جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية

 جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية

-الباب الأول-

 

عنوان الرسالة :جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية.

الباحث / أ. شمس الدين محمد أشرف

جنسية الباحث - باكستان

الجامعة الاسلاميه / الدعوة وأصول الدين / العقيدة

التخصص - عقيدة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الباب الأول

في جهود علماء الحنفية في بيان أهمية شأن العقيدة وتعريف التوحيد ، وأنواعه ، وأهمية توحيد الألوهية ، وكونه هو الغاية ، وأركانه ، وشروط صحته ، وردهم على القبورية في ذلك كله .

وفيه أربعة فصول :

- الفصل الأول : في أهمية شأن العقيدة عند علماء الحنفية .

- الفصل الثاني : في تعريف التوحيد وأنواعه عند علماء الحنفية وردهم على القبورية في ذلك .

- الفصل الثالث : في أهمية توحيد الألوهية عند علماء الحنفية .

- الفصل الرابع : في أركان توحيد الألوهية وشروط صحته عند علماء الحنفية وردهم على القبورية في ذلك .

 

الفصل الأول

في أهمية شأن العقيدة عند علماء الحنفية

كلمة بين يدي هذا الفصل :

لما كان انحراف القبورية عن أهم أبواب الإيمان والإسلام - ألا وهو باب العقيدة في توحيد الألوهية - ناسب ذلك بيان أهمية العقيدة عند علماء الحنفية لندرك أن انحراف القبورية عن التوحيد الخالص إلى الشرك الأكبر

ليس أمرًا سهلًا هينًا في الإسلام ، بل هو ضلال وإضلال في صميم هذا الدين المتين ، بل خروج عن الملة الإسلامية وارتداد عن دين الإسلام ، بعد إتمام الحجة وإيضاح المحجة .

إن منزلة العقيدة في الإسلام كمنزلة الأساس للمبنى ، فكما أن فساد الأساس يستلزم فساد المبنى ، وصحته تستلزم صحة المبنى ، كذلك الشأن للعقيدة بالنسبة إلى الأحكام العملية ولذلك نرى أن الله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب لإصلاح البشر جميعًا .

فكان الرسل عليهم السلام يهتمون بإصلاح العقيدة قبل إصلاح الأعمال .

وفساد العقيدة بالإخلال بالتوحيد وارتكاب الشرك يحبط الأعمال كلها ، ويجعلها هباء منثورًا ، كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى ، وقد نرى في كثير من الآيات القرآنية تقديم العلميات الاعتقادية على الأحكام العمليات فتكرر قوله تعالى ... { آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } .... وهذا

إن دل على شيء فإنما يدل على الاهتمام العظيم بأمر العقيدة بالنسبة إلى الأعمال .

وقد اهتم أئمة السنة ، وجبال هذه الأمة بشأن العقيدة اهتمامًا لا مزيد عليه . فكانوا يوالون ويعادون بسبب العقيدة وبها كان ولاؤهم وبراؤهم .

ولم يكتفوا بذلك ، بل اهتموا بشأن العقيدة درسًا وتدريسًا وتأليفًا وهذا دليل قاطع على أنه أول واجب على المكلف .

والذي يتأمل نصوص القرآن الكريم يدرك أن الآيات المتعلقة بالاعتقاد أكثر وأوفر ، وأن آيات الأحكام العملية قليلة محدودة ، وهذا من البراهين الساطعة والحجج الناصعة على أهمية شأن العقيدة في الإسلام * وأن تعلم العقيدة وتصحيحها مقدمان على تعلم بقية الأحكام *

ولا سيما ما يتعلق بعلم التوحيد فإنه مواضع القرآن الكريم .

وقد درج على ذلك علماء الحنفية أيضًا ؛ فاهتموا بشأن العقيدة درسًا وتدريسًا وتصنيفًا ، ورأوا أنها أساس للأعمال الشرعية ، وأن تعلمها وتعليمها أفضل بالنسبة للأحكام العملية ، إلى أن سموا علم الاعتقاد بالفقه الأكبر ، وفيما يلي بعض نصوص أئمة الحنفية وعلمائهم :

1- قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى (150هـ) :

(الفقه في الدين أفضل من الفقه في الأحكام ، ولأن يتفقه الرجل كيف يعبد ربه خير له من أن يجمع العلم الكثير) .

2 - وقال الإمام أبو الليث السمرقندي (375) في شرح كلام الإمام أبي حنيفة هذا :

(لأن الفقه في الدين أصل ، والفقه في العلم فرع ؛ وفضل

الأصل على الفرع معلوم) .

3 - وقال القاضي كمال الدين البياضي (1098) في شرح كلام الإمام أبي حنيفة أيضًا :

(وأشار إلى اسمه الدال على شرف مسماه ، وكونه أصلًا لما سواه ، سماه الفقه الأكبر لعظم موضوعه) .

4 - ومثله كلام للشيخ عبيد الله المفتي . في شرح قول الإمام المذكور .

5 - وقال الإمام ابن أبي العز رحمه الله تعالى (792) محققًا أهمية شأن العقيدة عامة والتوحيد خاصة :

(أما بعد : فإنه لما كان علم أصول الدين أشرف العلوم ، إذ شرف

العلوم بشرف المعلوم ؛ وهو الفقه الأكبر بالنسبة إلى فقه الفروع ولهذا سمي الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه ما قاله وجمعه في أوراق من أصول الدين : ((الفقه الأكبر)) ؛ وحاجة العباد إليه فوق كل حاجة ، وضرورتهم إليه فوق كل ضرورة ؛ لأنه لا حياة للقلوب ولا نعيم ولا طمأنينة إلا بأن تعرف معبودها وفاطرها بأسمائه وصفاته وأفعاله ويكون مع ذلك كله أحب إليها مما سواه ، ويكون سعيها فيما يقربها إليه دون غيره من سائر خلقه) .

6 - وقال رحمه الله أيضًا مبينًا أهمية التوحيد :

(اعلم أن التوحيد أول دعوة الرسل وأول منازل الطريق ، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله ...) .

ثم قال : (فالتوحيد أول ما يدخل (المرء) به في الإسلام وآخر ما يخرج به من الدنيا) .

ثم قال : (وهو أول واجب وآخر واجب) .

8 - وقال رحمه الله تعالى أيضًا وتبعه العلامة القاري (1014) محققًا أن الموضوع المركزي للقرآن إنما هو التوحيد ، واللفظ للأول :

(وغالب سور القرآن متضمنة لنوعي التوحيد ؛ بل كل سورة من القرآن الكريم ، فالقرآن إما خبر عن الله سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وهو التوحيد العلمي الخبري ، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من دونه فهو التوحيد الإرادي الطلبي وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته .

وإما خبر عن إكرامه لأهل توحيده وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة فهو جزاء توحيده ، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا ويحل بهم في العقبى من العذاب فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد .

فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم) .

9 -وقال الناصري : (652) مبينًا سبب تقديم الإمام الطحاوي (321) التوحيد على غيره :

(إنما ابتدأ بالتوحيد ؛ لأنه أول خطاب يجب على المكلفين وإليه دعت الرسل عليهم السلام وبه نزلت الكتب السماوية ) ؛ ثم ذكر الأدلة من

الكتاب والسنة على هذه المطلوب في كلام طويل) .

10 - وقال السمرقندي (690) :

(أما بعد فإن العلوم وإن تنوع أقسامها وتفرع انقسامها لكن أشرفها رتبة وأعلاها منزلة هو العلم الإلهي الباعث بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة عن أحوال الألوهية وأسرار الربوبية التي هي المطالب العليا والمقاصد القصوى من العلوم الحقيقية والمعارف اليقينية إذ بها يتوصل إلى معرفة ذات الله تعالى وصفاته وتصور صنعه ومصنوعاته) .

11 - 15 - وقال التفتازاني الملقب عند الحنفية بالعلامة الثاني (792هـ) والخيالي (862هـ) والكستلي (901هـ) ، والبهشتي

(979هـ) ، والفريهاري (1239هـ) ، واللفظ للأول :

(وبعد : فإن مبنى علم الشرائع والأحكام * وأساس قواعد الإسلام * هو علم التوحيد والصفات) .

16 - وقال التفتازاني عن الحنفية أيضًا :

(وسموا العلم باسم الفقه ، وخصوا الاعتقاديات باسم الفقه الأكبر ، والأكثرون خصوا العمليات باسم الفقه ، والاعتقاديات بعلم التوحيد والصفات) .

17 - وقال أيضًا :

(قال : ((فهو أشرف العلوم)) ؛ أقول : لما تبين : أن موضوعه أعلى الموضوعات * ومعلوماته أجل

المعلومات * وغايته أشرف الغايات * ، مع الإشارة إلى شدة الاحتياج إليه * وابتناء سائر العلوم عليه* ) .

18 - وقال الإمام البدر العيني (855هـ) ، مبينًا وجه تقديم الإمام البخاري (256هـ) رحمه الله تعالى - كتاب الإيمان - على غيره من الكتب في جامعه الصحيح :

(وقد قدم كتاب الإيمان ؛ لأنه ملاك الأمر كله ؛ إذ الباقي مبني عليه ، مشروط به ، وبه النجاة في الدارين ) .

19 - وقال العلامة القاري (1014هـ) :

(اعلم أن علم التوحيد الذي هو أساس بناء التأييد أشرف العلوم تبعًا

للمعلوم ... ) .

قلت : هذا النص وما تقدم مما كان في معناه ؛ يدل على فضل التوحيد وأهميته ؛ كما أن لله سبحانه وتعالى فضلًا على غيره ؛ فللعلم فضل على قدر فضل المعلوم .

20 - وقال الإمام ولي الله الدهلوي الملقب عند الحنفية بشيخ الإسلام وحجة الهند ، وحجة الله ، ومسند الوقت (1176هـ) :

(باب التوحيد : أصل أصول البر وعمدة أنواعه - هو التوحيد ؛ وذلك ؛ لأنه يتوقف عليه الإخبات لرب العالمين الذي هو أعظم الأخلاق الكاسبة للسعادة ، وهو أصل التدبير العلمي الذي هو أفيد التدبيرين ...

وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم على عظم أمره ، وكونه من أنواع البر - بمنزلة القلب ، إذا صلح صلح الجميع ، وإذا فسد فسد الجميع ؛ حيث أطلق القول فيمن مات لا يشرك بالله شيئًا :

« إنه دخل الجنة أو حرمه الله على النار .... » ، وحكى عن ربه تبارك وتعالى :

« من لقيني بقراب الأرض خطيئة ، لا يشرك بالله شيئًا - لقيته بمثلها مغفرة » ....) .

21 - وقال الشيخ أبو الحسن الندوي :

(إن من ميزات الإسلام التركيز على العقيدة ؛ لأن جميع الأنبياء قد دعوا إلى عقيدة واحدة ؛

ولا يمكن الإصلاح بدونها ؛ فإن أعلى العلوم وأهمها - ما يتعلق بالله تعالى وصفاته ؛ لأنه مرجع سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة ؛ وبه النصر والتمكين في الأرض ؛ وهو غاية استخلاف الإنسان في الأرض ؛ ألا وهو التوحيد الخالص المنزه عن كل شائبة ؛ وعبادة الله تعالى وحده ؛ كما قال سبحانه :

{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [النور : 55 ] ؛ والعلماء الربانيون ورثة الأنبياء ؛ فهم يهتمون بتنظيف الأرض من الشرك بجميع أشكالها ؛ ليهيئوا حقلًا صالحًا لزرع التوحيد فيه ؛ وإن استدعى ذلك تحمل الشاقات ...) .

وقال أيضًا :

(إن أهم علم أخذ عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، هو علم توحيد الله تعالى وصفاته ، وهو علم فوق قياس البشر والآلات والتجربة ؛ وهو أجل إلى هذا الحد .

تتوقف عليه سعادة البشر ؛ ولذلك عظم الاعتناء به في كل جيل وعصر وطبقة ؛

لأن جهلهم يؤدي إلى الشقاء الذي ليس بعده شقاء ، وتجاهله وقوع في الهاوية التي ليس لها قرار) .

قلت : هذه كانت أمثلة من نصوص علماء الحنفية - في أهمية شأن العقيدة عامة وأمر التوحيد خاصة وهي واضحة في مبانيها ، ومعانيها ، لا تحتاج إلى تعليق .

وبعد أن عرفنا أهمية شأن العقيدة - ننتقل إلى الفصل الثاني ؛ لنعرف التوحيد وأنواعه ، وبالله التوفيق .

******

 

الفصل الثاني

في تعريف التوحيد ، وبيان أنواعه عند علماء الحنفية ، وردهم على تعريف التوحيد عند القبورية في ذلك كله

وفيه مبحثان :

- المبحث الأول : في تعريف التوحيد لغة واصطلاحا .

- المبحث الثاني : في بيان أنواعه .

كلمة بين يدي هذا الفصل

لقد جهلت القبورية مفهوم التوحيد الذي هو غاية عظمى لخلق الجن والإنس ومقصد أسنى لإرسال الرسل ، وهدف أسمى لإنزال الكتب ، ألا وهو توحيد العبادة المتضمن لبقية أنواع التوحيد .

فحرفت القبورية مفهوم هذا النوع من التوحيد ، وفسروه بتوحيد الربوبية ، فجعلوا الغاية العظمى والتوحيد المطلوب هو توحيد الربوبية .

وبسبب هذا الجهل المركب المطبق المحيط ، صاروا أعداء ألداء للتوحيد الصحيح وأهله بحكم ((أن الناس أعداء لما جهلوا)) .

ولأجل هذه الطامة الكبرى حرفوا معنى ((العبادة)) تحريفًا واضحًا .

كما غيروا معنى ((الشرك)) أيضًا تغييرًا فاضحًا .

وأوقعتهم هذه الطامات الثلاث الكبرى في هاوية الإشراك بالله

تعالى .

وعبادة غير الله سبحانه تحت ستار تعظيم الأنبياء ، ومحبة الأولياء ، والتوسل والكرامة .

وقد وصل بهم الجهل والغلو والإسراف إلى حد اتهموا أئمة التوحيد والسنة وأعلام هذه الأمة أمثال شيخ الإسلام ومجدد الدعوة وغيرهما ظلمًا وعدوانًا وبغيًا وبهتانًا بأنهم لا يعرفون التوحيد والإشراك والعبادة ، فمست الحاجة إلى تعريف التوحيد تعريفًا صحيحًا .

ليعرف المسلمون حقيقة ما يضاد التوحيد من الشرك بالله تعالى .

لأن الأشياء تعرف بأضدادها ، وبضدها تتبين الأشياء .

فأقول : والله المستعان * وبه الثقة وعليه التكلان *

*****

المبحث الأول

في تعريف التوحيد عند علماء الحنفية

وفيه مطالب ثلاثة :

- المطلب الأول : في تعريف التوحيد لغة .

- المطلب الثاني : في تعريف التوحيد اصطلاحًا .

- المطلب الثالث : في إبطال علماء الحنفية تعريف القبورية للتوحيد .

المطلب الأول

في تعريف التوحيد لغة عند علماء الحنفية

لقد اهتم علماء الحنفية بتعريف التوحيد لغة ، فهو عندهم - لغة - :

1 - مصدر من باب التفعيل من مادة ((و ح د))

مثال واوي ؛ بمعنى الانفراد .

2 - قال الرازي الحنفي (666هـ) :

(ويقال : وحده وأحده بتشديد الحاء فيهما ؛ كما يقال : ثناه وثلثه) .

3 - وقال الجرجاني : (816هـ) :

( التوحيد في اللغة : الحكم بأن الشيء واحد والعلم بأنه واحد) .

ونحوه قاله آخرون من الحنفية .

4 - وقال الزبيدي (1205هـ) :

(وحده توحيدًا : جعله واحدًا ، وكذا أحده ؛ كما يقال : ثناه وثلثه) .

قلت : بناء على ما ذكره هؤلاء العلماء من الحنفية من معنى التوحيد لغة ، فالتوحيد يطلق على ثلاثة معان :

الأول : جعل الشيء واحدًا .

الثاني : الحكم على الشيء بأنه واحد .

الثالث : العلم والاعتقاد بأن هذا الشيء واحد .

أي : نسبة الشيء إلى الانفراد ، ونفي الشركاء عنه ،

فخاصة باب التفعيل هاهنا : التعدية مع النسبة إلى أصل الفعل .

هذا كان معنى ((التوحيد)) لغة ؛ وأما معناه اصطلاحًا عند علماء الحنفية - فبيانه في المطلب الآتي .

*****

المطلب الثاني

في معنى التوحيد اصطلاحًا

إن علماء الحنفية قد عرفوا ((التوحيد)) بعدة تعريفات ولكنها متقاربة المعاني ، وإن كانت عبارتها شتى ، أذكر منها ما يلي :

1 - قال الإمام أبو جعفر الطحاوي إمام الحنفية في عصره (321هـ) - مبينًا عقيدة الأئمة الثلاثة للحنفية على الإطلاق :

أبو حنيفة (150هـ) ، وأبو يوسف (182هـ) ، ومحمد بن الحسن

الشيباني (189هـ) ، رحمهم الله تعالى ، معرفًا للتوحيد :

(نقول في توحيد الله - معتقدين بتوفيق الله : إن الله واحد لا شريك له ، ولا شيء مثله ، ولا شيء يعجزه ، ولا إله غيره) .

2 - وقال الإمام البدر العيني (855هـ) والعلامة أبو الطيب السندهي (1140هـ) ، واللفظ للأول :

(توحيد الله تعالى - هو الشهادة بأن الله إله واحد ، والتوحيد في الأصل مصدر ((وحد ، يوحد)) ، ومعنى : ((وحدت الله)) : اعتقدته منفردًا بذاته وصفاته ، لا نظير له * ولا شبيه له ، وقيل : التوحيد : إثبات ذات غير مشبهة بالذوات * ولا معطلة من الصفات *) .

3 - وقال الشيخ برخور دار علي :

(التوحيد : أن نقول : لا إله إلا الله ، مع اعتقاد القلب ، والتصديق به ، وإفراد الله بالعبادة ، فلا يعبد غيره) .

4 - وقال التفتازاني الملقب عند الحنفية بالعلامة الثاني (792هـ) :

(حقيقة التوحيد : اعتقاد عدم الشريك في الألوهية وخواصها) .

5 - 6 - وقال الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) وتبعه الفتني (1327هـ) :

(التوحيد : اعتقاد حصر وجوب الوجود ، وقصر خلق السماوات والأرض وسائر الجواهر لله سبحانه وتعالى ، واعتقاد حصر تدبير السماوات والأرض وما بينهما له تعالى ؛ فلا يكون غيره سبحانه واجبًا ولا خالقًا ولا مدبرًا ، وأنه لا يستحق العبادة غيره جل وعلا) .

7 - وقال الإمام ولي الله أيضًا :

(توحيد الله تعالى : الإقرار بوحدانيته ، واتصافه بالمحامد ، وتنزيهه عن النقائص ، وطرد الإشراك به عبادة واستعانة وذبحًا ونذرًا وحلفًا ) .

8 - 10 - وذكر الناصري (652هـ) وابن أبي العز (792هـ) والقاري (1014هـ) :

أن التوحيد يتضمن ثلاثة أمور :

ربوبية الله ، وصفاته ، وعبوديته .

11 - 12 - وقال الجرجاني (816هـ) في بيان أركان التوحيد التي هي تعريف له وتبعه الشيخ البركتي :

(وهو ثلاثة أشياء :

معرفة الله بالربوبية ، والإفراد بالوحدانية ، ونفي الأنداد عنه جملة) .

13 - وقال الشيخ عبد الحميد الآلوسي (1324هـ) :

(التوحيد نفي العبد الآلهة الباطلة ، والتصديق بأن الله تعالى وحده لا شريك له واحد في ذاته ، واحد في صفاته) .

14 - وقال الأستاذ أبو الأعلى المودودي (1977م) .

( معنى لا إله إلا الله : أنه ليس ... أحد جدير بأن يعبده الناس ويسجدوا له بالطاعة والعبادة إلا الله .

فما لهذا الكون من مالك ولا حاكم إلا هو وحده ، وكل شيء مفتقر إليه ، مضطر إلى استعانته ) .

الحاصل : أنه تبين لنا من هذه التعريفات :

أن التوحيد : اعتقاد العبد : أن الله واحد في ذاته وملكه ؛ لا ند له ، وواحد في صفاته وأفعاله لا مثل له ، وواحد في إلهيته وعبادته ؛ لا شريك له .

وهذا التعريف للتوحيد هو الحق الجامع المانع طردًا وعكسًا بخلاف تعريف القبورية للتوحيد كما سيأتي .

وبعد هذا ننتقل إلى المطلب الآتي لنعرف كلام علماء الحنفية في إبطال تعريف القبورية للتوحيد .

*******

المطلب الثالث

في إبطال تعريف القبورية للتوحيد

لقد ذكرت في المطلب السابق بعض نصوص علماء الحنفية في تعريف التوحيد اصطلاحًا ؛ وحاصل هذه التعريفات :

أن ((التوحيد)) هو ((الاعتقاد والشهادة بأن الله سبحانه وتعالى منفرد بذاته وصفاته وربوبيته وإلهيته ، وعبادته ، لا شريك له في ذلك كله)) .

وأقول : إن هذا التعريف هو الصحيح الجامع المانع ، الموافق لما عرفه به كثير من أئمة السنة غير الحنفية ؛ وإليك بعض التعريفات للتوحيد التي ذكرها علماء أهل السنة غير الحنفية :

1 - هو اعتقاد (أن الله واحد في ملكه ، وأفعاله لا شريك له ، وواحد في ذاته وصفاته لا نظير له ، وواحد في إلهيته وعبادته لا ند له) .

2 - اعتقاد أنه إله واحد لا شريك له ،

ونفي المثل والنظير عنه ، والتوجه إليه وحده بالعبادة ، وأنه منفرد في ذاته وصفاته ، فلا رب غيره ، ولا مشارك له في صفاته ، ولا إله غيره .

3 - علم العبد واعترافه واعتقاده بتفرد الرب بكل صفة كمال ، وأنه لا شريك في كماله ، وفي أنه ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين .

قلت : هذه كلها تعريفات صحيحة ؛ جامعة لأفراد التوحيد وأنواعها ؛ مانعة عن دخول غيره فيه ؛ فهذه الأقوال لهؤلاء الحنفية في تعريف التوحيد ، تبطل تعريف القبورية للتوحيد ، كما تزهق تعريف الكلامية له .

وفيما يلي تعريفات القبورية والكلامية للتوحيد ليظهر جيدًا جليًّا للقراء المتدبرين في هذه التعريفات صحة تعريف علماء الحنفية الذي ذكرته عنهم للتوحيد وبطلان تعريف القبورية الكلامية له .

فأقول : وبالله التوفيق :

أولًا : تعريف القبورية للتوحيد :

1 - اعتقاد انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير وأنه لا فاعل إلا الله تعالى .

2 - (نفي التشبيه والتعطيل) .

3 - (إفراد القديم من المحدث) .

ثانيًا : تعريف الكلامية للتوحيد :

1 - إن الله واحد في ذاته لا قسيم له ، وواحد في صفاته لا نظير له وواحد في أفعاله لا شريك له .

2 - إن الله واحد في ذاته ، واحد في صفاته ، وخالق لمصنوعاته .

3 - التوحيد : (هو إثبات الوحدة لله في الذات والفعل في خلق الأكوان ، وأنه مرجع كل كون ، ومنتهى كل قصد ، وهذا المطلب كان الغاية العظمى من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ...) .

أقول : انتبه أيها المسلم الذي ضالته الحق وفكر في تعريفات هؤلاء القوم من القبورية والكلامية الذين تحالفوا وتآخوا في تعريفاتهم للتوحيد الذي هو أعظم مطلب في الإسلام ؛ كيف ضلوا عن الجادة المستقيمة وانحرفوا عن الصراط السوي في معرفة المقصد الأسمى في الإسلام ، فقد عرفوا التوحيد بتعريفات ناقصة

غير جامعة لأنواعه .

فتعريفاتهم هذه فيها بعض الحق لا كله ؛ لأنها في الحقيقة تعريفات لتوحيد الربوبية وتوحيد الصفات ، أما توحيد الألوهية والعبادة - فلا شائبة له في هذه التعريفات ألبتة .

وهذا الانحراف السافر عن الجادة الصحيحة في معرفة التوحيد والجهل الواضح بحقيقة التوحيد الكامل الخالص - هو السبب الوحيد لانخراطهم في مهاوي أنواع من الشركيات بسبب عبادة القبور وأهلها وتأليه المشايخ وجعلهم أربابًا يعبدونهم من دون الله ؛ حيث غفلوا عن حقيقة الألوهية ، وفسروا توحيد الألوهية بتوحيد الربوبية وجعلوه هو الغاية العظمى ، مع أن توحيد الربوبية لم ينازع فيه أمثال أبي جهل من صناديد الكفرة والمشركين .

ولما كانت الأشياء تعرف بأضدادها ، وتبين أن تعريف القبورية والكلامية للتوحيد باطل مزيف وأن الصحيح هو تعريف علماء الحنفية - الموافق لكلام بقية علماء السنة - وأن هذا التعريف يشمل عدة من الأنواع - ننتقل إلى المبحث الثاني لنعرف أنواع التوحيد .

*****

المبحث الثاني

في أنواع التوحيد عند علماء الحنفية

وردهم على القبورية في ذلك

وفيه مطالب ثلاثة :

- المطلب الأول : في أن القبورية لا يرون تقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية ورد علماء الحنفية عليهم .

- المطلب الثاني : في التقسيم الثنائي للتوحيد عند علماء الحنفية .

- المطلب الثالث : في التقسيم الثلاثي للتوحيد عند علماء الحنفية .

المطلب الأول

في بيان أن القبورية لا يرون تقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية ورد علماء الحنفية عليهم

لقد سبق أن علماء الحنفية قد عرفوا التوحيد بحيث يدل على أنواعه من توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات وتوحيد الألوهية .

فتعريفهم للتوحيد يدل دلالة قاطعة واضحة على أن توحيد الألوهية من أهم أنواع التوحيد وأنه غير توحيد الربوبية ؛ بخلاف القبورية ؛ فإنهم عرفوا التوحيد بحيث لا يفهم من تعريفهم له أن هناك توحيدًا يسمى توحيد الألوهية ، وأنه نوع من أنواع التوحيد العام المطلق .

فالذي يفهم من تعريفات القبورية للتوحيد - هو عين ما يفهم من تعريفات الكلامية له :

وهو أن التوحيد ثلاثة أنواع :

الأول : توحيد الذات .

والثاني : توحيد الصفات .

والثالث : توحيد الأفعال .

وهذا الأخير هو توحيد الربوبية ؛

وزعموا أنه هو الغاية العظمى من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم .

ولذاك نرى القبورية ينكرون تقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية أشد الإنكار .

بل قال بعضهم مسفسطًا :

إن التوحيد مصدر والمصدر معنى من المعاني لا يمكن تقسيمه لذاته .

بل جازف بعضهم إلى حد قال :

إن تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أنواع : الربوبية ، الصفات ، الألوهية ، ليس من دين السلف ؛ بل هو من دين النصارى وأقانيمهم الثلاثة ؛

فتوحيدهم أشبه بتوحيد النصارى ؛ فهم يقولون : التوحيد ثلاثة أنواع ، والنصارى يقولون : الأب والابن وروح القدس إله واحد .

وقد طعنوا في هذا الصدد في شيخ الإسلام ، ومجدد الدعوة الإمام ، أنواعًا من الطعون وسبوهما أنواعًا من السباب والشتائم - التي لا تصدر إلا من الفسقة الفجرة الرعاع الأوباش .

إبطال علماء الحنفية قول القبورية هذا :

وقد أجاب علماء الحنفية عن هذيان القبورية هذا بأجوبة سيأتي تفصيلها إن شاء الله .

ولكن أذكر هاهنا جوابًا واحدًا ذكره كثير من علماء الحنفية وهو أن هذا الذي ذكرتم من التوحيد الذي ليس فيه توحيد العبادة - وجعلتموه غاية عظمى للبعثة - هو توحيد الربوبية الذي اعترف به المشركون السابقون فليس هذا هو مفترق الطرق بين المسلمين وبين المشركين فدل هذا دلالة قاطعة لا تحتمل النقيض -:

أن ما ذكرتم من التوحيد ليس هو كل التوحيد الكامل الخالص المتضمن لتوحيد الألوهية - الذي دعت إليه الرسل وأنزلت لأجله الكتب .

وبناء على ما سبق - صرح علماء الحنفية بأن تقسيم القبورية وكذا المتكلمة للتوحيد إلى أنواع ثلاثة:

1- توحيد الذات .

2- توحيد الصفات .

3- توحيد الأفعال ؛ وهو أشهر أنواع التوحيد عندهم ، وهو توحيد الربوبية الذي اعترف به المشركون - باطل ؛ لخلو هذه الأقسام عن أهم هذه الأنواع ، وهو توحيد الألوهية والعبادة - الذي دعت إليه الرسل ونزلت لتحقيقه الكتب .

وإنما الحق والصواب ما سيأتي في المطلبين الآتيين :

*****

المطلب الثاني

في التقسيم الثنائي للتوحيد عند علماء الحنفية

لقد تبين مما سبق في المطلب الأول :

أن تقسيم القبورية والكلامية للتوحيد - كان باطلًا مزيفًا ؛ لعدم شموله لأهم أنواعه ؛ ألا وهو توحيد العبادة ، وإذا عرفنا بطلان تقسيمهم - للتوحيد - فما هو التقسيم الصحيح للتوحيد الجامع لأنواعه جميعًا ؟

والجواب : أن التقسيم الصحيح للتوحيد - هو ما ذكره علماء الحنفية ؛ موافقًا لكلام بقية أئمة السنة ، من تقسيم التوحيد إلى أنواعه التي يدخل فيها توحيد الألوهية الذي هو أهم أنواع التوحيد .

فأقول : لعلماء الحنفية تقسيمان للتوحيد :

الأول : تقسيم ثنائي .

والثاني : تقسيم ثلاثي .

ولا منافاة بين هذين التقسيمين ؛ لأن مرجعهما واحد .

أما التقسيم الثنائي ؛ فلعلماء الحنفية فيه طريقان :

الطريق الأول : أن التوحيد قسمان :

1 - توحيد المرسل .

2 - توحيد المتابعة .

لقد قسم علماء الحنفية التوحيد إلى قسمين رئيسين :

الأول : توحيد المرسل وهو توحيد الله تعالى - بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل .

والثاني : توحيد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم - بكمال التسليم والانقياد لأمره وتلقي خبره بالقبول والتصديق ؛ كأنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة يقوله .

وعدم معارضته بالقياس والعقول ، وعدم تقديم أقوال الأئمة على أمره وقوله ؛ وعدم عرض قوله وخبره على قول المشائخ والأئمة ؛ فلا يفعل ما يفعله كثير ممن أخل بهذا التوحيد - من المتكلمة والمقلدة - ؛ حيث يعرضون قول الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره وخبره على أقوال المشائخ والأئمة .

فإن وافق قولهم - قبلوه ونفذوه ؛ وإلا فوضوا فيه وأعرضوا عنه ؛ أو حرفوه عن مواضعه ، وسموا تحريفه تأويلًا وحملًا ؛ بل الغرض والواجب المبادرة إلى امتثال قوله صلى الله عليه وسلم من غير التفات إلى

سواه) .

قلت : النوع الأول : وهو توحيد المرسل - يتنوع عند علماء الحنفية :

إلى ثلاثة أنواع ومتضمن لها ومستلزم لها وهي :

1 - توحيد الربوبية .

2 - توحيد الصفات .

3 - توحيد العبادة .

فلا يتناقض هذان التقسيمان الثنائي والثلاثي .

قلت : هذا النوع من التوحيد (توحيد المرسل) - هو الأصل ، وقد أشار الإمام ابن القيم رحمه الله إلى هذين النوعين في التوحيد بقوله :

هذا وثاني نوعي التوحيد تو ... حيد العبادة منك للرحمن

إلى أن قال :

والسنة المثلى لسالكها فتو ... حيد الطريق الأعظم السلطاني

فلواحد كن واحدًا في واحد ... أعني سبيل الحق والإيمان

وأما النوع الثاني : وهو توحيد المتابعة - فهو أيضًا في غاية الأهمية عند علماء الحنفية الذين عرفوا مكانة هذا النوع من التوحيد ؛ فقد صرحوا بأن من أخل بهذا النوع من التوحيد ؛ فقد اتخذ الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله ؛ وعبد المشايخ والأئمة ؛ وأشرك بالله تعالى ؛ وأنه مشرك كافر يستتاب - وإلا قتل ، كما يفعله الغلاة المقلدة للمشايخ والأئمة .

قلت : لقد صدق هؤلاء العلماء الحنفية في أن بعض المقلدين من الغلاة الجامدين - يرفعون الأئمة فوق منزلتهم ؛ كأنهم رسل وأنبياء ؛

بل يجعلهم أربابًا يعبدونهم من دون الله - بالطاعة المطلقة ؛ فيعرضون نصوص الكتاب والسنة على أقوالهم ؛ فما وافق قولهم قبلوه وما خالفه أولوه أو ردوه ؛ بل وصل ببعضهم الحال إلى حد اعتراف بأن الحق كذا ؛ ولكن اتباع المذهب واجب .

فرد الحق بعد ما عرفه لأجل المذهب ، وهذا نوع من دأب اليهود نسأل العافية .

وقد وصل الغلو بالشيخ محمود الحسن الملقب عند الديوبندية بشيخ الهند وصدر المدرسين بجامعة ديوبند وأحد كبار أئمتهم (1339هـ) ، - إلى هاوية ، قال بلسانه وشهد على نفسه ببنانه :

(إن مسألة الخيار : ((خيار المجلس للمتعاقدين )) من مهمات المسائل ؛ وخالف أبو حنيفة فيه الجمهور ، وكثير من الناس المتقدمين

والمتأخرين وصنفوا رسائل في ترديد مذهبه في هذه المسألة ؛ ورجع مولانا الشاه ولي الله المحدث الدهلوي قدس سره في رسائل مذهب الشافعي ؛ من جهة الأحاديث والنصوص ؛ وكذلك قال شيخنا من ظله بترجيح مذهبه ، وقال : الحق والإنصاف : أن الترجيح للشافعي في هذه المسألة ، ونحن مقلدون يجب علينا تقليد إمامنا أبي حنيفة ) !؟

وقد وصل في الغلو والتعصب للحنفية إلى حد حرف في القرآن ؛ وزاد فيه ما لم يقله ربنا الرحمن .

وجازف بعض غلاة الديوبندية في التعصب للحنفية إلى أن قال :

(وقالوا : المنتقل من مذهب إلى مذهب آخر باجتهاد وبرهان - آثم يستوجب التعزير ؛ فبلا اجتهاد وبرهان أولى) .

قلت : لقد ارتكب هذا القائل طامتين :

الأولى : أنه وصل في الغلو في المذهب وللمذهب إلى حد - هو شرك وإخلال بتوحيد المتابعة عند محققي الحنفية كما سبق آنفًا .

والثانية : أنه أحال على فتح القدير للإمام ابن الهمام (861هـ) .

مع أن الإمام ابن الهمام قد رد على هذه الخرافة .

هذه كانت الطريقة الأولى في التقسيم الثاني :

وأما الطريقة الثانية فيأتي بيانها الآن بإذن الله وتوفيقه :

الطريق الثاني للحنفية في تقسيم الثنائي للتوحيد :

لعلماء الحنفية طريق ثان في تقسيم التوحيد إلى نوعين ؛ فقد قالوا :

التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ونزلت به كتبه - نوعان :

الأول : توحيد في الإثبات والمعرفة .

والثاني : توحيد في الطلب والقصد .

وبعبارة أخرى :

توحيد المعرفة والإثبات .

وتوحيد القصد والعمل .

ويسمون الأول أيضًا : التوحيد العلمي الخبري ، والثاني التوحيد الإرادي الطلبي .

كما يسمون الأول : التوحيد في العلم والتوحيد العلمي .

والثاني : التوحيد في الإرادة والقصد ، والتوحيد القصدي الإرادي .

تعريف هذين النوعين للتوحيد .

لقد عرف علماء الحنفية هذين النوعين للتوحيد ؛ فقالوا :

الأول : هو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى ، وصفاته وأفعاله وأسمائه ، ليس كمثله شيء في ذلك كله ؛ كما أخبر سبحانه وتعالى عن نفسه وأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ وقد أفصح القرآن عن هذا النوع كل الإفصاح ؛ كما في أوائل سورتي الحديد ، وطه ، وآخر سورة الحشر ، وأوائل سورتي السجدة وآل عمران ، وسورة الإخلاص وغيرها .

وأما النوع الثاني :

فهو قصد الله تعالى وطلبه سبحانه بعبادته وحده لا شريك له في ذلك ؛ وذلك مثل ما تضمنته سورة : { قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ } ، وقوله تعالى : { قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } [آل عمران : 64] ،

وأول سورة تنزيل الكتاب وآخرها ، وأول سورة يونس وأوسطها وآخرها ، وأول سورة الأعراف وآخرها ، وجملة سورة الأنعام .

وجه الحصر في هذين النوعين :

لقد ذكر علماء الحنفية وجه الحصر لهذين النوعين للتوحيد ؛ فقالوا : القرآن كله : إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله - فهو التوحيد العلمي الخبري .

وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له ، وخلع ما يعبد من دونه - فهو التوحيد الإرادي الطلبي .

وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته - فهو من حقوق التوحيد ومكملاته .

وإما خبر عن إكرامه لأهل التوحيد في الدنيا والآخرة - فهو ثواب التوحيد .

وإما خبر عن أهل الشرك وما حل بهم من النكال في الدنيا وما يحل بهم من العذاب في العقبى - فهو جزاء من خرج عن التوحيد .

تنبيه : لقد صرح علماء الحنفية -

بأن التوحيد في المعرفة والإثبات - يشمل النوعين من التوحيد وهما :

توحيد الربوبية ، وتوحيد الأسماء والصفات .

وأما توحيد القصد والعمل - فهو النوع الثالث وهو :

توحيد الألوهية .

فلا منافاة لهذا التقسيم الثنائي للتوحيد ، وبين التقسيم الثلاثي الآتي .

****

المطلب الثالث

في التقسيم الثلاثي للتوحيد عند الحنفية

لقد سبق أن علماء الحنفية يقسمون التوحيد إلى نوعين ، ولكنهم تارة يقسمونه إلى ثلاثة أنواع ؛ فيقولون : التوحيد أنواع ثلاثة :

الأول : توحيد الأسماء والصفات .

الثاني : توحيد الربوبية .

الثالث : توحيد الألوهية ((توحيد الإلهية)) .

قلت : هذه الأقسام الثلاثة للتوحيد التي ذكرها علماء الحنفية لا تختلف في المعنى عن النوعين اللذين ذكرهما هؤلاء العلماء الحنفية في التقسيم الثنائي السابق .

وإنما الفرق في المباني لا في المعاني ؛ فإن النوعين السابقين في المعنى لا يختلفان عن هذه الثلاثة كما

سبق ، غير أن الفرق في الإجمال والتفصيل ؛ فمن أجمل ذكر النوعين ومن فصل ذكر الثلاثة .

وهذا التقسيم الثلاثي الذي ذكره علماء الحنفية - أيضًا موافق لما قاله سائر أئمة السنة ؛ فقد ذكر هذه الأنواع الثلاثة كثير منهم غير الحنفية أيضًا .

وبعدما ذكرت تقسيم الحنفية التوحيد إلى الأنواع الثلاثة يحسن أن أذكر عنهم تعريف كل نوع على حدة ؛ لتتضح المحجة وتقام الحجة :

الأول : تعريف توحيد الأسماء والصفات :

هو اعتقاد إثبات ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم - له تعالى من غير تشبيه ولا تكييف ولا تأويل .

الثاني : تعريف توحيد الربوبية :

هو الاعتقاد بأن الله هو وحده الخالق الرازق والمدبر والنافع والضار والمجير والمحيي والمميت :

فلا خالق ولا رازق ولا مدبر ولا نافع ولا ضار ولا مجير غيره سبحانه .

الثالث : تعريف توحيد الألوهية :

هو الاعتقاد بإفراد العبادة لله الواحد الصمد ؛ لأن ((الإله)) من يقصد للعبادة .

قلت : هذه الأنواع للتوحيد التي ذكرها علماء الحنفية كما ذكرها غيرهم من أئمة السنة - هي الحق الصواب الذي لا يحتمل النقيض ؛ لأن توحيد العبادة - الذي هو أهم هذه الأنواع - هو في الحقيقة مفترق الطرق بين المسلمين وبين المشركين ، ولأجل تحقيقه أرسلت الرسل وأنزلت الكتب ، وهو المتضمن المستلزم لتوحيد الربوبية وتوحيد الصفات ، أما ما ذكره القبورية والكلامية - فناقص ؛ لأنه بعض الحق لا كله ؛

لعدم شموله توحيد العبادة الذي هو المقصود الأعلى الأسمى والغاية العظمى ، فإن توحيد الربوبية لا خلاف فيه للمشركين ؛ قال العلامة محمود شكري الآلوسي (1342هـ) ، والإمام ابن أبي العز (792هـ) ، واللفظ للأول :

(توحيد الربوبية هو الذي أقرت به الكفار جميعهم ؛ ولم يخالف أحد منهم في هذا الأصل إلا الثنوية والمجوس .

وأما غيرهما من سائر فرق الكفر والشرك - فقد اتفقوا على أن خالق العالم ورازقهم ، ومدبر أمرهم ونافعهم وضارهم ، ومجيرهم واحد ، لا رب ولا خالق ولا رازق ولا مدبر ولا نافع ولا ضار ولا مجير غيره ؛ كما قال سبحانه وتعالى :

{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [ لقمان :25] ،

{ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } [المؤمنون : 84-85 ] .

{ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ } [ يونس : 31] .... ، وإذا علمت هذا - تبين لك أن المعركة بين أهل التوحيد والمشركين - في الألوهية فقط .... ، وجميع الرسل من أولهم إلى آخرهم دعوا إلى توحيد الله وعبادته) .

قلت : إذا كان الأمر على ما ذكره علماء الحنفية من اعتراف المشركين كافة بتوحيد الربوبية ؛ وأن المعترك كان توحيد الألوهية ؛ وأن الله قد أنزل لتحقيقه الكتب وأرسل للدعوة إليه الرسل - كيف يصح للقبورية إنكارهم لتقسيم التوحيد إلى الربوبية والألوهية ؟

وكيف يتم لهم أن توحيد الربوبية هو الغاية ؟

وبهذه التحقيقات النفيسة تبين إبطال جميع ما هذوا به في الطعن في تقسيم التوحيد إلى هذه الأنواع الثلاثة ، كيف لا وقد اعترف بهذا كله أحد كبار من له صلة بالقبورية ألا وهو الشيخ أبو غدة الكوثري الحنفي :

وفيما يلي نصه بحرفه وفصه ليكون فيه عبرة للمعتبرين ونكال للمعاندين وإتمام الحجة على القبورية وإلقام الحجر في أفواه الخرافية عامة ، والكوثرية خاصة ؛ قال بعد ذكر توحيد الأسماء والصفات :

(وأما تقسيم التوحيد إلى ما ذكره هؤلاء الأئمة :

شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى إلى توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية - فهذا تقسيم اصطلاحي استقاه العلماء مما جاء في الكتاب والسنة في مواضع لا تحصى ؛ مما رد الله تعالى به على المشركين الذين كانوا يؤمنون بتوحيد الربوبية دون توحيد الألوهية ؛ وفي سورة الفاتحة التي يقرأها المسلم في صلاته مرات كل يوم - دليل على ذلك ؛ { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ) .

قلت : لقد أنطق الله هذا الكوثري ببعض الحق ؛ فقد حقق وأثبت أن تقسيم التوحيد إلى هذه الأنواع الثلاثة من صميم الإسلام ومستقى من القرآن ولا سيما أم القرآن ؛ فقوله سبحانه وتعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } : توحيد الربوبية .

وقوله جل وعلا : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } : توحيد الأسماء والصفات .

وقوله عز وجل : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } : توحيد الألوهية .

فهل يبقى عذر للقبورية بعد شهادة هذا الكوثري بلسانه واعترافه ببيانه ؟!!؟ .

وبعدما عرفنا التوحيد وأنواعه - ننتقل إلى الفصل الآتي لنعرف أهمية توحيد الألوهية ، وكونه هو الغاية العظمى عند علماء الحنفية ، وردهم على القبورية ؛ لأنه من موضوع هذه الرسالة .

****

الفصل الثالث

في أهمية توحيد الألوهية

وكونه هو الغاية عند علماء الحنفية

لقد تبين مما سبق أهمية شأن العقيدة في الإسلام بصفة عامة كما سبق تعريف التوحيد وأنواعه وأهميته بين العقائد بصفة خاصة .

وفي هذا الفصل أتحدث عن جهود علماء الحنفية في بيان أهمية توحيد العبادة بين سائر أنواع التوحيد بصفة أخص ؛ لأن غالب انحراف القبورية إنما كان عن توحيد العبادة حيث أشركوا بالله سبحانه وتعالى ، وعبدوا القبور وأصحابها بأنواع العبادات ؛ فأخلوا بهذا النوع من التوحيد إخلالًا واضحًا سافرًا ، وناقضوه فناسب ذلك أن أذكر جهود علماء الحنفية في بيان أهمية توحيد الألوهية ؛ وكونه هو الغاية العظمى والمقصد الأسمى من الخلق وإرسال الرسل وإنزال الكتب ليعرف المسلمون مدى ضلال القبورية عن أهم نوع من أنواع التوحيد وإخلالهم بالمقصد الأسنى ، ومناقضتهم للهدف الأسمى وانحرافهم عن الغاية العظمى التي هي توحيد العبادة المتضمن لبقية أنواع التوحيد .

وبيان ذلك في عدة وجوه :

الوجه الأول : وجه إجمالي يجمع ميزات توحيد العبادة على وجه الإجمال ، والوجوه التي بعده تفصيل وشرح له ، فهو أم الوجوه :

قال الإمام ابن أبي العز (792هـ) والعلامة القاري (1014هـ) واللفظ للأول :

(اعلم أن التوحيد [توحيد العبادة] :

1 - أول دعوة الرسل .

2 - وأول منازل الطريق .

3 - وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله عز وجل .

قال تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [الأعراف : 59 ] .

وقال هود عليه السلام لقومه : { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [ الأعراف : 65 ، هود : 50] .

وقال صالح عليه السلام لقومه : { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [الأعراف : 73 ، هود : 61 ] .

وقال شعيب عليه السلام لقومه : { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [الأعراف : 85 ، هود : 84 ] .

وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36] .

وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء : 25 ] .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله » .

4 - ولهذا كان الصحيح أن أول واجب يجب على المكلف ((شهادة

أن لا إله إلا الله)) .

لا النظر ، ولا القصد إلى النظر ، ولا الشك .

كما هي أقوال لأرباب الكلام المذموم .

بل أئمة السلف كلهم متفقون على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان .

ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقيب بلوغه ، بل يؤمر بالطهارة والصلاة إذا بلغ أو ميز عند من يرى ذلك ولم يوجب أحد منهم على وليه :

أن يخاطبه حينئذ بتجديد الشهادتين ؛ وإن كان الإقرار بالشهادتين واجبًا باتفاق المسلمين ، ووجوبه يسبق وجود الصلاة ؛ لكن هو أدى هذا الواجب قبل ذلك ...

5 - فالتوحيد أول ما يدخل [المرء] به في الإسلام .

6 - وآخر ما يخرج به من الدنيا ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :

« من كان آخر كلامه : لا إله إلا الله دخل الجنة » .

7 - وهو أول واجب وآخر واجب .

8 - فالتوحيد أول الأمر وآخره ؛ أعني : توحيد الإلهية ؛ فإن التوحيد يتضمن ثلاثة أنواع :

أحدها : الكلام في الصفات .

والثاني : توحيد الربوبية .

وبيان أن الله وحده خالق كل شيء .

والثالث : توحيد الإلهية ؛ وهو استحقاقه سبحانه وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له) .

الوجه الثاني :

أن توحيد العبادة هو المطلب الأعلى والهدف الأسمى والمقصد الأسنى المطلوب من الناس والمأمور به ؛ قال الإمام ابن أبي العز (792هـ) - بعدما أبطل مزاعم المتكلمين في كون توحيد الربوبية هو الغاية ، محققًا أن توحيد الربوبية أمر فطري مركوز مستقر في فطر الناس وأن المشركين كانوا معترفين به .

وأن مفترق الطرق والمعترك إنما هو توحيد الألوهية - :

(فعلم أن المطلوب هو توحيد الإلهية الذي يتضمن توحيد الربوبية ...) .

وقد استدل علماء الحنفية لتحقيق هذا المطلوب بعدة آيات أذكر منها آيتين على سبيل المثال مع أقوالهم في تغييرها :

الآية الأولى : قوله تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ التوبة : 31] .

قال الإمام أبو الثناء محمود بن عبد الله الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد (1270هـ) :

(والحال أن أولئك الكفرة ما أمروا في الكتب الإلهية على ألسنة الأنبياء عليهم السلام : { إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا } : جليل الشأن وهو الله سبحانه ، ويطيعوا أمره ولا يطيعوا أمر غيره ؛ فإن ذلك مناف لعبادته جل شأنه ......) .

وقال الإمام أبو السعود العمادي (982هـ) :

( { وَمَا أُمِرُوا } أي والحال أن أولئك الكفرة ما أمروا في كتابيهم { إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا } عظيم الشأن وهو الله سبحانه وتعالى ، ويطيعوا أمره ، ولا يطيعوا أمر غيره بخلافه ؛ فإن ذلك مخل بعبادته تعالى ؛ فإن جميع الكتب السماوية متفقة على ذلك قاطبة ...) .

وهكذا قاله كثير من الحنفية .

وقال العلامة الوالي (1362هـ) وتبعه تلميذه الشيخ الغلام (1980م) ، واللفظ للثاني :

(إن اليهود والنصارى قد اتخذوا مشائخهم وأئمتهم أربابًا ؛ فعبدوهم من دون الله تعالى ؛ مع أنهم قد أمروا في التوراة والإنجيل بأن لا يعبدوا إلا

الله سبحانه ؛ لأنه لا متصرف في العالم ولا قاضي للحاجات ، ولا مستحق للاستغاثة والنداء لدفع الكربات وطلب المنافع غيره عز وجل) .

الآية الثانية : قوله تعالى :

{ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } [البينة : 5] .

قال الإمام محمود الآلوسي (1270هـ) مفتي الحنفية ببغداد :

( { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ } : جملة حالية مفيدة لغاية قبح ما فعلوا ...، أي والحال : أنهم ما كلفوا في كتابهم بما كلفوا به لشيء من الأشياء إلا لأجل عبادة الله تعالى ؛ وقال الفراء :

((العرب تجعل اللام موضع ((أن)) في الأمر : ((أمرنا لنسلم)) وكذا في الإرادة : ((يريد الله ليبين لكم)) ؛ فهي هاهنا بمعنى ((أن)) أي بأن ((يعبدوا الله)) ؛ وأيد بقراءة عبد الله : ((إلا أن يعبدوا)) .

فيكون عبادة الله تعالى هي المأمور بها ، والأمر على ظاهره ، والأول هو الأظهر ؛ وعليه قال علم الهدى أبو منصور الماتريدي :

((وهذه الآية علم منها معنى قوله تعالى :

{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات : 56] ؛ أي : إلا لأمرهم بالعبادة ، فيعلم المطيع من العاصي)) .

وهو - كما قال الشهاب - ((كلام حسن دقيق)) ..) .

الوجه الثالث : أن توحيد العبادة غاية خلق الجن والإنس :

لقد استدل كثير من علماء الحنفية بقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات : 56] على أن عبادة الله تعالى وحده لا شريك له هي غاية خلق الجن والإنس وسر خلقهم ، والحكمة منه وغاية العباد التي خلقوا لها ، ولهم في ذلك نصوص مهمة متنوعة طويلة وهذا الذي ذكرته هو لب ما قالوه في تفسير هذه الآية .

الوجه الرابع : أن توحيد العبادة غاية إرسال الرسل عليهم السلام .

لقد صرح علماء الحنفية أن المشركين كانوا معترفين بتوحيد الربوبية

فلم يكونوا يعارضون فيه ، فلم يكن هو الغاية لإرسال الرسل وإنما المعترك ، والمختلف فيه ومفترق الطرق هو توحيد العبادة الذي ناقضه المشركون ، فأرسل الله تعالى الرسل عليهم السلام ؛ ليدعوا الناس إلى تحقيقه ؛ فعلم أن الرسل لم ترسل لتحقيق توحيد الربوبية ؛ وإنما أرسلت لتحقيق توحيد الألوهية والدعوة إليه .

وفيما يلي أذكر بعض نصوص علماء الحنفية :

1 - قال الإمام ابن أبي العز (792هـ) :

(اعلم أن التوحيد [أي توحيد العبادة] أول دعوة الرسل ....) ثم ذكر عدة آيات كريمات للبرهنة على أن الرسل عليهم السلام إنما أرسلت للدعوة إلى توحيد العبادة وتحقيقه ، ثم ذكر عدة ميزات لتوحيد العبادة تدل على أهميته بين سائر أنواع التوحيد ، وحقق أن الغاية إنما هو توحيد العبادة لا توحيد الربوبية ثم أشبع الرد على المتكلمين والصوفية في جعلهم توحيد الربوبية هو الغاية وبين أن أهل الملل والنحل من جميع أصناف المشركين كانوا معترفين بتوحيد الربوبية ؛ فلا يمكن أن يكون هو الغاية كما لا يمكن إرسال الرسل لأجله) .

2 - ثم قال رحمه الله وتبعه العلامة نعمان الآلوسي (317هـ) واللفظ للأول :

(وكثير من أهل النظر يزعمون أن دليل التمانع هو معنى قوله تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } [الأنبياء : 22] ؛ لاعتقادهم

أن توحيد الربوبية الذي قرروه هو توحيد الإلهية الذي بينه القرآن ، ودعت إليه الرسل عليهم السلام وليس الأمر كذلك ؛ بل التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب هو توحيد الإلهية ، المتضمن توحيد الربوبية ؛ وهو عبادة الله وحده لا شريك له ؛ فإن المشركين من العرب كانوا يقرون بتوحيد الربوبية ، وأن خالق السماوات والأرض واحد ؛ كما أخبر تعالى عنهم بقوله :

{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [لقمان : 25] .

{ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } [المؤمنون : 84 - 85] .

ومثل هذا كثير في القرآن .

ولم يكونوا يعتقدون في الأصنام : أنها مشاركة لله في خلق العالم ؛ بل كان حالهم كحال أمثالهم من مشركي الأمم في الهند والترك والبربر وغيرهم ؛ تارة يعتقدون : أن هذه تماثيل قوم صالحين من الأنبياء والصالحين ويتخذونهم شفعاء ، ويتوسلون بهم إلى الله ؛ وهذا كان أصل شرك العرب ؛ قال تعالى حكاية عن قوم نوح :

.... { لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } [نوح : 23] ؛ وقد ثبت في صحيح البخاري ، وكتب

التفسير ، وقصص الأنبياء ، وغيرها :

عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف :

أن هذه أسماء قوم صالحين في قوم نوح ؛ فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ، وأن هذه الأصنام بعينها صارت إلى قبائل العرب ، ذكرها ابن عباس رضي الله عنهما : قبيلة قبيلة) .

3 - ثم قال رحمه الله بعد كلام طويل :

(فعلم أن التوحيد المطلوب - هو توحيد الإلهية الذي يتضمن توحيد الربوبية) .

4 - ولأحمد السرهندي الملقب عند الحنفية بالإمام الرباني مجدد الألف الثاني (1034هـ) - كلام في أن توحيد العبادة غاية إرسال الرسل ؛ لأن المشركين كانوا معترفين بتوحيد الربوبية ووجود الله تعالى ، وتوحيد العبادة أهم من توحيد الربوبية ، فمن لم يحقق ما قاله الأنبياء من توحيد العبادة - لا يتخلص من الشرك .

5 - وقال العلامة القاري (1014 هـ) :

(وفي فطر الخلق إثبات وجود الباري ... ، يشير إليه قوله تعالى :

{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [لقمان : 25] ؛ ولهذا لم يبعث الأنبياء إلا للتوحيد [أي توحيد العبادة] ؛ لا لإثبات وجود الصانع ....) .

6 - وقال أيضًا في بيان سبب عدم تعرض الإمام أبي حنيفة لمباحث توحيد الربوبية :

(وقد أعرض الإمام عن بحث الوجود اكتفاءً بما هو ظاهر في مقام الشهود ففي التنزيل : { قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [إبراهيم : 10] ، { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [لقمان : 25] ؛ فوجود الحق ثابت في فطر الخلق ، كما يشير إليه قوله سبحانه وتعالى : { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } [الروم : 30] ويومئ إليه حديث « كل مولود يولد على فطرة الإسلام » ، وإنما جاء الأنبياء عليهم السلام لبيان التوحيد [توحيد العبادة] ، وتبيان التفريد ؛ ولذا أطبقت كلمتهم ، وأجمعت حجتهم على كلمة ((لا إله إلا الله)) ، ولم يؤمروا بأن يأمروا أهل ملتهم بأن يقولوا : ((الله موجود)) ؛ بل قصدوا إظهار أن غيره ليس بمعبود ؛ ردا لما توهموا وتخيلوا ؛ حيث قالوا : { هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } [يونس : 18] ، و { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى }

[الزمر : 3] ؛ على أن التوحيد [توحيد العبادة] يفيد الوجود مع مزيد التأييد) .

7 - وقال الشاه أنور الكشميري أحد كبار أئمة الحنفية (1352هـ) :

(واعلم أن كلمة الإخلاص لاستئصال الإشراك في العبادة دون الإشراك في الذات ، وعليه [أي على توحيد العبادة] تنبني دعوة الأنبياء عليهم السلام ؛ لأن منكري الربوبية ، أو المشركين في الذات كانوا أقل قليل ، فلم يريدوا بتلك الكلمة [يعني لا إله إلا الله] إلا الرد على الذين كانوا يشركون في العبادة ، [دون الربوبية] ؛ كما حكى الله عنهم : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [الزمر : 3] ، يعني : أن

الله واحد ، وهؤلاء مقربون إليه ؛ والعياذ بالله ؛ وقال تعالى : { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [العنكبوت : 65] ، وقال تعالى : { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ } [الصافات : 35] ، ولم يقل : ((يجحدون)) ، فعلم أنهم لم يكونوا منكرين لتلك الكلمة رأسًا ؛ لأن الاستكبار بعد العلم ؛ وقد مر أن أول من بعث لدحض الكفر هو نوح عليه الصلاة والسلام ، وقبله لم يكن إلا الإيمان فقط ، ثم جاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقابل قوم نمروذ ، وكانوا مشركين في العبادة ، فرد عليهم بأبلغ وجه وأتم تفصيل ، وعلى هذا فالملة الإبراهيمية هي استئصال الإشراك في العبادة .

8 - وقد احتج كثير من علماء الحنفية بكثير من الآيات ؛ على أن توحيد العبادة هو غاية إرسال الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ، وأنهم لم يدعوا الناس إلى توحيد الربوبية ؛ لأنهم كانوا معترفين به ؛ وإنما دعوا الأمم إلى توحيد العبادة ؛ لأن إشراكهم إنما كان في العبادة ؛ دون الربوبية والخالقية والرازقية ، أذكر على سبيل المثال آيتين فقط :

9 - الآية الأولى : قوله تعالى :

{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [النحل : 36] .

10 - الآية الثانية : قوله تعالى :

{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء : 25] ؛ فهذه الآية - كما نرى - نص صريح على إجماع الأنبياء والمرسلين على أنهم أرسلوا للدعوة إلى توحيد العبادة ، وأن توحيد العبادة - هو غاية إرسالهم وبعثتهم ، وهذه الآية كالأولى دليل إجماعي على كون توحيد العبادة هو الهدف الأسمى وهو الغاية العظمى .

الوجه الخامس : أن توحيد العبادة غاية إنزال الكتب السماوية :

لقد صرح علماء الحنفية أن توحيد العبادة كما هو غاية إرسال الرسل ، كذلك غاية إنزال الكتب السماوية ؛ فلم تنزل الكتب الإلهية إلا

لتحقيق توحيد العبادة والدعوة إليه ، وإليك بعض نصوص علماء الحنفية لتحقيق هذا المطلوب :

1 - قول الإمام ابن أبي العز (792هـ) ، وقد سبق ضمن كلامه الطويل في الوجه السابق .

2 - وقال شيخ القرآن الفنجفيري (1407هـ) والعلامة الرستمي ، واللفظ للثاني : (وسر جميع القرآن ؛ بل جميع الكتب المنزلة اختصاص العبادة له تعالى كما قال ابن كثير رحمه الله : والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين أي :

{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } .

وكذا قيل : أنزل الله تعالى مائة كتب وأربعة ؛ جمع معانيها في التوراة والإنجيل والقرآن ، وجميع هذه الكتب الثلاثة في القرآن ؛ وجميع معاني القرآن في المفصل ، وجميع معاني المفصل في : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ،

وقد مر معنا : أنه روي عن ابن عباس رضي الله عنه : ((لكل شيء لباب ولباب القرآن حواميم)) ؛ وخلاصة الحواميم السبعة في { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } .

بل العبادة سر خلق الإنس والجن ؛ قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات : 56] ، وهي سر بعثة جميع الرسل والأنبياء قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء : 25] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [النحل : 36] ، ثم ذكر عدة آيات أخرى للبرهنة على ذلك ، ورمز إليها بالأرقام ، وأنه أول ما دعا إليه الرسل عليهم السلام أممهم :

انظر الأعراف 59 ، 65 ، 73 ، 85 وهود 26 ، 50 ، 61 ، 84 ومريم 41 ، 44 ، والشعراء 70 - 72 والعنكبوت 16 ، 17 ، 36 والصافات 85 -

86 ، وغيرها ؛ ثم قال : (ففي هذه المواضيع تفصيل دعوة الأنبياء عليهم السلام لأقوامهم إلى عبادة الله وحده ؛ فثبت أن سر بعثة جميع الأنبياء هو العبادة لله وحده ....، فثبت أن مقصود نزول القرآن دعوة العباد إلى عبادة الله وحده والرد على الذين أشركوا مع الله في العبادات : من السجدة لغير الله ، والحج ، والنذر لغير الله ؛ وغير ذلك من العبادات ...) .

3 - وقال العلامة السهسواني (1326هـ) :

(اعلم أن الله لم يبعث رسله ولم ينزل كتبه لتعريف خلقه بأنه الخالق لهم ، والرازق لهم ، ونحو ذلك ؛ فإن هذا يقر به كل مشرك قبل بعثة الرسل) ؛ ثم ذكر عدة آيات كريمات لتحقيق أن المشركين كانوا معترفين بتوحيد الربوبية ، وأن إشراكهم إنما كان في العبادة ، وأن حقيقة إشراكهم هي التوسل والتشفع بالصالحين قربة وتوصلًا إلى الله تعالى ، كما هو طريقة القبورية اليوم في التوسل الشركي إلى الله عز وجل .

4 - قلت : هذا الذي قاله هؤلاء العلماء الثلاثة يدل عليه كلام غيرهم من علماء الحنفية .

الوجه السادس : أن توحيد العبادة غاية الجهاد فقد استدل علماء الحنفية على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله » الحديث .

وقوله صلى الله عليه وسلم :

« أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله » الحديث .

فقد سبق أن الإمام ابن أبي العز (792هـ) رحمه الله استدل به على كون توحيد العبادة هو الغاية دون توحيد الربوبية .

الوجه السابع : أن توحيد العبادة غاية فتح البلاد * فيطبق بعد الجهاد على العباد ؛ ليعبدوا رب العباد * ويخلعوا كل ما يعبد من دون الله من الأصنام والأوثان والطواغيت والأنداد * فقد قال سبحانه وتعالى :

{ وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } [البقرة : 125] .

ولعلماء الحنفية كلام في تفسير هذه الآية يدل على أن المراد من التطهير تطهير البلاد * من عبادة العباد وتخليتها من الشرك والأنداد وتحليتها بالتوحيد وعبادة رب العباد * .

الوجه الثامن : أن توحيد العبادة أول دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وقد سبق ذكر الآيات الدالة على هذا المطلوب ؛ سياق كلام الإمام ابن أبي العز (792هـ) رحمه الله وغيره من علماء الحنفية .

الوجه التاسع : أن توحيد العبادة كما هو أول دعوة الرسل كذلك هو آخر الرسل ووصيتهم صلى الله عليهم وسلم ؛ دل عليه قوله تعالى : { وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ } ... الآية [البقرة : 132] وقوله تعالى : { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي } ... الآية [البقرة : 133] .

قلت : لعلماء الحنفية كلام في تفسير هاتين الآيتين يدل على هذا المطلوب .

الوجه العاشر : أن توحيد العبادة أول واجب في الإسلام فقد صرح له علماء الحنفية الذين عرفوا حقيقة توحيد الرسل .

1 - 2 - فقد تقدم قول ابن أبي العز (792هـ) ، والعلامة القاري (1014هـ) رحمهما الله تعالى وتصريحهما بهذا المطلوب :

من أن السلف كلهم متفقون على أن أول ما يجب على العبد الشهادتان ، وأن التوحيد أول الأمر .

3 - قلت : وأصرح ما يحتج به على هذا المطلوب قول النبي صلى الله عليه وسلم في توجيهه معاذًا إلى اليمن وإرشاده ووصيته له :

...... « فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله » .... .

4 - وللإمام البدر العينتابي (855هـ) في شرح هذا الحديث كلام يحقق أن توحيد العبادة أول واجب على العبد .

الوجه الحادي عشر : أن توحيد العبادة - كما هو أول واجب - كذلك هو آخر واجب ، فهو أول الأمر وآخر الأمر ؛ فتوحيد العبادة ، كما هو أول ما يدخل به العبد في الإسلام كذلك يجب عليه أن يخرج به من الدنيا .

1 - صرح بذلك الإمام ابن أبي العز (792هـ) رحمه الله واستدل على هذا المطلوب بقول النبي صلى الله عليه وسلم :

« من كان آخر كلامه (لا إله إلا الله) دخل الجنة » .

2 - وأشار إليه العلامة القاري (1014هـ) .

قلت : وأصح منه حديث عثمان رضي الله عنه مرفوعًا :

« من مات وهو يعلم أنه (لا إله إلا الله) دخل الجنة » .

وهذا الحديث يقيد الحديث الأول وأمثاله ؛ فإنه لا يكفي مجرد القول بل لا بد من العلم والاعتقاد الجازم المنافي للشك ؛ كما صرح به علماء الحنفية في شرح الحديث الأول وفي شرح هذا الحديث .

3 - قلت : لأجل أن توحيد العبادة آخر واجب على المرء - اهتم علماء الحنفية بتلقين المحتضر كلمة التوحيد : ((لا إله إلا الله)) .

واستدلوا بحديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعًا :

« لقنوا موتاكم : (لا إله إلا الله) » .

4 - قال الإمام ولي الله الدهلوي (1176هـ) في شرح هذا الحديث :

(هذا غاية الإحسان بالمحتضر بحسب صلاح معاده ، وإنما خص ((لا إله إلا الله)) ؛ لأنه أفضل الذكر مشتمل على التوحيد ونفي الإشراك وأنوه أذكار الإسلام) .

5 - وللعلامة القاري كلام مهم فليراجع .

الوجه الثاني عشر : أنه لا يدخل العبد في الإسلام بأية كلمة إلا بكلمة توحيد العبادة ، التي هي كلمة الإسلام :

وهي كلمة : ((لا إله إلا الله)) دون غيرها من الكلمات :

1 - قال العلامة الخجندي (1379هـ) رحمه الله :

(اعلم أن (( لا إله إلا الله)) - هي الكلمة الفارقة بين الكفر والإسلام ؛ فمن قالها - عالمًا بمعناها ، ومعتقدًا إياها - فقد دخل في الإسلام وصار من أهل دار السلام ((الجنة)) ؛ وأما من قال :

((لا خالق إلا الله)) ، أو ((لا رازق إلا الله)) ، أو ((لا رب إلا الله)) ، أو ((لا موجود إلا الله)) ، أو ((الله موجود)) ، أو نحو ذلك .

فلا يكون مسلمًا ، ولا يكون من أهل دار السلام ، وهذه الكلمات - وإن كانت حقًا ؛ لكن يشرك في القول بها سائر الناس : من المشركين ، والمجوس ، والنصارى ، واليهود ، وغيرهم ، سوى الدهرية المادية ؛ كما يشهد القرآن بذلك ؛ فقد ثبت بهذا التحقيق : أن الذكر النافع المنجي من عذاب الله - إنما هو : ((لا إله إلا الله)) ؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

« أفضل الذكر ((لا إله إلا الله )) » .

فما يتداوله العوام * ومن يدعي العلم والدين من الطغام *

من قولهم : ((الله موجود)) ، أو ((لا رب إلا الله)) أو ((لا خالق إلا الله)) ، أو نحو ذلك ، فليس من خصائص دين الإسلام ، ولا من خصائص المسلمين ؛ بل يشترك فيه المشركون ، واليهود ، والنصارى ، والمجوس ؛ فتنبه وتدبر ، ولا تكن أعمى ، وأصم ، تقلد كل ناعق وناهق) .

2 - وقال رحمه الله : (و ((لا إله إلا الله)) - هي كلمة الإخلاص المنافية للشرك ، وكلمة التقوى التي تقي قائلها من الشرك بالله ...) .

3 - وقال رحمه الله تعالى : ( ... ولهذا كانت هذه الكلمة كلمة الإسلام * ومفتاح دار السلام * والفارق بين المؤمنين والكافرين من الأنام *) .

4 - قلت : من الكلمات التي ظنها كثير من الأعلام * فضلًا عن العوام الطغام * مفيدة للتوحيد ، وتتردد على ألسنتهم وتستطر في كتبهم :

كلمة : ((لا مقصود إلا الله)) ؛ مع أنها من خرافات الصوفية * ومصطلحاتهم الخرافية ؛ فإنهم يزعمون : أنهم يعبدون الله تعالى لله ؛ لا طمعًا في الجنة ولا نجاة من النار

والذين يعبدون الله طمعًا في الجنة وخوفًا من النار - فهم في الحقيقة ليسوا من الموحدين الكاملين ، بل هم من الأجراء العمال العاملين ؛ لأن كل ما هو مقصود فهو معبود .

5 - وهذا في غاية من الفساد والإفساد * والضلال والإضلال * ومناقض لمنهج الأنبياء والمرسلين ، فهو في نهاية من الإبطال * ؛ فقد قال سبحانه وتعالى : { وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا } [الأعراف : 56] ، وقال تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } [الإسراء : 57] وقال جل وعلا : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } [الأنبياء : 90] . وقال سبحانه : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا } .... [السجدة : 16] ، وللإمام الآلوسي (1270هـ) كلام في تفسير هاتين الآيتين لتحقيق أن العبادة لرجاء الجنة وخوف النار لا ينافي الإخلاص المقصود في التوحيد والكمال ، وللإمام ابن أبي العز (792هـ) كلام مهم في الرد على هؤلاء الصوفية وقد صرح الحنفية أن الإيمان بين الخوف والرجاء .

6 - وقال العلامة القاري (1014هـ) محققًا أن كلمة الإسلام هي : ((لا إله إلا الله)) دون غيرها :

(وإنما جاء الأنبياء عليهم السلام لبيان التوحيد ، وتبيان التفريد ؛ ولذا أطبقت كلمتهم ، وأجمعت حجتهم على كلمة ((لا إله إلا الله)) ، ولم يؤمروا بأن يأمروا أهل ملتهم بأن يقولوا : ((الله موجود)) ؛ بل قصدوا إظهار أن غيره ليس بمعبود ؛ ردا لما توهموا وتخيلوا ؛ حيث قالوا :

{ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } [يونس : 18] .

و { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [الزمر : 3] ...) .

الوجه الثالث عشر :

أن توحيد العبادة مستلزم ومتضمن لتوحيد الربوبية دون العكس .

فمن لم يحقق توحيد العبادة ، واكتفى بتوحيد الربوبية - كان كافرًا من الكافرين * ومشركًا من المشركين * وقد صرح بذلك علماء الحنفية :

1 - قال الإمام ابن أبي العز (792هـ) :

(فلو أقر رجل بتوحيد الربوبية الذي يقر به هؤلاء النظار ؛ ويفنى فيه كثير من أهل التصوف ؛ ويجعلونه غاية السائلين ، وهو مع ذلك لم يعبد الله وحده ، و [لم] يتبرأ من عبادة ما سواه كان مشركًا من جنس أمثاله من المشركين ) .

2 - وقد سبق كلام الإمام ابن أبي العز والعلامة نعمان الآلوسي في أن توحيد العبادة متضمن ومستلزم وقوعًا لتوحيد الربوبية دون العكس .

3 - وقال العلامة القاري (1014هـ) :

الحاصل : أنه يلزم من توحيد العبودية توحيد الربوبية ، دون العكس في القضية ؛ لقوله تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [لقمان : 25] .

وقوله سبحانه حكاية عنهم :

{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [الزمر : 3] ....) .

قلت : هذه كانت أحد عشر كوكبًا ؛ والشمس والقمر :

ميزات وخصائص كبرى لتوحيد العبادة وهي تدل على أهميته إلى الغاية ؛ وأنه هو الغاية العظمى والمقصد الأسنى ، والهدف الأسمى والمطلب الأعلى ، الجامع المتضمن لتوحيد الربوبية ، المستلزم لتوحيد الأسماء والصفات .

وهذا يدل على أن القبورية الذين عبدوا القبور وأهلها بأنواع من العبادات من الاستغاثة بهم والنذر لهم ، والغلو فيهم ونحوها قد أخلوا بأعظم الغاية على الإطلاق ، وأشركوا بالله في أهم المطالب بالاتفاق .

وبعد أن عرفنا أهمية توحيد العبادة - ننتقل إلى الفصل الآتي لنعرف أركان توحيد العبادة وشروط صحته وبالله التوفيق .

 

الفصل الرابع

في أركان توحيد الألوهية وشروط صحته

وفيه مبحثان :

- الأول : في بيان أركان توحيد الألوهية .

- الثاني : في بيان شروط صحة توحيد الألوهية .

المبحث الأول

في بيان أركان توحيد العبادة

بعد أن عرفنا أهمية توحيد العبادة وميزاتها لا بد أن نعرف أركانه لنعلم أن توحيد العبادة مركب من جزئين هما ركنان له وليكون هذا كله أبلغ رد على القبورية فإنهم قد أخلوا بأركان توحيد العبادة وأشركوا بالله تعالى.

فأقول : إن علماء الحنفية قد صرحوا أن توحيد العبادة متركب من ركنين أساسيين وجزئين مهمين ، لا يمكن وجوده إلا بهما ولا قوام له إلا بوجودهما معًا ؛ وهما كما يلي :

الركن الأول : النفي ؛ أي نفي جميع ما يعبد من دون الله ، باعتقاد أن كل إله غير الله ، فهو باطل ؛ فلا يستحق العبادة أحد غير الله تعالى ؛ وإذا لم يتحقق هذا الركن الأول لم يتحقق توحيد العبادة البتة .

الركن الثاني : الإثبات ؛ أي إثبات أن الله تعالى هو وحده إله حق ، مستحق للعبادة وحده لا شريك له فكلمة الإسلام مركبة من جزئين هما ركنان لها .

الأول : ((لا إله)) وهو النفي ، والثاني : ((إلا الله)) ، وهو الإثبات .

ووجه تقديم النفي على الإثبات ما قاله العلامة الخجندي (1379هـ) بعد ذكر أن الأغذية لا تنفع ما دام المرض موجودًا :

(فكذلك الإنسان ما دام مبتلى بمرض القلب بالشرك ونحوه لا تنفعه عبادة وطاعة أصلًا .

ولهذا أجمعوا على أن التخلية مقدمة على التحلية ، وهذا هو معنى ((لا إله إلا الله )) .

تنفي أولًا الآلهة الأنفسية والآفاقية ، ثم تثبت الإله الواحد الأحد الحق الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد) .

وفيما يلي بعض نصوص علماء الحنفية لتحقيق هذا المطلوب :

1 - قال الإمام ابن أبي العز (791هـ) ، في شرح قول الإمام الطحاوي (321هـ) .

2 - والعلامة القاري (1014هـ) ، واللفظ للأول : ((ولا إله غيره)) بعد قوله : ((إن الله واحد)) :

(هذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلهم ؛ كما تقدم ذكره ؛ وإثبات التوحيد لهذه الكلمة ، باعتبار النفي والإثبات - المقتضي للحصر فإن الإثبات المجرد قد يتطرق إليه الاحتمال ؛ ولهذا - والله أعلم- .

لما قال الله : { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } [البقرة : 163] ؛ قال بعده : { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } [البقرة : 163] ؛ فإنه قد يخطر ببال أحد خاطر شيطاني :

هب أن إلهنا واحد ، فلغيرنا إله غيره ؛ فقال تعالى : { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ }

3 - 15 - وقريب منه كلام لكثير من علماء الحنفية في تفسير هذه الآية وتحقيق أن توحيد العبادة قائم على الركنين مؤسس على دعامتين ومركب من جزئين ، وهما النفي والإثبات .

16 - وقال القاري (1014هـ) في بيان أهمية الركن الثاني :

(والمقصود الأعظم - هو إثبات الإلهية لله تعالى - بعد نفيها عن غيره) .

17 - ثم قال في بيان أهمية الركن الأول : (لا نزاع في ثبوت إلهية مولانا - جل وعز - لجميع العقلاء وإنما كفر من كفر بزيادة إله آخر ؛ فنفى ما عداه - تعالى ؛ على هذا هو المحتاج إليه ، وبه يحصل التوحيد) .

18 - وقال الشيخ أحمد السرهندي الملقب عند الحنفية بالإمام الرباني ، ومجدد الألف الثاني (1034هـ) ، في بيان أهمية الركن الأول وهو النفي :

(والمتشبث بمجوع أحكام الإسلام والكفر - مشرك ؛ والتبرؤ من الكفر شرط الإسلام ؛ والاجتناب عن شائبة الشرك - توحيد ؛ والاستمداد من الأصنام ، والطواغيت - في دفع الأمراض والأسقام - كما هو الشائع فيما بين جهلة أهل الإسلام - عين الشرك ، والضلالة ؛ فيكفرون من حيث لا يشعرون ؛ ونذر الحيوان للمشايخ ، وذبحه عند قبورهم - داخل في الشرك ؛ ولا يجوز إشراك أحد به تعالى في عبادة من العبادات ، وطلب الحاجات من غير الله - عين الضلالة وتسويل الشيطان الرجيم) .

19 - وللعلامة نعمان الآلوسي (1317هـ) كلام قيم في تحقيق الركن الأول ، وهو النفي أي البراءة من أفعال الكفر والشرك وعدم ارتكاب ما ينافي كلمة التوحيد ، وأن من ارتكب ما يوجب الكفر ولو أقر بكلمة التوحيد ؛ فقد كفر وحبط عمله وتبين زوجته ، وخرج من دين الإسلام .

20 - وللعلامة شكري الآلوسي (1342هـ) كلام مهم في تحقيق أن القبورية لا تنفعهم كلمة التوحيد ما داموا مرتكبين للشرك وعبادة غير الله ، وإن هم زعموا أنهم لا يعبدون غير الله .

21 - وقال العلامة الخجندي - في تحقيق هذين الركنين - بعدما ذكر عدة قبور جعلت أوثانًا تعبد من دون الله - في بلاد ما وراء النهر :

بلخ ، وبخارى ، وسمرقند ، وتركستان ، وخجندة ، وكاشغر ، وقونية ، والعراق ، وكربلاء ، ودمشق ، ومصر ، والقاهرة ، وطنطا :

(أو غيرها من القبور التي يعظمونها ويعبدونها وينذرون لها ويتوجهون إليها ..، فصارت كل هذه القبور كالتي ذكرها الله تعالى في كتابه ؛ فلا يكون إيمان العبد صحيحًا حتى يكفر بهذه كلها ؛ ويؤمن بالله وحده ؛ وهذا معنى قوله تعالى :

{ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا } [البقرة : 256] ؛ وهذا معنى : ((لا إله إلا الله)) ؛ فتنفي الآلهة كلها من كل الوجوه ، وتثبت الإله الحق الواحد الأحد الصمد الذي : { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } ؛ فهذا التوحيد الخالص إنما هو مفتاح الجنة بلا ريب ولا شبهة ...؛ فقائل : ((لا إله إلا الله)) يجب عليه أن يستمر عليه ، وعلى موجبه ؛ وأن لا يبطله بما ينافيه من الشرك ، واتخاذ الأنداد ، واعتقاد التصرف الغيبي لغير الله ؛ وإلا بطل ولا تبقى له منفعة ... ؛ فلا بد من الاستمرار على التوحيد ، وعلى كل ما يقتضيه التوحيد ؛ ولا بد من الكفر

بالطاغوت ، وكل آلهة دون الله كما لا يخفى ؛ فمن يقول : ((لا إله إلا الله)) ، ثم يقول : إن الأرواح تنصر ، وتمد ، أو يدعو غير الله ، أو يرجو غير الله ، فقد أبطل قوله : ((لا إله إلا الله)) ؛ بل أشرك بالله شركًا جليا لا يغفره الله عز وجل فتنبه) .

22 - وقال رحمه الله ، في بيان أهمية هذين الركنين :

(وهذه الكلمة نفي ، وإثبات : نفي الآلهة عما سوى الله تعالى من المخلوقات ؛ حتى جبريل ومحمد عليهما السلام ، فضلًا عن غيرهم من الأولياء والصالحين ؛ وهذه الألوهية - هي التي تسميها العامة في زماننا : ((السر والولاية)) ! و ((الإله)) معنا : ((الولي الذي فيه السر)) ؛ وذلك أنهم يظنون : أن الله تعالى جعل لخواص الخلق منزلة يرضى أن يلتجئ الإنسان إليهم ، ويرجوهم ، وليستغيث بهم ، ويجعلهم ((واسطة)) بينه وبين الله تعالى ؛ فالذي يزعم أهل الشرك في زماننا : أنهم ((وسائط)) هم الذين يسميهم الأولون : ((الآلهة)) !!

و ((الواسطة)) هي ((الإله)) ؛ فقول المؤمن : ((لا إله إلا الله)) إبطال للوسائل ؛ وغالب الذين غلوا في تعظيم الأولياء ، وشيوخ الطرق ، وأئمة آل البيت من السادة قد عبدوهم بدعائهم حتى في الشدائد ، والطواف بقبورهم ، وذبح القرابين لهم ؛ وكانوا يجهلون : أنهم بهذا قد اتخذوهم ((آلهة)) ...) .

23 - وقال في بيان أهمية هذين الركنين : النفي والإثبات :

(فالله فالله يا إخواني !

تمسكوا بأصل دينكم ، وأوله وآخره ورأسه : ألا وهو شهادة أن ((لا إله إلا الله)) ، واعرفوا معناها ؛ واكفروا بالطواغيت وعادوهم ...، ولا شك : أن أول ما فرض الله تعالى على عباده الإيمان بالله ، والكفر بالطاغوت ؛ { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36] .... ؛ فصفة الكفر بالطاغوت : أن تعتقد بطلان عبادة غير الله ، وتتركها ، وتبغضها ، وتكفر أهلها وتعاديهم ؛ ومعنى الإيمان بالله :

أن تعتقد أن الله هو الإله المعبود وحده ، دون من سواه ، وتخلص كل أنواع العبادة لله وحده ، وتنفيها عن كل معبود سواه ، و(( الطاغوت)) عام في كل أنواع العبادة ؛ فكل ما عبد من دون الله ، ورضي بالعبادة : من معبود ، أو متبوع ، أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .

فهو طاغوت ... ؛ فالإنسان لا يكون مؤمنًا بالله إلا بعد الكفر بالطاغوت ؛ لقوله تعالى : { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 256] ...) .

24 - وقال رحمه الله في بيان تحقيق هذين الركنين ، ولا سيما الركن الأول : وهو ((النفي)) :

(فقد ثبت ثبوتًا بينًا : أن ((لا إله إلا الله)) :

مفتاح دار السلام ؛ ولكن بشرط كونها خالصة مخلصة ؛ فلا بد أولًا من الكفر [بالطاغوت] ، والتبرؤ من كل الآلهة الآفاقية والأنفسية ؛ ثم إثبات الواحد الأحد المعبود حقا ؛ وأهم ما نفته هذه الكلمة - استحقاق العبادة

لغير الله نفيًا كليا ؛ ولأجل هذا أرسلت الرسل ، وجردت السيوف ؛ ومن لوازمها - العمل بكل ما جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقتضى هذه الكلمة ؛ بلا تغيير ، ولا تزييد : فمن المنفي : الربوبية والخالقية ؛ فلا رب إلا الله ، ولا خالق إلا الله ؛ فمن اعتقد أن الملائكة ، أو الأرواح تربي تربية بسلطة غيبية فقد أشرك بالله في الربوبية والخالقية ؛ كما هو حال كثير من جهلة القبوريين والطرقيين .

ومن المنفي : القدرة ؛ فلا قدرة لأحد إلا بالله ؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله ؛ فمن اعتقد أن الملائكة ، أو الأرواح تقدر على شيء بنفسها فقد أشرك بالله في صفة القدرة والقادرية .

ومن المنفي : التصرف في الكون ، والإحياء والإماتة ؛ فلا متصرف في الكون إلا الله ، ولا محيي إلا الله ، ولا مميت إلا الله ؛ فمن اعتقد : أن الملائكة والأرواح تتصرف في الكون ، أو تحيي أو تميت . فقد أشرك بالله .

ومن المنفي : الحكم والتحليل والتحريم ؛ فالحاكم الحق حقيقة هو الله وحده ، وهو المشرع وحده ، وهو المحلل وحده ، وهو المحرم وحده ؛ فلا حاكم إلا الله ، ولا مشرع إلا الله ، ولا محلل إلا الله ، ولا محرم إلا الله .

فمن حكم بحل شيء لم يحله الله ، أو حكم بحرمة شيء لم يحرمه الله ، أو شرع ما لم يأذن به الله فقد أشرك بالله .

ومن المنفي : العبادة ، والمعبودية ؛ وهذا هو الأصل الذي أنزلت

هذه الكلمة لأجله ، وأرسلت الرسل لأجله ؛ فلا معبود حقا إلا الله ، ولا يعبد حقًّا إلا الله : بأي نوع من أنواع العبادة .

وبالجملة .....؛ هذا هو معنى : ((لا إله إلا الله)) ؛ فمن قالها لفظًا ، ولكنه غير معناها ، وأفسد تفسيرها ، وعبد غير الله . فقد أتى ببهتان * فلا شك أن يصير من أهل الخسران * ) .

25 - وقال رحمه الله مبينًا أهمية هذين الركنين :

(واعلم أن مدلول : ((لا إله إلا الله )) : التزام بعبادة الله وحده لا شريك له ، والكفر بما يعبد من دون الله ؛ وهذا أصل دين الإسلام وقاعدته ؛ ولهذا كانت هذه الكلمة الإسلام * ومفتاح دار السلام * والفارق بين المؤمنين والكافرين من الأنام * ) .

قلت : هذه كانت أمثلة من نصوص علماء الحنفية في تحقيق الركنين لتوحيد العبادة : النفي ، والإثبات ، وهي أبلغ وأقمع للقبورية الذين أخلوا بهذين الركنين ، وناقضوا التوحيد بعبادتهم القبور وأهلها أنواعًا من العبادات ؛ فهذه النصوص تدل على أن التوحيد لا يمكن أن يوجد ويقوم إلا بهذين الركنين وهاتين الدعامتين ، كما تصرح بأن القبورية ناقضوا التوحيد ، فهم ليسوا من أهل التوحيد بل هم من أهل الشرك .

وإذا عرفنا ذلك ننتقل إلى المبحث الآتي لنعرف شروط صحة توحيد العبادة والله المستعان .

****

المبحث الثاني

في بيان شروط صحة توحيد العبادة

إن علماء الحنفية - كما اهتموا ببيان ركني التوحيد - كذلك اهتموا ببيان شروط صحة التوحيد ، فذكروا لتوحيد العبادة عدة شروط ، وصرحوا بأنه لا صحة للتوحيد إلا بعد توفر تلك الشروط ، وكل ما أذكره عن الحنفية فهو رد على القبورية فإنهم قد أخلوا بتلك الشروط ، بارتكابهم الشرك بسبب عبادتهم القبور وأصحابها فلم يصح توحيدهم . وفيما يلي بيانها :

الشرط الأول :

فهم معنى توحيد العبادة ، والعلم به المنافي للجهل ؛ فمن قال : ((لا إله إلا الله)) ولم يفهم معناها - لا يدخل في الإسلام ، ولا يصح توحيده ، ففهم معنى كلمة التوحيد من أعظم شروط صحة توحيد العبادة وأهمها ولما لم يعرف القبورية معناها ، وما هو الإله ، وما هي العبادة ؟ لم يعرفوا ما يضاد التوحيد من الشرك بالله تعالى ، فعبدوا القبور وأهلها بأنواع من العبادات .

فناقضوا كلمة التوحيد ، وأشركوا بالله بأنواع من الإشراك .

وفيما يلي بعض نصوص علماء الحنفية في أهمية العلم بمعنى كلمة التوحيد :

1 - قال الإمام البدر العينتابي (855هـ) في شرح قول الإمام البخاري (256هـ) :

(باب العلم قبل القول والعمل ؛ لقوله تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } [ محمد : 19] ، فبدأ بالعلم) .

(أي هذا باب في بيان أن العلم قبل القول والعمل : أراد أن الشيء يعلم أولًا ، ثم يقال ، ويعمل به ؛ فالعلم مقدم عليهما بالذات ، وكذا مقدم عليها بالشرف ؛ لأنه عمل بالقلب ، وهو أشرف أعضاء البدن ...؛ وقال ابن المنير : أراد : أن العلم شرط في صحة القول والعمل ؛ فلا يعتبران إلا به ؛ فهو متقدم عليهما ؛ لأنه مصحح النية المصححة للعمل ؛ فنبه البخاري على ذلك ) .

2 - وقال الملا علي القاري (1014هـ) :

(يتعين على كل موقن أن يعتني بشأنها [كلمة التوحيد] مبنى ومعنى ، لينقل من إفادة مبناها * إلى إعادة معناها * ؛ فإنها مفتاح الجنة * وعن النار بمنزلة الجُنة * للناس والجِنة * وقد نص الأئمة * من سادات الأمة * :

أنه لا بد من فهم معناها * المترتب على علم مبناها * ؛ ليخرج عن ربقة التقليد ، ويدخل في رفعة التحقيق والتأييد ؛ وقد قال تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } [ محمد : 19] .

3 - وقال العلامة اللكنوي (1304هـ) ، رحمه الله .

4 - (وفي النوازل الفقهية ، لأبي الليث السمرقندي [375هـ) :

5 - سئل أبو القاسم :

في رجل لا يحسن العربية ، وقد تعلم في صغره .

آمنت بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر والقدر خيره

وشره ؛ ويعلم أن هذا هو الإيمان .

إلا أنه إذا سئل عن تفسيره لا يحسن تفسيره !

أهو مؤمن ؟

قال : هذا حافظ كلامًا لا يدري ما هو ؟) .

6 - 7 - ولقد صرح كثير من علماء الحنفية أن مجرد التلفظ بكلمة التوحيد ؛ ومجرد قولها باللسان بدون فهم معناها والاعتقاد بها من عمق القلب لا يفيد شيئًا .

واستدل كثير من الحنفية على اشتراط العلم بمعنى كلمة التوحيد بحديث : « من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة » .

فهذا الحديث صريح في أنه لا يكفي مجرد التلفظ بكلمة التوحيد دون فهم معناها والاعتقاد بها من عمق القلب .

8 - وقال العلامة الخجندي (1379هـ) محققًا أن التلفظ بكلمة التوحيد بدون فهم معناها وبدون العلم بالمراد منها - لا يفيد شيئًا :

(واعلم : أن ((لا إله إلا الله)) - هي الكلمة الفارقة بين الكفر والإسلام ....، وليس المراد قولها باللسان فقط ، مع الجهل بمعناها ....، ولكن المراد قولها مع معرفتها بالقلب والإذعان لها ....) .

ثم ذكر بعض الأدلة على ذلك ثم قال :

(إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على جهالة أكثر الناس بهذه الشهادة ....) .

ثم قال :

(واعلم : أن لا إله إلا الله هي الكلمة الفارقة بين الكفر والإسلام ؛ فمن قالها - عالمًا بمعناها ، ومعتقدًا إياها - فقد دخل في الإسلام * وصار من أهل دار السلام * ) .

9 - وقال رحمه الله تعالى أيضًا ؛ محققًا أن التلفظ بكلمة التوحيد بدون فهم معناها لا يجدي ولا ينفع :

(و ((لا إله إلا الله)) هي كلمة الإخلاص المنافية للشرك ، وكلمة التقوى التي تقي قائلها من الشرك بالله ؛ ولكن لا تنفع قائلها عند الله ، وفي دار الآخرة إلا بشروط :

الأول : العلم بمعناها : نفيا وإثباتًا .

والثاني : اليقين ، وهو كمال العلم بها ، المنافي للشك .

والثالث : الإخلاص المنافي للشرك ؛ فمن يقول : ((لا إله إلا الله)) ، ولكن لا يفهم معناها ، ولا يعمل به فهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا ....؛ لأن الله عز وجل قال : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } [ محمد : 19] ؛ فالعلم مقدم على القول والعمل ...) .

10 - وقال رحمه الله تعالى أيضًا - مبينًا أن المشركين السابقين كانوا يعرفون معنى كلمة التوحيد بخلاف القبورية :

(فإذا عرفت ما ذكرنا ، فاعلم أن المشركين الذين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم

إلى الإيمان كانوا مقرين بتوحيد الربوبية ؛ كما بين الله تعالى في كتابه ؛ ولم يدخلهم ذلك التوحيد في الإسلام ؛ بل قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يقروا بتوحيد الألوهية ، وهو معنى : ((لا إله إلا الله )) ؛ والمراد من هذه الكلمة : معناها ، لا مجرد لفظها ؛ والكفار الجهال كانوا يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو إفراد الله تعالى بالعبادة ، والتبرؤ مما يعبد من دون الله ، والكفر به ؛ فإنه لما قال لهم : « [يا أيها الناس !] قولوا : لا إله إلا الله [تفلحوا] » - قالوا : { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ ص5] ؛ وقد عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك ؛ فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار ! ؛ بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب بشيء من المعاني ، والحاذق منهم يظن : أن معناها : ((لا يخلق ، ولا يرزق إلا الله)) ، و ((لا يدبر الأمر إلا الله)) .

فلا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى ((لا إله إلا الله)) ؛ وقد ذكر الله تعالى في كتابه : أن المشركين يقرون بالربوبية ، وأن كفرهم بتعلقهم بالملائكة والأنبياء والأولياء ، مع قولهم : { هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } [ يونس : 18] ....، فمن قال ((لا إله إلا الله)) ، ومع ذلك يفعل الشرك الأكبر :

كدعاء الموتى والغائبين وسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات ،

والتقرب إليهم بالنذر والذبائح فهذا مشرك شاء أم أبى ....) .

11 - قلت : يدل هذا النص أن المشركين السابقين وهؤلاء القبوريين كلهم في الحقيقة غير مؤمنين بكلمة التوحيد ؛ غير أن المشركين السابقين كانوا يعرفون معناها ، ويعلمون أن هذه الكلمة تمنعنا من عبادة آلهتنا من الاستغاثة والنذور ونحوها .

فلذا كانوا يأبون التلفظ بها ولم يكونوا يقولونها قطعًا .

وأما هؤلاء القبوريون فهم لأجل أنهم لا يعرفون معناها ، ولا يعلمون أنها تضاد ما هم عليه من عبادة القبورية وأهلها من الاستغاثة والنذور ونحوها يتلفظون بها ويقولونها مئات المرات بل الآلاف ، ولكن إذا فسر لهم معناها ، وأنها تنهاهم عن عبادة الصالحين فهم حينئذ يأبون معناها ؛ ولو كان هؤلاء القروية عارفين بمعنى هذه الكلمة - كالمشركين السابقين - لكانوا أشد الناس إباء عن التلفظ بها وامتناعًا عن قولها باللسان ؛ كإخوانهم المشركين السابقين . والله المستعان على ما يصفون .

12 - وقال رحمه الله مبينًا أنه لا عبرة بالتلفظ بالكلمة بدون فهم المعنى :

(وغالب من يقول : ((لا إله إلا الله)) وإنما يقولها تقليدًا ؛ ولم تخالط بشاشة الإيمان قلبه ، فلا يعرف ما تنفيه ، وما تثبته ؛ ومن لا يعرف ذلك يخشى عليه أن يصرف عنها عند الموت ؛ وفي القبور أمثال هؤلاء يقولون - كما في الحديث الصحيح : « سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته »

الحديث) .

قلت : لا يخشى عليهم عند الموت فقط ؛ بل يخشى عليهم قبل الاحتضار في حياتهم اليومية ، بل ليس الأمر إلى حد الخشية فحسب ؛ بل الحقيقة أن هؤلاء قد صرفوا عن كلمة التوحيد فعلًا ، وناقضوها بأنواع من الإشراك بالله سبحانه ، وأبطلوها بأنواع من العبادات للقبور وأهلها .

 

الشرط الثاني : اليقين المنافي للظن والشك .

1 - قلت : اشتراط اليقين قد تقدم في نفس كلام العلامة الخجندي .

2 - ومن الأدلة القاطعة التي استدل بها الحنفية على اشتراط اليقين القلبي المنافي للظن والشك حديث أبي هريرة رضي الله عنه :

« من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه بشره بالجنة » .

فهذا الحديث صريح في اشتراط اليقين وهو يقيد تلك الأحاديث المطلقة الواردة في فضل كلمة التوحيد .

3 - 5 - قال العلامة القاري (1014هـ) في شرح هذا الحديث وتبعه العثماني (1369هـ) واللفظ للأول : ((مستيقنًا بها)) أي بمضمون هذه الكلمة ((قلبه)) أي منشرحًا بها صدره غير شاك ومتردد في التوحيد ....؛ وفي هذا دلالة ظاهرة لمذهب أهل الحق :

أن اعتقاد التوحيد لا ينفع دون النطق عند الضرورة ، أو عند الطلب ، ولا النطق دون الاعتقاد بالإجماع ؛ بل لا بد منهما ....) .

6 - قلت : ويؤكد ذلك حديث : ((... « لا يلقى الله بهما عبد غير شاك » ...)) ؛ فهو نص صريح في أنه لا يكفي مجرد قولها باللسان ؛ بل لا

بد من اليقين المنافي للظن والشك والتردد .

وأن هذا الحديث مقيد لتلك الأحاديث المطلقة الواردة في قول لا إله إلا الله ، فلا حجة لأهل البدع في تلك الأحاديث المطلقة ؛ لأن هذا الحديث وأمثاله من الأحاديث التي ورد فيها قيود مع قول لا إله إلا الله تقيد تلك الأحاديث المطلقة .

الشرط الثالث : التصديق المنافي للتكذيب :

فلقد صرح علماء الحنفية باشتراط التصديق بمعنى كلمة التوحيد وأن المرء لا يكون مسلمًا عند الله بدون التصديق ؛ وأنه لا يكفي مجرد قولها باللسان والإقرار بها بدون التصديق من عمق القلب .

1 - وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة وأصحابه من أهل السنة ، فإن حقيقة الإيمان عندهم الإقرار باللسان والتصديق بالجنان بل يؤيده مذهب الحنفية الماتريدية المرجئة الجهمية المعطلة أيضًا .

2 - فإن حقيقة الإيمان عندهم التصديق بالجنان فقط .

وأما الإقرار باللسان فهو شرط لإجراء الأحكام الدنيوية وليس شرطًا

لحقيقة الإيمان ولا ركنًا له .

فمن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه فهو مؤمن ناج عندهم .

مع أن الحق في هذا هو مذهب أهل الحديث وأهل السنة المحضة من أن الإيمان تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان .

3 - ومن أصرح الحجج ، وأقوى البراهين التي استدل بها علماء الحنفية على اشتراط التصديق بالجنان مع الإقرار باللسان حديث أنس رضي الله عنه .

« ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صدقًا من قلبه إلا حرمه على النار » .

4 - ولعلماء الحنفية كلام في شرح هذا الحديث يؤكد ما سبق .

الشرط الرابع : الإخلاص المنافي للشرك والنفاق والرياء والسمعة :

فلا يصح توحيد الشخص وإقراره به والتظاهر بأنه موحد إلا إذا صدق

به بقلبه مخلصًا لله عز وجل خائفًا من عقابه راغبًا في ثوابه راجيًا من الله الجنة وما أعده للموحدين من النعيم المقيم ، وإلا يكون منافقًا مرائيًا مغرضًا من المغرضين ممرضًا من الممرضين .

1 - ولقد استدل علماء الحنفية على اشتراط الإخلاص بأدلة كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم في حديث محمود بن عتبان في قصة مالك بن دخشن رضي الله عنهم :

« فإن الله قد حرم على النار من قال : لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله » .

وفي لفظ : « لن يوافي عبد يوم القيامة يقول : لا إله إلا الله ، يبتغي بها وجه الله إلا حرم الله عليه النار » .

وفي لفظ : « ألا تقولونه : يقول لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ؛ قال : بلى ، قال : فإنه لا يوافي عبد يوم القيامة به إلا حرم الله عليه النار » .

2 - ولعلماء الحنفية كلام مهم في شرح هذا الحديث يفيد أن من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه فقد برئ من النفاق ؛ وأن هذا الحديث وأمثاله يفيد تلك الأحاديث الواردة في إطلاق القول ((لا إله إلا الله)) .

وأن هذه الأحاديث المقيدة مفسرة لتلك الأحاديث المطلقة .

3 - وقد تقدم كلام العلامة الخجندي في أن من شروط كلمة التوحيد

- الإخلاص المنافي للشرك .

وسيأتي مزيد تحقيق وتفصيل لهذا الشرط إن شاء الله تعالى .

وبعد أن عرفنا أهمية أركان توحيد العبادة وشروط صحته ننتقل إلى الباب الآتي لنعرف جهود علماء الحنفية في تحقيق أن توحيد العبادة غير توحيد الربوبية ، وإبطال قول القبورية باتحاد الربوبية والألوهية . وبالله التوفيق * وبيده أزمة التحقيق * .

 

*****

الرجوع للصفحة الرئيسية