b8-k4-f1

القسم الرابع:

بعض الأحكام والحدود في الإسلام

مقدمِّة:

حرصت جميع الشرائع في تشريعاتها على حماية أصول خمسة، فيها قوام كلِّ مجتمع إنساني، وهي على الترتيب: حماية الدِّين والنفس والعرض والعقل والمال. فهذه الخمسة هي مقاصد الشرائع السماوية، والمحور الَّذي تدور أحكامها حوله، وتُسمَّى بالضروريات الخمس لأن استقرار حياة النَّاس دينياً ودنيوياً متوقِّف عليها، ومرهون بحفظها، فإذا ما فُقِدت اختلَّت الحياة في الدنيا، وانعدم النظام في المجتمع، ووجب العقاب بحقِّ كلِّ مفرِّط ومتهاون.

ويرى الباحث أن الإسلام قد سلك في سبيل الحفاظ على هذه الضروريات اتجاهين متوازيين:

أوَّلهما: تحقيقها وإيجادها. وثانيهما: المحافظة على استمرارها وحمايتها من المعتدين وعبث العابثين.

ففي المجال الأوَّل: أشبع الله ـ سبحانه وتعالى ـ حاجات الإنسان، فهداه إلى التَّوحيد ـ من خلال أنبيائه ورسله ـ تلبية لحاجته الفطريَّة إلى الدِّين والحياة الروحية، ومنحه الحياة وأمره أن يحافظ عليها ويقدِّم لجسده جميع ما يحتاج إليه، ليبقى صالحاً لاستمرارها فيه، لذلك أباح له الطيِّبات من الرزق، من المأكل والمشرب والملبس. وأباح له الزواج ليكون سبباً في بقاء النوع الإنساني إلى ما شاء الله. وأنعم عليه بالمكانة الاجتماعية اللائقة، والاعتبار الإنساني، وأعطاه الأهل والزوجة والولد وأمره أن يصون ذلك كلَّه، فلا يفرِّط بشيء منه تحقيقاً لهذه المطالب الإنسانية الأساسية. ودعاه إلى النظر والتأمُّل في أرجاء هذا الكون الفسيح وفي نفسه وما حوله، والبحث عن الحقائق إشباعاً لمتطلَّبات العقل والحياة الفكرية.

ولما كان المال عصب الحياة، والنفوس مجبولة على حبِّه، فقد تجاوب الدِّين مع هذه الفطرة، فأباح الكسب الحلال وأطلق الأيدي المنتجة تبدع في إنتاجها فتقدِّم لعباد الله حاجاتهم وتستثمر جهودها، وصان الملكية الفردية المشروعة انسجاماً مع متطلَّبات الفطرة في حبِّ التملُّك، وهذا كلُّه في دائرة الاتجاه الأوَّل لتحقيق تلك الضرورات وإيجادها.

أمَّا في الاتجاه الثاني وهو اتجاه المحافظة على هذه الضروريات من الأيدي الآثمة والاختيار الخاطئ، فقد حرَّم الله من خلال شرائعه ـ وخاصَّة الإسلام ـ كلَّ اعتداء يحول دون تحقيقها، وفرض عقوبات محدَّدة رادعة بحقِّ المعتدين أيّاً كانوا، تدعى بالحدود، ولم يأت هذا التحريم والعقاب الَّذي يترتَّب على انتهاكه إلا بعد تشريع ما يشبع تلك الرغبات والدوافع من الحلال الطـيِّب. فلم يقمع الشرع الحنيف حاجة من الحاجات، بل جعل لها السبيل الآمن السليم لبلوغها، والوصول بصاحبها إلى الغاية الإنسانية الفضلى المرجوَّة من ورائها، وبذلك يعيش النَّاس جميعاً سعداء آمنين في ظلال العدالة الإلهية، والاطمئنان الروحي والنفسي، والأمن الاجتماعي والصحِّي. وبغية الحفاظ على النفس وضمان حقِّ الحياة لجميع أفراد المجتمع، فقد حرَّم الإسلام قتل النفس وجعله من كبائر الذنوب والآثام، ورتَّب على جريمة القتل عقوبة القصاص بأن يُقْتَلَ القاتل المتعمِّد، وكما حرَّم الاعتداء على النفس، حرَّم كلَّ ما من شأنه أن يوقع ضرراً أو أذى على جسد الإنسان.

وكذلك حرَّم الإسلام الاعتداء على الأعراض في المجتمع، فصانها من أن يقع النَّاس فيها ويفسدوا على أصحابها حياتهم، ورتَّب على انتهاك هذه الحرمات عقوبات زاجرة تجعل الأعراض بمنأى عن العدوان. وتحقيقاً لذلك فرض عقوبة القذف ـ وهو الاتِّهام بالزِّنا والفاحشة دون دليل ـ وزيادة على عقوبته الجسدية أمر بحرمان القاذف من قبول شهادته في شيء. كما جعل عقوبة الزنا عقوبة شديدة تحجز النَّاس عن هذه الجريمة الكبرى، الَّتي تكاد آثارها الوبائية تقضي على جانب كبير من الجنس البشري.

كما أن الإسلام حرَّم الاعتداء على العقول والوعي فحفظ على الفرد اتِّزانه وأبقى على عقله ووعيه، فحرَّم شرب المسكرات بأنواعها وكلَّ المخدرات والمُفَتِّرات ـ قليلها وكثيرها ــ وبذلك صان الفرد من سائر أمراض المسكرات، ومن مرض خطير جداً أوسع مدى من أن يكون حالة عارضة من فقد الوعي، ألا وهو مرض الإدمان، الَّذي تئنُّ منه البشرية المعذَّبة الآن، لأنها لم تلتزم بمنهج الله الَّذي رسم مخطط الحياة الفاضلة الآمنة الأمثل. وتحقيقاً لقيام مثل هذا المجتمع، والبعد بالنَّاس عن كلٍّ من السُّكْرِ والإدمان، فقد شرَّع عقوبة رادعة عن شرب الخمر وسائر المؤذيات.

وحفظاً للأموال وضماناً لحقِّ أبناء المجتمع في التملُّك المشروع، فقد حرَّم الإسلام السرقة، وجميع التصرفات والأعمال الَّتي تؤدِّي إلى أكل أموال النَّاس بالباطل، لذلك فرض عقوبة رادعة على السارق وهو آخِذُ أموال النَّاس بغير وجهٍ مشروع.

ويلاحظ في هذا المجال أن الإسلام لم يتَّجه هذا الاتجاه، إلا بعد أن ربَّى النبي r المجتمع التربية المُثلى، فارتقى به إلى آفاق عالية من الإيمان والشعور بحقوق الآخرين، والرغبة في رضا الله والخشية من سخطه، وبعد هذا التهذيب الحقيقي لأخلاق وسلوك الأفراد، شُرِّعَت العقوبات لتردع القلَّة الشاذَّة عن هذا المنهج، لئلا تتفشَّى عدواها في المجتمع الإسلامي مرَّة ثانية. ومع كلِّ هذا أمر القاضي أن يكون رؤوفاً بالمخطئين، فيخفِّف عنهم العقاب أو يمنعه لأيِّ شبهة تمنع تطبيقه؛ بغية إعطائهم الفرصة للتوبة والإصلاح، فعن السيِّدة عائشة رضي الله عنها قالت: قال صلى الله عليه وسلم : «ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخَلُّوا سبيله فإنَّ الإمام إنْ يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة» (رواه الترمذي والحاكم في باب الحدود والبيهقي).

وبالإضافة إلى أن الإسلام أمر القاضي بالرأفة بالخاطئين، فإنه دعا المسلمين إلى أن يستر بعضهم هفوات بعض، خصوصاً إذا كان الخاطئ متستِّراً غير مجاهر بالخطأ، وأعطى صاحب الحقِّ سلطة العفو ما لم يعلم بها ولي الأمر، وعندها لا يقبل منه العفو، لأن الحقَّ تحوَّل إلى حقٍّ عام، فوق كونه حقاً شخصياً لصاحبه.

إن العقوبة في الإسلام شُرعت انطلاقاً من هذه المبادئ، وتحقيقاً لهذه الأهداف، ولا يجوز النظر إليها إلا من خلال هذه المفاهيم، وهي في الوقت نفسه مطهِّرة لصاحبها، مخلِّصة له من عقاب الله في الدار الآخرة، فمن عوقب على ذنبه في الدنيا وفقاً لأحكام شرع الله، لقي الله تعالى طاهراً نظيفاً ما عليه ذنب. عن عبادة بن الصامت في حديث بيعة العقبة، عن رسول الله r «... فإن وفَّيتم فلكم الجنَّة، وإن غشيتم من ذلك شيئا فأُخذتم بحدِّه في الدنيا فهو كفَّارة له...» (رواه البخاري ومسلم).

 

الفصل الأوَّل:

إباحة ما طاب من الأطعمة وتحريم ما خبُث منها

سورة البقرة(2)

قال الله تعالى: {ياأيُّها النَّاس كُلُوا ممَّا في الأرضِ حَلالاً طَيِّباً ولا تَتَّبِعوا خُطُواتِ الشَّيطَانِ إنَّهُ لكُم عَدُوٌّ مبِينٌ(168)}

سورة المائدة(5)

وقال أيضاً: {ياأيُّها الَّذين آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أحَلَّ الله لكُم ولا تَعتَدُوا إنَّ الله لا يُحِبُّ المُعتَدينَ(87) وكُلوا ممَّا رَزَقَكُمُ الله حَلالاً طَيِّباً واتَّقُوا الله الَّذي أنتُم به مُؤمِنُونَ(88)}

سورة النحل(16)

وقال أيضاً: {فَكُلوا ممَّا رَزَقَكُمُ الله حَلالاً طَيِّباً واشكُروا نِعمَةَ الله إن كُنتُم إيَّاهُ تَعبُدونَ(114) إنَّما حَرَّمَ عليكمُ المَيتَةَ والدَّمَ ولَحمَ الخِنزيرِ وما أُهِلَّ لِغَيرِ الله به فَمَنِ اضطُرَّ غير بَاغٍ ولا عادٍ فإنَّ الله غَفُورٌ رحِيمٌ(115) ولا تَقُولُوا لما تَصِفُ ألسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هذا حَلالٌ وهذا حَرامٌ لِتَفتَرُوا على الله الكَذِبَ إنَّ الَّذين يَفتَرونَ على الله الكَذِبَ لا يُفلِحُونَ(116)}

ومضات:

ـ الخطاب في الآية الأولى عامٌّ لجميع البشر، لأن الرزق نعمة عامَّة يصل خيرها إلى النَّاس جميعاً دون استثناء.

ـ الحلال هو ما أحلَّه الشرع، والطيِّب هو ما كان مستطاباً في نفسه، غير ضارٍّ بالأجسام ولا بالعقول.

ـ الشيطان بيِّن العداوة للإنسان، ولا تخفى عداوته على عاقل؛ وقد أخذ على نفسه عهداً بأن يوقع ببني آدم، ويغويهم لكي يُسيئوا إلى الخلافة الَّتي أوكلها الله تعالى إليهم في هذه الأرض. ولايزال يزيِّن لهم من الأسباب والبواعث، ما ينحرفون به عن المنهج الَّذي وضعه الله، لإعمار الأرض وسعادة البشرية، فيعطِّلون الإفادة ممَّا خلقه لنفعهم بتحريمهم له، ويجنحون إلى ما فيه ضررهم بتحليل ما حرَّمه، ومن يتبع إغواء الشيطان فهو يعين عدوَّه على نفسه.

ـ لا ينبغي للمؤمن أن يهمل نعم الله تعالى أو يسيء استعمالها بحجَّة التقشُّف والزهد، لأن لله تعالى حكمة في خلقها، فقد جعل لها دوراً تؤدِّيه من أجل استمرار حركة إعمار الأرض وازدهارها.

ـ الحلال بيِّن والحرام بيِّن، والمؤمن الحقيقي لا يتجاوز الحلال إلى الحرام، بل يقف عند حدود الله.

ـ إنَّ الله تعالى يبغض الَّذين ينحرفون بنعمه عن الصراط السوي المستقيم، ويدعوهم إلى حسن التصرُّف بالأرزاق والطـيِّبات، دون إفراط ولا تفريط بما يكفل لهم حياة خيِّرة طيِّبة.

ـ يدعو الله تعالى المؤمنين بألطف أسلوب إلى التَّقوى، الَّتي تعني حسن التقيُّد بما ارتضاه لنا، والابتعاد عن كلِّ ما يسيء إلينا أو إلى غيرنا ويكون سبباً لغضبه علينا، وذلك في قوله سبحانه: {واتَّقوا الله الَّذي أنتم به مؤمنون} لأن الإيمان يستلزم التَّقوى، والتَّقوى برهان الإيمان.

ـ لم يحرِّم الله تعالى على النَّاس ـ بوصفهم أفراداً، ومجتمعات ـ إلا ما فيه ضرر لأنفسهم، وإخلال بالنظام الَّذي تقوم عليه حياتهم.

ـ من ألجأته الضرورة إلى أكل ما حرَّم الله، ليحفظ على نفسه حياته أو حياة عياله، من غير بغيٍ ولا عدوان، فإنه غير ملوم، والله واسع المغفرة، عظيم الرحمة. وهذا تقرير للمبدأ الشرعي العام: الضرورات تبيح المحظـورات، والقاعدة الأخرى: يُحتمل الضرر الأخفُّ لدفع الضرر الأشد.

ـ لا ينبغي لأحد، من النَّاس أن يحلِّل أو يحرِّم من تلقاء نفسه، ثمَّ ينسب ذلك إلى الله تعالى، فهذا تلاعب سافر في تعاليم الشريعة وأحكامها. وقد توعَّد الله عزَّ وجل من يفعل ذلك بأنَّ له الخذلان في الدنيا والآخرة.

في رحاب الآيات:

الإسلام دين شامليعالج جميع مشكلات الحياة، فيحقِّق منافع النَّاس ويدفع الأذى عنهم، ويتجاوب مع فطرتهم، والله تعالى خلق الإنسان وسخَّر له مافي الأرض جميعاً، وجعل الانتفاع به حلالاً مطلقـاً، لا يقيِّده إلا إذا اقتضت مصلحة الإنسـان ذلك، وهذا التوافق بين الإسلام ومصلحة الإنسان دليل قاطع على شموليته، وحرصه على سعادة النَّاس في كلِّ زمان ومكان.

ولأن الإسلام دين عالمي، جاء لإسعاد البشرية جمعاء، فقد توجَّه الله بخطابه إلى النَّاس كافَّة دون تخصيص بقوله سبحانه: {ياأيُّهـا النَّاس كُلوا ممَّا في الأرضِ حلالاً طيِّباً..}، فقرَّر حكماً عاماً من شأنه إطلاق يد الإنسان في خيرات البرِّ والبحر من نبات وحيوان، شريطة أن يكون حلالاً طيِّباً. والحلال هو ما أحلَّه الله لأنه طيِّب ونافع، والحرام هو ما حرَّمه الله لأنه ضارٌّ وخبيث. والتحليل والتحريم هما من أمر الله تعالى، وكلُّ من يدَّعي لنفسه الصلاحية لذلك، فهو متجاوز حدوده، معتدٍ على حرمات الله تعالى، وهذا ما وقع فيه بعض رجال الدِّين في كثير من الشرائع، إذ أنهم وضعوا أنفسهم في موضع المشرِّع، وراحوا يحلِّلون الحرام الضارَّ، ويحرِّمون الحلال النافع، وفقاً لأهوائهم ومصالحهم، ويعبثون بما شرَّعه الله من أجل تنظيم حياة النَّاس، سعياً وراء مكاسب دنيوية عاجلة، ورغبةً في التسلُّط، وحبّاً في الظهور، معتدين بذلك على تعاليم الله، وعلى حريَّات النَّاس ومعتقداتهم، وعلى أمنهم الصحيِّ والغذائي والاجتماعي.

لذلك كان لابدَّ من التركيز على تبيين الحلال والحرام لإزالة الالتباس وتجنُّب الوقوع في المحظورات، وقد أشار الله تعالى إلى مجمل الأحكام المتعلِّقة بهذا الموضوع، في آيات متفرِّقة من كتابه الكريم، نورد بعضها فيما يلي:

1 ـ أُحِلَّت لنا ذبائح أهل الكتاب بدليل قوله تعالى: {..وطعامُ الَّذين أوتوا الكتابَ حِلٌّ لكم..} (5 المائدة آية 5)، وليس المقصود بكلمة (طعام) هو الخبز والفاكهة فقط، فهذه وأمثالها كلُّها حلال، ولا خلاف في ذلك، إنما المقصود هو ذبائح أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، فهي محلَّلة، أمَّا ذبائح الوثنيين فَيَحْرُمُ أكلها بدليل قوله تعالى: {… وما أُهِلَّ لغيرِ الله به …}.

2 ـ أُحِلَّ لنا أكل الحيوان البحري، لقوله صلى الله عليه وسلم : «هو الطهور ماؤه، الحلُّ ميتته» (رواه الخمسة عن أبي هريرة رضي الله عنه ) وهذا يعني جواز أكل الحيوان البحري من غير تزكية شرعية (الذبح)، شريطة عدم وضعه في النار قبل التأكد من موته.

3 ـ وكذلك أُحِلَّ لنا أكل الحيوان البري إلا ما ورد فيه نصٌّ بتحريمه، قال تعالى: {..أُحِلَّتْ لكم بهيمةُ الأنعامِ إلاَّ ما يُتْلى عليكم..} (5 المائدة آية 1) وبهيمة الأنعام تشمل: الإبل والبقر والغنم، والماعز، وبقر الوحش وإبل الوحش، والظباء. وقد ثبت في السُّنة الترخيص في حمار الوحش والضبِّ والأرنب. وأمَّا ما حرَّمه تعالى منها في آيات لاحقة، فهي المنصوص عليها في قوله عزَّ وجل: {حُرِّمَت عليكمُ المَيتَةُ والدَّمُ ولَحمُ الخنزيرِ وما أُهِلَّ لغيرِ الله بِه والمُنخَنِقَةُ والمَوقُوذَةُ والمُتَردِّيَةُ والنَّطِيحَةُ وما أَكَلَ السَّبُعُ إلاَّ ما ذَكَّيتُم وما ذُبِحَ على النُّصُب..} (5 المائدة آية 3)؛ والميتة تشمل كلَّ ما مات من الدابَّة حتف أنفه أو بإحدى الطرق الَّتي ذكرتها الآية الكريمة، وقد كانت حلالاً لو أنها ماتت مذبوحة، ويلحق بها ما قطع من الدابة الحيَّة لحديث النبي صلى الله عليه وسلم : «ما قطع من البهيمة وهي حيَّة فهو ميتة» (رواه أبو داود والترمذي) «وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن أكل كلِّ ذي ناب من السـباع» (رواه الشيخان) مثل: الذئب والأسد والكلب والفهد والنمر والهر...إلخ.

4 ـ أمَّا عن الطيور: فقد ثبت في السنة الشريفة الترخيص في أكل الدواجن والجراد والطيور، إلا ما كان منها ذا مخلب، روى مسلم أنه: «نهى عليه السلام عن أكل كلِّ ذي مخلب من الطير»، كالغراب والصقر والحدأة.

وأمَّا ما سكت عنه الشارع، ولم يَرِدْ نصٌّ بتحريمه فهو حلال ما لم يكن سامّاً مؤذياً فيكون حراماً. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنَّ الله فرض فرائض فلا تضيِّعوها، وحدَّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرَّم أشياءً فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها» (رواه الدارقطني عن أبي ثعلبة).

أمَّا حكم اللحوم المستوردة من خارج البلاد الإسلامية فيحلُّ أكلها بشرطين:

1 ـ أن تكون من اللحوم الَّتي أحلَّها الله، ولم يخالطها شيء محرم كلحم الخنزير.

2 ـ أن تكون قد ذُكِّيت ذكاة شرعية (مذبوحة من الوريد إلى الوريد مع أخذ شيء من الحلقوم)، ولا يخفى أن الذبح يُخرج معظم الدم من جسم الحيوان وبأسرع وقت ممكن، ويخفِّف عليه الكثير من الآلام فيما لو قتل بطريقة أخرى غير الذبح بالطريقة المذكورة.

ويمكن التحقُّق من الشرطين السابقين في عصرنا الحاضر، إذ كثيراً ما يُكتب على المعلَّبات الَّتي تحتوي هذه اللحوم ما يدلُّ على نوعها وطريقة ذبحها، ويمكن الاكتفاء بهذه المعلومات الدالَّة على الشرطين السابقين لأن الغالب فيها هو الصدق.

وأهمُّ شرط في الذبح هو التسمية بالله. ودفعاً للشكِّ تجب التسمية عند أكلها، عملاً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روته السيِّدة عائشة رضي الله عنها أنه قال: «سمُّوا عليه أنتم وكلوا» (رواه مسلم). أمَّا الذابح فيجب أن يكون عاقلاً سواءً أكان ذكراً أو أنثى، مسلماً أو كتابياً، وأن تكون أداة الذبح حادَّة يمكن أن تخرج الدم، وتقطع الحلقوم والمري بأقصى سرعة وبأسهل طريقة.

وختام ذلك فإن هناك رُخَصاً أُبيح فيها للمضطر أن يأكل شيئاً من المآكل الَّتي نصَّ الشارع على تحريمها، وذلك عند الاضطرار الشديد، كأن يصل الجوع بالإنسان إلى حدِّ الهلاك، وكذلك إذا وجد المضطر طعاماً لغيره فله أن يأكل منه ما يقيم به أَوَدَه، ولو لم يأذن له صاحبه، على أن يضمن له قيمته، وأن لا يكون مضطراً إليه فيكون صاحبه أولى به. وهذا بيان على مدى يُسْر الإسلام ومراعاته لحاجات الإنسان وضروراته، قال الله تعالى: {..وما جعلَ عليكُم في الدِّينِ من حَرَج..} (22 الحج آية 78).

أمَّا فيما يتعلَّق بالتداوي بالخمر فقد نهى الإسلام عنه لأن فيه زيادة في أذى المريض، فعن طارق بن سويد الجعفي: «أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه عنها، فقال: إنما أضعها للدواء، فقال صلى الله عليه وسلم : إنه ليس بدواء ولكنه داء» (رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي) وقد أجاز بعض أهل العلم التداوي بالكحول أو المواد المخدِّرة، بشرط عدم وجود دواء من الحلال يقوم مقامها، وألا يقصد المتداوي بها اللذَّة والنشوة، وألا يتجاوز المقدار الَّذي يحدِّده الطبيب.

وبعد فإن الأحكام الشرعية هي جملة أوامرَ ونواهٍ، وضعها الله تعالى لتكون خططاً وبرامجَ لحياة الإنسان المادِّية والروحية ولحسن تعايشه مع من حوله، فلا يجوز للإنسان أن يحرِّم ما أحلَّ الله له من الأشياء الَّتي تطيب بها النفوس، وتميل إليها القلوب بحجَّة التنسُّك والتقرُّب إلى الله، فالله لا يحبُّ من يتجاوز حدود شرائعه ولو بقصد عبادته. إن تحريم الطـيِّبات على النفس لتعذيبها ليس له أصل إلا في العبادات المتوارثة عن قدماء الهنود واليونان، قلَّدهم فيها أهل الكتاب فحرَّموا على أنفسهم ما لم تحرِّمه الكتب المقدَّسة.

ولما جاء الإسلام أباح الزينة والطـيِّبات، وأرشد إلى إعطاء البدن حقَّه، والروح حقَّها، وبهذا كانت الأمَّة الإسلامية أمَّة وسطاً. والحكمة في ذلك أن الله يحبُّ لعباده أن يستعملوا نعمه الَّتي أنعمها عليهم، فيما خُلِقَتْ له وبالشكل الصحيح، ويشكروه عليها، ويكره لهم أن يتجنَّوا على الشريعة الَّتي شرعها؛ فيغالوا بتحريم ما لم يحرِّمه عليهم القرآن الكريم أو السنَّة النبوية الشريفة. روى أبو داود والترمذي بسند حسن عن المقداد بن مَعْدِ يَكْرِِب رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه (سنته صلى الله عليه وسلم ) ألا لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحِلُّوه وما وجدتم فيه من حرام فحرِّموه» (رواه أبو داود والترمذي)، أي يكتفي بالقرآن الكريم كمصدر للتشريع، ويتجاهل السنَّة النبوية؛ فالنبي محمَّد صلى الله عليه وسلم لاينطق عن الهوى، وقد أكَّد الله تعالى أنَّ إحدى مهامِّه عليه الصلاة والسلام أنَّه: {..يأْمُرهُم بِالمَعْـروف ويَنْهَـاهُم عَنِ المُنكَر ويُحِلُّ لَهمُ الطَّيباتِ ويُحَرِّمُ عَليهِمُ الخَبائِثَ..} (7 الأعراف آية 157).

سورة الأنعام(6)

قال الله تعالى: {قُل لا أَجِدُ في ما أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّماً على طاعِمٍ يَطعَمُهُ إلاَّ أن يَكُونَ مَيتَةً أو دماً مسفُوحاً أو لَحمَ خِنزِيرٍ فإنَّهُ رجسٌ أو فِسقاً أُهِلَّ لغيرِ الله به فَمَنِ اضطُرَّ غيرَ بَاغٍ ولا عَادٍ فإنَّ ربَّكَ غَفُورٌ رحِيمٌ(145)}

ومضات:

ـ لم يحرِّم الله تعالى على النَّاس إلا الخبائث، لأنها تحمل في طيَّاتها الضرر المؤكَّد.

ـ من ألجأته ضرورة قاهرة إلى أكل شيء من المحرَّمات بشرط ألا يكون ساعياً في فساد، ولا متجاوزاً مقدار الحاجة، فلا عقوبة عليه في ذلك.

ـ الله تعالى يغفر الذنوب ويرحم العباد، ومن رحمته أنه أباح المحرَّمات وقت الضرورة، فلم يجعل على النَّاس في الدِّين من حرج.

ـ الله تعالى هو المشرِّع للحلال والحرام، ضمن أطر واضحة محدَّدة، بما فيه خير النَّاس وسعادتهم، وليس لإنسان أن يتطاول على شرع الله، فيحلِّل ما يشاء ويحرِّم ما يشاء، مهما بلغ من علم أو دراية.

في رحاب الآيات:

لَمَّا كان هذا الكون البديع مخلوقاً وفقاً لقوانين ثابتة، قوامها التوازن والاعتدال؛ فقد كان لابدَّ من وضع نظم تشريعية وصحية واجتماعية للبشرية، تكفل بقاءها وسعادتها على هذه الأرض وتجنِّبها ما يؤذيها في عقلها وجسدها. لذا عُنيَ الإسلام بالنفس الإنسانية، وأولاها اهتماماً كبيراً من حيث تأمين حاجاتها، والحفاظ على سلامتها، وإن من أبرز جوانب هذا الاهتمام؛ العناية بصحَّة الأبدان، كشرط أساسي لقيام الإنسان بواجباته الدِّينية والدنيوية. والجدير بالذكر أن معظم الأحكام الشرعية الإسلامية المتعلقة بصحَّة الأبدان كانت تشريعات وقائية من شأنها أن تدفع الأمراض والأوبئة قبل وقوعها، ومن جملة هذه التشريعاتالَّتي جاء بها الإسلام إباحة الطيِّب والنافع من الطعام والشراب وهو الأصل، وتحريم الخبيث والضارِّ منهما؛ كالميتة والدم ولحم الخنزير.

وقد كشف العلم والطبُّ في يومنا هذا عن الأضرار والعِلل الَّتي أَدخَلت هذه الأطعمة في دائرة التحريم؛ فثبت أن كلَّ حيوان يموت حتف أنفه يبقى دمه مختزناً في جثَّته، ثمَّ يدبُّ فيه الفساد ممَّا يعرِّض هذه الجثَّة لتغيُّرات عديدة ناجمة عن انحباس الدم فيها: مثل الزرقة في اللون، وسرعة التفسخ الناتج عن تحلل خضاب الدم الزاخر بالجراثيم، ممَّا يسبب انبعاث رائحة كريهة، تجعل المرء يتقزَّز منها، ويبتعد عنها نفوراً واشمئزازاً، ناهيك عن الأضرار الصحِّية الَّتي تصيب الإنسان في حال أكلها.

أمَّا الدم فيُعدُّ بحقٍّ وسطاً صالحاً لنموِّ أنواع الجراثيم كافَّة الَّتي يمكن أن تتوالد فيه، إضافة إلى أنه يحمل السموم والفضلات الناتجة عن العمليات والتفاعلات الحيوية الَّتي تتمُّ
داخل الجسم
، والَّتي منها: البولة، وحمض البول، وغاز الكربون والكريانتين، وجميعها تُطرَح في الدم بغرض التخلُّص منها بواسطة وسائل الإطراح المختلفة. ناهيك عن أن الدم بحدِّ ذاته لا يُعَدُّ غذاءً بشرياً، فنسبة البروتينات المفيدة فيه قليلة، أمَّا خضاب الدم المتوافر فيه بكثرة فإنه عسير الهضم. ولهذا فإنَّ تناول الدم بغرض معالجة فقر الدم أمر مرفوض علمياً، لأن الحديد الدموي عضوي بطيء الامتصاص، نقيض الحديد اللاعضوي المتوافر في أوراق النباتات الخضراء.. ومن هنا جاءت حكمة الذبح الشرعي الَّذي هو قطع أوردة العنق وشرايينه، ممَّا يكفل تصفية أكبر قدر ممكن من الدم.

أمَّا عن لحم الخنزير فهو بحقٍّ بؤرة أساسية لمجموعة أمراض منها:

ا ـ أمراض ينقلها الخنزير بقذارته مثل: الزحار الزقي، وداء وايل ـ وهذا الداء الخطير يسبِّب النزوف والإصابة الكبدية ـ وداء شريطية السمك العريضة، الأميبيا الحالَّة للنسج، الحمرانية أو حصبة الخنزير.

ب ـ أمراض من أحد أسبابها أكل لحم الخنزير: منها تصلُّب الشرايين وداء النقرس، والتسمم الوشيقي، والَّتي يعود سببها إلى احتواء لحم الخنزير على نسبة عالية من حمض البول، وكذلك ازدياد نسبة الشحوم والأملاح فيه.

ج ـ أمراض سببها الوحيد أكل لحم الخنزير: مثل الإصابة بالدودة الشريطية المسلَّحة، الَّتي تسبِّب لدى الإنسان اضطرابات هضمية عديدة، وبيوض هذه الدودة قد تتوضَّع في القلب أو الرئة أو الدماغ، محدثة حويصلات تنتفخ في مكانها، مسبِّبة أمراضاً مختلفة تحتاج إلى الجراحة لشفائها. والشعرية الحلزونية الَّتي تسبِّب آلاماً عضلية قد تصل لدرجة الشلل، وإذا أصابت عضلات التنفس أو القلب أدَّت إلى الوفاة.

هذا بعض ما توصَّل إليه العلم في الوقت الحالي بخصوص مضارِّ لحم الخنزير، إلا أن العقيدة السماوية المنزَّلة من لَدُن ربٍّ عليم، سبقت العلم بقرون طويلة لتُجنِّب الإنسان هذه المضارَّ وتجعله في مأمن منها.

أمَّا ما أُهِلَّ به لغير الله، فهو ما ذكر عليه عند الذبح غير اسم الله، وبذا تكون النيَّة متوجِّهة إلى غير الله عزَّ وجل. وحكمة تحريمها حكمة شرعية، لأنها من أعمال الوثنية، وفيها إشراك بالله واعتماد على غيره سبحانه، ولأن عدم التوجُّه لله ينافي صحَّة التصوُّر وسلامة القلب، والله طيِّب لا يقبل إلا طيِّباً، ولا يرضى لعباده إلا كلَّ طيِّب خالص لوجهه الكريم.

وهذا كلُّه إن دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على رحمة الله تعالى بخلقه، وحرصه على سلامتهم الجسدية والروحية، علاوة على أنه لم يُغفل الضرورات، بل وضعها في الحسبان، فأباح المحظورات بقدر ما تقتضيه هذه الضرورات بغير تجاوز لها أو تعدٍ لحدودها.

سورة الأنعام(6)

قال الله تعالى: {فكلوا ممَّا ذُكِرَ اسمُ الله عليه إن كنتم بآياتِهِ مؤمنين(118) وما لكم ألاَّ تأكلوا ممَّا ذُكِرَ اسمُ الله عليه وقد فصَّلَ لكم ما حرَّمَ عليكُم إلاَّ ما اضطُرِرْتُمْ إليه وإنَّ كثيراً ليُضِلُّونَ بأهوائِهِم بغير علمٍ إنَّ ربَّك هو أعلمُ بالمعتدين(119) وذروا ظاهرَ الإثم وباطِنَهُ إنَّ الَّذين يَكسِبُونَ الإثمَ سيُجزَونَ بما كانوا يقترفون(120) ولا تأكلوا ممَّا لم يُذكرِ اسمُ الله عليه وإنَّه لفسقٌ وإنَّ الشَّياطين لَيُوحون إلى أوليائِهِم ليُجادِلوكُم وإن أطعتموهمْ إنَّكم لمشركون(121)}.

ومضات:

ـ إنَّ من أبرز أهداف الشريعة الإسلامية الحرص على سلامة الإنسان جسدياً وروحياً. وقد قرن الله تعالى إباحة الطيِّبات من الذبائح بذكر اسمه الجليل عليها عند ذبحها، لتكون الطهارة المعنوية متمِّمة للطهارة الحسية، وليكون إخلاص النية لله تاجاً يُظلُّ أعمال المؤمن لتنال القبول، وبهذا يشعر الإنسان أنه يعيش في مُلْكِ الله، ويأكل من رزقه، ويقوم بسائر نشاطاته في رعاية الله وعنايته.

ـ إن الإنسان واقع تحت رقابة الله تعالى، وعلى المؤمن أن يقف عند حدود ما أحلَّ الله من الطيبات، ولا يسمح لنفسه بتجاوزها إلا بما تقتضيه الضرورة. ففي الأحوال الاعتيادية يَحْرُم عليه أن يتعدَّى حدود الله تعالى في مأكله ومشربه وملبسه، لأن هذه النعم الإلهية وسائل لأهداف، وأسباب لغايات من أجلِّها وأعظمها التَّقَوِّي على طاعة الله وخدمة دينه، وأي إساءة أو مخالفة في التعامل معها؛ كأن تصبح غايات بذاتها، أو يبلغ الاسترسال فيها حدَّ السرف، أو أن تُستخدم في معصية الله، فإن كلَّ ذلك يوقع صاحبها في دائرة الإثم المنهي عنه.

في رحاب الآيات:

لقد دخلت في عقائد الأمم القديمة عادات وتقاليد، وأعراف خاطئة ومشوَّشة، تتعلَّق بطعامهم وشرابهم، وقد توارثوها جيلاً بعد جيل، فامتزج الحلال بالحرام حتَّى أصبح يخالف شرائع السماء. والآيات الكريمة الَّتي نحن بصددها تعالج قضية كانت معاصرة للبيئة الجاهلية، حيث كان المشركون يمتنعون عن أكل ذبائح أحلَّها الله، ويُحِلُّون أكل ذبائح حرَّمها عليهم؛ ويزعمون أن هذا هو شرع الله، وتفصل هذه الآيات في أمر هؤلاء المشرِّعين المفترين على الله، فتقرِّر أنهم إنما يشرِّعون بأهوائهم بغير علم ولا هدى، ويُضِلُّون النَّاس بما يشرِّعونه لهم من عند أنفسهم، معتدين بذلك على شرائع الله حيث تجاوزوا حدودهم وعَتَوا عُتُوّاً كبيراً.

ولـمَّا كان للعادة سلطانها القويُّ على غالبية النَّاس، حتَّى إنها لتصبح فيهم طبيعة ثانية؛ فقد تكرَّر في القرآن الكريم ذكر الآيات الَّتي تحارب تلك العادات، وتذكِّر أصحابها وتنبِّههم ليعودوا إلى جادَّة الصواب؛ فالصواب أن تكون أعمالنا كلُّها خالصة لوجه الله تعالى، فنحن نأكل باسم الله لكي نتقوَّى بالطعام على طاعته وتنفيذ أوامره، وعلينا أن نتحرَّى الحلال من الأطعمة ونجتَنِبَ الخبيث منها وهو ما حرَّمه الله علينا، لما يترتَّب عليه من إلحاق الضرر الفادح بنا. وكلُّ ذبيحة ذبحت لغير الله تدخل في الأطعمة الَّتي يُحرَّم أكلها؛ ومنها الذبائح الَّتي كان المشركون يذكرون عليها أسماء آلهتهم، أو ينحرونها للمَيسر، ويقتسمونها بواسطة الأزلام، أو الميتة الَّتي كانوا يجادلون المسلمين في تحريمها، ويزعمون أن الله ذبحها، ويقولون: كيف يأكل المسلمون ممَّا ذبحوا بأيديهم ولا يأكلون ممَّا ذَبح الله؟.

وأمَّا اللحم المذبوح والَّذي يتعذَّر الجزم فيما إذا كان قد ذكر عليه اسم الله عند ذبحه أم لا، فيمكن لنا أن نذكر اسم الله عليه ثمَّ نأكله؛ فعن عائشة رضي الله عنها: «أن ناساً قالوا: يارسول الله! إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذُكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال صلى الله عليه وسلم : سمُّوا عليه أنتم وكلوا» (رواه مسلم) وبهذا يتبيَّن لنا أن ذكر اسم الله تعالى على الذبائح، إنما هو تزكية وتطهير لها، ليأكلها المؤمن حلالاً طيباً.

سورة الأعراف(7)

قال الله تعالى: {..وكلوا واشربوا ولا تُسْرِفوا إنَّه لا يحبُّ المسرفين(31)}

ومضات:

ـ الاعتدال والتوازن من المعايير الَّتي حرص الإسلام عليها وأكَّد الالتزام بها.

ـ كثير من النَّاس من يملك مفاتيح العلم، ولكنَّ القليل النادر منهم من يملك التوفيق للعمل بما علم. وكثير منهم من يحسن الشكر القولي اللساني، ولكنَّ القليل منهم من يتحقَّق بالشكر العملي، الَّذي يتجسَّد في استعمال نعم الله بالشكل الصحيح، كما اقتضت الحكمة من خلقها والغاية من إيجادها.

في رحاب الآيات:

إن الجسم الإنساني يحتاج إلى الغذاء الكامل ليقوم بوظيفته في الحياة. والطعام والشراب هما الدعامتان اللتان تتوقَّف عليهما فعالية القدرات الجسدية، الَّتي ترتبط بها فعاليات القدرات الأخرى؛ العقلية منها والنفسية وغيرها. والآية الكريمة تقرِّر مبدأً عامّاً للحفاظ على صحَّة الإنسان، ووقاية جهازه الهضمي من الأمراض الَّتي يصاب بها، وغالباً ما يكون الإنسان هو ذاته المتسبِّب بتلك الإصابة؛ وذلك لجهله بكيفية استعمال النعمة الَّتي أكرمه الله بها من طعام وشراب، ونتيجةً لإساءته وجهله، يحيل الغذاء الَّذي بين يديه إلى داء، فإذا ما أراد في هذه الحالة الشفاء، وجد في المبدأ الَّذي وضعته الآية الكريمة خير علاج ودواء.

فإباحة الطعام والشراب في الإسلام مقيَّدة بالاعتدال، حفاظاً على الصحَّة، فلا يُدخِل المرء طعاماً على طعام، ولا يأكل كلَّ ما اشتهى؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «إن من الإسراف أن تأكل كلَّ ما اشتهيت» (رواه ابن ماجه وابن مردويه والبيهقي عن أنس رضي الله عنه ). ولعدم الاعتدال وجهان: إفراط وتفريط، فالإفراط ما يكون فوق الحاجة الضرورية، أو مخالفاً للشرع، والتفريط: أن ينقص عن قدر الحاجة الضرورية، ويكون سبباً لنقص القوَّة والطاقة، والتقصير في تأدية حقوق الله.

وقد حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم من مغبَّة الإسراف في تناول الطعام فقال: «ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه، حسبُ ابن آدم لقيمات يُقمن صُلبه فإن كان لا محالة فاعلاً، فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنـفَسِه» (رواه أحمد والترمذي وحسَّنه النسائي)، فمن الأصول الصحِّية العامَّة أن لا يمدَّ الإنسان يده للطعام إلا وهو جائع، ثمَّ ينبغي أن يرفع اليد عن الطعام قبل الشِّبَع وهو يشتهيه. وفي الحديث الشريف: «أن المقوقس ملك مصر أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم جارية وطبيباً وبغلة، أمَّا الجارية وهي مارية القبطية فقد تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمَّا البغلة فاتَّخذها رَكوباً له، وأمَّا الطبيب فمكث مدَّة طويلة لم يُقْبِل عليه أحد يشكو مرضاً، فقال للنبي عليه السلام: مكثت مدَّة ولم يأتني مريض، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : نحن قوم لا نأكل حتَّى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع» (أخرجه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها).

وإذا كان الإسراف في أكل الطعام مذموماً مؤذياً؛ فإن الإسراف في تناول نوع معيَّن منه زيادة عن حاجة الجسم مذموم مؤذٍ أيضاً، والسلوك الأمثل هو الاعتدال في كلِّ شيء.

إن الله عزَّ وجل يكره من كان جُلَّ همِّه أن يملأ بطنه، لأن البِطنة تُذْهِب الفطنة، وتُوقع في الغفلة وتشكِّل حجاباً حول القلب يحجب عنه نور المعرفة، لذلك فرض الله تعالى الصِّيام على عباده تطهيراً لنفوسهم وجلاءً لقلوبهم. وأمرهم بالاعتدال في طعامهم وشرابهم ليستفيدوا منه، ولئلا يُجهدوا جهازهم الهضمي ويُحمِّلوه فوق طاقته فتضطرب عمليات الهضم، ويؤدي بهم ذلك إلى أسوأ النتائج الَّتي تضرُّ بصحَّتهم، وسلامة أبدانهم. فالاعتدال مطلوب ومحمود، والشراهة والنهمة مكروهة مذمومة، والسعيد من احتاط للمرض واتَّقاه قبل وقوعه، وعمل بقوله تعالى: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنَّه لا يُحِبُّ المسرفين}.

وختاماً: لابدَّ أن نشير إلى أنه من الإسراف والتبذير إتلاف مايزيد عن طعام الآكل، أو عن طعام العائلة، أو عن طعام الولائم والحفلات. ولابدَّ من مراعاة الدقَّة في تقدير ما سنأكله أو سنشربه؛ لتجنُّب إتلاف مايزيد عن حاجتنا. ولو أن العالم كلَّهُ راعى هذه الدقَّة، وابتعد عن هذا الإتلاف بدافع البطر واللامبالاة، لما وُجِد جائع على سطح الأرض، حيث أن كمِّية مايُتلفونه من الطعام تكفي لإشباع فقراء البشرية جمعاء.