خطبة الجمعة 3 / 9 / 1421 هـ  من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى

الخطبة الأولى

الحمد لله خلق الجن والإنس ليعبدوه، وأسبغ عليهم آلاءه ونعمه ليشكروه، وأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه ليعرفوه، أحمده سبحانه وأشكره، حمد عبدٍ يخاف ربه ويرجوه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا يسأل عما يفعل وخلقه مسؤولون عما فعلوه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبد الله ورسوله، دعا أمته إلى التوحيد، وحذرهم من الشرك، وأوصاهم أن يخافوا الله ويتقوه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، آمنوا به وعزروه، وآزروه ونصروه، والتابعين وتابعيهم بإحسان، الذين عرفوا الحق ولزموه، وسلم تسليماً كثيراً.

 

أما بعد :

 

فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، فالتقوى بالتوقي، ومن يتق الله يقه، واعلموا أن الأجل دون الأمل، فبادروا الأجل بالعمل، وإنه لا عمل بعد الأجل، والآخرة باقية والدنيا فانية، فقدموا أمر الآخرة على أمر الدنيا، ولا تأخذكم في الله لومة لائم، واحذروا فإن الحذر محله القلب.

 

أيها المسلمون . .

 

منذ ظهرت الحضارات الإنسانية وميزان القوى لا يستقر على حال، أمم تكون في الصدارة، ثم تمسي فإذا هي في ذيل القافلة! وأخرى لم تكن شيئاً مذكوراً، فإذا هي تترقى في أوج العظمة وقمم المجد! إنها أيام الله يداولها بين الناس، هذا التداول بإذن الله وأمره: يخضع لسنن من الله شتى، {ولن تجد لسنة الله تبديلا}، إن حركة التأريخ في السنن والنواميس تعطي أفقاً واسعاً للنظر والتأمل والتدبر، أسباب تجتمع بإذن الله فيكون باجتماعها انتصار وقوة! ثم تجتمع بطريقة أخرى ليكون بها التشرذم والانحسار والضعف، لا مفرّ من سنن الله العاملة في التأريخ، فهي لن تحابي أحداً، {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم: أنى هذا؟! قل: هو من عند أنفسكم}.

 

ومن منظور هذه السنن، وبتأمل هذه النواميس، شاء الله سبحانه أن يجعل بيت المقدس مسرى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ومنطلق المعراج إلى السماء، في رحلة النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ولأمر حكيم، شاء سبحانه أن يجعل بيت المقدس قبلة المسلمين الأولى، منذ فرضت الصلاة في العهد المكي وثمانية عشرا شهراً من العهد المدني، وهو ما يزيد على نصف سني البعثة المحمدية. ثم لأمر حكيم وحكمة عظيمة، تسلم العبقري الملهم، الخليفة الراشد، الفاروق عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ مفاتيح بيت المقدس من دون سائر المدائن التي فتحها الله على المسلمين. إنه التمييز الواضح، والخصوصية الخاصة، والإعلان الصريح لما لهذه المدينة المقدسة من منزلة كبرى في دين الإسلام وتأريخ المسلمين.

 

للمسجد الأقصى وقصة الإسراء خبر خاص، وسورة كاملة في قلب مصحفنا، ودستورنا، إنها: سورة الإسراء، سورة بني إسرائيل، في آياتها ودلالاتها وكنوزها. .

 

بسم الله الرحمن الرحيم {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير} رباطٌ قراني محكم بين هاتين المدينتين المقدستين، واتصال ديني وثيق بين مكة المكرمة والقدس الشريف، ورباط مقدس بين أقدس بقعتين فيهما: الكعبة المشرفة والمسجد الأقصى. رباط إلهي وثيق، وما وصله الله لا ينقطع.

 

بيت المقدس ربوة مباركة، ذات قرار ومعين، أرض مقدسة، قبلة الأمة، وبوابة السماء، وميراث الأجداد، ومسؤولية الأحفاد، معراج محمدي، وعهد عمري، دار الإسلام، بها يجسد تراث الأمة ويحدد مستقبلها ويثبت وجودها. إلى مسجدها تشد الرحال، ومن قبله تشد الأبدان والنفوس والأفئدة! فتحه المسلمون بعد وفاته عليه الصلاة والسلام بست سنوات، وحكموه قروناً طويلة، ثم احتله الصليبيون تسعين عاماً، فأخرجهم صلاح الدين ـ رحمه الله ـ ، وهذه الأيام يحتله يهود، ولن يخرجوا ـ والله ـ إلا بصلاح الدين!!

 

حكم المسلمون هذه المدينة المباركة هذه الأحقاب الطويلة، فما هدموا بيتاً لساكن، ولا معبداً لمتعبد، التزموا بتعاليم دينهم، احترموا كل ذي عهد وعقد وذمة وفاء للعهد العمري.

 

استمعوا رعاكم الله إلى هذا النص من هذا العهد العمري:

 

((بسم الله الرحمن الرحيم. . هذا ما أعطى عبد الله أمير المؤمنين أهل الياء من الأمان: أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم سقيمها وبريئها وسائر ملتها، أن لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم، على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم، شهد على ذلك خالد بن الوليد، عمرو بن العاص، عبد الرحمن بن عوف، معاوية بن أبي سفيان، عمر بن الخطاب، سنة خمس عشرة من الهجرة)) شهد على ذلك وكتب وحضر رضي الله تعالى عنهم جميعاً ورضي الله عن جميع صحب محمد صلى الله عليه وسلم.

 

لقد تضمن العهد العمري حرية المعتقد وحرية السكنى وحرية التنقل، وهو عهد من أكثر من ألف وأربعمئة سنة لم يكن متأثراً بشعارات حقوق إنسان منافقة في عصرنا، ولكنها كانت تطبيقاً لمنهج الإسلام في التعامل الراقي المقسط مع أهل الأديان الأخرى.

 

لقد أصبح القدس الشريف، وسكانها من مختلف الديانات في حماية المسلمين، يحافظون عليها، ويدافعون عنها وعن من فيها، هذا حديث أهل الإسلام، وهذا حكمهم، وهذا تأريخهم، هذا حديثنا وهذا حكمنا وهذا تأريخنا..

 

أما اليوم، فبيت المقدس يجري فيه ما لم يحدث على أيدي أي غزاة في تأريخ البشرية كلها، ولم يجري ذلك في تاريخ المقدس الممتد آلاف السنين، لم يفعل غازٍ أو محتل مثل ما فعله ويفعله اليهود اليوم، وليس بعد شهادة التأريخ شهادة، وليس من رأى كمن سمع، على ما تشاهدون هذه الأيام بل في هذه الساعات.

 

احتلوا القدس الشريف من أكثر من ثلاثين عاماً، فأحرقوا المسجد الأقصى ونسبوا ذلك إلى معتوه مختل العقل! وكأن المجانين لا يخرجون إلا على مقدسات المسلمين، أما أعمال الحفر والتهديم والحفر حول المسجد فهي متواصلة منذ وطئت أقدامهم قدسنا ولا تزال، انبعث باعث منهم ليحصد المصلين من المسلمين وهم يصلون في مسجد الخليل فقتلهم وهم ركع سجود، ومنذ أيام والمسلمون في صلاة الجمعة أطلقت النار على المصلين وهم في رحاب المسجد الأقصى، ليسقط العديد من القتلى والجرحى، هدمت الأبنية والآثار الإسلامية في سعي دائم وحثيث لإزالة المعالم وتغيير الهوية.

 

وفي هذه الأيام يصدر تصرف استفزازي يوصف بأنه شاذ، مع أنه مدعوم من جهاتهم الرسمية! تصرف أسال الدماء وفجّر الحرب وأزهق الأرواح، إنه ليس تصرف من مختل العقل، وليس تصرف فردياً؛ لكنه تصرف من رئيس حزب من أحزابهم؛ اقتحام لحرمة المقدسات محاط بحراسة آلاف الجنود مسلحين بالعتاد والحراب والقنابل، تصرفات عدوانية أسالت الدماء، ورسّخت الكراهية، وبعثت الأحقاد، وأعادت أجواء الحرب، زرعٌ للحقد الأسود في مدينة الإيمان والإسلام والأرض المباركة، اعتداءات وانتهاكات في صور فضيعة تجعل من حق المظلوم أن يستخدم كل سلاح ممكن لحماية نفسه، مظلوم احتلت أرضه يقابل جيش مدجج بكل أنواع الأسلحة والآليات الفتاكة، يقابله أطفال وشباب أحداث ليس لهم حيلة إلا العصي والحجارة والصراخ!! ليدافعوا عن أنفسهم ومقدساتهم وأرضهم ومنازلهم.

 

كلٌ يدعي التسامح! وكلٌ يزعم الديموقراطية! وكلٌ يتشبث بحقوق الإنسان!! في هذا القرن؛ قرن التحضر! وقرن المدنية!! وقرن المواثيق الدولية!! والقرارات الأممية!! ولكن العمل والواقع والأرض والتأريخ هو الذي يصدق ذلك أو يكذبه.

 

دماء تراق، وحصد للأرواح، من المدنيين العزل! في أماكن العبادة، وفي الشوارع، وفي الطرقات والساحات العامة، بل صواريخ وقنابل داخل المنازل والشقق!! وحرب من الأرض والبحر والسماء!

 

يتحدثون عن السلام بألسنتهم، ويباشرون الحرب في خططهم وفي استعداداتهم وأفعالهم، أفعال شنيعة، وتجاوزات رهيبة، لا تثير لدى الجهات الدولية القائمة على رعاية المواثيق الدولية! والقيمة على حقوق الإنسان! وحاملة لواء الديموقراطية! والمسؤولة عن الأمن الدولي والاستقرار العالمي؛ لا تثير لديها أي تحرك أو تصرف منصف!! بل إن هؤلاء اليهود الصهاينة لم يسألوا عن جريمة ارتكبوها!! ولم تحجب عنهم مساعدات طلبوها!! ولم يتأخر عنهم مدد سألوه!! ولم يوجه إليهم لومٌ ولا عتاب في جرم اقترفوه!! بل لقد توافد كبار ساسة العالم من أجل أسراهم! وبعثت التعازي من أجل قتلاهم! أما إخواننا بفلسطين فلا بواكي لهم!! بل لقد قال أحد هؤلاء الساسة: ((لن نتغاضى مطلقاً عن قتل جنود اليهود مهما كانت معانات الشعب الفلسطيني))!!

 

أين العدل؟ وأين الإنصاف؟! وأين حقوق الإنسان؟!! من شعب يعيش منذ سبعين عاماً في احتلال، في مخيمات، وفي ملاجئ، والملايين منه يعيشون في التشريد والشتات. شعب فلسطين حياته كلها خوف، وتعذيب، واعتقال، وطرد، تهدم البيوت، وتغلق المدارس، بل تغلق المخازن والمتاجر لتسد عنهم أبواب الرزق القليلة!! تجويع وبطالة، استيلاء على الأرض، وتحكم في مصادر المياه بل تحكم في فرص الحياة.

 

محتل يلاحق من يشاء! ويتهم من يشاء! ويقتل من يشاء! ويعتقل من يشاء! ينشئ المستوطنات، ويقيم الحواجز، ويبني الأسوار! ويغلق المدن والقرى! ثم يزعم أنه يريد السلام!!

 

أيها المسلمون . .

 

عندما تنعدم الخيارات أمام المظلوم، وتضيق البدائل بشعب مقهور، فإن كل سلوك متوقع! وكل سياسات يمكن فهمها وإن صعب تبريرها!! غزارة دم يسيل، وحرارة دم يغلي؛ ليسا طرفين متكافئين، جيش احتلال مسلح ضد شعب أعزل! القتلى والضحايا في طرف! والقاتل والجلاد الذي يطلق النار في طرف آخر!! قاتل ومقتول! وجلاد وضحية!

 

إن مشاهد ة هذه المناظر ومتابعة الأحداث تقطع الأمل في الرغبة الجادة في السلام، إن من بديهيات الأمور وأبجديات التفكير أن السلام الذي يبنى على أساليب القهر والإذلال والتعسف والإملاء والابتزاز غير السلام الذي يبنى على الحق والعدل والمساواة والتكافؤ والندية.

 

إن القوة والقهر والظلم لا يمكن لها أن تنشئ حقاً أو تقيم سلاماً!! إن العدوان لا يولد إلا العدوان، وإن مشاعر الشعوب هي معيار الضغط النفسي وهي مقياس بواعث الانفجار.

 

أيها المسلمون . .

 

إن ما يجري في بيت المقدس وفي فلسطين المحتلة امتحان شديد لأمة الإسلام، أمة الإسلام أمة معطاء تجود ولا تبخل، في تاريخها المشرق الطويل قدمت ما يشبه المعجزات، وهي اليوم تعيش مفترق طرق خطير! يحيط بها وبقدسها وبأجزاء محتلة من ديارها، إنها لن تعجز عن إيجاد آلية عاقلة منصفة قوية متزنة، تعيد الحق إلى نصابه، وترد المغتصب إلى صوابه، أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أمة الإسلام، وأمة الجهاد، وأمة العزة، لا تعجز بإذن الله أن تجد لنفسها بتوفيق الله وعونه مخرجاً من أزمتها وعطلها الحضاري، والقدس والأرض المباركة أغلا وأثمن وأكبر من أن تترك لمتاجرات أو مساومات.

 

أيها الأخوة . .

 

إن قضية بيت المقدس وقضية فلسطين لا تنفصل البتة عن قضية الإسلام كله! إنها ليست أرضاً فلسطينية أو عربية فحسب؛ بل إنها قبل ذلك وبعده أرض المسلمين أجمعين، تفدى بالأرواح والمهج، وإذا ضعف الإسلام في نفوس الأتباع ضعفت معه روابط الحقوق والحماس والفداء في قضاياه كلها! ويوم يترسخ الإيمان ويصفو المعتقد وتسود الشريعة وتعلو الشعائر؛ ستحيى كل القضايا وسيتحقق كل مطلوب. .

 

وبعد ، ، فيجب أن يعي المسلمون ويعلنوا أنه لا سبيل لاستخلاص الحقوق، واستنقاذ المغتصبات، بأي مكان وعلى أي أرض، إلا حينما يعتصمون بحبل الله، ويكونون جميعاً ولا يتفرقون، ويصطفون عباداً لله إخوانا، يجمعهم نداء واحد، لا نداء غيره؛ يا مسلم يا عبد الله.

 

والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين، ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين، إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرحٌ مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس، وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين، وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين}.

 

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد صلى الله عليه وسلم، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.