b8-k4-f7

الفصل السابع:

أحكام استثنائية رُخِّص بها لرفع الحرج

سورة البقرة(2)

قال الله تعالى: {..يريدُ الله بكمُ اليُسْرَ ولا يريدُ بكمُ العُسْرَ.. (185)}

سورة النساء(4)

وقال أيضاً: {يُريدُ الله أَن يُخفِّفَ عنكم وخُلِقَ الإنسانُ ضَعيفاً(28)}

سورة الحج(22)

وقال أيضاً: {..وما جعلَ عليكم في الدِّينِ من حرجٍ.. (78)}

ومضات:

ـ اليُسْرُ وعدم الحرج سِمَة بارزة في الأحكام الَّتي كَلَّف الله بها عباده، وتتمثَّل في الإقرار بوجود الدوافع الفطريَّة وتنظيم الاستجابة لها، ليكون التوازن قائماً ومنسجماً، بين التكليف وبين متطلَّبات الحياة، على صعيد الفرد والجماعة.

ـ ليست غاية الإسلام تعذيب النفس وإرهاقها بالمبالغة في التكاليف والأعباء الدِّينية، فقد رحمها الله تعالى لضعفها وعجزها، حيث أن قدراتها محدودة واستعداداتها الطبيعية متفاوتة.

في رحاب الآيات:

من كمال حكمة الله التخفيف على عباده فيما شرع لهم من الحدود والأحكام، وذلك رحمة منه بهم، ومراعاة لضعفهم، ورفعاً للحرج ودفعاً للمشقَّة عنهم، فلا ضرر ولا ضرار. وتأكيداً على هذه المبادئ الَّتي تُبرز يُسر الإسلام وسماحته؛ شُرع كثير من أحكام الرُّخَص الَّتي تتعلَّق بالعبادات والمعاملات والعقوبات، والأمثلة عليها كثيرة وعديدة، سنأتي على ذكر بعضها، فيما يتعلَّق بالعبادات من صلاة وصيام وحج.

فعلى سبيل المثال فرض الله تعالى عدداً من ركعات الصَّلاة يومياً، لكنَّه رخَّص بجواز قَصْرِها في ظروف معيَّنة، كما ورد في قوله تعالى: {وإذا ضرَبْتُم في الأرضِ فليس عليكم جُنَاحٌ أن تَقْصُرُوا من الصَّلاة..} (4 النساء آية 101) أي إذا سافرتم أيُّها المؤمنون في الأرض للجهاد ـ وقياساً لأي داعٍ من دواعي السفر ـ فلا إثم عليكم في أن تَقصُروا الصَّلاة المفروضة، فَتُصَلُّوا الرباعيَّة ركعتين، لأن في السفر من المشقَّة والتعب ما لا يخفى على أحد، والإسلام دين اليُسر الملائم لكلِّ الظروف، وكذلك أبيح الجمع بين فرضين بسبب وجود حرج على المكلَّف، أو دون سبب لما رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه : «صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً من غير خوف ولاسفر»، وهذا استثناء وليس قاعدة عامَّة.

كما أنه يجوز لمن جهل جهة القبلة، وتعسَّر عليه تحديد جهتها في سفر أو غيره؛ أن يتوجَّه في صلاته إلى أي جهة يغلب على ظنِّه أنها جهة القبلة. كما يجوز للمصلِّي أن يصلِّي صلاة النافلة على المركوب الَّذي يمكن توقيفه والنزول عنه كالدابَّة والسيارة، أمَّا صلاة الفريضة في القطار والباخرة والطائرة، فيمكنه أداءها قاعدا، فيما إذا تعذَّر عليه الصَّلاة واقفا. وتكون قبلته حيث تتجه مركوبته، لما أخرجه مسلم عن ابن عمر رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي وهو مُقبل من مكَّة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت الآية: {ولله المَشرقُ والمَغربُ فأينما تُوَلُّوا فَثَمَّ وجهُ الله..}» (2 البقرة آية 115). فالحكمة من الاتجاه للقبلة هي توحيد وجهة المصلِّين، ولكنَّ يُسر الإسلام يحكم بجواز الاتجاه لغير جهتها، فيما إذا كان المصلِّي يخضع لظرف يمنعه من استقبالها. فالله موجود في كلِّ مكان، لا تقيِّده الحدود، ولا تحدُّه الجهات، بل هو الواسع العليم، الَّذي يتقبَّل العبادة من المكلَّف على الشكل الَّذي يمكنه أن يقوم بأدائها عليه، وهو الرحيم الرؤوف الَّذي يتجاوز عن الضعفاء من عباده، ولا يكلِّفهم ما لا يطيقون، فيرخِّص لهم في الأحكام في ظروف الجهل والمرض والسفر والخطأ والنسيان وغيرها من الأسباب الاضطرارية، لأنه يريد بهم اليُسر ولا يريد بهم العُسر.

ومن الرُّخَص الَّتي شُرعت فيما يتعلَّق بالصَّلاة، التخفيف عن المؤمنين بمقدار صلاة قيام الليل، ونَسْخُ حُكمها من الوجوب إلى التطوُّع، لأنه عندما نزل قول الله تعالى: {ياأيُّها المُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيلَ إلاَّ قليلاً * نِصفَهُ أو انقُصْ منه قليلاً * أو زدْ عليه ورتِّلِ القرآنَ ترتيلاً} (73 المزمل آية 1ـ4) سارع الرسول صلى الله عليه وسلم مع طائفة من أصحابه إلى امتثال أمر الله في المداومة على قيام الليل. قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية شقَّ ذلك عليهم فكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه، فيقوم حتَّى يصبح مخافة أن يخطئ، فانتفخت أقدامهم، وامتقعت ألوانهم، فرحمهم الله تعالى وخفَّف عنهم، بعد أن أثنى عليهم في محكم تنزيله فقال جلَّ من قائل: {إنَّ ربَّكَ يعلمُ أنَّك تقومُ أدْنى من ثُلُثَي اللَّيلِ ونصفَهُ وثُلُثَهُ وطائفةٌ من الَّذين معك والله يُقَدِّرُ اللَّيلَ والنَّهارَ عَلِمَ أن لن تُحصوهُ فتابَ عليكم فاقرؤوا ما تيسَّرَ من القرآن عَلِمَ أنْ سيكونُ منكم مرضى وآخرونَ يَضْربونَ في الأرضِ يبْتغونَ من فَضْلِ الله وآخرونَ يُقاتِلونَ في سبيلِ الله فاقرؤوا ما تيسَّرَ منه..} (73 المزمل آية 20).

ففي هذا منتهى الرأفة بهم من الله تعالى، وغاية العناية الربَّانية الَّتي شاءت أن تخفِّف عنهم وتيسِّر أمورهم، ليبقى التوازن قائماً بين متطلَّبات الروح وحاجات الجسد، فقد يكون الإنسان مريضاً أو مسافراً لأجل كسبه ومعاشه، وقد يكون مجاهداً في سبيل الله لإعلاء كلمته ونشر دينه، وكلٌّ من هؤلاء الثلاثة قد يشقُّ عليه قيام الليل، فخفَّف الله عنهم وعن أمثالهم، وأسقط عن عموم المسلمين وجوب قيام الليل، وتركه نافلة للمتطوِّعين الراغبين في ذلك. ويؤكِّد ذلك الحديث الصحيح عند مسلم والنسائي والترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه الَّذي قال فيه: «قال السائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هل عليَّ غيرها؟ يعني الصَّلوات الخمس، فقال: لا، إلا أن تَطَّوَّع»؛ فهو يدلُّ على عدم وجوب غير الصلوات الخمس المفروضة، ومن تطوَّع خيراً فهو خير.

أمَّا عن الأحكام المتعلِّقة بالصَّوم، فقد فرض الله على عباده المسلمين صيام شهر رمضان، ولكنَّه رخَّص لهم بالإفطار لأسباب مانعة أو مرهقة كالمرض أو السفر، قال تعالى: {..فمن شَهِدَ منكمُ الشَّهرَ فلْيَصُمهُ ومن كان مريضاً أو على سفرٍ فعِدَّةٌ من أيامٍ أُخَرَ يُريدُ الله بكمُ اليُسرَ ولا يُريدُ بكمُ العسرَ..} (2 البقرة آية 185) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : «إن الله تعالى وضع شطر الصَّلاة عن المسافر، وأرخص له في الإفطار، وأرخص فيه للمرضع والحبلى إذا خافتا على ولديهما» (أخرجه أصحاب السنن عن أنس بن مالك رضي الله عنه ). وقد كان الصحابة الكرام تجاه مثل هذه الأحكام على فريقين، فبعضهم يأخذ بالعزيمة ـ في حال السـفر أو المرض ـ إذا وجد في نفسه القدرة فيصوم، وبعضهم الآخر يأخذ بالرخصة إذا وجد في الصَّوم مشقَّة وحرجاً فيفطر، إلا أنه لم يكن صائمهم ليَعيب على مفطرهم، ولا مفطرهم على صائمهم. والأخذ بمثل هذه الرُّخص سنةٌ؛ ولا ينقص من الأجر شيئاً، كما أن عدم الأخذ بها يجعل المكلَّف آثماً إذا ترتَّب على عدوله عنها ضرر يؤذيه. ويؤكِّد ذلك ما روي عن أنس رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فصام بعض وأفطر بعض، فتحزَّم المفطرون وعملوا، وضعُف الصُوَّام عن بعض العمل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذهب المفطرون اليوم بالأجر» (رواه مسلم والنسائي).

وعن جابر رضي الله عنه قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح إلى مكَّة في رمضان فصام حتَّى بلغ كُراع الغميم فصام النَّاس، ثمَّ دعا بقدح من ماء فرفعه حتَّى نظر النَّاس ثمَّ شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض النَّاس قد صام، فقال: أولئك العصاة، أولئك العصاة» (أخرجه مسلم والترمذي) ويؤيِّد هذا حديث آخر وهو قوله صلى الله عليه وسلم : «ليس من البرِّ الصيام في السفر» (رواه الخمسة عن جابر رضي الله عنه ).

أمَّا فيما يتعلق بفريضة الحج فقد رُخِّص في بعض أحكامها المتعلِّقة ببعض شعائره كَرَمي الجمار؛ فأصل الحكم في ذلك أنه لا يجوز لأحد أن يرمي قبل نصف الليل الأخير بالإجماع. إلا أنه يُرخَّص للنساء والصبيان، والضعفاء، وذوي الأعذار، ورعاة الإبل أن يرموا جمرة العقبة من نصف ليلة النحر (ليلة الإفاضة من عرفات)، فعن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أم سلمة ليلة النحر فرمت ثمَّ أفاضت» (رواه أبو داود والبيهقي).

والأمثلة على التخفيف في الإسلام كثيرة يضيق المجال عن إحصائهـا، وهي تصل إلى حدِّ إباحة بعض ما حرَّم الله في حال الضرورة القصوى، ومن ثمَّ فإن ميزة التيسير ميزة واضحة في التشريع الإسلامي، نلمس آثارها وملامحها في معظم سور القرآن الكريم، وفي كثير من الحوادث الَّتي جرت في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي كثير من الأقوال الَّتي أُثِرت عنه في هذا الصدد، كقوله عليه الصَّلاة والسلام فيما رواه أحمد عن جابر رضي الله عنه : «بُعثت بالحنيفية السمحة»، وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى رضي الله عنه حين بعثهما إلى اليمن: «بشِّرا ولا تنفِّرا ويسِّرا ولا تعسِّرا» (رواه البخاري ومسلم). فاليسر في الدِّين هدية من الله لعباده، والتشدُّد فيه والتطرُّف بدعة يبتدعها المتعصِّبون والغُلاة، والله ورسوله بريئان منهم، ويؤكِّد هذا ما روي عن أنس رضي الله عنه قال: «جاء ثلاثة رَهْط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، فلما أُخبروا كأنَّهم تقالُّوها (عدُّوها قليلة) فقالوا: وأين نحن من النبي وقد غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر؟ فقال أحدهم: أمَّا أنا فإني أصلِّي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثالث: أنا أعتزل النساء فلا أتزوَّج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الَّذين قلتم كذا وكذا؟ أمَّا والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنِّي أصوم وأفطر، وأصلِّي وأرقُد، وأتزوَّج النساء، فمن رغب عن سُنَّتي فليس مني» (رواه البخاري ومسلم) وبهذا فإنه صلى الله عليه وسلم عدَّ من يسعى إلى التطرُّف في دين الله، والغُلُو في تطبيق أحكامه، معادلاً للمقصِّر في دين الله، والراغب عن سنَّته صلى الله عليه وسلم ، وتبرَّأ منه. وخَيْرُ منهجٍ في هذا السبيل منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث صحَّ عنه أنه صلى الله عليه وسلم ما خُيِّر بين أمرين، إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً.

ومع ذلك كلِّه فإننا نصادف أناساً يشدِّدون على أنفسهم وعلى غيرهم من المسلمين، وينصِّبون أنفسهم قضاة عليهم، يُسفِّهون هذا ويُكفِّرون ذاك بداعي التعصُّب والغُلُو، وبدعوى أنهم يريدون من النَّاس أن يكونوا كاملين، بينما يؤكِّد الله تعالى أن الإنسان مخلوقٌ ضعيفٌ وليس بكامل {يُريدُ الله أن يُخففَ عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً}. ثمَّ إنهم يلجؤون إلى الوعظ بفظاظة وغلظة، فيُنفِّرون النَّاس منهم ومن الإسلام، حتَّى كان بعضهم سبباً في جعل بعض الدول تلاحقهم، وتمنعهم من نشر أفكارهم، لما فيها من دعوة إلى العنف والتطرُّف باسم الإسلام، والإسلام من عنفهم وتعصُّبهم بريء؛ فإذا كان الله تعالى قد أراد أن يخفِّف عن المؤمنين، فلماذا يجنح هؤلاء ليثقلوا كواهلهم بتشدُّدهم؟!

سورة البقرة(2)

قال الله تعالى: {لله ما في السَّمواتِ وما في الأَرضِ وإن تُبدُوا ما في أنفسِكُم أو تُخفُوهُ يُحاسِبْكُم به الله فَيَغفِرُ لمن يشاءُ ويُعَذِّبُ من يشاءُ والله على كلِّ شيءٍ قديرٌ(284)}

سورة البقرة(2)

وقال أيضاً: {لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسعَهَا لها ما كَسَبَت وعليها ما اكتَسَبَت ربَّنا لا تُؤاخِذْنا إن نَسِينا أو أخطَأنا ربَّنا ولا تَحمِلْ علينا إصْراً كما حَمَلتَهُ على الَّذين من قَبلِنا ربَّنا ولا تُحَمِّلنَا مالا طاقةَ لنا به واعْفُ عنَّا واغفِر لنا وارحَمنا أنتَ مولانا فانصُرنَا على القومِ الكافرين(286)}

سورة آل عمران(3)

وقال أيضاً: {قلْ إن تُخفوا ما في صدورِكُم أو تُبْدوهُ يَعْلَمْهُ الله ويعلمُ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ والله على كلِّ شيءٍ قديرٌ(29)}

ومضات:

ـ كيف لخالق هذا الكون بمجرَّاته اللامعدودة وآفاقه اللامحدودة أن يغيب عنه ما نُخفي، أو ما نُسِرُّ وما نعلن، والوجود كلُّه تحت بصره، محاط برعايته وعنايته.

ـ لقد وضَعَنا الإسلام أمام نظام اجتماعي تربوي في غاية المثالية، فمن التزم به سعد بالمغفرة ونال رضا الله، ومن خالفه أشقى نفسه وحكم عليها بالعذاب.

ـ لم تتجاهل الدعوة الأخلاقية في الإسلام طاقة النفس البشرية ومقدار تحمُّلها، إنما راعت ظروفها في حالة النسيان وحالة الخطأ غير المتعَمَّد، لتبقي على زخمها المتجدِّد في صلتها بالله تعالى، واستمدادها العون والقوَّة منه عزَّ وجل.

في رحاب الآيات:

الإسلام دين سَمْحٌ قويم، لم يفرض على الإنسان إلا ما يرفع عنه الأغلال ويحطُّ عنه الأثقال، ويُفيض عليه الرحمة واليُسر وأسباب الاستقامة على الطريق السويِّ. وعندما نزل قول الله تعالى: {لله ما في السَّمواتِ وما في الأرض وإن تُبْدوا ما في أنفسِكُم أو تُخفوهُ يُحاسِبْكم به الله..} اشتدَّ ذلك على الصحابة، فأتوا الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا: (كُلِّفنا من الأعمال ما نطيق: الصَّلاة والصِّيام والجهاد والصَّدقة، وقد نزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها)، فأمرهم صلى الله عليه وسلم بالطاعة والتسليم الكامل لأمر الله حتَّى يكونوا من القوم المهتدين. فلما قرأها القوم وجرت بها ألسنتهم، وتغلغلت في قلوبهم، أنزل الله تعالى : {لا يُكلِّفُ الله نَفْساً إلاَّ وُسْعَها لها ما كَسبَت وعليها ما اكتَسبَت..} فَنَسَخت هذه الآيةُ الآيةَ الأولى.

لقد أنزل الله تعالى في الآية الأولى ما أخاف المسلمين، فهي تنبِّئهم بأن الله سبحانه مالك لكلِّ ما في السموات والأرض، مطَّلعٌ على ما فيهن، عالمٌ بظواهر الأمور وبواطنها، ومحاسبٌ عليها جميعاً. وقد قال الصحابة ما قالوه لأنهم يرجون الوصول إلى الكمال الخلقي والعملي برغبة صادقة، ولكنهم أدركوا الضعف البشري الَّذي يتسلَّط على النفوس في بعض اللحظات، كالغضب والحبِّ والبغض والكراهية، وما إلى ذلك من جملة الانفعالات، الَّتي تولِّد لدى الإنسان خواطرَ وأفكاراً شتَّى، لا يستطيع التحكُّم بها في لحظتها، لأنها أمور قلبية نفسية بعيدة عن الإرادة والاختيار، فأقبلوا على الرسول صلى الله عليه وسلم ملتجئين إليه ممَّا يعتصر قلوبهم من الخوف، لعدم أهليَّتِهم لتحمُّل ما تكلِّفهم به الآية، مدفوعين بالرجاء من حضرة الله عزَّ وجل ليخفِّف عنهم بعض ما أصابهم. ويطالبهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالامتثال دون اعتراض، كي يُقدِّموا الدليل الساطع على صحَّة إيمانهم واستسلامهم لأمر الله، فيكونوا من أصحاب السمع والطاعة؛ ويمتثل الصحابة الكرام وينجحون في الامتحان، فتأتيهم البُشرى من عنده سبحانه وتعالى لتهدِّئ من روعهم وتثلج صدورهم، فتتنزَّل الآية الَّتي تطمئنهم بأن الله تعالى، خالقهم ومولاهم، ولا يريد بهم إلا خيراً، ولن يكلِّفهم من الأمر ما لا يطيقون. فهو العليم بما يختلج في نفس العبد من الأفكار والميول، وما يكتنفه من خواطر وخصوصاً في لحظات الضعف، ولهذا فإنه لا يحاسبه إلا على ما تأصَّل في نفسه، وعقد العزم على الاستجابة له من النوايا والمشاعر، الَّتي كان لها دورٌ موجِّهٌ في أعماله، كمشاعر الحقد والحسد والعُجْب وغيرها، والله سبحانه يتجاوز له عن الخواطر والهواجس الَّتي تتوارد على قلبه بغير إرادته، ولا تترك أثراً في نفسه ولا ينتج عنها فعل، أو قول يكرهه الله، أمَّا إذا استرسل فيها إلى أن قادته إلى دائرة الأذى وإلحاق الضرر بالآخرين فإنه آثم، ويحاسَبُ على ما اقترف من أعمال سيئة.

وبهذا لم يُغفل الإسلام مراعاة متطلَّبات الطبيعة البشرية للإنسان ـ وما فيها من قوَّة وضعف ـ أثناء عملية توجيه مسار سلوكه وتربية نفسه؛ بل نظر إليه على أنه وحدة متكاملة مؤلَّفة من جسد ذي نوازع ودوافع، وعقل ذي تفكير وتقدير، وروح ذات أشواق وآفاق، ففرض عليه من التكاليف ما يطيق، وراعى التناسب بين الطاقة والتكليف بدون مشقَّة، ولبَّى حاجات الجسد والعقل والروح في تناسق ينسجم مع الفطرة، فكلُّ تَوَهُّمٍ باستحالة القيام بهذه التكاليف هو من وساوس الشيطان، الَّذي يثني صاحبه عن الطاعات وما صلح من الأعمال والعبادات. فسائر التكاليف في الشريعة الإسلامية هي في حدود الطاقة البشرية وقدراتها، والله تعالى لا يكلِّف نفساً إلا وُسْعها، وهذا ما يدفع المسلم إلى تحسُّس آثار رحمة ربِّه وعدله، فيشعر بالطمأنينة والراحة والأُنْس، وقوَّة العزيمة للنهوض بهذه التكاليف.

لقد نسخت هذه الآية الكريمة ما أشفق منه الصحابة في قوله تعالى: {..وإن تُبْدوا ما في أنفسِكُم أو تُخفوهُ يُحاسِبْكم به الله..} فلئن سأل الله تعالى وحاسب فإنه لا يعذِّب إلا بما يملك الإنسان دفعه، أمَّا ما لا يملك دفعه من وساوس النفس وحديثها فهو لا يعاقب عليه. وكلُّ نفس تحاسَبُ وتُجزى بما فعلت، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

ومن كمال عدله وإحسانه تعالى أنه يجازي المسيء بقدر إساءته، فلا يضاعف له العقاب، ولا يحاسبه على نيَّة السوء ما لم تقترن بالعمل، بل إنه يكافئه إذا عدل عنها فلم ينفِّذها. ومن فضله وكرمه أيضاً أنه يجزي المحسن على نيَّته إذا عزم على عمل حسنة؛ وإن لم يتيسَّر له تنفيذها، ويضاعف له ثواب حسنةٍ عمل بها عشرات الأمثال ويزيد، قال صلى الله عليه وسلم : «إنَّ الله كتب الحسنات والسيئات ثمَّ بيَّن ذلك، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة» (رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنه ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تجاوز لي عن أمَّتي ما حدَّثت به أنفسها ما لم تَكلَّم أو تعمل» (رواه الستة).

بعد هذا يرشدنا الله إلى كيفية سؤاله والتضرع إليه: {ربَّنالا تُؤاخِذْنا..} ويقدِّم لنا صورة رائعة البيان للدعاء الَّذي يُظهر حال المؤمنين مع ربِّهم وإحساسهم بضعفهم وافتقارهم إليه سبحانه، وحاجتهم إلى مدده وعونه. فدائرة الخطأ والنسيان تُحْكِمُ حصارها حول الإنسان، وحينها يتوجَّه إلى ربِّه يطلب منه العفو والسماح إذا وقع فيهما بعد بذل الجُهد والتفكر. إن هذا الدعاء يقوِّي في النفس خشية الله ورجاء مغفرته، فيتحوَّل إقبال المؤمن على ربِّه إلى نور تنقشع به ظلمة النسيان والخطأ والتقصير، فيستحقُّ العفو والمغفرة من الله الرَّحمن الرَّحيم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله وضع عن أمَّتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه» (رواه ابن ماجه والبيهقي). ومن خلال هذا الدعاء يتصل الخطاب بين الأرض والسماء، وتتَّجه القلوب المؤمنة الوَجِلة إلى خالقها، تطلب الإعفاء من التكاليف الشاقَّة، الَّتي تعجز عن القيام بها، والَّتي كُلِّفت بها أمم سابقة. ولا يخفى ما يمثِّله هذا الدعاء من الشعور بنعمة الانطلاق والتحرُّر من أسر العبودية لغير الله، وتَلَقِّي الشرائع والقوانين منه وحده، مع الاستعداد التام للتقيُّد بها والالتزام. ويتابع المؤمنون تضرُّعهم إلى الله راجين أن يرحم ضعفهم، فلا يكلِّفهم فوق طاقتهم كي لا يقصِّروا في أداء ما فرضه عليهم، وأن يمحو ذنوبهم، ويستر عيوبهم، ويرحمهم برحمته الواسعة الَّتي وسعت كلَّ شيء.

وهكذا فالإسلام دين كامل متكامل لا تعارُضَ بين أهدافه وغاياته، ولا بين طرق وأساليب تطبيقه المنسجمة مع الطاقات البشرية، إنه يصنع القلوب الَّتي يشرِّع لها، والمجتمع الَّذي يدعو إليه، صنعة إلهية متكاملة تسمو به إلى أُفُق الالتزام العقائدي، فلا رقابة سوى رقابة الضمير الإيماني، ولا هدف إلا رضا الله.

إن أي قانون في العالم يمكن التحايل عليه، وكشف ثغراته ومنافذه، بسبب عدم كمال واضعه ومحدوديَّة إمكاناته، ولأنَّه يتعامل مع ظاهر أفعال الإنسان وتحرُّكاته؛ أمَّا التشريع الإسلامي الإلهي فإنه يُوَجَّهُ إلى كلِّ مُعتقِدٍ ملتزمٍ يُحِسُّ برقابة الله، الَّذي لا يخفى عليه شيء في ملكوته، فيستقيم المؤمنون عليه ويلتزمون بأحكامه، مع علمهم اليقيني المحسوس بأن الله تعالى لا يشاء لعباده إلا ما فيه الرحمة والعدل. ومن ثمَّ يتجرَّد المؤمنون تجرُّداً مطلقاً، ويطلبون من الله تعالى العون والنصر والسداد في سائر أمورهم الَّتي تتعلَّق بدينهم ودنياهم، فيا سعادة مثل هؤلاء القوم ويا هنيئاً لهم دنياهم العاجلة وأخراهم الآجلة.

سورة البقرة(2)

قال الله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ الله باللَّغوِ في أَيمَانِكُم ولكن يُؤَاخِذُكُم بما كَسَبَت قُلُوبُكُم والله غفورٌ حليمٌ(225)}.

سورة المائدة(5)

وقال أيضاً: {لا يُؤَاخِذُكُمُ الله باللَّغو في أَيمَانِكُم ولكن يُؤَاخِذُكُم بما عَقَّدْتُمُ الأَيمانَ فَكفَّارَتُهُ إطعامُ عَشَرَةِ مساكينَ من أوسَطِ ما تُطعِمونَ أَهلِيكُم أو كِسوَتُهُم أو تحريرُ رَقَبَةٍ فمن لم يَجِد فصيامُ ثلاثةِ أيَّامٍ ذلكَ كَفَّارَةُ أيمانِكُم إذا حَلَفتُم واحفَظُوا أيمانَكُم كذلك يُبَيِّنُ الله لكم آياتهِ لعلَّكُم تَشْكرون(89)}

ومضات:

ـ تُقَـيَّم الأعمال عند الله تعالى بالنيَّات، ومن هنا كانت محاسبته على اليمين مرهونة بالنيَّة المعقودة عليها، ولهذا كانت الكفَّارة واجبة على اليمين المؤكَّدَة وبعد الحِنْث بها، لا على اليمين الَّتي ينزلق بها اللسان لغواً ودون قصد اليمين؛ وفي كلِّ الأحوال فإن لليمين حُرمة وقدسية لا يجوز أن تُنتَهك.

ـ إن الله واسع المغفرة، يغفر الزلاَّت ويتجاوز عن ضعف العبد، طالما أنه لا يقصد بخطئه الإساءة إلى العباد، ولا مخالفة أمر الله سبحانه.

ـ الإسلام دين المجتمع، لهذا فقد شرَّع أغلب الكفارات بشكل يجعل فائدتها تعود على المجتمع بشكل عام، فهو يُلزم مَنْ أقسَمَ يميناً ثمَّ حَنِث بها بإطعام عشرة مساكين، على ألا يرهق نفسه بل يكون إطعامهم مماثلاً لما يأكل، أو كسوتهم ممَّا يرتديه وأُسرَتُهُ، أو تحرير عبد من عبوديَّة الإنسان. وبعد أن أعطى الأولوية لهذه الخدمات الاجتماعية تحت شعار الكفَّارة وأعطى الفرد الحرِّية في اختيار إحداها، شرع الكفَّارة الفردية، لمن لا يقدر على واحدة ممَّا سبق بأن يصوم ثلاثة أيام، وهي كفَّارة تعود منفعتها المباشرة على المرء شخصياً، وتنعكس منافعها بشكل غير مباشر على المجتمع، بتقويم أفراده وتهذيبهم.

ـ الله تعالى يفصِّل الأحكام بما يتلاءم ومصلحة الخلق، وعليهم في مقابل ذلك أن يشكروه ويقدِّروا نعمه عليهم.

في رحاب الآيات:

اليمين في الشرع هو قَسَمٌ يعقده الحالف على نفسه ليؤكِّد به ثبوت أمرٍ أو نفيه، أو عزمه على فعل أمر أو تركه، بذكر اسم الله تعالى أو صفة من صفاته، ويترتَّب عليه التزامه بصحَّة ما أقسم عليه، وتنفيذه حفظاً لحرمة اليمين وقدسيته. ومن بعض آثاره الهامَّة إيجاب حقٍّ للحالف أو حجب ذاك الحقِّ عمن امتنع عن القسم، ومن هنا كان لليمين دورٌ فاعلٌ في العلاقات بين النَّاس لاسيَّما القضائية منها. ولا يجوز شرعاً الحلف إلا بالله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم : «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد (أي الأصنام) ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون» (رواه أبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه ).

ويُشترط فيمن يعقد اليمين: العقل والبلوغ وإمكان التنفيذ والاختيار (الحرِّية) فمن حلف مُكْرَهاً لم تنعقد يمينه.

واليمين أنواع: 1 ـ اللغو 2 ـ المنعقدة 3 ـ الغموس

1 ـ اللغو في اليمين: هو ما يجري على اللسان من غير قصد الحلف بمقتضى العرف والعادة، أو أن يحلف المرء على شيء يظنُّ صدقه فيظهر خلافه، فهو من باب الخطأ، وهذا اليمين لا كفَّارة فيه ولا مؤاخذة عليه.

2 ـ اليمين المنعقدة: هي اليمين الَّتي يقصدها الحالف ويصمِّم عليها، فهي يمين متعمَّدة ومقصودة، وحكمها وجوب الكفَّارة عند الحِنْث بها، والحِنْث في اليمين يكون بفعل ما حُلف على تركه أو ترك ما حُلف على فعله.

3 ـ اليمين الغموس: هي اليمين الكاذبة الَّتي يُقصد بها الغشُّ والخيانة، وهي من الكبائر، لأنه يقصد بها اغتصاب الحقِّ من صاحبه وإلحاقه بمعتدٍ كاذب. ولا كفَّارة فيها ويجب التوبة منها، وردُّ الحقوق المتعلِّقة بها إلى أصحابها؛ إذا ترتَّب عليها ضياع هذه الحقوق، قال صلى الله عليه وسلم : «الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس» (رواه البخاري).

والمقصود بالكفارات: الأعمال الَّتي تكفِّر بعض الذنوب وتسترها، حتَّى لا يكون لها أثر يؤاخذ به صاحبها في الدنيا أو في الآخرة.

وكفَّارة اليمين المنعقدة إذا حنث فيها الحالف هي، الإطعام أو الكسوة أو العتق، فمن لم يستطع أي أمر منها فليصم ثلاثة أيام. أمَّا الإطعام فإنه لم يرد نصٌّ شرعي في بيان مقداره، إنما يرجع في تقديره إلى العُرْف فيكون الطعام مقدَّراً بقدر ما يُطعم منه الإنسان أهل بيته من الطعام المتوسط، وقد حدَّدت الآية الإطعام إمَّا لعشرة مساكين يوماً واحداً، أو مسكيناً واحداً لعشرة أيام، كلَّ يوم أكلتين مشبعتين.

وأمَّا الكسوة فهي إكساء عشرة مساكين ثوباً سابغاً لكلِّ واحد منهم، وأَقَلُّ ذلك ما يلبسه المساكين عادة، قال مالك وأحمد رضي الله عنهما: (يُدفع لكلِّ مسكين ما يصحُّ أن يصلِّي فيه إن كان رجلاً أو امرأة كلٌّ بحسبه).

وأمَّا تحرير الرقبة فهو عَتْقُ رقيق وتحريره من العبودية. فإذا تعذَّرت الوسائل الثلاث كان عليه أن يصوم ثلاثة أيام، فإن لم يستطع لمرض أو نحوه، ينوي الصِّيام عند الاستطاعة.

ويجوز للحالف أن يحنث بيمينه عمداً ويُكفِّر عنها إذا اقتضت المصلحة ذلك؛ شريطة أن لا يترتَّب على الحِنْث المتعمَّد إيذاءٌ لأحد أو ضياعٌ للحقوق، قال صلى الله عليه وسلم : «إذا حلفْتَ على يمين فرأيت غيرها خيراً منها، فَأْتِ الَّذي هو خير وكفِّر عن يمينك» (رواه أحمد والبخاري ومسلم).