b8-k3-k2

الفصل الثاني:

آداب الاستئذان

سورة النور(24)

قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا لا تدخلوا بُيوتاً غيرَ بيوتِكُم حتَّى تستأْنِسوا وتُسلِّموا على أهلِها ذلكم خيرٌ لكم لعلَّكم تَذَكَّرون(27) فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخُلوها حتَّى يُؤذَنَ لكم وإن قيلَ لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملونَ عليم(28)}

ومضات:

ـ لقد جعل الله تعالى البيوت سكناً، يؤوب إليها الناس، فتستريح أجسادهم، وتسكن أرواحهم، وتطمئن نفوسهم، ويأمنون فيها على عوراتهم وحرماتهم، لذلك جعل لها حرمة، ولدخولها آداباً لا يجوز انتهاكها، فلم يسمح للناس أن يفاجِئ بعضهم بعضاً بدخولها من غير استئذان.

في رحاب الآيات:

لكي نستوعب أهمية التربية الإسلامية علينا أن نعود بالمخيِّلة إلى الزمن الَّذي نزلت فيه هذه الرسالة، ونمط السلوك الَّذي كان عليه أهل ذلك الزمان. فنحن لا ندرك أهمية هذه التعاليم ما لم نتخيَّل حياة العرب حينها من حيث بداوتهم وخشونتهم، وكيف أنهم تحوَّلوا بفضل الإسلام إلى سادة مهذَّبين، يحترمون الآخرين في حياتهم الخاصَّة والعامَّة، فلا يقتحمون عليهم بيوتهم، ولا يتطفَّلون عليها كما كانوا يفعلون قبل الإسلام، فقد كان أحدهم يدخل البيت، ثم يقول: لقد دخلت، أيّاً كانت الحالة الَّتي يكون عليها صاحب الدار وأهله.

من أجل هذا أدَّب الله المسلمين بهذا الأدب العالي، أدب الاستئذان قبل الدخول إلى البيوت والسَّلام على أهلها، لإيناسهم وإزالة الوحشة من نفوسهم. وبذلك غدت البيوت حَرَماً آمناً، لا يستبيح أحد دخوله إلا بعلم أهله وإذنهم، وفي الوقت الَّذي يريدون، وعلى الحالة الَّتي يحبُّون أن يلقاهم الناس عليها. ومن هذا الأدب أن يستأذن المرء ثلاثاً، فإنْ أُذنَ له دخل وإلا انصرف، فقد ثبت في الصحيح أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه استأذن على عمر رضي الله عنه ثلاثاً فلم يُؤذن له فانصرف، فقال عمر: ألم أسمع صوت أبي موسى يستأذن؟ ائذنوا له، فطلبوه فوجدوه قد ذهب، فلما جاء بعد ذلك قال ما أرجعك؟ قال: إني استأذنت ثلاثاً فلم يُؤذن لي، وإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يُؤذن له فلينصرف». وقد بيَّن قتادة أن معنى قوله تعالى: {حتَّى تَستأْنِسوا} هو الاستئذان ثلاثاً، فمن لم يؤذن له فليرجع. وأمَّا الحكمة من ذلك فإن الأُولى لِيَسمعَ أهل البيت، والثانية ليأخذوا أُهْبَتَهم واستعدادهم، والثالثة ليأذنوا إن شاؤوا أو يردُّوا. وقد نهى الله تعالى المرء عن أن يقف بباب قوم ردُّوه، فَإِنَّ للناس حاجات ولهم أشغال. ومن أدب الاستئذان أيضاً أن يُفصح المرء عن اسمه حتَّى يعرفه صاحب البيت جيداً، فعن جابر رضي الله عنه أنه قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فدققت الباب فقال صلى الله عليه وسلم : «من ذا؟ فقلت: أنا، قال: أنا.. أنا..!! كأنه كرهه» (أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والبيهقي في السنن وابن حبان في صحيحه) وإنما كره ذلك لأن هذه اللفظة لا يُعرف بها صاحبها، ما لم يُصَرِّح بذكر اسمه أو كنيته الَّتي يشتهر بها، ولأنه إذا عبَّر كلُّ واحد عن نفسه بـ(أنا) فإن المقصود من الاستئذان لا يحصل.

ومن ذلك أيضاً استقبال الباب من أحد ركنيه، والسَّلام على أهل البيت، فقد روي عن عبد الله بن بِشْر رضي الله عنه أنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ويقول: السَّلام عليكم، السَّلام عليكم» (أخرجه البخاري)، وروى جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من لم يبدأ بالسَّلام فلا تأذنوا له». ذلك لأن السَّلام من سنَّة المسلمين، وهو جالب للمودَّة، مانع للحقد والضغينة. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «حقُّ المسلم على المسلم ست: يسلِّم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه، وينصح له بالغيب، ويشمِّته إذا عطس، ويعوده إذا مرض، ويشهد جنازته إذا مات» (رواه البخاري ومسلم)، وفي هذا المقام يحسن إيراد الحادثة التالية:

يروى أن عمر بن الخطاب كان يمشي ليلة مع ابن مسعود رضي الله عنهما فسمعا لغطاً في أحد البيوت، فتسوَّرا حائطه، فإذا شيخ بين يديه شراب وقينة (مُغَنِّية) تغنِّي، فقال عمر: ما صحَّ لشيخ مثلك أن يكون على مثل هذه الحالة، فقام إليه الرجل فقال: ياأمير المؤمنين!! أنشدك الله، إلا ما أنصفتني حتَّى أتكلم، قال رضي الله عنه : قل، فقال: إن كنتُ عصيتُ الله في واحدة فقد عصيتَ أنت في ثلاث، قال: ما هُنَّ؟ قال: تجسَّست وقد نهاك الله فقال: {..ولا تجسَّسوا..} (49 الحجرات آية 12)، وتسوَّرت وقد قال الله: {..وليس البِرُّ بأن تأتوا البيوتَ من ظُهورِها ولكنَّ البِرَّ منِ اتَّقى وأْتوا البيوتَ من أبوابها..} (2 البقرة آية 189)، ودخلت بغير إذن وقد قال تعالى: {لا تدخلوا بيوتاً غيرَ بيوتِكُم حتَّى تستأنسوا وتسلِّموا على أهلها} فقال عمر: صدقتَ، فهل أنت غافر لي؟ فقال: غفر الله لك، فخرج عمر وهو يبكي ويقول: ويلٌ لعمر إنْ لم يغفر الله له. وفي رواية أخرى قال عمر: هل لك في أن تتوب وأتوب فقال نعم.

أمَّا إذا عَرَضَ أمر في دار؛ من حريق أو هجوم سرقة أو قتل، فيجوز الدخول حينها دون استئذان فإن ذلك مستثنى بالدليل، حسب القاعدة الفقهية: (الضرورات تبيح المحظورات).

وبعدُ، فالقرآن الكريم منهاج حياة، يحفل بهذه الجزئية الاجتماعية ويمنحها هذه العناية لأنه يعالج الحياة كليَّاً وجزئيَّاً، لينسِّق بين أجزائها وبين غاياتها الكلِّيَةِ العليا. فأدب الاستئذان يحفظ للبيوت حرمتها، ويحمي أهلها من أذى المفاجأة؛ والتمسك بهذا الأدب أمر يجب الالتزام به مع عامَّة البيوت المسكونة، لكن مراعاته بدخول بيوت أهل العلم أدقُّ وأبلغ، ذلك لأن بعض العلماء يفتحون أبوابهم لكلِّ سائل ولكلِّ صاحب حاجة، ولا يغلقونها في وجه أحد ممن يَرِدُ عليهم خوفاً من المسؤولية أمام الله، ورغبة في التقرُّب إليه بقضاء حوائج خلقه. ولكن بعض الثقلاء من الناس يتهاونون في الالتزام بهذه الآداب، ويزهدون في هذا العطاء ولا يقدِّرونه حقَّ قدره، بل ربَّما تعدَّوا ذلك إلى إطالة وقت جلوسهم حتَّى يحين وقت الطعام، فَيُوقِعون أهلها بالحرج والإزعاج، وهذا ممَّا يرفضه الذوق السليم، ويستنكره الأدب الرفيع الَّذي أراده الإسلام أن يكوِّن ملامح الحياة الاجتماعية الإسلامية.

إن الإسلام وطَّن نفوس أتباعه على حسن قبول الاعتذار عن عدم استقبال الزائر، إن كانت ظروف المزور ليست مواتية لاستقباله، فقال تعالى: {وإن قيلَ لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملونَ عليم}. وبما? أن وسائل الاتصال أصبحت متوافرة في غالب الأحيان، فإن ممَّا ينبغي على المسلم أن لا يحضر لزيارة العالِم، بشكل خاص، إلا بعد إعلامه وأخذ موافقته ليكون المزور قد لاءَم ظروفه مع هذه الزيارة.

 

سورة النور(24)

قال الله تعالى: {ليس على الأعمى حَرَجٌ ولا على الأعرج حَرَجٌ ولا على المريض حَرَجٌ ولا على أنفسِكم أن تأكلوا من بيوتِكم أو بيوتِ آبائِكم أو بيوت أمَّهاتِكم أو بيوتِ إخوانِكم أو بيوتِ أخواتِكم أو بيوتِ أعمامِكم أو بيوتِ عمَّاتِكم أو بيوتِ أخوالِكم أو بيوتِ خالاتِكم أو ما مَلكْتم مفاتِحَهُ أو صديقِكم ليس عليكم جُنَاحٌ أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً فإذا دخلتُم بيوتاً فسلِّموا على أنفسِكم تحيَّةً من عند الله مباركةً طيِّبةً كذلك يبيِّنُ الله لكمُ الآياتِ لعلَّكم تعقلون(61)}

ومضات:

ـ عندما يُرفَعُ الحرج بين الأقارب والأصدقاء وأصحاب العلل، تذوب الفوارق الاجتماعية، وتنصهر القلوب في بوتقة واحدة، وتتآلف الأرواح لِتَكْبُرَ العائلة الإسلامية وتصبح أسرة إنسانية واحدة.

ـ الإطعام متعة للكريم السخي، يحصل عليها حين يشاركه الناس طعامه، فهو يتلذَّذ بمؤاكلتهم وكأنهم عياله يرعاهم ويحنو عليهم.

ـ إطعام الطعام وإفشاء السَّلام والقنوت لله سَحَراً والناس نيام؛ جواز سفر للمؤمن يؤهِّله لدخول جنَّات النعيم بإذن الله.

في رحاب الآيات:

لكأنِّي بهذه الآية الكريمة قد حوَّلت العالم كلَّه إلى عائلة واحدة تأكل مع بعضها بعضاً، بانفتاح وتواصل دون حدود أو قيود تفصل بين أفرادها، الغني منهم والفقير، الصحيح فيهم والسقيم، وهذه هي الغاية الَّتي يسعى الإسلام إلى تحقيقها، وهي أن تُظِلَّ مظلَّة الإيمان الأسرة الإنسانية كلَّها وتجمعها في رحاب الحبِّ والتراحم. ولعلَّ تَشارُكَ الناس في الطعام من أنجع الوسائل للتحابب، وتقوية روابط الألفة والمودَّة فيما بينهم، فقد تعارفوا منذ القدم على أن للخبز والملح حرمة، وهناك مقولة مفادها: من أكل مِن زادنا دخل في أهلنا، فلا يجوز لنا أن نغدر به، ولا ينبغي له أن يعتدي علينا.

وقد بدأت الآية بذكر أصحاب الإصابات الجسدية للفت الأنظار إلى العناية بهم، وإعطائهم الأفضلية في الطعام، والأولوية في المجالس، تخفيفاً لمصابهم، وإشعاراً لهم بانتمائهم الوثيق إلى مجتمعهم، شأنهم في ذلك شأن الأفراد الأصحَّاء. ثم بيَّنت الآية الكريمة حكم الأكل من البيوت المذكورة من غير إذن صريح؛ فهو جائز ومباح ولا إثم فيه ولا حرج، ويكون حكم الأكل من بيت القريب والصديق، كحكم أكل الإنسان من بيته الخاص على حدٍّ سواء. أمَّا غير تلك البيوت فإن أصحابها قد ينفرون من هذا التصرف ويجدون فيه حرجاً وكلفة؛ فلا يجوز لمن يدخلها أن يأكل من طعام أهلها في حال غيبتهم أو وجودهم إلا بإذن صريح منهم، وعليه أن يتعفَّف ويتجنَّب الأكل منها لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وأبو داود: «لا يحلُّ مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه».

وقد ورد في سبب نزول الآية موضوع بحثنا روايات كثيرة نذكر منها رواية سعيد ابن المسيب رضي الله عنه فقد قال: أنزلت هذه الآية في أناس كانوا إذا خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى والأعرج والمريض وعند أقاربهم، وكانوا يأمرونهم أن يأكلوا ممَّا في بيوتهم إذا احتاجوا إلى ذلك، وكانوا يتَّقون أن يأكلوا منها ويقولون، نخشى ألا تكون أنفسهم بذلك طيِّبة فأنزل الله هذه الآية.

وهذه الآية الكريمة آية تشريع، لذلك نلحظ فيها دِقَّة الأداء اللفظي، والترتيب الموضوعي، والصياغة الَّتي لا تدع مجالاً للشكِّ أو الغموض في حكمها، كما نلمح فيها ترتيب القرابات، فهي تبدأ ببيوت الأبناء والأزواج ولا تذكرهم، بل تقول: {من بيوتِكم} فيدخل فيها بيت الابن وبيت الزوج، لأن بيت الزوج بيت لزوجته، وبيت الابن بيت لأبيه، أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم». وتليها بيوت الآباء فالأمَّهات، فالإخوة، والأخوات، فالأعمام والعمَّات، فالأخوال والخالات. ويضاف إلى هذه القرابات الخازن على مال الرجل، فله أن يأكل ممَّا يملك مفاتيحه بالمعروف، ولا يزيد على حاجة طعامه، ويلحق بها بيوت الأصدقاء عند عدم التأذِّي والضرر، لأن صديقك أخ لك. عن محمَّد بن ثور عن معمر قال: دخلت بيت قتادة، فأبصرت فيه رُطباً، فجعلتُ آكله، فدخل فقال: ماهذا؟ فقلت: أبصرت في بيتك رطباً فأكلتُ، فقال: أحسنت؛ قال تعالى {… أو صديقِكم…}. وكذلك رفع الله الحرج عن المسلمين أن يأكلوا مجتمعين، أو متفرقين إذا صَعُبَ على المسلم أن يطلب في كلِّ مرة أحداً يأكل معه.

وبعد أن بيَّنت الآية الحالة الَّتي يكون عليها الأكل، ذكرت آداب دخول البيوت الَّتي يؤكل فيها: {فإذا دخلتم بيوتاً فسلِّموا على أنفسكم تحيَّةً من عند الله مباركة طيِّبةً} وهو تعبير لطيف عن قوَّة الرابطة بين المذكورين في الآية، فالَّذي يسلِّم منهم على قريبه أو صديقه إنما يسلِّم على نفسه، والتحيَّة الَّتي يلقيها عليه هي تحيَّة من عند الله، تحمل تلك الروح، وتفوح بذاك العطر، وتربط بينهم بالعروة الوثقى الَّتي لا انفصام لها، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «للإسلام ضياء وعلامات كمنار الطريق، فرأسها وجماعها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمَّداً رسول الله، وإقامة الصَّلاة، وإيتاء الزَّكاة، وتمام الوضوء، والحكم بكتاب الله وسنَّة نبيِّه، وطاعة ولاة الأمر، وتسليمكم على أنفسكم، وتسليمكم إذا دخلتم بيوتكم، وتسليمكم على بني آدم إذا لقيتموهم» (رواه أبو يعلى والديلمي وصححه الذهبي).