b8-k2-f9

الفصل التاسع:

العفو والمسامحة

سورة الأعراف(7)

قال الله تعالى: {خُذِ العفوَ وأمرْ بالعُرفِ وأَعْرِضْ عن الجاهلين(199) وإمَّا يَنْزَغَنَّكَ من الشيطانِ نَزْغٌ فاستعذ بالله إنَّهُ سميعٌ عليم(200)}

سورة فصلت(41)

وقال أيضاً: {ولا تستوي الحسَنَةُ ولا السَّيِّئَةُ ادفعْ بالَّتي هي أحسنُ فإذا الَّذي بينَك وبينَه عداوةٌ كأنَّه وليٌّ حميم(34) وما يُلَقَّاها إلاَّ الَّذين صبروا وما يُلَقَّاها إلاَّ ذو حظٍّ عظيم(35) وإمَّا يَنْزَغَنَّكَ من الشَّيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله إنَّه هو السميعُ العليم(36)}

ومضات:

ـ أيُّها المسلم خذ نفحة طيِّبة من كلِّ خُلق كريم، وتحلَّى بالمسامحة وعامل الناس باللين والحلم والرفق، ولتكن آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر في كلِّ أحوالك، كن طبيباً معالجاً لمشاكل الناس وهمومهم ناشراً بلسم شفائهم، ولا تكن قاضياً جائراً تدينهم على الشُّبُهات، وابتعد عن طريق المغرضين المخرِّبين، العابثين بالقيم العليا وفضائل الأخلاق.

ـ إن قوَّة إيمانك تتجلَّى في قدرتك على أن تقتل العداوة الَّتي يزرعها الشيطان في قلب أعدائك، فتحوِّلهم إلى أحباب مسالمين متعاونين معك بمودَّة وصدق.

ـ ينال المؤمن القِيَمَ الأخلاقية الرفيعة والصفات الإيمانية الكريمة بالصبر الدؤوب، والمجاهدة المستمرة، وبتوفيق الله وعنايته.

ـ إن الشيطان يتربَّص بالإنسان الدوائر، ويقعد له مقاعد السوء، فهو مخلوق لا يملك سوى طاقة الشرِّ الَّتي تتأجَّج في صدره، وهي طاقة ضعيفة سُرعان ما تضمحلُّ وتتلاشى بمجرَّد التجاء المؤمن إلى الحقِّ، واستجارته بالله عزَّ وجل؛ الَّذي يحميه من وساوس هذا الشيطان اللعين.

في رحاب الآيات:

لئن كان الله عزَّ وجل قد حكم على آدم وذريَّته بالهبوط من الجنَّة إلى الأرض، فإنه قد شرَّع لهم من الشرائع ما يرفعهم من الأرض إلى الجنان إذا ما التزموا بها!. فالدِّين يعني الرقي الأخلاقي والسلوكي والاجتماعي، وهذا كافٍ ليأخذ بيد الإنسان من مسارب الجهل وسراديب الضياع، ويصعد به إلى مرتقيات الروح، ومسالك الضياء. وهو بمجموع تعاليمه ينضوي تحت لواء شعبتين كبيرتين هما: الإيمان بوحدانية الله، والتحلِّي بمكارم الأخلاق. والآية الكريمة تتناول الجانب الثاني الَّذي يرتبط بعلاقات الناس بعضهم مع بعض، وهي ذات مدٍّ روحي كمدِّ البحر يتدافع في عمق النفس بسرعة خاطفة، ولا ينحسر عنها إلا وقد طهَّرها وزكّاها. وأوَّل هذه المكارم الخلقية التسامح مع الناس، والعفو عن أخطائهم، واليسر في معاملتهم بعيداً عن التشدُّد، وخاصَّة في مجال الدعوة إلى الله، حيث ينبغي أن تكون دعوتهم مبنية على اللين والحوار البنَّاء، فالنفوس ليست كلُّها على مستوى واحد من الكمال، وإذا تعامل الداعي مع الناس على أنهم متساوون في الرقيِّ الأخلاقي شقَّ ذلك عليهم، واتسعت الهوَّة بينه وبينهم؛ لذلك فإن من واجبه أن يصرف النظر عن هَفَوات من يدعوهم، ما لم يكن فيها مخالفة صريحة لتعاليم الدِّين، وعليه أن يخفِّف عنهم الأعباء ضمن حدود الشرع، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً.

ومن الواضح أن الآية تحثُّ على العمل الصالح، لأن خيره يعود على من يقوم به، وعلى من يرتبط به برابطة ما من الروابط الاجتماعية، فهو يترك أثراً إيجابياً في نفسيهما معاً، وينعكس راحةً وأمناً وطمأنينة، بينما يترك العمل السيء ردود فعل من الغضب، وتوتُّر الأعصاب في نفس من يصدر عنه ونفس من يرتبط به، وقد يحدث بسبب ردود الأفعال هذه مشاكل ومضاعفات يكون لها أسوأ النتائج. وهنا يأتي دور الإيمان، وهو المصلح النفسي والاجتماعي لنفوس الناس وطبائعهم، فالتربية الإيمانية تحثُّك على مقابلة الإساءة بالإحسان، وهذا لا يتحقَّق إلا بإرادة قوية، وأعصاب فولاذية، ولسان رطب بذِكر الله، وقلب عامر بمحبَّته وخشيته، وفوق ذلك كلِّه فلابدَّ من الصبر الجميل والمصابرة الواعية. وكثيراً ما تقلِب هذه الإيجابية عداوة المسيء إلى صداقةٍ ومودَّةٍ، تعودان به إلى طريق الصواب، قال عمر رضي الله عنه : (ما عاقبتَ من عصى الله فيك بمثل أن تُطيع الله فيه)، وروى الطبراني عن جابر رضي الله عنه : «أنه لما نزلت هذه الآية {خُذِ العفو..} سأل النبيُ صلى الله عليه وسلم جبريلَ عنها فقال: لا أعلم حتى أسأل، ثم رجع فقال: إن ربَّك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمَّن ظلمك».

ولا يقدر على تنفيذ هذه الوصية إلا الصابرون على تحمُّل الشدائد، وتجرُّع المكاره، وكظم الغيظ، وترك الانتقام، فإن ذلك ممَّا يشقُّ على النفوس، ويصعب احتماله في الأغلب من الوقائع، والأشمل من الحالات. قال أنس رضي الله عنه : (الرجل يشتمه أخوه فيقول: إن كنتَ صادقاً غفر الله لي، وإن كنتَ كاذباً غفر الله لك)، وهذه السماحة تحتاج إلى إنسان نبيل يعطف ويسمح مع قدرته على الإساءة والرَّد، حتى لا يُصوَّر الإحسان في نفس المسيء ضعفاً، فَيَبطُلَ أثرُ الحسنة.

إن هذه الدرجة، درجة دفع السيئة بالحسنة، وهذا التوازن الَّذي يعرف متى تكون السماحة مع القدرة، ومتى يكون الدفع بالحسنى، درجة عالية لا يُلَقَّاها أيُّ إنسان، وإنما ينالها ذوو النصيب الوافر من الأخلاق وحسن التربية، فإن وسوس لك الشيطان ليحملك على مجازاة المسيء فاستعذ بالله من كيده وشرِّه، واعتصم به من نزغاته، فالاستعاذة بالله وقاية تحميك من لظى نار الغضب الَّتي يُسعِّرها، ودرع يقيك من سهام الشرور الَّتي يُصوِّبها. ولا يخفى أن خالق القلب البشري يعرف مداخله وقنواته، ويعرف طاقته واستعداده، ومن أين يدخل الشيطان إليه، لذا فهو قادر على أن يحفظ قلب المؤمن من نزغاته إن هو استعاذ به، قال صلى الله عليه وسلم : «إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضَّأ» (رواه أبو داود).

وبعد هذه الدعوة إلى هذا المستوى المثالي في الأخلاق والفضائل نرى الآية الكريمة تحثُّ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتلك سمة بارزة من سمات المجتمع المؤمن، حضَّ عليها الشارع الحكيم في الكثير من آيات القرآن الكريم، لأن صلاح المجتمع يتوقَّف عليها، وبها يتحقَّق التكافل الاجتماعي في أحسن صوره. وممَّا لاشكَّ فيه أن إصلاح الفرد هو الخطوة الأولى في إصلاح المجتمع، لأن الإنسان خليَّة في جسد المجتمع البشري، إذا فسدت أضرت به وآلمته، وإذا صلحت حملت له الأمل بالصحَّة والعافية. ولا يكفي أن يصلح الإنسان نفسه، لأنه مسؤول أيضاً عن إصلاح أسرته الصغيرة، وكذلك عن الأسرة الإنسانية الَّتي يعيش بين ظهرانيها، لذلك ربط الله تعالى صلاح الأمَّة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال: {كنتم خيرَ أُمَّةٍ أُخرجتْ للنَّاس تأمرونَ بالمعروفِ وتَنْهَوْنَ عن المنكر..} (3 آل عمران آية 110). وأوَّل شروط الأمر بالمعروف أن يكون الداعي إليه هو القدوة الصالحة، والأداة المنفِّذة له، فلا خير في دعوة لا تصدر عن القلب، ولا تصدِّقها الجوارح، بل تبقى مبتورة لا تتجاوز أسماع من تُلقى إليهم، وقد ندَّد الله بأمثال هؤلاء الدعاة فقال: {أتامُرونَ النَّاسَ بالبِرِّ وتَنْسَوْنَ أنفسَكُم وأنتم تَتْلونَ الكتابَ أفلا تعقلون} (2 البقرة آية 44).

ولابدَّ من أن يواجه الداعي إلى الله العقبات الشاقَّة، وأن يلتقي نماذج مختلفة من البشر، ففيهم من يستمع القول فيتَّبع أحسنه، وفيهم من يستمع القول فلا يتجاوز شحمتي أذنيه، وفيهم زكي القلب حسن الاستماع بعيد الأفق، وفيهم الجاهل محدود العقل ضيِّق الأفق، فإذا ما اصطدمت مصالحهم الشخصية مع تعاليم الداعية وحاربوه، فعليه أن يحلم، وأن يحاورهم الحوار البنَّاء بالحكمة والموعظة الحسنة، قال ابن عباس رضي الله عنه : (ادفع بحلمك جهل من يجهل عليك)، فإذا استنفد الداعي وسائله العقلانية ولم ينجح، فليكفف وليصمت، ولعلَّ الصمت يكون أبلغ من الكلام، وأقدر على ترويض نفوسهم وتطويعها للحقِّ بدلاً من استثارتهم للفحش في الردِّ والعناد. فالشيطان في مثل هذه المواقف نشط فرح، يسعى ليَنفُذَ بسهامه المسمومة إلى عقل الإنسان المصلح ليربكه، وإلى حماسه ليثبِّطه، وإلى غضبه ليؤجِّجه، فما على الداعية إلا أن يستعيذ بالله، وأن يقوِّي روابط صلته القلبية الروحية بالحضرة الإلهية، ليبقي على توازنه، ويوطِّد العزم من جديد على مواصلة مسيرة الإصلاح والبناء والعمل المنتج.

سورة النساء(4)

قال الله تعالى: {لا يُحِبُّ الله الجَهرَ بالسُّوءِ من القولِ إلاَّ من ظُلِمَ وكان الله سميعاً عليماً(148) إن تُبدوا خيراً أو تُخفوهُ أو تعفوا عن سوءٍ فإنَّ الله كان عَفُوّاً قديراً(149)}

ومضات:

ـ إن الشريعة الغرَّاء تُحكِم الرقابة على كلام المؤمن بحيث يدور دائماً في دائرة الخير والإصلاح، وتمنعه من أن يذكر أخاه بسوء إلا أن يظلمه، فإنه يملك حينها حقَّ الدفاع عن نفسه ورد الظلم عنها، وأمَّا ما سوى ذلك فهو تعدٍّ يترك آثاراً سلبية في المجتمع، تنذر بالقضاء على روابط الثقة والاحترام المتبادلين بين الفرد والجماعة.

ـ المؤمن يعفو ويسامح تخلُّقاً بأخلاق الله تعالى؛ الَّذي يحبُّ العفو مع قدرته على إهلاك المسيئين أجمعين. وتتفاوت قدرة المؤمن على العفو بحسب درجة إيمانه، ومدى قربه من الله عزَّ وجل.

في رحاب الآيات:

لسان المؤمن من وراء قلبه، فهو لا ينطق بالسوء، ولا يجاهر بالفاحش من القول، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «ليس المؤمن بالطَّعان ولا اللَّعان ولا الفاحش ولا البذيء» (رواه الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه ). فالمؤمن الَّذي نظَّف قلبه، ونقَّى سريرته، وهذَّب مشاعره لا يمكن أن ينطق إلا بالصدق، وهو يتوخَّى الحكمة والإصلاح في كلِّ ما يلفظ، فَرُبَّ كلمة عابرة لا يحسب قائلها حساباً لما ستتركه من أثر قد أوقعت بين أخوين، أو دمَّرت سعادة زوجين. ولاشكَّ أنه عندما تصفو سريرة المؤمنين، وتطهر ألسنتهم، فإن مشاكل المجتمع تُحَلُّ تلقائياً وتتلاشى، لتصبح ذكريات بغيضة لا يحلو للمسلم أن تخطر له على بال.

والله تعالى الَّذي وضع مخطط هذا الكون بتصميم رائع، يتبرَّأ من محبَّة السوء وأهله، لما فيه من تجريحٍ للناس وكشفٍ لسوآتهم، وقطع أواصر الحبِّ فيما بينهم، وليس هذا ممَّا يرضاه الله، ولا من أجله قد خلق الحياة. ومع ذلك فإنه جلَّ وعلايعطي رخصة لمن ظُلِم أن يجهر بظلامته، وأن يعرِّي مَن ظلمه أمام الناس ليتَّقوا شرَّه، وليرفع المظلوم الظلم عن نفسه، خاصَّة إذا كان المشتكى إليه حاكماً أو غيره ممن يُرجى نفعُه في إزالة هذا الظلم، فالله لا يرضى بالظلم ولا يرضى لعباده أن يتظالموا. والله سبحانه سميع الدعاء عليم بظلم الظالم، وقلَّة حيلة المظلوم، قادر على نُصرته والاقتصاص ممَّن ظلمه، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «من دعا على من ظلمه فقد انتصر» (أخرجه الترمذي)، وبالتالي فكأنه أخذ حقَّه بيده بعد أن أوكل أمر ظالمه لله تعالى.

إن الشريعة السمحة تأبى إلا أن تسمو بالإنسان في معارج الكمال، فهي تثير فضيلة هامَّة في نفسه؛ هي فضيلة العفو، لأنه صفة من صفات الله، واسم من أسمائه، فهو عَفُوٌّ يحبُّ العفو، فمن أجدر من المؤمن بأن يتخلَّق بما يحبُّه خالقه، وأن يدأب للاقتراب من حضرته، فينشر عليه من رحمته ومدده، فيعفو ويصفح عن مقدرة، عفواً يصدر عن سماحة النفس لا عن مذلَّة العجز، قال عليه السَّلام: «ما نقص مال من صدقة وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عزَّ وجل» (رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ).