b8-k4-f5

الفصل الخامس:

تحريم القذف وعقوبته

سورة النور(24)

قال الله تعالى: {والَّذين يرمونَ المُحْصناتِ ثمَّ لم يأتوا بأربعةِ شهداءَ فاجلِدُوهم ثمانينَ جلدةً ولا تقْبَلوا لهم شهادةً أبداً وأولئك همُ الفاسقون(4) إلاَّ الَّذين تابوا من بعدِ ذلك وأصلحوا فإنَّ الله غفورٌ رحيم(5)}

ومضات:

ـ إنَّ تَرْكَ الألسنة تنهش في أعراض الناس، دون دليل قاطع وشهادة بيِّنة، يُنذِرُ بتفشي حالة من الشكِّ والريبة بين أفراد الأسر الشريفة، ويهدِّد بانهيارها.

ـ لقد حمى الإسلام أعراض الناس وأموالهم وحريَّاتهم الشخصية، فأحاطها بسياج كثيف من الضمانات والزواجر الرادعة، وجعل أيَّ اعتداء عليها سبباً للعقاب الشديد، والحرمان من بعض الحقوق المدنية.

ـ على الرغم من فداحة ذنب التعدِّي على حرمات الناس، فقد ترك الله تعالى باب التوبة مفتوحاً، لمن تاب من أولئك المعتدين، وأصلح ما أفسده واستقام في سيرته.

في رحاب الآيات:

اعتاد كثيرون من عامَّة الناس وجهلائهم أن يقضوا أوقات التقائهم وسهراتهم في التحدُّث عن الآخرين، وتعرية أخطائهم وانتقاد تصرُّفاتهم الشخصية، ونادراً ما تخلو أحاديثهم من الإضافات والمبالغات بغرض الإثارة والتشويق. وهذه التُرَّهات من الكلام محرَّمة شرعاً وتدخل تحت مصطلح الغيبة والنميمة، فلا يجوز حضور هذه المجالس حتَّى يخوض أصحابها في أحاديث مثمرة مفيدة لمصلحة الفرد والجماعة.

ويتمادى الناس في تلك المجالس في انتهاك أعراض الآخرين، وتشويه سمعتهم الأخلاقية، ويبلغ تماديهم ذروته عندما يرمي بعضهم رجلاً أو امرأة بتهمة الزنى، سواء كان رَميه لهما مباشراً كأن يقول: فلان رجل زان، أو فلانة امرأة زانية، أو كان رميه غير مباشر كأن ينسب شخصاً إلى غير أبيه، أو يشتمه بقوله: أنت ابن حرام. فمن صدر منه هذا التصرف اعتبر قاذفاً، وجزاؤه أن يُجلد ثمانين جلدة، ما لم يأت بأربعة شهداء، رأوا المتَّهم بأعينهم وهو يزني، وإلا فيُقامُ عليه الحَدُّ، رجلاً كان القاذف أو امرأة. ولا يخفى أنه يُشترط في هذه الشهادة من التثبُّت واليقين ما يُشترط لإثبات الزنى، وإلا عُدَّ الشهود جميعاً قاذفين، ويجب على القاضي إقامة حدِّ القذف عليهم، كلُّ ذلك ضماناً للأعراض وعدم تركها ألعوبة تلوكها ألسنة السفهاء وتشوِّهها النيَّات الخبيثة.

وقد أشارت الآية الكريمة إلى شرط من أهمِّ الشروط الَّتي توجب العقوبة؛ وهو أن يكون المقذوف مُحْصَناً؛ ذَكراً كان أم أنثى. ومعنى الإحصان هنا أن لا يكون المتَّهم قد ارتكب جريمة الزنى قبل أن يُقذف بها، بل كان عفيفاً طاهراً. أمَّا إن ثبت عنه ذلك فلا يكون محصناً، وبالتالي تسقط العقوبة الدنيوية عن القاذف، ولا يخلو اتِّهامه هذا من إثم يستحقُّ عليه العقوبة في الدار الآخرة.

وقد خصَّ الله تعالى المقذوفات من النساء بالذِّكر في الآية بقوله: {المُحْصَنات} لأن قذف المرأة والنَّيلَ من سمعتها يتعدَّى ضرره إلى جميع أفراد أسرتها، فيُلْحِق بهم عاراً كبيراً بخلاف الرجل. أمَّا تخصيصه للقاذفين من الرجال بقوله: {والَّذين يرمون} لأن صنف النساء يغلب عليهن الحياء عادة فلا يقذفن الرجل بالزنى.

ولم يكتف الإسلام بعقوبة الجَلْدِ في حقِّ القاذفين، بل إنه أقام حَجْراً مدنياً على هؤلاء المتهتكين، فلم يقبل لهم شهادة بعدها أبداً، وهذا العقاب أشدُّ إيلاماً للنفس وأوجع. وهناك عقوبة ثالثة هي وصمهم بالفسق، والانحراف عن طريق الله المستقيم. وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن تتبُّع عورات المسلمين وإفشاء سرِّهم فقال: «يامعشر من أسلم بلسانه ولم يُفْضِ الإيمان إلى قلبه! لا تؤذوا المسلمين ولا تتبَّعوا عوراتهم، فإن من تتبَّع عورة أخيه المسلم تتبَّع الله عزَّ وجل عورته، ومن تتبَّع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله» (رواه الترمذي وغيره مرفوعاً) وقال أيضاً: «من علم من أخيه سيئة فسترها ستر الله عليه يوم القيامة» (رواه الطبراني).

وتبقى مِظلَّة الإسلام الرحيم، تشمل التائب بظلالها وبركاتها، فتنشر عليه عفو الله ومغفرته، فمن اعترف بذنبه من بعد معاقبته، والتزم بشروط التوبة الحقيقية، وأصلح الضرر الحاصل عن شهادته الكاذبة، فإن الله تعالى غفور رحيم.

ونستنتج من ذلك كلِّه أن الإسلام قد حرص أشدَّ الحرص على تمتين الروابط الاجتماعية والأخلاقية في المجتمع الإسلامي، وصان سمعة الناس بصيانة أعراضهم وخاصَّةً النساء؛ لأن سمعة المرأة الأخلاقية أثمن شيء تملكه، فجاء زَجْرُ السُّنَّةِ عن انتهاك الأعراض كما مرَّ في الحديث السابق؛ وهاهو ذا كتاب الله الخالد يهدِّد هؤلاء المجرمين بحقِّ ?أعراض غيرهم، بأشد تهديد يمكن أن يسمعه أولئك المغفَّلون، الَّذين أطلقوا لألسنتهم العنان تنهش في أعراض إخوانهم، فقال تعالى: {إنَّ الَّذين يرمونَ المُحْصَناتِ الغافلاتِ المؤمناتِ لُعِنوا في الدُّنيا والآخرةِ ولهم عذابٌ عظيم} (24 النور آية 23).