b8-k4-f3

الفصل الثالث:

تحريم القتل وعقوبته

سورة الإسراء(17)

قال الله تعالى: {ولا تقتلوا النَّفسَ الَّتي حرَّمَ الله إلاَّ بالحقِّ ومن قُتِلَ مظلوماً فقد جعلنا لوليِّه سُلطاناً فلا يُسْرِفْ في القتلِ إنَّه كان منصوراً(33)}

ومضات:

ـ الإسلام دين الحياة ودين السَّلام، وقتل النفس يُعَدُّ من أكبر الكبائر ويأتي بعد الشرك بالله سبحانه وتعالى، فالله عزَّ وجل هو واهب الحياة وليس لأحد أن يزهقها.

ـ القاتل يُقتَل ويجري عليه القصاص من قبل الحاكم المسؤول، ولا يُسمَح أبداً أن يَطالَ القصاص غير القاتل ممَّن لا ذنب لهم، كعادة (الأخذ بالثأر) الَّتي أبطلها الإسلام.

في رحاب الآيات:

لا يمكن للإنسان أن يحقِّق أهدافه، ويبلغ غاياته إلا إذا تمتَّع بحقوقه كاملة، وفي مقدِّمتها حقُّ الحياة وحقُّ التملك، وحقُّ صيانة العرض، وحقُّ الحرِّية وحقُّ المساواة وحقُّ التعلُّم. وكلُّ هذه الحقوق واجبة له من حيث أنه إنسان، بغضِّ النظر عن لونه أو دينه أو جنسه أو وطنه أو مركزه الاجتماعي، قال الله تعالى: {ولقد كرَّمنا بني آدمَ وحملناهُم في البَرِّ والبحرِ ورزقناهُم من الطَّيِّباتِ وفضَّلناهُم على كثيرٍ ممَّن خلقْنا تفضيلاً} (17 الإسراء آية 70). وقد خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجَّة الوداع فقال: «أيُّها الناس! إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلَّغت؟ اللهمَّ فاشهد» (متفق عليه).

وقد حرص الإسلام أشدَّ الحرص على حماية حياة الإنسان، فهدَّد من يستحلُّها بأشدِّ عقوبة بقوله تعالى: {ومن يَقْتُلْ مؤمناً متعمِّداً فجزاؤهُ جهنَّمُ خالداً فيها وغَضِبَ الله عليه ولعنَهُ وأعدَّ له عذاباً عظيماً} (4 النساء آية 93)، وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبَّهم الله في النار».

إن القتل يُشيع الفساد والخراب في البلاد، قال تعالى: {ولا تُفسدوا في الأرض بعد إصلاحها..} (7 الأعراف آية 56). ولو أنه أُبيح؛ لفتكَ القويُّ بالضعيف واختلَّ الأمن، وأصبحت الحياة حِكْراً على الأقوى والأغنى. وقد جعل الإسلام لكلِّ نفس حَرَماً آمناً لا يُمسُّ إلا بالحقِّ، وهذا الحقُّ الَّذي يبيح قتل النفس واضح لا غموض فيه، وليس متروكاً للرأي ولا متأثِّراً بالهوى. فمن قُتل مظلوماً بغير حقٍّ فقد جعل الله لوليِّه سلطاناً على القاتل، إن شاء سلَّمه للعدالة لتقتله جزاء فعلته، وإن شاء عفا عنه بِدِيَةٍ أو بلا دِيَة، ومع هذا ينهاه الإسلام عن الإسراف في القتل، أي أن يتجاوز القاتلَ إلى غيره ممن لا ذنب لهم، أو أن يقوم بالتمثيل بالقاتل أو تعذيبه. فالإنسان في شرع الله غير مفروض عليه مخالفة ما غُرس في فطرته من الرغبة العميقة في القصاص، لذلك يلبِّي الإسلام حاجات هذه الفطرة في الحدود المأمونة، ولا يتجاهلها، فلم يفرض التسامح فرضاً، إنما هو يدعو إليه ويؤثره، ويحبِّب فيه، ويؤجر عليه ولكن بعد أن يعطي وليَّ المظلوم حقَّ القصاص، فلوليِّ الدم أن يَقتصَّ أو يصفح، وفي هذا تهدئة للغليان والألم الَّذي تستشعره نفسه، ومن تقيَّد بما شرعه الله من القصاص نصره الله، ونصره الحاكم، وأيَّده الشرع.

ويستوي في الحرمة قتل المسلم أو الذِّمي، فقد روى البخاري عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل مُعاهَداً لم يَرِحْ رائحة الجنَّة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً».

وفيما يتعلَّق بقتل النفس فقد حذَّر الله جلَّ وعلا من أن يقتل الإنسان نفسه حيث قال في كتابـه الكريـم: {..ولا تقتلوا أنفسـكم إن الله كان بكم رحيمـاً} (4 النسـاء آية 29)، وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «من تردَّى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردَّى فيها خالداً مخلَّداً أبداً، ومن تحسَّى سُمّاً فقتل نفسه فسُمُّه في يده يتحسَّاه في نار جهنم خالداً مخلَّداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجَّأ بها (يضرب بها نفسه) في نار جهنم خالداً مخلَّداً فيها أبداً»، وهكذا فإن الإسلام قد حرَّم قتل النفس؛ وجعله من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله، فالله واهب الحياة، وليس لأحد غيره أن يتصرَّف فيها إلا بإذنه وضمن الحدود الَّتي رسمها.

سورة المائدة(5)

قال الله تعالى: {من أجْلِ ذلك كتبنا على بني إسرائِيلَ أنَّه من قتلَ نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنَّما قتلَ النَّاس جميعاً ومن أحياها فكأنَّما أحيا النَّاسَ جميعاً ولقد جاءتهُم رسُلُنا بالبيِّناتِ ثمَّ إنَّ كثيراً منهُم بعد ذلك في الأرض لمسرِفونَ(32)}

ومضات:

ـ الشريعة الإسلامية شديدة الحرص على توجيه سلوك الإنسان وأخلاقه، وحماية حياته من أي اعتداء، لذلك فهي تشدِّد على ضرورة اتحاد المنظومة البشرية في وجه أية عملية قتل غير مبررة شرعاً.

ـ ضرب الله تعالى في هذه الآية الكريمة مثلاً، ببني إسرائيل، بسبب تقديسهم للدم اليهودي واستباحتهم ما سواه خلال فترات التاريخ كلِّها ولغاية اليوم.

ـ شدَّد رسل الله على التعاليم المتعلِّقة بقدسية حياة الإنسان وكرامته، ولكن المتهاونين في تطبيق هذه التعاليم كثيرون، بسبب اعتدادهم بلونهم أو عرقهم أو انتمائهم الدِّيني.

في رحاب الآيات:

إن حقَّ الإنسان في الحياة هو أغلى الحقوق وأقدسها على الإطلاق لأن الحياة هي أثمن ما وهبه الله، وبدونها فإنه لا قيمة لأي شيء آخر يملكه مهما كان عظيماً. ولهذا فقد اعتبر الإسلام أن الاعتداء على هذا الحقِّ بالقتل هو أفظع جريمة يرتكبها الإنسان في حقِّ أخيه الإنسان، وقد أغلظ الله تعالى العقوبة عليها، وشدَّد في التحذير منها، وقيَّد إنزال عقوبة القتل بالفرد بشرطين صارمين لا يمكن الحياد عنهما وهما:

أوَّلاً: أن يكون القتل دفعاً للقتل أو جزاءً عليه. فمن يتعرَّض لاعتداء مباشر على حياته أو أهله أو ماله أو عرضه، لا رادَّ له إلا قتل المعتدي، يحقُّ له أن يقاتل ذلك المعتدي ليدفع أذاه. والقاتل بغير حقٍّ يُقتَل لقاء ما اقترفته يداه، منعاً من انتشار جريمة القتل النكراء بين الناس أو الاستهانة بأمرها.

ثانياً: أن يكون القتل منعاً للإفساد في الأرض. فيتعيَّن قتل من ينشر الفساد ويلجأ إلى القتل بدافع اللصوصية والاعتداء على الحرمات، أو يمارس تجارة المخدِّرات وأشباهها فينشر السموم بين صفوف الشباب الَّذين هم عماد المجتمع وبُناته الأقوياء، أو أن يخون وطنه ويتجسَّس لصالح أعدائه، فمثل هذا الإنسان يُعدُّ مصدر قلق وخطر يهدِّد حياة الآخرين، وفي قتله صيانة لحياتهم وأمنهم. والهيئة القضائية فقط هي الَّتي تنفِّذ قتله لا الأفراد، ولا يحقُّ لأيِّ جهة سواها، فردية كانت أو جماعية، أن تُنزِلَ الموت بأي إنسان مهما علا شأنها اجتماعياً أو سياسياً أو مادياً.ولكنَّ بعض الناس يخالفون هذا الضابط الدِّيني الَّذي يحفظ الحياة والكرامة الإنسانية، وينتهكون حرمات الله بالاعتداء على أرواح الأبرياء بغير حق.

لقد كان بنو إسرائيل ولا زالوا أوضح نموذج لهؤلاء الناس، فقد قام المنحرفون والمتطرِّفون منهم بقتل كثير من الأنبياء على مدار التاريخ، وحاول أشقياؤهم قَتْلَ الرسول محمَّد صلى الله عليه وسلم لأنه كشف تحريفهم للتوراة وإضلالهم للناس. لذلك فقد خصَّهم الله تعالى بالذِّكر في هذه الآية، مصوِّراً حالهم الَّذي لم يتبدَّل منذ القرون الغابرة وحتى اليوم. فنحـن نجـد في عصرنــا هذا ـ عصر العلـم والحضـارة والرقي الفكري ـ أن الغلاة منهم والمتطرِّفين لا يزالون يستبيحون دماء الناس، وعلى مشهد من أعين العالم أجمع، دون رادع يثنيهم أو وازع يصرفهم عن جرائمهم، وفي كلِّ يوم نطالع خبراً جديداً عن مقتل العرب من سكان الأراضي المحتلة على أيديهم، وكأن دماء أولئك العرب مباحة، أو كأنهم ليسوا من جنس البشر، مع أنهم شركاؤهم في الإنسانية والعبودية لله الواحد الأحد، وأَتْباعٌ مثلهم لرسالة سماوية مقدَّسة تنزَّلت من عند الله ربِّ الناس أجمعين. وفي الوقت ذاته يُعظِّمون حرمة دمائهم، فيغضبون ويثورون إذا قُتِلَ يهودي واحد في أي بقعة من بقاع العالم وكأنهم قُتلوا جميعاً، ولا يزالون يطالبون بثأره ويلاحقون قاتله بعقدة الذنب إلى قيام الساعة.

وليست هذه الصورة بعيدة أبداً عما يمارسه بعض البيض هنا وهناك ضد الملوَّنين، حيث يرتعون في أحضان الرفاهية المادية، بينما يضطهدون الملوَّنين ولا يتورَّعون عن قتلهم إذا اقتضت مصالحهم ذلك، دون أن يطرف لهم جفن أو تتحرَّك ضمائرهم قيد أُنملة، وكأن هؤلاء الناس لا يستحقُّون الحياة، ولا يحقُّ لهم صيانتها.

أمَّا الإسلام، الدِّين الإنساني العالمي، فإنه يحفظ حقَّ الحياة لكلِّ إنسان مهما كان جنسه أو لونه أو عرقه أو انتماؤه الدِّيني، ويقرِّر عقوبة شديدة في حقِّ من يعتدي على هذه الحياة، وهي العذاب الشديد والطرد من رحمة الله، ويعتبره معتدياً على الإنسانية كلِّها، وبالتالي ففي حماية الفرد ـ وهو الجزء ـ حماية للإنسانية ككلّ، فمن سوَّلت له نفسه قتل إنسان بريء، لم يتورَّع عن قتل الآلاف لوجود نوازع الشر لديه. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن كرامة الفرد من كرامة أُمَّته، وقد يؤدي مقتل فرد من أفرادها على يد فرد من أمَّة أخرى، إلى نشوب حرب طاحنة بينهما، يُقتل فيها الآلاف وجميعهم ضحيَّة لفعل القاتل الأوَّل. ومن حفظ حياة إنسان بأن منع عنه القتل، أو نجَّاه من غرق أو حرق أو هلكة أو سوى ذلك، فكأنما أحيا الناس جميعاً، لأن بذرة الخير مزروعة في نفسه ولابدَّ أن تنمو وتزهر وتثمر ويعمَّ خيرها الناس جميعاً.

والله جلَّ وعلا لم يترك عباده تائهين في شعاب الحياة، بل أرسل إليهم الرسل بالآيات البيِّنات الَّتي تحذِّر وتنذر، وتحبِّب وترغِّب، ولكن ظلمة بعض النفوس حجبت نور الله عنها، فعشَّش الشيطان فيها واتخذها مطية له، فمشى أصحابها في الأرض يُهلكون الحرث والنسل، استعلاءً وغروراً، وحباً للسيطرة واستغلالاً لثروات غيرهم.

سورة النحل(16)

قال الله تعالى: {وإنْ عاقبْتُم فعاقبوا بمثلِ ما عُوقِبْتُم به ولئنْ صبَرتُم لهو خيرٌ للصَّابرين(126)}

ومضات:

ـ تكفل الشريعة الإسلامية للمؤمن عزَّته وكرامته، وتبيح له الاستعداد واستعمال القوَّة، ليتمكَّن من الدفاع عن نفسه وردِّ أي اعتداء عليه بمثله. وهي في الوقت ذاته تدعوه حين يملك القوَّة والإمكانات للردِّ الحاسم، إلى تمالك أعصابه والتحلِّي بالصبر، صبر الشجاعة مع القدرة لا صبر المهانة، وترغِّبه بالتجاوز عن خصمه والعفو عنه، عسى أن يثوب إلى رشده حين يرى عظمة الإسلام في منعته وفي عفوه.

في رحاب الآيات:

الإسلام دين العدل والاعتدال، دين السلم والمسالمة، إلا أنه يدفع عن نفسه وعن أهله البغي. لذلك يُقِرُّ القرآن الكريم وهو الدستور المتوازن الأمثل، في عدد من آياته قاعدة القصاص، وهي المعاملة بالمثل، صيانة للنفس البشرية وحماية لها؛ فالدفاع عنها في حدود القصد والعدل، يحفظ لها كرامتها وعزَّتها، فلا تهون في نفوس الناس. والله تعالى لا يترك دعوته مهينة مهيضة الجناح، والمؤمنون لا يقبلون الضيم وهم دعاة إلى الله ـ والعزَّة جميعاً لله ـ ثم إنهم أمناء على إقامة الحقِّ في الأرض، وتحقيق العدل بين الناس، وهداية البشرية إلى الطريق القويم؛ فكيف ينهضون بهذا كلِّه وهم يُعاقَبون ولا يُعاقِبون، ويُعْتَدَى عليهم فيستكينون؟. ومع تقرير مبدأ القصاص فإن القرآن يدعو إلى العفو والصبر مع الصفح عند القدرة، وذلك في الحالات الَّتي يكون فيها المسلمون قادرين على دفع الشر ووقف العدوان، ولكنَّهم يميلون إلى العفو والصبر، إذا كان أجمل وأعمق أثراً، وأكثر فائدة للدعوة، فأهواؤهم الشخصية لا وزن لها حين تميل مصلحة الدعوة إلى العفو والصبر.

إنَّ رسولَ الله محمَّداً صلى الله عليه وسلم هو المثل البشري الأعلى في ذلك، فقد أخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم أُحُدْ عندما قُتِل حمزة ومُثِّل به: «لئن ظفرت بقريش لأمثِّلنَّ بسبعين رجلاً منهم، فأنزل الله تعالى: {وإن عاقبْتُم فعاقبوا بمثلِ ما عُوقِبْتُمْ به ولئن صبَرتُم لهو خيرٌ للصَّابرين} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل نصبر يارب. ولما مكَّنه الله تعالى منهم وفُتِحت مكَّة عفا عنهم جميعاً وقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء». ومن هنا ندرك أنه على الرغم من أن ضبط الإنسان لانفعالاته هو من الصعوبة بمكان، وخاصَّة عندما يتعرَّض للاعتداء أو الإهانة، وعلى الرغم من وجود القوانين السماوية الَّتي تبيح للمُعتدى عليه ردَّ الاعتداء، ومعاقبة المعتدي بمثل ما اعتدى به، وردِّ المظالم إلى أهلها، فإن الله تعالى يرغِّب عباده بالتعالي والتسامي فوق الأحقاد، والتعامل مع الخصوم بالصبر والتسامح، أملاً بتحويل عداوتهم إلى محبَّة، وأذاهم إلى إصلاح، قال تعالى: {ولا تستوي الحسنةُ ولا السيئةُ ادفع بالَّتي هي أحسنُ فإذا الَّذي بينك وبينه عداوةٌ كأنَّه وليٌّ حميم} (41 فصلت آية 34).