جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية

 جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية

- الباب العاشر -

 

الباب العاشر

في جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية

من النذر لأهل القبور والتبرك على الوجه المحذور

وزيارتهم للقبور والبناء عليها

وفيه فصول ثلاثة :

- الفصل الأول : في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في النذر لأهل القبور والتبرك على الوجه المحذور .

- الفصل الثاني : في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في زيارتهم الشركية والبدعية للقبور .

- الفصل الثالث : في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في البناء على القبور .

 

الفصل الأول

في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في النذر لأهل القبور والتبرك على الوجه المحذور

وفيه مبحثان :

- المبحث الأول : في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في النذر لأهل القبور .

المبحث الثاني : في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في التبرك على الوجه المحذور .

المبحث الأول

في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في النذر لأهل القبور

وفيه مطالب ثلاثة :

- المطلب الأول : في عرض عقيدة القبورية في نذورهم لأهل القبور .

- المطلب الثاني : في إبطال علماء الحنفية عقيدة القبورية في النذر لأهل القبور .

- المطلب الثالث : في إبطال علماء الحنفية لبعض شبه القبورية في النذور لأهل القبور .

المطلب الأول

في عرض عقيدة القبورية في نذورهم لأهل القبور

من الأمثال الشركية التي وقع فيها القبورية عبادة لغير الله تعالى - النذور لأهل القبور .

وفيما يلي عدة نماذج من أقوال أئمة القبورية في جواز النذور لأهل القبور .

1 - قال القباني (1157هـ) وهو أحد كبار أئمة القبورية :

(فإن ذبح للكعبة أو للرسل تعظيماً لكونها بيت الله أو لكونهم رسل الله ، جاز) .

2 - وقد بوب السمنودي المنصوري المصري ، أحد كبار أئمة القبورية (المتوفى بعد 1326هـ) قائلاً :

(الباب التاسع في الكلام على النذر والذبح للأنبياء والصالحين) ثم ذكر ما هو دعوة سافرة إلى الوثنية .

3 - وقال الملا جيون الهندي الحنفي * الجهمي الصوفي الخرافي * (1130هـ) :

(ومن ههنا علم أن البقرة المنذورة للأولياء كما هو الرسم في زماننا ، حلال طيب ، لأنه لم يذكر اسم غير الله عليها وقت الذبح ، وإن كانوا ينذرونها له [ أي لغير الله ] ....) .

4 - وقد عقد القضاعي أحد كبار أئمة غلاة القبورية الكوثرية (1376هـ) فصلاًَ في الدعوة السافرة إلى الوثنية عامة والنذور للأموات خاصة ، فقال :

(فصل في توضيح بطلان القول بأن الذبح للميت والنذر له شرك ، وتحقيق أن ذلك [ أي النذر للميت ] من القرب الواصل نفعها إلى الحي والميت جميعاً) ، ثم طول النفس في الدعوة إلى الوثنية السافرة عامة ، وإلى النذر للأموات خاصة ، بحجة أن الناذرين لا يعتقدون فيهم الخالقية والرازقية والربوبية ، كما طعن على عادته الكوثرية في أهل التوحيد والسنة بكلمات وقحة .

5 - وقال محمد الفقي أحد غلاة القبورية الوثنية :

(المبحث الثالث في النذور ، النذر للأنبياء والأولياء وغيرهم من القرب التي يدعو إليها الدين) .

هكذا ترى القبورية يعقدون عناوين بارزة للنذور للأموات ، دعوة منهم إلى عبادة غير الله تعالى .

الحاصل : أن خلاصة عقيدة القبورية في النذر للأموات ما يلي :

1 - أن النذر للأموات من أعظم القربات ، والأعمال الصالحات .

2 - أن النذر للأموات يجوز ما لم يعتقد الناذر أن الميت خالق ورب .

3 - أن الذبح يجوز للميت ، بشرط أن لا يذكر اسمه على المذبوح عند الذبح .

4 - أنه يبدو لي أن مقصود القبورية بالنذر للأموات هو الاستغاثة بهم لدفع المضرات وجلب الخيرات .

وهذه خلاصة عقيدة القبورية في النذور للأموات وبعد هذا ننتقل إلى :

المطلب الثاني

في إبطال علماء الحنفية عقيدة القبورية

في نذورهم لأهل القبور

لقد صرح كثير من العلماء الحنفية في الرد على القبورية بأن النذر لغير الله تعالى حرام ، بل هو شرك ؛ لأنه نوع من أعظم أنواع العبادة ، وعبادة غير الله شرك ، ولأنه متضمن أنواعاً أخرى للشرك بالله تعالى ، فإن الذي ينذر شيئاً للميت لابد من أن يعتقد فيه عدة عقائد شركية :

1 - أن يعتقد أنه يعلم حال هذا الناذر .

2 - أن يعتقد أنه يتصرف في الأمور ، من شفاء المريض وغناء الفقير ، وإغاثة الملهوف ونحو ذلك .

3 - أنه يسمع نداء الناذر واستغاثته به .

وهذه العقائد كلها شركية وثنية كما سبق تحقيقها على لسان علماء الحنفية في الأبواب السابقة .

وفيما يلي عدة نصوص لعلماء الحنفية دالة على أن النذر لغير الله تعالى حرام ، بل إشراك صريح بالله وأنه من أعمال المشركين السابقين :

1 -16- قال الإمام قاسم بن قطلوبغا (879هـ) وتبعه كثير من أئمة الحنفية المشاهير ، كالإمام ابن نجيم ، الملقب بأبي حنيفة الثاني (970هـ) ، والإمام خير الدين الرملي (993هـ) ، والإمام سراج الدين عمر بن نجيم (1005هـ) ، والإمام علاء الدين الحصكفي (1088هـ) ، وفقيه الحنفية الشامية ابن عابدين (1252هـ) ، والشيخ رشيد أحمد الجنجوهي ، الإمام الثاني للديوبندية الملقب بالإمام الرباني (1323هـ) ، والعلامتان شكري الآلوسي (1342هـ) والخجندي (1379هـ) والشيخ علي محفوظ الحنفي المصري (1361هـ) وغيرهم ، واللفظ للأول على ما نقله عنه الثاني ثم الآخرون :

(وأما النذر الذي ينذره أكثر العوام - على ما هو مشاهد - كأن يكون لإنسان ، غائبٌ أو مريضٌ ، أو له حاجة ضرورية ، فيأتي بعض [ قبور ] الصلحاء ، فيجعل ستره على رأسه فيقول : يا سيدي فلان ! إن رد غائبي ، أو عوفي مريضي أو قضيت حاجتي ، فلك من الذهب كذا ومن الفضة كذا ومن الطعام كذا ومن الماء كذا ومن الشمع كذا ومن الزيت كذا ، فهذا النذر باطل بالإجماع ، لوجوه :

منها : أنه نذر مخلوق ، والنذر للمخلوق لا يجوز ، لأنه عبادة ، والعبادة لا تكون للمخلوق .

ومنها : أن المنذور له ميت ، والميت لا يملك .

ومنها : [ أنه ] إن ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله تعالى واعتقاده ذلك كفر ...) ، زاد الحصكفي : (وقد ابتلي الناس بذلك ، ولا

سيما في هذه الأعصار) .

وزاد ابن عابدين فيما حكاه عن النهر الفائق :

(ولا سيما في مولد البدوي ) .

قلت : هذا النص لهؤلاء الأعلام من الحنفية دال دلالة قاطعة على أن النذر لغير الله تعالى من أعظم أنواع الشرك ؛ لأن النذر عبادة وعبادة غير الله شرك بواح ، ولأن المنذور له ميت والميت لا يملك شيئاً ، ومن اعتقد التصرف في الكون للميت فقد كفر كفراً مبيناً ، وهذا النص من قبيل القضايا التي قياساتها معها ، وفي ذلك عبرة بالغة لمن فيه إنابة إلى الحق من القبورية ، ونكال شديد أليم للمعاندين المكابرين المستنكفين منهم .

كما يدل على أن القبورية الناذرين لأهل القبور هم عباد القبور ، بل هم وثنية ، حيث جعلوا القبور وأهلها أوثاناً يعبدونها من دون الله تعالى ،

يوضحه النص الآتي :

17 -21- وهو قول الإمام محمد البركوي (981هـ) في صدد البرهنة على أن القبورية وثنية ، حيث يعبدون القبور وأهلها أنواعاً من العبادات ، ويشركون بالله تعالى أنواعاً من الإشراك ، منها النذر لهم ، وتبعه آخرون من كبار أعلام الحنفية : أمثال الإمام الشيخ أحمد الرومي (1043هـ) والشيخين : سبحان بخش الهندي ، وإبراهيم السورتي ، والعلامة شكري الآلوسي (1342هـ) : (ثم يقربون لذلك الوثن القرابين * وتكون صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير رب العالمين *) .

22 -25- وقالوا كلهم غير الأخير :

(لو كان اتخاذ السرج عليها مباحاً لم يلعن من فعله ، وقد لعن ، ولأن فيه تضييعاً للمال في غير فائدة ، وإفراطاً في تعظيم القبور تشبيهاً بتعظيم الأصنام ؛ ولهذا قال العلماء : لا يجوز أن ينذر للقبور لا شمع ولا زيت ولا غير ذلك ، فإنه نذر معصية ، لا يجوز الوفاء به اتفاقاً ......) .

26 -29- وقالوا أيضاً مبينين عدة أنواع للشرك الذي يرتكبه

القبورية : (ومنها النذر لها ولسدنتها) .

30 -31- ونقله الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) والشيخ محمد علي المظفري وأقرانه .

32 - وقال الإمام البركوي (981هـ) رحمه الله تعالى في كشف الستار عن أسرار القبورية ، وتحقيق أنهم على طريقة المشركين الأوائل عبدة الأصنام السفلية * والأجرام العلوية * مقارناً لهؤلاء القبورية بأولئك الوثنية :

(.... ولهذا السر عبدت الكواكب ، واتخذت لها الهياكل ، وصنفت لها الدعوات ، واتخذت لها الأصنام ، وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها مساجد ، وبناء المساجد عليها ، وتعليق الستور عليها ، وإيقاد السرج عليها ، وإقامة السدنة لها ، ودعاء أصحابها ، والنذر لهم ، وغير ذلك من المنكرات ، والله هو الذي بعث رسله وأنزل كتبه لإبطاله وتكفير أصحابه ، ولعنهم ، وأباح دماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم ........) .

33 - وقال رحمه الله تعالى مبيناً أن القبورية يعبدون عدة من الأوثان بعدة أنواع من العبادة ، منها النذر الذي هو عبادة للمنذور :

(...... ثم يتجاوز هذا إلى أن يعظم وقع الأماكن في قلوبهم ،

فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم بالنذر لها ، وهي بين شجر وحجر وحائط وعين ، يقولون : إن هذا الشجر ، وهذا الحجر وهذه العين يقبل النذر ، فإن النذر عبادة وقربة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له ....) .

34 - وقال الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) مبيناًَ أنواع الشرك التي ارتكبها أهل الشرك في القديم والحديث ، ولا سيما مشركي العرب - منها النذر لغير الله تعالى ، ومحققاً أن القبورية في هذه الشركيات على طريقة الوثنية الأولى : (ومنها أنهم كانوا يستغيثون بغير الله في حوائجهم: من شفاء المريض وغناء الفقير ، وينذرون لهم ، يتوقعون إنجاح مقاصدهم بتلك النذور ، ويتلون أسماءهم رجاء بركتها ، فأوجب تعالى عليهم أن يقولوا في صلاتهم :

{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة : 4 ] ، وقال تعالى : { فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [الجن : 18 ] .

35 - وقال ابن عربشاه (854هـ) مبيناً أن القبورية يعبدون القبور وأهلها ، حتى عبدوا الفسقة الفجرة منهم بأنواع العبادات ، حيث عبدوا تيمور الفاسق الفاجر * ذلكم الملك الظالم الجائر *

(.... وقبره في مكانه المشهور * تنقل إليه النذور* وتطلب عنده الحاجات * ويبتهل عنده بالدعوات * ....) .

36 - وقال الإمام محمود الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) .

37 - وتبعه غلام الله الملقب بشيخ القرآن (1980م) ، في بيان وجود الشرك في المنتسبين إلى الإسلام وبيان فضائح القبورية ، وأن القبورية يعبدون القبور وأهلها بأنواع من العبادات ، منها النذر لها ولأهلها ، وأنه إشراك بالله تعالى ، لأنه عبادة ، وعبادة غير الله شرك ، وأن القبورية قد كثروا في هذه الأمة حتى صاروا أكثر من الدود ، وذلك في تفسير قوله تعالى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [يوسف : 106 ] :

(ومن أولئك عبدة القبور الناذرون لها ، المعتقدون للنفع والضر [ في أهلها ] ممن الله أعلم بحاله فيها [ أي في القبور ] ، وهم اليوم أكثر من الدود ) .

38 - وقال العلامة الرباطي :

(ثم اعلم أن بيان هذا المرام -

أعني أن المنذورات لغير الله وكل ما أهل لغير الله به - فهو حرام قطعاً ونجس ، ليس حرمته دون حرمة الكلب والخنزير - من وجهين : الأول : أن ذلك عبادة ، وقد عرفت أن العبادة مطلقاً من حقوق الله ، فإعطاؤها لغير الله كفر صريح وشرك قبيح .

والثاني : أن النصوص القرآنية قد وردت في تحريمها بخصوصها فكانت محرمة من هذا الوجه أيضاً) .

39 - وقال الشيخ الرستمي : (فالنذر لله عبادة له تعالى ، كما قال جمهور الفقهاء ، فمن نذر لغير الله تعالى فقد عبد لغير الله ، والعبادة لغير الله كفر وشرك ، والتجربة شاهدة بأن النذر إنما يكون لمن يرجى منه كشف المهمات * ودفع البليات وإنجاح الحاجات *

.... فمن ينذر لغير الله فهو يعتقد أن ذلك الغير يشفي مرضي ، ويجيب دعوتي وينجح حاجتي ؛ ورجاء إنجاح الحاجات من غير الله شرك .

قلت : الحاصل : أن هذه عدة نصوص لكبار علماء الحنفية تدل

على عدة أمور مهمة :

الأول : أن القبورية ينذرون للقبور وأهلها .

الثاني : أنهم ينذرون لدفع الكربات وجلب الخيرات .

الثالث : أنهم يعتقدون أن الأموات يعلمون بنذورهم .

الرابع : أنهم يعتقدون فيهم التصرف في الأمور .

الخامس : أن النذر للقبور وأهلها من أعظم أنواع الإشراك بالله العظيم .

السادس : أن النذر عبادة وعبادة غير الله شرك بلا شك .

إلى غيرها من المطالب في كلام هؤلاء الأعلام ، وبعد هذا ننتقل إلى عرض بعض شبهات القبورية مع ذكر أجوبة علماء الحنفية عنها ، قلعاً لأعذارهم * وقطعاً لأدبارهم *.

*****

المطلب الثالث

في إبطال علماء الحنفية لبعض شبه القبورية

التي تشبثوا بها لتبرير نذورهم للقبور وأهلها

لقد تشبثت القبورية لتبرير النذور للقبور وأهلها بشبهات كثيرة أهمها ثلاث ، أود أن أسوقها مع جواب علماء الحنفية عنها وكلامهم في قلعها وقمع أهلها :

الشبهة الأولى : أن ما يقرب إلى القبور وأهلها من المنذورات - لا يدخل في باب عبادة غير الله تعالى ، فإن هذه النذور ليست من قبيل العبادة لأن العبادة لا تحقق إلا باعتقاد الربوبية والخالقية في المخضوع له .

والجواب : أنه قد أجمع علماء الحنفية على أن النذر عبادة ، دل على ذلك تعريفهم للنذر ، فقد قال الجرجاني (816هـ) :

(النذر إيجاب عين الفعل المباح على نفسه ، تعظيماً لله تعالى ) وقد صرحوا بأنه لا يجوز النذر للقبور وأهلها ، ونصوا على أنه شرك بالله تعالى ،

وعللوا ذلك بأنه عبادة ، وعبادة غير الله شرك بالله .

وقد سبق مفصلاً محققاً على لسان علماء الحنفية : أن العبادة لا يشترط فيها اعتقاد العابد في المعبود أنه رب وخالق .

وأقول : من اختبر حال القبورية وعلم الدافع لهم على النذور للأموات ، ولا سيما المضطرين منهم الذين يريدون بنذورهم للأموات استعطاف الأموات لدفع الملمات وجلب الخيرات ، ورأى ما هم فيه من الخشوع والخضوع والتذلل لهم - عرف أنهم أعظم عبادة للأموات * منهم لخالق البريات * ومن أنكر هذا فهو مكابر غالط * ومعاند مغالط * .

الشبهة الثانية : أن القبورية زعمت أن الإنسان إذا نذر لغير الله تعالى ، ولم يذبح منذوره باسم غير الله تعالى ، بل ذكر اسم الله تعالى عليه عند الذبح - فهو جائز حلال ، فالمنذور لا يحرم إلا إذا ذكر اسم غير الله عليه عند الذبح ويذبح باسم غير الله تعالى .

قال الملا جيون الهندي الحنفي * الماتريدي القبوري الخرافي (1130هـ) :

(ومن ههنا علم أن البقرة المنذورة للأولياء - كما هو الرسم في زماننا - حلال طيب ؛ لأنه لم يذكر اسم غير الله عليها وقت الذبح ؛ وإن كانوا ينذرونها له) .

الجواب : لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة أن العبرة في النذر لغير الله تعالى للنية لا لذكر اسم غير الله عند ذبح المنذور ، فمن نذر بقرة لميت مثلاً فقد أشرك بمجرد نذره إياه له ، سواء ذكر اسم الله عند ذبحها أو ذكر اسم ذلك الميت ، فإن العبرة لنية هذا الناذر المتقرب إلى ذلك الميت الطالب بنذره له كشف المعضلات وجلب الخيرات منه ؛ لقوله تعالى : { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } [البقرة : 173 ] ، وقوله تعالى : { وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } [ المائدة : 3 ، والنحل : 115] وقوله تعالى : { أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } [ الأنعام : 145] فما أهل به لغير الله أعم من المذبوح باسم غير الله ؛ فإن ما أهل به لغير الله قد يكون من قبيل المشروبات ، أو الملبوسات ، أو المشمومات ، بل قد يكون من المعادن كالذهب والفضة والياقوت والمرجان ونحوها ، وقد يكون من المطعومات التي لا تحتاج إلى الذبح ، كالسمك والزيت والسمن والعسل ونحوها ؛ لأن ((الإهلال)) هو رفع الصوت بالشيء وليس معناه الذبح ، فمن زعم : أن معنى قوله : { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } - : ما ذبح باسم غير الله بأن يذكر اسمه عليه وقت الذبح ، فقد غلط غلطاًَ مبيناً ، وقيد مطلق الكتاب وخصص عامه بدون دليل مسوغ ، وتقول على اللغة العربية ما لا يعرفه العرب ، فإن الإهلال لم يعرف عند

العرب بمعنى الذبح ، وأما ما ذكره بعض المفسرين في تفسير هذه الآية : ((وما ذبح للأصنام والطواغيت)) ونحو ذلك ، فليس هذا معناها اللغوي الكامل - بل قصدهم بيان فرد من أفراد { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } ، فإن المشركين السابقين كانوا عادة ، إذا نذروا شيئاً من الأنعام لآلهتهم ذبحوه بأسمائها ، بخلاف القبورية في هذه الأمة ، فإنهم إذا نذروا بقرة مثلاً لأوليائهم الأموات مثلاً ، ذبحوها باسم الله تعالى لساناً وظاهراً ، حيلة منهم ، ولكن هذا المنذور المذبوح يكون مذبوحاً في الحقيقة باسم ذلك الولي الميت ، فهم وإن لم يذكروا اسم هذا الولي المنذور له ظاهراً على ألسنتهم عند ذبح ذلك الحيوان المنذور ، لكنهم يذكرون اسم وليهم باطناً في قلوبهم قبل ذبحه وعند ذبحه وبعد ذبحه ، دل على ذلك نذرهم له ونيتهم وتقربهم إليه واستعطافهم إياه لدفع الملمات وجلب الخيرات .

إذاً لا تأثير لذكر اسم الله تعالى عليه عند الذبح ما دام المنذور لغير الله تعالى ، فذبحهم باسم الله تعالى ليس إلا حيلة قبورية لا تنجيهم من الشرك والتحريم ؛ لأن العبرة للنية لا لذكر اسم الله تعالى على اللسان ، فهذا الناذر مشرك وهذا المنذور حرام وإن ذكر اسم الله عليه وقت الذبح .

قال المهايمي الحنفي (835هـ) مبيناً أن ما أهل به لغير الله فهو حرام في الحالين ، سواء ذكر اسم الله عليه أم لا : (فإنه وإن ذكر معه اسم الله فقد عارض المطهر فيه المنجس مع نجاسته بالموت - وإن لم يذكر فقد زيد في تنجيسه) .

وقال الإمامان التمرتاشي (1004هـ) والحصكفي (1088هـ) وتبعهما العلامة ابن عابدين الشامي (1252هـ) ، والعلامة اللكنوي (1304هـ) : [ شخص ] (ذبح) [ ضأناً مثلاً ] (لقدوم الأمير) ونحوه كواحد من العظماء (يحرم) ، لأنه أهل به لغير الله ، (ولو) وصلية (ذكر اسم الله تعالى) .... وهل يكفر ؟ قولان ... ونحوه في شرح الوهبانية عن الذخيرة ، ونظمه : * وفاعله جمهورهم قال : كافر * وفضلى

وإسمعيلي ليس يكفر * .

الشبهة الثالثة : لقد احتال القبورية في الاعتذار عن نذورهم للأموات بحيلة ماكرة عجيبة ، وهي أنهم يقولون : نحن إذا نذرنا للأولياء - فإن نذرنا في الحقيقة لله تعالى ، وإنما قصدنا إيصال ثواب نذرنا إلى الأولياء . هكذا ترى القبورية يحتالون بهذه الحيلة الماكرة ، ويعتذرون هذا الاعتذار البارد الفاسد .

الجواب : لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة الماكرة بأن هذه المعذرة حيلة محضة لا تسمن ولا تغني من جوع ، وأن القبورية غير صادقين في هذا الاعتذار ، لأمارات وشواهد ، وفيما يلي أسوق كلام بعض كبار الحنفية لقلع هذه الشبهة للقبورية * قمعاً لأعذارهم * وقطعا

لأدبارهم * وإقامة للحجة * وإيضاحاً للمحجة * :

1 -2- قال أحمد السرهندي الملقب عند الحنفية بالإمام الرباني ومجدد الألف الثاني (1034هـ) وتبعه محمد مراد المنزلوي - محققاً أن النذر لغير الله تعالى من أعظم الإشراك بالله سبحانه ، لأنه عبادة ، ومبيناً أن كثيراً من أهل الهند الجهلة القبورية يرتكبون أنواعاً من الشرك بأنواع من النذور لغير الله ، والاستغاثات ، ومبطلاً هذه الشبهة القبورية ، بأن القبورية في اعتذارهم هذا - غير صادقين : (والاستمداد من الأصنام والطاغوت في دفع الأمراض والأسقام * - كما هو شائع فيما بين جهلة أهل الإسلام - * عين الشرك والضلالة .... ، وأكثر النساء مبتليات بهذا الاستمداد الممنوع ... ومفتونات بأداء مراسم الشرك وأهل الشرك ، خصوصاً وقت عروض مرضى الجدري المعروف فيما بين نساء الهنود بالستيلة ، فإن ذلك الفعل مشهود ومحسوس من خيرهن وشرهن ... وتعظيم الأيام المعظمة عند اليهود ، وأداء رسوم الأيام المتعارفة عند اليهود - مستلزم للشرك ، ومستوجب للكفر ، كما أن جهلة أهل الإسلام خصوصاً طائفة نسائهم يؤدون رسوم أهل الكفر ...، كل ذلك شرك وكفر بدين الإسلام ، قال الله تبارك وتعالى :

{ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [ يوسف : 106] .

وما يفعلونه من ذبح الحيوانات المنذورة للمشايخ عند قبور المشايخ المنذورة لهم ، جعله الفقهاء أيضاً في الروايات الفقهية داخلاً في الشرك ،

وبالغوا في هذا الباب وألحقوه بجنس ذبائح الجن الممنوع عنها شرعاً .... ومثل ذلك صيام النساء بنية المشايخ ...، ويجعلن مطالبهن ، ومقاصدهن مربوطة بتلك الصيام .

ويطلبن حوائجهن منهم بواسطة تلك الصيام ، وذلك الفعل إشراك للغير في عبادة الله تعالى ، وطلب لقضاء الحوائج عن الغير بواسطة العبادة إليه ... وقول بعض النساء وقت إظهار شناعة هذا الفعل : ((نحن نصوم هذا الصيام لله تعالى ، وإنما نهدي ثوابها لأرواح المشايخ)) - حيلة منهن ، فإن كن صادقات في ذلك فلأي شيء يحتاج إلى تعين الأيام للصيام ، وتخصيص الطعام ، وتعين أوضاع شنيعة مختلفة في الإفطار * وكثيراً ما يرتكبن المحرمات وقت الإفطار * ويفطرن بشيء حرام ، ويسألن شيئاً من غير حاجة ، ويفطرن به ، ويزعمن قضاء حوائجهن مخصوصاً بارتكاب هذا المحرم ، وهذا عين

الضلالة ، وتسويل الشيطان اللعين ، والله العاصم) .

3 -8- وقال الإمام الآلوسي محمود ، مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) ، وتبعه ابنه العلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) وحفيده شكري الآلوسي (1342هـ) وآخرون من الحنفية ، مبينين أن النذر لغير الله تعالى شرك ، وأن عبدة القبور كعبدة الأصنام ، ومبطلين اعتذارهم بأنه من أبطل الحيل ، وأنهم غير صادقين في ذلك ، ومحققين أن القبورية عار شنار على هذه الأمة وضحكة لأهل الملل والنحل :

(وفي قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا } إلخ - [ الحج : 73] إشارة إلى ذم الغالين في أولياء الله تعالى * حيث يستغيثون بهم في الشدة غافلين عن الله تعالى * وينذرون لهم النذور ، والعقلاء منهم يقولون : ((إنهم وسائلنا إلى الله تعالى ، وإنما ننذر لله عز وجل ونجعل ثوابه للولي )) .

ولا يخفى أنهم في دعواهم الأولى أشبه الناس بعبدة الأصنام القائلين : إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ، ودعواهم الثانية لا بأس بها لو لم يطلبوا منهم بذلك شفاء مريضهم ، أو رد غائبهم أو نحو ذلك ، والظاهر من حالهم الطلب ، ويرشد إلى ذلك أنه لو قيل [ لهم ] : انذروا لله تعالى ، واجعلوا ثوابه لوالديكم ؛ فإنهم أحوج من أولئك الأولياء -

لم يفعلوا .

ورأيت كثيراً منهم يسجد على أعتاب حجر قبور الأولياء ، ومنهم من يثبت التصرف لهم جميعاً في قبورهم ، لكنهم متفاوتون فيه حسب تفاوت مراتبهم ، والعلماء منهم يحصرون التصرف في القبور في أربعة أو خمسة ؛ وإذا طولبوا بالدليل - قالوا : ((ثبت ذلك بالكشف)) !!! .

قاتلهم الله تعالى !! ما أجهلهم !! وأكثر افتراءهم !!! ، ومنهم من يزعم أنهم يخرجون من القبور ، ويتشكلون بأشكال مختلفة ، وعلماؤهم يقولون : ((إنما تظهر أرواحهم متشكلة ، وتطوف حيث شاءت ، وربما تشكلت بصورة أسد ، أو غزال ، أو نحوه)) . وكل ذلك باطل ، لا أصل له في الكتاب والسنة * وكلام سلف الأمة * وقد أفسد هؤلاء على الناس دينهم ، وصاروا ضحكة لأهل الأديان المنسوخة من اليهود والنصارى ، وكذا لأهل النحل والدهرية ، نسأل الله تعالى العفو والعافية) .

قلت : هذا كان جواباً دامغاً لحيلة القبورية هذه .

والآن ننتقل إلى المبحث الآتي لنعرف جهود الحنفية في إبطال تبركات القبورية .

المبحث الثاني

في جهود علماء الحنفية

في إبطال عقائد القبورية في التبرك على الوجه

المحذور

وفيه مطلبان :

- المطلب الأول : في عرض عقيدة القبورية في التبركات الشركية والبدعية .

- المطلب الثاني : في إبطال علماء الحنفية تبركات القبورية الشركية والبدعية .

المطلب الأول

في عرض عقيدة القبورية في التبركات الشركية والبدعية

من أشهر عقائد القبورية التبركات الشركية والبدعية ، فهم يهتمون بالتبرك بقبور الصالحين وأتربة قبورهم وآثارهم ومجالسهم التي لا

يوجد الدليل الشرعي على جواز التبرك بها ، كما يهتمون بالتبرك بكثير من الكتب البدعية الخرافية ، لمؤلفيها الذين لهم إجلال وإكبار في قلوب هؤلاء القبورية .

وفيما يلي عدة أمثلة لتبركات القبورية الشركية والبدعية :

1 - التماس البركة من قبور الأولياء جائز .

2 - تعظيم القبور والتبرك بها ولمسها وتقبيلها وتقبيل أعتاب مشاهدها ، والتمسح بها والطواف حولها ، جائز شرعاً وراجح عقلاً .

3 - تبرك القبورية بقبر أبي منصور الماتريدي ، إمام الماتريدية الحنفية (ت 333هـ) .

4 - وقال أحمد رضا خان الأفغاني إمام البريلوية الحنفية (1340هـ) : (لا بأس بوضع تمثال مقبرة الحسين في البيت للتبرك) .

5 - تبركات أخرى يرتكبها القبورية قديماً وحديثاً .

6 - تبركات الديوبندية الحنفية الماتريدية النقشبندية القبورية ، بالحجرة الشريفة ، على صاحبها ألف تحية وصلاة وسلام .

7 - وتبركاتهم بالغلاف .

8 - وتبركاتهم بتمر المدينة النبوية .

9 - وتبركاتهم بنوى التمر .

10 - وتبركاتهم بتراب الحجرة الشريفة .

11 - وتبركاتهم بأقمشة المدينة الطيبة .

12 - وتبركاتهم بالزيت المحروق في المسجد النبوي .

13 - وتبركاتهم بالزيت المحروق في الحجرة النبوية .

14 - وإدخالهم الأطفال إلى الحجرة للتبرك .

15 - وتبركاتهم بقبر النبي صلى الله عليه وسلم .

16 - وتبركاتهم بموضع جلوس النبي صلى الله عليه وسلم .

17 - وتبركاتهم بما مسته يده الشريفة صلى الله عليه وسلم .

18 - وتبركاتهم بما مرت عليه قدمه صلى الله عليه وسلم .

19 - وتبركاتهم بالمنبر في المسجد النبوي .

20 - وتبركاتهم بكتاب ((إحياء العلوم )) للغزالي الصوفي (505هـ) ذلكم الكتاب الخرافي * الجهمي القبوري الصوفي * .

21 - وتبركاتهم بكتاب ((المثنوي)) للرومي الحنفي * الحلولي الاتحادي الصوفي القبوري الخرافي * (672هـ) ، الذي أطراه القبورية حتى جعلوه قرآناً فارسياً .

هذه التبركات القبورية الديوبندية البدعية غير الشرعية - كلها - موجودة عند الديوبندية الذين هم أقرب إلى السنة والتوحيد بالنسبة إلى بقية القبورية . وقد سبق بيانها بالتوثيق .

22 - تبركات القبورية الأتراك بقصيدة البردة للبوصيري الصوفي الخرافي (696هـ) .

23 - تبركات القبورية بكتاب ((مختصر القدوري)) (428هـ) .

24 - تبركات القبورية بالقبور وأتربتها .

25 - ولعلي الأحمدي كتاب في الدعوة إلى التبركات القبورية الشركية والبدعية ، سماه ((التبرك)) .

هذه كانت عدة أمثلة ذكرتها لبيان عقيدة القبورية في التبركات الشركية والبدعية ، وبعد هذا ننتقل إلى المطلب الثاني لنعرف جهود علماء الحنفية في إبطالها .

***

المطلب الثاني

في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية

في التبرك على الوجه المحذور

اعلم أخي المسلم أن التبرك نوعان :

نوع مشروع : وهو ما ورد الشرع بجوازه ، فهذا النوع من التبرك لا كلام فيه . وليس هو موضوعنا ههنا ، ومن أراد أن يطلع على كثير مما ثبت التبرك به شرعاً فليرجع إلى كتاب ((التبرك أنواعه وأحكامه)) ، وغيره .

فكل ما ثبت في شرع الله تعالى التبرك به يجوز التبرك به ولا ينافي التوحيد ولا السنة .

ونوع ممنوع غير مشروع : وهو التبرك الذي لم يرد الشرع بجوازه ، أو ورد الشرع بخلافه ، فهذا النوع من التبرك هو بيت القصيد ههنا ، وهو صنفان :

الصنف الأول : تبرك شركي : وهو ما كان فيه طلب الخير والنماء من غير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه ، أو أن يعتقد المتبرك [ بصيغة اسم الفاعل ] : أن المتبرك به غير الله تعالى يعطي الخير والنماء

فوق الأسباب العادية ، وقد سبق على لسان علماء الحنفية أن من أنواع التبرك : الشرك في التبركات .

وهذا النوع من التبرك يرجع إلى عقيدة التصرف في الكون لغير الله سبحانه وتعالى ؛ وقد سبق مفصلاً محققاً على لسان علماء الحنفية ، أن هذه العقيدة من أعظم أنواع الإشراك بالله تعالى في الربوبية ، وأن صاحب هذه العقيدة من أوضح أصناف المشركين .

قال العلامة الرستمي حفظه الله تعالى - وهو من كبار علماء الحنفية المعاصرة - محققاً أن القبورية واقعون في شرك البركات ، مبيناً معنى (بسم الله الرحمن الرحيم) :

(فالمعنى : ((متبركاً باسم الله الرحمن الرحيم أقرأ)) ؛ فيه إشارة إلى أن البركة في اسمه تعالى ، وهو يبارك في الأشياء وحده لا شريك له في هذا ؛ وفي هذا رد على من يشرك [ بالله تعالى في القبورية ] في البركات ، ولذا ينذرون للأولياء ، وغيرهم من سوى الله تعالى ، ويقولون : ((إذا أعطينا نذورهم من الأنعام أو الحرث فينظر الأولياء إلى أموالنا

بنظر الشفقة ، ويباركون فيه ))، وبعضهم يقرءون أسماءهم في وظائفهم وخلواتهم للتبرك بها ، وما هذا إلا شرك في البركات .... فالذي يعتقد : أن فلان - الولي يبارك في أموالنا وفي حرثنا وفي أنعامنا - فهو مشرك بالله تعالى ؛ فالله تعالى هو ((المبارك)) باسم الفاعل وحده ، الذي يعطي له [ أي عبده ] نعيم الدنيا والآخرة ويزداد له في قليل ماله ؛ فهو [ أي العبد ] يسمى : ((مباركاً)) باسم المفعول ؛ كما قال الله تعالى : في شأن بيته المعظم : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا } [آل عمران : 96 ] ؛ فالله بارك في هذا الموضع بأنه يزيد ثواب عمل فيه أضعافاً مضاعفة ، وكذا فيه منافع كثيرة للناس ؛ فلذا سمي مباركاً ، وقال تعالى في شأن عيسى عليه السلام : { وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ } الآية [ مريم : 31] ؛ فبارك الله في عيسى عليه السلام بأن ينتفع به عباد الله ، وهو

يدعوهم إلى الله وإلى توحيده ، وعبادته ، وجعل في عبادته منافع كثيرة لأتباعه ....

وما يقولون في أدعيتهم توسلاً : ((ببركة فلان )) فلا معنى له ولا يجوز ؛ لأن ذلك المصدر [ البركة ] إما مضاف إلى الفاعل ، فالمعنى : ((المبارك هو الفلان)) - فهذا شرك ؛ كما ثبت قبل ؛ وإما مضاف إلى المفعول - فالمعنى : ((المبارك هو الفلان)) - فلا معنى لهذا التوسل ، كما لا يخفى على من له أدنى مسكة من العلم) .

قلت : القبورية في تبركاتهم الباطلة على طريقة الوثنية الأولى ؛ فقد صرح الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) بأن المشركين كانوا يتلون أسماء من يتغيثون بهم للتبرك ويعتقدون أن أسماءهم مباركة للحلف بها ، وكانوا يقصدون مواضع يعظمونها للتبرك بها .

الصنف الثاني : تبرك بدعي :

وهو ما لم يكن فيه طلب الخير والنماء من غير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله ؛ بل كان فيه طلب الخير والنماء من الله تعالى ، ولكن بواسطة شيء لم يرد الشرع به :

كطلب البركة من الله تعالى بواسطة غلاف الكعبة أو طلب البركة من الله تعالى بواسطة استلام الحجرة النبوية أو طلب البركة من الله تعالى بواسطة تمر المدينة النبوية ، ونحوها مما لم يرد به الكتاب والسنة ، وقد ذكرت عدة أمثلة للتبركات البدعية التي يرتكبها القبورية عامة والديوبندية خاصة .

والتبركات البدعية قناطر التبركات الشركية ، بل قد تكون شركية فعلاً إذا اعتقد المتبرك : أن المتبرك به يقدر على البركة ؛ ولقد حذر علماء الحنفية من جميع التبركات البدعية أيضاً كما حذروا من التبركات الشركية ، فقد صرحوا بوجوب إزالة كل ما يتبرك به القبورية تبركاً بدعياً : من قبر ، ونصب وشجر وحجر ، ومسجد بني على قبر ، وقنديل ، وسراج ، وشمع على قبر ، وخرفة ، ومسمار ، وحائط ، وعين ، وعمود ، ونحوها وقالوا : إن الواجب هدم هذه الأشياء كلها ، وإزالة أثرها ، والمبادرة إلى محوها ؛ لأن الناس يقصدونها ، ويعظمونها ، ويرجون البرء والشفاء بها والتبرك بها ، حسماً للفتنة التي قد عظمت بها ، وقطعاً للبلوى التي اشتدت بها ، إذ هي سبب للعنة الله تعالى والطرد من رحمته سبحانه ؛ ولأنها أعظم شراً ومفسدة من مسجد الضرار ؛

ولأن هذه التبركات البدعية قنطرة للتبركات الشركية ، فوجب منع ذلك ، حماية لحمى التوحيد ، وسداًَ لذرائع الشرك ؛ لئلا تصير هذه الأشياء أوثاناً تعبد من دون الله .

ولقد صرح علماء الحنفية أيضاً بمنع التبرك والتمسح بحجر مقام إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، واتفقوا على أن لا يقبل الركن اليماني ، ونصوا أيضاً على أن يقبل الحجر الأسود للتعبد لا للتبرك ، فلا يجوز تقبيل الحجر الأسود للتبرك ، حماية للتوحيد ، وسداً لذرائع الشرك .

ولقد صرح علماء الحنفية أيضاً بمنع التعلق بشجرة تشبه شجرة للمشركين ، ولو كان هذا التشبه بالاسم فقط ، فضلاً عن التبرك بها ، والعكوف عليها ، فإن ذلك يتسبب إلى الوثنية ، واستدلوا بحديث ((ذات أنواط)) .

وكذلك صرحوا بمنع انتياب الناس إلى شجرة ذات حادث جلل فضلاً عن التبرك بها ، ووجوب المبادرة إلى قطعها وإزالة أثرها ، واستدلوا بأثر عمر بن الخطاب في إزالة شجرة الرضوان ؛ كل ذلك حماية لحمى التوحيد وقطعاً لوسائل الشرك .

قلت : الحاصل أنه إذا كان التبرك بأمثال الحجر الأسود والركن اليماني ، وذات أنواط ، وشجرة الرضوان وغيرها مما لم يرد بالتبرك به

الشرع - فكيف يجوز التبرك بالأتربة ، والمنبر والزيت المحروق في المسجد النبوي ، وغير ذلك فضلاً عن التبرك بالقبور عامة وأتربتها ، والقبور المعظمة خاصة ؛ كما سبق ذلك في تحقيقات علماء الحنفية ومنعهم وتحذيرهم من التبركات الشركية والبدعية ، واستدلالهم بعمل الصحابة رضي الله عنهم في قصة دانيال وأمر عمر بن الخطاب بدفنه وتعمية أمره وأثره ، وأن أمثال هذه التبركات والتوسلات - من أفعال الوثنية الأولى .

نتيجة هذا البحث : لقد وصلنا في مبحث التبرك إلى نتائج :

1 - تعريف التبرك لغة واصطلاحاً .

2 - التبرك المشروع ، وهو ما ورد الشرع بجوازه .

3 - التبرك الشركي ، وهو شرك بالله في التصرف والربوبية .

4 - التبرك البدعي ، وهو دون التبرك الشركي في الإثم .

5 - التبرك البدعي قنطرة للتبرك الشركي .

6 - التبرك البدعي قد يصير تبركاً شركياً .

7 - تبركات القبورية كتوسلاتهم فيها شرك وبدعة .

8 - التبرك غير المشروع من أفعال الوثنية الأولى .

9 - القبورية في تبركاتهم الشركية والبدعية على طريقة المشركين السابقين .

10 - هذه التحقيقات لعلماء الحنفية فيها عبرة للقبورية عامة وللديوبندية الماتريدية النقشبندية خاصة .

وبعد هذا ننتقل إلى الفصل الثاني والله المستعان * وهو المبارك ، وعليه التكلان * .

 

الفصل الثاني

في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية

في زيارتهم الشركية والبدعية للقبور

وفيه مبحثان :

- المبحث الأول : في عرض عقيدة القبورية في زيارتهم الشركية والبدعية للقبور .

- المبحث الثاني : في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في زيارتهم الشركية والبدعية للقبور .

المبحث الأول

في عرض عقيدة القبورية في زيارتهم الشركية والبدعية للقبور

لقد سبق محققاً مفصلاً مبرهناً على لسان علماء الحنفية ، أن سبب وقوع بني آدم في الوثنية إنما هو الغلو في الصالحين ، والافتتان بقبورهم ، ولذلك نهى الشارع الحكيم أولاً عن زيارة القبور حسماً لمادة الشرك ، ثم لما استقر التوحيد في قلوب المسلمين ، وزال الخوف أذن لهم في زيارة القبور مع بيان صفة الزيارة والحكمة فيها والمقصود منها ، وهو التزهيد في الدنيا وتذكير الآخرة والدعاء والاستغفار لأهل القبور بدون ارتكاب أي نوع من الشرك والبدعة وغير ذلك من المعاصي .

ولكن الشيطان قد احتال على قبورية هذه الأمة ، واستدرجهم لأجل جهلهم بحقيقة توحيد الأنبياء والمرسلين ، وزين لهم كثيراً من أنواع الشرك ووسائله ، وصاغ لهم الشرك والبدع في قالب الدين ومحبة الأولياء وتعظيمهم ، فأعاد هذا الخسيس إبليس * - بأنواع من التدليس والتلبيس * - الوثنية الأولى في كثير من المنتسبين إلى الإسلام ، ومن مظاهرها زيارتهم للقبور زيارة شركية وبدعية .

وفيما يلي أذكر أمثلة من زيارة القبورية للقبور ، والمشاهد ، على طريقة شركية وبدعية ؛ فأقول وبالله التوفيق * وبيده أزمة التحقيق * :

للقبورية في زياراتهم الشركية والبدعية للقبور ألوان وأفنان ، أذكر منها ما يلي :

1 - زيارة القبور للمراقبة عند القبر ، وقد ارتكبها الشيخ خليل أحمد السهارنفوري (1346هـ) مؤلف ((بذل المجهود)) و ((المهند على المفند)) - ذلكم الكتاب القبوري - وأحد كبار أئمة الديوبندية النقشبندية ، مع رفقة من كبار علماء الديوبندية ، وكان منهم الشيخ أشرف علي التهانوي (1362هـ) الذي لقبوه بحكيم الأمة ، وهو حكيم ولكن للأمة الديوبندية .

فقد زار الشيخ السهارنفوري مع هؤلاء الركب الديوبندي ، ضريح الخواجة معين الدين الجشتي إمام الصوفية الجشتية ، وبمجرد الوصول إلى القبر جلس للمراقبة واستغرق في المراقبة كأنه أغمي عليه والناس حول القبر بين طائف وساجد ومرتكب للشرك .

2 - زيارة القبور لأجل حصول الفيوض من قبور الأكابر .

قلت : هذا نوع من الزيارة من أعظم عقائد الديوبندية ، وأقول : كانت الفلاسفة اليونانية إذا دهمتهم نازلة يذهبون إلى قبر

(( أرسطاطاليس )) المنطقي وشيخ الفلاسفة والمعلم الأول لهم( 322 ق م ) لحصول المدد والفيض من قبره .

وأقول : زيارة القبور لأجل حصول الفيوض من القبور وأهلها قد دعا إليها دعوة سافرة المتفلسفة في الإسلام ، أمثال الفارابي (339هـ) الملقب بالمعلم الثاني ، الضال الكافر ، وابن سينا الحنفي القرمطي (428هـ) الملقب بالرئيس ، ذلكم الملحد الذي فعل بالإسلام كما فعل بولس اليهودي (65م) بالنصرانية . صرح بذلك كثير من علماء الحنفية .

3 - زيارة القبور لأجل الدعاء والصلاة والقيام عندها ، وطلب القربة إلى الله تعالى والزلفى لديه بواسطة أهلها .

وأول من اطلعت عليهم من القبورية الذين ارتكبوا هذه الزيارة ودعوا إليها - هم إخوان الصفا ، المتفلسفة الباطنية .

وأخذها عنهم الرازي فيلسوف الأشعرية (606هـ) ، والتفتازاني

فيلسوف الماتريدية (792هـ) ، ثم تبعهم عامة القبورية حتى الديوبندية ، والكوثرية .

حتى صرح بعضهم بأن السؤال عند قبور الصالحين ثابت متوارث . وأن المختار أن يستقبل الزائر القبر عند الدعاء . وقد سبق الكلام عليه .

وقد صرح النابلسي الحنفي أحد أئمة القبورية (1143هـ) - وتبعه الكوثري إمام الكوثرية القبورية الجهمية (1371هـ) - بجواز إيقاد السراج على قبر ولي من أولياء الله تعظيماً لروحه المشرقة على تراب جسده كإشراق الشمس على الأرض ؛ إعلاماً للناس أنه ولي ليتبركوا به ، ويدعوا الله عنده فيستجاب لهم .

4 - زيارة القبور بالسفر إليها ، وشد الرحال إليها ، والحج إليها .

وهذا النوع من الزيارة هو بيت القصيد عند القبورية قديماً وحديثاً .

أقول : هذا النوع من الزيارة قد كان عند المشركين السابقين ، كما صرح بذلك الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) .

ثم تسربت هذه الزيارة إلى الروافض ، فقد صنف ابن النعمان شيخ

الرافضة ، المعروف بابن المعلم ، والملقب بالمفيد (413هـ) كتابا سماه : ((مناسك حج المشاهد)) ، وقد أفضى ببعض القبورية إلى أنه قد حج إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يذهب إلى الكعبة المشرفة ، وبعض القبورية يعد هذا العمل من الفضائل وأن فاعله أفضل من الحاج ، وهذا لازم كلام الديوبندية لأن القبر الشريف أفضل من الكعبة والعرش عندهم .

5 - زيارة الديوبندية لقبر النبي صلى الله عليه وسلم بطريقة تناقض السنة * وتصدم عمل سلف هذه الأمة * ، وهي من أوضح عقائد الديوبندية وبدعهم ؛ فقد صرحوا بأن الزائر يجرد نيته لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم عند السفر إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فتكون زيارة قبره صلى الله عليه وسلم هي المقصد الأعظم من السفر ، أما زيارة المسجد النبوي فتكون تبعاً وضمناً ؛ فإن قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الكعبة والعرش والكرسي .

قلت : هذه من عجائب الديوبندية ، مع أنهم أقرب إلى السنة ، فما ظنك بغيرهم من القبورية ؟؟ .

6 - زيارة القبور لأجل الاستمداد من أهلها والاستغاثة بهم لدفع الملمات وجلب الخيرات . وللنذر لها ولأصحابها ، ولا سيما الذبح

عندها ولها ولأصحابها ، وللاحتفال بمواليد أصحابها عندها ، وللطواف بها ، وأكل ترابها ، وتقبيلها واستلامها ، ولغيرها من الشركيات والبدع التي يرتكبها القبورية عند زيارة القبور في شرق الأرض وغربها وجنوبها وشمالها مما هو مشاهد ملموس * ومرئي ومسموع ومحسوس * .

وهذه المشاهد مئات بل آلاف * وأنواع وألوان وأقسام وأصناف *

وقد اهتم القبورية بهذه الأنواع من الزيارات للقبور ، حتى جعلوها أهم من فروض الأعيان ، فتراهم يتحملون عناء السفر في تحقيقها ، وينفقون للوصول إليها أموالاً هائلة ، ويذهبون إليها خفافاً وثقالاً ، وينفرون إليها ثباتاًَ وجميعاً ، ويطيرون إليها زرافات ووحداناً ، ويجتمعون عندها رجالاً ونساء وصغاراً وكباراً ، وشباباً ، وشيوخاً ، فيتهافتون على القبور - تهافت الفراش على النار ، ويسبب ذلك فتناً كثيراً ، منها : موت كثير من الخلائق من شدة الزحام * ، فضلاً عن ارتكاب الفسق والفجور وكبائر الآثام * .

هذه نماذج من زيارات القبورية للقبور ذكرتها مثالاً لما عندهم من

العقائد الشركية والبدعية في زيارة القبور ؛ وبعد هذا ننتقل إلى المبحث الثاني ؛ لنعرف جهود علماء الحنفية في إبطال هذه الزيارات وقلعها وقمع أصحابها ، والله المستعان وعليه التكلان .

****

المبحث الثاني

في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في زيارتهم الشركية والبدعية للقبور

لعلماء الحنفية جهود كثيرة في الرد على القبورية الزائرين للقبور زيارة شركية وبدعية ، ولهم نصوص قاطعة لدابر القبورية وقامعة لشبهاتهم ، أسوق بعضها للإنذار * وحسماً للأعذار * وإتماماً للحجة * وإيضاحاً للمحجة * :

1 -8- قال الأئمة الثلاثة : محمد البركوي (981هـ) وأحمد الرومي (1043هـ) ، والشاه ولي الله الدهلوي (1176هـ) ، والشيوخ الثلاثة : المظفري ، وسبحان بخش الهندي وإبراهيم السورتي ، والعلامتان : نعمان الآلوسي (1317هـ) وشكري الآلوسي (1342هـ) في بيان الفرق بين الزيارتين : السنية ، والشركية البدعية ؛ محققين أن طريقة حصول الفيوض من القبور وأهلها طريقة للوثنية الأولى ، وأن هذه الزيارة أخذها منهم المتفلسفة في الإسلام ثم عامة القبورية - واللفظ للأول بكامله وللآخرين قطعات منه -:

(فإذا كان ذلك فاللائق بالزائر أن يتبع السنة ويقف عند ما شرع له ، ولا يتعداه ؛ ليكون محسناً إلى نفسه ، وإلى الميت ، فإن زيارة القبور نوعان :

زيارة شرعية * وزيارة بدعية * ؛ [ بل شركية ] .

أما الزيارة الشرعية : التي أذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالمقصود منها شيئان :

أحدهما : راجع إلى الزائر : وهو الاعتبار والاتعاظ .

والثاني : راجع إلى الميت : وهو أن يسلم عليه الزائر ، ويدعو له .

وأما الزيارة البدعية : فزيارة القبور لأجل الصلاة عندها ، والطواف بها ، وتقبيلها ، واستلامها ، وتعفير الخدود عليها ، وأخذ ترابها ، ودعاء أصحابها ، والاستعانة بهم ، وسؤالهم النصر ، والرزق ، والعافية ، والولد ، وقضاء الديون ، وتفريج الكربات * وإغاثة اللهفات * وغير ذلك من الحاجات * التي كان عباد الأوثان يسألونها من أوثانهم ؛ فليس شيء من ذلك مشروعاً باتفاق أئمة المسلمين * إذ لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة والتابعين * وسائر أئمة الدين * بل أصل هذه الزيارة البدعية الشركية مأخوذة عن عباد الأوثان ؛ فإنهم قالوا : الميت المعظم الذي لروحه قرب ومزية عند الله تعالى لا يزال تأتيه الألطاف من الله تعالى ، وتفيض على روحه الخيرات ؛ فإذا علق الزائر روحه به ، وأدناه منه فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها ، كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية ، والماء الصافي ونحوهما على الجسم المقابل له ، ثم قالوا : فتمام الزيارة أن يتوجه

الزائر بروحه إلى الميت ، ويعكف بهمته عليه * ويوجه قصده وإقباله إليه * بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره ، وكلما كان جمع الهمة والقلب عليه أعظم كان أقرب إلى انتفاعها ، وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سينا ، والفارابي وغيرهما ؛ وصرح به عباد الكواكب ؛ وقالوا : إذا تعلقت النفس الناطقة بالأرواح العلوية فاض عليها منها نور ؛ ولهذا السر عبدت الكواكب ، واتخذت لها الهياكل وصنفت لها الدعوات ، واتخذت لها الأصنام ، وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها مساجد ، وبناء المساجد عليها ، وتعليق الستور عليها ، وإيقاد السرج عليها ، وإقامة السدنة لها ، ودعاء أصحابها ، والنذر لهم ، وغير ذلك من المنكرات ، والله هو الذي بعث رسله ، وأنزل كتبه لإبطاله ، وتكفير أصحابه ، ولعنهم ، وأباح دماءهم وأموالهم ، وسبى ذراريهم ، وهو الذي قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطاله ،

ومحوه بالكلية ، وسد الذرائع المفضية إليه فوقف هؤلاء الضالون في طريقه ، وناقضوه في قصده ؛ وقالوا : إن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه المقرب عند الله تعالى وتوجه إليه بهمته ، وعكف بقلبه عليه - صار بينه وبينه اتصال يفيض به عليه نصيب مما يحصل له من الله تعالى ؛ وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وقرب من السلطان ، وهو شديد التعلق به ، فما يحصل من السلطان من الإنعام والإفضال ينال ذلك المتعلق به من حصته بحسب تعلقه به ، وبهذا السبب عبدوا القبور ، وأصحابها ، واتخذوهم شفعاء على ظن أن شفاعتهم تنفعهم عند الله في الدنيا والآخرة ؛ والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من الرد عليهم ، وإبطال رأيهم .......) .

قلت : هذا النص لا يحتاج إلى تعليق ما ، وفيه عبرة ونكال للديوبندية المتبركين الزائرين لأجل الفيوض ، فضلاً عن غيرهم من القبورية المحضة .

9 -14- وقال هؤلاء الأئمة الثلاثة : البركوي (981هـ) والرومي (1043هـ) والشاه ولي الله الدهلوي (1176هـ) ، والشيوخ الثلاثة : سبحان بخش الهندي وإبراهيم السورتي ، والمظفري ، في بيان المقارنة بين الزيارة السنية وبين الزيارة الشركية - البدعية ، - محققين أن القبورية

خالفوا السنة في زيارة القبور ، من عدة وجوه ، وأنهم غيروا وبدلوا القول الذي قيل لهم في شرع الرحمن * بالذي أخذوه من شرع الشيطان * فناقضوا التوحيد والسنن * وارتكبوا أنواعاً من الشرك والفتن * - واللفظ للأول ، وللباقين فقرات من هذا النص -:

(ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في [ زيارة ] القبور وما أمر به ونهى عنه ، وما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، وبين ما عليه أكثر الناس [ من القبورية ] اليوم - رأى أحدهما [ يعني الزيارة البدعية ] مضاداً للآخر ، مناقضاً له [ يعني الزيارة السنية ] ؛ بحيث لا يجتمعان أبداً [ لأن القبورية ناقضوا السنة والتوحيد في زيارتهم للقبور من وجوه :

الأول : صلاتهم عندها ] فإنه عليه السلام نهى عن الصلاة إلى القبور ، وهم يخالفونه ويصلون عندها .

و [ الثاني : أنه عليه الصلاة والسلام ] نهى عن اتخاذ المساجد عليها ؛ وهم يخالفونه ويبنون عليها مساجد ، ويسمونها مشاهد .

و [ الثالث : أنه] نهى عن إيقاد السرج عليها ؛ وهم يخالفونه ويوقدون عليها القناديل والشموع ؛ بل يوقفون لذلك أوقافاً .

و [الرابع : أنه صلى الله عليه وسلم ] أمر بتسويتها ؛ وهم يخالفونه ، ويرفعونها من الأرض كالبيت .

و [ الخامس : أنه صلى الله عليه وسلم ] نهى عن تجصيصها والبناء عليها ؛ وهم يخالفونه ويجصصونها ، ويعقدون عليها القباب .

و [ السادس : أنه صلى الله عليه وسلم ] نهى عن الكتابة عليها ؛ وهم يخافونه

ويتخذون عليها الألواح ، ويكتبون عليها القرآن وغيره .

[ والسابع : أنه صلى الله عليه وسلم ] نهى عن الزيادة عليها غير ترابها ، وهم يخالفونه ويزيدون عليها سوى التراب : الآجر والجص .

[والثامن : أنه صلى الله عليه وسلم ] نهى عن اتخاذها عيداً ، وهم يخالفونه ويتخذونها عيداً ، ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد وأكثر .

الحاصل : أنهم مناقضون لما أمر به الرسول عليه السلام ، و [ ما ] نهى عنه ، ومحادون لما جاء به .

و [ التاسع : أنه ] قد آل الأمر بهؤلاء الضالين المضلين إلى أن شرعوا للقبور حجاً ، ووضعوا لها مناسك ، حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتاباً وسماه : ((مناسك حج المشاهد)) ؛ مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام ، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ، ودخول في دين عباد الأصنام ، فانظر [ أيها المسلم ] ما بين ما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم : من النهي عما تقدم ذكره في القبور ، وبين ما شرعه هؤلاء [ القبورية ] وما قصدوه من التباين ، ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز عن حصره :

فمنها : تعظيمها الموقع في الافتتان بها .

ومنها : تفضيلها على أحب البقاع إلى الله تعالى ، فإنهم يقصدونها مع التعظيم ، والاحترام ، والخشوع ، ورقة القلب ، وغير ذلك مما لا يفعلونه في المساجد ، ولا يحصل لهم فيها نظيره ، ولا قريب منه ؛

وذلك يقتضي عمارة المشاهد * وخراب المساجد * ودين الله الذي بعث فيه رسوله بضد ذلك ؛ ولهذا كانت الرافضة من أبعد الناس عن العلم والدين ، إذ عمروا المشاهد * وخربوا المساجد * .

ومنها : اعتقاد أن بها يكشف البلاء * وينصر على الأعداء * ويستنزل الغيث من السماء * إلى غير ذلك من الرجاء * .

ومنها : الشرك الأكبر الذي يفعل عندها ....

ومنها : الدخول في لعنة الله تعالى ورسوله باتخاذ المساجد عليها .

ومنها : المشابهة بعباد الأصنام بما يفعلونه عندها :

من العكوف عليها ، والمجاورة عندها ، وتعليق الستور عليها ، واتخاذ السدنة لها ؛ حتى أن عبادها [ القبورية ] يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام ، ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد .

ومنها : النذر لها ، ولسدنتها .

ومنها : المخالفة لله ولرسوله [ صلى الله عليه وسلم ] والمناقضة لما شرعه في دينه .

ومنها : إماتة السنن ، وإحياء البدع .

ومنها : السفر إليها مع التعب الأليم ، والإثم العظيم ؛ فإن جمهور العلماء قالوا : السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين * ولا أمر بها رسول رب

العالمين * ولا استحبها أحد من أئمة المسلمين * ؛ فمن اعتقد ذلك قربة وطاعة فقد خالف السنة والإجماع ؛ ولو سافر بذلك الاعتقاد يحرم بإجماع المسلمين ؛ فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة ، ومعلوم أن أحداً لا يسافر إليها إلا لذلك ؛ وقد ثبت في الصحيحين أنه عليه السلام قال : (( « لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ، ومسجدي هذا » )) .

ومنها : إيذاء أصحابها ؛ فإنهم يتأذون بما يفعل عند قبورهم مما ذكر ، ويكرهونه غاية الكراهة ؛ كما أن المسيح [ على نبينا وعليه السلام ] يكره ما يفعله النصارى في حقه ، وكذلك غيره من الأنبياء والمشايخ يؤذيهم ما يفعله [ القبورية ] أشباه النصارى في حقهم وهم يتبرءون منهم يوم القيامة ....

ومنها : أن الذي شرعه النبي صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور إنما هو تذكرة الآخرة ، والاتعاظ ، والاعتبار بحال المزور ، والإحسان إليه بالدعاء له والترحم عليه ؛ حتى يكون الزائر محسناً إلى نفسه وإلى الميت ؛ فقلب هؤلاء الأمر ، وعكسوا الدين وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت ، ودعاءه ، وسؤاله الحوائج ، واستنزال البركات منه ، ونحو ذلك ؛ فصاروا مسيئين إلى أنفسهم ، وإلى الميت ...) .

قلت : هذا النص لا يحتاج إلى التعليق .

ولكن أقول : فيه عبرة بالغة للديوبندية الذين يشدون الرحال إلى القبور ، ويرون ذلك قربة عظيمة ، ويزورون القبور لأجل حصول البركات والفيوض من القبور وأهلها ، مع تظاهرهم بالتوحيد والسنة !! ونكال شديد لغيرهم من القبورية المحضة المرتكبين أنواعاًَ من الشركيات الوثنيات عند القبور .

15 -19- وقال الإمامان : البركوي (981هـ) وأحمد الرومي (1043هـ) والشيخان : سبحان بخش 1الهندي ، وإبراهيم السورتي ، والعلامة شكري الآلوسي (1342هـ) بعد كلام طويل متين في بيان مفاسد الزيارة الشركية والبدعية ، وذكر فضائح القبورية ، وإبطال كثير من أفعالهم الشركية والبدعية التي يرتكبونها عند زيارة القبور ؛ محققين أن الاحتفال بالقبور والحج إليها ، والحضور للاجتماع عند مواليد أصحابها ، وجعلها أعياداً - من أعظم أسباب الوثنية ، وأن ذلك متضمن لعدة أنواع من الإشراك بالله ، وعبادة غير الله جل وعلا ، فضلاً عن البدع ، والفتن * ما ظهر منها وما بطن * ؛ فاستمع أيها المسلم إلى كلام هؤلاء العلماء من الحنفية - واللفظ للأول -:

(ومنها : أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن اتخاذها عيداً ؛ كما ثبت في سنن أبي داود بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه : أنه عليه

الصلاة والسلام قال : (( « لا تجعلوا بيوتكم مقابر ، ولا تجعلوا قبري عيداً ؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم » )) ......... فإن قبره عليه الصلاة والسلام لما كان سيد القبور ، وأفضل قبر على وجه الأرض - وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن اتخاذه عيداًَ - فقبر غيره أولى بالنهي كائناً من

كان .... وأشار صلى الله عليه وسلم بذلك [ القول ] إلى أن ما يناله منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبره ، وبعدكم عنه ؛ فلا حاجة بكم إلى الاتخاذ [ لقبره ] عيداً ؛ كما اتخذ المشركون من أهل الكتاب قبور أنبيائهم وصالحيهم عيداً ؛ فإن اتخاذ القبور عيداً - هو من أعيادهم التي كانوا عليها قبل مجيء الإسلام ؛ وقد كان لهم أعياد زمانية ومكانية ؛ فلما جاء الإسلام أبدلها الله تعالى وعوض عن أعيادهم الزمانية : عيد الفطر ، وعيد النحر وأيام منى [ ويوم الجمعة ] كما عوض عن أعيادهم المكانية : الكعبة البيت الحرام ، وعرفات ومنى ، والمشاعر ، [ والمسجد النبوي والمسجد الأقصى ] .

[ شبهة ، وقلعها ، وقمع أصحابها ] :

قال ابن القيم في ((إغاثته)) : قد حرف هذه الأحاديث الناهية عن اتحاذ القبور أعياداً بعض من أخذ شبهاً من النصارى بالشرك ، وشبهاً من اليهود بالتحريف فقال :

هذا [ الحديث فيه ] أمر بملازمة قبره عليه الصلاة والسلام ، والعكوف عنده ، واعتياد قصده ، وانتيابه ، و [ فيه ] نهي [ عن ] أن يجعل [ قبره ] كالعيد الذي إنما يكون في العام مرة أو مرتين ؛ فكأنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : ((لا تجعلوا [ زيارة ] قبري بمنزلة العيد الذي يكون

من الحول إلى الحول ؛ [ بل زوروا قبري مراراً وتكراراً ، كل حين وفين ] ، واقصدوه كل وقت وكل ساعة)) .

وهذا محادة ومناقضة لما قصده الرسول عليه الصلاة والسلام ، وقلب للحقائق ، ونسبة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التدليس والتلبيس ؛ إذ لا ريب أن من أمر الناس بملازمة أمر واعتياده ، وكثرة انتيابه بقوله : (( « لا تجعلوا قبري عيداً » )) فهو إلى التلبيس ، وضد البيان أقرب منه إلى الدلالة والبيان ؛ فإن لم يكن هذا تنقيصاً [ للنبي صلى الله عليه وسلم ] فليس للتنقيص حقيقة فينا ؛ ولا شك أن ارتكاب كل كبيرة بعد الشرك أسهل إثماً ، وأخف عقوبة من تعاطي مثل ذلك [ التحريف] في دينه عليه السلام وسننه ؛ وهكذا غيرت ديانات الرسل ؛ ولولا أنه تعالى أقام لدينه الأنصار والأعوان الذابين عنه لجرى عليه ما جرى على الأديان قبله ؛ قال عليه السلام : (( « يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين » )) ؛ فإنه عليه الصلاة والسلام بين في هذا الحديث : أن الغالين يحرفون ما جاء به وأن المبطلين ينتحلون أن باطلهم هو ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام ؛ وأن الجاهلين يتأولونه على غير تأويله ؛ وفساد الإسلام من هؤلاء الطوائف الثلاث ؛ فلو أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم

ما قال هؤلاء الضالون - لم ينه عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد ، ولم يلعن من فعل ذلك ؛ فإنه عليه السلام إذا لعن من اتخذها مساجد يعبد الله فيها - فكيف يأمر بملازمتها والعكوف عندها ، وأن يعتاد قصدها ، وإتيانها ، ولا تجعل كالعيد الذي يجيء من الحول إلى الحول ؟؟ .

 

وكيف يقول : (( « وصلوا علي حيث ما كنتم » )) بعد قوله : (( « لا تجعلوا قبري عيداً » )) !! وكيف لم يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك ما فهمه هؤلاء الضالون الذين جمعوا بين الشرك والتحريف ......

ثم في اتخاذ القبور عيداً من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله تعالى : ما يغضب لأجله كل من كان في قلبه وقار لله تعالى وغيرة على التوحيد ؛ وتقبيح للشرك وتهجين للكفر والبدع ؛ ولكن ما لجرح بميت إيلام ؛ فمن مفاسد اتخاذها عيداً :

أن غلاة متخذيها عيداً إذا رأوها من موضع بعيد * ينزلون من الدواب ، ويضعون الجباه على الأرض ، ويقبلون ، ويكشفون الرءوس ، وينادون من مكان بعيد * ويستغيثون بمن لا يبدي ولا يعيد * ويرفعون

الأصوات بالضجيج * ويرون أنهم قد زادوا في الربح على الحجيج *

حتى إذا وصلوا إليها يصلون عندها ركعتين * ويرون أنهم قد أحرزوا من الأجر أجر من صلى إلى القبلتين * فتراهم حول القبور - سجداً يبتغون فضلاً من الميت ورضواناً * وقد ملؤا أكفهم خيبة وخسراناً * فلغير الله تعالى بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات * و [ ما ] يرتفع من الأصوات * و [ ما ] يطلب من الميت من الحاجات * و [ ما ] يسأل من تفريج الكربات * وإغناء ذوي الفاقات * ومعافاة أولي العاهات والبليات * .

ثم إنهم ينتشرون حول القبر طائفين * تشبيهاً له بالبيت الحرام الذي جعله الله تعالى مباركاً وهدى للعالمين *

ثم يأخذون في التقبيل والاستلام * كما يفعل بالحجر الأسود في المسجد الحرام * ثم يخرون على الجباه والخدود * والله تعالى يعلم أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود * ثم يكلمون مناسك حج القبر بالتقصير والحلاق * ويستمتعون من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم نصيب عند من هو الخلاق * .

ثم يقربون لذلك الوثن القرابين * وتكون صلاتهم ، ونسكهم ، وقربانهم لغير الله رب العالمين * ثم نراهم يهنئ بعضهم بعضاً ، ويقول [ جاهراً ] * أجزل الله لنا ولكم أجراً وافراً * ثم إذا رجعوا يسألهم بعض غلاة المتخلفين : أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحجة البيت الحرام * فيقول : لا ولو بحجك كل عام * هذا ولم نتجاوز فيما حكينا عنهم ، ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم ؛ إذ هي فوق ما يخطر بالبال * و [ فوق ] ما يدور في الخيال * ......) .

أقول : هذا النص من هؤلاء الأعلام من الحنفية سيف قاطع لأعناق هؤلاء القبورية .

20 -21- وللإمامين الآلوسيين : الجد (1270هـ) والابن (1317هـ) نص مهم فيه عبرة للديوبندية خاصة وللقبورية عامة فليرجع إليه .

22 علق عليه ابنه نعمان الآلوسي (1317هـ) قائلاً :

(قلت : وقد تعاظم الأمر في هذا الزمان * وظهرت البدع في كل

مكان * وبنيت القبب المذهبة على القبور * ونذرت لها النذور * وجعلت عليها الشبابيك من العين * وسرجت عليها السرج وقناديل اللجين * ووضعت عليها الأسلحة المجوهرة * وصرفت على سدنتها وبنائها القناطير المقنطرة * وطاف حولها الزائرون * وتبرك بتقبيلها والتمسح بأعتابها الداخلون * وطلبوا منهم قضاء الحاجات * وتفريج الكربات * وجعلوا ذلك من أعظم الطاعات * ورموا من زجرهم عن هذا الفعل بأعظم الهنات * وأسمعوه ما يكره من الكلمات * ... وأكثر عملهم في ذلك من الكبائر * كما صرحت به الجهابذة الأكابر * ) .

23-24- وللإمام الشاه ولي الله الدهلوي (1176هـ) نصان مهمان في إبطال الزيارة الشركية قد قطع بهما دابر القبورية ، وقد سبق أن ذكرتهما .

25 -28- وللعلامة الآلوسي الحفيد (1342هـ) نصوص أربعة قامعة رادعة في بيان كشف الستار عن أسرار القبورية الزائرين للقبور زيارة شركية ، قد سبق ذكرهما .

29 -31- وقال الإمامان : الكمال ابن الهمام (861هـ) وابن نجيم الملقب بأبي حنيفة الثاني (970هـ) وغيرهما من أعلام الحنفية في بيان الزيارة السنية والبدعية : (ويكره النوم عند القبر ، وقضاء الحاجة ؛ بل كل ما لم يعهد من السنة ؛

والمعهود منها ليس إلا زيارتها والدعاء عندها قائماً [ يعني الدعاء لأهل القبور ] ؛ كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى البقيع ) ؛ ثم ذكر الدعاء المأثور لأهل القبور بالعافية والمغفرة .

قلت : هذا النص يدل دلالة قاطعة على أن كل ما تفعله القبورية مما لم يرد في السنة فهو باطل ؛ فضلاً عما يرتكبونه من الشرك البواح والكفر الصراح وعبادة القبور ، وأهلها وما يرتكبونه من الفسق والفجور وغير ذلك من المنكرات .

وفيما ذكرت من نصوص الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في زيارتهم الشركية والبدعية - كفاية ، والله الهادي إلى سواء السبيل * من ضل عن التوحيد والسنة من كل ضليل * ولننتقل إلى الفصل الآتي لنعرف جهود علماء الحنفية في تحريم البناء على القبور .

***

الفصل الثالث

في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية

في البناء على القبور

وفيه مباحث ثلاثة :

- المبحث الأول : في عرض عقيدة القبورية في البناء على القبور .

- المبحث الثاني : في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية في البناء على القبور .

- المبحث الثالث : في إبطال علماء الحنفية لبعض شبه القبورية في البناء على القبور .

المبحث الأول

في عرض عقيدة القبورية في البناء على القبور

تعتقد القبورية جواز بناء المساجد والقبب على القبور ؛ بل يدعون دعوة سافرة إلى بناء المساجد والقباب على القبور ، ولهم في ذلك بحوث ومقالات وكتب :

1 - فقد عقد السمنودي (بعد 1326هـ) عنواناً بلفظ :

(مبحث البناء على القبور من المذاهب الأربعة ، مع بيان الأدلة) ، ثم طول النفس في ذكر الخرافات التي ظنها أدلة على جواز بناء المساجد والقباب على القبور .

2 - وعقد الحسن العاملي العراقي (1371هـ) فصلاً تاسعاً قائلاً :

(الفصل التاسع في بناء القبور ، والبناء عليها وتجصيصها ، وعقد القباب فوقها وعمل الصندوق والخلعة لها ، وهذا مما حرمه الوهابية ، وأوجبوا هدم القبور والقباب التي عليها والبناء الذي حولها) .

ثم جمع كثيراً من الخرافات في تحقيق مزاعمه الباطلة وتجرد للوثنية الصريحة في كلام طويل مكتظ بالخرافات .

3 - وعقد فصلاً آخر قائلاً :

(الفصل الحادي عشر في اتخاذ المساجد على القبور واتخاذها مساجد) ، ثم طول النفس في دعم خرافاته القبورية .

4 - وعنون محمد النوري [ ابن ] رشيد النقشبندي الدير شوي القبوري بقوله : (البناء على القبور) ثم ذكر طائفة من خرافاته ليدعم بها الوثنية القبورية .

5 - وللكوثري الحنفي الجهمي الماتريدي القبوري (1371هـ) مقالة فتاكة بعنوان : (بناء مساجد على القبور والصلاة إليها) .

6 - وللبنوري الديوبندي الحنفي الكوثري القبوري (1397هـ) مقدمة لمقالات الكوثري أبعد غوراً في الضلال والفساد * والإضلال والإفساد * أطرى فيها مقالات الكوثري إطراءً منكراً ، وأكبرها إكباراً عظيماً ، ومن تلك المقالات مقالة في الدعوة السافرة إلى القبورية الوثنية وعدة مقالات في الدعوة إلى التجهم والتعطيل ، وجعل كتاب التوحيد لابن خزيمة ، والسنة لعبد الله ابن الإمام أحمد ، ورد الدارمي على بشر المريسي وغيرها من كتب أئمة السلف - كتباً وثنية ، وجعل عقيدة أئمة الإسلام السلفية عقيدة وثنية مع كون هذه المقالات الكوثرية مكتظة بشتائم فظيعة شنيعة لأئمة السنة وأعلام هذه الأمة أمثال : الدارمي والإمام ابن الإمام عبد الله بن أحمد وإمام الأئمة ابن خزيمة وشيخ الإسلام وابن القيم

الإمام ، ومجد الدعوة وغيرهم من أئمة الإسلام .

7 - قال الكوثري مستبشعاً هدم القبور صارخاً مهولاًَ ومجولاً قائماً وقاعداً منكراً على أهل التوحيد والسنة الذين أفتوا بوجوب هدم القباب على القبور : (فعلى هذا الرأي من صاحب التوقيع يجب على أولياء الأمور في بلاد الإسلام أن يمسكوا بمعاول الهدم ليعملوها في هدم قباب الصحابة وأئمة الدين ، وصالحي الأمة في مشارق الأرض ومغاربها ، والمساجد المضافة إليهم ، وقباب ملوك الإسلام ، وأمراء الإسلام وغيرهم في كل قطر !!) .

8 - 9- وقال الكوثري ناقلاً كلام لأبي مقرراً له مجوزاً بناءً المساجد والقباب على القبور : (فأما من اتخذ مسجداً قرب رجل صالح ، أو صلى في مقبرته قصداً للتبرك بآثاره ، وإجابة دعائه هناك فلا حرج ...) .

10 -11- وقال الكوثري مستدلاً بكلام النابلسي الحنفي القبوري الصوفي الخرافي (1143هـ) ، في جواز اتخاذ القبور مساجد وجواز بناء المساجد عليها دعوة سافرة منهما إلى القبورية الوثنية :

(وأما من اتخذ مسجداً في جوار صالح ، أو صلى في قبره وقصد به الاستظهار بوجه ، أو وصول أثر من آثار عبادته إليه لا للتعظيم له ، والتوجه إليه - فلا حرج ....) .

12 -13- وقالا ، ناقلاً اللاحق عن السابق في بيان جواز إيقاد الشموع على القبور ، وجواز بناء المساجد على القبور للتبرك ووصول الفيوض من القبور وأهلها :

(...... وهذا كله إذا خلا من فائدة ، وأما إذا كان موضع القبور مسجداً أو على طريق ، أو كان هناك أحد جالس ، أو كان قبر ولي من أولياء الله ، أو عالم من المحققين ، لروحه المشرقة على تراب جسده كإشراق الشمس على الأرض ؛ إعلاماً للناس أنه ولي ليتبركوا به ، ويدعوا لله عنده فيستجاب لهم ، فهو أمر جائز لا منع فيه ..) .

14 -15- لذلك نرى كثيراً من القبورية ، منهم العاملي (1371هـ) والكوثري (1371هـ) على عادة أهل البدع الخبيثة قديماً وحديثاً ، ولا سيما الروافض والجهمية والقبورية ، يطعنون ظلماً وعدواناًَ في الأحاديث الصحيحة الناهية عن البناء على القبور .

16 - ولقد اهتمت القبورية علماء وجهالاً ، خواص وعوام ، رجالاً ونساءً ، ملوكاً وأمراء ووزراء ، وقواداً - اهتماما بالغاً بتعمير القبب

والمساجد على القبور ، وتعمير العمائر الشامخات عليها ، وتعمير المنارات الناطحات السماء ، وأنفقوا على ذلك ملايين الملايين من الأموال الهائلة والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ؛ وأما ما ينفق على خدمها وسدنتها وصيانتها ، وكذا ما ينفق على الأطعمة والأشربة عند احتفال القبورية على مواليد أصحابها ثاجين * عاجين * وأيضاً ما ينفق على الحج والسفر إليها من كل فج عميق ، ناذرين * ذابحين * متبركين * مستغيثين * - فحدث ولا حرج .

كما ترى ذلك التبذير والإسراف والإفراط * في الإنفاق على هذه المزارات والمشاهد والمواليد المبنية على غير سواء الصراط * مما يرى في مشرق الأرض ومغربها * وشمالها وجنوبها * وما هو مشاهد ملموس * ومرئي ومسموع ومحسوس * .

17 - وهذه المشاهد والمزاور مئات وألوف * وأنواع وألوان وأقسام وصنوف * فقد صنفوا عدة تأليفات * في تراجم المشاهد والمزاور الشامخات *

18 - وقد جعلت كالكعبة تحج إليها ، وجعلت أوثاناً تعبد من دون الله تعالى .

19 - ولو أنفقت هذه الأموال الهائلة على المساجد والمدارس والفقراء والمساكين * واليتامى والأرامل ، والمجاهدين والمهاجرين * وغير

ذلك من سبل البر في صالح الإسلام والمسلمين * لزال الفقر بالكلية * ولكانت كلمة المسلمين علية * .

20 - ومع هذا كله قد ألف أبو الفيض أحمد بن محمد الغماري (1380هـ) الصوفي الخرافي القبوري دعوة سافرة إلى الوثنية رسالة سماها : (إحياء المقبور * من أدلة استحباب بناء المساجد والقباب على القبور) ، كما ألف أبو الفضل عبد الله بن محمد الصديق الغماري الصوفي الخرافي القبوري دعوة إلى القبورية رسالة سماها : (إعلام الراكع الساجد * بمعنى اتخاذ القبور مساجد) .

الحاصل : أنه قد تبين بما ذكرت من أمثلة لأقوال القبورية ونماذج من أفعالهم الوثنية - في الدعوة إلى بناء القبب والمساجد على القبور - أن القبورية يرون بناء القبب والمساجد من أعظم القربات * ومن أجل الطاعات ، ومن أعظم العبادات * مع أن هذا العمل من أعظم وسائل الشرك بخالق الكائنات * وأنه موجب لأنواع اللعنات من رب البريات * وأنه من أبشع المعاصي الموبقات وأشنع الكبائر المنكرات * كما سيتحقق على لسان علماء الحنفية في المبحث الآتي إن شاء الله تعالى .

المبحث الثاني

في جهود علماء الحنفية في إبطال عقيدة القبورية

في البناء على القبور

وفيه مطلبان :

- المطلب الأول : في استدلال علماء الحنفية بالأحاديث الصحيحة الصريحة المحذرة من البناء على القبور والموجبة لهدم ما بني عليها .

- المطلب الثاني : في جهود علماء الحنفية في بيان مفاسد البناء على القبور ونصوصهم على وجوب المبادرة إلى هدمه .

المطلب الأول

في استدلال علماء الحنفية بالأحاديث الصحيحة الصريحة المحذرة من البناء على القبور والموجبة لهدم ما بني عليها

لقد سبق أن ذكرت بعض الأمثلة لعقيدة القبورية في بناء القبب والمساجد على القبور ، وأن ذلك من أعظم الطاعات عندهم ، فحرفوا الدين وقلبوا الحقائق وناقضوا التوحيد وعاكسوا الإسلام وجعلوا ما هو سبب للإشراك برب البريات * وما هو موجب لأنواع اللعنات من خالق الكائنات * قربة من أجل القربات التي أنفقوا عليها القناطير المقنطرات * على ظن التقرب إلى الله مالك الأرض والسماوات * ولكنهم وقعوا بسبب ذلك في أنواع من الوثنيات * لأجل ذلك وقف لهم علماء الحنفية بمرصاد * فشنوا عليها الغارات وقاتلوهم بأنواع من العتاد * وكشفوا الأستار عن أسرار هؤلاء القبورية الحيارى * وحققوا أن هذه الأعمال من أعمال اليهود المغضوب عليهم والضالين النصارى * وأنها موجبة لأنواع اللعنات * وسبب لألوان من المفاسد والوثنيات * واستدلوا بعدة أحاديث صحيحة محكمة صريحة ، أذكر منها ما يلي :

الحديث الأول : حديث عائشة رضي الله عنها :

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي لم يقم منه ، وفي لفظ ((مات

فيه)) : « ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) ، قالت : ((ولولا ذلك لأبرزوا قبره ، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً)) » وهذا الحديث مروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً .

وقد استدل بهذا الحديث المتفق على صحته علماء الحنفية على أن البناء على القبور ، واتخاذ القبور مساجد - من أعظم موجبات لعنة الله تعالى ، وأنه سبب عظيم إلى الشرك بالله ، وأن ذلك من أفعال اليهود والنصارى ، وأن ذلك من أسباب لعنهم وطردهم من رحمة الله تعالى . وإذا كان الأمر كذلك فكيف يجوز للمسلم ارتكاب ما يوجب لعنة الله تعالى فضلاً أن يجعل ما يوجب لعنة الله تعالى قربة إليه سبحانه وتعالى .

الحديث الثاني : حديث عائشة رضي الله عنها ، وابن عباس رضي الله عنهم : (( « لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » )) .

وتقرير استدلال علماء الحنفية بهذا الحديث هو ما سبق في الحديث الأول بعينه .

الحديث الثالث : حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً : (( « أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح ، أو الرجل الصالح بنوا »

« على قبره مسجداً ، وصوروا فيه تلك الصور ؛ أولئك شرار الخلق عند الله » )) .

وقد استدل الحنفية بهذا الحديث على تحريم البناء على القبور واتخاذها مساجد ، وأن ذلك موجب للعنة الله تعالى ، وأنه من أفعال اليهود والنصارى .

الحديث الرابع : حديث جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس : ((.... « ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ؛ ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ؛ إني أنهاكم عن ذلك » )) .

وقد استدل بهذا الحديث الصحيح علماء الحنفية على تحريم البناء على القبور واتخاذها مساجد ، وأن ذلك من أفعال المشركين السابقين ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يهمه هذا الأمر ويخاف منه على أمته ؛ ولذلك حذرهم منه في مرضه الذي مات فيه ، فصار ذلك من وصاياه المهمة التي تحمي حمى التوحيد وتسد ذرائع الشرك .

قلت : في هذه الأحاديث عبرة بالغة لمن يعتبر ، ونكال شديد للمعاندين المكابرين من القبورية .

الحديث الخامس : حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال :

(( « نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر ، وأن يقعد عليه ، وأن يبنى عليه » )) .

وفي رواية ......... (( « وأن يكتب عليها » ......)) .

وقد استدل بهذا الحديث كثير من علماء الحنفية على تحريم بناء المساجد والقبب على القبور ، وتحريم تجصيصها ، ووجوب المبادرة إلى هدمها ؛ لأن ذلك من أفعال المشركين ، وذرائع الشرك وموجبات اللعنة .

قلت : إذا كان الأمر كذلك فكيف يجعل ذلك قربة إلى الله عز وجل ؟؟ .

الحديث السادس : مرسوم رسمي * أقوى وأهم من مرسوم ملكي * ،

فقد « قال أبو الهياج حيان بن حصين الأسدي الكوفي : قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته ، ولا قبراً مشرفاًَ إلا سويته)) » .

وقد استدل بهذا الحديث الصحيح كثير من علماء الحنفية على تحريم بناء المساجد والقباب على القبور ، وعلى وجوب المبادرة إلى هدم المساجد والقباب المبنية على القبور .

ويدل هذا الحديث الصحيح على أن البناء على القبور من أكبر العظائم الموبقات والمهلكات ؛ فكيف يجوز لمسلم أن يجعل الموبقات المهلكات * قربة إلى الله عز وجل وطاعة من الطاعات * ؟؟

الحديث السابع :

أن ثمامة بن شفي قال : (( « كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا ؛ فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوي ؛ ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها » )) .

وقد استدل كثير من علماء الحنفية بهذا الحديث الصحيح على تحريم البناء على القبور وعلى وجوب هدم ما بني ما عليها .

الحاصل :

أنه قد تبين من هذه الأحاديث الصحيحة :

أن بناء القبب والمساجد على القبور من أعظم أسباب الشرك ، وأنه من موجبات لعنة الله تعالى والطرد من رحمته سبحانه ، وأنه من الكبائر الموبقات المهلكات ؛ فكيف يجوز للقبورية أن يجعلوا مثل ذلك قربة إلى الله تعالى ؟؟

وبعد هذا ننتقل إلى المطلب الثاني لنعرف جهود الحنفية الأخرى في إبطال عقيدة القبورية في البناء على القبور ، وبيان مفاسد ذلك .

*****

المطلب الثاني

في جهود علماء الحنفية

في بيان مفاسد البناء على القبور

ونصوصهم على وجوب المبادرة إلى هدمه

لقد حذر علماء الحنفية قديماً وحديثاً من بناء المساجد والقباب على القبور ، أو عند القبور ، أو اتخاذها مساجد ؛ لما في ذلك من المفاسد العظيمة والموبقات المهلكات ، ولأنها موجبة للطرد من رحمة الله تعالى ، ومستلزمة لأنواع اللعنات من الله تعالى ، وأنها من أعظم أسباب الإشراك بالله تعالى ، وأنها من أفعال المشركين والكفرة السابقين ؛ وفيما يلي أسوق عدة نصوص لعلماء الحنفية في مفاسد ذلك إيضاحاً للمحجة * وإتماماً للحجة * فأقول وبربي أستغيث وأستعين * إذ هو المستغاث المغيث ، والمستعان المعين * .

1 -7- قال الأئمة الثلاثة : البركوي (981هـ) ؛ وأحمد الرومي (1043هـ) وولي الله الدهلوي (1176هـ) والشيوخ الثلاثة : سبحان بخش الهندي وإبراهيم السورتي ، ومحمد المظفري والعلامة الرباطي - والمضمون للأول وللباقين قطع منه - ذاكرين تاريخ الوثنية وتطورها وبعض أسبابها - محققين أن الوثنية بدأت في بني آدم من فتنة القبور والبناء عليها ،

وتعظيمها بما لم يأذن به الله تعالى - مبينين مفاسد بناء المساجد والقبب عليها -:

ومن أعظم مكائد الشيطان التي كاد بها أكثر الناس ما أوحاه قديماً وحديثاً إلى حزبه : من الفتنة بالقبور ؛ حتى عبدوها من دون الله ، كما أنهم عبدوا أربابها ، وبنوا عليها الهياكل ، وبهذا السبب بدأ داء الشرك في قوم نوح عليه السلام ، فكان ذلك مبدأ لعبادة الأصنام ؛ ولأجل ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد وبناء المساجد والقبب عليها ، ولعن فاعله وبين أنه من أفعال اليهود والنصارى الملعونين الأشرار ، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من أفعال اليهود والنصارى وعامة المشركين في مرضه الذي لم يقم منه ؛ فعمل الصحابة رضي الله عنهم بوصيته صلى الله عليه وسلم ، فلم يبرزوا قبره الشريف صلى الله عليه وسلم ؛ خشية أن يتخذ مسجداً ، ويجعل وثنا يعبد من دون الله ، [ وساقوا عدة أحاديث في ذلك ثم قالوا] :

وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها ، والصلاة إليها ، متابعة منهم للسنة الصريحة ؛ ونص أصحاب أحمد ومالك والشافعي على تحريم ذلك ، والذين قالوا بكراهته أرادوا بالكراهة التحريم ؛ لأنه لا يعقل أن يكون فعل ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعن فاعله - مكروهاً فحسب ، ولم يكن محرماً !!! ؛

وقد صرح الفقهاء بتحريم ذلك ؛ فلو كان اتخاذ السرج عليها مباحاً لم يلعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله ، مع أنه قد لعنه ؛ لأن فيه تضييعاً للمال في غير فائدة ؛ ولأن فيه إفراطاً في تعظيم القبور ؛ ولأن فيه تشبهاً بعبدة الأوثان .

ثم نَهْيُ النبي صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبور يشمل البناء عليه بالحجارة ، وما يجري مجراها ؛ كما يشمل ضرب الخبأ عليه ، فكلاهما من صنيع أهل الجاهلية ، ولهذا لعن النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب ؛ لاتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد ؛ وهؤلاء المردة [ أي القبورية ] كانوا يزعمون أن الصلاة لقبورهم تعظيم لها ، وهذا شرك جلي ؛ ويزعمون أن التوجه إلى قبورهم حالة الصلاة أعظم موقعاً عند الله تعالى ؛ وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور - هي التي أوقعت كثيراً من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك ؛ فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بشجر أو بحجر ؛ ولهذا نجد كثيراً من الناس عند القبور يتضرعون ويخشعون ويخضعون ويعبدون - بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في مساجد الله تعالى ولا في وقت السحر ؛ ومنهم من يسجد لها ، وكثير منهم يرجون من بركة الصلاة عندها ولديها ما لا يرجون في المساجد ...

8 -14- وقال الأئمة الثلاثة : البركوي (981هـ) والرومي (1043هـ) والشاه الدهلوي (1176هـ) ، والشيوخ الثلاثة : سبحان بخش الهندي ، وإبراهيم السورتي ، ومحمد المظفري ، في بيان مفاسد بناء المساجد والقباب على القبور ؛ وتحقيق أن القبوريين مناقضون لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، واللفظ للأول ؛ وللباقين فقرات منه :

(ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به وما نهى عنه ، وما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم [ أي القبورية ] - رأى أحدهما مضاداً للآخر مناقضاً له بحيث لا يجتمعان أبداً [ من وجوه] :

أ- فإنه عليه السلام نهى عن الصلاة إلى القبور ، وهم يخالفونه ويصلون عندها .

ب- ونهى عن اتخاذ المساجد عليها ، وهم يخالفونه ويبنون عليها مساجد ويسمونها مشاهد .

ج- ونهى عن إيقاد السرج عليها ؛ وهم يخالفونه ويوقدون عليها القناديل ، والشموع ، بل يوقفون لذلك أوقافاً .

د- وأمر بتسويتها .

وهم يخالفونه ويرفعونها من الأرض كالبيت .

هـ- ونهى عن تجصيصها والبناء عليها ، وهم يخالفونه ويجصصونها ويعقدون عليها القباب .

و- ونهى عن الكتابة عليها ، وهم يخالفونه ويتخذون عليها الألواح ويكتبون عليها القرآن وغيره .

ز- ونهى عن الزيادة عليها غير ترابها ؛ وهم يخالفونه ويزيدون عليها سوى التراب : الآجر والأحجار والجص .

ح- ونهى عن اتخاذها عيداً ؛ وهم يخالفونه ويتخذونها عيداً ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد وأكثر .

والحاصل : أنهم مناقضون لما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم ونهى عنه ، ومحادون لما جاء به .... فانظر ما بين ما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عما تقدم ذكره في القبور ، وبين ما شرعه هؤلاء [ القبورية ] وما قصدوه من التباين ؛ ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز العبد عن حصره :

فمنها : تعظيمها الموقع في الافتتان بها .

ومنها : تفضيلها على أحب البقاع إلى الله تعالى ؛ فإنهم يقصدونها مع التعظيم والاحترام والخشوع ورقة القلب ، وغير ذلك مما لا يفعلونه في المساجد ...

ومنها : اعتقاد أن بها يكشف البلاء * وينصر على الأعداء ويستنزل

الغيث من السماء * إلى غير ذلك من الرجاء *

ومنها : الشرك الأكبر الذي يفعل عندها ....

ومنها : الدخول في لعنة الله تعالى ورسوله باتخاذ المساجد عليها .

ومنها : المشابهة بعباد الأصنام بما يفعلونه عندها من العكوف عليها والمجاورة عندها ، وتعليق الستور عليها ، واتخاذ السدنة لها ؛ حتى أن عبادها يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام ، ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد.

ومنها : النذر لها ولسدنتها .

ومنها : المخالفة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم والمناقضة لما شرعه في دينه .

ومنها : إماتة السنن ، وإحياء البدع .

ومنها : السفر إليها مع التعب الأليم والإثم العظيم ) .

15 -20- وقال هؤلاء الأعلام من الحنفية جميعاً ؛ محققين أن القبورية المنصوبة التي يعبدها القبورية وبنوا عليها المساجد والقباب - هي أنصاب وأوثان لغة واصطلاحاً ؛ وأن القبورية الذين يعبدون هذه القبور - هم عباد الأنصاب والأوثان ؛ وأنه يجب المبادرة إلى هدم تلك المساجد والقباب المبنية على تلك القبور ؛ لأن فسادها وضررها أعظم من مسجد الضرار ؛ واللفظ للأول :

(ومن عظيم كيده [ أي الشيطان ] ما نصبه للناس من الأنصاب والأزلام التي هي رجس من عمل الشيطان ... فالأنصاب جمع نصب بضمتين أو بالفتح والسكون ، وهو كل ما نصب وعبد من دون الله : من شجر أو حجر ، أو وثن ، أو قبر ...

وأصل اللفظ : الشيء المنصوب الذين يقصده من رآه ؛ فمن الأنصاب ما نصبه الشيطان للناس : من شجر أو عمود ، أو قبر ، وغير ذلك ؛ والواجب هدم ذلك كله ومحو أثره ، كما أن عمر رضي الله عنه بلغه أن الناس ينتابون الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعها ؛ فإذا كان عمر رضي الله عنه فعل ذلك بالشجرة التي بايع تحتها الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .... - فما حكمه فيما عداها من هذه الأنصاب التي قد عظمت الفتنة بها * واشتدت البلية بسببها * وأبلغ من ذلك أنه عليه السلام هدم مسجد الضرار ؛ ففي ذلك دليل على هدم ما هو أعظم فساداً : كالمساجد المبنية على القبور ؛ فإن حكم الإسلام فيها أن تهدم كلها حتى تسوى بالأرض ؛ لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه عليه السلام نهى عن البناء على القبور ولعن المتخذين عليها مساجد ، وأمر بهدم القبور المشرفة وتسويتها بالأرض ؛

فيجب المبادرة والمسارعة إلى هدم ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعن فاعله ؛ وكذلك يجب إزالة كل قنديل وسراج ، وشمع أوقدت على القبور ؛ فإن فاعل ذلك ملعون بلعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله تعالى يقيم لدينه ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من ينصرهما ويذب عنهما) .

21- ولقد ذكر الإمام ابن أبي العز رحمه الله (792هـ) عدة أحاديث لتحقيق تحريم بناء القبب والمساجد على القبور ، وأن ذلك موجب للعنة والطرد من رحمة الله تعالى ، وأنه من أعمال الكفرة الأولى اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين ؛ وأن ذلك من أسباب الإشراك بالله عز وجل ؛ وأنه تجب المبادرة والمسارعة لهدم ما بني على القبور .

22 - وقد ساق الإمام محمود الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) عدة أحاديث في تحريم بناء المساجد والقبب على القبور ووجوب هدمها ، وأن ذلك موجب للعنة من الله تعالى ، وأنه من أفعال الكفار

السابقين ، وأن ذلك من أسباب الشرك بالله تعالى وأنه من الكبائر الموبقات المهلكات ، وأن الصلاة إليها وعليها والتبرك بها ، كل ذلك من المحرمات الكبائر .

23 - ثم قال : (قصد الرجل الصلاة عند القبر متبركاً به ، عين المحادة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وإبداع دين لم يأذن به الله عز وجل ؛ للنهي عنها ، ثم إجماعاً ، وتجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور ؛ إذ هي أضر من مسجد الضرار ؛ لأنها أسست على معصية رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك ؛ وأمر بهدم القبور المشرفة ؛ وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر ، ولا يصح وقفه ولا نذره) .

24 - وله رحمه الله كلام مهم آخر في قلع شبهات القبورية وقمع جموعهم ؛ وتحقيق أن بناء القبب والمساجد على القبور من أعظم وسائل الشرك ومن الكبائر المبوقات وأنه من أفعال المشركين الأولين ، وأنه مستوجب للعنة الله تعالى ، وأنه عين المحادة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ،

وأنه يجب هدم جميع تلك القبب والمساجد المبنية على القبور .

25 - وللعلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) كلام مهم في بيان شناعة البناء على القبور وبيان مفاسدها ، وأنه من أعظم وسائل الشرك بالله عز وجل ، وأنه تجب المبادرة إلى هدم ذلك - بقمع القبورية وبقلع شبهاتهم وهو قريب من كلام والده الآلوسي .

26 - وأهم من ذلك كلام العلامة شكري الآلوسي (1342هـ) - في تحقيق أن بناء القبب والمساجد على القبور من أعظم أسباب الشرك بالله تعالى ، وأنه موجب للعنة الله تعالى ، وأنه تجب المبادرة إلى هدمه حماية لحمى التوحيد ؛ لأن ذلك من أفعال اليهود والنصارى وغيرهم من الكفرة .

27 -29- وقال العلامة الخجندي (1379هـ) وشيخ القرآن الفنجفيري (1407هـ) والرباطي الملقب بجامع المعقول والمنقول - بعد ما ساقوا عدة أحاديث في تحريم بناء القبب والمساجد على القبور ؛ مبينين مفاسد هذا العمل الملعون أهلها :

(ومن رفع القبور الداخل تحت الحديث [ الناهي عنه ] دخولاً أولياً - القبب والمشاهد المعمورة على القبور ؛ وأيضاً هو من اتخاذ القبور مساجد ؛ وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعل ذلك ؛ كما سيأتي .

وكم سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام :

منها : اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام ، وعظم ذلك ، فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضرر فجعلوها مقصداً لطلب قضاء الحوائج ، وملجأ لنجاح المطالب ، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم ، وشدوا إليها الرحل ، وتمسحوا بها ، واستغاثوا .

وبالجملة : أنهم لم يدعوا شيئاً مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا وفعلوه ؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون ؛ ومع هذا المنكر الشنيع * والكفر الفظيع * - لا نجد من يغضب لله ويغار حمية للدين الحنيف : لا عالما ، ولا متعلماً ، ولا أميراًَ ، ولا وزيراً ، ولا ملكاً ، وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه أن كثيراً من هؤلاء القبوريين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه - حلف بالله فاجراً ؛ وإذا قيل له بعد ذلك : احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني ، تلعثم وتلكأ - وأبى ، واعترف بالحق ؛ وهذا من أبين الأدلة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال : إنه تعالى ثاني اثنين ، أو ثالث ثلاثة ؛ فيا علماء الدين * ويا ملوك المسلمين ! * أي رزء للإسلام أشد من الكفر ؟؟

وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله ؟؟ وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة ؟؟ وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجباً ؟؟ .

لقد أسمعت لو ناديت حياً ... ولكن لا حياة لمن تنادي

ولو ناراً نفخت بها أضاءت ... ولكن أنت تنفخ في الرماد

قلت : هذا النص يقمع القبورية من جهة ، وفيه عبرة للمثلجين الباردين الساكتين على هذه المنكرات الفظيعة والشركيات الشنيعة ممن ينتمون إلى التوحيد والسنة ؛ كما يقطع دابر تلك الجماعات والأحزاب التي همهم الوصول إلى الحكم فحسب دون الجهاد في سبيل التوحيد وقمع وثنيات القبورية * من هؤلاء الأحزاب السياسية * الذين يزعمون أن الاشتغال بالرد على القبورية اشتغال في غير الأمور المهمة ، وأن هذا يسبب تفريق الأمة .

وفي هذا القدر كفاية لمن عنده دراية .

والآن ننتقل إلى المبحث الآتي لنعرف جهود علماء الحنفية في إبطال بعض شبهات القبورية .

***

المبحث الثالث

في إبطال علماء الحنفية

لبعض شبه القبورية في البناء على القبور

للقبورية قديماً وحديثاً شبه كثيرة تشبثوا بها واستدلوا بها على جواز بناء المساجد والقبب على القبور ، ولا غرو في ذلك ؛ فإن القبورية قبورياتهم كلها شبهات ، ولكن الله تعالى وفق بعض علماء الحنفية فوقفوا لهم بالمرصاد وردوا كيدهم في نحورهم وقلعوا شبهاتهم وقمعوا جموعهم وقطعوا دابرهم ؛ وفيما يلي أذكر أهم تلك الشبهات التي استدل بها القبورية - مع أجوبة علماء الحنفية عنها ؛ فأقول والله المعين وهو المستعان * وبه الثقة وعليه التكلان :

الشبهة الأولى : القدح في أحاديث تحريم البناء على القبور .

وقد سبق مفصلاً مدللاً محققاً أن علماء الحنفية قد صححوا تلك الأحاديث وقالوا بمقتضاها ، من القول بتحريم البناء على القبور ، والقول بوجوب المبادرة إلى هدمه ؛ كما سبق الأجوبة عن تمويهات الكوثري وتلبيساته في قدحه في بعض تلك الأحاديث .

فلا حاجة إلى إعادتها ؛ وإن عدتم عدنا .

وإن عادت العقرب عدنا لهم ... وكانت النعل لها حاضرة

فإن عدت والله الذي فوق عرشه ... منحتك مسنون الغرارين أزرقا

فإن دوار الجهل أن تضرب الطلى ... وأن يغمس العريض حتى يغرقا

الشبهة الثانية : أن القبورية زعموا أن النهي الوارد في تلك الأحاديث - إنما هو عن بناء المساجد وإيقاد السرج على القبور أي فوق القبور ، بدليل كلمة (على) ؛ ولكن لو بني المسجد بجوار قبر ولي وأوقد السراج بجوار قبره لا حرج في ذلك ؛ لأن النهي في تلك الأحاديث لا يشمل ذلك ؛ لأن ذلك النهي مقيد بكلمة (على) ؛ فقيد (عليها) يفيد أن اتخاذ المسجد بجنبها لا بأس به .

الجواب : لقد أجاب عن هذه الشبهة بعض علماء الحنفية بأن كلمة (عليها) الواردة في أحاديث النهي عن بناء المساجد والقبب على القبور ، تشمل بناءها فوق القبور ؛ كما تشمل بناءها بجوار القبور ؛ لأن كلمة (على) في الكتاب والسنة ولغة العرب تأتي لمعنى المجاورة أيضاً ؛ فقد قال تعالى : { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا } [ البقرة : 259] ؛ فليس معنى ذلك أن هذا المار مر فوق جدران هذه القرية .

وقال تعالى : { وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } [ التوبة : 84] ؛ فهل معنى هذه الآية نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن القيام فوق قبور المنافقين ؛ دون القيام بجوارها ؟؟ .

وقد ورد في حديث الإسراء والمعراج : (( « فأتيت على آدم » )) و (( « فأتيت على عيسى » )) و (( « فأتيت على يوسف » )) و (( « فأتيت على إدريس » )) و (( « فأتيت على هارون » )) و (( « فأتيت على موسى » )) ، و (( « فأتيت على إبراهيم » )) ؛ كما ورد فيه : (( « فرجعت فمررت على موسى » )) ؛ فهل يعقل أن معاني هذه الجمل : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتى ومر فوق رءوس هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ؟؟ .

« وقد حضر النبي صلى الله عليه وسلم جنازة امرأة ماتت في نفاسها ، ((فقام عليها للصلاة)) » رواه أبو داود 2 100 ؛ فهل معناه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قام فوق هذه المرأة للصلاة ؟؟ .

الحاصل : أن هذه الشبهة باطلة من أصلها .

وأن النهي في هذه الأحاديث شامل لجميع تلك الصور ، والأعمال

بالنيات .

الشبهة الثالثة : استدلال القبورية بقوله تعالى :

{ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } [الكهف : 21 ] ؛ قالوا : معناه : (لنتخذن على باب الكهف مسجداً يصلي فيه المسلمون ، ويتبركون بمكانهم ) ، وهذا يدل على الجواز ؛ هكذا استدل بهذه الآية الكريمة كثير من الروافض والبريلوية ، والكوثرية ، الديوبندية وغيرهم - على جواز بناء المساجد والقبب على قبور الأولياء والتبرك بآثارهم بالصلاة في تلك المساجد .

الجواب : لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة بأن هذه الآية لا تدل على أن هذا من فعل المسلمين الموحدين أتباع سنن المرسلين عليهم الصلاة والسلام ، بل الظاهر أن هؤلاء كانوا من المشركين فبنوا ذلك على عادتهم الوثنية ؛ ولو سلم أن هذا من فعل المسلمين فلا نسلم أن ذلك من فعل أهل

السنة أتباع الرسل صلى الله عليهم وسلم ، بل ذلك من فعل المبتدعة الخرافية من المسلمين على أقل تقدير ؛ فإنه لم يأت شرع نبي من الأنبياء على جواز بناء المساجد والقبب على القبور ؛ فإن هذا من أعمال المشركين قديماً وحديثاً ، ومنهم أخذه المبتدعة من المسلمين أهل الخرافات ، ولو سلم على سبيل فرض المحال : أن هذا كان جائزا في الشرائع السابقة - فالجواب : أن الشرائع السابقة غير حجة في شريعتنا هذه إلا إذا كانت شريعتنا مؤيدة لها مقررة لها ؛ ودون ذلك خرط القتاد ؛ فإن شريعتنا جاءت بالإنكار على بناء المساجد والقباب على القبور ، وتحريم ذلك ولعن فاعله ، وطرده من رحمة الله تعالى ؛ وصرحت بأن هذا من أعمال اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين السابقين الذين لعنهم الله تعالى بمثل هذه الأعمال التي هي أبواب إلى الوثنية والإشراك بالله عز وجل ، فلا حجة في ذلك أصلاً ؛ فبطل استدلال القبورية بعملهم هذا على جواز بناء القبب والمساجد على القبور والتبرك بذلك .

الحاصل : أن استدلال القبورية بهذه الآية على جواز بناء القبب والمساجد على القبور - ليس إلا تحريفاً لكتاب الله تعالى وتبديلاً لشرع الله عز وجل .

قال الإمام محمود الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) مبطلاً استدلال القبورية بهذه الآية قالعاً شبهتهم قاطعاً دابرهم :

(واستدل بالآية على جواز البناء على قبور الصلحاء ، واتخاذ مسجد عليها ، وجواز الصلاة في ذلك ؛ وممن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في حواشيه على البيضاوي ؛ وهو قول باطل عاطل فاسد كاسد) .

ثم ذكر الإمام الآلوسي عدة من الأحاديث الصحيحة المحكمة الصريحة في تحريم بناء القبب والمساجد على القبور ، وتحقيق أن هذا موجب للعنة الله تعالى والطرد من رحمته سبحانه ، وأنه من أعمال الكفرة السابقين اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين ، وساق نصوص كثير من أهل العلم في التحذير من هذا العمل

المعلون أهله ؛ وأنه من الكبائر الموبقات المهلكات ، وأنه من أعظم أسباب الشرك بالله تعالى ، وحقق أنه يجب المبادرة إلى هدمه والمسارعة إلى إزالته ، وأنه أعظم ضرراً من مسجد الضرار ، وأن العلماء أفتوا بهدم جميع القباب المبنية على القبور حتى القبة على قبر الإمام الشافعي رحمه الله تعالى ؛ وساق نصوصاً مهمة لابن حجر الهيتمي (974هـ) في ذلك مع كونه من أئمة القبورية إتماماًَ للحجة على القبورية وإيضاحاً للمحجة لهم ؛ ثم قال : (والأحاديث ، وكلام العلماء المنصفين المتبعين لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وجاء عن السلف الصالح أكثر من أن يحصى .

لا يقال : إن الآية ظاهرة في كون ما ذكر من شرائع من قبلنا ... لأنا نقول : مذهبنا في شرع من قبلنا - وإن كان أنه يلزمنا على أنه شريعتنا لكن لا مطلقا ؛ بل إن قصه الله تعالى علينا بلا إنكار - وإنكار رسوله صلى الله عليه وسلم كإنكاره عز وجل - وقد سمعت أنه عليه الصلاة والسلام لعن الذين يتخذون المساجد على القبور ؛ على أن كون ما ذكر من شرائع من قبلنا ممنوع ؛ وكيف يمكن أن يكون اتخاذ المساجد على القبور من الشرائع المتقدمة ؟؟ مع ما سمعت من لعن اليهود والنصارى حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ؛ والآية ليست كالآيات التي ذكرنا آنفاً احتجاج الأئمة

بها ؛ وليس فيها [ أي في هذه الآية التي استدل بها القبورية ] أكثر من حكاية قول طائفة من الناس ، وعزمهم على فعل ذلك ؛ وليست خارجة مخرج المدح لهم والحض على التأسي بهم ؛ فمتى لم يثبت أن فيهم معصوماً [ نبياً ] - لا يدل فعلهم فضلاً عن عزمهم ، على مشروعية ما كانوا بصدده ؛ ومما يقوي قلة الوثوق بفعلهم ، القول بأن المراد بهم الأمراء والسلاطين ، كما روي عن قتادة .

وعلى هذا لقائل أن يقول : إن الطائفة الأولى كانوا مؤمنين عالمين بعدم مشروعية اتخاذ المساجد على القبور ؛ فأشاروا بالبناء على الكهف وسده ، وكف كف التعرض عن أصحابه - فلم يقبل الأمراء منهم ، وغاظهم ذلك ؛ حتى أقسموا على اتخاذ المسجد) ، ثم ذكر رحمه الله تعالى احتمالات أخرى في معنى الآية يسقط بها استدلال القبورية أيضاً .

ثم قال : (وبالجملة : لا ينبغي لمن له أدنى رشد أن يذهب

إلى خلاف ما نطقت به الأخبار الصحيحة * والآثار الصريحة * ؛ معولاً على الاستدلال بهذه الآية * فإن ذلك في الغواية غاية * وفي قلة النهى نهاية * ؛ ولقد رأيت من يبيح ما يفعله الجهلة في قبور الصالحين من إشرافها وبنائها بالجص والآجر ، وتعليق القنادل عليها ، والصلاة إليها ، والطواف بها ، واستلامها ، والاجتماع عندها في أوقات مخصوصة ، إلى غير ذلك ، محتجاً بهذه الآية الكريمة ، وبما جاء في بعض روايات القصة ، من جعل الملك لهم في كل سنة عيداً ، وجعله إياهم في توابيت من ساج ، ومقيساً البعض على البعض ؛ وكل ذلك محادة لله تعالى ، ورسوله صلى الله عليه وسلم ؛ وإبداع دين لم يأذن به الله عز وجل ، ويكفيك في معرفة الحق تتبع ما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره عليه الصلاة والسلام ؛ وهو أفضل قبر على وجه الأرض ؛

بل أفضل من العرش ، والوقوف على أفعالهم في زيارتهم له ، والسلام عليه ، عليه الصلاة والسلام ، فتتبع ذاك * وتأمل ما هنا وما هناك * والله سبحانه وتعالى يتولى هداك *)

قلت : الحاصل : أن تشبث القبورية بهذه الآية باطل كاسد * وعاطل فاسد * .

وذلك لوجوه :

الأول : أن هذا الفعل فعل وثني قد فعله الكفار المشركون .

والثاني : أنه لو سلم أنهم كانوا مسلمين - على سبيل فرض المحال - فالجواب : أن فعلهم هذا بدعة وثنية * لا فعلة سنية * .

والثالث : أنه لو سلم على سبيل فرض المحال أيضاً : أن عملهم هذا كان من شرائع من قبلنا - فالجواب : أن ما كان من شرائع من قبلنا - لا يحتج به إلا إذا أقره شرعنا ؛ ففسد ما هذى به هؤلاء القبوريون * { إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } * .

الشبهة الرابعة : زعم القبورية أن بناء المساجد والقباب على قبور

الأنبياء والأولياء عمل توارثته الأمة الإسلامية خالفاً عن سالف في مشارق الأرض ومغاربها ، صرح بذلك الكوثري وغيره من القبورية .

وهذا يعني إجماع الأمة على جواز ذلك إجماعاً عملياً .

الجواب : لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه المغالطة المكشوفة - بأن هذا ليس من باب إجماع الأمة في شيء ، ولا من قبيل العمل الذي توارثته الأمة الإسلامية خالفاً عن سالف ؛ وإنما هو من البدع الشنيعة * والعادات القبيحة الفظيعة * - التي توارثها أهل البدع والملوك الجهلة والعوام * والمتصوفة الذين كانوا أضل من الأنعام *

وأيدهم المنتسبون إلى العلم من أئمة البدع والضلال الطغام * وهل أفسد الدين إلا الملوك * وأحبار سوء ورهبانها * فكم من ظلم ومنكر وبدعة قد توارثته العامة كابراً عن كابر حتى في الحرمين * فضلاً عن بقية بلاد الإسلام في الخافقين * (ففي الحرمين الشريفين من شيوع الظلم وكثرة الجهل وقلة العلم وظهور المنكرات وفشو البدع وأكل الحرام والشبهات) .

فهل كل ذلك صار من إجماع الأمة ، وحجة يحتج بها ؟؟ .

وقد صرح جمع من الحنفية بأن هذا التوارث هو عمل منكر لا حجة فيه ؛ إذ هو من أفعال العوام الجهلة لا من أعمال العلماء .

وقالوا : (فإن قلت : هو إجماع فعلي فهو حجة ، كما صرحوا به .

قلت : ممنوع ؛ بل هو أكثري فقط ؛ إذ لم يحفظ ذلك حتى عن العلماء الذين يرون منعه ؛ وبفرض كونه إجماعاً فعلياً - فمحل حجته - كما هو ظاهر - إنما هو عند صلاح الأمة بحيث ينفذ فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ وقد تعطل ذلك منذ أزمنة) .

وقد اعترف به بعض الغلاة من القبورية أيضاً .

قلت : الحاصل : أن هذا التوارث هو توارث أهل البدع والجهلة من العوام والملوك الذين كانوا على مذهب العامة ، والمنتسبين إلى العلم من أئمة القبورية الذين كانوا يباشرون البدع ويدعمون الوثنيات ويفتون لإرضاء الملوك والعامة بما يجافي دين الله ويناقض التوحيد ، وساعدهم سكوت كثير من العلماء وتهاونهم في دين الله ، فمثل هذا لا يحتج به إلا ممرض مغرض .

الشبهة الخامسة : تشبث القبورية بالقبة التي بنيت على قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما .

لقد تشبثت كثير من القبورية بالقبة التي فوق قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، على جواز بناء المساجد والقباب على قبور الأنبياء والأولياء .

هكذا أوحاهم الشيطان هذا القياس المفارق مع الفارق ، الذي هو قرة عين الشيطان ، والذي قد صدق به إبليس عليهم ظنه .

الجواب : لقد أجاب علماء الحنفية عن هذه الشبهة من وجهين :

الوجه الأول : أن البناء على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ليس من باب البناء على القبور ، لأن أصل هذا البناء كان موجوداً قبل أن يقبر تحته النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان حجرة لعائشة رضي الله عنها ؛ وكان من بيوت النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فاتفق أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي في حجرة عائشة رضي الله عنها فدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الحجرة ؛ بناءً على الحديث الوارد في ذلك ؛ فعن عائشة رضي الله عنها : ( « لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في دفنه ؛ فقال أبو بكر : سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ما نسيته ، قال : ((ما قبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه )) ؛ ادفنوه في موضع فراشه » ) ،

فدفنوه في حجرة عائشة رضي الله عنها ؛ فلم يكن هذا البناء على قبره صلى الله عليه وسلم بنية البناء على القبر لأنه كان سابقاً عليه ؛ وأما دفن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما - فكان تبعاً لدفن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المكان ؛ فلم يكن هذا البناء أيضاً على قبورهما على سبيل القصد والتعمد .

الحاصل : أن دفن النبي صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة رضي الله عنها ، كان من الأمور الاتفاقية التي تحدث حدوث القضايا الاتفاقية من دون تعمد وقصد وخطة مدبرة ، ولا بنية البناء على القبر ؛ فقياس بناء المساجد والقباب على القبور على الحجرة النبوية - قياس فاسد عاطل * كاسد باطل * ؛ لأنه قياس مع الفارق * لا يشك فيه إلا مغرض ممرض مفارق * .

الوجه الثاني : أن القبة على ضريح النبي صلى الله عليه وسلم - لم تكن موجودة على عهد الصحابة رضي الله عنهم أجمعين * ولا على عهد التابعين ولا على عهد أتباع التابعين * ولا على عهد أئمة السنة * في خير القرون من قرون هذه الأمة * .

قال العلامة الخجندي (1379هـ) مبيناً تاريخ بناء هذه القبة الخضراء المبنية على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، محققاً أنها بدعة حدثت بأيدي بعض السلاطين * الجاهلين الخاطئين الغالطين * وأنها مخالفة للأحاديث الصحيحة * المحكمة الصريحة * ؛ جهلاً بالسنة ، وغلواً وتقليداً للنصارى * الضلال الحيارى * :

(ابتداء القبة الخضراء على القبر الشريف :

اعلم أنه إلى عام (678هـ) لم تكن قبة على الحجرة النبوية التي فيها قبر النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وإنما عملها وبناها الملك الظاهر المنصور قلاوون الصالحي في تلك السنة (678هـ) ، فعملت تلك القبة .

قلت : إنما فعل ذلك لأنه رأى في مصر والشام كنائس النصارى المزخرفة فقلدهم جهلاً منه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وسنته ؛ كما قلدهم الوليد في

زخرفة المسجد ، فتنبه ، كذا في وفاء الوفاء .... اعلم أنه لا شك أن عمل قلاوون هذا - مخالف قطعاً للأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولكن الجهل بلاء عظيم * والغلو في المحبة والتعظيم وباء جسيم * والتقليد للأجانب داء مهلك ؛ فنعوذ بالله من الجهل ومن الغلو ومن التقليد للأجانب ..) .

قلت : الحاصل :

إن بناء هذه القبة ليس من السنة في شيء ، ولا من عمل الصحابة والتابعين * ولا من طريقة الأئمة المهتدين * بل هو من صنيع الملوك الجاهلين * بحقيقة توحيد الأنبياء والمرسلين * فلا يجوز الاستدلال بأفعال المبتدعين الخرافيين * على جواز بناء المساجد والقبب على المقبورين * فقد اتضح للقبورية المحجة * ولعلهم تقام به عليهم الحجة* فإن الحق لا بد أن يظهر * والباطل لا محالة يقمع ويقهر ويكسر *

كما قيل :

ألم تر أن الحق تلقاه أبلجا ... وأنك تلقى باطل القول لجلجا

وكان علي بيان الحق والصواب * وحساب أهل الباطل على رب

الأرباب * .

كما قيل :

أبن وجه نور الحق في وجه سامع ... ودعه فنور الحق يسري ويشرق

بل كثير من القضايا التي خالها القبورية * هي من الأمور الواضحة البديهة * .

كما قيل :

وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل

وبهذا تنتهي مقاصد هذه الرسالة بتوفيق الملك الوهاب * والآن ننتقل إلى خاتمة هذا الكتاب *

والحمد لله رب العالمين * والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين * وآله وصحبه أجمعين *

*****

الخاتمة

وفيها أمور ثلاثة :

- الأمر الأول : النتائج .

- الأمر الثاني : الاقتراحات .

- الأمر الثالث : الفهارس .

الأمر الأول

النتائج

لقد وصلت في التفتيش والتنقيب لجمع مادة هذا الكتاب وتصنيفه إلى عدة من النتائج ، وفيما يلي ذكر أهمها :

1 - أن القبورية أشد بلاء وأعظم محنة على الإسلام والمسلمين من جميع فرق أهل القبلة .

2 - لأنهم جمعوا بين التعطيل والتشبيه ، وناقضوا توحيد الأسماء والصفات وتوحيد الألوهية ؛ بل عارضوا توحيد الربوبية أيضاًَ .

3 - أن القبورية أشد شركاً من الوثنية الأولى في باب الاستغاثة بغير الله تعالى .

4 - أن القبورية أعظم عبادة وأكثر خشوعاً للأموات منهم لخالق البريات .

5 - القبورية والصوفية والمتكلمون ، إخوان أشقاء خلطاء في كثير من الشركيات والخرافات .

6 - القبورية جعلوا توحيد الألوهية عيناً لتوحيد الربوبية ؛ كإخوانهم المتكلمين .

7 - فالغاية العظمى عندهم هي توحيد الربوبية .

8 - القبورية جانبوا الجادة الصحيحة في تفسير المطالب العظيمة من التوحيد والشرك والعبادة والتوسل والاستغاثة ونحوها ؛ حيث حرفوها إلى معان أخرى تدعم وثنيتهم .

9 - أهم عقيدة للقبورية هو الاستغاثة بالأموات لدفع الكربات وجلب الخيرات ، أما بقية عقائدهم - فهي وسائل إلى تحقيق هذه الغاية .

10 - تبرقعت القبورية لتنفيذ خططهم المدبرة ضلالاً وإضلالاً بتعظيم الأنبياء والأولياء وحبهم ؛ فارتكبوا أنواعاً من الإشراك تحت ستار الولاية والكرامة والحب والتعظيم .

12 - سمت القبورية عقائدهم الفاسدة بأسماء براقة ؛ حيث سموا الإشراك بالله بالتعظيم للأولياء ، وزيارة قبورهم ،

والاستغاثة بغير الله بالتوسل ، وتصرف الأولياء في الكون بالكرامة ، وعلم الغيب لهم بالمكاشفة ، ونحوها .

13 - القبورية فرقة بعيدة المدى ، هي أم كثير من الطوائف الباطلة عبر القرون ، فهي بدأت في عهد نوح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتطورت ؛ فكانت الأمم الخالية من عاد وثمود ومدين والفلاسفة اليونانية واليهود والنصارى ومشركي العرب وأمثالهم كلهم قبورية .

14 - ولكن أعني بالقبورية قبورية هذه الأمة ، وهي شاملة للروافض والباطنية والمتفلسفة في الإسلام والصوفية الطرقية والشيعة والزيدية ، وكثيراً من المنتسبين إلى الأئمة الأربعة .

15 - القبورية في هذه الأمة تتفاوت في شركياتهم من حيث الغلو والإفراط ، فالمتفلسفة في الإسلام والروافض والصوفية من غلاة الغلاة القبورية ، وقاربهم أمثال البريلوية والكوثرية ونحوهم ، كبعض الديوبندية وبعض التبليغية ، فهم غلاة القبورية ؛ ثم القبورية غير الغلاة ؛ كبعض الديوبندية ، والتبليغية ، وهناك قسم رابع ، وهو من تأثر ببعض أفكار القبورية ؛ فمن هذه الحيثية استحق وصف كونه قبورياً .

16 - انتشرت القبورية انتشاراً واسعاً في أقطار الأرض ، شرقها وغربها

وجنوبها وشمالها ، وهندها ورومها ، وسهولها وجبالها ، وبرها وبحرها ، والله المستعان على ما يصفون .

17 - من القبورية كثير من أهل الفضل والعلم والزهد ، فقد ترى شخصاً إماماً في اللغة والتفسير والحديث والفقه ، ومع ذلك يكون قبورياً محضاً ، ولله في خلقه شئون .

18 - وقد يكون مع هذا صاحب نية صادقة مخلصاً طالباً للحق إذا نبه يتنبه ويرجع إلى الحق من دون عناد وإصرار ومكابرة .

19 - من وسائل انتشار القبورية الجهل العام الطام وارتكاب جمهرة الناس للعقائد القبورية ، وفيهم كثير من المتكلمين والفقهاء واللغويين والملوك ممن لهم التأثير والسلطان على العباد والبلاد .

20 - القبورية من المنتسبين إلى الأئمة الأربعة تتفاوت من حيث العدد ؛ فهم في الحنفية أكثر وأوفر وأشهر ، وتليهم قبورية المالكية والشافعية ، ونذر قليل من الحنبلية .

21 - أن القبورية أنكروا وجود الشرك في هذه الأمة ، ولهذا يرون كل ما يرتكبونه من الشرك الأكبر وأسبابه توحيداً وطاعة لله عز وجل .

22 - أن أكثر القبورية أصحاب النيات الصالحة ، ولا سيما العوام ، يرون أن ما يرتكبونه من العقائد الفاسدة والأعمال الباطلة - هو من دين الله تعالى ؛ ولكن كثيراً منهم ولا سيما أئمتهم وخواصهم أهل النيات الفاسدة مغرضون ممرضون .

23 - أن القبورية - ولا سيما الديوبندية والكوثرية - أعداء ألداء للتوحيد والسنة والعقيدة السلفية وأئمتها .

24 - أن القبورية من أعظم الفرق الباطلة كذباً وافتراء على العباد * وعلى رب العباد .

25 - أن القبورية من أشنع الفرق الباطلة تحريفاً لنصوص الكتاب والسنة وأقوال علماء هذه الأمة .

26 - أن القبورية كثيراً ما يعبدون الفسقة والفجرة والدجاجلة الاتحادية الوجودية الزنادقة ، واستغاثوا بهم على ظن أنهم من عباد الله الصالحين الأولياء للرحمن ، مع أنهم أولياء للشيطان .

27 - أن القبورية كما أنهم يعبدون القبور وأهلها كذلك يعبدون بعض الأشجار والأحجار والمغارات المعظمة عندهم ، فهم كما أنهم عبدة القبور ، كذلك هم عبدة الأنصاب والأوثان ؛ لأن القبور والأشجار والأحجار ونحوها إذا عبدت -

تصير أوثاناً وأنصاباً ، معبودات من دون الله تعالى .

28 - كل ما ذكرته من النتائج فهو من جهود علماء الحنفية وعلى ألسنتهم ، وليس لي في ذلك إلا جهد وتحمل العناء في إبراز جهودهم وجمع أقوالهم في صعيد واحد ؛ لكن مع التوثيق والتخريج والتصحيح والتوظيف .

29 - اهتم علماء الحنفية قديماً وحديثاً بالرد على القبورية .

30 - غير أن القدماء منهم ردهم قليل عام ، وأما المتأخرون منهم فهم أصرح في الرد على القبورية وأشد وأقوى .

31 - بل وجدت كثيراً من علماء الحنفية ردوا على القبورية بكلام هو شواظ من النار ، فقطعوا دابر القبورية وقمعوا شبهاتهم بأجوبة كالصوارم المهندة وكلمات قاسية تستحقها القبورية .

32 - أن علماء الحنفية قد أطلقوا على القبورية أنهم مشركون ، أهل الشرك ، وثنية ، عباد القبور ، عبدة القبور ، أشباه عباد الأصنام ، وغيرها من الألقاب التي يستحقونها .

ستعلم ليلى أي دين تدينت ... وأي غريم في التقاضي غريمها

33 - أن علماء الحنفية مع ذلك كله لم يكفروا القبورية ، بل صرحوا بعدم تكفيرهم قبل إقامة الحجة عليهم .

34 - أن غالب علماء الحنفية في الرد على القبورية تابعون لأئمة

السنة ، أمثال شيخ الإسلام (728هـ) وابن القيم الهمام (751هـ) ومجدد الدعوة الإمام (1206هـ) ، عالة عليهم وتلاميذ لهم ؛ ناقلون عنهم .

فلهم فضل الرد على القبورية فضلاًَ أولياً ، ولهؤلاء الحنفية الرادين على القبورية فضل ثانوي .

35 - إن كثيراً من علماء الحنفية لما لم يكونوا من أهل الحديث والأثر وأصحاب العقيدة السلفية وأهل السنة المحضة - لم يكن ردهم على القبورية خالياً عن الدخن ؛ لما عندهم من الأفكار الصوفية النقشبندية والماتريدية والمرجئة ونحوها .

36 - أن بعض من تجرد من الحنفية للرد على القبورية قد وفقهم الله تعالى للتمسك بمذهب أهل الحديث والسنة المحضة والعقيدة السلفية ، فتركوا الحنفية أصلاً وفرعاً بدون خوف تعيير وملام * .

وعيرني الواشون أني أحبها ... وتلك شكاة ظاهر عنك عارها

37 - أن كثيراً من الحنفية الرادين على القبورية قد انخرطوا في شيء من بدع القبورية أيضاً .

38 - أن القبورية من الفرق الضالة الباطلة ، الموجودة في واقعنا الماضي وحياتنا المعاصرة ، المنتشرة في العباد والبلاد بالكثرة الكاثرة ، وليسن من الفرق المنقرضة كما يزعم ذلك بعض الجهلة الضالة

المضلة .

39 - القبورية لهم طرق ومكر ودهاء وخطط مدبرة لنشر عقائدهم الباطلة بشتى الطرق ، وهم يظهرون بأسماء شتى ودعوات متنوعة ، تارة باسم الإصلاح والإرشاد والتبليغ وتهذيب الأخلاق ، وتارة في صورة منظمة سياسية أو جهادية ، وتارة في لون تأسيس الجامعات لنشر العلم والمعارف ؛ فهم طرق وألوان * وأنواع وأفنان * ولهم ظلم وعدوان * وبغي وبهتان وسلطان * ولهم اهتمام ونشاط * لتحقيق ما هم عليه من التفريط والإفراط * .

40 - أن كثيراً من القبورية قد تظاهروا بالتوحيد والسنة ، وهم في الحقيقة على توحيد الماتريدية الجهمية * وعلى سنة الصوفية النقشبندية الخرافية ؛ * كالديوبندية التبليغية ؛ لا ينتبه لهم إلا المتمكن من العقيدة السلفية ، الحكيم المجرب العارف بواقع هذه الأمة عامة وحقيقة القبورية خاصة .

41 - لعلماء الحنفية جهود عظيمة لإبطال عقائد القبورية وقطع دابرهم وقلع شبهاتهم وقمع جموعهم وكسر جنودهم ، ولهم في ذلك مؤلفات مفيدة نافعة كثيرة بلغات شتى ، ولا سيما العربية والفارسية والأردية والأفغانية ، مع ما في غالبها من العقائد الماتريدية * والأفكار الصوفية *

فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء ، وسامحهم .

42 - وهذا دليل على أن أئمة السنة الذين ينبذهم القبورية بالوهابية ليسوا منفردين بالرد على القبورية * بل شاركهم في ذلك هؤلاء الأعلام من الحنفية * .

فلست وحيداً يا ابن حمقاء فانتبه ... ورائي جنود كالسيول تدفق

* والله المستعان * وعليه التكلان*

*****

الأمر الثاني

الاقتراحات

لي اقتراحات على إخواني أهل العلم وطلابه ، أرجو الاهتمام بها لما أرى في تحقيقها من نفع للإسلام والمسلمين ، وأهمها ما يلي :

1 - أقترح عليهم إبراز جهود المالكية والشافعية أيضاً في الرد على القبورية ؛ ليعلم المسلمون أن القبورية قد خالفوا الأئمة الأربعة .

2 - أقترح عليهم إبراز جهود علماء المذاهب الثلاثة من الحنفية والمالكية والشافعية في مناصرة العقيدة السلفية وإبطال عقائد الجهمية والمرجئة والمتعصبة المذهبية .

3 - أقترح عليهم تحقيق كتب علماء الحنفية التي ألفوها في الرد على القبورية تحقيقاً علمياً ، مع التنبيه على أخطاء علمية وقعوا فيها ، وطبعها في حلل قشيبة سندسية ؛ كزيارة القبور للبركوي ، ومجالس الأبرار لأحمد الرومي ، وجلاء العينين لنعمان الآلوسي ، وغاية الأماني وفتح المنان لشكري الآلوسي ، وتقوية الإيمان لإسماعيل الدهلوي ، ونحوها .

4 - أقترح عليهم تعريب أهم كتب الحنفية في الرد على القبورية ، وترجمة كتبهم العربية الرادة على القبورية إلى اللغات الأعجمية لتعميم

فائدتها وتكثير خيرها وتوفير نفعها .

وما ذلك على الله العزيز .

5 - أقترح على جميع أهل العلم وطلابه الغيورين على التوحيد والسنة :

أن يكونوا على حذر من كيد القبورية لأهل التوحيد ، وأن يكونوا ناصحين هينين لينين لعامتهم ، أطباء لأدوائهم ، هداة لجهلتهم الضالين طلاب الحق طيبي النبات ، فإن هذا من الرحمة والشفقة ، وأن يكونوا صوارم مهندة لقطع دابر أئمتهم المضلين المعاندين المكابرين ، الدعاة إلى الوثنية ، وأن يقلعوا شبهاتهم ويقمعوا جموعهم ويكسروا جنودهم ؛ درساً وتدريساًَ وخطابة وتأليفاً ، وأن لا يعدوا ضررهم هيناً ، فإنهم هم الداء العضال على الإسلام والمسلمين ، وهم أم العقائد الفاسدة من الوثنية والجهمية والمرجئة ، وأرجو أن لا يكونوا مثلجين باردين ساكتين مسالمين لهم وموالين ؛ فإن الرد على أهل البدع ولا سيما القبورية من أعظم الجهاد في سبيل الله تعالى * ومن أجل الطاعات لله جل وعلا * .

واللين مع الفرقة الباطلة من أعظم أسباب خمول أهل السنة ، وقوة أهل البدع ، كما نرى الآن ؛ فتداركوا الأمر قبل فوات الأوان * لئلا يؤول الأمر إلى أسوأ مما نراه الآن * .

وإلا { فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } [ غافر : 44 ] .

والله المستعان * وبه الثقة وعليه التكلان * .

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين * وآله وصحبه أجمعين ، والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين * .

سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .

أخوكم في الله

شمس الدين السلطاني

الأفغاني السلفي المدني

21 \12\ 1413 هـ

*****

 

 

الرجوع للصفحة الرئيسية