b13-f3

الفصل الثالث:

الأهلَّة والمواقيت

سورة الرحمن(55)

قال الله تعالى: {الرَّحمنُ(1) علَّمَ القرآنَ(2) خلَقَ الإنسانَ(3) علَّمهُ البيان(4) الشَّمسُ والقمرُ بِحُسْبان(5) والنَّجمُ والشَّجرُ يَسْجُدَان(6) والسَّماءَ رفعَها ووضعَ المِيزان(7) ألاَّ تطغَوْا في المِيزان(8) وأقيموا الوزنَ بالقِسْطِ ولا تُخسِروا المِيزان(9)}

ومضات:

ـ يسَّر الله تعالى للإنسان سبل تعلُّم علوم القرآن، والرشف من أنواره الربَّانية؛ بعد أن زوَّده بنعمتي، العقل والنطق، كوسيلتين يتمكَّن بهما من التخاطب والتفاهم مع من حوله.

ـ إن في خلقه تعالى للشمس والقمر حِكَماً بالغة، منها حساب الأيام والأشهر والسنين، ذلك أنهما يَسْبَحان في الفضاء بدقَّةٍ متناهية، كفيلة بإيجاد حسابات شمسية وقمرية متناهية الدقَّة.

ـ الزروع بأنواعها المختلفة، والأشجار المعطاء، تقرُّ جميعها بفضل وجودها لخالقها عزَّ وجل.

ـ رفع الله تعالى السماء ضمن موازين معينة، وجعل لكلِّ أمر في هذا الكون ميزاناً، كي تصلح الأمور ويسود الانضباط والتوازن في جميع ما خلق، ولكي تتعايش البشرية ضمن الميزان الإلهي الحق. ولهذا فهو سبحانه يأمر النَّاس باستعمال ميزان الأشياء، بدقَّة واستقامة، لضمان استمرار مسيرة الحياة، بحفظ الحقوق، وأداء الواجبات.

في رحاب الآيات:

عن جابر رضي الله عنه قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا فقال: لقد قرأتها على الجنِّ ليلة الجن فكانوا أحسن مردوداً منكم؛ كنت كلَّما أتيت على قوله: {فبأيِّ آلاء ربِّكما تكذِّبان} قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذِّب فلك الحمد» (رواه الترمذي والحاكم)، وعن الإمام علي ـ كرَّم الله وجهه ـ قال: سـمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لكلِّ شيء عروس، وعروس القرآن الرحمن» (أخرجه البيهقي في الشعب) ففي هذه السورة تعريفٌ بالله الرحمن الرحيم، الَّذي خلق الإنسان، وأهَّله لتعلُّم القرآن، وأعطاه الاستعداد للاستزادة من العلوم، والحكمة والآداب، ومعرفة قانون الأسباب والمسبِّبات. ثم إن الله عزَّ وجل عدَّد نِعمهُ على عباده، فقدَّم أعظمها نعمةً، وأعلاها رتبةً، وهو القرآن الكريم، لأنه الترجمة الصادقة الكاملة لقوانين هذا الخلق، ومنهج السماء للأرض الَّذي يصل أهلها بناموس الوجود، ويقيم عقيدتهم وتصوُّراتهم وموازينهم وقيمهم ونظمهم وأحوالهم على الأساس الثابت الَّذي يقوم عليه الكون، فيمنحهم اليسر والطمأنينة والتفاهم والتجاوب مع هذا النظام المتكامل البديع.

فمن آلاء الله أنه خلق الإنسان، وعلَّمه التعبير عما يختلج بخاطره ويدور في خلده، وهذه مِنَّةٌ كبرى لا تعدلها مِنَّة أخرى، ولكنَّ الإنسان ينسى بطول الأُلفة عظمة هذه الهبة، فيردُّنا القرآن إليها، ويوقظ عقولنا لنتدبَّرها، ونشكر المنعم عليها.

ومن إعجازه تعالى أنه خلق الشمس والقمر، يجريان بدقَّة متناهية، لنضبط أمورنا ضمن مواقيت محدَّدة، فنحسب الأشهر والساعات، ونلزم أنفسنا بالمحافظة على المواعيد، ونحسب مطلع القمر بدقَّة ليكون عندنا تقويم قمري متكامل لا خلل فيه. ومع العلم بأن الشمس ليست أكبر ما في السماء من أجرام، فهنالك في هذا الفضاء، الَّذي لا يعرف له البشر حدوداً، ملايين الملايين من النجوم، ولكنَّها أهمُّ نجم بالنسبة لكوكب الأرض، الَّذي يعيش هو وسكانه جميعاً على ضوئها وحرارتها وجاذبيتها. وكذلك القمر، وهو تابع صغير للأرض، ولكنَّه شديد التأثير عليها، وهو العامل الأهمُّ في حركة المدِّ والجزر في البحار. إن حجم الشمس، ودرجة حرارتها، وبُعدها عنا، وسيرها في فلكها، وكذلك حجم القمر وبُعده ودورته، كلَّها محسوبة حساباً كامل الدقَّة، بالقياس إلى آثارهما في حياة الأرض، وبالقياس إلى وضعهما في الفضاء مع النجوم والكواكب الأخرى. فالشمس تبعد عن الأرض اثنين وتسعين مليوناً ونصف المليون من الأميال، ولو كانت أقرب إليها من هذا لاحترقت أو انصهرت أو استحالت بخاراً يتصاعد في الفضاء، ولو كانت أبعدُّ ممَّا هي عليه لأصاب التجمُّد والموت جميع ما على الأرض، وانعدمت عليها الحياة، علماً بأن الَّذي يصل إلينا من حرارة الشمس لا يتجاوز جزءاً من مليوني جزء من حرارتها، وهذا القدر الضئيل هو الَّذي يلائم حياة الإنسان.

وكذلك القمر في حجمه وبعده عن الأرض، فلو كان أكبر أو أقرب مما هو عليه، لكان المدُّ الَّذي يُحدثه في بحار الأرض ومحيطاتها، كافياً لغمرها بطوفان يعمُّ كلَّ ما عليها. فالوجود كلُّه متناسق ومتوازن مع بعضه بعضاً، وهو مرتبط ارتباط العبودية بمصدره الأوَّل، وخالقه المبدع؛ والنجم والشجر فيه يدلان على هذا التناسق والتوازن، فهما يخضعان لله وينقادان، كما ينقاد الوجود بأسره للرحمن فيما يريده، (النجم هو النبات الَّذي لا ساق له، كالعشب والبقل)، ويتمثَّل هذا الانقياد بإنتاج الخضار والثمار والفواكه؛ وما اختلاف الثمر في الشكل والهيئة، واللون والمقدار، والطعم والرائحة والعناصر المكوِّنة لها من أملاح ومعادن بشكل موزون ومتوازن مع مقدار حاجة الإنسان والحيوان من هذا النبات، إلا انقياداً للقدرة الَّتي أرادت ذلك قال تعالى: {والأرضَ مَدَدْناها وألقينا فيها رواسيَ وأَنْبتنا فيها من كلِّ شيء موزون)} (15 الحجر آية 19). وتشير الآية إلى السماء لتنبيه القلب الغافل، وإنقاذه من بلادة الأُلفة، وإيقاظه لرؤية عظمة هذا الكون وتناسقه وجماله، وإلى قدرة اليد الَّتي أبدعته وجلالها. فمن عظمة رفع السماء الهائلة المترامية الأطراف، إلى إقامة ميزان الحقِّ، الَّذي وضعه الله تعالى ثابتاً راسخاً مستقرّاً، لتقدير القيم، قيم الأشخاص والأحداث كي لا يختلَّ تقويمها.

إن هذا الكون بعظمته، ابتداءً من نجومه العملاقة، وانتهاءً بشجره ونباته الصغير، كلَّه مسخَّر لأمر الله، وطوع قدرته وإرادته، وما بين السماء والأرض نجد الأمور متوازنة منتظمة، فكلٌّ في فلك يسبحون، وكلٌّ له مساره ومداره، وكما النظام في السماء وعوالمها، فكذا عالم الأرض، يجب أن يسوده التوازن؛ فلا يطغى قويٌّ على ضعيف، ولا غنيٌّ على فقير، ولا عالم على جاهل، ولا روح على مادَّة، ولا مادَّة على روح، ولا عقل على عاطفة، ولا عاطفة على عقل، بل توازن بين الأمور كلِّها، لتستقيم الحياة ونشعر بمتعها المسخَّرة لنا.

والخلاصة: إن كلَّ ما في الوجود خاضع لسلطان الله، قائم على النظام والعدل، فيجب على الإنسان أن يحرص عليهما، في جميع معاملاته، حتَّى لا يختلَّ التوازن في علاقاته مع النَّاس، وبالتالي حتَّى لا تختلَّ حياته.

سورة البقرة(2)

قال الله تعالى: {يَسئلونَكَ عن الأهِلَّةِ قُلْ هي مَواقيتُ للنَّاسِ والحَجِّ وليسَ البِرُّ بأن تأتوا البُيوتَ من ظُهورها ولكنَّ البِرَّ من اتَّقى وأْتُوا البُيوتَ من أبوابها واتَّقوا الله لعلَّكُم تُفلحونَ(189)}

ومضات:

ـ الأهلَّة جمع هلال وهو شكل من أشكال القمر، يظهر للنَّاس في بداية الشهر القمري، كان النَّاس يترقَّبونه ليعرفوا به مواقيتهم، وأهمُّها مواقيت عباداتهم الَّتي جعل لها الله تعالى، ميقاتاً ونظاماً، كالصَّوم والحج، وهذا بيان على الأهمِّية العظيمة الَّتي أولاها سبحانه لتنظيم الوقت في حياة الإنسان.

ـ يكمن البرُّ في العمل الصالح، الَّذي يقرِّب المؤمن من الله، ويمكِّنه من اجتناب محارمه.

ـ كما ينبغي على المرء أن يدخل البيوت من أبوابها، فكذلك ينبغي على المؤمنين أن يلتمسوا الحكمة في أعمالهم، وأن يتناولوا الأمور من مداخلها الصحيحة، وأن يقصدوا من وراء التعبُّد غاية نبيلة، هي التزكية وزيادة القرب إلى الله.

ـ الالتزام بالسلوك العقلاني، بعيداً عن الأوهام والخرافات، يقود المؤمن إلى السعادة الحقيقية الكامنة في العبادة الحقَّة لله عزَّ وجل.

في رحاب الآيات:

الإسلام رسالة إنسانية شاملة، تحمل آداباً اجتماعية سـامية، وتعليماً للأُمَّة كيف يتمسَّك أفرادها بالأخلاق الفاضلة. وأوَّل مصادر الشريعة في الإسلام وأهمُّها هو القرآن الكريم، ومحور اهتمام القرآن هو الإنسان، تصوُّرُه، اعتقاده، مشاعره، مفاهيمه، عقله وطاقاته الفكرية، سلوكه، أعماله وعلاقاته، يدلُّه كيف يحافظ على فطرته سليمة دون انحراف أو فساد، ويضع له النظام الَّذي يؤهِّله لتوظيف طاقاته ومواهبه، واستثمارها بالشكل المنتج السليم، والبعيد عن الخرافات الأوهام، في وقت كان أغلب النَّاس مستغرقين في خِضَمِّ الجهل والأُميَّة، لا يعرفون سوى القليل من أسباب وجود الظواهر الطبيعية، فهي مبهمة بالنسبة لهم ويصعب عليهم إدراك حقيقتها.

ومن الأمثلة على ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم سُئِل مرة عن القمر: لِمَ يبدو هلالاً ثم يتكامل حتَّى يصبح بدراً ثم يعود هلالاً؟ كان سؤالُ النَّاس عن ذلك، سؤال الحائر أمام هذه الظاهرة الكونية، الراغب في معرفة أسرارها والغاية منها، وجاء الجواب بواسطة الوحي الإلهي، جواب الحكيم الخبير، الَّذي يحرص على توجيه عباده وإنارة عقولهم، وتعليمهم أمور دينهم ودنياهم، وليبيِّن الحكمة الَّتي تكمن وراء تلك الظاهرة، فوجَّههم إلى ما هو أبعد من النظرة السطحية الَّتي تتعلَّق بظواهر الأمور، وهي نظرة المتعمِّق المتأمِّل الَّتي تبحث عن بواطنها، وكأنَّه يقول لهم: كان الأَولى بكم أن تسألوا عن حكمة خلق الأهلَّة، لا أن تكتفوا بالسؤال عن سبب تزايد حجمها في منتصف الشهر وتناقصه في أول الشهر وآخره.

وبذلك يتَّجه الجواب من تحديد وظيفة الأهلَّة إلى واقع الحياة العملي، لا إلى مجرد العلم النظري المتعلِّق بالدورة الفلكية للقمر فحسب، حيث توحي الآية الكريمة بقول الله عزَّ وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم : قل ـ يامحمد ـ إن الأهلَّة مواقيت للناس لمعرفة شهورهم وسنيِّهم وأيامهم وعدَّة نسائهم، وأوقات حجِّهم ونسكهم، وآجال عقودهم في المعاملات، وكذلك هي معايير زمنية لبعض العبادات كالصِّيام والحج، حيث أن أداءها مرهون بالوقت، ولو استقرَّ الهلال على حالة واحدة، لما تيسَّرت معرفة الوقت به، ولمرَّ الزمن من غير ضابط. وفي ذلك إشارة إلى قيام الكون على نظام دقيق منضبط، وإلى وجوب العناية بالوقت، في نشاط المسلم الحقِّ، تجاه نفسه وتجاه الآخرين، فلا نجاح بلا نظام، ولا إتقان بلا انضباط، قال تعالى: {هو الَّذي جعلَ الشَّمس ضياءً والقمرَ نوراً وقدَّرَهُ منازِلَ لتعلَموا عددَ السِّنينَ والحساب ما خَلقَ الله ذلكَ إلا بِالحقِّ يُفَصِّلُ الآياتِ لقومٍ يَعلمونَ} (10 يونس آية 5).

وقد كان العرب الأوائل من السبَّاقين إلى العناية بالمواقيت، وضبط الزمن من خلال ملاحظاتهم الفلكية، ذلك لما تَيَسَّر لهم من صفاء الذهن، وتوقُّدِ الخاطر، الَّذي صقلته لهم الطبيعة الصحراوية، الَّتي كانوا يعيشون في أحضانها. ثم أتى بعدهم العلماء في الحضارتين الإسلامية والأوربية ليستعملوا المراصد الفلكية، وليتوسَّعوا في دراسة علم الفلك، حيث تبيَّن لهم أن نظام الكواكب يجري في دقَّة متناهية، وتمكَّنوا من رصده بدقَّة شديدة، وعناية فائقة.

والواجب اليوم يقتضي من علماءِ وفقهاءِ المسلمين أن يتابعوا جهود أولئك العلماء، ويواصلوا أبحاثهم، ويستفيدوا من دقَّة توقيت الأهلَّة، في إصدار توقيت قمري سنوي، يجري اعتماده بشكل رسمي من قبل سائر الدول الإسلامية، ويتمُّ من خلاله تحديد مسبق لبداية شهر رمضان وانتهائه، وموعد الوقوف في عرفة، وهذا كلُّه ممكن عندما نهجُر أمِّيَّتَنا، ونغدو متعلمين، ونواكب التقنيات الحديثة ونحسن الاستفادة منها. ولن يكون بعدها أي اختلاف في تعداد أيام شهر رمضان، أو أي اختلاف بين الدول الإسلامية في توقيت بداية صومهم ونهايته، وتحديد يوم الوقوف بعرفات، وأيام أعيادهم، مسبقاً ودون مفاجآت تتعلَّق بالغيوم والظواهر الطبيعية وغيرها. وإذا كان النبي الكريم قد طلب من الصحابة أن يصوموا لرؤية الهلال وأن يفطروا لرؤيته حين قال: «صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته فإن غمَّ عليكم فأتمُّوا شعبان ثلاثين» (رواه مسلم والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه )، فذلك لأن الوسيلة الوحيدة الَّتي كان يملكها العرب في ذلك الحين، لرصد الهلال، إنما هي الرؤية المجرَّدة، ولكنَّه صلى الله عليه وسلم لم يُغلق الباب في وجه العلم والمعرفة، وقرر أميَّة قومه في حينها، وإمكانية تطوير وسائل المعرفة حين نلجأ للعلم، بقوله: «نحن أمَّة أميَّة لا نكتب ولا نحسب! الشهر هكذا وهكذا» (رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله عنهما).

وتمضي الآية في توجيه هامٍّ إلى أدب من آداب السلوك الاجتماعي، حيث ينهى الله المسلمين عن إتيان البيوت من خلفها إذا أحرموا. إذ كان العرب في الجاهلية إذا أهلُّوا بالحجِّ أو العمرة، يلتزمون ألا يحول بينهم وبين السماء حائل، فإذا خرج الرجل منهم بعد ذلك، أي بعد إحرامه من بيته، فرجع لحاجة، لا يدخل من باب الحجرة حتَّى لا يحول سقف البيت بينه وبين السماء، فيتسنَّم ظهر بيته على الجدران، ثم يأمر بحاجته فتُخرَج له من بيته. فكانوا يرون هذا من النُسك والبرِّ، فردَّ الله عليهم ببطلان ذلك، وبيَّن أن البرَّ الحقيقي يكمن في التحلِّي بتقوى الله؛ الَّتي تلزمهُ بالتخلِّي عن المعاصي، والتحلِّي بالفضائل، واتباع الحقِّ، وعمل الخير، وفي التعامل مع النَّاس على أساسٍ من الصدق والصراحة والتفاهم دون مراوغة، والاستقامة في القول والعمل، وأن يتطابق لسان المرء مع قلبه، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «لا يستقيم إيمان عبد حتَّى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتَّى يستقيم لسانه» (أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن أنس رضي الله عنه ).

وتُعَدُّ هذه الآية دستوراً للمسلمين كي يصرِّفوا أمورهم بالحكمة، ويعالجوها من منطلق العقل والتفكير، ضمن قوانين الأسباب والمسبِّبات، لا من منطلق التقليد والاتباع الأعمى، أو من منطلق عاطفي أو سطحي. وهذا بدوره يقودنا إلى تتبُّع الأسباب في تفسير كلِّ ما يعرض لنا حتَّى نستطيع أن نتعايش معه ونستفيد منه، فإن لكلِّ مشكلة أو مسألة مفتاحاً، به نفتح الأبواب المغلقة وندخل. ولكي نضع أيدينا على التفسير أو الحل، يجب علينا أن لا نقصِّر في سبيل العثور على تلك المفاتيح، ليغنينا الحصول عليها عن اللجوء إلى أنصاف الحلول أو الحلول المؤقَّتة، أو أن نقتحم الأمور من غير المدخل الحقيقي لها، فنبتعد بذلك عن مضمونها وحلِّها أكثر فأكثر.

سورة العصر(103)

قال الله تعالى: {والعصرِ(1) إنَّ الإنسانَ لفي خُسْرٍ(2) إلاَّ الَّذين آمنوا وعملوا الصَّالحاتِ وتواصَوْا بالحقِّ وتواصَوْا بالصَّبر(3)}

ومضات:

ـ يقسم الله تعالى بأهم عنصر يتعلَّق بالحياة عموماً، وبالإنسان خصوصاً، ألا وهو الزمن أو الوقت، ليؤكِّد الأهميَّة الحيوية للزَّمن الَّذي إن وَلَّى وانقضى فلا تعويض له.

ـ الاستفادة من عامل الوقت، تكون باستثماره كاملاً في الاستزادة من الإيمان بالله تعالى، وعمل الصالحات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الحلم والصبر والأناة، وكذلك الاستفادة من جميع ما خلق الله تعالى لمصلحة الإنسان وضمان حقوقه ورفاهيته.

في رحاب الآيات:

في هذه السورة ذات الآيات الثلاث يتمثَّل منهج كامل للحياة البشرية كما يريدها الإسلام، إنها تختزل الدستور الإسلامي كلَّه في كلمات قصار، وتصف الأمَّة المسلمة، بحقيقتها ووظيفتها في آية واحدة هي الآية الثالثة من السورة، وهذا هو الإعجاز الَّذي لا يقدر عليه إلا الله تعالى. وتبدأ الآية الأولى بالقسم، والمُقْسِمُ هو الله، وموضوع القسم هو العصر الَّذي هو الزمان، إشـارة إلى أهمِّيته، وحثّاً للإنسان على ضرورة احترامه والمحافظة عليه، فلا يضيع عبثاً دون فائدة تُذكر. ذلك أن جميع نِعم الله تعالى يمكن أن يزيدها لنا من واسع فضله، إلا نعمة الوقت، فقد قدَّر أنها تنقص ولا تزيد. لذلك توجَّب على الإنسان أن يدرك أهمية الوقت في حياته، والَّذي يتناقص في عدٍّ تنازلي، إلى أن يصل إلى نقطة الصفر الخاصة به، حيث تغادر روحه إلى عالم البقاء والخلود. وكلُّ من لا يدرك قيمة الوقت فهو في خسران مبين، وهو محاسب على كلِّ دقيقة، تمضي من حياته، لا يقضيها فيما يرضي الله. وكلُّ من يدرك قيمة الوقت يحترم أوقات الآخرين ومواعيدهم، وهو في كلِّ دقيقة تمرُّ من حياته يكون في زيادة من الإيمان والعمل الصالح، وفي مزيد من النُّصح والهداية والإرشاد، واتِّباع سُبل الحقِّ، وتوضيحها للآخرين. ولعمري، إنها لمسؤولية كبرى وأمانة مقدَّسة يلزمها الصبر الكثير، والجهد الوفير، لكي تستمرَّ مسيرة الأُخوَّة والمحبَّة بكلِّ صفاء ونقاء. وقد اختصَّ ربُّنا جلَّ وعلا الدهر بالقسم؛ لما فيه من أحداثٍ وعِبَرٍ يُستدل بها على قدرته، وبالغ حكمته، وواسع علمه، وأراد من وراء ذلك كلِّه أن يقرِّر حقيقة هامَّة، وهي أنه ليس هناك إلا منهج واحد رابح، وكلُّ ما وراء ذلك ضياع وخسارة، إنه منهج الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحقِّ، والتواصي بالصبر. فما الإيمان؟ إنه اتصال هذا الكائن الفاني الصغير المحدود، بالأصل المطلق الأزلي، ثم إن مقوِّمات الإيمان هي بذاتها مقوِّمات الإنسانية الرفيعة؛ العبودية لإله واحد، ووضوح الصلة بين الخالق والمخلوق، وتحديد مقام الألوهية ومقام العبودية. فالإيمان هو أصل الحياة الكبير؛ الَّذي ينبثق منه كلُّ فرع من فروع الخير، وتنتج عنه كلُّ ثمرة من ثماره، والعمل الصالح هو الثمرة الطبيعية للإيمان، والحركة الذاتية الَّتي تبدأ في اللحظة الَّتي تستقرُّ فيها حقيقة الإيمان في القلب. فالإيمان حقيقة إيجابية عملاقة، ما إن تستقرُّ في الضمير، حتَّى تسعى بذاتها إلى تحقيق ذاتها، في الخارج، في صورة عمل صالح. هذا هو الإيمان، لا يمكن أن يظل خامداً لا يتحرك، ومن هنا جاءت قيمته العظيمة، وهذا هو العمل الصالح الَّذي يشمل جميع نواحي الإعمار، والوصول إلى قِمم الحضارة الروحية والمادِّية، في توازن دقيق، لتبقى دولة الإيمان هي الأقوى، وهي محطُّ الرجاء لجميع المستضعفين في الأرض. وهذا ما حقَّقه رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصره الَّذي يُعَدُّ أفضل العصور على مرِّ الزمن؛ وهذا ما دفع بعض المفسرين إلى القول بأن الله تعالى أقسم بعصر النبيِّ صلى الله عليه وسلم حيث تمَّ تصنيع أفضل تجمُّع بشري قائم على خير منهج ربَّاني، حيث رسخت دعائم دولة الإيمان، الَّتي أظلَّت جحافل المؤمنين وقوافل الموحِّدين إلى يوم الدِّين.

أمَّا التواصي بالحقِّ والتواصي بالصبر، فتبرز من خلالهما صورة الأمَّة المسلمة ذات الكيان الخاص، والرابطة المميزة، الَّتي تشعر بكيانها كما تشعر بواجبها، والَّتي تعرف حقيقة ما هي مُقدمة عليه من العمل، الَّذي يشمل فيما يشمل، قيادة البشرية في طريق الإيمان والعمل الصالح، فتتواصى فيما بينها على النهوض بالأمانة الكبرى. هكذا يريد الإسلام أُمَّة الإسلام، أُمَّة خيِّرة قويَّة واعية قائمة على حراسة الحقِّ والخير، متواصية بالحقِّ والصبر في مودَّة وتعاون وتآخ.

والتواصي بالحقِّ ـ بكلِّ ما لهـذه الكلمـة من معـانٍ وقِيَم ـ ضرورة، فالنهوض بالحقِّ عسـير، والمعوِّقات عن الحقِّ كثيرة؛ هوى النفس، ومنطق المصلحة، والتواصي تذكير وتشجيع، وإشعار بالقربى في الهدف والغاية، والأخوَّة في العبء والأمانة، فهو مضاعفة لمجموع الاتجاهات الفردية، إذ تتفاعل معاً فتتضاعف، تتضاعف بإحساس كلِّ ملتزم بالحقِّ أنَّ معه غيره يوصيه ويشجِّعه، ويقف معه ويحبِّه ولا يخذله. والتَّواصي بالصبر كذلك ضرورة، فالقيام على الإيمان والعمل الصالح، وحراسة الحقِّ والعدل، عمل عسير يواجه الفرد والجماعة، ولابُدَّ لنجاحه من الصبر، الصبر على جهاد النفس، وجهاد المعتدين، والصبر على الأذى والمشقَّة، والصبر على تبجُّح الباطل، والصبر على طول الطريق وبطء المراحل. والتَّواصي بالصبر يضاعف المقدرة بما يبعثه من إحساس بوحدة الهدف، ووحدة الاتجاه، وتساند الجميع، ويزوِّدهم بالحبِّ والعزم والإصرار، إلى آخر ما يثيره من معاني التآخي الَّتي لا تعيش حقيقة الإسلام إلا في جوِّها، ولا تبرز إلا من خلالها، وإلا فهو الخسران والضياع.

لقد حكم الله تعالى بالخسران على جميع النَّاس إلا من أتى بهذه الأشياء الأربعة: الإيمان، والعمل الصالح، والتَّواصي بالحقِّ، والتَّواصي بالصبر؛ فإن نجاة الإنسان لا تكون إلا إذا صقل نفسه بالإيمان والعمل الصالح، ووجَّه غيره بالنصح والإرشاد، فيكون قد جمع بين حقِّ الله وحقِّ العباد، وهذا هو السرُّ في تخصيص هذه الأمور الأربعة في هذه الآية الكريمة. أخرج البيهقيفي الشُّعب عن أبي حذيفة ـ وكانت له صحبة ـ قال: [كان الرَّجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يتفرَّقا حتَّى يقرأ أحدهما على الآخر سورة {والعصر} ثمَّ يُسلِّم أحدهما على الآخر].