b8-k2-f1

القسم الثاني:

أخلاق اجتماعية دعا إليها الإسلام

الفصل الأوَّل:

وحدة الكلمة والاعتصام بحبل الله المتين

سورة آل عمران(3)

قال الله تعالى: {ياأيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ ولا تَموتُنَّ إلاَّ وأنتُم مسلِمُونَ(102) واعتَصِموا بحَبْلِ الله جميعاً ولا تَفَرَّقُوا واذكُروا نِعمَةَ الله عليكم إذ كُنتُم أعداءً فألَّفَ بين قُلوبِكُم فأصبَحتُم بنعمَتِهِ إخواناً وكُنتُم على شَفا حُفرةٍ منَ النَّارِ فأنقَذَكُم منها كذلك يُبَيِّنُ الله لكم آياتِهِ لَعَلَّكُم تَهتَدُونَ(103)}

ومضات:

ـ تتضمَّن هذه الآيات الكريمة دعوة للمؤمنين كي يجاهدوا أنفسهم، ويستسلموا بكلِّ جوارحهم للإيمان بالله، ويواصلوا العمل حتَّى آخر رمق من حياتهم بما يقتضيه هذا الإيمان.

ـ حين تتغلغل محبَّة الله في القلوب، تتفرع عنها محبَّة لسائر مخلوقاته، وبالسير على نهجه القويم، تتوحَّد الخُطا وتتشابك الأيدي في تعاون وأُلفة، تنأى بالمؤمنين عن مهاوي الهلاك والشقاق، وتجعل منهم إخواناً متحابِّين.

في رحاب الآيات:

يأمر الله تعالى، من خلال هاتين الآيتين جميع المؤمنين في كلِّ أرجاء المعمورة، أن يتركوا الشهوات والشبهات ويزكُّوا أنفسهم، كي يتمكَّن الإيمان من قلوبهم، وتترسَّخ جذوره في أعماقهم، فيستسلموا استسلاماً كاملاً لشريعة السماء، ويخلصوا في العمل من أجل السَّلام والإخاء الإيماني، دون كلل أو ملل حتَّى الرمق الأخير. ويناديهم الله تعالى بهذا النداء المحبَّب: {ياأيُّها الَّذين آمنوا} ليستثير عواطفهم الكريمة، فيتلقَّوا أوامره ونواهيه بقلوب مؤمنة مطمئنة، ومن هذه الأوامر الدعوة إلى التَّقوى؛ وهي أن يُطاعَ الله فلا يُعصى، وأن يُذكرَ فلا يُنسى، وأن يُشكرَ فلا يُكفر، وكلَّما زادت تقوى القلب استيقظ شوقه إلى مقام أرفع ودرجة أرقى.

فإذا تمكَّن الإيمان من القلب، وترسَّخت جذوره في صميم النفس، أثمر حالة من حالات الرضا، الَّتي تفجِّر الطاقات الكامنة، وتحرِّك القوى الهاجعة في أعماق الإنسان، فيندفع إلى الخير اندفاع المحبِّ إلى ما يُحِبُّ، ويبتعد عن الشرِّ ابتعاد الكاره عما يكره، وهذه المنزلة لا يصل إليها إلا من اتقى المحارم والشُّبُهات، واقتصد في الشهوات والملذَّات، وجاهد نفسه وتجافى عن الدنيا دار الغرور؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الدنيا حلوةٌ خضِرةٌ وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتَّقوا الدنيا..» (رواه مسلم).

وتؤكِّد الآية على ضرورة تمسُّك المؤمنين بالتَّقوى، وأن يبقوا على تسليمهم المطلق لله تعالى في جميع أوقات حياتهم وسائر ظروفهم، ليموتوا مسلمين حين انقضاء آجالهم. فمن شبَّ على شيء شاب عليه، ومن عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه.

والله سبحانه إنما دعا الناس إلى الإسلام لأنه يجمع القلب إلى القلب، ويضمُّ الصفَّ إلى الصفِّ، هادياً لإقامة كيان موحَّد، ونبذ عوامل الفرقة والضعف وأسباب الفشل والهزيمة؛ ليكون لهذا الكيان القدرة على تحقيق الغايات السامية، والمقاصد النبيلة، والأهداف المثلى الَّتي جاءت بها رسالته العظمى. فهو يكوِّن روابط و صِلات بين أفراد المجتمع لتُوجِد هذا الكيان وتُدعِّمه، وهذه الروابط تقوم على الأخوَّة المعتصمة بحبل الله، وهي نعمة يمنُّ الله بها على المجتمع، ويهبها لمن يحبُّ من عباده ويحبُّونه، فما من شيء يجمع القلوب مثلُ الأخوَّة في الله، حيث تتلاشى إلى جانبها الأحقاد القديمة، والأطماع الشخصية، والنزعات العنصرية. قال تعالى: {.. وَمَن يَعْتَصِمْ بالله فَقد هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (3 آل عمران آية 101).

وإذا كانت وحدة الكلمة هي القوَّة الَّتي تحمي دين الله، وتحرس دنيا المسلمين، فإن الفرقة هي الَّتي تقضي على دينهم ودنياهم معاً. ولن يصل المجتمع إلى تماسكه إلا إذا بذل له كلُّ فرد من ذات نفسه، وكان عوناً له في كلِّ أمر، ليصبح أفراده كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الَّذي رواه النعمان بن بشـير رضي الله عنه : «مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجـسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (متفق عليه)، وما رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً، وشبَّك بين أصابعه» (متفق عليه).

وخير مثال على هذا؛ الأمَّة العربية الَّتي كانت في بدء أمرها فرقاً متعادية وقبائل ممزَّقة، ثمَّ هبَّت عليها نفحة الإسلام فجمعت شتاتها، ووحَّدت كلمتها، فانطلقت إلى غايتها الكبرى في توحيد العالم تحت راية الهداية والعلم والأخلاق الفاضلة، بعد أن عرفت طريقها، وأحكمت خطَّتها، فجنت أطيب الثمرات من وراء الوحدة والاتحاد؛ وأدركت عملياً ـ بعد أن آمنت عقلياً وقلبياً ـ أن الوحدة قوَّة، وأن التفرُّق ضعف، وأنه ما من شدَّة تعرَّضت لها إلا كان سبَبُها الاختلاف والانقسام، لذلك كان همُّ أعدائها أن يتَّبعوا معها سياسة (فرِّق تَسُدْ)، وأوجدوا بذلك الثغرات الَّتي نفذوا من خلالها إلى مآربهم. وقد علَّم الرسول صلى الله عليه وسلم أتباعه كيف يكونون يداً واحدة، وقلباً واحداً في مادياتهم ومعنوياتهم وحركاتهم وسكناتهم، فعن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلِمُه ولا يُسلِمهُ، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كُربةً فرَّج الله عنه بها كُربة من كُرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة..» (متفق عليه).

وقد صوَّر النصُّ القرآني حال القوم حين كانوا متفرِّقين مختلفين، في مشهدٍ حيٍّ متحرِّك تضطرب له القلوب، فمثَلُهم في التفرقة كمثل قوم أشرفوا على هوَّةٍ بركانية ملتهبة، وبينما هم على وشك السقوط في النار إذا بيد العناية الإلهية تمتَدُّ إليهم فتتدارك هلاكهم وتنقذهم، وإذا بحبل الله يؤلِّف بينهم، ويجمع شملهم. فما أجملها من نعمة قد تفضَّل الله بها عليهم، فأكرمهم بالنجاة والخلاص بعد الخطر والترقُّب، وقد بَـيَّن الله تعالى فضله في تأليف تلك القلوب، وإنقاذها من براثن الفرقة والضياع بقوله سبحانه: {..هو الَّذي أيَّدَكَ بنصرِهِ وبالمؤمنين * وألَّف بين قلوبِهِمْ لو أنفقتَ ما في الأرضِ جميعاً ما ألَّفتَ بين قلوبِهِمْ ولكنَّ الله ألَّفَ بينهم إنَّه عزيزٌ حكيمٌ} (8 الأنفال آية 62ـ63)، وبذلك وضَّح الله طريقه الَّذي ارتضاه للناس كي يسلكوه فيهتدوا به إلى سعادة الدارين.

سورة الأنعام(6)

قال الله تعالى: {إنَّ الَّذين فرَّقوا دينَهُمْ وكانوا شِيَعاً لست منهم في شيءٍ إنَّما أمرُهم إلى الله ثمَّ ينبِّئُهم بما كانوا يفعلون(159)}

ومضات:

ـ إن شريعة الإسلام تهدف إلى توحيد الشعوب وإذابة عوامل التفرقة بينها، ونشر لواء الأخُوَّة والمحبَّة بين أفرادها؛ لذا كان من المستغرب حقاً أن تظهر قوى مفرِّقة ومصدِّعة لهذه الوحدة الإيمانية الإنسانية باسم الدِّين، ودافعها الخلافات السياسية والمذهبية.

ـ إن الفئات المتصلِّبة المصرَّة على التفرقة ليست من شرع الله في شيء، ورسول الله بريء منها إلى يوم القيامة.

في رحاب الآيات:

إن تعاليم السماء كلَّها وحدة متَّصلة، يأخذ بعضها بيد بعض في نسق منسجم ومنهج سليم، وكلُّها تدعو إلى وحدانيَّة الله ونشر السلام على الأرض، ولكنَّ عقول الناس متباينة في مدى فهمها واستيعابها لهذه التعاليم. لذلك نرى بعض الفئات تتقارب، إمَّا بسبب طبيعتها المتشابهة أو بسبب مصالحها المشتركة، وتتَّخذ لنفسها منحىً مذهبيّاً خاصّاً يبعدها عن منهج الصالح العام، فتتشعَّب الطرق أمام الناس ويضيعون في متاهات التعصُّب، وهذه الفرق تبني لنفسها قواعد فكرية تخالف بها غيرها من المجموعات، ولا تلبث أن تتحوَّل إلى قوالب فكرية جامدة متحجِّرة، تكفِّر غيرها وتناصبه العداء، مُعْرِضَةً عن الحوار العقلاني النزيه، مستبدَّةً بأفكارها، محدثة ما لم يكن في صلب العقيدة، وضاربة حول ذاتها سوراً يمنعها من التواصل مع الآخرين.

وهذه الفرق تُعَدُّ أداة هدم في وحدة المجتمع، وعوامل تفرقة وتشرذم، وهي بعيدة عن الدِّين، وإن كانت في الظاهر تدعو إليه، روى بقيَّة بن الوليد بسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: «إن الَّذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيعاً، إنما هم أصحاب البدع، وأصحاب الأهواء، وأصحاب الضلالة من هذه الأمَّة، ياعائشة. إن لكلِّ صاحب ذَنْب توبة غير أصحاب البدع وأصحاب الأهواء ليست لهم توبة، وأنا منهم بريء، وهم مني بُرآء» (أخرجه الترمذي وابن أبي حاتم والبيهقي وغيرهم).

وما نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم التوبة عنهم إلا لعِظم ذَنْبهم الَّذي أصاب من وحدة الأمَّة مقتلاً، وأوردها موارد الضعف والتهلكة، فأيُّ استغفار ينفع في ذلك، وأيُّ توبة تفيد هؤلاء؟ والله ينذرهم بأنه سيجازيهم على مفارقة دينهم، ويذيق بعضهم بأس بعض، ويسلِّط عليهم أعداءهم ويذيقهم ألوان الذلِّ والهوان. وذلك ما لم يرجعوا عن غيِّهم، وينخرطوا من جديد في صفوف المجتمع الإسلامي الواحد، نابذين خلافاتهم وأحقادهم، متخلِّين عن أهوائهم، عازمين على اتِّباع ما يرضي ربَّهم، قال تعالى: {ولا تكونوا كالَّذين تَفَرَّقوا واختلفوا من بعد ما جاءَهُمُ البيِّناتُ وأولئك لهم عذابٌ عظيم} (3 آل عمران آية 105).

فالوحدة سُنَّةُ الإسلام وفريضته، والفرقة والتمزُّق بدعة الجاهلية، والمسلمون أمَّة واحدة؛ إلَهُهم واحد، ونبيُّهم واحد، وكتابهم واحد، وقبلتهم واحدة، الأخوَّة شعارهم، والجماعة سِمةٌ في عباداتهم، والجمعة يوم عظيم من أيام أعيادهم؛ يجتمعون فيه على طاعة الله والاعتصام بحبله، وهم يبتغون بعد ذلك ما يشاؤون من عطائه وفضله. والحجُّ أكبرَ تجمُّع إيماني لهم، لحلِّ مشاكلهم الاجتماعية والاقتصادية، ودعم وحدتهم وتوحيد صفوفهم، إضافة لسموِّهم الروحي والأخلاقي.

سورة الجمعة (62)

قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا إذا نُوديَ للصَّلاةِ من يومِ الجُمُعَةِ فاسعَوا إلى ذكرِ الله وذَرُوا البيعَ ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون(9) فإذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فانتشروا في الأرضِ وابتَغُوا من فضلِ الله واذكروا الله كثيراً لعلَّكم تُفلحون(10) وإذا رَأَوْا تجارةً أو لهواً انفضُّوا إليها وتركوك قائماً قلْ ما عند الله خيرٌ من اللَّهوِ ومن التِّجارةِ والله خيرُ الرَّازقين(11)}

ومضات:

ـ يدعو الله تعالى المؤمنين حين يُؤذَّن لصلاة الجمعة، إلى ترك جميع أعمال البيع والشراء وغيرها، والمسارعة إلى جلسة يشتركون فيها جميعاً بذِكرِ الله تعالى وينالون الخير العميم، فإذا انتهَوا من هذا العمل التعبُّدي الجماعي المميَّز، حلَّ لهم الانتشار في الأرض لمتابعة تجارتهم، أو تقديم الخدمات الاجتماعية، على أن يكونوا في جميع أحوالهم متَّصلي القلوب بالله لينجحوا في مساعيهم.

ـ العطاء الإلهي الروحي لا يمكن أن يقارن بأيِّ رزق مادي يناله المرء، وقد كان هذا العطاء يتنزَّل على الصحابة بملازمتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لذلك عاتب الله تعالى الَّذين أشاحوا بوجوههم عن هذا العطاء، وانفضُّوا إلى القافلة التجارية الَّتي مرَّت أثناء صلاة الجمعة، تاركين الرسول صلى الله عليه وسلم قائماً يخطب، غير مدركين لقيمة ما فرَّطوا به من رزق روحي عظيم، أثمن وأغلى من الرزق المادي، والله تعالى هو الرزاق في جميع الأحوال.

في رحاب الآيات:

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه أُدخل الجنَّة، وفيه أُخرج منها، ولا تقوم السَّاعة إلا في يوم الجمعة» (رواه الخمسة إلا البخاري). ويستحبُّ للمسلم أن يتطهَّر ويتنظَّف ويتجمَّل فيه عندما يريد الذهاب للصلاة؛ لأنه اليوم الَّذي هدى الله الأمَّة الإسلامية إليه ليكون لها عيداً. وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من اغتسل يوم الجمعة، ولبس من أحسن ثيابه، ومسَّ من طيب إن كان عنده، ثمَّ أتى الجمعة فلم يتخطَّ أعناق الناس، ثمَّ صلَّى ما كتب الله له ثمَّ أنصت إذا خرج إمامه حتَّى يفرغ من صلاته، كانت كفَّارة لما بينها وبين جمعته الَّتي قبلها» (رواه أبو داود)، وأخرج ابن أبي شيبة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن يوم الجمعة مثل يوم عرفة، تُفتح فيه أبواب الرحمة، وفيه ساعة لا يَسألُ الله العبدُ شيئاً إلا أعطاه، قيل: وأي ساعة؟ قالت: إذا أذَّن المؤذِّن لصلاة الغداة).

فيوم الجمعة في الشريعة الإسلامية هو يوم التجمُّع يتنادى المسلمون فيه من كلِّ حدب وصوب، ويزحفون إلى مساجد الله زرافات ووحدانا، ليوثِّقوا روابطهم الاجتماعية، ويتفقَّدوا أمور إخوان لهم لم يحضروا للصلاة، وليتباحثوا في أمورهم العامَّة ممَّا فيه مصلحة المجتمع وبناؤه علمياً وتربوياً. وهذا كلُّه في الحقيقة ذكر عملي يتذكَّر فيه المسلمون واجبهم نحو عباد الله، ويمدُّون إليهم يد العون والمساعدة، وهو أجدى من كلِّ بيع أو شراء. لذلك عاتب الله عزَّ وجل بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كان منهم، من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة، إلى التجارة الَّتي قدمت المدينة يومئذ، فقال سبحانه: {وإذا رَأَوْا تجارةً أو لهواً انفضُّوا إليها وتركوك قائماً..}، فقد أخرج عبد بن حميد عن الحسن رضي الله عنه قال: «بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ قدمت عير المدينة، فانفضُّوا إليها وتركوا النبي، فلم يبق معه إلا رهط منهم أبو بكر وعمر، فنزلت هذه الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والَّذي نفسي بيده لو تتابعتم حتَّى لا يبقى معي أحد منكم لسال بكم الوادي ناراً».

فإذا انقضت الصلاة فإن لهم مطلق الحرية في أن يتفرَّقوا لقضاء مصالحهم الدنيوية، بعد أن أدَّوا ما ينفعهم في آخرتهم، منتظرين الثواب من الله، ذاكرين إيَّاه، في جميع شؤونهم، وهو العليم بالسرِّ والنجوى، ولا تخفى عليه خافية. وفي هذا إرشاد إلى أمرين:

أوَّلهما: أهميَّة الصلة بالله أثناء القيام بأعمال الدنيا، حتَّى لا يطغى حبُّها على النفوس، فتتهافت على جمع حطامها بأيِّ وسيلة توفرت من حلال أو حرام.

وثانيهما: إن في هذه الصلة فوزاً في الدنيا والآخرة، أمَّا في الدنيا فلأن من راقب الله فلا يغِشُّ في كيل أو وزن، ولا يغيِّر سلعة بأخرى، ولا يكذب في صفقة، ولا يحلف كذباً، ولا يخلف موعداً، ومتى كان هذا حاله اشتُهِر بين الناس بحسن المعاملة، فأحبُّوه، وصار له من حسن الأحدوثة ما يضاعف له الله به الرزق. وأمَّا في الآخرة فلأنه يفوز برضوان ربِّه: {..ورضوان من الله أكبر ذلكَ هُوَ الفوزُ العظيمُ} (9 التوبة آية 72)، وبجنَّات تجري من تحتها الأنهار، ونعم أجر العاملين.

هذا هو التوازن الَّذي يتَّسم به المنهج الإسلامي، فهو يقيم معادلة متكافئة الطرفين بين الإيفاء بمقتضيات الحياة في الأرض بالعمل الدؤوب، وبين تغذية الروح بانقطاع القلب عمّا سوى الله وتجرُّده للذِّكر، وهي ضرورية لحياة القلب لا يصلح بدونها للاتصال والتلقِّي والنهوض بتكاليف الأمانة الكبرى. فذِكر الله أثناء كسب الحلال من الرزق، والشعور المتصل بجلاله هو الَّذي يحيل العمل إلى عبادة، وبذا يتحقَّق للمؤمن الذِّكر الخالص والانقطاع الكامل، والتجرُّد المحض.

وما أغلاها من ساعات نصرفها في جو التعبُّد الجماعي الباعث للعزائم، المقوِّي للهمم، ننصرف بعدها إلى شؤوننا طوال الأسبوع، ونحن مشحونون بالقوَّة الروحية الَّتي تعيننا على القيام بشؤون ديننا ودنيانا. وبهذا يستمرُّ ذِكرنا لله، وتوجُّهنا لحضرته، وإنابتنا إليه في كلِّ الأوقات. ومن هنا كان اجتماع يوم الجمعة فرضاً لمصلحة الفرد والجماعة، لأن فيه ترابط وتكامل اجتماعي، وبالتالي قوَّة للمجتمع بأسره.

وهكذا فإن اجتماع المؤمنين على التعبُّد والتفقُّه والاهتمام بشؤون الأمَّة، أفضل من المكاسب الدنيوية، الَّتي يمكن تأجيل مداولتها إلى ما بعد الانتهاء من الأمور العامَّة الَّتي تتعلَّق بمصالح المسلمين. والسعي الحقيقي هو لله ربِّ العالمين، فهو الرزَّاق المعطي، وهو خير مؤدِّب يعرِّفنا قيمة العلم والعمل المشترك، وليعلم الجميع أن مفاتيح العطاء بيده عزَّ وجل وهو خير الرازقين.