منها في هذه الرسالة لمس الحاجة إلى ذكرها عند المناسبة كما سأذكر نصوص علماء الحنفية على أن القبورية في توسلهم الشركي وواسطتهم الشركية على طريقة أسلافهم المشركين السابقين حذو

النعل بالنعل .

وأقول : الحاصل : أن المشركين لما كانوا معترفين بتوحيد الربوبية وإنما كان خلافهم في توحيد الألوهية ؛ ثبت أن توحيد الربوبية غير توحيد الألوهية .

إذا بطل قول القبورية ؛ في جعلهم توحيد الألوهية عينًا لتوحيد الربوبية وثبت أيضًا أن الرسل ما أرسلت والكتب ما أنزلت وأن الجن والإنس ما خلقوا إلا لتحقيق توحيد الألوهية ، فتبين أن الغاية إنما هي توحيد الألوهية لا توحيد الربوبية ، ولله الحمد .

الوجه الثالث والعشرون :

أن المشركين - كما صرح الحنفية - كانوا يدعون الله تعالى عند الشدائد ولا يدعون آلهتهم الباطلة عند إلمام الملمات والكربات .

وقد استدل كثير من الحنفية بكثير من تلك الآيات التي تدل على أن المشركين كانوا يستغيثون بالله وحده عند الكربات .

وقد ذكر الحنفية بهذه المناسبة عدة قصص للمشركين .

الأولى : قصة إسلام عكرمة :

فقد فر عند فتح مكة وركب البحر وأخذتهم الريح فجعل أهل

السفينة يدعون الله تعالى ويوحدونه وقالوا : إن هذا مكان لا ينفع فيه إلا الله تعالى فقال عكرمة : فهذا إله محمد صلى الله عليه وسلم الذي يدعونا إليه فارجعوا بنا ؛ فرجع فأسلم .

القصة الثانية : قصة التجاء قريش وعلى رأسهم عبد المطلب حينما غزا أبرهة الأشرم مكة لهدم الكعبة :

فلقريش عامة ولعبد المطلب خاصة عجائب في التضرع والاستغاثة بالله تعالى وقد ذكر الحنفية شطرًا من تضرع قريش والتجائهم إلى الله وحده .

ولهم في ذلك أشعار يستغيثون فيها بالله تعالى ؛ منها أبيات لعبد المطلب :

لاهم إن المرء يم ... نع رحله فامنع رحالك

وانصر على آل الصلي ... ب وعابديه اليوم آلك

عمدوا حماك بكيدهم ... جهلًا وما رقبوا جلالك

يا رب لا أرجو لهم سواكا ... يا رب فامنع عنهم حماك

إن عدو البيت من عاداك ... امنعهم أن يخربوا فناك

القصة الثالثة :

أن أهل مكة لما أرادوا الخروج إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة وقالوا :

((اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى القبيلتين وأكرم الحزبين بأفضل الدين)) .

الحاصل :

أن هذه النصوص التي ذكرها علماء الحنفية عن المشركين تدل دلالة قاطعة أنهم لم يكونوا مشركين في ربوبية الله تعالى وخالقيته ومالكيته وتدبيره للكون ؛ وإنما كان إشراكهم في توحيد الألوهية ؛ فتبين الفرق بين التوحيدين وبطل جعل أحدهما عين الآخر كما هو زعم القبورية الباطل .

الوجه الرابع والعشرون :

أن الحنفية ذكروا أن المشركين كانوا على بقية من بقايا الملة الإبراهيمية وكانوا يسمون أنفسهم الحنفاء ؛ وكانوا يعبدون الله تعالى ببعض العبادات .

كالصلاة والحج والصوم ويعظمون الله تعالى بأفعال تعظيمية ولا سيما السجود وأقوال من الذكر والدعاء ؛ والطهارة والغسل من الجنابة ، وكان فيهم الزكاة ، وقرى الضيف والاهتمام بابن السبيل وحمل الكل والصدقة على المساكين وصلة الأرحام والإعانة على نوائب الحق والذبح في الحلق واللبة وكانوا يحرمون المحارم كالأم والبنت والأخت وكان فيهم القصاص

والدية والقسامة ، وعقوبات الزنا والسرقة ونحوها من بقايا الملة الإبراهيمية ؛ بل كانوا يسلمون جواز بعثة الأنبياء ويقولون بالمجازاة ويعتقدون أصول أنواع البر وكثيرًا في الشعائر كالختان ونحوه .

الحاصل :

أن كل هذا يدل دلالة لا تحتمل النقيض :

أن المشركين كانوا يعبدون الله تعالى أيضًا بكثير من العبادات الظاهرة والباطنة ؛ وأنهم لم يكونوا مشركين بالله آلهتهم في الخالقية والرازقية والمالكية والربوبية ؛ وهذا كله برهان أيما برهان على الفرق بين توحيد الألوهية وبين توحيد الربوبية ؛ وحجة قاهرة على بطلان جعل هذين التوحيدين شيئًا واحدًا .

الوجه الخامس والعشرون :

أن علماء الحنفية قد ذكروا :

أن المشركين كانوا إذا حجوا يلبون لله عز وجل بهذه التلبية :

((لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك)) ، وكانوا إذا « قالوا : ((لبيك لا شريك لك)) ؛ قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ويلكم قد قد ؛ »

« فيقولون : ((إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك » *)) وقد ذكر بعض الحنفية تلبيتهم هذه في صورة الرجز :

* لبيك لا شريك لك * إلا شريكًا هو لك * تملكه وما ملك .

قال علماء الحنفية في شرح قول المشركين : ((تملكه وما ملك)) .

إن كلمة : ((ما)) تحتمل وجهين :

الأول : أن تكون نافية ؛ فالمعنى : أنهم يعترفون بأن الله تعالى هو المالك وأن آلهتهم لا تملك شيئًا .

والثاني : أن تكون موصولة عطف على الضمير المنصوب المتصل ؛ فيكون المعنى : أن الله تعالى هو مالك آلهتهم ومالك ما تملك آلهتهم أيضًا .

وقال العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) في شرح هذه التلبية ردًّا على مزاعم القبورية ولا سيما ابن جرجيس العراقي :

(وهذا الأحمق زاد في غير موضع في كتابه قيدًا ؛ فقال : ((لا يشرك إلا من قصد واعتقد الاستقلال من دون الله)) .

مع أن في تلبية المشركين في الجاهلية :

((لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك)) ؛ فهؤلاء لم يدعوا الاستقلال ، وعلى زعم هذا [ العراقي ] فليسوا بمشركين) .

ولذلك قال الإمام ابن أبي العز في بيان عقائد المشركين وحقيقة شركهم :

(ولم يكونوا يعتقدون في أصنامهم أنها مشاركة لله في خلق العالم ، بل كان حالهم فيها كحال أمثالهم في مشركي الأمم من الهند والترك والبربر وغيرهم ؛ تارة يعتقدون أن هذه تماثيل قوم صالحين من الأنبياء والصالحين ويتخذونهم شفعاء ويتوسلون بهم إلى الله ؛ وهذا كان أصل شرك العرب ...) .

قلت : الحاصل : أن القبورية في دعواهم : أن المشركين إنما كان إشراكهم لأجل اعتقادهم في آلهتهم الاستقلال بالنفع والضرر غير صادقين كما أنهم في قولهم باتحاد توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية على باطل محض .

الوجه السادس والعشرون :

أن توحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية ، ولا عكس ؛ كما سبق تقريره في كلام الحنفية .

ولا شك أن المتضمن بصيغة اسم الفاعل غير المتضمن بصيغة اسم المفعول لأن الأول كل ، والثاني جزء له .

ولا شك أن الكل غير الجزء ، والجزء غير الكل ؛ ومن لم يفرق بين

الكل والجزء وقال باتحادهما فقد هذى هذيان المحمومين * وانحط من عقلاء المجانين * وقد تبين من هذا أن توحيد الألوهية إذا وجد وجد توحيد الربوبية ؛ لأن وجود الكل يستلزم وجود الجزء ولا عكس ؛ فإن توحيد الربوبية قد وجد عند المشركين ومع ذلك هم مشركون في توحيد العبادة كما سبق تقريره غير مرة .

الوجه السابع والعشرون :

أن توحيد الربوبية دليل على توحيد الألوهية ، وتوحيد الألوهية مدلول لتوحيد الربوبية ؛ كما صرح بذلك علماء الحنفية ؛ وهذا حجة وبرهان ودليل وسلطان على أن توحيد الألوهية غير توحيد الربوبية ؛ أنه لا شك أن الدليل غير المدلول والمدلول غير الدليل ؛ ومن زعم أن الدليل والمدلول شيء واحد فقد حكم على نفسه بالجنون * ولكن الجنون أنواع وفنون * .

فقد صرح علماء الحنفية أن الله تعالى احتج على المشركين لأجل اعترافهم بربوبيته وخالقيته ومالكيته في مواضع لا تحصى من كتابه ليوحدوه في ألوهيته ؛ لأنهم يسلمون في الأول دون الثاني ؛ فاحتج الله تعالى بالأول على الثاني ليسكتهم ويفحمهم ويلجئهم إلى الاعتراف بالثاني ، وهذه طريقة محكمة غاية الإحكام في باب المناظرة .

وإليك نصين مهمين للعلامة الآلوسي (1342) في ذلك .

1 - قال رحمه الله في تحقيق أن الله تعالى احتج على المشركين باعترافهم بتوحيد الربوبية ؛ ليعترفوا بتوحيد العبادة ؛ وذلك بعد ذكره لعدة آيات فيها استدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية :

(تأمل كيف استدل سبحانه وتعالى على توحيد إلهيته ووجوب عبادته وحده لا شريك له بما أقر به الخصم واعترف به من توحيد ربوبيته واستقلاله بالملك والخلق والتأثير والتدبير ؛ وهذه عادة القرآن دائمًا : يعرج على هذه الحجة ؛ لأنها من أكبر الحجج ، وأوضحها ، وأدلها على المقصود ؛ فسبحان من جعل كلامه في أعلى طبقات البلاغة ، والفصاحة ، والجلالة ، والفخامة ، والدلالة والظهور ؛ فأي شبهة بعد هذا تبقى للمماحل المغرور) .

2 - وقال رحمه الله تعالى : محققًا أن توحيد الربوبية دليل على توحيد الألوهية وأن الله تعالى قد احتج على المشركين بهذه الحجة القاهرة الباهرة :

(إنه [ ابن جرجيس ] لم يفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية فلذا خبط خبط عشواء ...؛ توحيد الربوبية هو الذي أقرت به الكفار جميعهم ...؛ فقد اتفقوا على أن خالق العالم ورازقهم ومدبر أمرهم ونافعهم وضارهم ومجيرهم واحد ؛ لا رب ولا خالق ولا رازق ولا مدبر ولا نافع ولا ضار ولا مجير غيره ..؛ وأما توحيد الألوهية فهو إفراد العبادة لله الواحد الصمد ....؛ إذا علمت هذا تبين لك أن المعركة بين أهل التوحيد والمشركين في الألوهية فقط ...؛ وجميع الرسل من أولهم إلى آخرهم

دعوا إلى توحيد الله وعبادته ، وقد رد الله سبحانه على من خالف هذا الأصل ، وحكم على الوصل بحكم الفصل ، وهم المشركون الذين وحدوه بالربوبية ، وأشركوا به في الألوهية توحيدهم ؛ فأقامه حجة بالغة وسلطانًا مبينًا قامعًا للشرك في الألوهية ، موجبًا لإفراده فيها أيضًا ، وأنه ينبغي أن لا يعبد غيره ، كما أنه لا خالق غيره ولا رب سواه ؛ فقد تبين لك أن أكثر المشركين كانوا مقرين بتوحيد الربوبية ، وإنما أشركوا في الألوهية ، وعلى ذلك كتب العقائد السلفية والحديث والتفسير .

والحكم باتحاد التوحيدين نشأ من جهل هذا العراقي لكتاب الله وسنة رسوله [صلى الله عليه وسلم ] .

الوجه الثامن والعشرون :

أن الفرق بين توحيد الألوهية وبين توحيد الربوبية ، جوهري ؛ لأن توحيد الربوبية توحيد بأفعال الله تعالى ، مثل الخلق والرزق والإحياء والإماتة وتدبير الكون والتصرف في الخلق وإنزال المطر وإنبات النبات ، وغيرها من أفعال الله تعالى الخاصة به سبحانه وتعالى .

أما توحيد الألوهية فهو توحيد بأفعال العبد ؛ مثل الدعاء والخوف والرجاء والتوكل والإنابة والصوم والصلاة والحج والزكاة وغيرها من أنواع العبادات الظاهرة والباطنة وهذا التوحيد هو الذي وقع فيه النزاع في قديم العصر وحديثه ، وأنكر المشركون قديمًا وحديثًا ، وهذا التوحيد هو معنى :

((لا إله إلا الله)) .

الوجه التاسع والعشرون :

أن الفرق بين توحيد الربوبية وبين توحيد الألوهية ؛ وتقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام :

توحيد الربوبية ، توحيد الألوهية ، توحيد الأسماء والصفات - موجودان - قبل شيخ الإسلام - عند أئمة الحنفية الكبار الأعلام ؛ فكيف يصح زعم القبورية أن هذا التقسيم من بدع ابن تيمية ، ومخترعاته ؟

وإليك بعض نصوص هؤلاء الأئمة للحنفية في صحة هذا التقسيم وفي صحة الفرق بين هذين التوحيدين ؛ إتمامًا للحجة وإيضاحًا للمحجة :

1 - 4 - قال الإمام الطحاوي (321هـ) في بيان عقيدة الأئمة الثلاثة للحنفية على الإطلاق :

أبي حنيفة (150هـ) وأبي يوسف (182هـ) ومحمد (189هـ) رحمهم الله تعالى :

(نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله : إن الله واحد لا شريك له ، ولا شيء مثله ، ولا شيء يعجزه ، ولا إله غيره) .

قلت : تدبر رحمك الله كلام هؤلاء الأئمة ؛ فإن قولهم : ((إن الله واحد لا شريك له)) توحيد إجمالي ونفي الشرك ، وقولهم : ((ولا شيء مثله)) هو توحيد الأسماء والصفات ، وقولهم : ((ولا شيء يعجزه)) هو توحيد

الربوبية ، وقولهم : ((ولا إله غيره)) هو توحيد الألوهية .

أو يقال : إن الجملة الأولى : توحيد الربوبية ؛ والجملتين بعدها : توحيد الأسماء والصفات ، والجملة الأخيرة : توحيد العبادة .

قال الإمام ابن أبي العز (792هـ) رحمه الله في شرح الجملة الأخيرة محققًا أن هذه توحيد العبادة :

(قوله : ((ولا إله غيره)) هذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلهم كما تقدم ذكره ...) .

5 - وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله (150هـ) أيضًا :

(من قال : ((لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض)) فقد كفر ؛ وكذا من قال : ((إنه على العرش ولا أدري العرش أفي السماء أو في الأرض ؟)) والله يدعى من أعلى لا من أسفل ؛ لأن الأسفل ليس من وصف الربوبية والألوهية في شيء) .

ثم ذكر رحمه الله حديث الجارية في البرهنة على صفة العلو

والاستواء .

قلت : والشاهد أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله تعالى قد صرح بالتوحيدين في هذا النص : توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية ؛ حيث عطف الثاني على الأول ، وهذا دليل قاطع على تغايرهما وأنهما ليسا شيئًا واحدًا .

6 - وقال أبو منصور الماتريدي (333هـ) في تفسير قوله تعالى : { مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [الأعراف : 59 ] :

(أي ما لكم من إله تثبت ألوهيته وربوبيته بالدلائل والحجج ، والبراهين غيره تعالى) .

7 - ونقله الناصري (652هـ) وأقره .

قلت : الشاهد أن الماتريدي ثم الناصري - وهما من كبار الحنفية قد صرحا بذكر الألوهية والربوبية ، وقد عطفا الثانية على الأولى ؛ فدل ذلك على أن الربوبية غير الألوهية ؛ فثبت : أن توحيد الألوهية غير توحيد الربوبية ، وأنهما ليسا شيئًا واحدًا ، وهؤلاء الأئمة للحنفية كلهم كانوا قبل شيخ الإسلام بقرون متطاولة ؛ فهل يصح هذيان القبورية أن الفرق بين هذين التوحيدين من بدع ابن تيمية ومخترعاته ؟

بل نص الإمام ابن بطة على هذا التقسيم وهو توفي قبل شيخ الإسلام بقرون (387هـ) .

الوجه الثلاثون :

أن الشيخ أبا غدة الكوثري الذي له ولاء وثقة بأئمة القبورية وهو من كبار علماء الحنفية قد صرح بأن تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية ، وأن الفرق بينهما ، وتحقيق أن المشركين كانوا يؤمنون بالأول دون الثاني كل ذلك ثابت بالكتاب والسنة ؛ وهذا نص كلامه بحرفه ونصه * ولفظه وفصه * :

(وأما تقسيم التوحيد إلى ما ذكره هؤلاء الأئمة :

شيخ الإسلام ابن تيمية ، وتلميذه ابن القيم ، والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى إلى توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية فهذا تقسيم اصطلاحي استقاه العلماء مما جاء في الكتاب والسنة في مواضع لا تحصى :

مما رد الله تعالى به على المشركين الذين كانوا يؤمنون بتوحيد الربوبية ، دون توحيد الألوهية ؛ وفي سورة الفاتحة التي يقرأها المسلم في صلاته مرات كل يوم دليل على ذلك ؛ { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ) .

قلت : بعد أن شهد شاهد من أهلها - وقد كذبهم شاهدهم في طاماتهم - هل يمكن للقبورية أن يقولوا : إن تقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية والفرق بينهما لا يدل عليهما الكتاب والسنة ؟

ستعلم ليلى أي دين تدينت ... وأي غريم في التقاضي غريمها

وبعد أن ثبت صحة هذا التقسيم والفرق بين التوحيدين وأن الغاية هي توحيد العبادة ننتقل إلى الفصل الآتي للرد على شبهات القبورية بحول الله .

*****

الفصل الثالث

في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية التي تشبثوا بها للقول باتحاد توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية ، وجعلهم توحيد الربوبية هو الغاية ، وزعمهم أن المشركين كانوا مشركين آلهتهم بالله في الخالقية والمالكية والربوبية والرازقية ونحوها .

وفيه مبحثان :

- المبحث الأول : في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية التي تشبثوا بها للقول باتحاد توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية ، وجعلهم توحيد الربوبية هو الغاية .

- المبحث الثاني : في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية التي تشبثوا بها لإثبات زعمهم : أن المشركين كانوا مشركين آلهتهم بالله في الخالقية والمالكية والربوبية والرازقية ونحوها.

كلمة بين يدي هذا الفصل

للقبورية شبهات تشبثوا بها لإثبات زعمهم : أن توحيد الألوهية بعينه هو توحيد الربوبية ؛ وزعمهم : أن المشركين كانوا مشركين آلهتهم بالله في الخلق والرزق والملك والربوبية والتصرف في العالم استقلالًا ، وزعمهم : أن الشرك لا يتحقق إلا إذا اعتقد الإنسان في غير الله : أنه خالق رازق رب مستقل بالنفع والضر بدون الحاجة إلى الله تعالى ، وزعمهم : أن العبادة لغير الله لا تتحقق إلا إذا عبد غير الله بذلك الاعتقاد .

وأنا بحول الله وقوته وحسن توفيقه سأذكر جل هذه الشبهات وأهمها ؛ ثم أذكر جهود علماء الحنفية في قلعها وقمعها ؛ لإقامة الحجة وإيضاح المحجة ؛ فأقول والله المستعان على ما يصفون :

إن الكلام هاهنا في مبحثين :

****

المبحث الأول

في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية التي تشبثوا بها للقول باتحاد توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية ، وجعلهم توحيد الربوبية هو الغاية

للقبورية شبهات تشبثوا بها للاستدلال على أن توحيد الربوبية هو عين توحيد الألوهية لغة واصطلاحا ، وأنهما شيء واحد ، لا شيئان متغايران ، وأن الإيمان بأحدهما إيمان بالآخر ، والاعتراف بأحدهما اعتراف بالآخر ، وأن توحيد الربوبية كاف للمرء في الدخول في الإسلام ، إلى غير ذلك من الطامات .

وفيما يلي عرض أهم تلك الشبهات مع بيان جهود علماء الحنفية لإبطالها وقمعها وقلعها ، فأقول وبالله التوفيق .

الشبهة الأولى : شبهة ((برهان التمانع)) :

وإنما سمي به : لأنه مبني على فرض التمانع ؛ لأنه يتبين فيه تمانع كل واحد من الصانعين الآخر عن الصنع ، أي أن هذا يمنع ذاك وذاك يمنع هذا عن تنفيذ إرادته .

وتقرير برهان التمانع الدال على وحدانية الصانع الخالق هو : (أنه لو

أمكن إلهان لأمكن بينهما تمانع ، بأن يريد أحدهما حركة زيد والآخر سكونه ...؛ وحينئذ إما أن يحصل الأمران ؛ فيجتمع الضدان ؛ أو لا ؛ فيلزم عجز أحدهما ) .

أي : يبطل أحد الإلهين ويبقى الآخر حقا ، فثبت توحيد الصانع .

وهذا البرهان أشهر براهين المتكلمين في إثبات وحدانية الصانع ؛ ومع ذلك قد طعن فيه بعض المتكلمين والمتفلسفين : كأبي هاشم عبد السلام بن محمد الحنفي إمام الهاشمية من المعتزلة (321هـ) ، وأبي نصر الفارابي الضال الكافر (339هـ) ، والتفتازاني الحنفي فيلسوف الماتريدية (792هـ) ، وغيرهم .

ولكن لقوة هذا الدليل عند المتكلمين وشهرته عندهم قد كفر بعضهم التفتازاني وأبا هاشم لطعنهما فيه .

والحق أن هذا الدليل حجة عقلية قاطعة صحيحة لا مطعن فيها ؛

كما صرح بذلك شيخ الإسلام .

ولكن القبورية كدأب إخوانهم المعطلة المتكلمين من الماتريدية والأشعرية ؛ جعلوا برهان التمانع دليلًا على اتحاد الرب والإله ؛ فكلهم قد حملوا قوله تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22] ؛ على برهان التمانع بين الصانعين .

أما المتكلمون : من الماتريدية والأشعرية فأمرهم أوضح في استخدام برهان التمانع وجعله دليلًا على وحدانية الصانع ؛ وزعمهم أن هذه الآية الكريمة تفيد وحدانية الصانع على طريقة برهان التمانع ، وجعلهم ((الإله)) في هذه الآية بمعنى الخالق الصانع .

وأما القبورية : فيقول ابن جرجيس (1299هـ) ، والقضاعي (1376هـ) ، واللفظ للأول :

(ويدل أيضًا على أن ((الإله)) هو ((الرب)) الآيات الدالة على التمانع ، وهو نفي الشريك ؛ فإن الله تعالى علم المؤمنين ورد على الكافرين المشركين ؛ كقوله تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } ؛ أي لو كان في السماوات والأرض أرباب غير الله لفسدتا ؛ لأن كل رب يريد ما لا يريد

الآخر ؛ فيلزم فساد هذا النظام الموجود ؛ فلما لم تفسد ؛ دل أن الرب لهذا الوجود واحد في ربوبيته ) .

قلت : هذا النص مشتمل على أمور :

الأول : أن المراد من ((الإله)) هو الرب الخالق الصانع ، وأن ((الإله)) هو بعينه الرب والخالق والصانع .

والثاني : أن هذه الآية فيها حجة تسمى ببرهان التمانع .

والثالث : أن المراد من الفساد في هذه الآية هو الفساد بمعنى التدمير والهدم الظاهري .

الجواب :

لقد صرح علماء الحنفية الرادين على أهل الكلام وعلى القبورية بأن هذه المقدمات كلها فاسدة ؛ فإن ((الإله)) في هذه الآية ليس المراد منه هو الرب الخالق الصانع ؛ لأن هذه الآية سيقت للرد على المشركين الذين لم يعتقدوا صانعين أو أكثر للعالم ؛ بل اتخذوا آلهة يعبدونها من دون الله ؛ ولم يعتقدوا فيها أنها خالقة أرباب صانعة ؛ بل اعتقدوا فيها أنها عباد مقربون عند الله ويشفعون لهم عند الله . إذن حمل الآية على برهان التمانع صار باطلًا أيضًا ، كما أن المراد من ((الفساد)) التخريب والهدم الظاهر أيضًا باطل هاهنا ؛ لأنه لو كان الأمر على برهان التمانع لقال الله تعالى : ((لم تخلقا)) ، ولم يقل : ((لفسدتا)) ؛ لأن برهان التمانع يقتضي أن لا توجد السماوات والأرض إن فرض وجود صانعين فأكثر ؛ لا أن تفسدا بعد خلقهما .

بل المراد من ((الفساد)) في الآية : الفساد بمعنى الظلم والعدوان ؛ لأن التوحيد أعدل العدل ، والشرك أظلم الظلم .

قال الإمام ابن أبي العز الحنفي أحد أئمة الحنفية رحمه الله (792هـ) ، وتبعه العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) ، واللفظ للأول ؛ مبطلًا جميع هذه المقدمات ، ومزيفًا استدلالهم بهذه الآية على جعل توحيد الألوهية عينًا لتوحيد الربوبية ؛ وجعل هذه الآية مشتملة على برهان التمانع :

(وكثير من أهل النظر يزعمون : أن دليل التمانع هو معنى قوله تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22] ؛ لاعتقادهم : أن توحيد الربوبية الذي قرروه هو توحيد الإلهية الذي بينه القرآن ؛ ودعت إليه الرسل عليهم السلام ؛ وليس الأمر كذلك ؛ بل التوحيد الذي دعت إليه الرسل ، ونزلت به الكتب هو توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية ؛ وهو عبادة الله وحده لا شريك له ؛ فإن المشركين من العرب كانوا يقرون بتوحيد الربوبية ، وأن خالق السماوات والأرض واحد ؛ كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [لقمان : 25 ] ، { قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } [ المؤمنون : 84-85] ؛ ومثل هذا كثير في القرآن ؛ ولم يكونوا يعتقدون في الأصنام : أنها مشاركة لله في خلق العالم ؛ بل كان حالهم فيها كحال أمثالهم من مشركي الأمم من الهند والترك والبربر ، وغيرهم ؛ تارة يعتقدون أن هذه تماثيل قوم صالحين من الأنبياء والصالحين ، ويتخذونهم شفعاء ، ويتوسلون بهم إلى الله ؛ وهذا أصل شرك العرب ....) .

وقال رحمه الله تعالى أيضًا بعد ذكر قوله تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22] :

(وقد ظن طوائف : أن هذا دليل التمانع الذي تقدم ذكره : وهو أنه لو كان للعالم صانعان إلخ ، وغفلوا عن مضمون الآية ؛ فإنه سبحانه أخبر : أنه لو كان فيهما آلهة غيره ؛ ولم يقل : ((أرباب)) ؛ وأيضًا ؛ فإن هذا إنما هو بعد وجودهما ، وأنه لو كان فيهما وهما موجودتان آلهة سواه لفسدتا ؛ وأيضًا ؛ فإنه قال : ((لفسدتا)) ، وهذا فساد بعد الوجود ؛ ولم يقل لم يوجدا ؛ ودلت الآية على أنه لا يجوز أن يكون فيهما آلهة متعددة ؛ بل لا يكون الإله إلا واحدًا ؛ وعلى أنه لا يجوز أن يكون هذا الإله الواحد إلا الله سبحانه وتعالى ؛ وأن فساد السماوات والأرض يلزم من كون الآلهة فيهما متعددة ؛ ومن كون الإله الواحد غير الله ، وأنه لا صلاح لهما إلا بأن يكون الإله فيهما هو الله وحده لا غيره ؛ فلو كان للعالم إلهان معبودان لفسد نظامه كله ؛ فإن قيامه إنما هو بالعدل ؛ وبه قامت السماوات والأرض ؛ وأظلم الظلم على الإطلاق الشرك ؛ وأعدل العدل التوحيد ؛ وتوحيد الإلهية متضمن لتوحيد الربوبية ؛ دون العكس ....) .

قلت : الحاصل : أن استدلال القبورية وكذا إخوانهم المعطلة المتكلمة بهذه الآية على جعل توحيد العبادة عينًا لتوحيد الربوبية باطل أي بطلان ، ولله الحمد .

الشبهة الثانية : تشبثهم بقوله تعالى : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى }

[الأعراف : 172] .

قالوا : ((لم يقل ألست بإلهكم فاكتفى منهم بتوحيد الربوبية . ومن المعلوم أن من أقر لله بالربوبية فقد أقر له بالألوهية إذ ليس الرب غير الإله ، بل هو بعينه)) .

الشبهة الثالثة : تشبثهم بقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } ... [ فصلت : 30 ، الأحقاف : 13] .

قالوا : لم يقل ((إلهنا)) ؛ فهذا يدل على أن توحيد الربوبية كاف في النجاة والفوز لاستلزامه توحيد الألوهية ، فهذا دليل على أن القول بأحد التوحيدين قول بالآخر .

الشبهة الرابعة : استدلالهم بحديث سؤال الملكين في القبر : « من ربك » .

قالوا : لم يقولا له : ((من إلهك)) ، فدل على أن توحيد الربوبية هو توحيد الألوهية .

وقال الدجوي : (وأما السنة فسؤال الملكين للميت عن ربه لا عن إلهه لأنهم [لا] يفرقون بين الرب والإله ؛ فإنهم ليسوا تيميين ولا

متخبطين ، وكان الواجب على مذهب هؤلاء أن يقولوا للميت ((من إلهك)) لا « من ربك » ، أو يسألوه عن هذا وذلك)) .

وقال القضاعي أحد أئمة القبورية : (ولا يقولان له : إنما اعترفت بتوحيد الربوبية ، وليس توحيد الربوبية كافيًا في الإيمان) .

الشبهة الخامسة : استدلالهم بحديث : « قل ربي الله ثم استقم » .

استدل به عدة من القبورية .

وتقرير استدلالهم مر في الشبهة الثالثة .

الجواب عن هذه الشبه الأربع :

لقد تصدى العلامة السهسواني (1326هـ) لجواب هذه الشبه بذكر تمهيد طويل وجواب مختصر فقال :

(أقول : لا مرية أننا مأمورون باعتقاد أن الله وحده ربنا ليس لنا رب غيره ، وباعتقاد أن الله وحده هو معبودنا ، ليس لنا معبود غيره ، ولا نعبد إلا إياه .

والأمر الأول : هو الذي يقال : ((توحيد الربوبية )) .

والأمر الثاني : هو الذي يقال : ((توحيد الألوهية)) .

والإشراك في الأول : يسمى ((الإشراك في الربوبية )) .

والإشراك في الثاني : يسمى ((الإشراك في الألوهية)) .

والآيات الدالة على الأمر الأول كثيرة) .

ثم ذكر كثيرًا منها ، ثم قال :

(وأما الآيات الدالة على الأمر الثاني ((يعني توحيد الألوهية )) فأكثر من أن تحصى) .

ثم ذكر كثيرًا منها ، ثم قال :

(ولا أظنك شاكا في أن مفهوم ((الرب)) ومفهوم ((الإله)) متغايران ، وإن كان مصداقهما في نفس الأمر وفي اعتقاد المسلمين المخلصين واحد .

وذلك يقتضي تغاير مفهومي التوحيدين ، فيمكن أن يعتقد أحد من الضالين ((توحيد الرب)) ولا يعتقد ((توحيد الإله)) ، وأن يشرك واحد من المبطلين في ((الألوهية)) ، ولا يشرك في ((الربوبية)) وإن كان هذا باطل في نفس الأمر . ألا ترى أن مصداق ((الرازق)) ومالك السمع والأبصار ، والمحيي ، والمميت ، ومدبر الأمر ، ورب السماوات السبع ورب العرش العظيم ، ومن بيده ملكوت كل شيء ، والخالق ، ومسخر الشمس والقمر ، منزل الماء من السماء ، ومصداق ((الإله)) واحد . ومع ذلك كان مشركو العرب يقرون بتوحيد الرازق ومالك السمع والأبصار وغيرهما ، ويشركون في ((الألوهية)) و ((العبادة)) ) .

ثم ذكر عدة آيات دالة على هذا المطلب ، ثم قال :

(فكذلك عباد القبور الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا اسمه ، يقرون بتوحيد الرازق والمحيي والمميت والخالق والمؤثر والمدبر والرب . ومع ذلك يدعون غير الله من الأموات خوفًا وطمعًا ، ويذبحون لهم ويطوفون بهم ويحلقون لهم ويخرجون من أموالهم جزءًا لهم . وكون مصداق ((الرب)) عين مصداق ((الإله)) في نفس الأمر وعند المسلمين المخلصين لا يقتضي اتحاد مفهوم توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية ، واتحاد مصداق الرب والإله عند

المشركين من الأمم الماضية وهذه الأمة) .

ثم قال :

(الاحتمال الثالث : أن المراد بـ ((الرب)) ((المعبود)) ..... قال القرطبي : ((والرب المعبود)) ....) .

ثم ذكر عدة من النصوص أفادت أن المراد بالرب في هذه الآيات هو المعبود .

وقال في الجواب عن شبهات أخرى :

( ((الوجه الثاني)) أنه يحتمل أن يكون المراد بالرب في الآيات المذكورة ((المعبود)) ، وقد عرفت بما تقدم أن ((الرب)) ربما يجيء بمعنى ((المعبود)) ) .

قلت :

حاصل الجواب : أنه لا شك في تغاير مفهومي ((الرب)) و ((الإله)) ولا ريب أيضًا أن ((توحيد الربوبية )) غير توحيد الألوهية ، وأن الشرك في الأول غيره في الثاني . كما لا يرتاب ذو عقل سليم خبير بأحوال المشركين أنهم كانوا معترفين بالأول دون الثاني ، ولكن لا يمنع ذلك أن تأتي كلمة ((الرب)) في بعض النصوص ويراد بها ((الإله)) ، فكلمة ((الرب)) في هذه النصوص التي تشبثت بها القبورية هي بمعنى ((الإله)) . فالمعنى : ((ألست بمعبودكم)) ، و ((إن الذين قالوا معبودنا)) ، و ((من معبودك)) ؛ لأن كثيرًا من الكلمات مع اختلاف معانيها قد تأتي إحداهما بمعنى ((الأخرى)) في بعض

السياق، ومع ذلك لا يدل على أنهما شيء واحد ؛ لأن الاتحاد في الصدق لا يستلزم الاتحاد في المفهوم فضلًا عن التساوي ، كما صرح به العلامة محمود شكري الآلوسي .

وقد أوضح هذا المطلوب المجدد الإمام محمد بن عبد الوهاب (1206هـ) ، وأرى أن أذكر كلامه توضيحًا لكلام العلامتين السهسواني والآلوسي ؛ قال رحمه الله :

(اعلم أن ((الربوبية)) و ((الألوهية)) يجتمعان ويفترقان . كما في قوله تعالى : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ } [الناس : 1-3 ] ، وكما يقال ((رب العالمين)) ، و ((إله المرسلين)) . وعند الإفراد يجتمعان ، كما في قول القائل : ((من ربك)) . مثاله : الفقير والمسكين نوعان في قوله تعالى : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } [ التوبة : 60] . ونوع واحد في قوله صلى الله عليه وسلم : « افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم » . إذا ثبت هذا ؛ فقول الملكين للرجل في القبر : من ربك ، معناه : من إلهك ؛ لأن توحيد الربوبية التي أقر بها المشركون ما يمتحن أحد بها ، وكذلك قوله : { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ } [ الحج : 40] ، وقوله : { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا } [الأنعام : 164 ] ، وقوله : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } [ فصلت : 30] . فالربوبية في هذا هي ((الألوهية)) ليست قسيمة لها كما

تكون قسيمة لها عند الافتراق ، فينبغي التفطن لهذه المسألة) .

قلت :

نظير هذه المسألة : مسألة اتحاد الإيمان والإسلام وافتراقهما ؛ فهما إذا اجتمعا افترقا ، وإذا افترقا اجتمعا ، أي إذا ذكر الإيمان والإسلام في سياق واحد يكون المراد من الإيمان عقد القلب ، ويكون المراد من الإسلام الإقرار باللسان ، والعمل بالأركان ، كما في قوله تعالى : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } [ الأحزاب : 35] ، وقوله تعالى : { مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ } [ التحريم : 5] ، وكما في حديث جبريل الذي فيه بيان أركان الإسلام الخمسة ، وأركان الإيمان الستة .

وإذا ذكر الإيمان دون الإسلام ، يكون الإيمان شاملًا للإسلام ، كما في قوله تعالى : { لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 28] ، وقوله تعالى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } ... [التوبة : 71 ] .

وإذا ذكر الإسلام دون الإيمان يكون الإسلام شاملًا للإيمان ، كما في قوله تعالى : { وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [آل عمران : 102 ] ، وقوله تعالى : { وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [الأنعام : 163 ] .

ولقد حقق هذه القاعدة ؛ قاعدة الافتراق والاجتماع وبسط القول فيها ، وذكر لها نظائر كثيرة الإمام ابن أبي العز الحنفي ، وقبله شيخ

الإسلام ؛ فراجعها .

الحاصل : أن مفهوم ((الربوبية)) غير مفهوم ((الألوهية)) بلا ريب ؛ فهما مفهومان متغايران ، أمران مستقلان اثنان ، لكن قد يذكر أحدهما ويراد به الآخر في بعض السياق أحيانًا ، فهذا لا يدل على اتحادهما .

فكلمة ((الرب)) الواردة في النصوص التي تشبث بها هؤلاء القبورية لإثبات الاتحاد بين ((الربوبية)) و ((الألوهية)) معناها ((المعبود)) فلا يصح استدلالهم بها على اتحاد مفهومها .

ولذا نرى العلامة محمود شكري الآلوسي (ت 1342هـ) بعد بحث طويل في معنى الربوبية والألوهية ، وأن الأول اعترف به المشركون ، وأن المعركة كانت في الألوهية فقط ، وأن الأول دليل على الثاني - ، أجاب عن شبهة إمام القبورية ابن جرجيس ((من أن الرب والإله متحدان في المفهوم )) قائلًا :

(ثم إن العراقي - عامله الله بعدله - كأنه لم يشم رائحة العلم ولا قرأ مقدماته حتى حكم باتحاد الرب والإله في المفهوم توهمًا منه : أن الاتحاد في [الصدق] يستلزم الاتحاد في المفهوم ، وأن الترادف [يعني إطلاق ((الرب)) على ((الإله)) في بعض المواضع] يستلزم التساوي . وهذا جهل بالنسب بين الألفاظ . وما كفاه هذا الخبط العظيم حتى أخذ يتكلم على أهل الحق بكلام لا يصدق إلا عليه ولا يثبت صفته المذمومة لغيره . فتبًا

لشيبته الضالة ، وسحقًا له من رجل لم تحنكه التجارب) .

الشبهة السادسة : استدلالهم بقوله تعالى : { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا } [آل عمران : 80 ] .

قال الدجوي أحد أئمة القبورية مستدلًا بهذه الآية الكريمة على اتحاد الرب والإله :

(فصرح بتعدد الأرباب عندهم ، وعلى الرغم من تصريح القرآن بأنهم جعلوا الملائكة أربابًا يقول ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب : إنهم موحدون توحيد الربوبية ، وليس عندهم إلا رب واحد ، وإنما أشركوا في توحيد الألوهية) .

الجواب :

لقد ذكر هذه الشبهة العلامة السهسواني مع شبهات أخرى ، ثم قال :

(قلت جوابه لوجوه :

الأول : أنه ليس في شيء من الآيات المذكورة أن مشركًا قال في حق غير الله إنه رب [أي إنه خالق ومدبر الكون ونحوه] ....، وإنما في بعضها اتخاذ الأرباب ، وهذا ليس نصا على أنهم مقرون بربوبيتهم [وخالقيتهم ونحوها] ؛ بل يحتمل أن يكون اتخاذهم الأرباب بمعنى صرف شيء من العبادة إليهم أو بمعنى اتباع ما شرعوا لهم من تحريم الحلال وتحليل الحرام .. ) .

قلت : حاصل هذا الجواب : أنه ليس المراد من لفظة ((الرب)) في مثل هذا السياق ((الخالق الرازق مدبر الكون)) حتى يلزم ما زعمته القبورية ، بل المراد من ((الرب)) في مثل هذا السياق هو ((المعبود)) .

وقد يرد في بعض السياق ((الرب)) ويراد منه ((المعبود)) ، كما تقدم ذلك على لسان علماء الحنفية .

فلفظة ((الرب )) في هذه الآية بمعنى ((المعبود)) .

وأقول : يدل عليه أيضًا ما ذكره المفسرون من علماء الحنفية سببين لنزول هذه الآية :

الأول : أن بعض اليهود والنصارى قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « معاذ الله أن نعبد غيره ، أو أن نأمر بعبادة غيره ، ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني » ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .

والثاني : أن رجلًا قال : « يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض ؟ أفلا نسجد لك ؟ قال : لا ، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله ، فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله تعالى » ، فنزلت .

فالحاصل :

أنه ليس في الآية إشارة ولا صراحة أن المشركين كانوا يشركون بالله في الخالقية والرازقية وتدبير الكون ، فانهار استدلال القبورية .

المبحث الثاني

في جهود علماء الحنفية في إبطال شبهات القبورية التي تشبثوا بها لتحقيق زعمهم : أن المشركين كانوا مشركين آلهتهم بالله في الخالقية والمالكية والربوبية والرازقية ونحوها

للقبورية شبهات كثيرة استندوا إليها لتحقيق أن المشركين السابقين ولا سيما مشركي العرب في الجاهلية إنما كانوا مشركين آلهتهم بالله تعالى في الخالقية والمالكية والربوبية والرازقية .

بل سووا آلهتهم بالله سبحانه وعدلوهم به تعالى ، بل كانوا يرجحون آلهتهم على الله تعالى ، بل كانوا يسبون الله تعالى إعظامًا لآلهتهم .

وفيما يلي بعض أهم شبهاتهم أعرضها للقراء الكرام ، مع بعض جهود علماء الحنفية في إبطالها وقمعها ، إتمامًا للحجة وإيضاحًا للمحجة ، فأقول مستعينًا بالله تعالى :

الشبهة الأولى : تشبث القبورية بقوله تعالى : { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ } [ الجاثية : 24] .

قالت القبورية مستدلين بهذه الآية : إن المشركين كانوا دهرية منكرين للخالق .

قلت :

لقد أجاب علماء الحنفية عن هذا الاستدلال بجوابين :

الأول : أن هذه الآية ليس فيها إنكار مشركي العرب للخالق ، بل الآية سيقت لبيان اعتقادهم وغلوهم في إنكار البعث ، وإنكار قبض ملك الموت أرواحهم بإذن الله ، فأنكروا البعث وقالوا : إن الدهر يهلكنا لا ملك الموت .

فالحصر هاهنا في الآية حصر بالنسبة لملك الموت ، لا أنهم ينكرون وجود الله تعالى .

ومع ذلك كان فيهم من يثبت نوعًا من التصرف للدهر .

قال الزمخشري (538هـ) والنسفي (710هـ) والعمادي (983هـ) والآلوسي (1270هـ) واللفظ له :

(وإسنادهم الإهلاك إلى الدهر إنكار منهم لملك الموت وقبضه الأرواح بأمر الله عز وجل ، وكانوا يسندون الحوادث مطلقًا إليه لجهلهم أنها مقدرة من عند الله ، وأشعارهم لذلك مملوءة من شكوى الدهر ، وهؤلاء معترفون بوجود الله فهم غير الدهرية ؛ فإنهم - أي الدهرية - مع إسنادهم الحوادث إلى الدهر لا يقولون بوجود الله سبحانه وتعالى عما يقولون علوًا كبيرًا ، والكل يقول باستقلال الدهر بالتأثير) .

الجواب الثاني : أن هذا اعتقاد بعض الجاهلية الذين كانوا زنادقة .

قلت : لا شك أن الزنادقة لا دين لهم فهم إن أنكروا خالقية الله تعالى وربوبيته ونسبوا الحوادث إلى الدهر ، فهذا منهم مكابرة وعناد .

فهذه الآية لا تناقض ما حكى الله عنهم من اعترافهم بتوحيد الربوبية ، فهم يقولون ذلك بالألسنة مع أن قلوبهم تشهد بخلاف ذلك .

الشبهة الثانية : تشبثهم بقول الشاعر :

أشاب الصغير وأفنى الكبي ... ر كر الغداة ومر العشي

قالوا : هل يعقل أن يقول عاقل : إن أصحاب هذا الكفر كانوا يقرون بتوحيد الربوبية ؟ .

والجواب : أن هذه الشبهة في غاية من الحماقة والبلادة ؛ لأن هذا الشاعر كان مسلمًا ؛ فكيف يتصور أنه كان ملحدًا دهريا زنديقًا منكرًا لخالق الكائنات ورب البريات ؟ .

والظاهر أنه عنى : أن البلايا في الدهر أشابت الصغير وأفنت الكبير .

ولا يعبد أن يكون قوله هذا في شدة تلك المصائب ، مثل ما في قوله تعالى : { يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا } [ المزمل : 17] ، ولو سلم أنه كان كافرًا فجوابه ما سبق في الجواب عن الشبهة السابقة وبالله التوفيق .

الشبهة الثالثة : تشبثهم بقوله تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ } .... [البقرة : 28 ] ، وقوله تعالى : { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } [الرعد : 30 ] ،

وقوله تعالى : { أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } [ فصلت : 9] .

قالوا : هذه الآيات صريحة في إنكار المشركين للخالق سبحانه وتعالى ، فدل أنهم كانوا مشركين في خالقية الله تعالى .

وأجاب الحنفية بأجوبة ثلاثة :

الأول : أن المراد من الكفر في هذه الآيات كفر النعمة ، والمعنى : كيف تكفرون نعم الله ؟ .

والثاني : أن المراد من كفرهم بالله هو كفرهم بكتاب الله ؛ فعبر عن ذلك بكفرهم بالله .

والجواب الثالث : أن المراد من الكفر بالله كفرهم بتوحيد الله ، فمعنى { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ } : كيف تعبدون معه غيره . فكفرهم بالله اتخاذ الأنداد والشركاء له سبحانه . ولذا قال الآلوسي في بيان الربط بين الجملتين في قوله تعالى : { أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا } - : (لأن الأولى متحدة بقوله تعالى { تَكْفُرُونَ } بمنزلة إعادتها) .

الشبهة الرابعة : تشبثهم بقوله تعالى : { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } [الرعد : 30] .

قالوا : فلم يجعلوه ربًا .

بل هو صريح في أنهم كانوا منكرين للخالق سبحانه وتعالى .

أقول : إن الحنفية قد أجابوا عن هذه الشبهة بأجوبة ثلاثة :

الجواب الأول : ما مر في الجواب عن الشبهة الثانية .

أن المراد بالكفر بالرحمن هاهنا هو الكفر بتوحيده .

قال العلامة الجاجروي :

(قال ابن جرير : يقول : وهم يجحدون وحدانية الله ويكذبون بها) .

والجواب الثاني : ما مر أيضًا في الأجوبة عن الشبهة الثالثة من أن المراد كفر النعمة ، وهي إرسال الرسول وإنزال القرآن لهدايتهم .

قال الآلوسي :

(فلم يشكروا نعمة الله سبحانه لا سيما ما أنعم عليهم بإرسالك إليهم وإنزال القرآن الذي هو مدار المنافع الدينية والدنيوية عليهم ، بل قابلوا رحمته ونعمه بالكفر) .

الجواب الثالث : أن المراد أنهم أنكروا هذا الاسم لله تعالى كما ورد ذلك في سبب نزول هذه الآية ، فأنكروا تسمية الله بالرحمن ، لا أنهم أنكروا الله تعالى ؛ وهذا نوع من الإلحاد في توحيد الأسماء والصفات . وكثير من

المشركين لا يعرفون الله تعالى باسمه (( الرحمن )) ؛ كما روي أن سهيل بن عمرو قال يوم صلح الحديبية : لا نعرف الرحمن إلا مسيلمة .

وروي « أن أبا جهل سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يا الله يا رحمن .

فقال : إن محمدًا ينهانا عن عبادة الآلهة ، وهو يدعو إلهين ، فنزلت هذه الآية » .

قلت : الجواب الصحيح هو الأول : ولذا ضعف الآلوسي الجواب الثاني .

والحاصل : أن الآية ليس فيها ما يدل على أن المشركين كانوا منكرين لوجود الله تعالى وخالقيته ، فبطلت شبهة القبورية .

الشبهة الخامسة : تشبثهم بقوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا } [ الفرقان : 10] .

قالوا : (فلم يكن مشركو العرب مؤمنين بالأحدية والربوبية) .

وقالوا : ((فهل نرى صاحب هذا الكلام موحدًا أو معترفا)) .

الجواب :

لقد أجاب المفسرون من الحنفية بأن قصد المشركين إنكار تسمية الله تعالى ((الرحمن)) ولم يكن قصدهم إنكار مسماه ، وهو الخالق الرازق الرب ؛ لأنهم لا يعرفون الله باسمه ((الرحمن)) .

وذكر الآلوسي :

(وقيل سألوا عن ذلك لأنهم ما كانوا يطلقونه على الله كما يطلقون الرحيم والرحوم والراحم عليه ، أو لأنهم ظنوا أن المراد غيره عز وجل ، فقد شاع فيما بينهم تسمية مسيلمة برحمن اليمامة ) .

وكانوا ينكرون أن يسمى الله تعالى باسمه ((الرحمن)) كما أنكروا ذلك يوم الحديبية .

الشبهة السادسة : تشبث القبورية بقوله تعالى : { إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [الشعراء : 98] .

قال الدجوي (1365هـ) : انظر إلى قولهم ، فهم سووا آلهتهم بالله في جعلهم أربابًا كما هو ظاهر لغير المتعسف .

الجواب : أنه قد صرح علماء الحنفية في تفسير هذه الآية : أن المراد من التسوية هاهنا عند الكفار التسوية في العبادة واستحقاقها .

ولا شك أن من عبد غيره تعالى فقد جعله ندا لله سبحانه ، وسواه به تعالى في العبادة ، وليس المراد من التسوية هاهنا تسويتهم لآلهتهم بالله تعالى في الخلق والإيجاد والربوبية والخالقية والرازقية والتصرف في الكون والمالكية ، لما سبق تحقيقه مرارًا وتكرارًا على لسان الحنفية : من أن المشركين كافة لم يكونوا يعتقدون في آلهتهم ذلك بل كانوا يعتقدون : أن آلهتهم عباد معظمون عند الله مملوكون له محترمون عنده وهم شفعاؤهم عند الله تعالى .

ولا تنس ما ذكره الحنفية من تلبيتهم : ((لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك)) . وقد سبق تخريجها وتفسير علماء الحنفية لها .

وأقول : إن هذه الآية بمثابة آية أخرى : { بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [الأنعام : 1 ، 150] ، مع قوله تعالى : { أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } [البقرة : 165] .

فهذه الآية الأخيرة مفسرة لهاتين الآيتين ، وتبين المراد بأنهم كانوا مشبهة يشبهون المخلوق بالخالق في العبادة والتعظيم والخضوع والمحبة ، وأن المراد التسوية والعدل في المحبة والطاعة والتعظيم والعبادة ، لا في الخالقية والمالكية والرازقية والتصرف في الكون ونحوها .

الشبهة السابعة : استدلال القبورية بقوله تعالى : { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 22 ] .

قال الطباطبائي أحد أئمة القبورية مستدلًا بهذه الآية :

(ثم إنه سبحانه حكم بشركهم لاتخاذهم تلك الأصنام شريكًا لله في الخلق وتدبير العالم وجوزوا عبادتها خلافًا لله تعالى ...) .

ثم تشبث بهذه الآية ثم قال :

(وأين هذا ممن لا يعتقد في الأنبياء والصلحاء الخلق والتدبير ولا يعتقد عبادتهم ) .

قلت : منشأ الشبهة في هذه الآية هو أن الله تعالى نهاهم عن جعل الأنداد لله ، والأنداد جمع ند ، وند الشيء مشارك له في جوهره ، فهو أخص من المثل ؛ فإن المثل يقال في أي مشاركة كانت ؛ فكل ند مثل ، وليس كل مثل ندا .

وفرق آخر بينهما : هو أن الند هو المثل المخالف .

فدلت الآية على أن المشركين كانوا يعتقدون في آلهتهم أنها مساوية

لله في الربوبية ، كما قالوا ذلك في الشبهة التي قبلها .

ولكن أجاب المفسرون من علماء الحنفية بأن المشركين لم يعتقدوا في آلهتهم أنها مساوية لله أو مشاركة له في الربوبية والخالقية ؛ لأن الآية خرجت مخرج التهكم والسخرية منهم ، يدل عليه قوله تعالى في آخر الآية : { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } .

قال الزمخشري (538هـ) والعمادي (983هـ) والآلوسي (1270هـ) ما حاصل كلامهم :

فإن قلت : كيف سموا آلهتهم التي كانوا يعبدونها أندادًا ؟ مع أنهم لم يكونوا يزعمون أنها تخالف الله أو تساويه أو تماثله في ذاته تعالى وفي صفاته ولا أنها تخالفه في أفعاله ، وإنما عبدوها لتقربهم إلى الله زلفى .

قلت : لما تقربوا إليها وعظموها وسموها آلهة أشبهت حالهم حال من يعتقد أنها ذوات واجبة بالذات مثله قادرة على مخالفته ومضادته ، قادرة على أن تدفع عنهم بأس الله عز وجل ، وتمنحهم ما لم يرد الله تعالى لهم من خير . فقيل لهم ذلك على سبيل التهكم ؛ فتهكم بهم وتشنع عليهم بأن جعلوا أندادًا لمن يستحيل أن يكون له ند واحد فضلًا عن أنداد كثيرة على سبيل الاستعارة التهكمية ؛ حيث استعير النظير للمناسب المقرب ؛ كما استعير التبشير للإنذار ، والأسد للجبان ، فإن المشركين جعلوا آلهتهم بحسب أفعالهم وأحوالهم مماثلة له تعالى في العبادة ، وهي صفة شنعاء وصفة حمقاء ، في ذكرها ما يستلزم تحميقهم والتهكم بهم .

ولله در موحد الفترة ؛ زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه حيث يقول في ذلك :

أربًا واحدًا أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور

تركت اللات والعزى جميعًا ... كذلك يفعل الرجل البصير

وقوله تعالى في آخر هذه الآية : { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } حال عن ضمير ( لا تجعلوا ) ؛ أي والحال أنكم تعلمون أن آلهتكم لا تماثل الله تعالى ، وأنها لا تفعل مثل أفعاله تعالى ، ولا تقدر على مثل ما يفعل سبحانه ، كما قال تعالى : { هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ } [ الروم : 40 ] .

وقال العلامة محمود شكري الآلوسي (ت 1342) :

( فالمشركون كانوا مشبهة يشبهون آلهتهم بالله تعالى في الإلهية ؛ حيث غلوا في تعظيمهم وحبهم ، وإن لم يشبهوهم بالله تعالى في كل وجه ؛ فكل مشرك مشبه . وهذا التشبيه هو أصل عبادة الأصنام المشركين المشبهين العادلين بالله غيره . قال تعالى : { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } ، وقال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } ، فهؤلاء جعلوا المخلوق مثلًا للخالق . والند : الشبه ؛ يقال : فلان ند فلان ، وند ونده أي شبهه ومثله . ومنه قول حسان :

أتهجوه ولست له بند ... فشركما لخيركما الفداء

وقال جرير :

أين ما تجعلون إلي ندا ... وما يتم لذي حسب نديد

فتبين أن المشبهة هم الذين يشبهون المخلوق بالخالق في العبادة والتعظيم والخضوع والحلف به والنذر له والسجود له والعكوف عند بيته وحلق الرأس له والاستعانة به والتشريك بينه وبين الله تعالى في قولهم :

ليس إلا الله وأنت ، وأنا متكل على الله وعليك ، وأنا في حسب الله وحسبك ، وما شاء الله وشئت ، وهذا لله ولك ، وأمثال ذلك ، فهؤلاء هم المشبهة . فمن تدبر هذا الفصل حق التدبر تبين له كيف وقعت الفتنة في الأرض بعبادة الأصنام ، وتبين له سر القرآن في الإنكار على هؤلاء المشبهة الممثلة) .

الشبهة الثامنة : تشبثهم بقوله تعالى : { فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } [ الأنعام : 136 ] .

استدل الدجوي (1365هـ) بهذه الآية على بطلان الفرق بين توحيدي الربوبية والألوهية ، وعلى أن المشركين لم يكونوا مقرين بتوحيد الربوبية .

وقال المالكي مستدلًا بهذه الآية على أن المشركين لم يعترفوا بربوبية الله تعالى ، بل جعلوا الله أقل منزلة من أصنامهم :

(فلولا أن الله تعالى في نفوسهم من تلك الحجارة ما رجحوها

عليه هذا الترجيح الذي تحكيه هذه الآية ....) .

الجواب :

أقول : تسمية هذا المالكي القبوري آلهة المشركين بـ ((الأحجار)) غفلة فاحشة وكذب مكشوف ؛ لأن المشركين كانوا يعبدون الأنبياء والصالحين ، ولم يكونوا يعبدون الأحجار ، غير أنهم جعلوا صور الأنبياء والصالحين قبلة لعبادتهم كما تقدم .

وأما صنيعهم الذي ذمهم الله به في الآية ، فلا شك أنهم في ذلك على ضلال ، إذ لا شك أنهم رجحوا ما نذروه لآلهتهم على ما نذروه لله تعالى ، ولكن هذا ليس لأجل أنهم كانوا يعتقدون أن آلهتهم أرفع مكانة من الله ، وليس فيه أنهم جعلوا آلهتهم شركاء لله في الخلق وتدبير العالم ، غاية ما في الأمر أن المشركين كانوا ينذرون لله تعالى ، وينذرون لآلهتهم الباطلة أيضًا ، فما نذروه لآلهتهم لا ينفقونه على المساكين وأبناء السبيل والضيوف وغيرهم من الوجوه ، وما نذروه لله ينفقونه على آلهتهم ، وسدنتها وعاكفيها ، ويعللون صنيعهم هذا بأن الله تعالى غني غير محتاج ، وإنما ذلك لحبهم آلهتهم وإيثارهم لها .

صرح بذلك جمع من المفسرين الحنفيين .

وقال الإمام أبو الليث السمرقندي (375هـ) أحد أئمة الحنفية :

(روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : كانوا يسمون لله جزءًا من

الحرث ، ولآلهتهم جزءًا ، فما ذهبت به الريح من جزء أوثانهم إلى جزء الله أخذوه ، وما ذهبت به الريح من الجزء الذي سموه لله إلى جزء أوثانهم تركوه ، وقالوا إن الله غني عن هذا) .

وقال السدي :

(ما خرج عن نصيب الأصنام أنفقوه عليها ، وما خرج عن نصيب الله تصدقوا به ، فإذا هلك الذي لشركائهم وكثر الذي لله قالوا لا بد من النفقة ، فأخذوا الذي لله وأنفقوه على الأصنام ، وإذا هلك الذي لله وكثر الذي للأصنام قالوا : لو شاء الله لأزكى له ، فلا يزيدون عليه شيئا . فذلك قوله تعالى : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } ... ) .

وقال القاضي الباني بتي أحد كبار الحنفية (1225هـ) في تفسير هذه الآية :

(حيث كانوا يتمون ما جعلوه للأوثان مما جعلوه له دون العكس . قال قتادة : كانوا إذا أصابتهم سنة استعانوا بما جعلوه لله وأكلوا منه ووفروا ولم يأكلوا ما جعلوه للأوثان) .

وقال الإمام ولي الله إمام الحنفية (1176هـ) :

(كانوا ينفقون ما نذروه لله على المساكين والضعفاء ، وينفقون ما نذروه لآلهتهم على سدنتها وعاكفيها ، ولكن إذا اختلط بنذر آلهتهم شيء من نذر الله ضموه إلى نذر آلهتهم دون العكس ، وقالوا : إن الله غني لا

يحتاج إليه وآلهتنا في حاجة إلى ذلك) .

وكانوا يرجحون جانب نذر آلهتهم على جانب نذور الله تعالى خوفًا من آلهتهم لئلا تصيبهم بلية لو قصروا في حقهم .

قلت : ونظير صنيع هؤلاء المشركين صنيع كثير من فسقة القبورية ، فترى أحدهم لا يؤتي الزكاة المكتوبة ، ولكن يهتم اهتمامًا بالغًا بإخراج ما ينذره لأهل القبور خوفًا من أن تصيبه بلية في ماله أو نفسه أو أهله أو ولده .

الحاصل :

أنه ليست أية إشارة في هذه الآية إلى أن المشركين كانوا بصنيعهم الفاحش هذا منكرين لخالقية الله ومشركين به آلهتهم في الخالقية والرازقية والربوبية ، بل كانوا يعبدون الله وغيره من آلهتهم ؛ فلا يصح التمسك بها .

وهكذا ترى القبورية إذا أحاطت بهم بلية في البر أو البحر يدعون أهل القبور ولا يكادون يدعون الله حتى في تلك الحالة بخلاف مشركي العرب ، فإنهم كانوا يخلصون في دعاء الله تعالى وينسون ما كانوا يعبدونهم من دون الله كما سيأتي تفصيله على لسان علماء الحنفية .

بل تجاوز بعض القبورية إلى حد صار شركهم أشنع من شرك مشركي العرب ، حيث يزعمون أن الولي أسرع إجابة من الله تعالى ....

انظر إلى هذا النتن والغلو والإسراف .

فإن كان صنيع مشركي العرب يقتضي الإشراك بالله في الخالقية

والرازقية والربوبية ، فالقبورية أيضًا أشركوا بالله في الربوبية بالطريق الأولى .

ولهذا قال الآلوسي ردا على القبورية وكشفًا لعوراتهم في تفسير قوله تعالى : { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [ الزمر : 45] :

(وقد رأينا كثيرًا من الناس على نحو هذه الصفة التي وصف الله تعالى بها المشركين ، يهشون لذكر أموات يستغيثون بهم ويطلبون منهم ويطربون من سماع حكايات كاذبة عنهم توافق هواهم واعتقادهم فيهم ، ويعظمون من يحكي لهم ذلك وينقبضون من ذكر الله تعالى وحده ، ونسبة الاستقلال بالتصرف إليه عز وجل ، وسرد ما يدل على مزيد عظمته وجلاله ، وينفرون ممن يفعل ذلك كل النفرة ، وينسبونه إلى ما يكره ، وقد قلت يومًا لرجل يستغيث في شدة ببعض الأموات ، وينادي يا فلان أغثني . فقلت له : قل يا الله ، فقد قال سبحانه : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] ، فغضب وبلغني أنه قال : فلان منكر على الأولياء . وسمعت عن بعضهم أنه قال : الولي أسرع إجابة من الله عز وجل . وهذا من الكفر بمكان نسأل الله أن يعصمنا من الزيغ والطغيان) .

الشبهة التاسعة : تشبثهم بقوله تعالى : { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم } [ الأنعام : 108 ] .

فقد استدل بعض أئمة القبورية بهذه الآية على بطلان تقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية ، وعلى بطلان أن المشركين كانوا يعترفون بربوبية الله

تعالى .

فقد قال الدجوي (أحد أئمة القبورية) (1365هـ) :

(هذه الآية أدل الأدلة على هذا ، فهل ترى للمشركين توحيدًا بعد ذلك . أما التيميون فيقولون بعد هذا كله : إنهم كانوا مقرين بتوحيد الربوبية ) .

وقال المالكي أحد رؤساء القبورية في صدد أن المشركين لم يعترفوا بأن الله هو الخالق وحده ، وإثبات أن المشركين أشركوا آلهتهم في خالقية الله تعالى مستدلًا بهذه الآية :

(وإذا غضبوا قابلوا المسلمين بالمثل فيسبون الله تعالى غيرة على تلك الأحجار التي كانوا يعبدونها يعتقدون أنها تنفع وتضر ، فيرمون الله بالنقائص . وهذا واضح جدا في أن الله تعالى أقل منزلة في نفوسهم من تلك الأحجار التي كانوا يعبدونها . ولو كانوا يعتقدون حقا أن الله تعالى هو الخالق وحده ، وأن أصنامهم لا تخلق لكان على الأقل احترامهم له تعالى فوق احترامهم لتلك الأحجار) .

أقول : هذه الآية لا تدل بحال على أن المشركين كانوا ينكرون خالقية الله وربوبيته أو أنهم كانوا يشركون آلهتهم بالله في الخالقية والرازقية والربوبية ، بل لا تدل أيضًا على أنهم كانوا يسبون الله تعالى تدينًا غيرة على آلهتهم .

فقد أجاب عن هذه الشبهة علماء الحنفية جوابين :

حاصل الأول : أن المراد من سبهم الله سبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث

يفضي سبهم إلى الله من دون قصد وعلم ، يدل عليه قوله تعالى في الآية نفسها : { بِغَيْرِ عِلْمٍ } ؛ لأنهم كانوا يقرون بعظمة الله ، وإنما عبدوا آلهتهم لتكون شفعاء لهم عنده .

وحاصل الجواب الثاني : أنهم كانوا يسبون الله صريحًا وقت الغضب فالحمية الجاهلية تحملهم على ذلك لا لأجل التدين والاعتقاد ، ومثل هذا قد يحدث عن المسلم أيضًا ، فتحمله شدة الغيظ على التكلم بالكفر . فمثل هذا إن صدر عن شخص لا يصدر منه تدينًا واعتقادًا ، بل فسقًا وحمية وغضبًا .

قال الإمام الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) والعلامة حسين علي (1362هـ) ، واللفظ للأول :

( ومعنى سبهم لله عز وجل إفضاء كلامهم إليه كشتمهم له صلى الله عليه وسلم ولمن يأمره . وقد فسر { بِغَيْرِ عِلْمٍ } بذلك أي فيسبوا الله تعالى بغير علم أنهم يسبونه ، وإلا فالقوم كانوا يقرون بالله وعظمته وأن آلهتهم إنما عبدوها لتكون شفعاء لهم عنده سبحانه فكيف يسبونه ؟ ويحتمل أن يراد سبهم له عز اسمه صريحًا ولا إشكال بناء على أن الغضب والغيظ قد يحملهم على ذلك . ألا ترى أن المسلم قد تحمله شدة غيظه على التكلم بالكفر . ومما شاهدناه أن بعض جهلة العوام ، أكثر الرافضة سب الشيخين - رضي الله تعالى عنهما - عنده فغاظه ذلك جدا ، فسب عليا - كرم الله تعالى وجهه - ، فسئل عن ذلك فقال : ما أردت إلا إغاظتهم ، ولم أر شيئًا يغيظهم مثل ذلك . فاستتيب عن هذا الجهل العظيم .

وقال الراغب : إن سبهم لله تعالى ليس أنهم يسبونه جل شأنه صريحًا ، ولكن يخوضون في ذكره تعالى ويتمادون في ذلك بالمجادلة

ويزداون في وصفه سبحانه بما ينزه تقدس اسمه عنه . وقد يجعل الإصرار على الكفر والعناد سبا ، وهو سب فعلي . قال الشاعر :

وما كان ذنب بني مالك ... بأن سب منهم غلام فسب

بأبيض ذي شطب قاطع ... يقد العظام ويبري العصب

ونبه به على ما قاله الآخر :

ونشتم بالأفعال لا بالتكلم

وقيل : المراد بسب الله سب الرسول صلى الله عليه وسلم ، ونظير ذلك من وجه قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } [ الفتح : 10] .

قلت : احتمال سبهم الله لأجل الغضب والانتقام والحمية دون التدين والاعتقاد واضح يدل عليه قوله تعالى في الآية نفسها : { عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } .

قال الإمام بيان الحق أحد كبار علماء الحنفية (ت 555هـ) :

(العدو والعدوء والعدوان والعداء والاعتداء واحد) .

أقول : وعلى هذا مشى الأستاذ المودودي رحمه الله (1979م) .

قلت : لقد شاهدنا كثيرًا من فسقة المسلمين إذا غضبوا يسبون الله ورسوله والإسلام والقرآن ، نعوذ بالله من كيد الشيطان ، فليس معنى ذلك أنهم ينكرون وجود الله أو يسوون غيره به تعالى في الخالقية والمالكية

والرازقية والربوبية .

الحاصل : أن هذه الآية لا تدل على أن المشركين كانوا منكرين لخالقية الله وربوبيته ، أو أنهم كانوا مشركين آلهتهم بالله في الخلق وتدبير الكون .

فسقط استدلال القبورية بهذه الآية على عدم الفرق بين توحيدي الربوبية والألوهية . والله المستعان ، وعليه التكلان .

الشبهة العاشرة : استدلالهم بقوله تعالى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله } [التوبة : 31 ] .

قلت : لقد استدل القضاعي أحد أئمة القبورية (1376هـ) بهذه الآية على بطلان تقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية ، وعلى أن المشركين كانوا مشركين آلهتهم بالله في الربوبية .

وقال الدجوي أحد أعناقهم (1365هـ) :

(وإني لأعجب لتفريقهم بين توحيد الألوهية والربوبية مع قوله تعالى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } فكيف يقولون إن عندهم توحيد الربوبية) .

الجواب :

لقد فسر علماء الحنفية هذه الآية بأن المراد من ((الرب)) في هذه الآية ليس ((الرب)) بمعنى مالك الكون وما فيه وخالقه والمتصرف فيه كيف شاء ، بل إطلاق ((الرب)) في هذا السياق ونحوه يراد به ((المعبود)) ، وليس المراد به ((المعبود مطلقا)) أيضًا ، بل المراد ((المعبود المقيد)) الذي يعبد بطاعته في

التحليل والتحريم في الأحكام الشرعية .

وقد يعبد الشخص إمامه وشيخه ورئيسه بطاعته في التحريم والتحليل وهو لا يشعر أنه يعبده بهذه الطاعة .

فالآية لا دليل فيها على أن اليهود والنصارى اعتقدوا في أحبارهم ورهبانهم أنهم شركاء لله في خلق هذا الكون وتدبيره وترتيبه .

وإليكم بعض نصوص المفسرين من الحنفية في تفسير هذه الآية :

1 - قال الزمخشري (538هـ) :

(اتخاذهم أربابًا : أنهم أطاعوهم في الأمر بالمعاصي ، وتحليل ما حرم الله وتحريم ما حلله كما تطاع الأرباب في أوامرهم ونواهيهم) .

2 - وقال العمادي (983هـ) :

(اتخذ كل واحد من الفريقين علماء لهم لا الكل الكل { أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } ، بأن أطاعوهم في تحريم ما أحله الله تعالى وتحليل ما حرمه الله أو بالسجود لهم ونحوه ...) . ثم ذكر حديث عدي بن حاتم ) .

3 - وقال البروسوي (1137هـ) :

(والمعنى أطاعوا علماءهم وعبادهم فيما أمروهم به طاعة العبيد للأرباب فحرموا ما أحل الله وحللوا ما حرم الله . ومثاله : من اعتقد أن اللبس حرام يكون كمن اعتقد أن الخمر حلال . ومن اعتقد أن لحم الغنم حرام يكون كمن اعتقد أن لحم الخنزير حلال) .

4 - وقال الآلوسي (1270هـ) :

(والمراد في الآية : اتخذوا كل من الفريقين علماءهم لا الكل الكل { أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } بأن أطاعوهم في تحريم ما أحل الله تعالى ، وتحليل ما حرم سبحانه ، وهو التفسير المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقد روى الشعبي وغيره عن عدي بن حاتم قال : « أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب ، فقال : يا عدي اطرح عنك هذا الوثن ، وسمعته يقرأ في سورة براءة : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } ، فقلت له : يا رسول الله لم يكونوا يعبدونهم ، فقال عليه الصلاة والسلام : أليسوا يحرمون ما أحل الله ويحلون ما حرم الله فيستحلون . فقلت : بلى . قال : ذلك عبادتهم » .

ونظير ذلك قولهم : ((فلان يعبد فلان)) إذا أفرط في طاعته فهو استعارة بتشبيه الإطاعة بالعبادة . أو مجاز مرسل بإطلاق العبادة وهي

طاعة مخصوصة على مطلقها . والأول أبلغ . وقيل : اتخاذهم أربابًا بالسجود لهم ونحوه مما لا يصلح إلا للرب عز وجل ، وحينئذ لا مجاز ، إلا أنه لا مقال لأحد بعد صحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

والآية ناعية على كثير من الفرق الضالة الذين تركوا كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لكلام علمائهم ورؤسائهم ، والحق أحق بالاتباع ، فمتى ظهر وجب على المسلم اتباعه وإن أخطأ اجتهاد مقلده) .

5 - ولقد ساق العلامة السهسواني (1326هـ) هذه الشبهة ، ثم أجاب عنها بما حاصله :

أن هذه الآية ليس فيها أنهم كانوا يقولون في أحبارهم ورهبانهم أنهم أرباب من دون الله ، وإنما فيها أنهم اتخذوهم أربابًا .

ثم قال :

(وإنما في بعضها [أي بعض هذه الآيات] اتخاذ الأرباب ، وهذا ليس نصا على أنهم مقرون بربوبيتهم ؛ بل يحتمل أن يكون اتخاذهم الأرباب من صرف شيء من العبادة إليهم ، أو بمعنى اتباع ما شرعوا لهم من تحريم الحلال وتحليل الحرام ، لا أنهم كانوا يطلقون لفظ ((الرب)) عليهم) .

الحاصل : أن اليهود والنصارى لم يتخذوا الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله بمعنى أنهم خالقون لهذا الكون مدبرون له متصرفون فيه حيث

يشاءون بدون إذن من الله ، بل اتخذوهم أربابًا بمعنى أنهم كانوا يعبدونهم في التشريع من التحليل والتحريم .

ومثل هذا يوجد بكثرة كاثرة في هذه الأمة ، ولا سيما في المقلدة المتعصبة للأئمة الغلاة فيهم الذين رفعوا شأن الأئمة إلى منصب الرسالة بل إلى منزلة الألوهية ، فيقعون في عبادة الأئمة بسبب هذه الطاعة المطلقة في التحليل والتحريم ويشركون بالله تعالى هؤلاء الأئمة بسبب تقليدهم الشركي ، ويردون نصوص الكتاب الصريحة والسنة الصحيحة ؛ كأن الإمام نبي أرسل إليهم ، أو إله يعبدونه وهم لا يشعرون .

ولذلك نرى الإمام الشاه ولي الله الدهلوي إمام الحنفية في دهره (1176هـ) تصدى للرد على مثل هؤلاء المقلدة الغلاة ، وكشف الستار عن أسرارهم ، وجعلهم مصداق هذه الآية : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } ؛ حيث قال :

(فما ذهب إليه ابن حزم حيث قال : ((التقليد حرام .....)) .

إنما يتم فيمن له ضرب من الاجتهاد ولو في مسألة واحدة ، وفيمن ظهر عليه ظهورًا بينا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكذا ونهى عن كذا وأنه ليس بمنسوخ ...

فحينئذ لا سبب لمخالفة حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلا نفاق خفي أو حمق جلي .

وهذا هو الذي أشار إليه الشيخ عز الدين بن عبد السلام حيث

قال : ((ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعًا ، وهو مع ذلك يقلده فيه ويترك من شهد الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبهم جمودًا على تقليد إمامه ، بل يتحيل لدفع ظاهر الكتاب والسنة ويتأولها بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالًا عن مقلده)) .

وقال : ((لم يزل الناس يسألون من اتفق من العلماء من غير تقييد لمذهب ولا إنكار على أحد من السائلين ، إلى أن ظهرت هذه المذاهب ومتعصبوها من المقلدين ؛ فإن أحدهم يتبع إمامه مع بعد مذهبه عن الأدلة مقلدًا له فيما قال كأنه نبي أرسل )) .

وهذا نأي عن الحق ، وبعد عن الصواب ، لا يرضى به أحد من أولي الألباب ....

وفيمن يكون عاميا ويقلد رجلًا من الفقهاء بعينه يرى أنه يمتنع من مثله الخطأ ، وأن ما قاله هو الصواب ألبتة ، وأضمر في قلبه أن لا يترك تقليده ، وإن ظهر الدليل على خلافه ، وذلك ما رواه الترمذي عن عدي بن حاتم ؛ أنه قال : « سمعته - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقرأ : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } ، قال : إنهم لم يكونوا يعبدونهم ، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه ، وإذا حرموا عليهم شيئًا حرموه » .

وفيمن لا يجوز أن يستفتي الحنفي مثلًا فقيهًا شافعيا وبالعكس ، ولا يجوز أن يقتدي الحنفي بإمام شافعي مثلًا ، فإن هذا قد خالف إجماع القرون الأولى وناقض الصحابة والتابعين ...

فإن بلغنا حديث من الرسول المعصوم الذي فرض الله علينا طاعته بسند صالح يدل على خلاف مذهبه وتركنا حديثه واتبعنا ذلك التخمين ، فمن أظلم منا وما عذرنا يوم يقوم الناس لرب العالمين) .

فإن قيل : ما النكتة في إطلاق كلمة ((الرب)) على من يتخذ مطاعًا مطلقًا في التحليل والتحريم ؟

قلت : كلمة ((الرب)) تدل على السيادة والمالكية والتصرف في الملك ، فمن أطاع مخلوقًا طاعة مطلقة بدون أمر الله تعالى بطاعته وأذعن لتحليله وتحريمه فقد جعله متصرفًا في التشريع متصفًا بصفات الله معبودًا بطاعته المطلقة ، فصح إطلاق ((الرب)) عليه .

قال الإمام ولي الله مبينًا هذه النكتة اللطيفة :

(وسر ذلك أن التحليل والتحريم عبارة عن تكوين نافذ في الملكوت أن الشيء الفلاني يؤاخذ به أو لا يؤاخذ به ، فيكون هذا التكوين سببا للمؤاخذة وتركها ، وهذا في صفات الله تعالى ) .

قلت : لا شك أن من أطاع أحدًا دون الله تعالى طاعة مطلقة بدون أمر من الله تعالى بطاعته المطلقة وأذعن له في التحليل والتحريم وحد

الحدود وفرض الفرائض فقد أشركه بالله تعالى في التشريع وعبده ، كما قال تعالى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } [الشورى : 21 ] .

قال الأستاذ المودودي رحمه الله (1979م) في تفسير هذه الآية :

(ليس المراد من الشركاء في هذه الآية الشركاء الذين يدعونهم وينادونهم في الكربات وينذرون لهم في البليات ، بل المراد من الشركاء في هذه الآية المطاعون الذين جعلوا أفكارهم وعقائدهم وضوابطهم وطرقهم ومذاهبهم شريعة يطاعون فيها بدون إذن من الله تعالى ، فهذا العمل لا شك أنه شرك كما أن السجود لغير الله ودعاء غير الله شرك) .

قلت : مثل قول هؤلاء الأجلة من الحنفية صرح كثير من أئمة السنة بأن من أطاع العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله فقد اتخذهم أربابًا من دون الله ، لأن مثل هذه الطاعة المطلقة من أنواع العبادة .

وصرحوا أيضًا أن هذا النوع من الشرك موجود في هذه الأمة حيث إن كثيرًا من المقلدة المتعصبة يعبدون الأئمة باسم الفقه والعلم؛ لأن من أطاع مخلوقًا غير رسول الله صلى الله عليه وسلم في التحليل والتحريم فهو مشرك .

وقد سبق فتوى جمع من الحنفية بأن هذا النوع من المقلد مشرك كافر يستتاب وإلا قتل .

الشبهة الحادية عشرة : تشبثهم بقوله تعالى حكاية عن يوسف عليه الصلاة والسلام : { يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار } [ يوسف : 39] .

استدل بهذه الآية الدجوي أحد أئمة القبورية (1365هـ) على بطلان تقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية ، وعلى أن المشركين كانوا مشركين بالله في الخالقية والمالكية والتدبير والربوبية ، ثم قال :

(فإذا ليس عند هؤلاء الكفار ((توحيد الربوبية)) كما قال ابن تيمية وما كان يوسف عليه السلام يدعوهم إلا إلى توحيد الربوبية ؛ لأنه ليس هناك شيء يسمى توحيد الربوبية وشيء آخر توحيد الألوهية عند يوسف عليه السلام . فهل هم أعرف بالتوحيد منه أو يجعلونه مخطئًا في التعبير بالأرباب دون الآلهة) .

واستدل بها أيضًا القضاعي أحد رؤساء القبورية (1376هـ) حيث قال :

(وقول هؤلاء المغرورين \ يعني السلفيين \ : ((إن الكافرين الذين بعث لهم الرسول كانوا قائلين بتوحيد الربوبية وأن آلهتهم لا تستقل بنفع ولا ضر ، وإنما كان شركهم بتعظيمهم لغير الله بالسجود له والاستغاثة به والنداء له والذبح له)) :

إنما قول من لم يعرف التوحيد ولا الإشراك ولا المعقول ولا المنقول في كتاب الله وسنة رسوله ، ولا ألم بتاريخ الأمم قبل البعثة . ألم يحك الله

في كتابه عن يوسف عليه الصلاة والسلام قوله في إرشاد صاحبي السجن : { أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } ، هل يقال ذلك إلا لمن اعتقد أربابًا ؟ ألا يكون هذا كفرًا بتوحيد الربوبية ...) .

الجواب :

لقد وقف العلامة السهسواني لقمع هذه الشبهة بمرصاد فذكرها ثم جعلها كأن لم تغن بالأمس حيث قال :

(وهذا ليس فيه تصريح أنهما كانا يطلقان لفظ الأرباب على الأصنام حتى يلزم إنكار ((توحيد الربوبية)) ، بل يحتمل أن يكون المقصود بيان بطلان ما كانوا عليه من عبادة الأصنام بأن القول بالأرباب المتفرقة باطل قطعًا لا يتأتى إنكاره من أحد عند أهل العقل ، وما لا يصلح للربوبية لا يصلح للعبودية ، دل عليه قوله تعالى : { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ .... أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } ... ) .

قلت : لا يبعد أن يكون قول زيد بن عمرو بن نفيل :

أربًا واحدًا أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور

عزلت اللات والعزى جميعًا ... كذلك يفعل الجلد الصبور

فلا العزى أدين ولا ابنتيها ... ولا صنمي بني عمرو أزور

ولا غنمًا أدين وكان ربا ... لنا في الدهر إذ حلمي يسير

من قبيل قول يوسف عليه الصلاة والسلام ؛ فيكون هذا وذاك حجة يعترف بها المشركون فيكون حجة عليهم حجة مفحمة مسكتة وملزمة لهم وتضطرهم إلى أن يعترفوا بتوحيد الألوهية .

الشبهة الثانية عشرة : استدلالهم بالبيت الآتي :

أرب يبول الثعلبان برأسه ... لقد هان من بالت عليه الثعالب

على بطلان تقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية ، وعلى أن المشركين كانوا مشركين بالله في الربوبية .

قال القضاعي أحد أعناق القبورية (1376هـ) مستدلا بهذا البيت :

(فانظر إلى قوله : ((أرب)) ، ولم يقل : أإله) .

الجواب :

أنه قد تقدم في كلام العلامة السهسواني (1326هـ) أن المراد من ((الرب )) في مثل هذا السياق هو ((الإله)) لا الخالق الرازق المدبر لهذا الكون .

فلا يصح تمسك القبورية بهذا البيت .

وقال الشيخ الرستمي :

(قال القرطبي : الرب بمعنى المالك والسيد والمصلح والمدبر والقائم والمعبود ، كما قال موحد الجاهلية) .

ثم ذكر البيت .

قلت : ولا يبعد أيضًا أن يكون هذا البيت لبيان ذكر الحجة على المشركين ، كما سبق في الجواب عن الشبهة السابقة .

الشبهة الثالثة عشرة : استدلالهم بقوله تعالى حكاية عن المشركين العاديين حيث قالوا لرسول الله هود عليه الصلاة والسلام : { إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ } [هود : 54 ].

قال القضاعي أحد أئمة القبورية (1376هـ) مستدلا بهذه الآية :

(فهذا صحيح اعتقادهم باستقلالها بالضر والنفع) .

وقال الدجوي أحد أعناق القبورية (1365هـ) متشبثًا بهذه الآية :

(فكيف يقول ابن تيمية إنهم يعتقدون : ((أن الأصنام لا تضر ولا تنفع)) إلى آخر ما يقول) .

الجواب :

أن هؤلاء القبورية مفترون في تقرير استدلالهم بهذه الآية على الله تعالى وعلى كتابه وعلى شيخ الإسلام ابن تيمية ، وعلى المشركين من قوم هود عليه الصلاة والسلام ؛ فإن الله لم يشر إلى أنهم كانوا يعتقدون في آلهتهم الاستقلال بالضر والنفع فضلًا عن التصريح .

كما أن شيخ الإسلام لم يقل قط : إن المشركين كانوا يعتقدون أن آلهتهم لا تضر ولا تنفع .

غاية ما في هذه الآية أن المشركين كانوا يعتقدون في آلهتهم أنها تضر وتنفع .

ولكن تقدم عدة نصوص لعلماء الحنفية ، ولا سيما الإمام ولي الله دالة على أن المشركين كانوا معترفين بأن الله هو الخالق لهذا الكون المدبر للأمور العظام والرازق وحده . ولم يعتقدوا في آلهتهم أنها تنفع وتضر استقلالًا ، وإنما كانوا يعتقدون أن الله تعالى فوض إليهم تدبير أمورهم وجعلهم متصرفين في بعض الأمور الخاصة والجزئية في غير الأمور العظام .

فليس في هذه الآية أنهم كانوا يعتقدون في آلهتهم الاستقلال بالنفع والضر .

فلم يقل أحد من المفسرين ولا سيما الحنفية أنهم كانوا يعتقدون في آلهتهم الاستقلال بالنفع والضر والانتقام .

ومن هذا التصرف الجزئي عقيدة المشركين من عاد هذه وقولهم هذا لرسول الله هود عليه الصلاة والسلام .

ومثله عقيدة مشركي العرب من تخويفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن تضره آلهتهم ، كما قال تعالى : { وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ } [الزمر : 36 ] مع اعترافهم بأن الله هو الخالق المدبر للكون وأن الله إذا أراد بأحد ضرا أو نفعًا فآلهتهم لا تكشف الضر ولا تمسك النفع .

ونظيره ما سمعنا ونسمع كثيرًا من القبورية يقولون في حق الموحدين : إن الولي الفلاني قد أصابهم بكذا وكذا .

وفي كلام العلامة محمود شكري الآلوسي إشارة إلى ذلك .

بل القبورية قد فاقوا المشركين السابقين وتجاوزوا حدهم في الإشراك بالله تعالى وإثبات التصرف لأهل القبور كما صرح بذلك علماء الحنفية .

الحاصل :

أن استدلال القبورية بهذه الآية على بطلان تقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية منهار * لأنه مبني على شفا جرف هار* .

الشبهة الرابعة عشرة :

تشبثت القبورية بقول أبي سفيان يوم أحد : (اعل هبل) .

قال الدجوي أحد أئمة القبورية (1365هـ) مستدلا به :

(فانظر إلى هذا ثم قل لي ماذا ترى في ذلك التوحيد الذي ينسبه إليهم ابن تيمية ويقول : ((إنهم فيه مثل المسلمين سواءً بسواء ، وإنما افترقوا بتوحيد الألوهية)) ) .

وزعم المالكي : أن المشركين كانوا يعتقدون في تلك الأحجار التي كانوا يعبدونها أنها شريكة لله تعالى في الخلق وأن الله ليس الخالق وحده عندهم ، وأنهم لم يكونوا جادين في قولهم : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } ، كما لم يكونوا جادين في قولهم : إن الله هو الخالق وحده ، بل كان الله أقل منزلة عندهم من حجارتهم ....

ثم ذكر قول أبي سفيان هذا ، ثم قال :

(ينادي صنمهم المسمى بهبل أن يعلو في تلك الشدة رب السماوات والأرض ويقهره ليغلب هو وجيشه جيش المؤمنين الذي يريد أن يغلب آلهتهم . هذا مقدار ما كان عليه أولئك المشركون مع تلك الأوثان ومع الله

رب العالمين ؛ فليعرف حق المعرفة ، فإن كثيرًا من الناس لا يفهمونه كذلك ويبنون عليه ما يبنون) .

الجواب عن هذه الشبهة :

أن هؤلاء القبورية كذابون أفاكون بهاتون في مزاعمهم هذه لوجوه :

أما الأول :

فهو أن شيخ الإسلام ابن تيمية ولا أحدًا غيره من أئمة الإسلام لم يقل : إن المشركين مثل المسلمين سواء بسواء وإنما افترقوا بتوحيد الألوهية . كيف ؟ والمشركون كانوا منكرين لرسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما كانوا كافرين بكتاب الله ، وكثير منهم بالبعث أيضًا .

وإنما قال شيخ الإسلام وغيره من أئمة الإسلام : إن المشركين كانوا معترفين بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت ومدبر الكون والأمور العظام . وكانوا يقرون بتوحيد الربوبية إلى حد أكبر .

وهذا ما حكاه الله تعالى عنهم واحتج عليهم باعترافهم بذلك مع إشراكهم في توحيد الألوهية وبعض جزئيات توحيد الربوبية وبعض تفاصيله .

ومما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قوله :

(لكن المتكلمون إنما انتصبوا لإقامة المقاييس العقلية على توحيد الربوبية ، وهذا مما لم ينازع في أصله أحد من بني آدم ؛ وإنما نازعوا في بعض تفاصيله ....

وأما توحيد الإلهية فهو الشرك العام الغالب الذي دخل من أقر أنه لا خالق إلا الله ولا رب غيره من أصناف المشركين ، كما قال تعالى :

{ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [يوسف : 106] ، كما بسطنا هذا في غير هذا الموضع) .

أقول : تقدمت نصوص علماء الحنفية وخلاصتها :

من المعلوم بالاضطرار أن المشركين مع اعترافهم بأن الله هو الخالق المالك الرازق وحده المدبر لهذا الكون المتصرف فيه كيف يشاء كانوا يعتقدون في آلهتهم أن لهم بعضًا من القدرة على النفع والضر وشيئًا من التصرف والتدبير ، ولكن هذا كله بإذن الله تعالى ، فالله هو الذي خلع عليهم هذه الخلعة ، وأن الله قد فوض إليهم بعض التدبير ، وجعلهم متصرفين في بعض الأمور الخاصة الجزئية غير الأمور العظام ، ولم يعتقدوا قط في آلهتهم أنهم ينفعون أو يضرون أو يدبرون بالاستقلال من دون إذن من الله وبدون تفويض منه ، وليس على سبيل مغالبتهم لله وقهرهم له .

كما أنهم لم يعتقدوا فيهم أيضًا أنهم شركاء مع الله في خلق هذا الكون وتدبيره والتصرف فيه حيث يشاءون .

ومثل هذا الشرك موجود في القبورية بل شركهم أشنع وأبشع من شرك مشركي العرب .

وصرح به كثير من علماء الخنفية .

فالقبورية مشركون في توحيد الربوبية فضلًا عن توحيد الألوهية .

وأما الثاني :

فهو أن المشركين كانوا معترفين بأن الله هو الخالق الرازق المدبر

المحيي المميت وحده ؛ كما حكى الله ذلك عنهم في عدة مواضع من كتابه واحتج عليهم بسبب اعترافهم وإقرارهم هذا حيث أفحمهم وأسكتهم ، وقد كانوا يقولون : إن الله تعالى هو المالك لهم وهو المالك لآلهتهم وإن آلهتهم لا تملك شيئًا دون إذن من الله وتفويض منه ، دل على ذلك تلبيتهم : ((تملكه وما ملك)) .

وقد سقنا كثيرًا من نصوص علماء الحنفية في بيان اعتقاد المشركين في آلهتهم أنهم كانوا يعتقدون أن الله تعالى هو الذي خلع عليهم خلعة وفوض إليهم تدبير بعض الأمور الصغيرة الجزئية وجعلهم متصرفين في غير الأمور العظام . وبسبب ذلك كانوا يعبدونهم ليقربوهم إلى الله زلفى ، ويتوسلون بهم عند الله ، إلى آخر ما ذكرنا من نصوص علماء الحنفية التي فيها عبرة للقبورية .

فكيف يقول هذا المالكي إن المشركين لم يكونوا جادين في اعترافهم بأن الله هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت وحده دون تلك الأحجار ، ولم يكونوا جادين في قولهم : هؤلاء شفعاؤنا عند الله وإنهم يقربونا إلى الله زلفى .

فتأويلات هذا المالكي ليست إلا تحريفات باطنية وتخريفات قرمطية .

وأما الثالث :

فهو أن هذا المالكي غير صادق في قوله : إن أبا سفيان إنما نادى صنمه هبلًا ليعلو رب السماوات ويقهره ، بل هو كذاب أفاك في كلامه هذا

مفتر متقول على المشركين ، مقول إياهم ما لم يقصدوا ؛ لأن أحدًا من المشركين لم يعتقد في صنمه أنه يقتدر أن يغالب الله تعالى أو يمانعه أو يستطيع أن يغلب رب السماوات والأرض ويعلوه ويقهره لا أبا سفيان ولا غيره ؛ كما سبق تحقيقه مرارًا وتكرارًا بنصوص علماء الحنفية الدامغة القامعة الساطعة القاطعة لأعناق القبورية ودابرهم .

بل المشركون كانوا يعتقدون أن الله تعالى خالق هذا الكون كله ومالكه ومدبره والمتصرف فيه حيث يشاء .

بل كانوا يعتقدون أن الله هو مالك آلهتهم وأن آلهتهم لا تملك شيئًا بالاستقلال بدون إذن من الله وتفويض منه ، وأن آلهتهم مملوكة لله تعالى وأن الله تعالى مالكها ، دل على ذلك قولهم في تلبيتهم المشهورة المعروفة : ((تملكه وما ملك)) ، وقد خرجناها وذكرنا تفسير علماء الحنفية في معناها .

وقد ذكر كبار علماء الحنفية : أن المشركين كانوا يقولون : إن الله تعالى مالك الآلهة ، ورب الأرباب ، وإله الآلهة ، وأن الله هو الإله الأكبر الأعظم ، وأن آلهتهم شفعاء لهم عند الله ويقربونهم إلى الله زلفى . وقالوا : نحن نتقرب إليهم ونتقرب إلى الله بهم .

وقد ذكر علماء الحنفية من أشعار المشركين ما يدل على اعتقادهم أن الله عندهم هو أكبر الآلهة . فقد قال أوس بن حجر يحلف باللات :

وباللات والعزى ومن دان دينها ... وبالله إن الله منهن أكبر

وهذه حقيقة اعترف بها كبار القبورية أيضًا :

فقد قال فضل رسول الحنفي القادري البدايوني أحد أئمة القبورية الهندية (1289هـ) في بيان عقائد مشركي العرب :

(إن المشركين قالوا : يجب عبادة المحبوب والشفيع لصيرورته إلهًا ، لا عبادة الله العلي الأكبر ، فإنها لا تعبد لكونه في غاية التعالي) .

ولذلك لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجواب عن قول أبي سفيان هذا : « قولوا : الله أعلى وأجل » سكت أبو سفيان ومن معه من المشركين ، وأفحموا ، فبهت الذي كفر * حيث ألقي في فيه الحجر * .

فهذا دليل قاطع قامع ساطع على أن أبا سفيان لم يكن يقصد بقوله ((اعل هبل)) أن هبلًا يغلب الله تعالى ويقهر رب السماوات والأرض أو يغالبه ويمانعه ؛ لأنهم كانوا يعترفون بأن الله هو رب الأرباب وإله الآلهة وأكبرها وأعلاها وأجلها ومالكها وهي مملوكة له سبحانه وتعالى ، فلا يتصور التمانع والتغالب عندهم بينها وبين الله .

هاهنا نكتة لطيفة عقلية أخرى يجب التنبيه لها ؛ - وتؤخذ من كلام الحنفية - :

وهي : أن هؤلاء المشركين كانوا يعتقدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على دين جديد باطل لا يرضاه الله تعالى ويرونهم خارجين عن الدين الحق

ولذا يسمون النبي صلى الله عليه وسلم صابئًا ، والصحابة صباة وأنهم فقط على دين صحيح وأن عبادتهم لآلهتهم مما يرضاها الله تعالى وأن هذا من دين الله تعالى وأن آلهتهم تشفع لهم عند الله وتقربهم إلى الله زلفى وأن آلهتهم من محبوبي الله عز وجل والمقربين لديه كما سبق في نصوص علماء الحنفية .

فبظهور دينهم وغلبة جندهم يغلب دين الله ويغلب جند الله ، وبانهزام محمد وذهاب دينه ينتصر دينهم الذي هو دين الله في زعمهم الباطل لأنهم لم يعتقدوا صدق رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو صدقوا ذلك لما قاتلوه كما قال سهيل بن عمرو يوم الحديبية ، وإذا كان الأمر كذلك كيف يتصور أن أبا سفيان يقصد بقوله : ((اعل هبل)) أن هبلًا يغلب رب السماوات والأرض ويقهره ويعلو دينه دين الله عز وجل ؟

إذا لا يمكن عقلًا ولا نقلًا أن يقصد أبو سفيان التمانع والتغالب بين هبل وبين الله عز وجل ، بل كان قصد أبي سفيان أن ((هبلا)) رفع الله أمره وأعلى شأنه وأعز دينه وأظهره بهزيمة محمد وأصحابه .

صرح بذلك علماء الحنفية وغيرهم .

وإليك بعض نصوص علماء الحنفية في تفسير مقالة أبي سفيان هذه :

قال الإمام بدر الدين العيني إمام الحنفية في عصره (ت855) :

(قوله : ((اعل هبل)) ....، قال ابن إسحاق : معناه : ((ظهر دينك)) . قال السهيلي : ((معناه : زد علوا)) .

وفي التوضيح : ((أي ليرتفع أمرك ويعز دينك فقد غلبت)) .

قلت : كل هذا ليس معناه الحقيقي ولكن في الواقع يرجع معناه إلى هذه المعاني .

قال الكرماني : ما معنى : ((اعل ، ولا علو في هبل)) ؟ ثم أجاب بقوله : ((هو بمعنى : العلي ، أو المراد : أعلى من كل شيء)) انتهى .

قلت : ظن أنه ((أعلى هبل)) على وزن أفعل التفضيل ، فلذلك سأل بما سأل وأجاب بما أجاب . وهو واهم في هذا ، والصواب ما ذكرنا) . انتهى كلام العيني وما نقله عن غيره .

الحاصل : أن أبا سفيان بل ومن معه من صناديد الكفر والشرك والأعداء الألداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام والمسلمين لم يكونوا يقصدون بهذه المقالة ((اعل هبل)) المغالبة والتمانع بين هبل وبين الله .

ولا قصدوا بها أن معبودهم ((هبلا)) يقهر الله ويغلب رب السماوات والأرض بل كل هذا من ترخصات هذا المالكي الآفك الباهت الساقط المتهافت الذي يرتكب في تأويلات النصوص تحريفات قبورية وتخريفات باطنية لأجل تبرير شرك حزبه القبوري وعبادتهم للقبور وأهلها من دعائهم وندائهم والاستعانة منهم والاستغاثة بهم والنذر لهم وقت نزول النوازل وحلول القلاقل والزلازل ، واعتقاد التصرف في الكون وعلم الغيب فيهم ،

وغيرها من الطامات الشركية والخرافات القبورية .

وبالجملة : إن القبورية لا دليل لهم ولا شبه دليل يدل على بطلان تقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية ، ولا على أن المشركين كانوا مشركين آلهتهم بالله في الخالقية والرازقية والمالكية وتدبير هذا الكون ، فإنهم لم يدعوا فيها أنها قادرة على النفع والضر بالاستقلال ، بل كانوا يعترفون ويقدرون بأن الله تعالى هو الخالق لهذا الكون والمدبر له والمتصرف فيه كيف يشاء وأنه المحيي المميت الرازق والمالك وحده .

غير أنهم غلوا في تعظيم بعض الصالحين الذين ظنوا أنهم وسائط بينهم وبين الله يصلون إلى الله بسببهم وشفاعتهم كالوزراء والندماء للملوك ، فعبدوهم بأنواع من العبادة كالنذر لهم والاستغاثة بهم وندائهم وقت الكربات والبليات ليشفعوا لهم عند الله ويقربوهم إلى الله زلفى .

واعتقدوا فيهم أن الله تعالى فوض إليهم تدبير بعض الأمور الخاصة وجعلهم متصرفين في بعض الجزئيات وأن الله مالكهم وأنهم لا يملكون شيئًا بدون إذن الله تعالى .

وهذه الوسيلة الشركية هي أصل شركهم ، والقبورية شاركوهم في ذلك حذو النعل بالنعل .

وأقول : وبهذه الأجوبة راحت شبهات القبورية أدراج الرياح فصارت كأمس الدابر والحمد لله رب العالمين .

وبعد هذا ننتقل إلى الفصل الآتي ، لنعرف العبادة وأركانها وأنواعها وشروط صحتها عند الحنفية ؛ وردهم على القبورية في ذلك كله .

****

 

الفصل الرابع

في جهود علماء الحنفية في تعريف العبادة ، وبيان أركانها ، وأنواعها ، وشروط صحتها ، وإبطال عقيدة القبورية في ذلك كله

وفيه ثلاثة مباحث :

- المبحث الأول : في عرض عقيدة القبورية في العبادة ، وتعريفهم لها .

- المبحث الثاني : في تعريف العبادة عند علماء الحنفية ، وردهم على تعريف القبورية للعبادة .

- المبحث الثالث : في أركان العبادة ، وأنواعها ، وشروط صحتها عند علماء الحنفية ، وردهم على القبورية في ذلك كله .

المبحث الأول

في عرض عقيدة القبورية في العبادة وتعريفهم لها .

لقد انحرفت القبورية عن الجادة الصحيحة المستقيمة في مفهوم ((العبادة)) كما انحرفت في مفهوم ((التوحيد)) كما عرفت .

وكذا انحرفت في مفهوم ((الشرك)) كما عرفت أيضًا . وكما ستعرف إن شاء الله .

فحرفوا مصطلحات شرع الله تعالى ومفهومات دينه عز وجل فغيروها وبدلوها ؛ لتطابق عقائدهم الفاسدة ، ويبرروا ما يرتكبونه من الشرك بالله عز وجل ، بعبادة القبور وأهلها ، فقالوا :- في كل ما يسمى عبادة شرعًا -: إنه لا يكون عبادة إلا باعتقاد الربوبية في المعبود ؛ واعتقاد أنه مستقل بالنفع والضر ، ونافذ المشيئة بذاته لا محالة بدون حاجة إلى الغير .

وبناء على ذلك يرون : أن نداء الأموات * والاستغاثة بهم عند الكربات ، والنذر لهم ونحو ذلك من أنواع العبادات * والأفاعيل الشركيات * ليست من قبيل العبادة لغير الله سبحانه ؛ ولا من باب الإشراك

بالله تعالى .

وبذلك قد برروا جميع أنواع إشراكهم بالله عز وجل .

كما جوزوا ارتكاب عدة أنواع من العبادات لغير الله جل وعلا .

وبناء على ذلك أنكروا وجود الشرك في المنتسبين إلى الإسلام .

بل يعتقدون في القبورية الوثنية الصرحاء : أنهم مؤمنون موحدون أبرياء من الشرك .

ويحسن أن أسوق بعض نصوص القبورية المتعلقة بتعريفهم للعبادة ؛ ليعرف المسلمون مدى انحرافهم عن الحق وتحريفهم لمصطلحات الشرع وجهلهم بأعظم المعارف الدينية المهمة :

1 - قالوا : (إن مسمى العبادة شرعًا لا يدخل فيه شيء من التوسل والاستغاثة وغيرهما ؛ بل لا يشتبه بالعبادة أصلًا ؛ فإن كل ما يدل على التعظيم لا يكون من العبادة إلا إذا اقترن به اعتقاد الربوبية لذلك المعظم ؛ أو صفة من صفاتها الخاصة بها) .

2 - وقالوا : (إن الدعاء بمعنى النداء إن كان لمن لا يعتقده ربا فليس من العبادة في شيء ...؛ وإن كان لمن يعتقد ربوبيته أو استقلاله بالنفع والضر ، أو شفاعته عند الله بغير إذن الله ، فهو عبادة لذلك المدعو ؛ وقد يطلق الدعاء على العبادة . وقد علمت أن معناها : الخضوع التام لمن يعتقد فيه ربوبية أو خاصة من خواصها ) .

3 - وقالوا : (أي دليل بل أية شبهة فيها رائحة من دليل تجعل التوسل والاستغاثة بالعباد من جملة العبادات التي يكفر من فعلها ؛ مع ما علمت : من أن العبادة شرعًا لا تكون إلا ممن اعتقد الربوبية فيمن عظمه وخضع له ؛ والمسلمون بحمد الله بريئون من اعتقاد الربوبية بغير مولاهم عز وجل ) .

4 - 5 - وقال القضاعي أحد مشاهير أئمة القبورية (1376هـ) ؛ وتبعه ابن مرزوق ، واللفظ للأول والغين في أغراض شيخ الإسلام وأئمة السنة الأعلام .

(وإنما جر هذا المبتدع [ ابن تيمية !] ومن انخدع بأباطيله : أنه لم يحقق معنى ((العبادة)) شرعًا ...؛ فظن أن التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الصالحين ، والاستغاثة بهم .... ظن أن ذلك وما إليه من الشرك المخرج عن الملة . ومن رافقه التوفيق ، وفارقه الخذلان ، ونظر في المسألة نظر الباحث المنصف ، علم يقينًا لا تخالطه ريبة : أن مسمى ((العبادة)) شرعًا لا يدخل فيه شيء مما عده [ ابن تيمية ] من توسل واستغاثة وغيرهما ؛ بل لا يشتبه بالعبادة أصلًا ؛ فإن كل ما يدل على التعظيم لا يكون من ((العبادة))

إلا إذا اقترن به اعتقاد الربوبية لذلك المعظم ، أو صفة من صفاتها الخاصة بها ....) .

6 - وقالا : ( ولا يكون به [أي بالسجود لغير الله] كافرًا إلا إذا قارنه اعتقاد الربوبية للمسجود له) .

7 - وقال القضاعي :

(والمشركون إنما كفروا بسجودهم لأصنامهم ونحوه لاعتقادهم فيها الاستقلال بالنفع والضر ونفوذ المشيئة لا محالة مع الله) .

8 - ثم القبورية قد صرحوا بحصر العبادة في بعض أمور الإسلام ، حسب ما جاء في حديث جبريل الذي فيه تعليم لأركان الإسلام والإيمان ، كل ذلك لإخراج عبادة القبور وأهلها كالاستغاثة والنذور ونحوها من تعريف العبادة ، ليبرروا أعمالهم الوثنية .

9 - وقالوا في معنى العبادة :

(لا يخفى أن العبادة كما هو الظاهر من لفظها : هي الطرق المخصوصة لخضوع العبد لمن يعتقده إلهًا ؛ وكذلك خضوع المملوك لمالكه والولد لوالده والتلميذ لأستاذه والجاهل للعالم لا يسمى عبادة .

ولكن خضوع المجوسية للنار والوثنية للأصنام والثنوية للشمس عبادة عند

سائر أهل العرف ....، وإذا علم أن كل خضوع وتعظيم ليس بعبادة بل العبادة هو الخضوع مع اعتقاد الألوهية [يعني الربوبية] ؛ فنقول : إن المسلمين الذين يزورون قبور الأنبياء والصالحين ويعظمونها ويقبلونها ويطوفون حولها ويتمسحون بها لا يخطر ببال أحد منهم أن هؤلاء الأنبياء والصالحين أو قبورهم آلهة يجب عبادتهم ، أو شركاء لله سبحانه ، أو أرباب من دون الله ، بل يجدون من نفوسهم يقينًا لا مزيد عليه أنهم عباد مكرمون أطاعوا أحكامه وامتثلوا أوامره وبذلوا في سبيله وإعلاء كلمته نفوسهم وأموالهم ، فأكرمهم بجنته وأعزهم بجوار قدسه فلذلك هم مستحقون منا بالتعظيم ومستأهلون للخضوع لهم والاستكانة ، فهذا التعظيم في الحقيقة راجع إلى الله وهو عين التوحيد والاستسلام لعزة الله . وكذلك دعاؤهم ليس دعاءهم بالذوات بأن يحسبوا كافيين في قضاء الحاجة وإنجاح المأمول ، بل لما علمنا أن لهم جاهًا ومنزلة عند الله عز وجل بسبب طاعتهم وعبادتهم له واتباع سننه والجهاد في سبيله ، فنسألهم أن يدعو الله لنا فيقضي الله حاجاتنا بواسطة دعائهم لنا ...، وليس في ذلك من الكفر والشرك شيء) .

10 - وقالوا - هاذين في أئمة السنة وأعلام هذه الأمة - على طريقة ((رمتني بدائها وانسلت)) :

(فمن أراد الله موالاته وسعادته ووقاه شر أولئك المبتدعة ، وحفظه من الوقوع في شرائكهم وحبالهم ، وبصره بما يحفظ عليه دينه ، ووجهه وأرشده إلى كشف النقاب عن كل وصف مناقض للعبودية ، مخالف للتوحيد والتفرد بالوحدانية ؛ وإذا لاحظته عناية الله ولازمه التوفيق الرباني جعله لا

يفهم من معنى ((العبادة)) شرعًا إلا أنها الإتيان بأقصى الخضوع قلبًا باعتقاد الربوبية في المخضوع له أو قالبا مع ذلك الاعتقاد ؛ و ((أو)) هنا بمعنى ((الواو)) ؛ فإذا انتفى ذلك الاعتقاد ، ثم لم يكن ما أتى به من الخضوع الظاهر عبادة شرعًا . ومثل اعتقاد الربوبية اعتقاد خصيصة من خصائصها ؛ كالاستقلال بالنفع والضر ، ونفوذ المشيئة لا محالة ، ولو كان عن طريق الشفاعة لعابد عند ذلك الرب الذي هو أكبر من ذلك المعبود . وإنما كفر المشركون وخرجوا عن الحنيفية بسجودهم لأصنامهم وأوثانهم ؛ لاعتقادهم ربوبية ما خضعوا له ، واستقلالهم بالنفع والضر ، ونفوذ المشيئة مع الله تعالى . فالتكريم والخضوع لأولياء الله الصالحين مجردا عن الاعتقاد المذكور لا يعتبر عبادة شرعًا .....) .

11 - قلت : بل وصلت القبورية إلى حد قالوا في كل ما يرتكبونه من الشرك البواح وعبادة القبور وأهلها :

- إنه ليس من الشرك ، بل من باب التوحيد .....

- وليس من قبيل عبادة غير الله ، بل هو من عبادة الله تعالى ....

- وإن كل ذلك مما أمر به الشارع ، وإنه من سنن الأنبياء والمرسلين ، وطريقة العلماء العاملين ، ومسلك الأولياء المقربين .

12 - ومع هذا الجهل المركب المطبق المحيط بالقبورية لمعنى العبادة كجهلهم بمعنى التوحيد ومفهوم الشرك ، ترى القبورية - من باب

رمتني بدائها وانسلت - يقدحون في أئمة التوحيد والسنة ، والنحارير الجهابذة في هذه الأمة أمثال شيخ الإسلام ومحمد بن عبد الوهاب الإمام ، ويسفهون أحلامهم ، ويرمونهم بالجهل بمعاني العبادة والتوحيد والشرك :

قال القضاعي أحد كبراء أئمة القبورية (1376هـ) ، وتبعه ابن مرزوق أحد المجاهيل القبورية :

(وإنما جرى هذا المبتدع [يعني شيخ الإسلام] ومن انخدع بأباطيله هذه أنه لم يحقق معنى العبادة شرعًا .....، فظن أن التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الصالحين والاستغاثة بهم مع استقرار القلب على أنهم أسباب لا استقلال لهم بنفع أو ضر ، وليس لهم من الربوبية شيء ، ولكن الله جعلهم مفاتيح لخيره ومنابع لبره وسحبًا يمطر منها على عباده أنواع خيره ، ظن \ ابن تيمية \ أن ذلك وما إليه من الشرك المخرج عن الملة) .

13 - وقال أيضًا :

(وقول هؤلاء المغرورين \ يعني أهل التوحيد والسنة \ : إن الكافرين الذين بعثت لهم الرسل كانوا قائلين بتوحيد الربوبية وأن آلهتهم لا تستقل بنفع ولا ضر ، وإنما كان شركهم بتعظيمهم لغير الله بالسجود له والاستغاثة به والنداء له والنذر والذبح له - إنما هو قول من لم يعرف التوحيد ولا الشرك ولا المعقول ولا المنقول في كتاب الله وسنة رسوله ولا ألم بتاريخ الأمم قبل البعثة) .

14 - والقبورية - بناء على تعريفهم الفاسد للعبادة - شنوا الغارة على أئمة السنة أعلام هذه الأمة ، بكلام بذيء فاحش شأن من لا حياء له من

العباد ومن رب العباد ، حتى قالوا جهارًا دون إسرار في تعريف شيخ الإسلام للعبادة :

(وقوله [أي شيخ الإسلام] : ((العبادة : هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والزاهرة)) : هراء ليس بتعريف للعبادة) .

قلت :

الحاصل أن تعريف العبادة عند القبورية كما تبين من نصوصهم هو : غاية الخضوع لمن يعتقد فيه الربوبية والاستقلال بالنفع والضر ، ونفوذ المشيئة لا محالة بقدرته الذاتية بدون الحاجة إلى غيره .

وبعد أن عرفنا تعريف العبادة عند القبورية ، ننتقل إلى المبحث الثاني لنعرف تعريف العبادة عند علماء الحنفية وردودهم على القبورية لإبطال تعريفهم العبادة ، وبالله التوفيق .

*****

المبحث الثاني

في جهود علماء الحنفية لإبطال تعريف القبورية للعبادة

وتحقيق التعريف الصحيح للعبادة

وفيه ثلاثة مطالب :

- المطلب الأول : رد علماء الحنفية على تعريف القبورية للعبادة .

- المطلب الثاني : في تعريف العبادة لغة عند الحنفية .

- المطلب الثالث : في تعريف العبادة اصطلاحا عند الحنفية .

المطلب الأول

في إبطال علماء الحنفية تعريف القبورية للعبادة

لقد تصدى علماء الحنفية للرد على القبورية ؛ فأبطلوا تعريف القبورية للعبادة ؛ وحكموا عليهم بالجهل بحقيقة العبادة ؛ وبينوا : أن القبورية في حصرهم للعبادة في بعض الأعمال الإسلامية الظاهرة وبعض الإيمانيات الباطنة على باطل محض ؛ لأنهم قد قصروا في تعريف العبادة ؛ حيث جعلوها مقصورة في بعض أنواعها . فتعريفهم للعبادة تعريف باطل مزيف ؛ لأنه غير جامع لأفرادها .

بل تعريفهم للعبادة لا يصدق على عبادات المشركين لآلهتهم ؛ لأنهم لم يكونوا يعتقدون فيها أنها خالقة ، رازقة ، مالكة ، أرباب للكون ، متصرفة في الخلق ، مستقلة بالنفع والضر ؛ نافذة المشيئة لا محالة بدون إذن من الله تعالى ، وحاجة إليه ؛ كما يزعم القبورية .

بل كانوا يعبدون آلهتهم : بالنذر لهم ، والاستغاثة بها ، والاستشفاع بها ؛ على أساس أنهم عباد مقربون يشفعون لهم عند الله تعالى .

إذن تعريف الحنفية للعبادة لا يصدق على عبادات المشركين

لآلهتهم ؛ لأن القبورية يشترطون في العبادة : أنها غاية التعظيم لمن يعتقد فيه الربوبية والاستقلال بالنفع والضر ، ونفوذ المشيئة لا محالة والقدرة الذاتية بدون الحاجة إلى الله .

فالمشركون السابقون إذن ليسوا بمشركين عند هؤلاء القبورية ؛ وليسوا عابدين لغير الله تعالى ؛ لأنهم إنما عبدوا الصالحين على أساس الشفاعة ، لا على أساس الربوبية والاستقلال بالنفع والضر ، ونفوذ المشيئة .

فلو كان تعريف القبورية للعبادة صحيحًا - لزم منه كون المشركين غير مشركين ، وغير عابدين لغير الله ؛ لكن التالي باطل ، فالمقدم مثله .

أما وجه بطلان التالي فظاهر ؛ لأن القبورية أيضًا يسلمون أن المشركين السابقين كانوا مشركين بلا ريب ، وأنهم عباد غير الله بلا امتراء ؛ وإذا ثبت بطلان التالي - حتى بشهادة الخصوم واعترافهم - ظهر بطلان المقدم ؛ وهو أن تعريف القبورية للعبادة تعريف باطل مزيف فاسد غير جامع لأفراده ؛ بل غير صادق على شيء من أفراده .

هذا تقرير هذا البرهان على طريقة القياس الاستثنائي

الرفعي .

وأما تقريره على طريقة القياس الاستثنائي الوضعي فهو أن يقال :

لو كان المشركون الأولون مشركين بالله وعابدين لغير الله ؛ لزم منه أن يكون تعريف القبورية للعبادة باطلًا مزيفًا غير جامع لأفرادها ؛ بل غير صادق على شيء من العبادات .

لكن المقدم حق ؛ لأن المشركين السابقين مشركون حتى باعتراف القبورية ، وعابدون لغير الله حتى بشهادة القبورية ؛ فالتالي مثله ؛ وهو بطلان تعريف القبورية ، وكونه غير جامع لأفراده ؛ بل كونه غير صادق على شيء من العبادات .

لأن القبورية يشترطون في تحقيق العبادة شروطًا لم تتوفر في عبادة المشركين السابقين لآلهتهم ، مع كونهم مشركين وعابدين لغير الله - حتى باعترافهم وشهادتهم - .

قلت :

هذا الذي ذكرت هو خلاصة رد علماء الحنفية على تعريف القبورية للعبادة وهذا هو تقرير ردهم عليهم .

ولتنوير المقام أود أن أسوق بعض نصوص علماء الحنفية لتكون شاهدة لما ذكرت ؛ فإليكم بعضها :

1 - قال العلامة محمود شكري الآلوسي (1342هـ) مبينًا جهل القبورية بحقيقة العبادة ولا سيما جهالة ابن جرجيس أحد أئمتهم (1299هـ) مبطلًا تلك الشروط التي اشترطوها في مفهوم العبادة ؛ ومحققًا أن العبادة أوسع مما ذكروه وقصروه في بعض الأعمال الظاهرة والباطنة :

(وبعضهم [أي بعض المشركين] أحذق من هذا العراقي وأمثاله الذين لم يفهموا من العبادة سوى الركوع والسجود ، ولم يجدوا في معلومهم سواه . فأين الحب ، والخضوع ، والتوكل ، والإنابة ، والخوف ، والرجاء ، والرغب ، والرهب ، والطاعة ، والتقوى ؛ ونحو ذلك من أنواع العبادة الباطنية والظاهرة ؟ فكل هذا عند العراقي - \ ابن جرجيس \ - يصرف لغير الله ولا يكون عبادة ؛ لأن العبادة ما فسرها هو به فقط . بل عبارته في عدة مواضع تفهم : أن السجود لا يحرم إلا على زعم الاستقلال . وقد رأينا كثيرًا من المشركين ، ولم نر مثل هذا الرجل في جهله ومجازفته وبلادته) .

2 - وقال رحمه الله أيضًا محققًا أن المشركين الأوائل إنما كان إشراكهم : التسبب والتشفع في آلهتهم ، دون عقيدة الاستقلال ؛ فهم غير مشركين بناء على تعريف القبورية لعبادة :

(ومن بلغت به الجهالة والعماية إلى هذه الغاية فقد استحكم على قلبه الضلال والفساد * ولم يعرف ما دعت إليه الرسل سائر الأمم والعباد * ؛

ومن له أدنى نهمة في العلم ، والتفات إلى ما جاءت به الرسل يعرف : أن المشركين من كل أمة في كل قرن ما قصدوا من معبوداتهم ، وآلهتهم التي عبدوها مع الله تعالى إلا التسبب ، والتوسل ، والتشفع ؛ ولم يدعوا الاستقلال ، والتصرف لأحد من دون الله ، ولا قاله أحد منهم ، سوى فرعون ، والذي حاج إبراهيم في ربه ؛ وقد قال تعالى : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } [ النمل : 14] . فهم في الباطن يعلمون أن ذلك لله وحده .

قال تعالى في بيان قصدهم ومرادهم : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } الآية [ يونس : 18] .

وقال تعالى : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [ الزمر : 3] ) .

3 - ثم ذكر رحمه الله عدة آيات في أن عبادة المشركين لآلهتهم إنما كانت على أساس الشفاعة ؛ لا على أساس الاستقلال ، ثم قال :

(فأخبر تعالى : أنهم تعلقوا على آلهتهم ودعوهم مع الله للشفاعة والتقريب إلى الله بالجاه والمنزلة ،... ولم يريدوا منهم تدبيرًا ، ولا تأثيرًا ، ولا شركة ، ولا استقلالًا ؛ يوضحه قوله تعالى : { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ } [يونس : 31 ] ) .

4 - ثم ذكر رحمه الله عدة آيات في اعترافهم بتوحيد الربوبية والخالقية والمالكية ؛ ثم قال :

(فتأمل هذه الآيات وما فيها من الحجج والبينات تطلعك على جهل هذا العراقي وأمثاله ؛ وأنهم ما عرفوا شرك المشركين * وما كانوا عليه من القصد والدين * ولم يعرفوا ما كان عليه أنبياء الله وأتباعهم من توحيد رب العالمين* ) .

5 - ثم ذكر رحمه الله كلامًا مهما في تحقيق أن الله تعالى جعل توحيد الربوبية دليلًا على توحيد الألوهية ، وأنه سبحانه احتج على المشركين باعترافهم بتوحيد الربوبية ليعترفوا بتوحيد الألوهية .

6 - ثم قال : (فسبحان من جعل كلامه في أعلى طبقات البلاغة ، والفصاحة ، والجلالة ، والفخامة ، والدلالة ، والظهور ؛ فأي شبهة بعد هذا تبقى للمماحل المغرور ؟) .

7 - وقال رحمه الله تعالى أيضًا مبينًا أن تعريف القبورية للعبادة يستلزم أن لا يكون المشركون الأولون مشركين ؛ لأن تعريفهم هذا لا يصدق على عبادة المشركين لآلهتهم ؛ لأنهم لم يعتقدوا فيهم القدرة الذاتية والاستقلال بالنفع والضر :

(وهذا الأحمق زاد في غير موضع من كتابه قيدًا فقال : ((لا يشرك إلا من قصد واعتقد الاستقلال من دون الله)) .

مع أن في تلبية المشركين في الجاهلية : ((لبيك لا شريك لك إلا

شريكًا هو لك تملكه وما ملك)) .

فهؤلاء لم يدعوا الاستقلال ؛ وعلى زعم هذا [ العراقي وأمثاله] فليسوا بمشركين .

وأما قوله : ((إن نداء الصالحين ليس بعبادة )) : فهو من أدل الأشياء على جهله وعدم ممارسته لشيء من العلم وإن قل ....) .

8 - وقال رحمه الله مبينًا جهل القبورية بحقيقة العبادة وحقيقة شرك المشركين وحقيقة التوحيد ، وأن خبطهم في هذه المعارف جعلهم يعبدون غير الله ويشركون وهم لا يشعرون :

(إنه [أي العراقي ابن جرجيس ] لم يفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية ، فلذا خبط خبط عشواء ؛ وإذا بسطنا ذلك يتبين فساد قوله وبطلانه ؛ حتى لصغار المتعلمين ؛ فنقول ، وبالله التوفيق * وبيده أزمة التحقيق * : توحيد الربوبية هو الذي أقرت به الكفار جميعهم) .

9 - ثم أقام عليه عدة آيات ، ثم قال :

(وأما توحيد الألوهية فهو إفراد العبادة لله الواحد الصمد ...، وإذا علمت هذا تبين لك أن المعركة بين أهل التوحيد والمشركين في الألوهية فقط ...؛ وجميع الرسل من أولهم إلى آخرهم دعوا إلى توحيد الله وعبادته . وقد رد الله سبحانه على من خالف هذا الأصل * ، وحكم على الوصل بحكم الفصل * ، وهم المشركون الذين وحدوه بالربوبية * وأشركوا به في الألوهية *

10 - ...؛ والحكم باتحاد التوحيدين نشأ من جهل هذا العراقي لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ...؛ ولربما اعتقد أن أفعال إخوانه ومن على

شاكلته ليس شركًا في الألوهية ، ولا عبادة لغير الله بناء على زعمهم : أنهم مصدقون بالرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله تعالى .

فيقال له : لا يفيد ذلك الزعم الكاذب مع إظهار الأعمال الشركية الدالة على عقيدة الشرك ، وما يصادم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك كمن يقول : إني مصدق بما ذكر . ثم شد الزنار . وإن تصلف هذا العراقي وادعى : أن أفعال إخوانه عبدة القبور لا تشبه أفعال المشركين ؛ فتلك عبادة ، وأفعال إخوانه ليست عبادة !؟ يقال له : إنك لم تفهم معنى العبادة ....) .

وقال رحمه الله رادا على ابن جرجيس حصره للعبادة في عدة أمور مبينًا جهله للعبادة :

(والجواب أن كلامه هذا نشأ عن جهل باللغة والشرع ، وما جاءت به الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم ...؛ وهذا الغبي لم يعرف من أفراد العبادة غير الركوع والسجود والذبح والتقرب ؛ مع أن دعاء المسألة من أفضل أنواعها وأجلها ...) .

11 - وقال الشيخ الرستمي بعد أن ذكر تعريف العبادة وأنواعها وأمثلة لها مبينًا جهل القبورية بحقيقة العبادة - محققًا أن تعريف القبورية للعبادة أمر ذهني لا حقيقة له في الخارج ؛ لأنه لا يصدق على شيء من أفراد

العبادة :

(فالأسف كل الأسف على حال من يسجد للقبور ويركع ويعين في الأنعام والحرث نذرًا لأهل القبور حصة معينة ، ويقطع مسافة طويلة لزيارة القبر كالحج ؛ مع أنه يقول في صلاته : ((إياك نعبد)) ؛ فما بال هؤلاء الجهلة !؟ ؛ أي معنى للعبادة عندهم ؟!؟ ؛ هل للعبادة مصداق عندهم في الخارج أم لا ؟!؟ . فهذا حال من لم يعرف حق الله وحق العباد ولم يميز بينها ....) .

12 - وقد حقق جمع من علماء الحنفية الذين لهم علم بتاريخ الوثنية وعقائد المشركين السابقين ، وصرحوا : أن عبادة المشركين لآلهتهم لم تكن باعتقاد الخالقية والرازقية والمالكية والربوبية والقدرة الذاتية والاستقلال بالنفع والضر والتصرف في الكون . وإنما كانت عبادتهم لآلهتهم بندائهم عند الكربات * والاستغاثة بهم عند إلمام الملمات والبليات * والتوجه إليهم بالنذور ونحوها لدفع المضرات وجلب الخيرات * والتوسل بهم والتشفع بهم إلى خالق البريات * لاعتقادهم أنهم عباد صالحون معظمون ذوو مكانة عند رب الكائنات * .

الحاصل :

لقد حصل لنا من نصوص علماء الحنفية التي ذكرتها في الرد على

تعريف القبورية للعبادة أحد عشر أمرًا :

الأول : جهل القبورية بحقيقة الشرك .

الثاني : جهلهم بتاريخ الوثنية وعقائد المشركين .

الثالث : جهلهم بحقيقة التوحيد .

الرابع : جهلهم بحقيقة العبادة .

الخامس : بطلان تعريفهم للعبادة ، وأنه تعريف مزيف فاسد ، غير جامع لكثير من أنواع العبادة ؛ بل غير صادق على شيء من العبادة .

السادس : أن تعريفهم للعبادة لا يشمل عبادة المشركين لآلهتهم .

السابع : حصرهم للعبادة في بعض الأعمال الظاهرة والباطنة .

الثامن : أنه يلزم من تعريفهم للعبادة : أن يكون المشركون غير مشركين .

التاسع : أنه يلزم من تعريفهم للعبادة : أن المشركين غير عابدين لغير الله .

العاشر : ارتكاب القبورية أنواعًا من الشرك الأكبر وعبادتهم للقبور وأهلها بأنواع من العبادة تحت ستار التوسل والتشفع والولاية والكرامة وتعظيم الأولياء .

الحادي عشر : رميهم أئمة السنة وأعلام هذه الأمة بدائهم من الجهل بحقيقة التوحيد والعبادة والشرك ؛ وعدم الإلمام بتاريخ الوثنية ، وعدم معرفة عقائد المشركين .

وبهذه المناسبة أحب أن أنشد فيهم ما قيل :

فحسبكم هذا التفاوت بيننا ... وكل إناء بالذي فيه ينضح

وأقول بالنسبة إلى جهلهم المطبق المحيط بهم ورميهم أئمة الهدى

بأدوائهم :

أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم ... من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا

وبعد أن عرفنا بطلان تعريف القبورية للعبادة ، ننتقل إلى تحقيق تعريف العبادة لغة واصطلاحًا عند علماء الحنفية .

***

المطلب الثاني

في تعريف العبادة لغة

لعلماء اللغة من الحنفية كلام طويل في معنى ((العبادة)) لغة ، حاصلها ما يلي :

((العبادة)) من مادة ((ع ب د)) . وهذه المادة إذا كانت على وزن ((نصر ينصر)) ، فلها خمسة معان:

(1) الخضوع .

(2) الذلة .

(3) الطاعة .

(4) المملوكية .

(5) التنسك .

وأما إذا كانت من باب ((فرح يفرح)) ، فلها ستة معان :

(1) الغضب والكراهة والأنفة .

(2) الندامة والملامة .

(3) الحرص .

(4) الإنكار .

(5) القوة .

(6) البقاء .

فهذا أحد عشر معنى لمادة ((ع ب د)) من الناحية اللغوية . وإليكم توثيقها :

1 - 2 - أما المعنيان : الأول ، والثاني : فقد قال الزمخشري (538هـ) : (وطريق وبعير معبد : مذلل ، وتقول : لا يجعلني كالبعير المعبد ، والأسير المعبد) .

وقال : (العبادة : أقصى غاية الخضوع والتذلل) .

وقال أبو بكر الرازي (666هـ) : (وأصل العبودية : الخضوع والذل ، والتعبيد : التذلل ؛ يقال : طريق معبد . والتعبيد أيضًا : الاستعباد ، وهو اتخاذ الشخص عبدًا ، وكذا الاعتباد ....، وكذا الإعباد ، والتعبد أيضًا ؛ يقال : تعبده : أي اتخذه عبدًا ) .

وقال الزبيدي (1205هـ) :( ......، أصل العبودية : الذل والخضوع ....؛ يقال : بعير معبد : أي مذلل ، وطريق معبد : أي مسلوك مذلل .....؛ والمعبد : البعير المهنوء بالقطران ؛ قال طرفة :

إلى أن تحامتني العشيرة كلها ... وأفردت إفراد البعير المعبد...) .

3 - وأما المعنى الثالث - وهو الطاعة - : فقد ذكره كثير من الحنفية .

4 - وأما المعنى الرابع - وهو المملوكية - : فقد قال الزمخشري (538هـ) : (أعبدني فلان : ملكنيه) .

وقال أبو بكر الرازي (666هـ) : (والعبد المملوك خلاف الحر) .

وقال الزبيدي (1205هـ) : (أعبدني فلان فلانًا : أي ملكني إياه ....) .

5 - وأما المعنى الخامس - وهو التعبد - : فقد قال الزمخشري (538هـ) ، والرازي (666هـ) ، واللفظ للأول : (وتعبد فلان : تنسك ) .

وقال الزبيدي (1205هـ) : (وتعبد : تنسك . وقعد في متعبده : أي موضع نسكه) .

6 - وأما المعنى السادس - وهو الغضب والكراهة والأنفة - : فقد قال الزمخشري (538هـ) :

(وعبد في أنفه ((عبدة)) : أي أنفة شديدة) .

وقال : (و ((عبد)) ، وأبد ، ورمد ، وعمد ، وضمد ، كلها بمعنى ((غضب)) ) .

وقال الرازي (666هـ) ، والزبيدي (1205هـ) ، واللفظ للأول :( و ((عبد)) من باب ((طرب)) : أي غضب وأنف ، والاسم العبدة ؛ قال الفرزدق : وأعبد أن أهجو كليبًا بدارم ... ... )

وعلى هذا المعنى فسر قوله تعالى { قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } [الزخرف : 81 ] . أي : فأنا أول الآنفين المستنكفين من أن يكون له ولد .

7 - 11 - وأما المعاني : السابع إلى الحادي عشر : وهي : الندامة ، والملامة ، والحرص ، والإنكار ، والقوة ، والبقاء : فقد ذكرها الزبيدي (1205هـ) ، وغيره .

ولمادة (ع ب د) معان أخرى أيضًا ؛ قال الصاغاني (650هـ) :

العبد : نبات طيب الرائحة ، تكلف به الإبل؛ لأنه ملبنة مسمنة .

والمعبدة : العبيد ؛ كالمشيخة : جمع الشيخ . والمسيفة : جمع السيف .

والعبدة : صلاءة الطيب .

والعبد ، ككتف : جرب لا ينفعه دواء .

والعبادية : الإكام .

وأم عبيد : الفلاة .

والعبيد : ابن الفلاة .

هذه معاني مادة ((ع ب د)) من الناحية اللغوية .

وأما معنى ((العبادة)) اصطلاحًا شرعيا فأذكرها عن الحنفية في المطلب الآتي إن شاء الله تعالى .

****

المطلب الثالث

في تعريف العبادة اصطلاحا وشرعًا عند علماء الحنفية

لقد ذكر علماء الحنفية عدة تعريفات للعبادة ؛ وكلها صحيحة جامعة مانعة .

وهي ترد على تعريف القبورية للعبادة ردا باتا .

وأذكر من تلك التعريفات ما يلي :

التعريف الأول : هو أن العبادة : (فعل المكلف على خلاف هوى نفسه تعظيمًا لربه) .

التعريف الثاني : هو أن العبادة : (فعل ما يرضي الرب) .

قلت : المناسبة بين هذين التعريفين وبين المعاني اللغوية للعبادة : هي الذل والخضوع والتنسك .

التعريف الثالث : هو أن العبادة : (تعظيم يقصد به الزلفى من الله تعالى والنجاة في الدار الآخرة) .

التعريف الرابع : هو أن العبادة : (نهاية التذلل لنهاية تعظيم الغير بالاختيار) .

قلت : المناسبة بين هذين التعريفين وبين المعاني اللغوية للعبادة واضحة .

التعريف الخامس : هو أن العبادة : (عبارة عن الاعتقاد والشعور بأن للمعبود سلطة غيبية في العلم والتصرف فوق الأسباب ، يقدر بها على النفع والضر ؛ فكل دعاء وثناء وتعظيم ينشأ من هذا الاعتقاد : فهو عبادة) .

وقد أثنى الحنفية على هذا التعريف بأنه جامع لأنواع من العبادة ؛ قال الشيخ الرستمي :

(وما أحسن ما قيل .....) ، ثم ذكر هذا التعريف ثم قال :

(وهذا التعريف جامع لجميع أفراد العبادات : من الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج ، والذكر ، والنذر ، والثناء ، والدعاء ، والعبادات : القولية ، والبدنية ، والمالية جميعًا ؛ فكل من يعبد عبادة ،

ويعتقد أن للمعبود علي . علمًا بجميع الحالات ، وتصرفًا في كل حال . فإن كان يعبد الله - فهو عبادة الله ، وإن كان يعبد لغير الله بهذا الاعتقاد - فهو شرك ، وعبادة غير الله تعالى) .

التعريف السادس : هو أن العبادة : (ما أمر به شرعًا من غير اقتضاء عقلي ، ولا اطراد عرفي) .

التعريف السابع : هو أن العبادة : (فعل ما أمر الله به ورسوله ، وترك ما نهى الله عنه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ابتغاء وجه الله والآخرة) .

قلت : وجه المناسبة بين هذين التعريفين وبين معاني العبادة اللغوية : الطاعة والتنسك .

قال العلامة محمود شكري الآلوسي (1342) هـ قبل أن يذكر هذين التعريفين ، مبينًا جهالة القبورية للعبادة ، مبطلًا حصرهم لها :

(والجواب أن يقال : إن كلامه [ ابن جرجيس ] هذا نشأ عن جهل باللغة والشرع وما جاءت به الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ....) .

ثم ذكر هذين التعريفين وتعريفًا آخر ، ثم قال :

(فدخل في هذه التعاريف والحدود جميع أنواع العبادات ، فلا يقصد بها غير الله ولا تصرف لسواه . وهذا الغبي لم يعرف من أفرادها غير الركوع والسجود والذبح والتقرب ؛ مع أن دعاء المسألة من أفضل أنواعها وأجلها) .

التعريف الثامن : هو أن العبادة : (اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه : من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة ؛ كالتوحيد ؛ فإنه عبادة في نفسه ، والصلاة ، والزكاة ، والحج ، وصيام رمضان ، والوضوء ، وصلة الأرحام ، وبر الوالدين ، والدعاء ، والذكر ، والقراءة ، وحب الله ، وخشية الله ، والإنابة إليه ، وإخلاص الدين له ، والصبر لحكمه ، والشكر لنعمه ، والرضاء بقضائه ، والتوكل عليه ، والرجاء لرحمته ، والخوف من عذابه ، والاستغاثة به ، وغير ذلك مما رضيه وأحبه ، فأمر به ، وتعبد الناس به) .

قلت : هذا التعريف أحسن التعريفات كلها لفظًا ومعنى ، وأشملها جمعًا ومنعًا ، وأدقها طردًا وعكسًا ، وأوضحها كلا وجزءًا ، وهو من كلام شيخ الإسلام .

التعريف التاسع : هو أن العبادة : (ضرب من الخضوع بالغ حد النهاية ، ناشئ عن استشعار القلوب عظمة المعبود) .

التعريف العاشر : هو أن العبادة : (عبارة عما يجمع كمال المحبة ، والخضوع ، والخوف ، والرجاء ، والطاعة) .

قلت : هذا التعريف فيه ميزة لا توجد في غيره من التعريفات ، وهي اشتماله على أركان العبادة .

التعريف الحادي عشر : هو أن العبادة : (فعل ما يرضى به الرب) .

التعريف الثاني عشر : هو أن العبادة : غاية حب العابد للمعبود ، مع ذل العابد لمعبوده .

أقول : إن هذه التعريفات التي ذكرتها عن الحنفية للعبادة حجة قاطعة على بطلان تعريف القبورية للعبادة ، وأن القبورية في اشتراط القيود التي ذكروها في مفهوم العبادة ؛ كالاستقلال بالنفع والضر ، والربوبية ، ونفوذ المشيئة ، ونحوها على باطل محض .

وأن تعريفهم للعبادة غير جامع لأفرادها ؛ بل غير صادق على شيء من العبادة ؛ فهو تعريف مزيف ذاهب أدراج الرياح ؛ بل قضي عليه فصار كأمس الدابر ؛ وأن تعريفات الحنفية للعبادة كلها صحيحة في نفسها ، وبعضها أولى وأوضح من بعضها ؛ وأنها جامعة لأفراد العبادة ، ومانعة عن دخول غيرها فيها .

وتبين من هذه التعريفات : أن القبورية بنذورهم وتوجههم إلى الأموات ، واستغاثتهم بهم عند الملمات - عباد القبور وأهلها مرتكبون للشركيات * .

وبذلك جاء الحق وزهق الباطل ، إن الباطل كان زهوقًا .

ألم تر أن الحق تلقاه أبلجا ... وأنك تلقى باطل القول لجلجا

وبعد أن عرفنا تعريف العبادة ننتقل إلى معرفة أركانها وأنواعها وشروط صحتها في المبحث الآتي عند علماء الحنفية ، وبالله التوفيق .

*****

المبحث الثالث

في أركان العبادة وأنواعها وشروط صحتها عند علماء الحنفية وردهم على القبورية في ذلك كله

وفيه مطالب ثلاثة :

- المطلب الأول : في أركان العبادة عند علماء الحنفية .

- المطلب الثاني : في أنواع العبادة عند علماء الحنفية .

- المطلب الثالث : في شروط صحة العبادة عند علماء الحنفية .

المطلب الأول

في أركان العبادة

لقد تبين من تعريفات علماء الحنفية للعبادة : أنها لا تتحقق إلا إذا تحققت أركانها .

وقد تبين أيضًا من تلك التعريفات أركان العبادة .

وتلك الأركان ثمانية ، وهي :

(1) غاية الذل والخضوع للمعبود .

(2) نهاية التعظيم للمعبود .

(3) كمال المحبة للمعبود .

(4) رضا المعبود .

(5) الطاعة المطلقة للمعبود .

(6) الخوف الكامل من المعبود .

(7) الرجاء التام من المعبود .

(8) اعتقاد أن للمعبود سلطة غيبية على العابد .

وقد صرح علماء الحنفية : أن هذه الأركان للعبادة إذا لم تتحقق لا تتحقق العبادة :

فالذل والتعظيم والمحبة والخوف والرجاء ، إذا كانت تحت الأسباب

العادية لا تدخل من باب العبادة ؛ كحب الوالدين مثلًا حبا طبيعيًا ؛ والخوف من الحاكم خوفًا طبيعيًا مثلًا ، ورجاء الناس بعضهم من بعض تحت الأسباب ، ونحو ذلك ليس من العبادة في شيء .

ثم الأركان الثلاثة منها أم الأركان ، وهي :

(1) الحب .

(2) والرجاء .

(3) والخوف .

ومن هذه الثلاثة تلتئم العبادة ؛ فإن تحققت هذه الثلاثة تحققت العبادة ، وإلا فلا :

فالحب وحده ليس عبادة ؛ لجواز أن يكون الشخص محبوبًا ، ولا يكون معبودًا ؛ لفقدان الخوف والرجاء ، أو أحدهما : كالولد ؛ فإنه محبوب وليس بمعبود .

وكذا الخوف وحده ليس عبادة ؛ لجواز أن يكون الشخص يخاف منه ، ولا يكون معبودًا ؛ لعدم تحقق المحبة والرجاء ، أو أحدهما ؛ كالحاكم مثلًا .

إلا إذا وصل أحد هذه الأركان إلى درجة تليق بالله ، كالحب مثلًا يكون عبادة إذا وصل إلى درجة حب الله لقوله تعالى : { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } [البقرة : 165] .

الحاصل : أنه لا تتحقق العبادة ما لم تجتمع هذه الأركان الثلاثة .

وقد جمع الله تعالى هذه الأركان الثلاثة في قوله : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا }

[الإسراء : 57] .

فقوله تعالى : { يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } : إشارة إلى ركنية ((المحبة)) .

وقوله تعالى : { وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ } : دليل على ركنية ((الرجاء)) .

وقوله تعالى : { وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } : دليل على ركنية ((الخوف)) .

فباجتماع هذه الأركان الثلاثة تتحقق ((العبادة)) .

فإن لم تتحقق هذه الأركان الثلاثة مجتمعة لم تتحقق ((العبادة)) أصلًا .

ولهذا فسر العلماء من الحنفية ((الإله)) بالمعبود ؛ فالإله هو الذي يأله القلوب بكمال الحب ، والتعظيم ، والإجلال ، والإكرام ، والخوف ، والرجاء .

قلت :

هذه الأركان الثلاثة هي الأمهات ، وأما بقية الأركان فداخلة فيها .

وقد صرح علماء الحنفية بعد تعريفهم للعبادة وذكر أركانها بأن القبورية في استغاثتهم بالأموات * وندائهم عند إلمام الكربات * وقولهم : يا علي ، يا حسين ، يا خواجة ، يا غوث ، يا مرشد ، يا شيخ ، ومثل ذلك عند نزول الملمات * ورجائهم وخوفهم من الأولياء الأموات * والطواف حول قبورهم لإنجاح الحاجات *

كل ذلك عبادات من أعظم أنواع العبادات * فهم بعبادتهم هذه للأموات * أهل إشراك برب البريات * .

تنبيه مهم :

لقد تبين من نصوص علماء الحنفية أن الرجاء والخوف من أركان العبادة ، فدل هذا على أن الصوفية الذين يقولون : ((لا مقصود إلا الله)) ، ويزعمون أنهم لا يعبدون الله رجاء الجنة وخوفًا من النار على ضلال مبين ، وأنهم لم يعبدوا الله تعالى لخلو أعمالهم من الخوف والرجاء .

قلت :

هذه كانت أركان العبادة ، ذكرتها عن علماء الحنفية ، وبعد أن عرفناها ننتقل إلى معرفة أنواع العبادة عند علماء الحنفية * والله المستعان على القبورية * .

*****

المطلب الثاني

في أنواع العبادة

لقد تبين من تعريفات علماء الحنفية للعبادة : أن العبادة أمر شامل لجميع الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة الإسلامية ؛ غير محصورة في بعض الأقوال والأفعال ، كما قال القبورية ؛ فإنهم قد حصروا العبادة في بعض ذلك ، كما سبق نقل مقالتهم .

وتبين أيضًا من أركان العبادة التي ذكرتها عن الحنفية : أن العبادة غير محصورة في بعض الأمور .

ولذا صرح علماء الحنفية ردا على القبورية وإبطالًا لحصرهم : بأن العبادة غير محصورة في بعض الأقوال والأفعال : من الركوع والسجود والصلاة والزكاة ونحوها كما زعم القبورية .

وقد صرح العلامة محمود شكري الآلوسي بأن حديث جبريل في بيان أركان الإسلام والإيمان لا يدل على حصر العبادة في بعض الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ، فلا مستند للقبورية في هذا الحديث على حصر

العبادة .

الحاصل : أن الحنفية قالوا : إن العبادة لها جزئيات كثيرة غير محصورة في بعض الأمور .

ولكنها تندرج تحت أنواع ثلاثة :

الأول : العبادة القولية .

الثاني : العبادة البدنية .

الثالث : العبادة المالية .

قلت : وقد تكون العبادة مركبة من هذه الأنواع الثلاثة ؛ كالحج .

وهناك نوع رابع أيضًا : وهو العبادة الاعتقادية .

وأقول : إن هذه الأنواع الثلاثة تحتها أنواع كثيرة من العبادات ذكرها علماء الحنفية .

أذكر منها على سبيل المثال ما يلي :

1 - دعاء المسألة : وهو من أفضل العبادة وأجلها ، ومخها ، بل هو العبادة .

فاستغاثة القبورية عند إلمام الملمات بالأموات إشراك برب البريات * إذ هو عبادة لغير الله سبحانه وعبادة غير الله من أعظم الشركيات * .

2 - 13 - قال العلامة محمود شكري الآلوسي (1342هـ) مبينًا جهل القبورية بالعبادة ، ذاكرًا بعض أنواعها :

(وبعضهم أحذق من هذا العراقي وأمثاله الذين لم يفهموا من العبادة سوى الركوع والسجود ، ولم يجدوا في معلومهم سواه . فأين الحب ، والخضوع ، والتوكل ، والإنابة ، والخوف ، والرجاء ، والرغب ، والرهب ، والطاعة ، والتقوى ، ونحو ذلك من أنواع العبادة الباطنية والظاهرة ؛ فكل هذا عند العراقي يصرف لغير الله ، ولا يكون عبادة ؛ لأن العبادة ما فسرها هو به فقط ؛ بل عبارته في عدة مواضع تفهم : أن السجود لا يحرم إلا على من زعم الاستقلال . وقد رأينا كثيرًا من المشركين ، ولم نر مثل هذا الرجل في جهله ومجازفته وبلادته) .

14 - 31 - وقال رحمه الله - وتبعه الشيخ الرستمي - كاشفًا عن جهل القبورية بالعبادة مبينًا بعض أنواع العبادة الأخرى :

(وإن تصلف هذا العراقي وادعى أن أعمال إخوانه عبدة القبور لا تشبه أفعال المشركين ؛ فتلك عبادة وأفعال إخوانه ليست بعبادة ؟!؟ ؛ يقال له : إنك لم تفهم معنى العبادة ؛ وهي على ما سبق : اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه ؛ من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة : كالتوحيد ؛ فإنه عبادة في نفسه ، والصلاة ، والزكاة ، والحج ، وصيام رمضان ، والوضوء ، وصلة الأرحام ، وبر الوالدين ، والدعاء ، والذكر ، والقراءة ، وحب الله ، وخشية الله ، والإنابة إليه ، وإخلاص الدين له ، والصبر لحكمه ، والشكر لنعمه ، والرضى بقضائه ، والتوكل عليه ، والرجاء لرحمته ، والخوف من

عذابه ، والاستغاثة به ؛ وغير ذلك مما رضيه وأحبه ، فأمر به وتعبد الناس به) .

32 - 38 - وقال العلامة محمود شكري الآلوسي (1342هـ) ، والشيخ الرستمي ، واللفظ للثاني :

(وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله (1206هـ) :

((أنواع العبادة التي أمر الله بها : مثل الإسلام ، والإيمان ، والإحسان ، ومنه الدعاء ، والخوف ، والرجاء ، والتوكل ، والرغبة ، والرهبة ، والخشوع ، والخشية ، والإنابة ، [والاستعانة] ، والاستعاذة ، والاستغاثة ، والذبح ، والنذر ، وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله تعالى بها كلها لله تعالى)) كشف الشبهات ص5) .

39 - 46 - ونقل الشيخ الرستمي عن الإمام ابن القيم رحمه الله (751هـ) قوله في أنواع العبادة التي هي من حقوق الله التي لا يجوز صرفها لغيره سبحانه :

الرب رب والرسول فعبده ... حقا وليس لنا إله ثان

لله حق لا يكون لغيره ... ولعبده حق هما حقان

لا تجعلوا الحقين حقا واحدا ... من غير تمييز ولا فرقان

فالحج للرحمن دون رسوله ... وكذا الصلاة وذبح ذا القربان

وكذا السجود ونذرنا ويميننا ... وكذا متاب العبد من عصيان

وكذا التوكل والإنابة والتقى ... وكذا الرجاء وخشية الرحمن

وكذا العبادة واستغاثتنا به ... إياك نعبد ذان توحيدان

وعليهما قام الوجود بأسره ... دنيا وأخرى حبذا الركنان

وكذلك التسبيح والتكبير وال ... تهليل حق إلهنا الديان

لكنما التعزير والتوقير حق ... ق للرسول بمقتضى القرآن

والحب والإيمان والتصديق لا ... يختص بل حقان مشتركان

هذي تفاصيل الحقوق ثلاثة ... لا تجهلوها يا أولي العدوان

فالأسف كل الأسف على حال من يسجد للقبور ويركع ، ويعين في الأنعام والحرث نذرًا لأهل القبور حصة معينة ، ويقطع مسافة طويلة لزيارة قبر ؛ كالحج ، ومع أنه يقول في صلاته : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . فما بال هؤلاء الجهلة ؟! أي معنى للعبادة عندهم ؟! هل للعبادة مصداق عندهم في الخارج أم لا ؟!؟ فهذا حال من لم يعرف حق الله وحق العباد ، ولم يميز بينها ....) .

47 - 49 - وقال - مبينًا بعض أنواع العبادة ، محققًا أن القبورية يعبدون الأموات بكثير من أنواع العبادة :

(فثبت أن مقصود نزول القرآن دعوة العباد إلى عبادة الله وحده والرد على الذين أشركوا مع الله في العبادات ؛ من السجدة لغير الله ، والحج ،

والنذر لغير الله ، وغير ذلك من العبادات . وقد دخل في هذا الباب كثير من الناس في هذا الزمان ؛ فمنهم من يصلي لغير الله تعالى ، وأجزاء الصلاة من الركوع والسجود والقيام والقعود يفعلونها لغير الله تعالى أيضًا ، من الأولياء أحياء وأمواتا) .

50 - وقال : (العبادة - في الشرع - عبارة عما يجمع كمال المحبة ، والخضوع ، والخوف ؛ فاستكمال هذه الثلاثة لله تعالى فيكون عابده تعالى ، وموحدًا .

ومن أحب مع غير الله مثل حبه تعالى ، أو خضع لغير الله مثل الخضوع له تعالى ، أو خاف من غير الله كالخوف منه تعالى ، فقد أشرك معه تعالى غيره في العبادة ؛ فمن يذبح أولاده في محبة الأولياء ، ويجعلونهم نذرًا لهم ، ويخضعون عند قبورهم ما يخضعون مثله في المساجد لله تعالى ؛ كما

لا يخفى ذلك على أحد ، أو يخاف من الأولياء فوق الأسباب من وصول الضرر بقطع الأشجار عن أيكتهم ، أو بالصيد في أشجارهم ، فهو مشرك بالله في العبادة ، أعاذنا الله تعالى منه) .

51 - 83 - وقد عنون الشاه إسماعيل الدهلوي (1246هـ) لأنواع العبادة التي كان قبورية الهند يصرفونها للأموات مبينًا أن كل هذا شرك أكبر ، وتبعه الشيخ أبو الحسن الندوي ، فقالا واللفظ للثاني :

(أعمال العبادة وشعائرها خاصة بالله تعالى .

والشيء الثالث : أن الله سبحانه وتعالى خصص بعض أعمال التعظيم لنفسه ، وهي التي تسمى ((عبادة)) : كالسجود ، والركوع ، والوقوف بخشوع وتواضع ، - مثلًا يضع يده اليمنى على اليسرى ، أو إنفاق المال

باسم من يعتقد فيه الصلاح أو العظمة ، والصوم له ، وقصد بيته من أنحاء بعيدة ، وشد الرحل إليه بوجه يعرف كل من رآه أنه يؤم بيته حاجا زائرًا ، والهتاف باسمه في الطريق كالتلبية ، والتجنب عن الرفث والفسوق ، والقنص ، وصيد الحيوانات ، ويمضي بهذه الآداب والقيود ، ويطوف بالبيت ويسجد إليه ، ويسوق الهدي إليه ، وينذر النذور هناك ، ويكسو ذلك البيت ، كما تكسى الكعبة ، والوقوف على عتبته ، والإقبال على الدعاء والاستغاثة ، والسؤال لتحقيق مطالب الدنيا والآخرة ، وبلوغ الأماني ، وتقبيل حجر من أحجار هذا البيت ، والالتزام بجداره ، والتمسك بأستاره ، وإنارة السرج والمصابيح حوله تعظيمًا وتعبدًا ، والاشتغال بسدانته ، والقيام بجميع الأعمال التي يقوم بها السدنة : من كنس ، وإنارة ، وفرش ، وسقاية ، وتهيئة أسباب الوضوء والغسل ، وشرب ماء بئره تبركًا ، وصبه على الجسم ، وتوزيعه على الناس ، وحمله إلى من لم يحضر ، والمشي مدبرًا عند العودة ؛ حتى لا يولي البيت دبره ، واحترام الغابة التي تحيط به ، والتأدب معها ؛ فلا يقتل صيدها ، ولا يعضد شجرها ، ولا يختلي خلاها ، ولا يرعى ماشيته في حماها ؛ كل هذه الأعمال علمها رب العالمين عباده ، وأفردها لنفسه .

فمن أتى بها لشيخ طريقة ، أو نبي ، أو جني ، أو لقبر محقق ، أو

نزور ، أو لنصب ، أو لمكان عبادة ، عكف فيها أحد الصالحين على العبادة ، والذكر ، والرياضة ، أو لبيت ، أو لأثر من آثار أحد الصالحين ، يتبرك به ، أو شعار يعرف به ، أو يسجد لتابوت ، أو يركع له ، أو يصوم باسمه ، أو يقف خاشعًا ، متواضعًا ، واضعًا إحدى يديه على الأخرى ، أو يقرب له حيوانًا ، أو يؤم بيتًا من هذه البيوت من بعيد ، فيشد إليه الرحل ، أو يوقد السرج فيه تعظيمًا وتعبدًا ، أو يكسوه بكسوة كما تكسى الكعبة ، أو يضع على ضريح ستورًا ، أو يغرز علمًا أو عودًا باسمه ، وإذا رجع رجع على

أعقابه ، أو يقبل القبر ، أو يحرك المراوح عليه ليذب الذباب ، كما يفعله الخدم مع أسيادهم الأحياء ، أو ينصب عليه سرادق ، أو يقبل عتبته ، ويضع اليمنى على اليسرى ، ويتضرع إليه ، أو يجلس على ضريح سادنًا وقيمًا ، ويتأدب مع ما يحيط به من أشجار ، وآجام ، وأعشاب ؛ فلا يتعرض لها بإهانة ، أو إزالة ؛ إلى غير ذلك من الأعمال ، والالتزامات ، - فقد تحقق عليه الشرك ؛ ويسمى ((إشراكًا في العبادة)) ؛ سواء اعتقد : أن هذه الأشياء تستحق بنفسها ، وأنها جديرة بذلك ، أو اعتقد أن رضا الله في تعظيم هذه الأشياء ، وأن الله يفرج الكرب ببركة هذا التعظيم ) .

84 - 103 - وقال رحمه الله أيضًا بعدما ذكر عدة أنواع من العبادة مبطلًا عقائد القبورية حاكمًا عليهم بالشرك محققًا أنهم يصرفون كثيرًا من أنواع العبادة للقبور وأهلها ؛ وتبعه الشيخ أبو الحسن علي الندوي ، واللفظ للثاني :

(....، فمن أتى بذلك للأنبياء ، والأولياء ، والأئمة ، والشهداء ، والعفاريت ، والجنيات : مثلًا ينذر لها إذا ألمت به كربة ، أو نزلت به ضائقة ، أو ينادي بأسمائها عند ملمة ، أو نازلة ، أو يفتح عمله بأسمائها ، وإذا رزق ولدًا نذر لها نذورًا ، أو سمى أولاده بعبد النبي ، أو ((إمام بخش)) [هبة الإمام] ، أو ((بير بخش)) [هبة المرشد] ، ويخصص جزءا من الحبوب

أو الثمرات لها ، ويقدم لها مما أخرجته الأرض من زرع وأثمار ، ثم يستعمله في أغراضه ، ويخصص من المال ، وقطعان الأنعام أموالًا ودواب ، ثم يتأدب معها ، فلا يصرفها ، ولا يزجرها عن العلف والتبن ، ولا يضربها بعصا أو حجر ، أدبًا وتعظيمًا ، ويتمسك بالعادات القديمة ، والأعراف الشائعة في الأكل والشرب ، واللباس ، ويتقيد بها كما يتقيد بأحكام الشريعة ؛ فيحرم طعامًا ، ولباسًا لأناس ، ويحلهما لأناس ، ويحظرهما على طبقة كالذكور والإناث ، ويبيحهما لأخرى ، فيقول : إن الطعام الفلاني لا يقربه الرجال . وإن الطعام الفلاني لا تقربه الجواري ؛ ولا تقربه المرأة التي تزوجت بزوج ثان ، وإن ((الخبيص)) الذي يعد باسم الشيخ عبد الحق ، لا يأكله من يستعمل النارجيلة ، وينسب ما يحدث من خير وشر ، وما ينتاب من بؤس ورخاء إلى هؤلاء المشايخ والأولياء ؛ فيقول : إن فلانًا أدركته

لعنة فلان ؛ فجن ، وفلان طرده فلان ؛ فافتقر ، وفلان أنعم عليه فلان ؛ فساعده الحظ ، وحالفه الإقبال ، وأصابت الناس المجاعة بنوء كذا ، ونوء كذا ، وفلان بدأ عمله بيوم كذا ، وفي ساعة كذا ، فلم يوفق ، ولم يتم ، أو يقول : إن شاء الله ورسوله - كان كذا ، أو يقول : إن شاء شيخي - وقع كذا ، أو يضفي على من يعظمه أسماء وصفات تختص بالله ، وهي من نعوت العظمة والكبرياء ، والغنى عن الخلق ، والقدرة المطلقة ، والجود الذي لا نهاية له ، أو القهر والجبروت ؛ مثل المعبود ، وأغنى الأغنياء ، وإله الآلهة ، ومالك الملك ، وملك الملوك ، أو يحلف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو بعلي رضي الله عنه - ، أو بأحد أولاده الذين يسميهم الشيعة : الأئمة الاثني عشر ، أو بشيخ ، أو بقبره . كل ذلك يتحقق منه الشرك ؛ ويسمى ((الإشراك في العبادة)) ، أن يعظم غير الله في الأعمال التي اعتادها تعظيمًا لا يليق إلا بالله) .

104 - 107 - وقال رحمه الله تعالى أيضًا مبينًا أن القبورية يرتكبون أنواعًا من الشرك الأكبر ، بصرف أنواع كثيرة من العبادات للقبور وأهلها ، وتبعه الشيخ الندوي المذكور ، واللفظ للثاني :

(اعلم أن الشرك قد شاع في الناس في هذا الزمان وانتشر .... ، ومن المشاهد اليوم أن كثيرًا من الناس يستعينون بالمشايخ ، والأنبياء ، والأئمة ، والشهداء ، والملائكة ، والجنيات ، عند الشدائد ، فينادونها ، ويصرخون بأسمائها ، ويسألون منها الحاجات وتحقيق المطالب ، وينذرون لها ،

ويقربون لها قرابين تسعفهم ، وتقضي مآربهم ، وقد ينسبون إليها أبناءهم ؛ طمعًا في رد البلاء ...، ويرسل بعض الناس ضفيرة في رأسه باسم ولي من الأولياء وبعضهم يقلد ابنه قلادة باسم شيخ أو ولي ، وبعضهم يكسو ولده لباسًا ، وبعضهم يصفد ابنه بقيد في الرجل باسم أحد المشايخ والأولياء ، وبعضهم يذبح حيوانًا بأسمائهم ، وبعضهم يستغيث بهم عند الشدة ، وبعضهم يحلف في حديثه بأسمائهم ... والحاصل : أنه ما سلك عباد الأوثان في الهند طريقًا مع آلهتهم إلا وسلكه الأدعياء من المسلمين مع الأنبياء والأولياء والأئمة والشهداء والملائكة والجنيات ؛ واتبعوا سنن جيرانهم من المشركين ؛ شبرًا بشبر وذراعًا بذراع ، وحذو القذة بالقذة ، والنعل بالنعل ، فما أجرأهم على الله ، وما أبعد الشقة بين الاسم والمسمى ، والحقيقة والدعوى .

قلت :

الحاصل أنه قد تبين من نصوص هؤلاء العلماء من الحنفية التي ذكرتها في المطالب السابقة أمور ستة :

الأول : أن العبادة غير محصورة في بعض الأعمال والأقوال ، بل هي شاملة لجميع أنواعها وأفرادها . وبذلك يبطل زعم القبورية في حصرها في بعض الأعمال والأقوال .

الثاني : أن علماء الحنفية قد ذكروا عدة أنواع من العبادة ، وقد ذكرت عنهم من خلال نصوصهم فوق المائة ، على سبيل المثال لا الحصر . ومن أهم تلك الأنواع التي ذكروها : الدعاء ، والاستغاثة ، والاستعانة ، والنذور ، ونحوها .

الثالث : أنه قد صرح علماء الحنفية : أن القبورية باستغاثتهم بالأموات عند الملمات * ونذورهم للقبور وأهلها عند الكربات * مرتكبون للشرك الأكبر ، وعبادة القبور بأنواع من العبادات *

الرابع : أن الشرك موجود في القبورية ، وأنهم أهل الشرك ، وأنه لا فرق بينهم وبين الوثنية إلا بالاسم فقط .

الخامس : أن الرجاء والخوف داخلان في مفهوم العبادة . فدل هذا على ضلال الصوفية الذين يقولون : (( لا مقصود إلا الله)) . ويقولون : إن الذين يعبدون الله رجاء الجنة وخوفًا من النار ، فهم كالأجير يطلب الأجرة . وقد تقدم الرد عليهم بكلام الحنفية .

والحقيقة أن هؤلاء الصوفية الذين يقولون : نحن نعبد الله بالحب فقط لا خوفًا منه ولا رجاء منه ولا طمعًا في الجنة ولا مخافة من النار ، هم من الزنادقة الملاحدة الحلولية الاتحادية .

السادس : أن كل ما يصرف القبورية للقبور وأهلها من العبادات لا يخلو من المحبة والرجاء والخوف ؛ فالقبورية يعبدون القبور وأهلها ، وأنهم أشركوا بالله ، والله المستعان ...

وبعد أن عرفنا العبادة ، وعرفنا أركانها ، وعرفنا بعض أنواعها ننتقل إلى المطلب الآتي لنعرف شروط صحة العبادة وقبولها عند الله جل وعلا ، في ضوء نصوص علماء الحنفية ، وبالله التوفيق وإليه مآب .

المطلب الثالث

في صحة شروط العبادة

لقد تحدثت في المباحث والمطالب السابقة عن تعريف العبادة ، وأركانها ، وأنواعها عند علماء الحنفية ، وأتحدث في هذا المطلب عن شروط صحة العبادة عند علماء الحنفية ، كل ذلك ردا على القبورية عباد القبور وأهلها .

فأقول وبالله التوفيق ، وعليه توكلي وإليه إنابتي :

لقد ذكر علماء الحنفية لصحة العبادة وقبولها عند الله ثلاثة شروط :

الأول : التوحيد الخالص من الشرك .

والثاني : الإخلاص لله عز وجل : أي النية الصحيحة الخالصة من النفاق ، والرياء .

والثالث : موافقة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلوص العبادة من البدعة .

وقد أشير إلى هذه الشروط الثلاثة في قوله تعالى : { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } [ الإسراء : 19] .

فقوله تعالى : { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } يدل على اشتراط الشرط الأول ، وهو التوحيد الخالص من الشرك .

وقوله تعالى : { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ } يدل على اشتراط الشرط الثاني ، وهو الإخلاص في العبادة ، وخلوصها من النفاق والرياء والسمعة .

وقوله تعالى : { وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا } يدل على اشتراط الشرط الثالث وهو موافقة العبادة للسنة ، وخلوصها عن البدعة .

قلت : أما الشرط الأول - وهو التوحيد الخالص من الشرك - فلا حاجة إلى الإطالة في تحقيقه ؛ فقد سبق أن التوحيد له ركنان : النفي والإثبات ؛ فمن لم يكفر بالطاغوت ، ولم يبرأ من الشرك ، فتوحيده باطل فاسد ، وأعماله كلها - حتى إقراره بـ ((لا إله إلا الله)) - وغير ذلك من العبادات حابطة .

قال العلامة محمود شكري الآلوسي (1342هـ) في بيان أن إقرار القبوية بـ ((لا إله إلا الله)) ، وتصديقهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك من العبادات ، لا يجديهم ولا ينفعهم :

(فيقال له : لا يفيد ذلك الزعم مع إظهار الأعمال الشركية الدالة على عقيدة الشرك وما يصادم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك كمن يقول : إني مصدق بما ذكر ، ثم شد الزنار) .

وأما الشرطان : الثاني ، والثالث : وهما الإخلاص ، وموافقة السنة :

فقد ذكر كثير من علماء الحنفية أنهما شرطان لصحة العبادة وقبولها . وإليكم بعض نصوصهم .

(1) قال الإمام فضيل بن عياض رحمه الله (187هـ) :

(العمل الحسن هو أخلصه ، وأصوبه . قالوا : يا أبا علي ! ما أخلصه ، وأصوبه ؟ قال : إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل ، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل ؛ حتى يكون خالصًا صوابًا . والخالص ما كان لله ، والصواب ما كان على السنة) .

وذكر علماء الحنفية أن هذين الشرطين لتحقيق كلمة التوحيد .

(2) (3) قال العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) ؛ والعلامة الخجندي (1379) هـ ، واللفظ للأول :

(وبالجملة فمعنا أصلان عظيمان : ألا نعبد إلا الله . وألا نعبد إلا بما شرع . وهذان الأصلان - هما تحقيق شهادة : أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ كما قال تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } [الملك : 2 ] .

قال الفضيل : أخلصه ، وأصوبه . وقال { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } [ الشورى : 21] ؛ ولذا قال الفقهاء : والعبادات مبناها على التوقيف) .

(4) قال شيخ القرآن الفنجفيري (1407هـ) :

(قال أبو محمد عبد الوهاب الثقفي : لا يقبل الله من الأعمال إلا ما كان صوابًا . ومن صوابها إلا ما كان خالصًا . ومن خالصها إلا ما وافق السنة) .

(5) وقد ذكر علماء الحنفية أن هذين الشرطين يدل على اشتراطهما لصحة العبادة وقبولها عند الله جل وعلا قوله تعالى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } ... [ البقرة : 112] .

قال شيخ القرآن المذكور في تفسير هذه الآية :

(قال ابن كثير في تفسيره : وقال سعيد بن جبير :

{ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ } : أخلص .

{ وَجْهَهُ } : قال : دينه ،

{ وَهُوَ مُحْسِنٌ } : أي اتبع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فإن للعمل المتقبل شرطين : أحدهما : أن يكون خالصًا لله وحده .

والآخر : أن يكون صوابًا موافقًا للشريعة . فمتى كان خالصًا ، ولم يكن صوابًا لم يتقبل . ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد » . رواه مسلم من حديث عائشة رح . فعمل الرهبان ومن شابههم - وإن فرض أنهم مخلصون فيه لله - فإنه لا يتقبل منهم ذلك إلا متابعًا للرسول صلى الله عليه وسلم ) .

 

قلت : وتمام نص كلام الحافظ ابن كثير (774هـ) رحمه الله :

(المبعوث إليهم وإلى الناس كافة ، وفيهم وفي أمثالهم قال الله تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } [الفرقان : 23 ] ، وقال تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا } [ النور : 39] ، وقال تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ } [ الغاشية : 2-5] ، ... وأما إن كان العمل موافقًا للشريعة في الصورة الظاهرة ، ولكن لم يخلص عامله القصد لله ، فهو أيضًا مردود على فاعله .

وهذا حال المرائين والمنافقين ؛ كما قال تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ } [النساء : 142 ] ، وقال تعالى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ } [الماعون : 4-6 ] . ولهذا قال تعالى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [الكهف : 110 ] ، وقال في هذه الآية الكريمة : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } .....) .

(6) ونقل الشيخ الرستمي لتحقيق هذين الشرطين للعبادة قول الإمام ابن القيم رحمه الله (751هـ) :

وعبادة الرحمن غاية حبه ... مع ذل عابده هما قطبان

وعليهما فلك العبادة دائر ... ما دار حتى قامت القطبان

ومداره بالأمر أمر رسوله ... لا بالهوى والنفس والشيطان

قلت : وتمام كلام ابن القيم - وفيه تحقيق الشرط الآخر -:

فقيام دين الله بالإخلاص وال ... إحسان إنهما له أصلان

لم ينج من غضب الإله وناره ... إلا الذي قامت به الأصلان

والناس بعد فمشرك بإلهه ... أو ذو ابتداع أو له الوصفان

(7) قلت : اشتراط متابعة السنة في العبادة يسميه علماء الحنفية :

((توحيد المتابعة)) ، ويسميه الإمام ابن القيم (751هـ) رحمه الله : ((توحيد الطريق)) .

وهذا برهان ساطع على أهمية هذا الشرط لصحة العبادة عند الحنفية .

وهذا حجة باهرة قاهرة على أن من أخل بتوحيد المتابعة ، وتوحيد الطريق في عبادته لله فقد نقض توحيده وأبطله لفوات شرط صحته .

(8) قال الشيخ الرستمي - بالنسبة إلى توفر هذين الشرطين في العبادة وعدم توفرهما -:

(ثم اعلم : أن تحقق العبادة على أصلين عظيمين : الإخلاص للمعبود . ومتابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - . ولذا انقسم الناس إلى أربعة أقسام :

(1) أهل الإخلاص والمتابعة ؛ وهم أهل : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } .

(2) ومن لا إخلاص له ولا متابعة ؛ وهم أهل الرياء مع كونهم أهل البدع ؛ فهم أهل الغضب والضلال .

(3) ومن هو مخلص في أعماله ؛ لكنها على غير المتابعة ؛ كجهال العباد ، وكل من تعبد الله بغير أمره ، واعتقده قربة .

(4) ومن كان عمله على المتابعة لغير الله ؛ كالعبادة والجهاد

والعلم ومثلها الدنيا والرياء والسمعة) .

قلت : أصل هذا الكلام للإمام ابن القيم رحمه الله (751هـ) ؛ فله كلام فصيح بليغ متين رصين في بيان هؤلاء الأصناف الأربعة بالنسبة إلى هذين الشرطين للعبادة .

قلت : لقد تبين من كلام الحنفية : أن هاهنا سبعة أصناف من الناس بالنسبة إلى العبادة وأركانها وشروطها :

1 - من عبد الله تعالى بالحب والرجاء والخوف والإخلاص ومتابعة السنة فهو موحد سني .

2 - من عبد غير الله تعالى فهو مشرك .

3 - من عبد الله بالحب وحده ، لا رجاء الجنة ولا خوفًا من النار كالصوفية القائلين :

((لا مقصود إلا الله)) فهو زنديق .

4 - ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ .

5 - ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري خارجي .

6 - ومن عبد الله بدون الإخلاص فهو منافق ، مراء .

7 - ومن عبد الله بدون اتباع السنة فهو مبتدع راهب ضال .

وبعد أن عرفنا أهم ما يتعلق بالتوحيد من تعريفه ، وأنواعه ، وأركانه ، وأهميته ، وشروط صحته ، وكون توحيد العبادة هو الغاية ، والعبادة وأنواعها وأركانها وشروط صحتها ، في هذا الباب - بحمد الله وتوفيقه - ننتقل إلى الباب الثالث لنعرف أهم ما يتعلق بالشرك وأنواعه إن شاء الله تعالى .

*****

الرجوع للصفحة الرئيسية