b8-k4-f4

الفصل الرابع:

تحريم الزنى وعقوبته

سورة النور(24)

قال الله تعالى: {سورةٌ أَنْزَلناها وفَرضْناها وأَنْزلنا فيها آياتٍ بيِّناتٍ لعلَّكم تَذَكَّرون(1) الزَّانيةُ والزَّاني فاجْلِدوا كلَّ واحدٍ منهما مائةَ جلدةٍ ولا تأْخذْكُم بهما رأْفَةٌ في دينِ الله إن كنتم تؤمنونَ بالله واليومِ الآخرِ وَلْيَشْهدْ عذابَهُما طائفةٌ من المؤمنين(2)}

سورة النور(24)

وقال أيضاً: {إنَّ الَّذين يُحبُّونَ أن تَشِيعَ الفاحشَةُ في الَّذين آمنوا لهم عذابٌ أليمٌ في الدُّنيا والآخرةِ والله يعلمُ وأنتم لا تعلمون(19) ولولا فضْلُ الله عليكم ورحمَتُهُ وأنَّ الله رؤوفٌ رحيم(20) ياأيُّها الَّذين آمنوا لا تتَّبِعوا خُطُواتِ الشَّيطانِ ومن يتَّبعْ خُطُواتِ الشَّيطانِ فإنَّه يأمرُ بالفحشاءِ والمنكرِ ولولا فضْلُ الله عليكم ورحمَتُهُ ما زَكَى منكم من أحدٍ أبداً ولكنَّ الله يُزكِّي من يشاءُ والله سميعٌ عليم(21)}

ومضات:

ـ إن جريمة الزنى من أشدِّ الأخطار الَّتي تصيب صميم المجتمع في ضميره وشرفه ووجدانه وصحَّته، لأنها تجعل منه مجتمعاً منحلاً أخلاقياً، ومنهاراً اجتماعياً وصحِّياً.

ـ الغريزة الجنسية قوَّة فطرية جامحة لا يستطيع المرء لجمها ووضعها في المسار الصحيح إلا بعون الله تعالى ورعايته؛ وبما يملأ قلبه من حبِّ الله وخشيته؛ فتزكو النفس المريضة، وتكتسب المناعة ضدَّ دوافع الشهوة والانحراف.

ـ إن الكثير من أبناء الدول المتحضرة الَّذين يدرسون الإسلام يرغبون في تطبيق تعاليمه في مجتمعاتهم؛ لكي يتجنَّبوا الأمراض الناجمة عن الفُحش والإباحية.

في رحاب الآيات:

يكاد يكون المحور الأساسي الَّذي تدور حوله سورة النور مقتصراً على عملية التربية، الَّتي تشتدُّ في وسائلها إلى درجة تطبيق الحدود كعقاب رادع، وترِقُّ في أسلوبها إلى درجة الاحتكاك مع الإنسان باللمسات الوجدانية الرقيقة، الَّتي تصل القلب بنور الله وآياته المبثوثة في كلِّ مخلوقٍ في هذا الكون الفسيح، وفي ثنايا الحياة الَّتي يعجُّ بها، والهدف واحد في كلٍّ من حالتي الشدَّة واللين ألا وهو تربية الضمائر، وترقية المقاييس الأخلاقية للحياة.

وقد اشتملت هذه السورة الكريمة على أحكام عامَّة تتعلَّق بالأسرة الَّتي هي النواة الأولى للمجتمع الأكبر؛ ووضَّحت الآداب الاجتماعية الَّتي يجب أن يتمسَّك بها المؤمنون بدءاً من الاستئذان عند الدخول، إلى غضِّ البصر، وحفظ الفرج، وتقييد الاختلاط، كما ذكرت ما ينبغي أن تكون عليه الأسرة المسلمة من العفاف والستر والطهارة والنزاهة، صيانة لها، وحفاظاً عليها من عوامل التفكُّك والانهيار الخلقي. كذلك ذُكرت في هذه السورة بعض الحدود الشرعية كحدِّ الزنى وقذف المحصنات (الاتِّهام بالزنا من غير دليل)، وهذه الحدود إنما شُرعت تطهيراً للمجتمع من الفساد والفوضى، والتحلُّل الخلقي وحفظاً للأمَّة من عوامل التردِّي في مهاوي الإباحية والفجور، الَّتي تسبِّب ضياع الأنساب وذهاب العرض والشرف.. إضافة إلى الأمراض الجسدية الفتَّاكة والمعضلات الاجتماعية الَّتي تنتج عنها. وباختصار فإن هذه السورة عالجت أموراً تخصُّ الأسرة من النواحي الأخلاقية والأدبية والشرعية والصحِّية، وتعرَّضت كذلك لما هو سبب لإشاعة الفاحشة بين الناس، وغير ذلك ممَّا يُعَدُّ علاجاً للأمراض الاجتماعية والمفاسد الخُلقية الَّتي تفتك بالأسرة والمجتمع، إضافة إلى ما فيها من آداب سامية وحكم عالية، وإرشادات سديدة إلى أسس الحياة الفاضلة، وما يجب أن تكون عليه بيوت المؤمنين من النزاهة والعِفَّة والاستقامة والطهر.

وقد تعرَّضت السورة الكريمة للحديث عن الزنى لأنه يُعَدُّ في نظر الإسلام جريمة نكراء، فهو قتلٌ من نواحٍ شتى، إنه قتل ابتداء لأنه إراقة لمادَّة الحياة في غير موضعها الشرعي، وهو قتل للجماعة من جانب آخر، إذ أن سهولة قضاء الشهوة عن طريق الزنى يجعل الحياة الزوجية أمراً ثانوياً، فتصبح الأسرة وأعباؤها تَبِعةً لا داعي لها، وما من أمَّة فشت فيها الفاحشة إلا كانت عاقبتها الانحلال والدمار؛ منذ قديم الزمان وحتَّى يومنا هذا.

والله جلَّ وعلا، بحكمته البالغة، أوجد الارتباط بين الذكر والأنثى بالشكل المنظم والمضمون، الَّذي يكفل الحقوق للطرفين وللأولاد، وارتقى بهذه العلاقة إلى المستوى الإنساني الكريم، فحماها من التردِّي إلى الدرك البهيمي الذميم. لقد وضع الإسلام العلاقة بين الزوجين في دائرة الطهارة والعفاف، عن طريق الزواج الشرعي الَّذي يحقِّق الهدف النبيل، والغاية الإنسانية المُثلى، في بقاء النوع الإنساني كما قال تعالى: {والله جعـلَ لـكم من أنفسِـكُم أزواجـاً وجعـلَ لكم من أزواجِكُم بنينَ وحفدة..} (16 النحل آية 72).

وإذا استقرأنا الواقع وجدنا أن الحضارة الأوربية الَّتي عاشت عشرات السنين وهي تدعو إلى الحرِّية المطلقة، بما في ذلك الحرِّية الجنسية، قد بدأت اليوم تحصد هي وأنصارها نتائج هذا الانفلات من قيود الفضيلة، أمراضاً وأوبئة تفتك بالمذنب بشكل مباشر، كما تفتك بالبريء بشكل غير مباشر عن طريق الوراثة والعدوى ونقل الدم؛ حيث يولد الطفل مصاباً بالمرض الَّذي تحمله الأم الجانية أو الأب الآثم، أو يصاب بمرض كاليرقان فيضطر الطبيب إلى إعطائه دماً تعويضياً، ثم يظهر أن هذا الدم ملوَّث بجرثوم الإيدز. وفي مثل هذه الحالة لو عُرِض الأمر على القضاء وسمح القاضي لوالد هذا الطفل أن يقتصَّ من الجاني الحقيقي الَّذي عاث في الأعراض فساداً كما يشاء، فهل سيكتفي هذا الوالد المتحضِّر بعقابه مئة جلدة، أم أنها ستكون عقوبة صارمة جداً؛ يقتلع بها جذور الشرِّ من أعماق المجتمع الإنساني؟. إن الغربيين لا يعدُّون الزنى جريمة يعاقب عليها القانون إلا إذا تمَّ بالإكراه، أمَّا إذا كان بالرضا فإنه برأيهم لا يستوجب العقوبة لأنه يخلو حينئذٍ من فكرة العدوان، ونتيجة لهذه النظرة المادِّية البحتة والواقع العملي الَّذي نتج عنها، فقد فسدت الروابط العائلية بينهم، وتخرَّبت الأسرة، وانتشرت الأوبئة والجرائم الخُلُقية في مجتمعاتهم. فإذا سلكنا مسلكهم في ذلك نالنا ما نالهم، فالحذرَ الحذرَ من الانزلاق إلى منزلقاتهم، لاسيَّما وقد بدأت بؤر من العدوى تظهر بيننا؛ إنها صرخة الغيور على مجتمعه وأمَّته كي تعتصم بحبل الله وشرعه الكريم، وبذلك تمتطي قارب النجاة في هذا البحر الهادر فتتحقَّق سلامتها بعون الله تعالى.

والقرآن الكريم يحذِّر من مجرَّد مقاربة ما يفضي إلى الزنى بقوله تعالى: {ولا تَقرَبوا الزِّنا إنَّه كان فاحشةً وساءَ سبيلا} (17 الإسراء آية 32) وهي مبالغة في التحرز؛ لأن الزنى تدفع إليه شهوة عنيفة، لكنها لا تتولَّد بلا أسباب، فإذا ما باشر الإنسان أسبابها ودواعيها لم يبق هناك ضمان لكبحها. لذلك فالإسلام يكره الاختلاط في غير ضرورة، ويحرِّم الخلوة، ويأمر بغضِّ النظر، وينهى عن التبرُّج، ويحضُّ على الزواج لمن استطاع، ويوصي بالصَّوم من لا يستطيع، ويجعل من كلِّ حاجز يمنع من الزواج مكروهاً، وينفي الخوف من العَيْلة والإملاق بسبب الأولاد، ويحضُّ على مساعدة من يبتغون الزواج ليحصِّنوا أنفسهم؛ وفي مقابل ذلك كلِّه فإنه شدَّد العقوبة على من يقع في الزنا، وحدَّدها على الشكل التالي:

1 ـ عقوبة المُحْصَنَيْنِ (المتزوِّجَيْنِ): إن كان الزانيان مُحْصَنَيْنِ وكانا بالغين عاقلين، حُرَّين، مسلمين، متزوِّجَين بعقد صحيح، وجب رجمهما حتَّى الموت، ويكون ذلك على مرأى من المسلمين ليعتبروا بهما؛ وقد ثبت هذا بالسُّنة برواية الثقات عن النبي صلى الله عليه وسلم .

2 ـ عقوبة غير المُحْصنين: إذا كان الزانيان غير محصنين (أي لم يسبق لهما زواج)، فالعقوبة مائة جلدة لكلٍّ منهما بحضور جمعٍ من المسلمين، كما مرَّ معنا في الآية الكريمة.

ولما كان الزنى جريمة منكرة وكانت عقوبته عقوبة صارمة وهي (الجلد أو الرجم) فقد شرطت الشريعة الإسلامية شهادة الشهود لإثبات جريمة الزنى، وأخضعت هذه الشهادة لشروط شديدة حاسمة، بتحقُّقها يُقام الحد، وهي:

أوَّلاً: أن يكون الشهود أربعة لقوله تعالى: {واللاَّتي يَأتِيْنَ الفاحشةَ من نسائِكُم فاستشهدوا عليهِنَّ أربعةً منكم..} (4 النساء آية 15) وقوله أيضاً: {والَّذين يرمونَ المحصناتِ ثمَّ لم يأتوا بأربعةِ شهداءَ فاجلدوهم ثمانينَ جلدةً..} (24 النور آية 4) بخلاف سائر القضايا فإنه يُقبَل فيها شهادة اثنين فقط.

ثانياً: أن يكون الشهود ذكوراً من أهل العدالة ــ كما في كلِّ شهادة ـ لقوله تعالى: {..وأَشْهدوا ذَوَيْ عدلٍ منكم..} (65 الطلاق آية 2).

ثالثاً: أن يكون الشهود مسلمين عاقلين بالغين.

رابعاً: أن يكونوا قد رأوا الجريمة بتفاصيلها ودقائقها بأعينهم (أي أن يروا ما يمكن وصفه بالمِيل في المُكحُلَة)، بهذا الوضوح التام الَّذي لا شبهة فيه على الإطلاق، وهذا بلاشك لا يمكن أن يتحقَّق أو يُتَصوَّر إلا إذا كان الزانيان يباشران جريمتهما بشكل مكشوف كما يفعل الحيوان.

خامساً: اتحاد المجلس بأن يشهد الشهود مجتمعين، فإن جاؤوا متفرقين لا تقبل شهادتهم.

وكان غرض الشارع من هذا التشديد أن يسدَّ السبيل على الَّذين يتَّهمون الأبرياء ظلماً ويقذفون المحصنات بهتاناً، كلُّ ذلك بغية حماية الإنسان أن تطاله العقوبة وهو بريء من فعل ما يوجبها، إذ أن غرض الإسلام منها هو الردع عن ممارسة أسبابها؛ لا إيقاعها بالفعل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ادرؤوا الحدود بالشُّبُهات» (رواه الخمسة) فربَّما كانا في فراش واحد ولم تحصل منهما جريمة الزنى.

كما يمكن إثبات الزنى عن طريق الإقرار، بأن يشهد الشخص على نفسه ويعترف اعترافاً صريحاً بالزنى. وقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم باعتراف ماعز والغامدية، وأقام عليهما الحدَّ بعد إصرارهما على الاعتراف ولم يكلِّفهما البيِّنة، ولكن التثبُّت في أمر الإقرار مطلوب، حيث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لماعز ما عساه أن يصرفه عن الاعتراف فقال له أربع مرات: «لعلك قبَّلت، لعلك نظرت» حتَّى ذكر له ماعز أنه فعل الزنا باللفظ الصريح الَّذي لا شُبْهة فيه، كلُّ ذلك بغية التثبُّت من جهة، وفتحاً لباب الرجوع عن الاعتراف واللجوء إلى التوبة والاستغفار، فإن التائب من الذَّنْب كمن لا ذَنْب له، شرط أن تكون هذه التوبة توبة حقيقية. وعدَّ بعض الفقهاء حمل المرأة الَّتي ليست في عصمة رجل، قرينة على اقتراف فاحشة الزنى.

ولم يحصل في عصره صلى الله عليه وسلم إقامة حدِّ الزنى إلا عن طريق الإقرار، وفي حادثتين اثنتين، إحداهما حادثة ماعز بن مالك الأسلمي، الَّذي جاء الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فناداه: «يارسول الله إني زنيت. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه، وتنحَّى عنه. فأعرض قبله فقال: (إني زنيت) فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم ثانية وتنحَّى عنه، فأعرض قبله فقال: طهِّرني يارسول الله فقد زنيت. فقال له أبو بكر الصديق: لو أقررت الرابعة لرجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولكنه أبى فقال: يارسول الله زنيت فطهِّرني. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لعلك قبَّلت أو غمزت أو نظرت؟ قال: لا. فسأله رسول الله باللفظ الصريح الَّذي معناه (الجماع) فقال: نعم. قال: حتَّى غاب ذلك منك في ذلك منها؟ قال: نعم. قال: كما يغيب الميل في المُكْحُلة والرشاء في البئر؟ قال: نعم. فسأله النبي صلى الله عليه وسلم : هل تدري ما الزنى؟ قال: نعم أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من أهله حلالاً، قال: فما تريد بهذا القول؟ قال: إني أريد أن تطهِّرني. فأمر صلى الله عليه وسلم به فرُجم. وسمع الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة يتكلَّم عنه ويقول: لقد رُجم رجم الكلاب فغضب صلى الله عليه وسلم وقال: لقد تاب توبة لو قُسِمَتْ بين أمَّة لوسعتهم». وفي رواية أخرى: «والَّذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنَّة ينغمس فيها» (رواه الشيخان وأبو داود والترمذي).

أمَّا الحادثة الثانية فهي حادثة الغامدية، فقد روى مسلم في صحيحه أن امرأة تدعى الغامدية جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «يارسول الله إني زنيت فطهِّرني. فردَّها صلى الله عليه وسلم ، فلما كان من الغد قالت: يارسول الله لِمَ ترُدُّني؟ لعلك تردُّني كما رددت ماعزاً؟ فوالله إني لحبلى، فقال: أمَّا الآن فاذهبي حتَّى تَلِدي. فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته، قال: فاذهبي فأرضعيه حتَّى تفطميه. فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت: هذا يانبي الله قد فَطَمتُه وقد أكل الطعام. فدفع الصبيَّ إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها، فنضح الدم على وجه خالد بن الوليد فسبَّها، فسمعه صلى الله عليه وسلم فقال: مهلاً ياخالد فوالَّذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مُكْسٍ لغُفِرَ له، ثم أمر بها فصُلِّي عليها ودفنت» (رواه مسلم وأصحاب السنن) (المكس: هو النقص والظلم)، فانظر إلى هذه النفوس الكريمة الَّتي لم تتحمل عِظَمَ هذا الذنب فجاءت تريد الطهارة منه.

ولعلَّ بعض الَّذين تأثَّروا بالثقافة الغربية يرون في هذه الحدود والعقوبات، شيئاً من الشدَّة والقسوة، الَّتي لا تتَّفق مع روح العصر، والواقع أن العقوبة الَّتي شرَّعها الإسلام صارمة، ولكنَّها في الوقت نفسه عادلة، فهي تقع فقط على من استهتر، وسعى في طريق شهوته دون أن يبالي بأي طريق نال الشهوة، ولا ما يترتَّب عليها من أخطار وأضرار. ثمَّ إن الإسلام يعتبر الزنى لوثة أخلاقية وجريمة اجتماعية خطيرة، ينبغي أن تكافَحَ دون هوادة، ولكنه لا يفرض هذه العقوبة الصارمة (الجلد أو الرجم) ـ كما بيَّنا ـ لمجرد التهمة أو الظن، بل على النقيض يوجب التحقُّق والتثبُّت، ويُدرأ الحدُّ بالشُّبُهات، ويشترط شروطاً شديدة تكاد لا تتوافر؛ هي شهادة أربعة رجال مؤمنين عدول يشهدون بوقوعها، ويشهدون على مثل ضوء الشمس، أو اعترافاً صريحاً لا شُبهة فيه من الشخص الَّذي اقترف الجريمة. ولا يخفى على كلِّ ذي نظر أن الاعتراف سلوك باعثه داخلي ذاتي، ولا يحصل إلا من قِبَل أصحاب الإحساس المرهف، والضمير الإيماني الحي اليقِظ، الَّذي يحمل صاحبه على الاعتراف بأمرٍ ستره الله عليه لينال عقاب الدنيا ويطهِّر به نفسه من دنس المعصية، فيَلقى ربَّه طاهراً نقياً. فأي سلطان للقاضي في مثل هذه الأحوال إذا قام الفرد بعمله وكتم ذلك في نفسه، لاسيَّما وأن الله تعالى فتح باب التوبة لكلِّ من أراد إرادة حقيقية تَرْكَ ما حرَّم الله، وسلوكَ سبيلِ ما أباح وأحلَّ.

إن الناظر بعُمقٍ يرى أن إثبات جريمة الزنى بالبيِّنة والشهادة أمر شبه مستحيل، وأن الإسلام أمَرَ القاضي بهذا الحرص الشديد في قبول الاعتراف من المعترفين، فيخرج بنتيجة مفادها أنه أمر بالحدِّ والعقوبة تلويحاً بها وزجراً، فإذا ما وقع بها بعض المسلمين تحت ظرف ما من الظروف، وبعد أن عاد إلى رُشده وصحا إيمانه وضميره؛ التمس له الشرع الوسائل والأسباب الَّتي تمنع عنه العقاب، وتوجِّهه إلى أبواب رحمة الله، ضارعاً إليه تائباً متنصِّلاً من ذنبه، ليجد ربَّه غفوراً رحيماً.

ونظراً لبشاعة جريمة الزنى ولفداحة الخسائر الَّتي تنجم عنه، فقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأخطار سواء منها الدنيوية والأخروية، فقد رُوي عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يامعشر الناس! اتقوا الزنى فإن فيه ستَّ خصالٍ: ثلاثاً في الدنيا وثلاثاً في الآخرة، أمَّا الَّتي في الدنيا فيُذهب البهاء، ويُورث الفقر، وينقص العمر، وأمَّا الَّتي في الآخرة فسخط الله سبحانه وتعالى، وسوء الحساب، وعذاب النار» (أخرجه البيهقي في الشعب).

وقد حذَّر الله تعالى من الرأفة أو الرحمة في إقامة الحدِّ؛ بعد أن تثبت الجريمة بشكل قاطع، لا لَبْس فيه ولا خفاء، فقال تعالى: {الزَّانية والزَّاني فاجلدوا كلَّ واحد منهما مائة جلدة ولا تأْخُذْكُم بهما رَأْفَةٌ في دينِ الله}، لأن الرأفة والرحمة قد تُخَفِّف شدَّتكم في الحقِّ فتعطِّلوا الحدود، أو تخفِّفوا الضرب؛ فالواجب هو أن تكونوا حازمين في دين الله، وذلك لاجتثاث أسباب الفتنة من جذورها، وليأخذ المتهاونون في شرع الله الأمر على محمل الجد، وتدبُّر العواقب قبل أن تقع الواقعة. والعقوبة لا تقتصر على من يرتكب جريمة الزنى فحسب، بل إنها تمتدُّ لتشمل كلَّ من يُعين عليها، ويكون سبباً في إشاعتها؛ بنشر الفاحشة بين الناس وتشجيعهم على ارتكابها، لأنه مجرم في حقِّ مجتمعه إذ يحوِّله إلى مجتمع بهيمي حيواني، لا عقلانية تردعه ولا أخلاق تقوِّمه. ومن ذلك ما يفعله تجار الجنس في يومنا هذا، زمن الأفلام والفيديو، حيث يُحضرون زناة من الجنسين، وحتَّى من الجنس الواحد ليمارسوا أقبح الأعمال وأوقحها، وآلة التصوير تدور معهم حيثما داروا، ليُخرِجوا بذلك فيلماً تتخاطفه النفوس المريضة، ويشاهده المراهقون في غفلة من آبائهم، لتنهار بذلك القيم، ولنخرج بإحصائية مرعبة نجد فيها أطفالاً يمارسون الجنس، وفتيات يَحملن دون زواج وهنَّ دون الخامسة عشرة من أعمارهن، ولنجد أعمال الجنس تُمارَس في الأسرة الواحدة بين الأب وبناته، وبين الأخ وأخته، وبين الرجل والرجل وبين الفتاة والفتاة. ومحصِّلة ذلك كلِّه: أوبئة تستشري، ومجتمعات تنحلُّ، ومخدِّرات تتفشى، حتَّى ليتمنَّى المرء من هؤلاء أن يدركه الموت في أيَّة لحظة ليتخلَّص من الآلام الَّتي تنهش فيه، علاوة على الاضطرابات الفكرية والنفسية، الَّتي أودت وتودي بكثير منهم إلى الانتحار أو الجنون. ولو أنَّا أقمنا عقوبة الرجم في حقِّ تجار الجنس وأعوانهم، لأنقذنا عدداً كبيراً من الناس من الهلاك والدمار. لذلك كلِّه، يشدِّد الله تعالى في تحذير عباده من اتِّباع خطوات الشيطان، أو سلوك مسالكه بإشاعة الفاحشة، فمن ينهج نهجه فإنه يضلُّ عن السبيل القويم، فهو لا يأمر إلا بالمنكر الَّذي ينكره الشرع، وتنفر منه العقول والأذواق السليمة. ولولا فضل الله على المؤمنين الَّذي تفضَّلَ به عليهم، بإخراجهم من ظلمات الجهل والضلال، إلى نور العلم والتربية، ما زَكى ولا تطهَّر منهم من أحد، ولكنهم عندما اهتدَوْا بذلك النور ظهرت آثاره في أخلاقهم وآدابهم، وانعكس ضياؤه في قلوبهم فأشرقت، وفي أرواحهم فرقَّت وشفَّت، وفي ضمائرهم فاستيقظت وتنبَّهت، فاستنارت جميع جوانب حياتهم، بذلك النور الإلهي الشامل لجميع ما في الكون.

سورة الأعراف(7)

قال الله تعالى: {ولوطاً إذ قالَ لقومِهِ أتأتونَ الفاحشةَ ما سبَقَكُم بها من أحدٍ من العالَمِين(80) إنَّكم لتأتونَ الرِّجالَ شهوةً من دونِ النِّساءِ بل أنتم قومٌ مُسرفون(81) وما كان جوابَ قومِهِ إلاَّ أن قالوا أخرِجوهم من قريَتِكم إنَّهم أُناسٌ يتطهَّرون(82) فأنجيناهُ وأهلَهُ إلاَّ امرأَتَهُ كانت من الغابِرين(83) وأمطرنا عليهم مطراً فانْظُرْ كيف كان عاقبةُ المجرمين(84)}

سورة العنكبوت(29)

وقال أيضاً: {ولوطاً إذ قال لقومِهِ إنَّكم لتأتونَ الفاحشةَ ما سبَقَكُم بها من أحدٍ من العالمين(28) أئنَّكم لتأتونَ الرِّجالَ وتقطعونَ السَّبيلَ وتأتونَ في ناديكُمُ المنكَرَ فما كان جوابَ قومِهِ إلاَّ أن قالوا ائتِنا بعذابِ الله إن كنتَ من الصَّادقين(29) قال ربِّ انصرني على القومِ المفسدين(30)}

سورة الأنبياء(21)

وقال أيضاً: {ولوطاً آتيناهُ حُكْماً وعِلْماً ونجَّيناهُ من القريةِ الَّتي كانت تعمل الخبائثَ إنَّهم كانوا قومَ سَوْءٍ فاسقين(74) وأدخلناهُ في رحمَتنا إنَّه من الصَّالحين(75)}

ومضات:

ـ لو علم الله خيراً في الشذوذ الجنسي لأباحه، وما كان تحريمه إلا لكثرة أضراره النفسية والصحِّية والاجتماعية، وحتَّى اليوم لم يكتشف العلم عنه سوى المزيد من الآثار المدمِّرة لصاحبه ولمجتمعه.

في رحاب الآيات:

لقد خلق الله تعالى الحياة وجعل لها نظاماً دقيقاً تسير أمورها وفقاً له، وخلق الإنسان وأعطاه إمكانات التعايش مع هذا النظام، وإن أي إساءة في تطبيقه أو معاندة في تنفيذه، تحدث الخلل والاضطراب في حياة الإنسان وما حوله. والإنسان يلتزم تلقائياً بهذا النظام في حياته العملية، سعياً للحفاظ على راحته وبقائه، والأجدر به أن يلتزم في سلوكه الجنسي بالقوانين الإلهية، للحفاظ على سعادته الروحية والإبقاء على الجنس البشري وحضارته. وإن من هذه القوانين قانون الله في التوالد الَّذي يحكم الكون بأسره، فما من شيء في هذا الوجود إلا ويتوالد بالتقاء عنصرين متخالفين متكاملين: الذكر والأنثى، أو السالب والموجب. وفي عموم الطبيعة نشهد تلاقح الذكورة مع الأنوثة؛ ففي النبات يولِّد الثمرة، وفي مجال الكهرباء تتولَّد الطاقة والإضاءة من تلاقي الشحنات الكهربائية السالبة مع الشحنات الموجبة، بينمايسفر تلاقي الشحنات المتماثلة عن تنافر، ولا يأتي بأية طاقة. وكذلك النسل والإنجاب عند الإنسان لا يتمُّ إلا عن طريق التقاء الرجل مع المرأة؛ ولولا تلاقيهما لانقرض الجنس البشري، وكذلك الحال في عالم الحيوان. إذن، فقانون بقاء النوع قائم على هذا التزاوج الإيجابي البنَّاء، وإن الإخلال بهذا القانون يؤدِّي إلى تعطيل توالد هذه الأجناس ومن ثَمَّ اندثارها.

والآيات الكريمة الَّتي نحن بصددها تعرض نموذجاً لهؤلاء الَّذين عطَّلوا قانون الله بانحرافهم عن فطرتهم، وفساد سلوكهم، فألحقوا بأنفسهم الدمار والخراب، إنهم قوم لوط، الَّذين أحدثوا في عهدهم ما لم يحدثه غيرهم من الأمم السابقة، حيث جنحوا إلى الاتصال الجنسي بين الرجل والرجل بما فيه من القبح الَّذي يمجُّه الذوق السليم، وينبو عنه الخلق الكريم، وانحدروا بذلك حتَّى عن مستوى البهائم. فلم نرَ أبداً حيواناً ذكراً يقارب ذكراً مثلـه، لأن غريزتـه لا تتحـرَّك في هذا الاتجاه ـ إلا في حالات نادرة ـ فهل يُعقل أن تكون الغريزة الحيوانية أرقى من بعض أفراد النوع البشري؟؟ لقد عطَّلوا بذلك قانون الزوجية الَّذي يقضي بالتقاء الرجل والمرأة لغايتين نبيلتين: أولاهما تحقيق المتعة الحلال كما أمر الله تعالى، وثانيتهما إنجاب الأولاد لحفظ النسل وعمارة الكون.

وقد حرَّم الله تعالى الشذوذ الجنسي هذا لأنه:

1 ـ مفسدة لنفسية الشـباب يزرع السـلبية فيهم ولا يشـبع عواطفهم، فهم لا يستطيعون ممارسته غالباً إلا بعد تعاطي الخمرة أو المخدِّرات لخلق جو وهمي من المتعة بداخلهم؛ وهذا يعني أنه يجرُّهم إلى المزيد من الدمار والعدائية.

2 ـ مفسدة للنساء اللواتي ينصرف أزواجهن عنهن إلى الرجال، ويقصِّرون فيما يجب عليهم من إحصانهن، فينجرفن إلى طريق الانحراف أو الشذوذ بين بعضهن، أو يرتمين في أحضان رجال غرباء عنهن.

3 ـ تقليل النسل؛ فمن وقع في براثن الشذوذ فرغب عن الزواج، وتنصَّل من تحمُّل مسؤوليته، فقد ساهم في تهديم مجتمعه، والحدِّ من نسبة التوالد فيه.

4 ـ الأمراض الفتَّاكة القاتلة الَّتي تنجم عنه، والَّتي كان آخرها مرض فقد المناعة الخطير المعروف باسم الإيدز أو السِيدا.

لذلك كلِّه بعث الله الرسل، ليحذِّروا أقوامهم وينذروهم من أن يضلُّوا في شعاب الرذيلة، أو ينغمسوا في حمأة الخطيئة، فها هو لوط عليه السَّلام كما تصفه الآيات الكريمة، يفتح باب الحوار بينه وبين قومه، طارحاً عليهم سؤالاً استنكارياً: {أتأتونَ الفاحشة} وهو يعرف جوابه ولكنه ينكره لبشاعته، فلعلَّ ألسنتهم تخجل من النطق به، ولعلَّ صحوتهم الروحية ترتدُّ إليهم، لكن القوم جاهروا بالمعصية وأصرُّوا عليها، فتابع حواره معهم أملاً في إنقاذهم، وعدولهم عن فعلتهم الذميمة، وترغيبهم بمباشرة النساء بالزواج المشروع، فهنَّ أطهر وأزكى، لكنَّهم سخِروا منه وقالوا: أنت تعلم أننا لا نرغب في النساء! ولكنه لم يَيئَسْ وبيَّن لهم بشاعة فضائحهم الأخلاقية من إتيان الذكور، والتعرُّض لهم في الطرقات، والقيام بأعمال مُخِلَّة بالآداب العامَّة؛ لإثارة غرائزهم كالصفير، ورمي الحصى، وفكِّ الإزار، ثم انتقل إلى مجالسهم فعرَّاها بكلِّ ما فيها من فواحش، حيث كانوا يمارسون الشذوذ بشكل علني دون تورُّع ولا خجل، وأنذرهم عقاب الله. ولكنَّ جهوده كلَّها لم تؤثِّر في تلك القلوب الميتة، فتابع تحذيرهم، وذكَّرهم بمصير الأمم السابقة الَّتي عتت عن أمر ربِّها، فكانت عاقبة أمرها خُسراً، فأمعنوا في السُّخرية منه وسفَّهوا رأيه وقالوا متحَدِّين إيَّاه: أرنا إذن العذاب الَّذي تتوعَّدنا به. وازدادوا عناداً وإصراراً، وائتمروا به ليخرجوه من قريتهم، ورمَوه بأنبل تهمة يمكن أن توجَّه إلى إنسان؛ وهي الطعن به أنه طاهر، تلك الصفة الجليلة ذات الأهمية البالغة، في نظر من استقامت به السبل، وانعقدت له أسباب الهداية.

هنالك، أعيت لوطاً عليه السَّلام الحيلة، ونفض يديه من القوم، ودعا الله قائلاً: {..ربِّ انصُرني على القومِ المفسدين}، فأوحى إليه ربُّه أن اترك القرية وارحل ومعك أهلك، إلا امرأتك فإنه مُصيبها ما أصاب القوم، وخرج من القرية، فأمطرها الله بوابل من العذاب، وخسف الأرض بمن كان عليها من الشواذ، وأصبحوا عبرة لمن أراد أن يعتبر حتَّى قيام الساعة.

وقد حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم من الاقتداء بقوم لوط فقال: «إن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط» (أخرجه أحمد والترمذي وحسَّنه ابن ماجه والبيهقي) وورد عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» (أخرجه عبد الرزاق وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي).

وممَّا يؤسف له أشد الأسف أن نرى اليوم شرذمةً من أبناء الدول الراقية يمارسون هذا الشذوذ، في وقت أدركوا فيه من خلال علومهم المتقدِّمة نتائجه الفتَّاكة، والأمراض الخطيرة الناجمة عنه، والَّتي عمَّ ضررها المذنب والبريء. فهل من عودة إلى طريق الله المستقيم؟ وهل من استجابة لنداء الله الَّذي يتَّفق مع الفطرة الَّتي تتلوَّى ألماً، والضحايا يتساقطون بالملايين، فيصحو الإنسان من شرِّ عمله، وتعود إليه طمأنينته وعافيته وتوازنه النفسي، فيسعد في دنياه قبل أن يسعد في أخراه؟!.