b12-f5

الفصل الخامس:

دار الأبرار ودار الفُجَّار

سورة الزمر(39)

قال الله تعالى: {ونُفِخَ في الصُّورِ فصَعِقَ من في السَّمواتِ ومن في الأرضِ إلاَّ من شاءَ الله ثمَّ نُفِخَ فيه أُخرى فإذا هم قيامٌ يَنظُرون(68) وأشرقتِ الأرضُ بنورِ ربِّها ووُضِعَ الكتابُ وجيءَ بالنَّبيِّينَ والشُّهداءِ وقُضيَ بينهم بالحقِّ وهم لا يُظْلَمون(69) ووفِّـيَّتْ كلُّ نفْس ما عملتْ وهو أعلمُ بما يفعلون(70) وسيقَ الَّذين كفروا إلى جهنَّم زُمَراً حتَّى إذا جاؤوها فُتِحتْ أبوابُها وقال لهم خزنتُها ألم يأتِكم رسلٌ منكم يتلونَ عليكم آياتِ ربِّكم ويُنذِرونَكم لقاءَ يومِكم هذا قالوا بلى ولكن حقَّتْ كلمةُ العذابِ على الكافرين(71) قيل ادخلوا أبوابَ جهنَّم خالدين فيها فبئسَ مثوى المتكبِّرين(72) وسيقَ الَّذين اتَّقوا ربَّهم إلى الجنَّة زُمَراً حتَّى إذا جاؤوها وفُتِحتْ أبوابُها وقال لهم خزنَتُها سلامٌ عليكم طِبْتم فادخلوها خالدين(73) وقالوا الحمدُ لله الَّذي صَدَقَنا وعْدَهُ وأورثنا الأرضَ نَتَبَوَّأُ من الجنَّة حيث نشاءُ فَنِعْمَ أجرُ العاملين(74) وترى الملائِكةَ حافِّينَ من حولِ العرشِ يسبِّحونَ بحمدِ ربِّهم وقُضِيَ بينهم بالحقِّ وقيل الحمدُ لله ربِّ العالمين(75)}

ومضات:

ـ يعرض الله تعالى مشاهد من يوم القيامة بصورة تنبض بالحياة، حتَّى لكأنها تجري أمام ناظرَي القارئ أو السامع للقرآن الكريم، لعلَّه يدرسها ويأخذ العبر منها.

ـ يبدأ العرض الإلهي بتصوير مشهد من مشاهد فناء الأكوان كلِّها، بحيث لا يبقى بعد النفخة الأولى غير الله الواحد القهَّار، ومن شاء له تعالى أن يبقى. ومن ثمَّ يأذن الله تعالى فيُنْفَخُ في الصور النفخة الثانية، فتعود الحياة من جديد إلى جميع الخلائق، ولكنَّها لا ترى سوى نورٍ وحيدٍ شاملٍ وغامرٍ مصدره ربُّ العالمين.

ـ تقام المحاكمة الإلهية للنَّاس بحضور الأنبياء والشهداء، حيث لا يُظلم أحد شيئاً، ويُوفَّى كلٌّ منهم نتائج عمله.

ـ تُصوِّر الآيات مشاهد الرحيل الجماعي، حيث تساق جماعات الفجَّار إلى جهنَّم مذمومة مدحورة، وتُشرَّف جماعات الأبرار بدخول الجنَّة معزَّزة مكرَّمة.

ـ يجري في أحد مشاهد يوم القيامة حوار بين ملائكة العذاب وبين الكفرة، حيث تُؤنِّبُ الملائكةُ الكفرةَ فيسألونهم سؤالاً استنكارياً: {ألم يَأْتِكم رسلٌ منكم} ويجيبون مع كلِّ الخزي والخُسران: بلى.. ولكن ما الفائدة؟ لقد جاء الإقرار بعد فوات الأوان.

ـ عند أبواب الجنان تستقبل الملائكة وفود المؤمنين، وترحِّب بهم وتشرف على محافل تكريمهم: {سلامٌ عليكم طِبْتُم فادخلوها خالدين}.

ـ لا يملك المؤمنون عند رؤية ما أعدَّ الله لهم من حسن الثواب، إلا المبادرة إلى حمده تعالى وشكره على تحقيق وعده، وإنزالهم حيث يشاؤون، متنعِّمين في جنان ورياحين.

ـ تُكْشَفُ الحجب بالنسبة لأهل الجنَّة بعد دخولها، فيرون عرش ربِّهم تعالت قدرته وعَظُمت هيبته، والملائكة تطوف من حوله مسبِّحة ممجِّدة مُقِرَّةً بوصول كلِّ ذي حقٍّ إلى حقِّه، ويردِّدُ الجميع هتاف الشكر والثناء ويقولون: الحمد لله ربِّ العالمين.

في رحاب الآيات:

مشهد حيٌّ حافل بالصور الحيوية والأفعال والظلال، يطوي في تضاعيفه قصَّة البعث والنشور، تتسارع الأحداث فيه وتتعاقب، ولكن حين تتملاَّها العين، ويعيَها القلب، تنبعث القشعريرة في أعماقه، وكلَّما كان وعي الإنسان أكبر، وتفتُّحه أعظم، كلَّما كانت الهزة الَّتي تعتريه أقوى وأعمق. ولو أن الإنسان آمن بمضمون هذه الآيات ساعة من نهار لانقلبت موازين حياته، ولحرَّم على نفسه الظلم والاعتداء، والشرور والآثام، ولآثر الباقي على الفاني، ولغدا نظيفاً طاهراً مؤهَّلاً لدخول مملكة الله: {يومَ لا ينفَعُ مالٌ ولا بنون * إلاَّ من أتى الله بقلبٍ سليم} (26 الشعراء آية 88ـ89).

والآيات تبدأ بفعلين متتاليين: (نُفِخَ، صَعِقَ) أمَّا النافخ فهو إسرافيل عليه السَّلام بأمر ربِّه، وأمَّا المصعوق فهو كلُّ من خلقه الله في السموات والأرض حيث يخرُّ ميتاً إلا من شاء الله بقاءه. ثمَّ ينفخ في الصور نفخة أخرى، وهي نفخة الإحياء، فإذا جميع الخلائق يقومون من القبور ينظرون ماذا يُؤمرون في هذا اليوم، يوم الحساب، حيث لا شمس ولا قمر ولا نجوم ولا كواكب، فكلها اندثرت وزالت، ولكنَّ نور الله باق وهو الَّذي يضيء أرض المحشر، حين يتجلَّى الباري جلَّ وعلا لفصل القضاء بين العباد. ووُضع الكتاب الحافظ لأعمال العباد، وجيء بالنبيِّين ليشهدوا على أممهم، وأُحضر الشهداء وهم الحفظة من الملائكة، الَّذين يسجِّلون أعمال العباد خيرها وشرِّها. في هذا اليوم يُجازى كلُّ إنسان بما عمل من خير أو شرٍّ، والله تعالى عالم بعمل الجميع ولا حاجة به إلى كتاب ولا إلى شاهد، ومع ذلك تشهد الكتب إلزاماً للحُجَّة على عباده.

ويُطوى مشهد الحساب ليُنشر مشهد آخر، هو فرز النَّاس إلى فريقين: أهل النَّار وأهل الجنَّة. أمَّا أهل النَّار فيُساقون أفواجاً أفواجاً إلى جهنَّم، سوق المجرمين إلى القصاص، لا يملكون سبيلاً للاعتراض ولا يستطيعون التلكُّؤ أو الفرار، وهم يساقون كما يُساق الأشقياء إلى السجون مع الإهانة والتحقير على ضروبٍ شتَّى. وما إن يصل هؤلاء إلى أبواب جهنَّم حتَّى تُفتح لهم سريعاً ليدخلوها، فإذا دخلوها أُغلقت عليهم، ودار حوار بين خزنتها من الملائكة، وبين المجرمين الَّذين كفروا بالله وأشركوا به، وطغَوا واستعلَوا في الأرض، إنه حوار ينطوي على التأنيب والتقريع: أَلَمْ يأتكم رسل من البشر يتلون عليكم الكتب المنزَّلة من السماء..؟ ويخوِّفونكم من شرِّ هذا اليوم العصيب؟ فيقولون: بلى، قد جاؤونا وأنذرونا، وأقاموا علينا الحجج وقدَّموا البراهين، ولكنَّنا كذَّبناهم وخالفناهم، فحقَّ علينا عذاب ربِّنا، فتقول لهم الملائكة: ادخلوا جهنَّم لتَصْلَوْا سعيرها ماكثيـن فيها أبـداً، بلا زوال ولا انتقال، فبئس المقام والمأوى للمتكبِّرين عن الإيمان بالله وتصديق رسله.

وأمَّا الَّذين اتَّقَوا ربَّهم فيساقون إلى الجنَّة جماعات جماعات، وهم الشهداء والعلماء والأتقياء وغيرهم ممن عمل بطاعة الله تعالى. والآية الكريمة عبَّرت عن دخول الفريقين إلى الجنَّة أو النَّار بلفظ واحد مشترك وهو قوله تعالى: {وَسِيْقَ}، إلا أن كيفية السَّوْق لكلِّ فريق تختلف عن الأخرى، وتتناسب مع حالهم وأعمالهم الَّتي قَدِموا بها على ربِّهم، فسوق أهل النَّار هو طردهم وَدَعُّهم إليها بالخزي والهوان دعّاً، وسَوْقُ أهل الجنَّة هو سَوْقُ مراكبهم إلى دار الكرامة والرضوان، لأنهم يَذهبون إليها راكبين كما يُفعل بمن يُشرَّف ويُكرَّم من الوافدين، فالفرق بين السَّوقين كالفرق بين المصيرين.

فإذا وصل المؤمنون الجنَّة وجدوا أبوابها مفتَّحةً لهم مستعدَّة لاستقبالهم، وهذا لعظيم كرامتهم عند الله تعالى، وهم يساقون إلى الجنَّة بحسب مراتبهم، المقرَّبون فالأبرار ثمَّ الَّذين يلونهم، كلُّ طائفة منهم مع من يشاكلهم، الأنبياء مع الأنبياء، والصدِّيقون مع الصدِّيقين، والشهداء مع أمثالهم، والعلماء مع أقرانهم وهكذا. وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: {يومَ نحشُرُ المتقينَ إلى الرحـمنِ وَفْـداً} (19 مريم آية 85) وقوله تعـالى: {ونَسـوقُ المجْرِمين إلى جهنَّم وِرْداً} (19 مريم آية 86).

ومما يجدر ذكره أن للجنَّة أبواباً ثمانية، روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما منكم من أحد يتوضأ فيُسبِغ الوضوء، ثمَّ يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمَّداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنَّة الثمانية يدخل من أيِّها شاء» (رواه مسلم وغيره)، وأخرج الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في الجنَّة ثمانية أبواب منها باب يسمى الريَّان لا يدخله إلا الصائمون». فإذا وصل أهل الجنَّة إلى جنانهم استقبلتهم الملائكة استقبالاً طيِّباً بالسَّلام والتحيَّة، والثناء المستحبِّ، مع بيان السبب، لقد طبتم وتطهرتم بطاعة الله والعمل الصالح، وجئتم طيِّبين، فما يكون في الجنَّة إلا الطيِّب، وما يدخلها إلا الطيِّبون، ولكم الخلود في هذا النعيم.

هنا تتعالى أصوات أصحاب الجنَّة بالتسبيح والتحميد، لأن الله صَدَقَهم وعده الَّذي وعدهم به على ألسنة رسله الكرام فيقولون: الحمد لله الَّذي أَنْزَلَنا هذه الدار، نتصرَّف في أرض الجنَّة تصرُّف الوارث فيما يرث، فنتَّخذ منها مسكناً حيث شئنا، فنِعْمَ الأجر أجرنا على عملنا، ونِعْمَ الثواب الَّذي أعطيتنا!! وترى الملائكة محيطين بجوانب العرش، قائمين بجميع ما يُطلب منهم، يسبِّحون الله ويمجِّدونه تلذُّذاً وتعبُّداً، ثمَّ يُختم المشهد وألسنة الخلق تلهج بالشكر والحمد لله ربِّ العالمين، الَّذي قضى بين عباده بالحقِّ والعدل، وهو أحكم الحاكمين.

سورة الحديد(57)

قال الله تعالى: {سابِقوا إلى مغفرةٍ من ربِّكم وجنَّة عَرضُها كعرضِ السَّماءِ والأرضِ أُعِدَّتْ للَّذين آمنوا بالله ورُسُلِهِ ذلك فضلُ الله يؤْتيهِ من يشاءُ والله ذو الفضْلِ العظيم(21)}

ومضات:

ـ إن أَهمَّ سباق ينبغي للمرء أن يخوض غِماره في هذه الحياة الدُّنيا، هو السباق إلى كسب المغفرة الإلهية، لأن نتيجة هذا السباق ستنعكس على حياته في الدار الآخرة، دار الخلود، وكلُّ ما دون ذلك فهو زائل.

ـ الجنَّة الَّتي أعدَّها الله تعالى مكافأة للفائزين في هذا السباق، بلغت منتهى الجمال والكمال والسعة، ففيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

في رحاب الآيات:

إن غريزة حبِّ التسابق والتنافس مزروعة في حنايا النفس البشرية منذ بدء الخليقة، فالإنسان توَّاق دائماً للوصول إلى الأفضل والأحسن، وقد أشبع غريزته هذه في ميادين المصارعة والفروسية والصيد ومواجهة الحيوانات الضارية، وكذلك في الحروب والغزوات، وكلِّ ما فيه متَّسع لإبراز الكفاءات والقوى الفردية. وتأتي الآية الكريمة لتوجِّه هذه الغريزة، وتضعها في أفضل مسار دون الإقلال من شأن المسارات الأخرى، هذا المسار هو مجال كسب المغفرة الإلهية. والسباق هنا ليس مبنيّاً على القوَّة العضلية أو العقلية، بل على الإرادة والعزيمة للتوجُّه الروحي والنفسي والفكري، إلى العمل والبذل وكسب رضا الله تعالى، إنه سباقٌ خطوط نهاياته متعدِّدة متباينة، وهي تمثِّل درجات الجنان، آخرها وأرقاها علِّيون، وعلِّيون لأولي الألباب والبصائر الَّذين تفتَّحت قلوبهم بنور الله، وعملوا وبذلوا قُصارى جهدهم لكسب رضا الله عزَّ وجل، والَّذي لا يُلقَّاه إلا الراغبون المُجِدُّون، قال تعالى: {خِتامُهُ مِسْكٌ وفي ذلك فليتنافسِ المتنافِسون} (83 المطففين آية 26). وإن من أبرز علامات هؤلاء المتنافسين أنهم يملكون قلوباً يقظة منوَّرة، ما إن تتلقَّى الأمر حتَّى تستجيب، وما إن تُلمس حتَّى يتَّقد فيها الإدراك والشعور، وأوَّل ما تنتبه إليه هو تقصيرها وتفريطها، فتتَّجه إلى ربِّها وهو المَلاذ، لتطلب المغفرة وتكفير السيئات والانضمام إلى سلك الأبرار. ومع الشعور بالرهبة تتوثَّب في صدورهم الرغبة والطمع برحمة الله، فهم يلتمسون من الله النجاة من العذاب، ويستدرُّون عطفه ورحمته بأن يعطيهم ما وعدهم من حسن الجزاء في الدُّنيا والآخرة، إنجازاً لوعده الَّذي بَلَّغتهم إيَّاه رسل الله، وهو سيادة الدُّنيا في قوله تعالى: {وَعَدَ الله الَّذين آمنوا منكم وعملوا الصَّالحاتِ ليَستَخلِفنَّهُم في الأرض كما استخلفَ الَّذين من قبلهم وليُمكِّنَنَّ لهم دينهُمُ الَّذي ارتضى لهم ولَيُبدِّلَنَّهُم من بعدِ خوفهم أمناً يعبدونني لا يُشركون بي شيئاً..} (24 النور آية 55) وسيادة الآخرة في قوله تعالى: {وعَدَ الله المؤمنينَ والمؤمناتِ جنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدينَ فيهَا ومَسَاكِنَ طيِّبةً في جَنَاتِ عدنٍ ورضوانٌ منَ اللهِ أكبرُ ذلكَ هو الفوزُ العظيِمْ} (9 التوبة آية 72) والله لا يخلف الميعاد.

فما أعظم أن يتحقَّق الأمل، ويُستجاب الدعاء الَّذي كانوا يدعون الله به كما علَّمهم إياه: {ربَّنا إنَّك من تُدخِلِ النَّار فقد أخزَيتَهُ وما للظَّالمينَ من أنصارٍ * ربَّنا إنَّنا سَمِعنَا مُنادياً يُنادي للإيمانِ أن آمِنوا بربِّكُم فآمَنَّا ربَّنا فاغفِر لنا ذنوبَنا وكَفِّر عنَّا سيِّئاتِنا وتوفَّنا مع الأبرار * ربَّنا وآتنا ما وعَدتنا على رُسُلِكَ ولا تُخزِنا يومَ القيامة إنَّك لا تُخلِفُ الميعاد} (3 آل عمران آية 192ـ194).

ولابُدَّ لصاحب العقيدة الَّذي ينوي أن يدخل في هذا السباق من أن يتعامل مع هذا الوجود الكبير، ولا يحصر نفسه ونظره واهتمامه في عالم الأرض الضيِّق الصغير، لابُدَّ له من هذا ليؤدِّي دوره اللائق به، هذا الدور الشاقُّ الَّذي يصطدم بأطماع النَّاس كما يصطدم بضلال القلوب والتواء النفوس، ويعاني من مقاومة الباطل وتشبُّثه بموضعه من الأرض، ما لا يصبر عليه إلا من يتعامل مع وجود أكبر من هذه الحياة، غير عابئ ولا هيَّاب من الفَناء الَّذي سينال جسده. ومن ثمَّ يبقى صاحب العقيدة في أُفق الحقيقة الكبيرة مستعلياً على واقع الأرض الصغير، مهما تضخَّم هذا الواقع وامتدَّ واستطال، ويتعامل مع الوجود الكبير الَّذي يتمثَّله من خلال ما جاءت به رسالة السماء، ويتمثَّله في مُلك الآخرة الواسع العريض، وفي القيم الإيمانية الثابتة، الَّتي لا تهتزُّ لخلل يقع في موازين الحياة الدُّنيا الصغيرة الخادعة. وتلك هي وظيفة الإيمان في حياة أصحاب العقائد المختارين لتعديل قيم الحياة وموازينها، والخضوع لمقتضياتها، جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه : «أن فقراء المهاجرين أتَوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدُّثور بالدرجات العُلى، والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ فقالوا: يُصلُّون كما نصلِّي، ويصومون كما نصوم، ويتصدَّقون ولا نتصدَّق، ويُعْتِقون ولا نُعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفلا أعلِّمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يارسول الله، قال: تسبِّحون وتَحْمَدون وتكبِّرون، دُبُرَ كلِّ صلاة ثلاثاً وثلاثين مرَّة، فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» (متفق عليه). على أنه يمكن للفقراء أن ينالوا ما لا يناله الأغنياء من الثواب على صبرهم على الفقر وشكرهم لله في العُسر واليُسر. والله ذو الفضل العظيم، فهو واسع العطاء، عظيم الفضل، يعطي من يشاء ما شاء كرماً منه وتفضُّلاً، ثمَّ يجزيه في الآخرة ما أعدَّه له من جنَّة عرضها كعرض السموات والأرض.

سورة الذاريات(51)

قال الله تعالى: {إنَّ المتَّقينَ في جنَّاتٍ وعُيون(15) آخذينَ ما آتاهُم ربُّهم إنَّهم كانوا قبلَ ذلك مُحسِنين(16) كانوا قليلاً من اللَّيلِ ما يهْجَعون(17) وبالأسحارِ هُمْ يستَغْفرون(18) وفي أموالِهم حقٌّ للسَّائل والمحروم(19)}

ومضات:

ـ إن الَّذين صانوا أنفسهم عن كلِّ ما يسخط الله تعالى، واجتهدوا في كسب رضائه، لهم النعيم المقيم، والشراب السائغ، يتقلَّبون في الرفاهية الَّتي منحهم الله تعالى إياها من فضله وكرمه، قد حقَّ لهم هذا التكريم، لأنهم أمضوا حياتهم في الإحسان إلى الخلائق والاعتناء بأمورهم الحياتية والروحية، بعد أن امتزجت أرواحهم بمحبَّة الله، والقرب منه في قيام الليل والنَّاس نيام، فهم في صلاة واستغفار وتسبيح، وفي إنفاق وبذل للمحتاجين والمعوزين.

في رحاب الآيات:

إن أحلى ما يمتِّع النفس البشرية ويُشعرها بالراحة والأمان، الماء والخضرة، فكم يتوق المرء إذا ما داهمه التعب وأرهقه العمل، إلى أن يأوي إلى بستان ظليل وماء نمير، يُريح أعصابه فيه، ويلتقط أنفاسه ليتابع مسيرة الحياة بجدٍّ وحيوية؛ فكيف بمن جاهد نفسه وهواه، وذاب كيانه حباً في الله، وحرصاً على طاعته؟ ليله أُنس بالله، وتذلُّلٍ له، وقُرب منه، لا ينام إلا القليل، ويقطع الليل بالصَّلاة، ويتبعها بالاستغفار عن تقصيره، وهو يرى نفسه مقصِّراً بحقِّ ربِّه على الدوام، أمَّا نهاره فهو بذل وسخاء للسائل المحتاج، وللمتعفِّف الَّذي لا يسأل النَّاس لتعفُّفه وحيائه؛ أفلا يستحقُّ مثل هذا المؤمن نعيماً أبديّاً في بساتينَ وجنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهار له فيها فاكهة ممَّا يتخيَّر، ولحم طيرٍ مما يشتهي، وحورٌ عين، وله ما يرضيه ويغنيه ويفوق ما كان يأمله؟ فكلُّ تجارة دنيوية تتعرَّض للربح والخسارة، ويصاحبها القلق والخوف إلا التجارة مع الله، تدفع له القليل فيعطيك الكثير، وتستشعر الخوف فيمدُّ لك حبل الأمان.

سورة ق(50)

قال الله تعالى: {وأُزْلِفَتِ الجنَّة للمُتَّقينَ غيرَ بعيد(31) هذا ما توعَدونَ لكلِّ أوَّابٍ حفيظ(32) من خَشيَ الرَّحمنَ بالغيبِ وجاء بقلبٍ مُنيب(33) ادخلوها بسلامٍ ذلك يومُ الخلود(34) لهم ما يَشَاؤون فِيهَا وَلَدَينَا مَزِيْد(35)}

ومضات:

ـ الجنَّة غير بعيدة عن متناول المتَّقين، بل هي أقرب إليهم ممَّا يتصوَّرون، مكافأة لهم على كثرة استغفارهم لحضرة الله، وحفظهم لحدوده، وحماية أنفسهم من الوقوع في الخطايا، قد امتلأت قلوبهم من خشية الله، سواء أمام النَّاس أم بعيداً عنهم، ولهذا فهي طاهرة من العيوب والذنوب، مليئة بحبِّ الله، مضيئة بأنواره، أهلٌ لتجلياته ونفحاته.

ـ تبدأ حياة النعيم للمؤمنين لحظة مفارقة أرواحهم لأجسادهم، فإذا كان يوم الدِّين أُدخلوا جنَّات النعيم، حيث ينالون ما يرغبون، ولهم فيها فوق ما يتصوَّرون أو يحلمون وهم فيها خالدون.

في رحاب الآيات:

قد يظنُّ بعض النَّاس أن طريق الجنَّة طويل وصعب، مجهد وشاقٌّ، فيشعر بالإحباط والفتور لعدم استطاعته اجتياز هذا الطريق. ولكنَّ الله تعالى يؤكِّد أن الجنَّة قريبة، والوصول إليها بمتناول اليد؛ وهي وعدٌ من حضرة الله ليس لمن لا يخطئ، بل هي لمن هو كثير الخطأ لكنَّه سريع التوبة والاستغفار. فالإحباط يحصل بسبب اليأس، والإسلام حرب على اليأس والقنوط والتخاذل، ودفعٌ إلى العمل على حفظ حدود الله، وصيانة النفس من العيب والخطأ، لاسيَّما حينما نكون مستورين عن أعين النَّاس أو مراقبتهم لنا، لأن المهمَّ هو مراقبة الله لنا وليس مراقبة النَّاس.

وهناك المزيد من عذاب الله لمن يتقاعس أو يعرض وينأى بجانبه، وهناك المزيد المزيد من جود الله وكرمه للذين يرجون فضل الله، ويطرقون أبواب رضاه تواضعاً وافتقاراً إليه.

والآيات الَّتي نحن بصددها تعرض مشهداً حيّاً للنعيم الَّذي ينتظر أهل الصلاح والتوبة، فالجنَّة قُرِّبت وأدنيت منهم بحيث تكون بمرأىً منهم مبالغة في إكرامهم، ويقال لهم: هذا النعيم هو ما وعد الله به كل عبدٍ أوَّابٍ، أي رجَّاع إلى الله، حافظ لعهده وأمره، مطيع للرحمن دون أن يراه، لقوَّة يقينه وشدَّة إيمانه به. وتتلقَّاهم الملائكة بالسَّلام، والبُشْرى لهم بالنجاة من العذاب والهموم والأكدار، ذلك هو يوم البقاء الَّذي لا نهاية له أبداً. ولهم في الجنَّة ما تشتهيه أنفسهم، وتلذُّ به أعينهم، وعند الله زيادة على ذلك في الإنعام والإكرام، وهو التفضل عليهم بإتاحة النظر إلى وجهه الكريم.

فما أجمل هذا النداء وأكرمه عندما ينادى المؤمنون بهذا النداء، ادخلوا الجنَّة بسلام، ذلك اليوم هو يوم الخلود في النعيم الأبدي المقيم، إنهم سالمون من الهموم والأحزان، سالمون من العذاب الَّذي يعانيه الكافرون الَّذين ينادَون بقوله تعالى: {قيلَ ادخلوا أبوابَ جهنَّم خالدينَ فيها فبئْسَ مثوى المتكبِّرين} (39 الزمر آية 72) إنهم يتخاصمون ويتنازعون فيأتيهم النداء الإلهي بقوله تعالى: {قال لا تختصِموا لديَّ وقد قدَّمْتُ إليكم بالوعيد * ما يُبَدَّلُ القولُ لديَّ وما أنا بظلاَّمٍ للعبيد} (50 ق آية 28ـ29) فعندما يعاني المجرمون ويلات الفزع الأكبر، ويتجرَّعون غُصص العذاب الجهنَّمي المقيم، تكون الجنَّة قد أُعِدَّت وزُيِّنَت وقُرِّبَت للمؤمنين فهم منها غير بعيد.

إن هذا التقابل في عرض مشاهد المصير الَّذي سيؤول إليه أبناء آدم عمَّا قريب، يحملهم على الإيمان بالله الإيمان الصادق، والسعي في سبيل مرضاته للفوز بالجنَّة والنجاة من النَّار، وإن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

سورة الصافات(37)

قال الله تعالى: {إنَّكُم لذائِقوا العذَابَ الأَليم (38) وما تُجْزَونَ إلاَّ ماكنتم تَعملون(39) إلاَّ عبادَ الله المُخْلَصين(40) أولئك لهم رِزْقٌ مَعلوم(41) فَواكِهُ وهم مُكْرَمون(42) في جنَّاتِ النَّعيم(43) على سُرُرٍ مُتقابلين(44) يُطافُ عليهم بكأسٍ من مَعين(45) بيضاءَ لَذَّةٍ للشَّاربين(46) لا فيها غَوْلٌ ولا هم عنها يُنزَفون(47) وعندهم قاصِراتُ الطَّرفِ عِين(48) كأنَّهنَّ بَيْضٌ مَكْنون(49)}

ومضات:

ـ تتضمَّن هذه الآيات ومضات سريعة عن نعيم الجنَّة، الَّتي أعدَّها الله تعالى لعباده المُخلصين المؤهَّلين لدخولها، والتنعُّم بخيراتها وحسانها، بعد أن وقاهم من العذاب الرهيب.

في رحاب الآيات:

مكافأة الله لعباده الصالحين أكبر وأعظم بكثير مما قدَّموه من أعمال صالحة، وكثيراً ما تتحدَّث الآيات القرآنية عن هذه المكافأة الممثَّلة بجنَّات الخلد، وما فيها من متع ومباهج تَسُرُّ الأنفس، وتُطْرِب القلوب. وقبل الحديث عن الثواب، تتحدَّث الآيات عن العقاب الَّذي سينال العُصاة، وما ينالهم العذاب إلا بسبب ما قدَّمت أيديهم من معصية وشرك بالله الخالق العظيم. ثمَّ يستثني الله سبحانه عباده المُخْلَصين من التعرُّض للعذاب الأليم، وهم الَّذين آمنوا بالله وأخلصوا له العمل وأنابوا إليه، أولئك لهم جنَّات يتمتَّعون فيها بكلِّ ما لذَّ وطاب، من الفاكهة ذات الطعم اللذيذ والرائحة الزكية، وتأتيهم وهم مُكرَّمون كما كانت تُقدَّم للملوك وأصحاب الجاه في الحياة الدُّنيا.

وفي ذلك إيماءٌ إلى أن ما يأكلونه في الجنَّة إنما هو للتفكُّه والتلذُّذ لا للقوت، لأنهم في غنى عنه لعدم تحلُّل شيء من أجسامهم بالحرارة الغريزية حتَّى يحتاجوا إلى بديل عنه. أمَّا مكان إقامتهم فهو الجنَّة؛ جنَّة النعيم والخُلد، ينعمون فيها على أَسِرَّة مرصَّعة بالدُّرِ والياقوت، تدور بهم كيف شاؤوا متقابلين تواصلاً وتحابباً، وهم يتمتَّعون بطيب الحديث، وفي ذلك لذَّة روحية لا يدركها إلا من ذاق طعمها.

ويطوف عليهم خدم الجنَّة بكأس من الخمر من نهر جار من إحدى عيون الجنَّة، وهذه الخمر صافية بيضاء ذات لذَّة للشاربين، وليس فيها ما يغتال عقولهم فيفسدها، ولا هم يسكرون بشربها، ولا يقعون في العربدة الَّتي تذهب بهيبة شاربها واتِّزانه، كما هي حال خمر الدُّنيا.

ويثير بعض النَّاس الشكوك حول قضية تحريم شرب الخمرة في الحياة الدُّنيا، بينما هي مباحة في الدار الآخرة، لذا أتت الآية الكريمة لتوضح بأن خمرة الجنَّة ليس فيها غَول، أي إنها خمرة خالية من المادَّة الـمُسكرة الَّتي تأخذ بالعقول، وتسلبها التفكير السليم.

وعند أهل الجنَّة الحور العين، العفيفات اللواتي قَصَرن أعينهنَّ على النظر إلى أزواجهن، فلا ينظرن إلى غيرهم حياءً وعِفَّةً، واسعات العيون في جمال أخَّاذ، كأنهن اللؤلؤ المكنون في أصدافه، مع رقّـَة ولطـف ونعومة؛ كمـا ذكر الله تعالى: {وحُورٌ عِيْنٌ* كأمْثالِ اللُّؤلؤ المَكْنون} (56 الواقعة آية 22ـ23).

وهكذا فإن أهل الجنَّة ينعمون بكلِّ ما تشتهيه النفس من طيِّب الطعام، ولذيذ الشراب، والحور العين، ولهم فضل أكبر من ذلك هو رضوان الله، وذلك هو الفوز العظيم. وعلى الرغم من المغريات الَّتي أعدَّها الله تعالى لعباده في جنانه، كي يتحمَّسوا للحصول عليها، فإن أهل العلم واليقين، يعبدون الله تعالى لأنه يستحقُّ العبادة، فلا طمع لديهم بجنَّته، ولا خوف عندهم من ناره، بل حافزهم هو الحبُّ الحقيقي لله ولا شيء غيره.

سورة ق(50)

قال الله تعالى: {يومَ نقولُ لجهنَّم هل امتلأتِ وتقولُ هل مِن مَزيد(30)}

ومضات:

ـ قد يعتقد بعض النَّاس أنه يمكن لجهنَّم أن تمتلئ بالأقوام الَّذين سبقوهم، فينجون منها لأنه لم يبق لهم فيها مكان، وحقيقة الأمر أنها يمكن أن تستوعب جميع الكفرة والمذنبين، منذ بدء الخليقة إلى آخر يوم من أيام الدُّنيا، بل إنها لتسع منهم المزيد والمزيد.

في رحاب الآيات:

ظلَّ كثير من أبناء الأجيال السابقة يؤمنون ببعض إعجازات القرآن الكريم إيماناً غيبياً، فيه من التسليم بصدقه أكثر من القناعة العقلية به، تسليماً تكلِّله برودة اليقين، وقد جاءت الأدلَّة العلمية اليوم لتؤكِّد تلك القناعات وتزيدها عمقاً ورسوخاً، فمن يقرأ هذه الآية {يومَ نقولُ لجهنَّم هل امتلأْتِ وتقولُ هل من مزيد} قد يتساءل: هل يعقل وجود مكان لا يمتلئ مهما وضعت فيه من مخلوقات؟ وكيف يعقل أن توضع الأعداد الهائلة من الخلائق في جهنَّم دون أن تضيق بهم؟ بل إنها على النقيض من ذلك تسأل هل من مزيد؟. وقد أسفرت الدراسات الكونية المتقدِّمة جدّاً، عن وجود بقع سوداء في أرجاء الكون الفسيح، تلتهم كلَّ ما يقترب منها من كواكب بأحجامها الضخمة، والَّتي يعادل حجم الواحد منها كوكب الأرض بآلاف المرات. هذا الكوكب تلتهمه البقعة وكأنه كرة صغيرة لا تكاد تظهر، حتَّى إن علماء الفلك أصابهم الذهول من هول ما رأوا وما رصدوا، وكأنَّ هذه البقعة كلَّما التهمت كوكباً نظرت بسخرية إلى ما حولها وقالت: هل من مزيد؟؟ أفلا يمكن لخالق هذه الظواهر الكونية، أن يخلق جهنَّم لا تمتلئ ولا تزال تطلب المزيد؟.