دعوة

  

 

 

 

سؤال عن صِحة صيغة العهدة النبوية لنصارى نجران ؟

 

السؤال:

السلام عليكم

كاتب مسلم سني معروف في لبنان واسمه "محمد السمّاك"أمين عام اللجنة الوطنية (اللبنانية) للحوار الإسلامي المسيحي

خرج لنا في مقال له بعنوان :نص العهد النبوي لنصاري نجران ملزم للمسلمين في كل زمان ومكان

ومن صيغتها شككت بها ..لانها طويلة وفيها تكلّف وجياك خيرا شيخنا الفاضل ان تبيّن لنا الحقيقة لأني ارى هؤلاء يميّعون الدين ولبسونه لباس العلمانية من اجل التعاليش السلمي كما يقولون ولو على حساب ثوابتنا.

وذكر :
ينص العهد فيما ينص عليه ( 1 ): أولاً : » أن أحمي جانبهم ـ أي النصاري ـ وأذب عنهم وعن كنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم ومواضع الرهبان ومواطن السياح حيث كانوا من جبل أو واد أو مغار أو عمران أو سهل أو رمل «. ثانياً : » أن أحرس دينهم وملتهم أين كانوا من بر أو بحر شرقاً وغرباً بما أحفظ به نفسي وخاصتي وأهل الاسلام من ملتي «. ثالثاً : » أن أدخلهم في ذمتي وميثاقي وأماني من كل أذي ومكروه أو مؤونة أو تبعة وأن أكون من ورائهم ذابا عنهم كل عدو يريدني وإياهم بسوء بنفسي وأعواني واتباعي وأهل ملتي «. رابعاً : » أن أعزل عنهم الاذي في المؤن التي حملها أهل الجهاد من الغارة والخراج إلا ما طلبت به أنفسهم وليس عليهم إجبار ولا اكراه علي شيء من ذلك «. خامساً : » لا تغيير لاسقف عن أسقفيته ولا راهب عن رهبانيته ولا سائح عن سياحته ولا هدم بيت من بيوت بيعهم ولا ادخال شيء من بنائهم في شيء من أبنية المساجد ولا منازل المسلمين فمن فعل ذلك فقد نكث عهد الله وخالف رسوله وحال عن ذمة الله «. سادساً : » أن لا يحمل الرهبان والاساقفة ولا من تعبد منهم أو لبس الصوف أو توحد في الجبال والمواضع المعتزلة عن الامصار شيئاً من الجزية أو الخراج «. سابعاً : » لا يجبر أحد ممن كان علي ملة النصرانية كرهاً علي الاسلام «. و»لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن « و » يخفض لهم جناح الرحمة ويكف عنهم أذي المكروه حيث كانوا وأين كانوا من البلاد «. ثامناً : » إن أجرم واحد من النصاري أو جني جناية فعلي المسلمين نصره والمنع والذب عنه والغرم عن جريرته والدخول في الصلح بينه وبين من جني عليه فإما مُنّ عليه أو يفادي به «. تاسعاً : » لا يرفضوا ولا يخذلوا ولا يتركوا هملا لاني أعطيتهم عهد الله علي أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما علي المسلمين «. عاشراً : » علي المسلمين ما عليهم بالعهد الذي استوجبوا حق الذمام الذب عن الحرمة واستوجبوا أن يذب عنهم كل مكروه حتي يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم وفيما عليهم «. حادي عشر : » لهم ان احتاجوا في مرمة ـ ترميم ـ بيعهم وصوامعهم أو شيء من مصالح أمورهم ودينهم الي رفد من المسلمين وتقوية لهم علي مرمتها ـ ترميمها ـ أن يرفدوا علي ذلك ويعاونوا ولا يكون ذلك دينا عليهم بل تقوية لهم علي مصلحة دينهم ووفاء بعهد رسول الله موهبة لهم ومنة لله ورسوله عليهم «



الجواب:

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

لا شكّ أن دِين الإسلام هو دِين العَدْل والرحمة .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميرا على جيش أو سرية أوْصَاه في خاصَّتِه بتقوى الله ، ومن معه من المسلمين خيرا ، ثم قال : اغْزُوا باسم الله في سبيل الله ، قَاتِلوا مَن كَفَر بالله ، اغزوا ولا تَغُلُّوا ، ولا تَغْدُروا ، ولا تُمَثِّلوا ، ولا تَقْتُلوا وَليدا ، وإذا لَقيت عدوك من المشركين فادْعُهم إلى ثلاث خصال أو خلال ، فأيّتهنّ ما أجابوك فاقْبَل منهم وكُفّ عنهم :
ادْعُهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقْبَل منهم وكُفّ عنهم ، ثم ادْعُهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فَلَهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين ، فإن أبَوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعْرَاب المسلمين يَجْرِي عليهم حُكم الله الذي يَجْري على المؤمنين ، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلاَّ أن يُجَاهِدوا مع المسلمين ، فإن هُم أبَوا فَسَلْهُم الجزية ، فإن هُم أجابوك فاقْبَل منهم وكُفّ عنهم ، فإن هُم أبَوا فاسْتَعِن بالله وقاتِلهم . رواه مسلم .

وأما هذا المذكور في السؤال فهو مما جَمَعه د . محمد حميد الله مِن وثائق ، وهو يَجْمَع كل ما يقع بين يديه مِن غير تدقيق ولا تمحيص ولا نَقْد ، ويَعْتَبِر اللغة والذوق كافية في قبول الوثائق !
وهو خِلاف ما عليه عَمَل الأمة مِن زِمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى انتهاء أزمنة القوة ، وابتداء أزمِنة الانبِطاح والانفساح والتمييع والتضييع ! 


ولو كان ما فيها حق لاشْتَهَر وانتشر على مَـرّ العصور . 

وما في تلك الوثيقة المزعومة كثير مِنه مُخَالِف لِما عُرِف مِن دِين الإسلام ، ومما جاء في الشروط العُمرية . 
بل ما زُعِم مِن إيواء " مُجْرِم النصارى " باطِل وكذِب لا يأتي به دِين الإسلام ! فإن العلماء نَصُّوا على أن الذّمّي ينقض عهده بمثل ذلك .

روى الطبراني والبيهقي مِن طريق كَعْبُ بْنُ عَلْقَمَةَ أَنَّ غَرفَةَ بْنَ الْحَارِثِ الْكِنْدِىَّ مَرَّ بِهِ نَصْرَانِىٌّ فَدَعَاهُ إِلَى الإِسْلاَمِ ، فَتَنَاوَلَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَهُ فَرَفَعَ غَرَفَةُ يَدَهُ فَدَقَّ أَنْفَهُ فَرُفِعَ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ عَمْرٌو أَعْطَيْنَاهُمُ الْعَهْدَ فَقَالَ غَرَفَةُ : مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَكُونَ أَعْطَيْنَاهُمْ عَلَى أَنْ يُظْهِرُوا شَتْمَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- إِنَّمَا أَعْطَيْنَاهُمْ عَلَى أَنْ نُخَلِّىَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ كَنَائِسِهِمْ يَقُولُونَ فِيهَا مَا بَدَا لَهُمْ وَأَنْ لاَ نُحَمِّلَهُمْ مَا لاَ يُطِيقُونَ وَإِنْ أَرَادَهُمْ عَدُوٌّ قَاتَلْنَاهُمْ مِنْ وَرَائِهِمْ وَنُخَلِّىَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَحْكَامِهِمْ إِلاَّ أَنْ يَأْتُونَا رَاضِينَ بِأَحْكَامِنَا فَنَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ اللَّهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ وَإِنْ غَيَّبُوا عَنَّا لَمْ نَعْرِضْ لَهُمْ فِيهَا . قَالَ عَمْرٌو : صَدَقْتَ .
قال البيهقي : وَكَانَ غَرفَةُ لَهُ صُحْبَةٌ .

قال ابن القيم رحمه الله في " أحكام أهل الذمة " : الذِّمِّي إذا سَبّ الله والرسول أو عاب الإسلام علانية فقد نَكَث يمينه وطَعن في ديننا ، ولا خلاف بين المسلمين أنه يُعَاقَب على ذلك بما يَرْدَعه ويُنَكّل به ، فَعُلِم أنه لم يعاهدنا عليه ، إذ لو كان معاهدا عليه لم تَجُز عقوبته عليه ، كما لا يُعَاقَب على شرب الخمر وأكل الْخِنْزِير ونحو ذلك ، وإذا كُـنَّا عاهدناه على ألاَّ يَطعن في ديننا ثم طَعن فقد نكث يمينه من بعد عهده فيجب قَتله بِنَصّ الآية . اهـ .

بل نصّ بعض العلماء على أن عهد الذِّمِّي ينتقض إذا تعامَل بالربا في بلاد المسلِمين !
قَالَ الخرقي : وَمَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ ، بِمُخَالَفَةِ شَيْءٍ مِمَّا صُولِحُوا عَلَيْهِ ، حَلَّ دَمُهُ وَمَالُهُ . اهـ .
قال ابن قدامة : فَأَمَّا إخْرَاجُ أَهْلِ نَجْرَانَ مِنْهُ ، فَلأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَهُمْ عَلَى تَرْكِ الرِّبَا ، فَنَقَضُوا عَهْدَهُ . اهـ .

وما زُعِم فيه مِن تَرميم كنائس النصارى وصوامعهم ، فإنه باطِل وكذب .

فقد جَرَى عَمَل الخلفاء الراشدين على أنه لا يُجدَّد ما انهدم مِن كنائس النصارى .
ففي الشروط العُمرية التي وضَعها عمر رضي الله عنه : ولا يُجَدَّد ما خَرَب مِن كَنائسِنا .

قال ابن قدامة : 
أَمْصَارُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ثَلاثَةِ أَقْسَامٍ : 
أَحَدُهَا : مَا مَصَّرَهُ الْمُسْلِمُونَ ، كَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وَبَغْدَادَ وَوَاسِطَ ، فَلا يَجُوزُ فِيهِ إحْدَاثُ كَنِيسَةٍ وَلا بِيعَةٍ وَلا مُجْتَمَعٍ لِصَلاتِهِمْ ، وَلا يَجُوزُ صُلْحُهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ ، قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَيُّمَا مِصْرٍ مَصَّرَتْهُ الْعَرَبُ ، فَلَيْسَ لِلْعَجَمِ أَنْ يَبْنُوا فِيهِ بِيعَةً ، وَلا يَضْرِبُوا فِيهِ نَاقُوسًا ، وَلا يُشْرِبُوا فِيهِ خَمْرًا ، وَلا يَتَّخِذُوا فِيهِ خِنْزِيرًا . رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَاحْتَجَّ بِهِ .
وَلأَنَّ هَذَا الْبَلَدَ مِلْكٌ لِلْمُسْلِمِينَ ، فَلا يَجُوزُ أَنْ يَبْنُوا فِيهِ مَجَامِعَ لِلْكُفْرِ .

وَمَا وُجِدَ فِي هَذِهِ الْبِلادِ مِنْ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ ، مِثْلُ كَنِيسَةِ الرُّومِ فِي بَغْدَادَ ، فَهَذِهِ كَانَتْ فِي قُرَى أَهْلِ الذِّمَّةِ ، فَأُقِرَّتْ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ .

الْقِسْمُ الثَّانِي : مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً ، فَلا يَجُوزُ إحْدَاثُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ ؛ لأَنَّهَا صَارَتْ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِينَ ، وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ فَفِيهِ وَجْهَانِ : 
أَحَدُهُمَا : يَجِبُ هَدْمُهُ ، وَتَحْرُمُ تَبْقِيَتُهُ ؛ لأَنَّهَا بِلادٌ مَمْلُوكَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ فِيهَا بِيعَةٌ ، كَالْبِلادِ الَّتِي اخْتَطَّهَا الْمُسْلِمُونَ .

وَالثَّانِي : يَجُوزُ ؛ لأَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنَ عَبَّاسٍ : أَيُّمَا مِصْرٍ مَصَّرَتْهُ الْعَجَمُ ، فَفَتَحَهُ اللَّهُ عَلَى الْعَرَبِ ، فَنَزَلُوهُ ، فَإِنَّ لِلْعَجَمِ مَا فِي عَهْدِهِمْ .
وَلأَنَّ الصَّحَابَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَتَحُوا كَثِيرًا مِنْ الْبِلادِ عَنْوَةً ، فَلَمْ يَهْدِمُوا شَيْئًا مِنْ الْكَنَائِسِ .
وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ هَذَا ، وُجُودُ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ فِي الْبِلادِ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا مَا أَحْدَثَتْ ، فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً فَأُبْقِيَتْ .
وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى عُمَّالِهِ : أَنْ لا يَهْدِمُوا بِيعَةً وَلا كَنِيسَةً وَلا بَيْت نَارٍ .
وَلأَنَّ الإِجْمَاعَ قَدْ حَصَلَ عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي بِلادِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ .

الْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا فُتِحَ صُلْحًا ، وَهُوَ نَوْعَانِ : 
أَحَدُهُمَا : أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى أَنَّ الأَرْضَ لَهُمْ ، وَلَنَا الْخَرَاجُ عَنْهَا ، فَلَهُمْ إحْدَاثُ مَا يَحْتَاجُونَ فِيهَا ؛ لأَنَّ الدَّارَ لَهُمْ .

وَالثَّانِي : أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى أَنَّ الدَّارَ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَيُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ إلَيْنَا ، فَالْحُكْمُ فِي الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ عَلَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ مَعَهُمْ ، مِنْ إحْدَاثِ ذَلِكَ ، وَعِمَارَتِهِ ؛ لأَنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَقَعَ الصُّلْحُ مَعَهُمْ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ لَهُمْ ، جَازَ أَنْ يُصَالَحُوا عَلَى أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْبَلَدِ لَهُمْ ، وَيَكُونَ مَوْضِعُ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ مُعَيَّنًا ، وَالأَوْلَى أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى مَا صَالَحَهُمْ عَلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ الشُّرُوطَ الْمَذْكُورَةَ فِي كِتَابِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ ، أَنْ لا يُحْدِثُوا بِيعَةً ، وَلا كَنِيسَةً ، وَلا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ ، وَلا قلاية .
وَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ، حُمِلَ عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ صُلْحُ عُمَرَ ، وَأُخِذُوا بِشُرُوطِهِ .
فَأَمَّا الَّذِينَ صَالَحَهُمْ عُمَرُ ، وَعَقَدَ مَعَهُمْ الذِّمَّةَ ، فَهُمْ عَلَى مَا فِي كِتَابِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ ، مَأْخُوذُونَ بِشُرُوطِهِ كُلِّهَا ، وَمَا وُجِدَ فِي بِلادِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ ، فَهِيَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ فَاتِحِيهَا وَمَنْ بَعْدَهُمْ .
وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا : يَجُوزُ إقْرَارُهَا لمْ يَجُزْ هَدْمُهَا ، وَلَهُمْ رَمُّ مَا تَشَعَّثَ مِنْهَا ، وَإِصْلاحُهَا ؛ لأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى خَرَابِهَا وَذَهَابِهَا ، فَجَرَى مَجْرَى هَدْمِهَا .
وَإِنْ وَقَعَتْ كُلُّهَا ، لَمْ يَجُزْ بِنَاؤُهَا ...
وَحَمَلَ الْخَلاّلُ قَوْلَ أَحْمَدَ : لَهُمْ أَنْ يَبْنُوا مَا انْهَدَمَ مِنْهَا . أَيْ : إذَا انْهَدَمَ بَعْضُهَا ، وَمَنْعَهُ مِنْ بِنَاءِ مَا انْهَدَمَ ، عَلَى مَا إذَا انْهَدَمَتْ كُلُّهَا ، فَجَمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ .
وَلَنَا ، أَنَّ فِي كِتَابِ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ لِعِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ : وَلا نُجَدِّدَ مَا خَرِبَ مِنْ كَنَائِسِنَا ... وَلأَنَّ هَذَا بِنَاءُ كَنِيسَةٍ فِي دَارِ الإِسْلامِ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَمَا لَوْ اُبْتُدِئَ بِنَاؤُهَا .
وَفَارَقَ رَمَّ شَعْثِهَا ؛ فَإِنَّهُ إبْقَاءٌ وَاسْتِدَامَةٌ ، وَهَذَا إحْدَاثٌ . اهـ .

وقال ابن القيم : في ذِكْر بناء ما استهدم منها ورَمّ شعثه ، وذِكْر الخلاف فيه
قال صاحب المغني فيه : كل موضع قلنا : " يجوز إقراره ، لم يَجُز هَدمه . 

وهذا ليس على إطلاقه فإن كنائس العَنوة يجوز للإمام إقرارها للمصلحة ، ويجوز للإمام هَدْمها للمصلحة .
وبه أفتى الإمام أحمدُ المتوكل في هَدْم كنائس العَنوة .
وكما طلب المسلمون أخْذ كنائس العَنوة منهم في زمن الوليد حتى صالحوهم على الكنيسة التي زِيدت في جامع دمشق وكانت مُقَرَّة بأيديهم مِن زمن عُمر رضي الله عنه إلى زمن الوليد .
ولو وَجَب إبقاؤها وامتنع هدمها لَمَا أقَرّ المسلمون الوليد ولَغَيَّرَه الخليفة الراشد لَمَّا وَلي عمر بن عبدالعزيز .
فلا تَلازُم بين جواز الإبقاء وتحريم الْهَدم .
وقد اختلفت الرواية عن أحمد في بناء المستهدم ورَمّ الشعث ؛ فَعَنه المنع فيهما ، ونَصَر هذه الرواية القاضي في خلافه . 
وعنه الجواز فيهما ، وعنه : يجوز رّم شعثها دون بنائها .
قال الخلال في " الجامع " : باب البيعة تُهْدَم بأسْرِها أو يُهدم بعضها : أخبرنا عبد الله بن أحمد قال : سألت أبي هل ترى لأهل الذمة أن يُحْدِثُوا الكنائس بأرض العرب ؟ وهل ترى لهم أن يَزيدوا في كنائسهم التي صُولِحُوا عليها ؟
فقال : لا يُحْدِثوا في مِصر مَصَّرَته العرب كنيسة ولا بيعة ، ولا يضربوا فيها بِناقُوس ، ولهم ما صُولِحُوا عليه ، فإن كان في عهدهم أن يَزيدوا في الكنائس فلهم وإلاَّ فلا ، وما انهدم فليس لهم أن يَبْنُوه .
أخبرني أحمد بن الهيثم أن محمد بن موسى بن مشيش حدثهم في هذه المسألة أنه سأل أبا عبد الله [ الإمام أحمد ] ، فقال : ليس لهم أن يُحْدِثوا إلاَّ ما صُولِحُوا عليه إلاَّ أن يَبْنُوا ما انهدم مما كان لهم قديما .
قال الخلال : وإنما مَعنى قول أبي عبد الله ههنا أنهم يَبنون ما انهدم يعني : مَرَمَّة يَرمّون ، وأما إن انهدمت كلها بأسْرِها فعنده أنه لا يجوز إعادتها .
وقد بَيَّن أيضا ذلك حنبل عنه : أخبرني عصمة بن عصام قال : حدثنا حنبل قال : سمعت أبا عبد الله قال : كل ما كان مما فَتح المسلمون عَنوة فليس لأهل الذمة أن يُحْدِثوا فيه كنيسة ولا بيعة ، فإن كان في المدينة لهم شيء فأرادوا أن يرموه فلا يُحْدثوا فيه شيئا إلاَّ أن يكون قائما .
فإن انهدمت الكنيسة أو البيعة بأسْرِها لم يُبَدِّلوا غيرها ، وما كان مِن صُلح كان لهم ما صُولِحُوا عليه، وشُرط لهم لا يُغَيَّر لهم شَرْطٌ شُرِط لهم . 
قال الخلال : وهكذا هو في شرطهم أنه إن انهدم شيء رَمّوه ، وإن انهدمت بأسرها لم يعيدوها.
قال القاضي في تعليقته : مسألة في البيع والكنائس التي يجوز إقرارها على ما هي عليه : إذا انهدم منها شيء أو تشعث فأرادوا عمارته فليس لهم ذلك ، في إحدى الروايات نَقَلها عبد الله قال :
ورأيت بِخَطّ أبي حفص البرمكي في رسالة أحمد إلى المتوكل في هَدم البيع رواية عبد الله بن أحمد عن أبيه وذَكَر فيها كلاما طويلا إلى أن قال : وما انهدم فَلَهم أن يَبنوه . اهـ .

وقال ابن قدامة أيضا : وَالْمَأْخُوذُ فِي أَحْكَامِ الذِّمَّةِ يَنْقَسِمُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ : 
أَحَدُهَا : مَا لا يَتِمُّ الْعَقْدُ إلاَّ بِذِكْرِهِ ، وَهُوَ شَيْئَانِ : الْتِزَامُ الْجِزْيَةِ ، وَجَرَيَانُ أَحْكَامِنَا عَلَيْهِمْ .
فَإِنْ أَخَلَّ بِذِكْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ ...
الْقِسْمُ الثَّانِي : مَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ ...
الْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا فِيهِ غَضَاضَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَهُوَ ذِكْرُ رَبِّهِمْ أَوْ كِتَابِهِمْ أَوْ دِينِهِمْ أَوْ رَسُولِهِمْ بِسُوءٍ .
الْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَا فِيهِ إظْهَارُ مُنْكَرٍ ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ : إحْدَاثُ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ وَنَحْوِهَا ، وَرَفْعُ أَصْوَاتِهِمْ بِكُتُبِهِمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِظْهَارُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالضَّرْبُ بِالنَّوَاقِيسِ ، وَتَعْلِيَةُ الْبُنْيَانِ عَلَى أَبْنِيَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالإِقَامَةُ بِالْحِجَازِ ، وَدُخُولُ الْحَرَمِ ، فَيَلْزَمُهُمْ الْكَفُّ عَنْهُ ، سَوَاءٌ شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَوْ لَمْ يَشْرُطْ ، فِي جَمِيعِ مَا فِي هَذِهِ الأَقْسَامِ الثَّلاثَةِ .
الْقِسْمُ الْخَامِسُ : التَّمَيُّزُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ : لِبَاسِهِمْ ، وَشُعُورِهِمْ وَرُكُوبِهِمْ ، وَكُنَاهُمْ .

أَمَّا لِبَاسُهُمْ ، فَهُوَ أَنْ يَلْبَسُوا ثَوْبًا يُخَالِفُ لَوْنُهُ لَوْنَ سَائِرِ الثِّيَابِ ... 

وَيُضِيفُ إلَى هَذَا شَدَّ الزُّنَّارِ فَوْقَ ثَوْبِهِ ، إنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا ، أَوْ عَلامَةً أُخْرَى إنْ لَمْ يَكُنْ نَصْرَانِيًّا ، كَخِرْقَةٍ يَجْعَلُهَا فِي عِمَامَتِهِ أَوْ قَلَنْسُوَتِهِ ، يُخَالِفُ لَوْنُهَا لَوْنَهَا ، وَيُخْتَمُ فِي رَقَبَتِهِ خَاتَمَ رَصَاصٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ جُلْجُلٍ ؛ لِيُفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَمَّامِ ، وَيَلْبَسُ نِسَاؤُهُمْ ثَوْبًا مُلَوَّنًا ، وَيُشَدُّ الزُّنَّارُ تَحْتَ ثِيَابِهِمْ ، وَتُخْتَمُ فِي رَقَبَتِهَا . 
وَأَمَّا الشُّعُورُ ، فَإِنَّهُمْ يَحْذِفُونَ مَقَادِيمَ رُءُوسِهِمْ ، وَيَجُزُّونَ شُعُورَهُمْ ، وَلا يَفْرَقُونَ شُعُورَهُمْ ؛ لأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَقَ شَعَرَهُ .
وَأَمَّا الرُّكُوبُ ، فَلا يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ ؛ لأَنَّ رُكُوبَهَا عِزٌّ ، وَلَهُمْ رُكُوبُ مَا سِوَاهَا ، وَلا يَرْكَبُونَ السُّرُوجَ وَيَرْكَبُونَ عَرْضًا ؛ رِجْلاهُ إلَى جَانِبٍ وَظَهْرُهُ إلَى آخَرَ ؛ لِمَا رَوَى الْخَلالُ ، بِإِسْنَادِهِ ، أَنَّ عُمَرَ أَمَرَ بِجَزِّ نَوَاصِي أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَأَنْ يَشُدُّوا الْمَنَاطِقَ ، وَأَنْ يَرْكَبُوا الأُكُفَ بِالْعَرْضِ .
وَيُمْنَعُونَ تَقَلُّدَ السُّيُوفِ ، وَحَمْلَ السِّلاحِ وَاِتِّخَاذَهُ .
وَأَمَّا الْكُنَى ، فَلا يَكْتَنُوا بِكُنَى الْمُسْلِمِينَ . اهـ . (باختصار يسير) . 

وقال أيضا : وَإِذَا عَقَدَ الذِّمَّةَ ، فَعَلَيْهِ حِمَايَتُهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِالْعَهْدِ حِفْظَهُمْ ، وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ أَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا ، وَدِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا .
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي وَصِيَّتِهِ لِلْخَلِيفَةِ بَعْدَهُ : وَأُوصِيه بِأَهْلِ ذِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ، أَنْ يُوفِيَ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ ، وَيُحَاطُ مِنْ وَرَائِهِمْ .

وقال : وَلا يَجُوزُ تَصْدِيرُهُمْ فِي الْمَجَالِسِ ، وَلا بَدَاءَتَهُمْ بِالسَّلامِ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلامِ ، وَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي الطَّرِيقِ ، فَاضْطَرُّوهُمْ إلَى أَضْيَقِهَا .
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيح . اهـ .

وحديث : لا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلا النَّصَارَى بِالسَّلامِ فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ . رواه مسلم . 

وقد ثَبَت أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى عند موته بثلاث : أخْرِجُوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجِيزوا الوفد بنحو ما كنت أُجيزهم . قال الراوي : ونسيت الثالثة . رواه البخاري ومسلم .

قال ابن قدامة : وَلا يَجُوزُ لأَحَدٍ مِنْهُمْ سُكْنَى الْحِجَازِ . وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ . إلاَّ أَنَّ مَالِكًا قَالَ : أَرَى أَنْ يُجْلَوْا مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ كُلِّهَا ؛ لأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ " وَرَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ ، فَلا أَتْرُكُ فِيهَا إلاَّ مُسْلِمًا . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : أَوْصَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلاثَةِ أَشْيَاءَ ، قَالَ : أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْت أُجِيزُهُمْ . وَسَكَتَ عَنْ الثَّالِثِ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَجَزِيرَةُ الْعَرَبِ مَا بَيْنَ الْوَادِي إلَى أَقْصَى الْيَمَنِ . قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ .
وَقَالَ الأَصْمَعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ : هِيَ مِنْ رِيفِ الْعِرَاقِ إلَى عَدَنَ طُولا ، وَمِنْ تِهَامَةَ وَمَا وَرَاءَهَا إلَى أَطْرَافِ الشَّامِ عَرْضًا .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : هِيَ مِنْ حَفْرِ أَبِي مُوسَى إلَى الْيَمَنِ طُولا ، وَمِنْ رَمْلِ يَبْرِينَ إلَى مُنْقَطِعِ السَّمَاوَةِ عَرْضًا . اهـ .

وما تضمّنه مقال " أمين عام اللجنة الوطنية للحوار .. " فيه تمييع لِدِين الإسلام ، مع ما فيه أيضا مِن الكذب والتلميع للبابا ومَن سار بِسيرِه !
ونحن جميعا نعلم مواقِف بابا الفاتيكان ، بل مواقِف الكنيسة مِن الإسلام ، فهي مواقِف عِداء !
وما جَرَى أثناء الحملات الصليبية وما يَجري في أرجاء العالم اليوم على أيدي النصارى مما يُنبئ عن حِقد دَفين على الإسلام والمسلمين . 

وتلك الوثيقة تُشْبِه ما زَعَمه يهود خيبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أسْقَط عنهم الجزية !

وسبق :
http://almeshkat.net/vb/showthread.php?t=88574

والله تعالى أعلم .


الشيخ عبد الرحمن السحيم

http://www.almeshkat.net/vb/showthread.php?t=93551