b8-k4-f6

الفصل السادس:

تحريم السَّرقة وعقوبتها

سورة المائدة(5)

قال الله تعالى: {والسَّارقُ والسَّارقةُ فاقطعوا أيْدِيَهُما جزاءً بما كسبا نَكالاً من الله والله عزيزٌ حكيمٌ(38) فمن تابَ من بعدِ ظُلْمهِ وأصلحَ فإنَّ الله يتوبُ عليه إنَّ الله غفورٌ رحيمٌ(39)}

ومضات:

ـ الإسلام يعالج المشاكل من جذورها، ولا تهاون في تشريعه ولا محاباة لشخص على حساب شخص آخر، والجميع سواسية أمام أحكامه.

ـ توبة السارق وإعادته الحقوق إلى أصحابها، قبل انكشاف أمره، يُسقِطُ عنه الحدَّ ويضعه في عداد التائبين.

ـ يمكن للسارق في الإسلام أن يعود عضواً فاعلاً وصالحاً بعد أن يتوب، وينال العقوبة المترتِّبة على سرقته، ويتمتَّع بكامل حقوقه المدنية والإنسانية.

في رحاب الآيات:

احترم الإسلام حقَّ الملكية للأفراد، وجعل صيانتها حقاً من حقوقهم المقدَّسة، وعدَّ جريمة الاعتداء على الأموال، كجريمة الاعتداء على النفس أو العرض، ومن ارتكب واحدة منها فقد استوجب أشدَّ أنواع العقوبات، أمَّا من يموت مدافعاً عن حقِّ من هذه الحقوق فإنه يموت شهيداً. عن سعيد بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتِل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتِل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتِل دون أهله فهو شهيد» (أخرجه أحمد والترمذي وصححه).

فإذا سرق السارق وهو مكتفٍ، غير محتاج لطعام يقيم أوَدَه، أو لباس يستر جسده، أو دواء يعالج به سقمه، فلا تجوز الرأفة به متى ثبتت عليه الجريمة. أمَّا حين تكون هناك شبهة من حاجة أو غيرها، فالمبدأ العامُّ في الإسلام هو درء الحدود بالشُّبُهات؛ لذلك لم يقطع عمر رضي الله عنه يد سارق الطعام في عام الرمادة حين عمَّتِ المجاعة. في حين تسقط العقوبة عنه، إذا تاب وأعاد ما سرقه إلى أصحابه، قبل رفع أمره إلى القاضي.

والعقوبة الَّتي حدَّدها الشارع الحكيم بحقِّ السارق هي، قطع يده اليمنى من الرسغ، لأنها الأداة الفاعلة في الجريمة، والعضو الَّذي كان ينبغي على السارق السيطرة عليه وكبحه ولجمه عن الحرام، وما ذلك إلا لاستئصال داء السرقة من جذوره، إذ أنه ليس من المصلحة أن نترك الداء يستشري حتَّى يعمَّ الخراب المجتمع كلَّه، أو نترك فرداً مريضاً ينقل العدوى إلى غيره، بل من الرحمة أن تُبتر تلك اليد، ليَسلمَ الناس كلُّهم من شرِّ صاحب هذه النفس المريضة؛ فإذا عاد السارق إلى السرقة بعد قطع يده، يُحْكَمُ بقطع رجله اليسرى إلى الكعب.

وسبب فرض عقوبة القطع هو أن السارق حين يفكر في السرقة، فإنما يفكر في أن يزيد كسبه من حقِّ غيره، متجاهلاً ما عسى أن يكون صاحب الحقِّ المسلوب قد بذل من جهد وتعب ليحصل عليه، متغافلاً عن مدى حاجته إليه، ولا يهمُّه إلا أن ينمِّيَ ماله ويكثر متاعه عن طريق الكسب الحرام، فيعطِّل بذلك الطرق الشرعية الموصلة للكسب الشريف، وهذا كلُّه بدافع الشَّرَه والأنانية المطلقة، وقد حاربت الشريعة هذا الدافع، بهذه العقوبة الصارمة، لتمنعه من هذا التفلُّت والانتهاك لحقوق الآخرين. وإنَّ يداً واحدة تُقطع لكفيلةٌ بردع كثير من المجرمين، وكفِّ عدوانهم، وتأمين الاستقرار والأمن المالي للمجتمع.

وقد شدَّد الإسلام في عقوبة السرقة دون غيرها من جرائم الاعتداء على الأموال كالاختلاس الوظيفي والتلاعب التجاري، لأنه يمكن استرجاع الحقوق الَّتي من النوع الآخر بالادِّعاء لدى ولاة الأمور، وتسهل إقامة البيِّنة عليه بخلاف السرقة، فإن إقامة البيِّنة عليها متعسِّرة وتكاد تكون مستحيلة، لذلك عظُم أمرها، واشتدَّت عقوبتها، ليكون ذلك أبلغ في الزجر عنها. لذلك فلا قطع على المُؤتَمَنِ على مال إذا سرقه، ولا على الخادم المأذون له بدخول البيت، ولا على أخذ الثمار من الحقل، ولا قطع على الشريك حين يسرق من مال شريكه، والعقوبة في مثل هذه الحالات هي التعزير، وهي عقوبة مفوَّضة إلى القاضي وهي دون الحدِّ حتماً، وتكون بالجلد أو الحبس أو التوبيخ أو الموعظة في بعض الحالات. وتثبت السرقة بشهادة رجلين أو بالإقرار.

واليوم نجد أن القوانين الوضعية جعلت الحبس عقوبة للسارق على سرقته، وقد أخفقت هذه العقوبة في محاربة الجريمة على العموم، والسرقة على الخصوص، والعلَّة في الإخفاق أن عقوبة الحبس لا تخلق في نفس السارق العوامل النفسية الَّتي تصرفه عن جريمة السرقة، لأنها لا تحول بين السارق وبين متابعته للسرقات إلا مُدَّة حَبسِه، وقد يسرق غيره من المساجين وهو داخل السجن، وقد يتعلَّم فيه ما يجهله من أساليب اللصوصية وهذا أمر مشاهد ملموس، بالإضافة إلى أنه يقضي فترة عقوبته وكأنه في نادٍ اجتماعي، يأكل ويشرب على نفقة الدولة، مع قضاء وقته في المسامرة أو التدخين، وأحيانا تعاطي الممنوعات، وممارسة الفواحش مع غيره من المساجين، دون أن يزرع السجن في أعماقه أي رادعٍ من الخوف أو الزجر. ناهيك عن رغبة بعض المشرَّدين أو العاطلين عن العمل، قضاء أيامهم في سجون تُؤمِّن لهم ما لا يؤمِّنه لهم المجتمع المترف... لذا فهم ما إن يخرجوا منه حتَّى يعودوا إليه، بسبب ارتكابهم لسرقات جديدة؛ فإن كُشف أمرهم كان ذلك كسباً لهم، وإن لم يُكشَف أمرهم فيكون ما سرقوه كسباً لهم أيضاً.

أمَّا عقوبة القطع فتحول بينه وبين قيامه بالسرقة أو تنقص من قدرته عليها، إضافة إلى أن عقوبة القطع تجعله مفضوحاً في نفسه أمام الناس، وعبرة لغيره، وهذا من أشدِّ الروادع عن ارتكاب جريمة السرقة.

وقد يعترض على ذلك معترض ويقول: إن عقوبة القطع لا تتَّفق مع ما وصلت إليه الإنسانية من حضارة ومدنية،? ولكنَّ ما نراه اليوم هو أن الرجل الَّذي يُسرق ماله أو تُغتصب ممتلكاته، يلجأ إلى قتل الفاعل إذا استطاع الإمساك به، تشهد على ذلك الإحصائيات والأخبار اليومية، الَّتي نقرؤها أو نسمع عنها، من أجهزة الإعلام ، حول حوادث القتل الَّتي تدور في الشوارع الرئيسة، والأزقَّة الثانوية، وفي أرقى المدن من تلك البقاع، علاوة على أن السارق نفسه قد يلجأ أحياناً وبدافع السرقة إلى القتل، فيشكِّل بذلك خطراً على حياة الإنسان الآمن إلى جانب الخطر على ممتلكاته، ولهذا فإن تطبيق عقوبة قطع يد السارق هي رحمة به وبضحاياه في آن واحد؛ وحفظٌ لحياته وحياتهم على السواء. وقد ثبت اليوم أنها الأنجع والأنجح، لأنها تقوم على أساس من علم النفس، ومعرفة لطبائع البشر وتجارب الأمم، وهي الأسس الَّتي تقوم عليها المدنيَّة نفسها. والواقع التاريخي يشهد بذلك، إذ أن عقوبة القطع لم تطبَّق في صدر الإسلام خلال قرن من الزمان، إلا في حوادث فردية قليلة جداً؛ لأن المجتمع بنظامه وتربية خشية الله في أفراده من جهة، والعقوبة بشدَّتها من جهة أخرى، كلُّ ذلك لم يسمح بظهور غير هذه الحوادث الفردية النادرة، ومع كلِّ هذا فلم يسمح بإقامة الحدِّ إلا بعد تدقيق وتمحيص شديد وتوافر شروطٍ قاسية؛ بتحقُّقها تزول جميع البواعث الفطريَّة على السرقة؛ ويبقى السارق معها مخلوقاً لا يحمله على السرقة إلا الجشع والطمع في أموال الناس.

أمَّا الشروط الَّتي يجب اعتبارها في السارق لتطبيق الحدِّ عليه فهي:

1 ـ أن يكون بالغاً عاقلاً، ولا يُشترط فيه الإسلام؛ فإذا سرق ذميٌّ أو مرتدٌّ فإنه تُقطع يده، كما أن يد المسلم تُقطع إذا سرق من الذميِّ.

2 ـ أن لا يكون السارق مضطراً إلى السرقة بدافع الجوع، أو أي حاجة أساسية من حاجات الإنسان، فقد أوقف سيِّدنا عمر حدَّ السرقة عام المجاعة للاشتباه في أن جميع من سرق وقتها كان مضطراً.

3 ـ الاختيار: فلو أُكره على السرقة وثَبَتَ عامل الإكراه فلا يُعَدُّ سارقاً.

4 ـ ألا يكون للسارق في الشيء المسروق شبهة تملـُّك، فإن كانت له فيه شبهة فإنه لا يُقطع، ولهذا لا يُقطع الأب والأم بسرقة مال ابنهما وكذلك لا يُقطع الابن بسرقة مالهما، أو مال أحدهما، لأن الابن يتبسَّط في مال أبيه وأمِّه عادة. وأمَّا ذوو الأرحام، فلا قطع على أحد من ذوي الرَّحم المـحَرَّم.

أمَّا الصفات والشروط الَّتي يجب اعتبارها في المال المسروق فهي:

1 ـ أن يكون المال مُحرزاً أي محفوظاً في الأماكن الَّتي يحفظ بها مثله، فإن تُرك المال سائباً فلا يُعَدُّ آخذه سارقاً يجب قطع يده.

2 ـ أن يكون ممَّا يُتمَوَّل ويُملَك ويَحِلُّ بيعه وأخذ العِوَض عنه.

3 ـ أن يبلغ الشيء المسروق نصاباً، لأنه لابدَّ من ضابط لإقامة الحد. وقد اختلف الفقهاء في مقدار هذا النصاب، فذهب بعضهم إلى أن القطع لا يكون إلا في سرقة ما تساوي قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم. روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تُقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً» (رواه أحمد ومسلم وابن ماجه).

والله تعالى الَّذي وضع الحدود والعقوبات، إنما وضعها بحسب الحكمة الَّتي توافق المصلحة العامَّة للمجتمع، لذا لا يجوز العفو عن السارق، لا من قِبَلِ المجني عليه ولا من قِبَلِ الحاكم، بعد أن كُشِف أمره وأصبح بين يدي الحاكم، كما لا يجوز أن يُستبدلَ قطع اليد بعقوبة أخرى أخفَّ منها أو تأخير تنفيذها أو تعطيلها، بحجَّة الرأفة بالسارق، لأن مثل هذا التهاون سيغري كثيراً من أصحاب النفوس المريضة بارتكاب هذه الجريمة، ويُلحق الضرر البالغ بالمجتمع. أمَّا تطبيق العقوبة الصارمة على السارق، فإنها تقوِّي من هيبة الهيئة الاجتماعية، وتدفع بالأفراد للبحث عن طرق سويَّة للكسب، وعدم التفكير بالسرقة، لتعمَّ بذلك الفائدة على الفرد والمجتمع معاً.

ومع كلِّ ما تقدم فقد حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم صاحب المال المسروق على أن يعفو عن السارق، ولكن قبل إعلام ولي الأمر ورفع القضية إليه، وعندها يفقد هذا الحقَّ ويصبح الأمر بيد القاضي وليس من صلاحيَّاته العفو، فقد ثبت «أن رجلاً سرق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء صاحب المال إلى رسول الله يشكو سرقة ماله، فلما عَرَفَ الفاعلَ أمرَ النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يده، فعفا صاحب المال عنه فقال له صلى الله عليه وسلم : هَلاَّ عفوت قبل أن تأتيني» (أخرجه أحمد والحاكم ومالك في الموطأ، والبغوي عن صفوان بن أمية رضي الله عنه ).ومع إنزال عقوبة القطع بالسارق يجب عليه أن يردَّ المسروق إلى أصحابه، وأن يستغفر الله تعالى ويتوب إليه، ويُقبِل عليه عزَّ وجل بصدق وإخلاص لينال منه العفو والمغفرة.

وحِرصاً من الإسلام على تحقيق الهدف المطلوب من تطبيق حدِّ السرقة، فقد أكَّد على ضرورة المساواة في تطبيق هذا الحدّ بين الخواصِّ والعوام، والشريف والوضيع، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أيُّها الناس إنما ضلَّ منكم من كان قبلكم أنَّهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وأيْمُ الله لو أن فاطمة بنت محمَّد سرقت لقطع محمَّد يدها» (رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن عن عائشة رضي الله عنها).