b13-f2

الفصل الثاني:

الاعتدال في التعلُّقات الدنيوية

سورة آل عمران(3)

قال الله تعالى: {زُيِّنَ للنَّاسِ حُبُّ الشَّهواتِ من النِّساءِ والبَنينَ والقناطيرِ المُقَنطَرَةِ من الذَّهبِ والفِضَّةِ والخيلِ المُسَوَّمةِ والأنعامِ والحرثِ ذلك مَتاعُ الحياةِ الدُّنيا والله عندهُ حُسنُ المآبِ(14) قُل أؤنَبِّئُكُم بخيرٍ من ذلكُم للَّذين اتَّقَوا عند ربِّهم جنَّاتٌ تجري من تحتها الأنهارُ خالِدينَ فيها وأزواجٌ مُطَهَّرةٌ ورضوانٌ من الله والله بَصيرُ بالعباد(15)}

ومضات:

ـ إن المَيل إلى الملذَّات والرغبات هو من مقوِّمات الطبيعة البشرية، وما خلق الله تعالى النِّعَم والمُتَع، إلا لنُسرَّ بها ونشكر واهبها، لا لنتعلَّق بها وننسى خالقها.

ـ الإسلام لا يتعارض مع الطبائع البشرية، فهو يسعى إلى تلبية دوافعها وغرائزها، بتنظيمها وتعديل ميولها ونوازعها، ولا يسعى أبداً إلى كبحها ووأدها.

ـ يجدر بالمؤمن أن يحدَّ من جماح متعه وشهواته، لقاء ما ينتظره من نعيم الجنان ورضوان الله، وخشية أن يقع في الغفلة والمعصية دون أن يدري.

ـ الله تعالى بصيرٌ بالعباد، عالمٌ بالفطرة الَّتي طبعهم عليها، ومشرِّعٌ لما يصلح لها من التوجيهات والتعاليم والآداب.

في رحاب الآيات:

أوجد الله تعالى في نفس كلٍّ من الرجال والنساء، حباً وميلاً نحو الطرف الآخر، وكذلك حَبَّب إليهم النسل والمال والملك، وزيَّن ذلك لهم لكي تقوم حياتهم الدنيوية عليها، وأوجب عليهم أن يحسنوا التعامل معها، بالحدود الَّتي تكفل صلاح أمرهم، وتحقيق أهداف الشرع، كي يتميَّز من يُحسن العمل ممن يُسيئه.

وقد بدأت الآية الكريمة بذكر النساء، لأن الفتنة بهن من أعظم الفتن إذا ما استقرَّ حبُّهن في القلب، وتملَّكَ الجوارح، حتَّى يخرج بصاحبه عن حدود الاعتدال والاتزان، فيصرفه عما خلقه الله من أجله، وهو الإيمان والعبادة وإعمار الكون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما تركتُ بعدي فتنة أضرُّ على الرجال من النساء» (متفق عليه عن أسامة بن زيد رضي الله عنه ). فالنساء هُنَّ موضع الرغبة بالنسبة للرجال، وإليهن تسكن النفوس كما قال الله تعالى: {ومن آياتِهِ أن خلَقَ لكم من أنفُسِكم أزواجاً لتسْكُنوا إليها وجعلَ بينَكُم مودَّةً ورحمةً إنَّ في ذلك لآيات لقومٍ يتفكَّرون} (30 الروم آية 21). وإذا انفردت الآية الأولى بذكر مشاعر الرجال تجاه النساء، فهذا لا يعني أبداً أن القرآن يهمل مشاعر النساء تجاه الرجال، ففي هذه الآية دليل على أن المشاعر بين الرجل والمرأة مشتركة، وأمر أن تكون هذه المشاعر بين الزوجين قائمة على المودَّة والتراحم بينهما، لا على مبدأ المشاركة فحسب.

ثم ذكرت الآية البنين لأن النفس الإنسانية توَّاقة إليهم شديدة الشغف بهم، فهم ريحانة القلوب، وفلذات الأكباد وقرَّة العيون، بهم يرتفع الذِّكر وينتشر الصيت، وهم أصحاب الإرث عن الآباء بكلِّ أنواعه، سواء كان إرثاً مادِّياً أم فكرياً أم تربوياً. وقد قَرَن معهما حبَّ كثرة المال، لأنه مطيَّة لجلب الرغائب، وسبيل لنيل الملذَّات والشهوات. ولا يخفى أن رغبات الإنسان لا حدود لها، وملذَّاته لا حصر لها، وكلَّما حصل على لذَّة طلب المزيد، وكلَّما وصل إلى غاية تاقت نفسه إلى بلوغ ما بعدها، قال صلى الله عليه وسلم : «إن الدُّنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتَّقوا الدينار واتَّقوا النساء» (رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ).

وحبُّ الممتلكات يدخل ضمن حبِّ المال، كالحرص على اقتناء الخيول الأصيلة الكثيرة العدد، فهي ما تزال حتَّى في عصر الآلة المادِّي، زينة محبَّبة مشتهاة، فيها جمال وقوَّة ورياضة، وانطلاق وأُلْفة ومودَّة، والمزادات العالمية تشهد تنافسات حادَّة بين كبار الأثرياء لاقتنائها بأسعار تكاد تكون خيالية.

وكذلك زُيِّن للناس امتلاك الأنعام والحرث؛ أمَّا الأنعام أي المواشي فهي الثروة الَّتي كانوا يتفاخرون بتكاثرها، وتقوم عليها حياة أهل البادية بشكل خاص وسائر النَّاس بشكل عام. أمَّا الحرث أي الزرع والنبات فهو قوام حياة الإنسان والحاجة إليه ماسَّة، وهذا كلُّه يشكِّل زهرة الحياة الدُّنيا وزينتها الفانية.

إن استمتاع الإنسان بهذه الأُعطيات الإلهية شيء طبيعي ومباح، ولكن أن يبالغ في حبِّها ويتعلَّق قلبه بها فهنا مكمن الخطر، وهذا هو الشرك الخفي الَّذي إن وقع به الإنسان أبعده عن دوره الإنساني، ونزل به إلى الدرك البهيمي. فالاستغراق في شهوات الدُّنيا ورغائب النفوس، ودوافع الميول الفطرية دون قيد، هو الَّذي يشغل القلب عن التبصُّر والاعتبار، ولمَّا كانت هذه الرغبات والدوافع أساسية في حفظ الحياة وامتدادها، فإن الإسلام لا يقضي بكبتها أو إنكارها، ولكن يدعو إلى ضبطها وتنظيمها، وتخفيف حدَّتها المفرطة واندفاعها الشديد، فيكون الإنسان مالكاً لها متحكِّماً فيها، لا أن تكون مالكة له، متحكِّمة فيه.

لقد تضمَّن التركيب الفطري للإنسان ميلاً نحو هذه الشهوات، وهذا جزء أصيل في تكوينه، لا يجوز إهماله ولا تجاهله، لأنه ضروري للحياة البشرية كي تنمو وتتأصَّل، ولكن الواقع يشهد بأن في الفطرة جانباً آخر يوازي ذلك الميل، ويحمي الإنسان من الاستغراق في ذلك الجانب وحده، وهو الاستعداد لضبط النفس والوقوف بها عند الحدِّ السليم من مزاولة هذه الشهوات؛ الحدِّ الباني للفضائل والحافظ للنفس والحياة. وهذا الاستعداد يُهذِّب ذلك الميل وينقِّيه من الشوائب، ويجعله في الحدود المأمونة، الَّتي لا يطغى فيها جانب اللذَّة الحسيَّة ونزعاتها على الروح الإنسانية. وبذلك ضَمِنَ الإسلام سلامة الكائن البشري من الصراع بين شطري النفس البشرية، وهما نوازع الشهوة واللذَّة وأشواق الارتفاع والتسامي، وحقَّق لهذه وتلك نشاطها المستمرَّ في حدود التوسُّط والاعتدال. فعلى المؤمن أن يكون كيِّساً حكيماً، يمنع نفسه من السقوط في مهاوي الشهوات، كي لا تشغله عن تهذيب روحه وإنارة عقله، وأن يوازن بين دنياه وآخرته كما قال تعالى: {ومنهم من يقولُ ربَّنا آتنا في الدُّنيا حسَنَةً وفي الآخرةِ حسَنَةً وقِنا عذابَ النَّار} (2 البقرة آية 201). والعاقل من استبدل الَّذي هو أدنى بالَّذي هو أعلى، وأحلَّ رضا الله وتقواه محلَّ القيادة لهذه الشهوات والملذَّات الآنيَّة، الَّتي قد يراها الإنسان من أجَلِّ النِّعم الدنيوية، ولكنَّ المؤمن الحقَّ الَّذي ارتبط قلبه بالذَّات الإلهية، يرى عالم الروح خيراً وأبقى، وهذه الرؤيا لا ينالها إلا الَّذين اتَّقوا ربَّهم وخافوه وذكروه. والشعور بالتَّقوى مهذِّبٌ للروح، مُرهِف للحسِّ، ضابط للنفس يكبح جماحها كيلا تنساق وراء الوهم والسراب، وفيه ربطٌ لمتاع الدُّنيا بمتاع الآخرة حيث الجنَّات ونعيمها، والخيرات واستمرارها، والأزواج المبرَّأة من كلِّ عيب، وكمال ذلك هو الحصول على رضوان الله وهو أعظمُ اللذَّات عند المتَّقين.

فإذا تمكَّن الإيمان من القلب، وتعمَّقت جذوره، أثمر حالة من الحالات المفجِّرة لطاقات الخير الكامنة الَّتي وهبها الله للإنسان. وهذه المنزلة لا ينالها إلا من ارتضى لنفسه ترك الشهوات، وجاهدها في ذات الله حتَّى تَذَوَّقَ حلاوة الإيمان وَبرْدَ اليقين، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «لا يبلغ العبد أن يكون من المتَّقين حتَّى يدع ما لابأس به حذراً لما به بأس» (رواه الترمذي عن عطية ابن عروة السعدي).

وهكذا نرى أن القرآن الكريم يبدأ بالنفس البشرية من موضعها على الأرض، وشيئاً فشيئاً يرتقي بها آفاقاً مضيئة، حتَّى يصل بها إلى الملأ الأعلى في رفق ورحمة، وفي مراعاة كاملة لفطرتها ونوازعها وضعفها، دون كبت أو قسر أو إكراه.

سورة الحديد(57)

قال الله تعالى: {اعلَموا أنَّما الحياةُ الدُّنيا لَعِبٌ ولهوٌ وزينةٌ وتفاخرٌ بينَكُم وتكاثُرٌ في الأموالِ والأولادِ كَمَثَلِ غَيثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نباتُهُ ثمَّ يَهِيْجُ فتراهُ مُصْفَرّاً ثمَّ يكون حُطاماً وفي الآخرةِ عذابٌ شديدٌ ومغفرةٌ من الله ورضوانٌ وما الحياةُ الدُّنيا إلاَّ متاعُ الغُرور(20)}

ومضات:

ـ إذا أراد الإنسان أن يجعل من الحياة لهواً وتسلية وبَذْخاً في المظاهر، وحقلاً للمفاخرة بالأموال والأولاد، أصبحت بذوره عقيمة، ونتاجه هشيماً، وجزاؤه الجحيم.

ـ من عقل الأمور وعرف مراد الله فيما خلقه له وسخَّره من أجله، فقد وضع قدمه على الطريق الموصل إلى المغفرة والرضوان من ربِّ العالمين.

ـ الحياة الدُّنيا أحقر من أن نعطيها اهتماماً كبيراً؛ يحجبنا عن العمل الإيماني العقلاني المنتج وإلا أوردتنا موارد التهلُكة والغرور.

ـ في يوم الحساب ينقسم النَّاس إلى فئات ثلاثة، حسب أعمالهم، فهم إمَّا مسيئون يستحقُّون عذاب الله الشديد، وإمَّا مقصِّرون تائبون يستحقُّون المغفرة، وإما سبَّاقون إلى الخيرات والصالحات يستحقُّون رضوان الله تعالى وحسن ثوابه.

في رحاب الآيات:

خلق الله تعالى آدم، وجعل فيه من الصفات والقدرات ما يؤهِّله ليكون مصنعاً لإنتاج الأبطال، وجامعة لتخريج قادة العلم والأخلاق والحكمة. ولمَّا غاب عن الأجيال المتلاحقة، فَهْمُ هذه الحقيقة، الَّتي يجب أن يعيش الإنسان لأجلها، انقلب الأبطال إلى دُمىً، والجِدُّ إلى هزل، والعمل المنتج إلى فراغ ولغو، لا فائدة منه ولا ثمرة، وتحوَّل مسرح الحياة الجادِّ المعطاء إلى مسرح للعرائس، لا واقع يحكمه ولا قيم ترفده، ولا مبادئ تسنده. وهكذا، وبسوء فهمنا لقيم الحياة، أصبحت حياتنا لعباً ولهواً، وزينة وتفاخراً وتكاثراً، وهذه هي الحقيقة الَّتي تختفي وراء كلِّ ما يبدو في حياتنا من جِدٍّ حافل، واهتمام شاغل.

وبهذا الأسلوب الجمالي المحبَّب تهزُّنا هذه الآية لندرك خطر الواقع الَّذي انجرفنا إليه، فلا تبنى الأمم والأمجاد باللعب، ولا بترديد العبارات الرنانة يُطعم الجائع، أو يُرحم المصاب. وإنَّ علينا أن ندرك أن أولاد اليوم هم رجال المستقبل، فإذا أحسنَّا تعليمهم وتثقيفهم وتخليقهم بالأخلاق الكريمة، ضمِنَّا لأمتنا مستقبلاً مشرقاً يُشعُّ بالنور والخير والمحبَّة.

إن من يجمع المال للمباهاة والمفاخرة، كمن يجمع نباتاً سرعان ما يذبل ويصفَرُّ ومن ثَمَّ يجفُّ، فتذروه الرياح دون أن يستفيد منه في مأكل أو صنعة أو دواء. فالمرء يُمنح المال ليحسن التصرُّف فيه، ويستثمره في الحقول المنتجة المفيدة، وإلا فسوف تذروه رياح الفناء، فإمَّا أن يذوب بين يديه ويتلاشى في غير منفعة، وإمَّا أن يموت عنه فلا ينفعه في شيء، وينتهي بالنسبة له شريط الحياة كلِّها، بهذه الصورة المتحرِّكة، المأخوذة من مشاهدات البشر المألوفة.

أمَّا الآخرة فلها شأن غير هذا الشأن، شأن يستحقُّ أن يُحسب حسابه، ويُنْظَرَ إليه، ويُسْتَعَدَّ له. فالآخرة لا تنتهي في لمحة كما تنتهي الحياة الدُّنيا، وهي لا تنتهي إلى حطام كما هو شأن النبات البالغ أجله، إنها حساب وجزاء، وخلود يستحقُّ الاهتمام! وما هذه الحياة الدُّنيا إلا متاع فانٍ زائل، خادع، لمن استكان لها، واغترَّ بها، حتَّى اعتقد أن لا دار سواها، ولا معاد وراءها. وليس المقصود من الآية الحضُّ على اعتزال حياة الأرض، ولا إهمال عمارتها وخلافتها الَّتي أناطها الله تعالى بهذا الكائن البشري، إنما المقصود بها تصحيح المقاييس الشعورية، والقيم النفسية، والاستعلاء على غرور المتاع الزائل، وجاذبيته المقيَّدة بالأرض، هذا الفهم الَّذي يحتاج إليه كلُّ مؤمن ليحقِّق عقيدته، ولو اقتضى تحقيقها أن يضحِّي بهذه الحياة الدُّنيا جميعها!.

سورة الأنعام(6)

قال الله تعالى: {وهو الَّذي أنشأَ جنَّاتٍ مَعْروشاتٍ وغيرَ مَعْروشاتٍ والنَّخْلَ والزَّرعَ مُخْتلفاً أُكُلُهُ والزَّيتونَ والرُّمَّانَ متشابهاً وغيرَ متشابهٍ كلوا من ثَمَرِهِ إذا أثمرَ وآتوا حقَّهُ يومَ حصادِهِ ولا تُسرفوا إنَّه لا يحبُّ المسرفين(141)}

ومضات:

ـ من بـديـع صنع الله تعالى أنه خلق هذا التنوع الهائل من الخيرات والثمرات، وأودع في كلٍّ منها المتعة والفائدة للإنسان، على اختلاف أجناسها وأشكالها، ووضعها بين يديه يتصرَّف بها كيف يشاء، شريطة عدم الإسراف الَّذي يؤدِّي به إلى الأمراض وتعطيل فرص الإنتاج، وشريطة عدم التفريط بحقوق الفقراء منها، كي يتشارك المجتمع بهذه السعادة وهذا العطاء الإلهي في جوٍّ تسوده المحبَّة والتعاون.

في رحاب الآيات:

خلق الله تعالى الأرض بجنَّاتها وحدائقها، بخيراتها وآلائها، من أجل سعادة الإنسان ونعيمه، وقد أبدع في خلقها، فجعلها متعدِّدة الأشكال، متنوِّعة الألوان، ليمتِّع الإنسان عينيه بجمالها، ويجد في كنفها راحة النفس، وانشراح الصدر. وجعل في هذه الجنَّات أشجاراً باسقة متعانقة وارفة الظلال، تتشكَّل على هيئة مظلَّة واقية تحمي الإنسان من حرِّ الشمس، وتُعَدُّ الرئة الَّتي تتنفَّس بها الخلائق، والمصدر الأهمُّ للأوكسجين الَّذي هو قوام حياة الإنسان والحيوان والنبات، كما أنها أحد أسباب هطول المطر وتلطيف الجو. ومن أهم الأشجار شجرة النخيل، تلك الشجرة المباركة الَّتي تَردَّدَ ذكرها في القرآن الكريم، والَّتي كانت الصديقة والمؤنسة للسيِّدة العذراء مريم، حين وضعت نبي الله عيسى عليه السَّلام، حيث قال الله تعالى: {وهُزِّي إليكِ بِجِذْعِ النَّخلَةِ تُسـاقِطْ عليـك رُطَبـاً جَنيّـاً * فَكُلِي واشرَبي وقَـرِّي عَيْنـا..} (19 مريم آية 25ـ26) وهناك أيضاً شجرتا التين والزيتون، اللتان تحتلاَّن المكانة نفسها في القرآن الكريم، حيث أقسم الله تعالى بهما في قوله: {والتينِ والزَّيتون} (95 التين آية 1) يضاف إلى ذلك أنواع أخرى من الأشجار المثمرة كالرمَّان وغيره. ومنها الأعشاب والنباتات الَّتي تغطي سطح الأرض فتفرشها ببساط سندسي يملأ القلب بهجة، وتحمي التربة من الانجراف، وتُعَدُّ مصدر غذاء للإنسان والحيوان على السواء. هذه النعم الَّتي أفاضها الله على عباده، جعلها خالصة لهم وأباح التنعُّم بها، ضمن حدود تحفظ استمرارية عطائها، وتمنع هدرها أو إتلافها.

وإذا كانت أحلى لحظات عمر الإنسان عندما يقطف ثمار جهده وتعبه، كالزارع يحصد محصول ما زرع فيغمره الفرح والسرور، فإن رحمة الله تأبى عليه أن يتفرَّد بهذا السرور والحبور، وتهيب به أن يتذكَّر الفقراء والمعوزين، المعذَّبين في الأرض والمحتاجين، فيقسم لهم حقوقهم الَّتي خصَّهم الله بها، ويعطيهم ممَّا أعطاه الله ووفَّقه إليه. وكثيراً ما يفقد الإنسان توازنه في مثل هذه الأوقات السعيدة، فيأكل وينفق بغير اعتدال، دون أن يحسب حساباً لأيام قد يُجْدِبُ فيها الخير وينقص، لذا أمره الله تعالى بالاتِّزان وعدم الإسراف.

إن قاعدة الاعتدال يجب أن تضبط حياة الإنسان في كلِّ تصرُّفاته؛ فالإسراف في الطعام يؤدِّي إلى زيادة الوزن وكثرة الأمراض وقلَّة الفاعلية والنشاط، والإسراف في استعمال المياه يؤدِّي إلى نقصانها وعدم كفايتها على مدار الأيام. وقد نهى الفقهاء عن الإسراف في ماء الوضوء، ولو كان المرء يتوضَّأ من ماء البحر، تعليماً للإنسان نظام الاقتصاد وعدم الهدر. كذلك فإن الإسراف في العمل وعدم مراعاة القواعد الصحِّية ينجم عنه أمراض جسدية، وتعب وإرهاق قد يؤدِّي إلى إصابة الأعصاب بالانهيار. ويبقى الإنفاق المادِّي ممَّا يجب مراقبته، حيث أن رزق الشهر قد يأتي في يوم، ورزق السنة في شهر، ورزق العمر في سنة، لذا فإن وضع كوابح للإنفاق، والاعتدال في أمور حياتنا فرض وركن من أركان الشريعة الإسلامية.

سورة الأنفال(8)

قال الله تعالى: {واعلَموا أنَّما أَموالُكُم وأَولادُكُم فِتْنةٌ وأنَّ الله عندَهُ أجرٌ عظيم(28) ياأيُّها الَّذين آمنوا إن تتَّقوا الله يجعل لكم فُرْقاناً ويُكَفِّر عنكم سيِّئاتِكم ويغْفِر لكم والله ذو الفَضْلِ العظيم(29)}

سورة التغابن(64)

وقال أيضاً: {ياأيُّها الَّذين آمنوا إنَّ من أزواجِكم وأَولادِكم عَدُوّاً لَكُم فاحذَروهُم وإن تَعْفوا وتصفَحوا وتغفِروا فإنَّ الله غفورٌ رحيم(14) إنَّما أموالُكم وأولادُكم فِتْنةٌ والله عندَهُ أجرٌ عظيم(15)}

ومضات:

ـ الأولاد والأموال من أكثر الأمور الَّتي يتعلَّق قلب الإنسان بها، بينما يتعامل المؤمن معها على أنها عاريَةٌ لديه لا ملك له فيها.

ـ صاحب القلب المعتصم بحبل الله يتهيَّأ له من النور الإلهي، ما يمكِّنه من التمييز بين ما يدمِّر إيمانه وما يمتِّنه ويقوِّيه، وهو كريم الأخلاق، عَفُوٌّ مسامح، فهو في أمان الله وكنفه ورعايته.

في رحاب الآيات:

ما أعجب الإنسان! كيف يطاوعه عقله وقلبه أن يهدم العلاقة الفريدة المتميِّزة بينه وبين خالقه؟! وهل له مرفأ سلام يُهْرَعُ إليه غير مرفأ العناية الإلهية، يحميه من متاهات الحياة وصعابها وتلاطم أمواجها. وكيف يسمح لضباب البعد والغفلة أن يُغَشِّيَ عينيه، فيُضِلَّه عن منارة رسول الله صلى الله عليه وسلم الَّتي يستنير بها، ليصل إلى مرفأ الهداية الإلهية. وكيف يمكنه أن يكرر مأساة خروجه من جنَّات السعادة مرَّات ومرَّات؛ بإعراضه عن المنهج الإلهي، واتِّباعه ما يخالف تعاليم السماء؟!.

إن كلَّ نعمة إلهية هي سبب من أسباب استمرار حياة الإنسان فوق الأرض، وهي أمانة بين يديه، وعليه ألا يسيء استعمالها، وإن من أكرم هذه النعم المال والأولاد، فالأموال يترتَّب عليها مدار معيشته، وتحصيل رغباته ودفع الكثير من المكاره عنه، ومن أجل ذلك يتكلَّف في كسبها المشاقَّ، ويركب الصعاب، ويتحمَّل في حفظها وتنميتها العناء، وتتنازعه في إنفاقها الأهواء، ويكلِّفه الشرع في تحصيلها وإنفاقها بالتزام الحلال واجتناب الحرام، ويرغِّبه في الاقتصاد فيها ويفرض عليه حقوقاً تتعلَّق بها: كالزَّكاة، والصَّدقة وغيرها.

أمَّا الأولاد فحبُّهم مودَعٌ في سويداء القلب، فهم عبير الأفئدة، وفلذات الأكباد، أخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم وصحَّحه، عن بريدة رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فأقبل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنبر فحملهما واحداً من ذا الشِّق، وواحداً من ذا الشِّق ثم صعد المنبر فقال: صدق الله {إنَّما أموالكم وأولادكم فتنة} إني لَمَّا نظرت إلى هذين الغلامين يمشيان ويعثران لم أصبر أن قطعت كلامي ونزلت إليهما».

وهكذا فإن حبَّ المال والولد من نقاط الضعف في الطبيعة البشرية، وربَّما أفسد الإنسان مصيره إن هو أساء التصرُّف فيهما، ومن أجل هذا فإن القرآن ينبِّهنا إلى حقيقة هاتين النعمتين، فهما من زينة الحياة الدُّنيا الَّتي تكون موضع امتحان وابتلاء، ليرى الله صنيع العبد فيهما، أيشكر ويؤدِّي حقَّ النعمة، أم ينشغل بالنعمة عن المنعم؟ فالفتنة كما تكون بالشِّدَّةِ والحرمان، تكون أيضاً بالرخاء والعطاء. وأي افتتان أو تعلُّق بهما، يميل بقلوبنا إليهما، عن حضرة الله، هو إساءة وينطوي على الخطر، حيث ننشغل بالخلق عن الخالق. فقد نتجاوز قيمنا الأخلاقية لأجل إسعاد من تعلَّقنا بهم، ولو كان في ذلك مخالفة لتعاليم الله الَّتي تُعَدُّ أساس الحياة السليمة، وإذا تنبَّه القلب إلى حقيقة الامتحان والاختبار الَّذي يكمن فيهما، كان ذلك عوناً له على اتِّخاذ جانب الحذر واليقظة والحيطة. فيجب ألا تكون أموالنا محطَّ تعلُّق قلوبنا، وألاَّ نُفْتَنَ بها ونبتعد عن أهدافنا السامية، وكذا الأولاد يجب أن نتعامل معهم من منطلق التربية والتعليم والتأديب، لا من منطلق الهوى والشغف بهم، فنترك لهم الحبل على الغارب ليفعلوا ما يشاؤون. إذ ربَّما وَضَعَنا التعلُّق بهم في مواجهة صدمات نفسية شديدة إذا أصابهم مكروه، وقد يدفعنا الخوف عليهم إلى زرع الجبن في نفوسهم، فلا ندرِّبهم على أعمال البطولة والفروسية، وتجاوز الصعاب؛ وفي ذلك كلِّه بلاء وامتحان، لا ينجينا منه، إلا العودة لتعاليم الشرع في هذا المجال والتمسُّك بها.

والحديث عن الفرع يجرُّنا للحديث عن الأصل، فالأولاد ثمرة علاقة شرعية بين الزوج والزوجة، وهنا لابُدَّ من وقفة قصيرة أمام نقطة البداية، لحظة اختيار الزوج لزوجته. فمن الخطأ أن يتسرَّع المرء في اختيار شريكة حياته مُنقاداً لعواطفه، معتمداً على أمور ظاهرية قد لا تعطي صورة حقيقية عن طريقة تفكيرها، ولا عن مقدار تمسُّكها بالقيم التربوية الفاضلة، مما يؤدِّي إلى تقويض أركان الأسرة وانهيارها في المستقبل، لأن أخلاق الأمِّ وسلوكها هما القدوة للأبناء. وقد تنشأ الخصومات بين الزوجين حين تنساق الزوجة وراء سطحية الحياة والمظاهر المزيَّفة، من ثياب أو تبرُّج بزينة تاركة ما هو أهمُّ، من رعايةٍ لأبنائها وتزويدهم بالخلق الفاضل، وتدريبهم على مواجهة الحياة بصبر وحكمة. إن زوجة كهذه قد تزرع الحقد والكراهية في صدور أبنائها تجاه أبيهم لتستر عيوبها ونقائصها، لذا كان لابُدَّ للمؤمن الجادِّ في بناء أسرة إسلامية ملتزمة، من انتقاء الزوجة الملتزمة بمبادئ الإسلام قولاً وعملاً، وعندها تتقارب الأفكار وتسهل عملية البناء والتواصل، فيتمكَّن الزوجان من تهذيب أولادهما وفق معايير الإسلام القويمة، لذلك قال صلى الله عليه وسلم : «الدُّنيا كلُّها متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة» (رواه النسائي ومسلم وأحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ). وقال صلى الله عليه وسلم: «ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله، خيراً له من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته وإن نظر إليها سرَّته، وإن أقسم عليها أبرَّته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله» (أخرجه ابن ماجه والطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه ).

وكذلك حثَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على أهمِّية تربية الأبناء تربية صالحة، وعدَّ الولد الصالح من الخير الباقي والمخلِّد لذكر أبيه في الدُّنيا فقال صلى الله عليه وسلم : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنْتَفَعُ به، أو ولد صالح يدعو له» (رواه الخمسة إلا البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه ).

وإذا كانت الآيات تحذِّر المرء من أن زوجه أو ولده أو كليهما، قد يكونان عدوَّين له، فهذا لا يعني أنها تدعوه إلى تركهما والإعراض عن معاشرتهما ومصاحبتهما إن هما أساءا، بل تدعوه إلى ضرورة تجنُّب الأسباب الَّتي تنشئ العداوة، بالمداراة والصفح والمغفرة، وبذلك يدفعنا الإسلام إلى قمَّة الفضيلة والتسامح في تعاملنا مع النسوة والأبناء، لعلَّنا نصل إلى شغاف قلوبهم بالإحسان والعفو، وننزع من نفوسهم بذور الجهل، ونعيدهم إلى الطريق الأخلاقي القويم. والله تعالى لا يدع الإنسان بلا عون منه ولا عِوَضٍ إن هو آثر حقَّ الله ورضاه، وإنما يُلَوِّحُ له بما هو خير وأبقى ليستعين به على الفتنة ويتقوَّى على الطاعة، فهو سبحانه الَّذي وهب الأموال والأولاد وقد هيأ أجراً عظيماً لمن يستعلي على فتنتهما، ولا يقعد عن تكاليف الأمانة، وجهاد النفس.

والتَّقوى هي زاد الطريق، وهي المَلَكة الَّتي نفرِّق بها بين الحقِّ والباطل، وهي القوَّة الدافعة للمؤمن الواعي لكي يتحمَّل مسؤوليته في كلِّ ما تقدَّم، وهي الَّتي تحيي القلوب وتوقظ أجهزة الحذر والوقاية، وهي النور الهادي الَّذي يكشف منحنيات الطريق ودروبه الوعرة، ويزيل عنه الشبهات الَّتي تحجب الرؤية الصحيحة.

سورة التوبة(9)

قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا لا تتَّخِذوا آباءَكم وإخوانَكُم أولياءَ إن استَحَبُّوا الكُفْرَ على الإيمان ومن يتَوَلَّهم منكم فأولئك هم الظَّالمون(23) قلْ إن كان آباؤُكُم وأبناؤُكُم وإخوانُكُم وأزواجُكُم وعشيرَتُكم وأموالٌ اقترفْتُموها وتجارةٌ تخشَوْنَ كسادَها ومساكِنُ ترضَوْنَها أحبَّ إليكم من الله ورسولِهِ وجهادٍ في سبيلِهِ فترَبَّصوا حتَّى يأتيَ الله بأمرِهِ والله لا يهدي القومَ الفاسقين(24)}

ومضات:

ـ الأبُوَّة والأخُوَّة وجميع الروابط العائلية المقدَّسة، تفقد قدسيَّتها وتنحلُّ عُراها، إذا حدث خلاف في العقيدة بين أطرافها، والقرابة الحقيقية يوجدها الدِّين، وإذا لم يواكب قريب الجسد مسيرة الإيمان، انفصمت أواصر القربى بينه وبين المؤمنين، لأن الإيمان هو اللُّحْمَةُ الحقيقية لهذه الأواصر.

ـ يجب ألاَّ يكون في قلب المؤمن إلا الله، وأن تكون الدُّنيا وما فيها أداةً يستعملها في مرضاة الله تعالى، وتحقيق الخير للإنسانية.

في رحاب الآيات:

على الإنسان المؤمن أن يتحرَّك ضمن الدائرة المرسومة له من قبل حضرة الله، لأن الله تعالى أدرى بمصلحته وكلِّ شؤونه، فإذا قال له: افعلْ وجب التنفيذ لأن ذلك ضمانٌ لمصلحته، وإذا قال: لا تفعل وجب الامتثال حفظاً لسلامته في دينه ودنياه. وليس هذا إلغاءً لحرِّية الإنسان بل ضبطاً لها، فالحرِّية مسؤولية وليست فوضى، وارتقاء بالعقل لا مصادرة له.

وإذا سلَّم الإنسان بهذه البديهية، تسرَّب بَرْدُ الطمأنينة إلى قلبه، وانضبطت أموره وفق قواعد دقيقة، وقوالب محكمة، تحميه من الزَّلل، وتعصمه من الخلل. وعقيدة التَّوحيد لا تقبل شريكاً لها في قلب العبد المؤمن، لأنها تريد وحدها أن تأسر قلبه وتملك عليه مشاعره، وأن تنشر من نورها على جنبات هذا القلب، فإذا فاض النور ترشَّح من القلب إلى جدران النفس فارتقت، وتحوَّلَتْ من نفسٍ أمَّارة بالسوء، إلى نفس مطمئنَّة تُسلم قيادها لله تعالى، وتقرُّ بالعبودية له، فتصبح نظيفة مستقيمة، وفق شريعته عزَّ وجل.

والمؤمن مطالَبٌ بأن يضع العقيدة ومقتضياتها في كفَّة، ثم يضع كلَّ ما يتعلَّق بأمور الدُّنيا من أبناء وآباء وزوجات، وأموال وعشيرة، وقصور وتجارة ومساكن، في الكفَّة الثانية، وعليه أن يرجِّح كفة العقيدة بالإيمان الصادق المخلص، لأن كلَّ ما يتعلَّق بالدُّنيا أمر آنيٌّ لا دوام له، فإذا ما تعلَّق قلب الإنسان بشيء ما، ثم طرأ عليه طارئ ففقده، كانت فاجعته شديدة، قد تودي بحياته، أو تذهب بعقله، أو تزعزع إيمانه. ولكن هل ينبذ الإنسان كلَّ شيء ويعيش وحيداً، فريداً، هائماً على وجهه؟ الجواب: لا، فالإسلام طلب منا أن نعدِّل ميزان حرارة قلوبنا، فكلَّما انخفضت درجة حرارة الإيمان، رفعناها بالذكر والصلة بالله، والعبادات بأنواعها، والصدقات بمختلف أشكالها، وكلَّما ارتفعت درجة حبِّ الدُّنيا، خفضناها بتذكُّرنا أَنَّ ما عند الله هو خير وأبقى.

إن مهمَّة الإنسان في الوجود أن يكون رقيباً على نفسه، حكيماً يضع الأمور في نصابها، فلا تطغى أمور الدُّنيا على أمور الآخرة، ولا متطلَّبات الجسد على سمُوِّ الروح، لأن الروح هي قبس إلهي في الإنسان، فيجب أن نصونها عن كلِّ ما يَمَسُّ نقاءها وإشراقها، والجسد صدفة فانية فلا نأسى عليه. وبناءً على هذا فقد غلَّبت العقيدة رابطة الإيمان على رابطة النَّسب، لأن الإيمان تيار يسري في القلوب المُحِبَّة، وهو تيار مُصفَّى مُنقَّى، إذا لامس الأنفس أحرق شهوانيتها، وحقَّق إنسانيتها، فتتوحَّد مشاعرها وتترابط في الله ومن أجل الله. أمَّا روابط الدم والنسب، فهي مُعَرَّضة للتذبذب والفتور كلَّما تصادمت المصالح، فكم من ابن عقَّ والديه من أجل المال، وكم من أخ أنكر أُخُوَّته بسبب مصلحة شخصية أو مغنم دنيوي. أمَّا المال فلا أمان له، فهو معرَّض للسرقة أو الخسارة أو الفناء لسبب أو لآخر، وكذلك المساكن والقصور والأثاث والرياش، فهي تملأ العين، ولكنَّها لا تملأ القلب المؤمن أبداً. فإذا لم يستجب المرء لما يحيي موات قلبه وينقذ وجدانه، فإن عقاب الله سينزل به، والله تعالى حين يعاقب لا يعاقب انتقاماً لذاته المقدَّسة، فهو أعظم وأجلُّ وأرفع، بل يعاقب من أساء إلى ميزان الحقِّ الَّذي جعله صمَّام الأمان، لسعادة الإنسان ونقاء ضميره.

فما هو هذا العقاب؟ هل هو عذاب يوم القيامة؟ أم هو زلازل وبراكين وكوارث غالبة؟ لا، إنه قبل ذلك كله الذلُّ والهوان والمسكنة، إنه تسلُّط الأمم الجبَّارة على الأمم الضعيفة، الَّتي ما ضعُفت إلا لأنها خالفت أوامر الله، وتقاعست عن مواصلة السير في طريقه الَّذي هو كَسْرُ كلِّ تعلُّق مادِّي ونفسي، ورَبْطُ القلوب به، وتوجيهُ الأعمال خالصة لوجهه، وبذلك تنال الأُمَّة القوَّة والعزَّة على سائر الأمم، بعلومها المتقدِّمة، وإنسانيتها الخلاقة، وأخلاقها الرفيعة.

إن تعلُّقنا القلبي بحلال ما نملك مرفوض، وهو شِركٌ وبُعدٌ عن الله، فكيف إذا تعلَّقت قلوبنا بما هو حرام وبما نهى الشرع عنه؟ أليس هذا هدراً لإنسانيتنا، وإلغاءً لصوت فطرتنا، وهدماً لأسس مجتمعنا الراقي الفاضل؟.

سورة هود(11)

قال الله تعالى: {ونادى نوحٌ ربَّهُ فقال ربِّ إنَّ ابني مِن أهلي وإنَّ وعْدَكَ الحقُّ وأنت أحْكَمُ الحاكمين(45) قال يانوحُ إنَّه ليس من أهلِكَ إنَّه عملٌ غيرُ صالحٍ فلا تسْأَلْنِ ما ليس لك به علْمٌ إنِّي أعِظُكَ أن تكون من الجاهلين(46)}

ومضات:

ـ إن سبب إلحاح نوح عليه السَّلام على إنقاذ ابنه، رغم شططه وعدم إيمانه بنبوَّته، هو الدافع الغريزي عند كل أب رؤوف، ينغِّصه ويعصر فؤاده، أن يرى ولده مشرفاً على الهلاك والموت.

ـ لا محاباة في شرع الله، فإن صلح عمل الإنسان أعطاه صلة القرب مع الأنبياء والأولياء والمصلحين، وإن فسد عمله انقطعت تلك الصلة، فكم من مقرَّب من الله، عقَّه أولاده وسَخِروا من ولايته وزهدوا به، بسبب قربهم المادِّي منه، ونظرتهم إليه بعين المصلحة والحاجة، دون أن يدركوا منزلته عند الله، فما أفادهم القرب الجسدي شيئاً ولاقَوا المصير الَّذي لاقاه غيرهم من المفسدين.

في رحاب الآيات:

رفضت الشرائع السماوية على الدوام إعطاء القرابة الجسدية أية ميزة أو أفضلية، ما لم تكن مقرونة بقرابة روحية، مبنية على الفهم التامِّ لتعاليم الله وتطبيقها. وهذا ابن نبي؛ خرج على شريعة السماء، وأنكر نبوَّة أبيه، فلفظته القدرة الإلهية، وتركته لأمواج الطوفان تبتلعه، لأنه بسوء عمله أصبح غير مؤهَّل لينال رحمة السماء. وعلى الرغم من محاولة والده النبي، الشفاعة له عند الله، بدافع عاطفة الأبوَّة، حيث نادى ربَّه بأن ابنه من أهله، وقد وعده الله بنجاتهم وحملهم في السفينة، وإن وعد الله حقٌّ لا خُلف فيه، إلا أن الله يجيبه: يانوح إن ابنك ليس من أهلك الَّذين أمرتك أن تحملهم في الفُلك، لأنه سيِّء العمل، فقد انحلَّ الرباط بينك وبينه، ولذلك فإني لا أرضى لك أن تطلب مني أن أتجاوز عنه، وقد تساوى بعمله مع الظَّالمين الكافرين، الَّذين حقَّ عليهم العذاب؛ فلا تسأَلْنِي ما ليس من حقِّك، وأُحذِّرك أن تَضْعُفَ أمام عاطفة فيها مخالفة لأمري. ومثل ذلك أيضاً ما كان بين إبراهيم وذريَّته حيث خاطبه الله قائلاً: {..قال إنِّي جاعِلُكَ للنَّاسِ إماماً قال ومِن ذُرِّيَّتي قال لا ينالُ عهدي الظَّالمين} (2 البقرة آية 124) وكذلك ما كان بين نوح وزوجته ولوط وزوجته، قال تعالى: {ضَرَبَ الله مثَلاً للَّذين كفروا امرأةَ نوحٍ وامرأةَ لوطٍ كانتا تحت عبْدَيْن من عبادِنا صالحَيْن فخانَتاهُما فلم يُغْنِياعنهما من الله شيئاً وقيلَ ادْخُلا النَّارَ مع الدَّاخلين} (66 التحريم آية 10). ولابُدَّ من التنبيه هنا على أن هذه الخيانة، ليست خيانة في العرض والشرف، فهذه مستحيلة في حقِّ الرسل عليهم الصَّلاة والسَّلام، وإنما كانت خيانة هاتين الزوجتين في هجر الرسالة الَّتي جاء بها رسل الله وعدم الإيمان بها. وعلى النَّقيض من ذلك فقد كانت زوجة فرعون، مؤمنة، وزوجها طاغية لم يعرف الإيمان إلى قلبه سبيلاً، قال تعالى: {وضَرَبَ الله مثَلاً للَّذين آمنوا امرأةَ فرعونَ إذ قالت ربِّ ابْنِ لي عنـدَك بيتـاً في الجنَّـةِ ونجِّني مـن فرعـونَ وعمَلِـهِ ونجِّني من القومِ الظَّالمين} (66 التحريم آية 11). ولا يفوتنا في هذا المجال قول الرسول محمَّد صلى الله عليه وسلم : «يافاطمة بنت محمَّد اشتري نفسك من الله، فإني لا أغني عنك من الله شيئاً» (أخرجه الترمذي عن أبي هريرة وأخرجه أحمد بن حنبل عن عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما).

وقد حذَّر الله عباده من الانسياق وراء العواطف، وتغليب رابطة الدم على رابطة الإيمان، وذلك من أجل المحافظة على خصائص الإنسان الذاتية، والمحافظة على الكرامة الموهوبة له من الله تعالى. فالإسلام يجعل العقيدة هي الركيزة الَّتي يقوم عليها التجمُّع الإنساني، والَّتي يتقرَّر على أساسها مصير كلِّ فرد، وهي الَّتي من شأنها أن تنشئ مجتمعاً إنسانياً عالمياً انفتاحياً، ينضمُّ إليه الأفراد من شتَّى الأجناس والألوان، بكامل حرِّيتهم واختيارهم الذاتي.