مقدِّمة بقلم محمَّد توفيق الصوَّاف

مقدِّمة بقلم محمَّد توفيق الصوَّاف

القرآن، هذا الكتاب الإلهي العظيم الَّذي لم ينزِّله الله على عبده محمَّد صلى الله عليه وسلم من أجل أن يتخذه أتباعه من بعده تميمة للتبرك أو لدفع العين الحاسدة عنهم، ولم ينزِّله كتاب لغة لحفظ العربية من الزوال، كما صار بعضهم يُعرِّفونه في هذه الأيام، أو لغير ذلك من الغايات الدنيوية الثانوية الَّتي صاروا يتوهَّمون أنه نزل لتحقيقها، بل نزَّله ليكون منهج حياة للناس كافَّة، ودليل سلوك مستقيم ووحيد يوصلهم إلى ربِّهم، ويؤهلهم لنيل رضوانه وثوابه في الدنيا والآخرة.. فمن الثابت إسلاميا أن القرآن هو صراط الله المستقيم الَّذي على المسلم أن يلتزمه في حياته الدنيا، ليسهل عليه اجتياز صراط الآخرة، يوم الحساب، وصولا إلى جنَّة الله وتجنُّبا لناره وعذابه..

إذاً، فالقرآن هو نصُّ المنهج الإلهي الموجَّه للناس كافَّة، والَّذي ينبغي على الإنسان أياً كان عربيا أو غير عربي أن يتمسَّك به في سلوكه الحياتي اليومي، ليس من قبيل الامتثال لأمر الله فقط، بل ليحظى بالسعادة في دنياه وأخراه أيضا. ذلك أن بين سعادة الإنسان والتزامه النهج الإلهي، علاقة عضوية وثيقة، يمكن إضاءتها وتأكيدها من خلال الاطلاع الواعي على سير الصحابة والتابعين وكلِّ الَّذين التزموا هذا النهج في حياتهم، وفي مقدِّمة الجميع رسول الله محمَّد صلى الله عليه وسلم ومن سبقه من أنبياء الله عليهم الصَّلاة والسَّلام.

ولعلَّ من أبرز ما يتَّصف به الإسلام، ممثَّلا بقرآنه والصحيح من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه رسالة الله إلى عباده أجمعين، وأن رسوله صلى الله عليه وسلم جاء بشيرا ونذيرا للناس كافَّة، في كلِّ الأزمان والأمكنة؛ وعمومية الرسالة الإسلامية هي الجانب العالمي من هويتها المميَّزة، الأمر الَّذي يفرض على أتباعها أن يقوموا بنشرها في مختلف أصقاع الأرض... فالإسلام دين الإنسان ـ أي إنسان ـ وليس دين العرب فقط..

لكن، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عربي، وكذلك لغة الكتاب الَّذي أنزل عليه، والمكان الَّذي نزل فيه هذا الكتاب، فقد كان من البدهي أن تكون لغة معظم المؤلفات الَّتي كُتبت عن هذا الدين ورسوله وقرآنه وشريعته باللغة العربية، وأن يكون المقصود الأول بخطابها هو الإنسان المتقن لهذه اللغة.. إلا أن هذا التوجُّه الَّذي هيمن على معظم المؤلفات الإسلامية، وخصوصا على كتب التفسير والحديث، حال دون تعميم فائدتها على غير الناطقين بالعربية، وخصوصا في عصرنا الراهن؛ كذلك فإن تطوُّر دلالة ألفاظ اللغة وتطوُّر أساليبها بين ما كانت عليه في الأزمان السابقة الَّتي تلت ظهور الإسلام، وبين ما آلت إليه في عصرنا الراهن، ساهم بدوره في حجب جزء آخر وهام من فائدة هذه المؤلفات القديمة والقيِّمة، حتَّى عن العرب المعاصرين من غير أهل الاختصاص في اللغة والدِّين، الأمر الَّذي استوجب صياغة شرح جديد لكتاب الله وسنَّة نبيِّه وما يتَّصل بهما وما ينبثق عنهما من أحكام شرعية بلغة معاصرة وأسلوب معاصر، وأمثلة معاصرة أيضا.. وهنا تكمن أهمية الكتاب الَّذي أقدِّم له، كما تكمن خصوصيته أيضا...

وربَّما بسبب إقامة مؤلف هذا الكتاب لفترة طويلة خارج نطاق الوطن العربي، وبين مسلمين لا يتقنون العربية، شعر بضرورة صياغة شرح معاصر لبعض آيات هذا القرآن، وما يتَّصل بها من أحاديث نبويَّة شريفة، ومن أحكام شرعية، صياغة معاصرة، لا يخرج بها عن روح هذه الآيات وأحكامها الأصلية، كما يفعل بعض المبتدعين في كلِّ عصر، بل يقرِّبها من الذوق والفهم المعاصرين، بحيث تكون سهلة المأخذ على العربي وغير العربي في آن واحد.. وهي، ولاشك، محاولة جليلة وهامَّة إلى حد كبير..

إذن هذه هي رسالة الكتاب الأولى وهذا هو هدفه الرئيس، الأمر الَّذي يطرح سؤالا هاما: هل نجح المؤلف في تحقيق هذا الهدف وإيصال تلك الرسالة؟

يدفعني هذا التساؤل إلى الاعتراف بأنني حين طلب مني معدُّ هذا الكتاب الأستاذ غازي آق بيق، أن أكتب مقدمة لطبعته الثانية، تهيَّبت كثيرا، وتردَّدت، فبماذا أقدِّم لكتاب يقع في نحو ألف صفحة تقريبا، تزخر بالكثير من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، وبشروحات ضافية وإلماحات قيِّمة مبتكرة جمعها المؤلف من شتَّى كتب التفسير والفقه الَّتي وصلت إليها يده، ومن الكثير من الكتب العلمية ذات الصلة بموضوعات القرآن المختلفة؟

لقد ساعدني في وضع هذه المقدِّمة، أن شاء الله، إكراما منه وإنعاما، أن أشارك في الإخراج الفني لهذا الكتاب، الأمر الَّذي اضطرني إلى قراءة مضمونه أكثر من مرة، وكان أكثر ما استوقفني فيه، وجذب انتباهي واهتمامي، رغبة المؤلف في إيصال رسالة القرآن الكريم إلى أكبر عدد ممكن من الناس على مختلف انتماءاتهم أو معتقداتهم، وتعريفهم الإسلام على حقيقته البسيطة الناصعة الَّتي حاول أعداؤه ومايزالون تشويهها بشتَّى السبل والوسائل، حسدا وبغضا لشرع الله، ومحاولة منهم لإبعاد الناس عن نهجه القويم..

ومن خلال قراءتي لمضمون هذا لكتاب، أستطيع أن أزعم بأنه قارب الغاية الَّتي ابتغاها مؤلفه.. بمعنى أنه جاء كتابا شموليا إلى حد كبير، دون أن تجنح به الشمولية إلى الاستطراد أو التبعثر بين الموضوعات الكثيرة الَّتي تطرَّق إليها وعالجها..

فقد نجح مؤلفه في ضبط موضوعاته وتبويبها تبويبا حسنا، يرتبط فيه اللاحق بالسابق ارتباطا موضوعيا، كما نجح في صياغته بلغة بسيطة تكاد تكون خالية من الألفاظ المعقَّدة والغريبة الَّتي يحتاج معها قارئ المؤلفات الإسلامية القديمة إلى فتح المعجم بين الفينة والفينة.. هذا بالإضافة إلى النجاح في توفير الحجَّة المقنعة كلَّما لزم الأمر، والمحاكمة العقلية الصحيحة للمشكل من الموضوعات، والأمثلة العلمية المعاصرة الَّتي تؤكِّد هذه الحجَّة أو تدعم تلك النتيجة الَّتي قادت إليها المحاكمة..

وباختصار نجح الأستاذ غازي آقبيق في توسيع رقعة الاستفادة من القرآن لشرائح كثيرة من غير المختصين في تفسيره وعلومه، فقدَّم لهم بذلك خدمة جليلة وفوائد كثيرة.. كما أنه نجح في خطاب العقل الإنساني المعاصر بلغته وأمثلته وعلومه الَّتي يعرفها، مما ساعده في توسيع دائرة الحوار مع هذا العقل دون تحيُّز مسبق، ودون تعصُّب أعمى لدين الله.. إذ لم ينطلق في كتابه من إدراج حقائق القرآن الكريم ومبادئه وأساسيات منهجه كمُسلَّمات لا تقبل جدلا ولا رأيا مناقضا، بل عمد إلى بسطها كموضوعات يمكن طرحها على ساحة الحوار الحر، مع أيٍّ كان..، مترسِّما بذك منهج القرآن الكريم نفسه الَّذي اعتمد حرية الحوار حتَّى مع أعداء الله وخصوم الدِّين الإسلامي، من مشركين وكافرين وملاحدة وسواهم.. وبهذا ارتقت لغة الكتاب إلى مستوى الحوار الحر الَّذي نصَّ عليه القرآن بصريح العبارة في مثل قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ في الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرشْدُ مِنَ الغَي..} (2 البقرة آية 56)، وقوله: {فَذَكِّرْ إَنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرْ * لَسْتَ عَلَيهِم بِمُسَيْطِر} (88 الغاشية آية 21ـ22)، وفي آيات أخرى مشابهة، حضَّت الإنسان على إعمال عقله قبل أن يعتنق عقيدة ما، وأن لا يؤمن إيمان الَّذين وصفهم تعالى بقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ الله قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَينَا عَلَيهِ آبَاءَنَا أَوَلَو كَانَ آبَاؤُهُم لا يَعْقِلُونَ شَيئاً وَلا يَهْتَدُون} (2 البقرة آية 170).

نعم، لقد اعتمد القرآن أسلوب الحوار الحر في دعوته الَّتي لم يُكْرِه أحدا على الدخول فيها أو التزامها، وهو الأسلوب الَّذي يعدُّه حتَّى الوضعيون هو الأرقى والأمثل.. وهو ما حاول المؤلف التزامه في خطاب عقول قرَّاء كتابه من مسلمين وغير مسلمين عربا كانوا أو غير عرب..

وفَّق الله المؤلف، وأوصله إلى قصده من كتابه هذا، ونفع به وبما كتب، فإنه على ما يشاء قدير، والحمد لله ربِّ العالمين..