b8-k2-f8

الفصل الثامن:

التثبُّت من الحقائق

سورة الحجرات(49)

قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا إن جاءَكُم فاسقٌ بنبأٍ فتَبَيَّنوا أن تُصيبوا قوماً بِجهالةٍ فتُصبِحوا على ما فعلتم نادمين(6)}

ومضات:

ـ الفاسق هو الإنسان الَّذي يخرج عن حدود طاعة الله إلى معصيته، وقد أمر الله تعالى في هذه الآية أن توضع أفعاله وأقواله تحت المراقبة والمحاكمة، لأنه لا يؤمَنْ جانبه ولا يُرْكَن إليه، فهو غير مبالٍ أصلاً بسلامة المجتمع أو أمنه أو ترابطه، وإن الأخذ بكلامه على محمل الصدق والثقة، لاسيَّما فيما يتعلَّق بأعراض الناس ومصائرهم، قد يوقعنا في مساوئ التسرُّع والخطأ، ويحملنا على أن نرتكب ما نندم عليه حيث لا ينفع الندم.

في رحاب الآيات:

إن الإنسان الراشد العاقل مسؤول عن كلِّ كلمة يتفوَّه بها، وعن أي معنى يوحي به للآخرين، ومن هنا فقد تعيَّن عليه أن يوثِّق كلامه ويثبِّته بدلائل من أرض الحقيقة والواقع، وأن يحيط عقله ولُبَّه بالمراقبة الذاتية، فلا ينطق إلا خيراً، ولا يلقي سمعه إلا إلى ما يقبله العقل وتؤيِّده الحُجج والدلائل، وهذا لا يُدرَك إلا باستقصاء الحقائق. فكم من مقولة كاذبة أدَّت إلى تَهْلُكة، وكم من خبر زائف أدَّى إلى نزاع وشجار، وكم من شائعة مغرضة أدَّت إلى فساد في الأرض، فما كلُّ ما يُسمع يُقال، وما كلُّ ما يُسمع يُصدَّق أو يُؤخذ كقرينة إثبات، خاصَّة فيما يتعلق بأعراض الناس وأخلاقهم وأماناتهم ومجمل سلوكهم. جاء في الحديث أن معاذ بن جبل رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وهل نُحاسب على أقوالنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ثَكِلَتْك أُمُّك يامعاذ! وهل يكبُّ النَّاس في النَّار إلا حصائد ألسنتهم» (رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه).

لقد حمى الإسلام حُرُمات الناس وكراماتهم، فشدَّد العقوبات على منتهكي الأعراض، ومثيري الفتن، وحذَّرنا في الوقت نفسه من الانسياق وراء تياراتهم، وتصديق كلِّ ما يقولون ويروِّجون، كي لا نتحوَّل إلى أدوات إذاعية لهم، تنقل افتراءاتهم وتَجَنِّيهم على النَّاس، فإذا وقعت الواقعة وكثرت الضحايا، وانجلت الحقيقة، وتبيَّن كذب ما كانوا يدَّعون، شعرنا بالنَّدم والألم لأننا كنا أدوات مشاركة في الجريمة، ومسؤوليتنا في ذلك جسيمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «التثبُّت من الله والعجلة من الشيطان» (رواه البيهقي في شعب الإيمان عن أنس بن مالك رضي الله عنه ). ومدلول الآية عام، وهو يتضمَّن الدعوة إلى التمحيص والتثبُّت من خبر الناس عموماً، والفاسق خصوصاً، لأنه مَظِنَّة الكذب وكلامه موضع شكٍّ حتَّى يثبت صدقه، أمَّا الصادق فيؤخذ بخبره، لأن الصدق هو الأصل في المجتمع المؤمن، وخبر الفاسق استثناء، والأخذ بخبر الصادق الثقة جزء من منهج التثبُت لأنه أحد مصادره. أمَّا الشكُّ المطلق في جميع المصادر وفي جميع الأخبار، فهو مخالف لأصل الثقة المعتمدة، ومعطِّل لسير الحياة، والإسلام يترك الحياة تسير في مجراها الطبيعي، ويضع الضمانات والحواجز لصيانتها فقط، لا لتعطيلها. وهذا كلُّه فيما لم يطلب الشارع دليلاً عليه، أمَّا ما طلب الشارع دليلاً عليه كالاتِّهام بالزنا، فلابدَّ فيه من شهادة أربعة شهود عدول، وإلا فهو مرفوض ولو كان من صادق أو صادقَيْن أو ثلاثة فلابدَّ من الأربعة.

سورة الإسراء(17)

قال الله تعالى: {ولا تَقْفُ ما ليس لكَ به عِلمٌ إنَّ السَّمعَ والبصرَ والفؤادَ كلُّ أولئك كان عنه مسؤولاً(36)}

ومضات:

ـ يعرض الإسلام قواعد لتربية الحواسِّ المادِّية والروحية، لأنها إن لم تؤخذ بالعناية والعلم فإنها تخطئ في التمييز، وهذا ما يوقع صاحبها في دائرة الخطأ ثم المسؤولية والحساب. فالمرء مطالب بأن يتثبَّت من كلِّ خبر يسمعه، ومن كلِّ ظاهرة أو حركة يراها قبل أن يحكم عليها، وتلك هي مقولة الآية الكريمة الَّتي تجعل الإنسان مسؤولاً، عن سمعه وبصره وفؤاده، أمام واهب السمع والبصر والفؤاد.

في رحاب الآيات:

إن الانقياد الأعمى وراء مبدأ أو غاية ما، دون دراسة أو حسن تبصُّر، يُعَدُّ خروجاً على قوانين الله، إذ لا يجوز تعطيل أدوات التمييز كالسمع والبصر الَّتي ترشد الفؤاد. والفؤاد يعني العقل أو القلب الَّذي يتحسَّس الخطأ والصواب إذا كان منوَّراً بالإيمان وذِكر الله تعالى.

تلك كلمات قليلة تقيم منهجاً كاملاً للقلب والعقل، يشمل المنهج العلمي الَّذي عرفته البشرية حديثاً. فالتثبُّت من كلِّ خبر ومن كلِّ ظاهرة ومن كلِّ حركة، قبل الحكم عليها، هو دعوة القرآن الكريم، ومنهج الإسلام الدقيق، ومتى استقام القلب والعقل على هذا المنهج، لم يعد هناك مجال للوهم والخُرافة في عالم الفكر، ولم يبقَ مجال للظنِّ والشبهة في عالم الحكم والقضاء والتعامل، ولم يبقَ مجال للأحكام السطحية والفروض الوهمية في عالم البحوث والتجارب والعلوم. فالأمانة العلمية الَّتي يُشِيدُ الناس بها اليوم، ليست سوى جانب من الأمانة العقلية والقلبية الَّتي يعلنها القرآن، فيجعل الإنسان مسؤولاً عن سمعه وبصره وفؤاده أمام واهب هذه النعم. إنها أمانة الجوارح والحواسِّ والعقل والقلب، أمانة يُسأل عنها صاحبها، ويرتعش الوجدان لثقلها كلَّما نطق اللسان بكلمة، أو روى رواية، أو أصدر حكماً على شخصٍ أو أمرٍ أو حادثةٍ.

فظلمة السمع كامنة في جعل الأذن أداة الاستماع إلى الغيبة واللغو، والرفث والبُهتان، والقذف واللهو والفواحش، أمَّا نوره ففي جعلها أداة الاستماع إلى القرآن والأخبار الصادقة النافعة، والعلوم والحِكم، والمواعظ والنصيحة وقول الحق. وظلمة البصر: في النظر إلى المحرَّمات، ونوره في النظر في القرآن والعلوم وآثار رحمة الله. وظلمة الفؤاد: في إضمار الحقد والحسد والعداوة، وحبِّ الدنيا والغفلة عن الله عزَّ وجل، والتعلُّق بما سواه سبحانه، ونوره في ذِكر الله تبارك وتعالى والإنابة إليه وتصفية القلب من هذه الأوصاف، وتحليته بنقيضها من مكارم الأخلاق والعقائد السليمة.

أخرج الحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيُّما رجل أشاع على رجل مسلم بكلمة وهو منها بريء، كان حقاً على الله أن يذيبه يوم القيامة في النار، حتى يأتي بنفاذ ما قال». وأخرج أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم : «من حمى مؤمناً من منافق، بعث الله ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن قفا مؤمناً بشيء يريد شينه، حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج ممَّا قال». فعلينا أن نصون حواسَّنا عن الفواحش، ونحرص على طهارتها، ولا نلطِّخها برجس المعصية لأننا مسؤولون عنها أمام محكمة ربِّ العالمين.

سورة النساء(4)

قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذينَ آمنوا إذا ضَربْتُم في سبيلِ الله فتَبيَّنوا ولا تقولوا لِمَن ألقى إليكُمُ السَّلامَ لستَ مؤمِناً تَبْتغونَ عَرَضَ الحياةِ الدُّنيا فعندَ الله مغانِمُ كثيرةٌ كذلكَ كُنتُم من قبلُ فَمَنَّ الله عليكم فتبيَّنوا إنَّ الله كان بما تعملونَ خبيراً(94)}

ومضات:

ـ يجب على المؤمن التأنِّي والتروِّي في تبيُّن حقائق الأمور، لأن عدم الرويَّة والتثبُّت قد يؤدِّي به إلى نتائج مفجعة.

ـ يجب أن يقبل المؤمنون السلام ممن يحيِّيهم بتحيَّة الإسلام، وهم غير ملزمين بالتحرِّي عن حقيقة إيمانه، ذلك لأنهم ليسوا مكلَّفين بالكشف عن بواطن القلوب ومكنوناتها، فهم يحكمون بالظاهر فيما يتعلَّق بالعقيدة والإيمان، والله يتولَّى السرائر.

ـ المؤمن يخلص النية في سعيه في سبيل الله، ويقدِّم مصلحته الأخروية على مصالحه الدنيوية مهما كانت مغرية مُلِحَّةً، ويتحرَّى شرعيتها كيلا يفوِّت ما ادَّخره الله تعالى له من عظيم الأجر والثواب. وهذا لا يمنعه من السعي الشريف، وراء المكاسب الدنيوية الحلال، ليوظِّفها في سبيل تحقيق الكفاية والسعادة لنفسه وأسرته ومجتمعه.

ـ يجب أن يفطن الداعي إلى الله إلى دورة الحياة، وأن يعود بذاكرته إلى بدايات سلوكه طريق الإيمان، كي يعامل الآخرين بقدر إيمانهم ويخاطبهم بحسب مستواهم العقلي والروحي.

ـ إن الله تعالى خبير بالأعمال الَّتي نقوم بها، ولا يخفى عليه شيء من بواعثها.

في رحاب الآيات:

لا تخلو صفوف أتباع أيِّ شريعة من الشرائع على مرِّ الزمان، من فئة متصلِّبة متطرِّفة، تنكر على الناس إيمانهم، وتطعن بسلامة عقيدتهم، حتى ولو نطقوا بالإيمان، وتقيَّدوا بأحكام العبادات. فتراهم يُشهرون سلاح التكفير في وجه من يخالفهم من الناس دون ورع وبلا هوادة. والسبب الَّذي يدفعهم إلى ارتكاب هذه المخالفات والمغالطات هو فهمهم الخاطئ للدِّين وتعاليمه، أو أمراض نفسية مستحكمة فيهم، وشهوات مستعرة في دخائلهم، لا يمكن أن يكون لها سلطان على المؤمن، الَّذي يعي دين الله جيداً ويطبِّق تعاليمه، ويلتزم بالدعوة إلى الله ونشر لواء العلم والسلام والإخاء.

إن أمثال هؤلاء موجودون في كلِّ زمان ومكان، والآية الكريمة، تدعوهم ليخفِّفوا من غلوائهم فتقول: لا تحسبوا أن كلَّ من اشتبهتم في كونه كافراً هو كافر، إذ ربَّما يكون الإيمان قد طاف في سماء قلبه وألـمَّ بها إن لم يكن قد تمكَّن فيها بعد. فإذا انطلقتم للدفاع عن دين الله فتأنَّوا في اتِّهام من اشتبه عليكم أمره ولم تتبينوا حاله بعد، أَعَدُوٌّ هو أم مسالم، ولا تعجلوا في محاربته إلا إذا تحقَّق لكم أنه يشنُّ حرباً على دين الله ورسالته، فليس الهدف الأصلي من الجهاد قتل الأعداء والتخلُّص من أجسادهم، بل قتل العداوة في قلوبهم وتحويلهم إلى إخوة وأصدقاء. فإذا استسلم أحدهم وعرض على المؤمنين السلام فعليهم أن يقبلوه وأن يَعْرُضوا الإيمان عليه بشكل ودِّي مقبول، وأن يقولوا له قولاً ليِّناً؛ كما أمر الله تعالى موسى وهارون عليهما السَّلام حين أرسلهما إلى فرعون قائلاً: {فقولا له قولاً لَيِّناً لعلَّهُ يتذكَّرُ أو يخشى} (20 طه آية 44) فما هم بأكرم على الله من الأنبياء ولا ذاك الإنسان بأعتى عند الله من فرعون.

وقد ضربت الآية لهؤلاء القوم من المسلمين الَّذين كانوا يشتدُّون على من يظنُّون فيه الكفر دون أن يتحقَّقوا منه، مثلاً مستمداً من سلوكهم لتكون التذكرة أقوى والموعظة أبلغ؛ حيث كانوا هم أنفسهم في بدء الدعوة يُخفون إيمانهم عن قومهم خوفاً وتقيَّة، حتَّى منَّ الله عليهم بإعزاز دينه، وأظهرهم على المشركين. هذه حالهم في بدء الإسلام، وهي حال هذا الإنسان الآن، لذلك يدعوهم لأن يقبلوا إيمانه، ويعملوا على زيادة حلاوته في قلبه، وتقوية أواصره في صدره، والله هو الَّذي يتولَّى السرائر وهو نِعْمَ المجازي ونِعْمَ المثيب، وهو أيضاً صاحب القرار في تمييز المؤمن من الكافر، ولا يحقُّ لأحد من البشر أن يتطاول بأخذ حقِّ الحكم على إيمان الناس، بل يتعامل مع الناس محسناً الظنَّ بهم، والله تعالى أحقُّ بالغيرة على دينه من جميع العباد.