b8-k2-f3

الفصل الثالث:

الإحســان

سورة النحل(16)

قال الله تعالى: {إنَّ الله يأمرُ بالعدلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذي القُربى وينهى عن الفحشاءِ والمنكرِ والبغيِ يَعِظُكمْ لعلَّكم تَذَكَّرون)(90)}

سورة النساء(4)

وقال أيضاً: {واعبُدوا الله ولا تُشرِكوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القُربى واليتامى والمساكينِ والجارِ ذِي القُربى والجارِ الجُنُبِ والصَّاحبِ بالجَنبِ وابنِ السَّبيلِ وما مَلَكتْ أَيمانُكم إنَّ الله لا يُحبُّ من كان مُخْتالاً فخوراً)(36)}

ومضات:

ـ يظهر أثر العبادة الحقيقية في الإحسان إلى الناس، وسائر مخلوقات الله، بدءاً من الأقربين وانتهاءً بكلِّ ذي حياة من إنسان وحيوان ونبات.

ـ لم يكتف الإسلام بزرع بذور الأخلاق الفاضلة والصفات الجليلة في النفوس، بل حماها من كلِّ فحشاء ومنكر وبغي، ودعَّم هذه الحماية بإنذار المعتدين عليها بالعقوبات الزاجرة الرادعة.

ـ الإقرار لله تعالى وحده بالربوبية، وتنزيهه عن أن يكون له شريكٌ، هو السبيل إلى جمع قلوب الناس على الخير والإحسان.

ـ إن الله تعالى لا يحبُّ من يسيء إلى غيره بالتكبُّر في القول أو العمل، أو التعالي على الخلائق والشعور بالعظمة والكبرياء تجاههم.

في رحاب الآيات:

تمزج الآيات الكريمة بين العبادة الصالحة القائمة على عقيدة التوحيد، وبين المعاملة الطيِّبة، لأنهما كلٌّ لا يتجزَّأ، فهذه الوحدة هي منبع كلِّ التصورات الأساسية للعلاقات الإنسـانية في الإسـلام، فعندما يؤمن العبد تمام الإيمان بعبوديته لله تعالى الواحد الأحد، يتكيَّف ضميره وسلوكه مع ما يحبُّه هذا الربُّ المعبود، فتغدو عبادته أعمالاً تترجم ما يعتمل في صدره من تقوى الله عزَّ وجل ومراقبته، وتنقلب أعماله كلُّها إلى عبادات عندما يخلص فيها النيَّة لله، فإذا تربَّى الناس هذه التربية، تحوَّلت حياة المجتمع بهذه النماذج الصالحة إلى وحدة متماسكة، متينة البنيان، تحكم أفرادها علاقات اجتماعية واقتصادية وسياسية وأخلاقية، ترتكز على أسس المنهج الربَّاني السليم، وتدور حول محوري العدل والإحسان، فإن عجز الناس عن الوصول لأحدهما أدركوا الآخر، فيَسعَدوا ويُسعِدوا؛ لأن العدل يجعلهم يقيمون التوازن والاعتدال بين ما تهوى أنفسهم وما يحبُّه الله منهم، فينصفون الناس من أنفسهم ويعطون كلَّ ذي حقٍّ حقَّه. أمَّا الإحسان فهو الدرجة الَّتي تسمو فوق العدل وتتجاوزه إلى البرِّ والإكرام، وهو الفضيلة الَّتي تقود صاحبها إلى الفضائل والأخلاق القويمة كافَّة، لأنه يعني الرُّقي بالنفس بعد مغالبتها ومجاهدتها إلى مستوى رفيع، بالعفو عن المسيء، والصفح عن المذْنِب، وصنع الجميل لذاته لا لدفع مغرم ولا لكسب مغنم، بل حبَّاً في الله وإيثاراً لمرضاته.

والأمر بالإحسان يشمل علاقة الإنسان بربِّه وهي الَّتي عبَّر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (رواه مسلم عن عمر رضي الله عنه ) كما يشمل علاقة الإنسان بأسرته، وأُمَّته، والبشرية كلَّها. كذلك أن تحسن إلى الخلق بما أعطاك الله وأراك من سبل الرشاد، فترشدهم وتسلك بهم طريق الحقِّ لـلـوصول إلى كـلِّ خير، قـال تـعـالى: {..وأحسـنْ كمـا أحسـنَ الله إليك..} (28 القصص آية 77). وأعلى مراتب الإحسان، الإحسان إلى المسيء، فقد روي عن الشعبي أنه قال: قال عيسى ابن مريم عليه السلام: (إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك)؛ لأن الإحسان إلى ذوي الأحقاد الدفينة يوصلنا إلى أعماق قلوبهم، ويجعلنا ننتزع جذور العداوة منها، ويؤيِّد هذا قوله تعالى: {ولا تستوي الحسنَةُ ولا السَّيِّئةُ ادْفعْ بالَّتي هي أحسنُ فإذا الَّذي بينَكَ وبينَهُ عداوةٌ كأنَّه وليٌّ حميم * وما يُلَقَّاها إلاَّ الَّذين صبروا وما يُلَقَّاها إلاَّ ذو حظٍّ عظيم} (41 فصلت آية 34ـ35).

وهكذا فإننا نرى أن الإسلام قد شيَّد بناء الأخلاق في نفوس المؤمنين في أقصر وقت عرفه تاريخ الحضارة البشرية، لأنه يرتكز على العدل والإحسان وإيتاء ذوي القربى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فما أعظمها من آية كريمة جمعت الخير كلَّه مكافِحَةً به الشرَّ كلَّه، وهي قوله تعالى: {إنَّ الله يأمُرُ بالعدلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذي القُربى وينهى عن الفحشاء والمُنكرِ والبَغيِ يَعِظُكُمْ لعلَّكُمْ تَذَكَّرون}. قال الحسن رضي الله عنه فيما أخرجه البيهقي: إنه قرأ هذه الآية ثم قال: (إن الله عزَّ وجل جمع لكم الخير كلَّه، والشرَّ كلَّه في آية واحدة، فوالله ما تركَ العدل والإحسان شيئاً من طاعة الله إلا جمعه، ولا تركت الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئاً إلا جمعته). والفحشاء هي المجاهرة بالذنوب والمفاخرة بها، والمنكر هو الذنوب والممارسات الَّتي تستنكرها الطبائع السليمة، أمَّا البغي فهو الظلم والاستعلاء على الناس والتطاول عليهم، وتلمُّس عيوبهم، واستغابتهم، والاعتداء على أموالهم أو حقوقهم أو أمنهم أو سلامتهم. فإذا كانت آية واحدة من آيات القرآن الكريم قد دلَّت بِدِقَّةٍ وشموليَّة على وجوه الخير والشرِّ كلِّها، فكيف بالقرآن الكريم كلِّه الَّذي أُنزِل لينشئ أُمَّة وينظِّم مجتمعاً، ثمَّ ليوحِّد عالماً ويقيم نظاماً عالمياً، يجمع أفراد البشر كافَّة في أسرة واحدة، ليعيش الخلق كافَّة في كنف الله ورحمته، سُعَداء متعاونين متراحمين، حتى تغدو حياتهم الدنيا جنَّة مصغَّرة، فإذا ما انقضت آجالهم فيها، استقبلتهم الجنَّة الحقيقية الكبرى، والَّتي أعدَّ الله لهم فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر؟!

ومن الإحسان برُّ الوالدين اللذين قرن الله تعالى الإحسان إليهما بعبادته وتوحيده إشادة بعلُوِّ مقامهما، ولفتاً للأنظار إلى عظيم حقِّهما عندك وفضلهما عليك، فهما الحلقة الأولى في سلسلة الترابط الاجتماعي، فإذا ما استحكمت الصلة بهما تماسكت الأسرة والمجتمع. والإحسان إليهما يكون بطاعتهما وبرِّهما وخدمتهما والتأدُّب معهما، بألا يرفع الابن صوته عليهما، ولا يثقل في الكلام معهما، وأن يسعى إلى تحقيق مطالبهما والإنفاق عليهما قدر المستطاع، فهما اللَّذان مَنَحاه خلاصة حياتيهما، وعصارة جهديهما، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!

وبعد الإحسان إلى الوالدين يأتي الإحسان إلى ذوي القربى الَّذي من شأنه أن يذيب الفوارق المادية بين خلايا المجتمع، ويربط هذه الخلايا بروابط المحبَّة والتعاون. ويُبنى على هذا مبدأ التكافل الاجتماعي الَّذي يتدرَّج به الإسلام من المستوى الفردي الشخصي إلى المحيط العام، وفق نظريته التطبيقية لهذا التكافل. ولقد أكدَّ النبي صلى الله عليه وسلم على أن صلة الرحم باعثة على كثرة الرزق، وطول العمر، فعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحَبَّ أن يُبْسَطَ له في رزقه ويُنْسَأَ له في أَثَره فَليَصِل رحمه» (متفق عليه) ومعناها التفقُّد لهم بالزيارة والإهداء والإعانة بالقول والفعل. ثم تسمو الدعوة الإسلامية من الإحسان للوالدين وذوي القربى لتشمل اليتامى والمساكين، فيكون واجباً في حقِّهم إذا فقدوا من يقوم بمصالحهم أو ينفق عليهم، فحال المجتمع لا ينتظم ولا تستقيم أموره إلا بالعناية بهم وإصلاح حالهم، وإلا كانوا شوكة مؤلمة في جنبه، ولذلك كان أجر ذلك عظيماً، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله وكالقائم الَّذي لا يفتر وكالصائم الَّذي لا يفطر» (متفق عليه).

وتلفت الآيـة الكريمة نظرنـا إلى من تربطـه بنا قرابة قد لا نأبه لهـا ـ لأن القرب كما يقولون حجاب ـ وهي قرابة الجوار، ومن أحقُّ بحسن المعاملة من جار يسكن معنا في ناحية واحدة، وتربطنا به مصالح مشتركة، قد نلجأ إليه حين الشِّدَّة، ونفزع إليه عند المحنة، وقد نبوح له بمكنونات نفوسنا في حين نضنُّ بذلك على الأهل والأقارب؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره» (رواه أحمد والترمذي)، وعن معاذ رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لمن سأله عن حقِّ الجار: «إن استقرضك أقرضته، وإن استعانك أعنته، وإن احتاج أعطيته، وإن مرض عُدْته، وإن مات تبعت جنازته، وإن أصابه خير سرَّك، وإن أصابته مصيبة ساءتك وعزَّيته، ولا تؤْذِه بقُتار قدرك رائحة اللحم والطعام إلا أن تغرف له منها، ولا تستطل عليه بالبناء لتشرف عليه وتسدَّ عليه الريح إلا بإذنه، وإن اشتريت فاكهة فأهد له منها وإلا فأدخلها سراً، ولا يخرج ولدك بشيء منه ليغيظ به ولده. هل تفقهون ما أقول لكم? لن يؤدِّي حقَّ الجار إلا القليل ممَّن رحم الله» (رواه الخرائطي مرفوعاً). ويطلَق لفظ الجار على كلِّ من يصحبك، إمَّا رفيقاً في سفر، أو جاراً في سكن، أو شريكاً في تعلُّم علم، أو جالساً إلى جنبك في مجلس، أو غير ذلك ممَّن له أدنى صحبة بينك وبينه فعليك أن ترعى له ذلك الحقَّ ولا تنساه.

ثم تذكِّر الآية بضرورة الإحسان إلى ابن السبيل، وهو المسافر الغريب الَّذي انقطع عن بلده وأهله، فالواجب يحتِّم أن نمدَّ له يد المساعدة ليرجع إلى بلده. وهناك العبيد والأرقَّاء الَّذين يكون الإحسان إليهم بتحريرهم وعتقهم وحسن معاملتهم، فلم يرد في القرآن الكريم نصٌّ يُبيح الاسترقاق، وإنما جاءت الدعوة فيه مُلِحَّة إلى العتق، ولم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ضرب الرقَّ على أسير، بل النقيض هو الَّذي فعله؛ فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أعتق من كان عنده من رقيق قبل النبُوَّة، وأعتق كذلك ما أُهدي إليه منهم. ولم يقتصر الإسلام على تضييق المدخل لتجارة الرقيق وحصرها، بل عامل الأرقَّاء معاملة كريمة، وفتح لهم أبواب العتق على أوسع مدى، وبسط لهم يد الحنان، ورفع من شأنهم ولم يجعلهم موضع إهانة ولا ازدراء، ونهى أن يُنادَى أحدُهم بما يدل على تحقيره أو استعباده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يقولنَّ أحدكم عبدي وأَمَتي كلُّكم عبيد الله وكلُّ نسائكم إماء الله ولكن ليقل: غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي» (رواه مسلم وأبو داود)، كما أمر أن يُطْعَمَ ممَّا يأكل المالك ويلبس ممَّا يلبسه، فعن المعرور بن سويد قال: رأيت أبا ذر رضي الله عنه وعليه حُـلَّة ـ ثـوب مبطَّـن فـاخر وهو من ملابـس الوجهـاء والفضلاء ـ وعلى غلامه ـ أي مملوكه ـ مثلها، فسألته عن ذلك، فذكر أنه سَابَّ رجلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيَّره بأُمِّه (قال له يا بن السوداء) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنك امرؤ فيك جاهلية هم إخوانكم وخولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه ممَّا يأكل وليلبسه ممَّا يلبس ولا تكلِّفوهم ما يغلبهم فإن كلَّفتموهم فأعينوهم» (متفق عليه) فقد سمَّى المملوك أخاً ويجب أن يعامل معاملة الأخ، وقال صلى الله عليه وسلم : «للمملوك طعامه وكسوته ولا يُكلَّف من العمل إلا ما يُطيق» (رواه مسلم) ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ظلمهم وإيذائهم فقال: «من لطم مملوكه أو ضربه فكفَّارته عتقه» (رواه مسلم)، ودعا إلى تعليمهم وتأديبهم فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كانت له أَمَةٌ فأدَّبها فأحسن تأديبها، وعلَّمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوَّجها فله أجران.. أجر بالنكاح والتعليم وأجر بالعتق» (متفق عليه).

وقد فتح الإسلام أبواب العتق والحرِّية، واتخذ وسائل شتَّى لإنقاذ الرقيق من العبودية، وجعل ذلك سبيلاً لرحمة الله وجنَّته، قال تعالى: {فلا اقْتَحمَ العقَبَة * وما أدراك ما العقَبَة * فكُّ رقَبَة} (90 البلد آية 11ـ13) كما جعل العتق كفَّارة لبعض الذنوب ومنهاالحنث في اليمين، قال تعالى: {..فكفَّارَتُهُ إطعامُ عَشَرَةِ مساكينَ من أوسطِ ما تُطعِمونَ أهلِيكُمْ أو كسوَتُهُمْ أو تحريرُ رقَبَة..} (5 المائدة آية 89) ومنها القتل الخطأ، قال تعالى: {..ومن قتلَ مؤمناً خطأً فتحريرُ رقَبَةٍ مؤمنةِ..} (4 النساء آية 92) وجعل لشراء الأرقَّاء وعتقهم سهماً من ثمانية أسهم من مصارف الزَّكاة، قال تعالى: {إنَّما الصَّدَقَاتُ للفقراءِ والمساكينِ والعاملينَ عليها والمُؤلَّفةِ قلوبُهُمْ وفي الرِّقَابِ والغارمـينَ وفي سـبيـلِ الله وابـن السـبيـل فريضـةً منَ اللهِ واللهُ عليمٌ حكيمٌ} (9 التوبة آية 60) وأمر الله تعالى بمكاتبة العبد على قدر من المال فقال: {..والَّذين يبْتَغُونَ الكتابَ ممَّا ملكَتْ أيمانُكُم فكاتِبُوهُمْ إن علمْتُمْ فيهم خيراً وآتُوهُمْ من مالِ الله الَّذي آتاكُم..} (24 النور آية 33). والمكاتبة هي اتفاق بين المالك والمملوك على أن يؤدِّي الأخير مبلغاً من المال فيشتري بذلك حرِّيته، وقد أمر الله تعالى هذا المالك أن يستجيب لرغبة المملوك في ذلك وأن يعينه من ماله.

ولا يخفى على كلِّ ذي بصيرة أن الإسلام وقف من الرقيق هذا الموقف الإنساني الأمثل، في وقت كان فيه الرِّق نظاماً عالمياً، ولا يملك وقتها أن يفرض تحريم الرِّق تحريماً قاطعاً على كلِّ المجتمعات، لذلك وضع التشريعات الحكيمة الَّتي تزيل معاناة الرَّقيق في الحاضر، وتسير به إلى الحرِّية في المستقبل. ولو أننا نظرنا إلى المجتمع النبوي لوجدنا أنه لا فرق فيه بين عبد وحر، وقد حرَّر النبي صلى الله عليه وسلم مملوكه زيد بن حارثة رضي الله عنه فما اختلفت النظرة إليه قيد شعرة، فقد كان عزيزاً كريماً وهو مملوك وبقي كذلك بعد الحرِّية، وأبعد من ذلك فقد وَجَدَ في مدرسة الإسلام ومجتمع الإسلام ضالَّته المنشودة وكرامته الإنسانيَّة المحفوظة، حيث رفض العودة إلى أهله بعد الحرِّية وآثر أن يعيش في كَنَفِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كَنَفِ الإسلام في المجتمع الإسلامي الَّذي رفع قدره، فأصبح أميراً على جيش كبير في غزوة مؤتة، هذه هي حال الرَّقيق في ظلال الإسلام رقٌّ لا فرق بينه وبين الحرِّية. وتنتهي الآية الكريمة بالنهي عن كلِّ ما يناقض هذه الأخلاق كالكبر؛ لأنه من أشدِّ أعداء النفس الطيِّبة يوردها موارد الغرور والتعالي فيأنف من أقاربه وجيرانه، ويتعالى على الناس ويرى أنه خير منهم، في الوقت الَّذي لا يجدون فيه مناصاً من مبادلته شعوره والنفور منه، وهذا يستدعي بغض الله له والطرد من رحمته.

سورة لقمان(31)

قال الله تعالى: {ومن يُسْلِمْ وجهَهُ إلى الله وهو مُحْسِنٌ فقد استمْسَكَ بالعُروَةِ الوثقى وإلى الله عاقبةُ الأمور(22)}

ومضات:

ـ من الأخطار المحدقة بالأمَّة أن يقوم المؤمن بعبادات كثيرة لله ربِّ العالمين، دون أن يقرن ذلك بالإحسان إلى من حوله، والاهتمام بشؤونهم وهدايتهم، والعناية بدينهم وتقواهم؛ لأنه يكون بذلك منغلقاً على ذاته، محتكراً للخير دون غيره، منعزلاً عن المجتمع وما ينبغي أن يكون فيه من ترابط وتراحم وتآزر.

في رحاب الآيات:

إن إسلام الوجه إلى الله عزَّ وجل يعني الاستسلام المطلق له مع الإحسان في العمل والسلوك، والطمأنينة لقَدَره تعالى، والانصياع لأوامره. فلا يكفي أن ننقاد للتعاليم الإلهية، وأن ننتفع بها وحدنا، لنكون عباداً صالحين، بل علينا أن نحسن إلى غيرنا بإسداء النصح لهم ومدِّ يد المساعدة إليهم؛ لإنقاذهم وجعلهم ينتفعون بما انتفعنا به من الإيمان وحسن الثِّقة بالله، وأن نستمسك بالعروة الوثقى لتوثيق صلة قلوبنا بالله، وذلك بأن نطمئن ونرضى بكلِّ ما يصيبنا من قَدَر الله، طمأنينة تحفظ للنفس هدوءها واتِّزانها في مواجهة الأحداث. فالرحلة طويلة شاقَّة وحافلة بالأخطار، وخطر التنعُّمِ فيها ليس بأقلَّ من خطر الحرمان، والحاجة فيها ماسَّة إلى السند الَّذي لا يتزعزع، والحبل المتين الَّذي لا ينقطع، بالعروة الوثقى؛ الَّتي هي الاستسلام لله والإحسان إلى عباده، وإلى الله المرجع والمصير. فمن سلك طريق الهدى والنور، وأسلم وجهه لله؛ فقد تخلَّص من التخبُّط في دياجير القلق النفسي، والهمِّ والاكتئاب والضياع.

إن نور الإحسان وفضله يُشِعُّ في الآخرة أيضاً ويؤتي ثماره اليانعة، فقد روى الحاكم والبيهقي بإسناد صحيح عن أنس رضي الله عنه قال: «بَيْنا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذا رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه، فقال له عمر: ما أضحكك يارسول الله بأبي أنت وأمي? فقال: رجلان من أُمَّتي جثيا بين يدي ربِّ العزَّة فقال أحدهما: ياربُّ خذ مظلمتي من أخي، فقال الله: كيف تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء، قال ياربُّ فيحمل من أوزاري. وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء، ثم قال إن ذلك اليوم ليوم عظيم يحتاج الناس أن يُحمَل عنهم من أوزارهم، فقال الله للطالب: ارفع بصرك فانظر، فرفع بصره فقال: ياربُّ أرى مدائن من ذهب وقصوراً من ذهب مُكلَّلة باللؤلؤ فيقول: لأيِّ نبيٍّ هذا، لأيِّ صدِّيق هذا، لأيِّ شهيد هذا? قال الله: هذا لمن أعطى الثمن، فقال ياربُّ: ومن يملك ذلك? قال: أنت تملك ذلك، قال بماذا? قال: بعفوك عن أخيك، قال ياربُّ فإنِّي قد عفوت عنه، قال الله تعالى: فخذ بيد أخيك وأدخله الجنَّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: اتَّقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، فإن الله يُصلح بين المسلمين».