b12-f4

الفصل الرابع:

وفاء الأجور على الأعمال

سورة يونس(10)

قال الله تعالى: {ألا إنَّ أولياءَ الله لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزَنون(62) الَّذين آمنوا وكانوا يتَّقون(63) لهم البُشرى في الحياةِ الدُّنيا وفي الآخرةِ لا تبْديلَ لكلماتِ الله ذلك هو الفوزُ العظيم(64)}

ومضات:

ـ كلَّما ازداد المؤمن رُقيّاً في سلوكه وقُرْبِهِ من حضرة الله، زاده الله شمولاً بعنايته ورعايته وحسن توفيقه.

ـ البشائر الإلهية والمِنح الربانيَّة تتنزَّل على أولياء الله، في الدُّنيا قبل الآخرة، وفي الحياة قبل الممات، فإن شعر المؤمن بنقص عطاء الله، فليفتِّش في دخائل نفسه وليحاسب ذاته، فإن المستقيم على طريق الله يكون في زيادة من فضل الله من غير نقصان، وهذا قانون الله ولا مبدِّل لقوانينه.

في رحاب الآيات:

أولياء الله هم الَّذين تولَّوا تنفيذ تعاليمه بدقَّة وأمانة واندفاع في أنفسهم، وفيمن تولَّوا رعايتهم، يتقرَّبون إليه تعالى بالطاعة والتفكُّر، وهم يرون عياناً دلائل قدرته تملأ الكون، فلا يسمعون إلا كلامه، ولا يتحرَّكون إلا في خدمته، ولا يَجهَدون إلا في طاعته. روى سعيد بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل: «مَنْ أولياء الله؟ فقال: الَّذين يُذكر الله برؤيتهم» (أخرجه أحمد ابن حنبل وأبو نعيم في الحلية)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابُّون بجلالي، اليوم أظلُّهم في ظلِّي يوم لا ظلَّ إلا ظلِّي» (أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن من عباد الله ناساً يغبطهم الأنبياء والشهداء، قيل: من هم يارسول الله؟ قال: قوم تحابُّوا في الله من غير أموال ولا أنساب، لا يفزعون إذا فزع النَّاس، ولا يحزنون إذا حزنوا، ثمَّ تلا صلى الله عليه وسلم : {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}» (أخرجه أبو داود وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب عن عمر رضي الله عنه ).

وهؤلاء لا يخافون من غوائل الدهر، لأن عناية الرحمن تحفُّ بهم، وأنظاره الخفية تحرسهم ليل نهار، فقد آمنوا الإيمان الصادق واتَّقَوا كلَّ مفسدة، فترى البشائر السماوية تتنزَّل عليهم في الدُّنيا، ويتجلَّى ذلك في وجوههم المشرقة المستبشرة الَّتي تطفح بالرضا والسعادة، كما يتجلَّى في الثناء الحسن، والذكر الجميل، ومحبَّة النَّاس لهم، قال صلى الله عليه وسلم : «قال الله تعالى: حقَّت محبَّتي للمتحابِّين فيَّ، وحقَّت للمتزاورين فيَّ، وحقَّت للمتجالسين فيَّ، الَّذين يعمرون مساجدي بذكري ويعلِّمون النَّاس الخير ويدعونهم إلى طاعتي، أولئك أوليائي الَّذين أُظلُّهم في ظلِّ عرشي، وأسكنهم في جواري، وآمَنُهُم من عذابي، وأُدخلهم الجنَّة قبل النَّاس بخمسمائة عام، يتنعَّمون فيها وهم خالدون» (أخرجه أحمد وابن حبان وأبو نعيم في الحلية عن معاذ بن جبل رضي الله عنه وأخرجه البيهقي في السنن عن عبادة بن الصامت). وإن لهم البشرى في الآخرة، حيث تتلقَّاهم الملائكة مبشِّرين لهم بالفوز والكرامة والجنَّة كما ورد في الآية الكريمة: {إنَّ الَّذين قالوا ربُّنا الله ثمَّ اســتقاموا تتنَزَّلُ عليهِمُ الملائكةُ ألاَّ تخافوا ولا تحزَنوا وأَبْشـروا بالجنَّة الَّتي كنتم تُوعَدون * نحن أولياؤكُم في الحياةِ الدُّنيا وفي الآخرةِ ولكم فيها ما تشتَهي أنفسُكُم ولكم فيها ما تدَّعون * نُزُلاً من غفورٍ رحيم} (41 فصلت آية 30ـ32) وهذا عهد من الله لعباده المؤمنين، ولن يُخلف الله وعده، فمن يفعل الخير لا يعدم ثوابه وذلك هو الفوز العظيم.

سورة الشورى(42)

قال الله تعالى: {ذلك الَّذي يُبَشِّرُ الله عبادَهُ الَّذين آمنوا وعملوا الصَّالحاتِ قلْ لا أسئلُكُم عليه أجراً إلاَّ المَوَدَّةَ في القُربى ومن يقتَرفْ حسنةً نزِدْ له فيها حُسْناً إنَّ الله غفورٌ شكور(23)}

ومضات:

ـ يبشِّر الله تعالى عباده المؤمنين، الَّذين جُبلت أرواحهم على محبَّته واتِّباع تعاليمه، بجنَّات الخلد والنعيم المقيم.

ـ لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ينتظر لقاء تبليغه رسالة السماء، أن يكافئه النَّاس، أو أن يحقِّق لنفسه ربحاً أو مكسباً شخصياً، إنما كان همَّه بثُّ الوُدِّ في الأنفس وزرع المحبَّة في القلوب، وتقارب النَّاس بالإيمان وروابطه.

ـ يضاعف الله تعالى الثواب للمحسنين تشجيعاً لهم لزيادة إحسانهم، وشدّاً لعزائمهم، ويغفر ويتجاوز عما لا يقدرون عليه، ويشكر لهم ما يقومون به من عمل الخير والتعاون الإنساني.

في رحاب الآيات:

ترسم الآية الكريمة المسار الصحيح لكلِّ من يقوم بالدعوة والإرشاد، كي تجعل غايته الوحيدة من تبليغ هذا الدِّين القويم هي مرضاة الله، والعمل على ربط القلوب بمحبَّة الله تعالى، وتواددها لنشر العلم والأخلاق بين النَّاس أجمعين، أمَّا ما عدا ذلك من زخارف الدُّنيا وحُطامها فلا وجود لها في نيَّة الداعي إلى الله تعالى. وفي هذه الآية تتجلَّى لنا مهمة الداعي إلى الله بشكلها الصحيح، في توجيه الله جلَّ وعلا لرسوله الكريم، حين يأمره أن يبيِّن لقومه أنه يعمل لله ولا يريد منهم شيئاً من الأجر والمال، لقاء تبليغ الرسالة، وكلُّ ما يطلبه منهم بادئ الأمر أن يحفظوا حقَّ ذوي القربى، وأن يوادُّوا الله بتقرُّبهم إليه بالطاعة والعمل الصالح. أخرج الترمذي وحسَّنه والطبراني والحاكم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أَحِبُّوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبُّوني لحبِّ الله إياي، وأحبُّوا أهل بيتي لحبِّي».

ومنذ بزوغ فجر الإسلام وحتَّى اليوم، ظهر الكثير من العلماء الأفاضل ممن أدلَوا بدلوهم في دراسة الإسلام وفهمه، ومن ثمَّ تدريسه وتعريف عامَّة النَّاس به. ومن هؤلاء العلماء من جمع بين العلم والتجارة، فاشتُهِر بعلمه وثروته، ومنهم من أنفق كلَّ ما كسبت يداه في تشجيع طلب العلم والتعلُّم، ومنهم من عاش وَرِعاً بعيداً عن الدُّنيا، مقتنعاً بالقليل، على الرُّغم من حاجته وقلَّة ذات يده. وقد اختلف النَّاس في تقييم العلماء حسب غناهم وفقرهم، فبعضهم يغالي ويبالغ رافضاً مجرَّد السماع لعلم العالم، إذا كان غنياً، بغضِّ النظر عن ثراء فكره وغنى معلوماته. ومنهم من تحرَّر من هذه النظرة الساذجة فراح يتلمَّس العلم والحكمة والتُقى، فحيث وجد ذلك حطَّ رحاله، لأن الحكمة ضالَّة المؤمن وحيثما وجدها أخذ بها.

فالعلاقة بين الداعي إلى الله وبين من يدعوهم، هي علاقة روحية قبل كلِّ شيء، ومهمَّته أن يقرِّب المسافة بينهم وبين شرع خالقهم، لينالوا الخير والنعيم، والرضا والقرب، من ربِّهم العظيم. ولكنَّ هذا لا يمنع أن يقبل الداعية هدايا النَّاس وأعطياتهم تقديراً لعلمه وجهوده الخيِّرة، ولو كان ذا سعة ويسار، فله أن يقبل ما يهدى إليه، وأن يتصرَّف فيه بما يُرضي الله عنه. ويستحسن للعالم المتخصِّص بالمواضيع الإرثية وخلافها، أن يتقاضى أجراً على حلِّ المشاكل الَّتي تُطرح عليه، لأجل تصفية التركات، أو الأوقاف الذريَّة لما في ذلك من مشقَّة وجُهد، عليه أن يبذله لإيصال الحقوق لأصحابها.

ومع ذلك فإننا نجد في عصرنا الحاضر ـ عصر التخصُّص في العلوم ـ أنَّ المحامي يتقاضى رسوماً عن استشارته، وكذلك الطبيب والمهندس وغيرهم من أصحاب المهن والحرف، بينما نجد النَّاس يطرقون أبواب العلماء، الَّذين يصرفون كلَّ وقتهم وجهدهم في طلب العلم ـ ومنـهم من يكون محتاجاً ـ ويسألونهم ويستفتونهم، ويُمضون معهم الساعات لأخذ أجوبتهم، ثمَّ لا يقدِّمون لهم سوى كلمات المجاملة والشكر، وجزاكم الله عنا وعن المسلمين كلَّ خير؛ دون النظر في أحوال معيشتهم، أو دراسة احتياجاتهم الدنيوية. لذا كان لابُدَّ من إنصاف هؤلاء العلماء من قبل هؤلاء العوامِّ من النَّاس ـ عوامِّ العقل وأشحَّاء الأيدي ـ وأقلُّ الإنصاف هو تقويم الوقت الَّذي يهبونه إليهم، فلا يهدرونه ولا يصرفونه سدى دون قيمة. فمن لم يشكر النَّاس لم يشكر الله، والله شكور لا يجحد عمل عباده المحسنين، بل يعطيهم أجرهم كاملاً، ويضاعفه لهم، بأن يغفر لهم سيئاتهم، ويزيد لهم في حسناتهم، ويشكر لهم إحسانهم فهو الغفور الشكور. والحياة الدُّنيا لها متطلَّباتها وحوائجها ونفقاتها، وليس من عادة الله أن ينزل المال اللازم مطراً من السماء، بل العباد يرزق بعضهم بعضاً بإذن الله، ولو بقي المجتمع كما هو الآن متنكِّراً لحقِّ هؤلاء في الدخل المجزي والعيش الكريم، لأوشك أن يأتي على النَّاس يوم لا يجدون فيه من يفتيهم في شيء، ولو عومل الأطباء أو المهندسون أو المحامون أو غيرهم من أصحاب الاختصاص هذه المعاملة، لبطلت تلك الحرف وتعطَّلت تلك المصالح.

سورة النور(24)

قال الله تعالى: {والَّذين كفروا أعمالُهُم كسرابٍ بِقِيعَةٍ يحسَبُهُ الظَّمآنُ ماءً حتَّى إذا جاءَهُ لم يجدْهُ شيئاً ووجدَ الله عندَهُ فوفَّاهُ حسابَهُ والله سريعُ الحساب(39) أو كظلُماتٍ في بحرٍ لُجِّيٍّ يغشاهُ موجٌ من فوقِهِ موجٌ من فوقِهِ سحابٌ ظلماتٌ بعضُها فوق بعضٍ إذا أخرجَ يدَهُ لم يكدْ يراها ومن لم يجعلِ الله له نوراً فما له من نور(40)}

ومضات:

ـ إن الله تعالى عادل لا يُضيع أجر من أحسن عملاً، فالمؤمن بالله المتمسِّك بتعاليمه، المواسي للفقراء بماله وجهده، امتثالاً لأمر الله، سينال الأجر العظيم أضعافاً مضاعفة في الدار الآخرة. أمَّا غير المؤمن والَّذي لا يرجو ثواب الآخرة لأنه ليس مؤمناً بها، فإن حدث أن أسدى إلى أحد معروفاً أو قدَّم لفقير مساعدة، فإن الله عزَّ وجل لا يضيع له ذلك الخير، بل يكافئه عليه في دار الدُّنيا، وليس له في الآخرة من نصيب.

ـ الغاية من التعاليم السماوية هي جمع النَّاس على عبادة الله الواحد الأحد، في سبيل تكوين مجتمع موَّحِد متراحم مترابط، لا انحراف فيه ولا خلل. ولما كان عمل الكافر خالياً عن هذه الضوابط، ويأتي بتصرُّف عشوائي، إذ لا تعاليم شرعية تلزمه، ولا عواطف روحية نورانية تحرِّكه، فيكون كالموجة الَّتي تسير دون هدف، لذلك وجب تهذيبه وضبط دوافعه ضمن دائرة الإيمان بالله، حتَّى لا يتخبَّط في ظلام الهوى والرغبات فتضيع ثمرات عمله.

في رحاب الآيات:

ما أصعب أن يقطع المسافر أشواطاً طويلة من رحلته، ليكتشف فجأة أنه قد أخطأ الطريق، وأنَّ عليه أن يعود إلى نقطة البداية ويعاود السير في الاتجاه الصحيح. ومع ذلك فإن وضعه أيسر وأسهل ممن يخطئ الطريق في رحلة الحياة، إذ أن هذه الرحلة إذا بلغت نهايتها، فلا رجوع فيها ولا عودة للوراء، وحين يكتشف المرء أنه قد ضلَّ الطريق، يكون قد دخل في دائرة الحساب الإلهي، وانحبس في إسارها. وهنا تبرز أهميَّة دور الأنبياء والرسل والمصلحين والهُداة، فهم رحمة إلهية مهداة للناس الَّذين يقفون على مفارق طرق الحياة، فيرشدونهم إلى الاتجاه الصحيح. فمن وعى كلامهم وعمل بإرشاداتهم فقد سعد وأسعد، ومن أعرض ونأى بجانبه، يجد أن ما جرى وراءه طوال حياته، ما هو إلا سراب لا يروي ظمأً، ولا يشفي غليلاً!.

والمؤمن يتمتَّع بوضوح الرؤية في مسيرة الحياة، ويعرف الهدف الَّذي يصبو إليه، بل هو قادر على تعريف الآخرين وتبصيرهم بحقائق العلوم الإلهية، الَّتي جاء بها رسل الله عليهم السَّلام، وإرشادهم إلى دائرة المعارف الربَّانية. بينما الجاحد لطريق الإيمان العقلاني يتخبَّط في متاهات الحياة، وكأنَّ به مسّاً من الجنون، أو كأنَّه غريق تتقاذفه أمواج الضلال وظلماته، لا منارة تهديه سواء السبيل، ولا بصيص أمل ينقذه من الضياع والإحباط الَّذي هو واقع فيه.

إن التعبير القرآني في هذه الآيات المباركة يمثِّل حال الكافرين في هذه الدُّنيا، ومآلهم في الدار الآخرة، بمشهدين حافلين بالحركة والحياة. ففي المشهد الأول يصوِّر أعمالهم في الدعوة إلى كفرهم كسراب في فلاة يلمع لمعاناً كاذباً، يراه الظمآن فيحسبه مورد ماء، فيُسرع الخُطى نحوه، وكلُّه ثقة أنه عثر على ضالَّته المنشودة، الماء الَّذي يروي ظمأه الشديد، وما أن يبلغ ذلك المكان، حتَّى تنكشف له الحقيقة، ويعلم أنه كان واقعاً في خداع النظر، فهو أمام سراب كاذب وليس أمام مورد ماء نمير يطفئ عطشه، وما أيسرها من نتيجة، نتيجة ذلك المخدوع بالسراب، إذا ما قيست بنتيجة المخدوع بزخارف هذه الحياة الدُّنيا وزينتها، فأعماه ذلك عن حقائق الدار الآخرة، وعندما يأتيه الموت يجد نفسه وجهاً لوجه أمام حساب الله وعذابه، وهو مستحقٌّ ذلك، لأنه كفر بالله تعالى وجحد وجوده وخاصمه، وتنكَّر لرسله الَّذين حملوا له رسالة الهداية والإنقاذ، لكنَّه أعرض عنهم ووقف في طريقهم، وآثر الفانية الخدَّاعة على الباقية الَّتي يستحقُّها بالإيمان والعمل الصالح.

إن هذا المخدوع سيؤول إلى موقف يدعو إلى الشفقة، لو أنه فوجئ بعد الموت، بعدوٍّ بشريٍّ لم يستعدَّ لملاقاته، فكيف يكون حاله والواقع أنه سيفاجأ بلقاء الله، المنتقم الجبَّار، وهو في أشدِّ الغضب عليه، إنه الهلاك الحقيقي والخسارة الكبرى الَّتي لا تُعوَّض. فما أحوج الإنسان إلى أن يُعرِض عن هذا السراب الكاذب، ويتتبَّع الحقائق، ويتلمَّس سبل النجاة الحقيقية، باتِّباع الهداة المهديين، والإعراض عن كلِّ ما يشغله عن ذلك أو يصرفه عن الصراط المستقيم، قبل أن يفوت الوقت، ويصل المخطئ إلى مرحلة اللاعودة، فيندم حين لا ينفع الندم قال تعالى: {وقدِمْنا إلى ما عمِلوا من عملٍ فجعلناهُ هَباءً منثوراً} (25 الفرقان آية 23).

إن هذا المثال مثالٌ لذوي الجهل المُرَّكب من الكفرة، أمَّا أصحاب الجهل البسيط، وهم الحمقى المقلِّدون لأئمَّة الكفر، فمثلهم كما قال تعالى: {أو كظُلُماتٍ في بحرٍ لُجِّيّ يغشاهُ موجٌ من فوقِهِ موجٌ من فوقِهِ سحابٌ ظُلماتٌ بعضُها فوق بعضٍ إذا أخرَجَ يدهُ لم يكد يراها ومن لم يجعلِ الله له نوراً فما له من نور}.

فهذا مثل قلب الكافر الجاهل البسيط المقلِّد، الَّذي لا يعرف حال من يقوده، ولا يدري أين يذهب، إنه يعيش في ظلمات الكفر والجهل والتبعية العمياء، وحاله كحال من كان في بحر محيط متلاطم الأمواج، موج في الظاهر وموج في باطن الماء، وفوق كلِّ ذلك سحاب قاتم أسود يحجب ضوء الشمس أو القمر والنجوم، فأنَّى لهذا أن يبصر؟ وكذلك أنَّى لذلك الجاهل أن يهتدي؟. والهداية الحقيقية من الله تعالى، فمن سلك سبيل الهُداة هداه الله، ومن سلك سبيل الغُواة أغواه الله، ومردُّ الأمر كلِّه إلى الله العلي العزيز، فمن كان أهلاً لأن ينير الله طريقه أناره أمامه، ومن لم يكن أهلاً لذلك، فلا يزال غارقاً في الظلام، حتَّى يوافيه الأجل، ليكون من الخاسرين الخسران المبين.

إن قلب الكافر الغارق في الظلام، بعيد عن نور الله المنتشر في هذا الكون الفسيح، وإن سلوكه ضلال واضح لا يرى فيه القلب أدنى علامات الهدى، وإن البعيد عن الله يعيش في ظلمات ثلاث، ظلمة الاعتقاد، وظلمة القول، وظلمة العمل، وقال ابن عباس رضي الله عنه : (هي ظلمة قلبه وبصره وسمعه).

سورة الكهف(18)

قال الله تعالى: {قلْ هل نُنَبِّئُكم بالأخسَرينَ أعمالاً(103) الَّذين ضلَّ سعْيُهم في الحياةِ الدُّنيا وهم يحسَبونَ أنَّهم يُحسِنونَ صُنعاً(104)}

ومضات:

ـ إذا قاد الربَّان سفينته في عُباب البحر دون بوصلة، تحدِّد له خطَّ سيره الَّذي يريده، واعتمد في ذلك على ذكائه واعتقاده فقط، فإنه على الأغلب سيضلُّ الطريق، ثمَّ يكتشف خطأه بعد فوات الأوان، عندها سيصاب بخيبة الأمل والندم والخسران. وكذلك هي رحلة الحياة، فإذا خضنا غمارها دون دليل ربَّاني فسوف نتيه، أو تعصف بنا ريحها أو نصطدم بصخورها. وإذا كان لنا في رحلة السفينة عودةٌ واستدراكٌ، فإننا لا نملك بعد انقضاء رحلة العمر، عودة عن الخطأ والتقصير، بعد أن فارقت الروح الجسد، وهنا تكمن الخسارة الحقيقية.

في رحاب الآيات:

كثيراً ما نصادف في الحياة نماذج من النَّاس يدَّعون الصلاح والتُّقى، وقد رَكِبَهم الغرور فأخذوا يطلقون الأحكام جُزافاً، فترى أحدهم يدَّعي الإيمان والاستقامة، وكأنه قد استوثق من تقبُّل الله لعمله، وحجز مكانه في الجنَّة. ولو دقَّقت في سلوكه لرأيت العجب العُجاب، فقد يكون محسناً من ناحية، مسيئاً من نواح عديدة، ومع ذلك فإنه يرفع شعار التمسُّك والتشدُّد، وربَّما التطرُّف، ويحصر الإيمان في دوائر ضيقة للغاية، بينما للإيمان الحقيقي باب واسع عريض، يستطيع دخوله من أراد، بشرط أن يكون ممن فقهوا تعاليم الدين الحقيقي، وألزموا أنفسهم بتطبيقها. فالإيمان كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «الإيمان بضعٌ وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» (متفق عليه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه )، إن هذا الحديث وأمثاله يؤكد على أن الإيمان سلسلة ذات حلقات كثيرة، كلُّ حلقة منها تمثِّل جانباً هامّاً من تعاليم هذا الدين الحنيف، وتبدأ هذه السلسلة بالحلقة الأولى والأهم، وهي الإقرار والإذعان بأنه لا إله إلا الله وأن محمَّداً رسول الله، وآخرها إزالة الأذى والعقبات من طريق النَّاس. إنهما طرفا سلسلة، الأوَّل يحدِّد علاقة المخلوق بالخالق، ويحصرها في كلمة التَّوحيد وما يتبعها من التزامات تجاه الخالق عزَّ وجل، والآخر يحدِّد علاقة المخلوق بالمخلوق، ويحصرها في تقديم النفع وإبعاد الضرر عن النَّاس مهما كان خفيفاً، ولو تمثَّل بإزالة عقبة من عقبات الطريق، وبين هذين القطبين تندرج شُعب الإيمان البضع والسبعون. فاسأل نفسك أيها الإنسان هل تخلَّقت ولو بشُعبة واحدة من شعب الإيمان؟ وهل يعقل أن يتقبَّل الله عمل إنسان ألغى من تصوُّره وحدانية الله، وعبد من دونه أو معه ما عبد من المعبودات، وأشرك معه ما أشرك من الآلهة؟. وهل يعقل أن يتقبَّل الله عمل إنسان يؤذي جيرانه وأهله، أو يسيء صُحبة أبويه، أو يُهمل حقوق زوجته وأولاده، أو يحصل على أمواله من مصادر الحرام، ثمَّ تراه بين النَّاس صوَّاماً قوَّاماً؟! إن شرط الإيمان أن يُحسن الإنسان لأخيه الإنسان قَرُب منه أم بَعُد، فهل المخالِفُ ممَّن يحسنون صنعاً؟!.

إن المخطئ الَّذي يظنُّ نفسه أنه على صواب لا يستطيع تقويم عمله، بل لا يمكنه ذلك وهو يقلِّل من أهميَّة الخطأ ويتمادى فيه. ولعل المعيار أو الميزان الَّذي يحدِّد، قبول عمل الإنسان من قِبل خالقه، يكمن فيما يلي:

1 ـ أن يعتقد جازماً أنه بشر، وأنه عُرضة للخطأ والصواب.

2 ـ أن يتمسَّك بالمشاورة والتشاور قبل العمل.

3 ـ أن يطلب من أناس خبراء مخلصين تقويم عمله بشكل دوري، وأن يسمع آراءهم بقبول وتفهُّم.

4 ـ أن يلتزم بتطبيق تعاليم الإسلام بدقَّة، كما وردت في القرآن والسنَّة بنيَّة صادقة صافية ومخلصة.

5 ـ أن يشعر بأن عبوديته لله تعني انتماءه لمخلوقاته، وخدمتهم ضمن أُطُر متوازنة ومعتدلة.

6 ـ أن يتمسَّك بالتذلُّل والافتقار لحضرة الله، والرجاء بأن يتقبَّل منه أعماله القبول الحسن، لأنه مهما فعل فهو مقصِّر، ولو وُزنت أعماله كلُّها فلن تساوي نعمة واحدة من نعم الله الكثيرة عليه.

إن الإنسان الواعي الَّذي أدرك هذه الحقائق وغيرها من شؤون الإسلام والإيمان، هو شخص ناجٍ غداً، يوم يبدو كلُّ مخلوق على حقيقته: {يومَ تُبْلى السَّرائر * فما لَهُ من قوَّةٍ ولا ناصر} (86 الطارق آية 9ـ10).

ولابُدَّ مع العمل الشامل بكلِّ تعاليم الإسلام، من إخلاص النيَّة لله تعالى، فقد يعمل الأعمال الَّتي ظاهرها الصلاح، إلا أن غايته الحقيقية ليست لوجه الله، بل لأمر دنيوي رخيص، فمثل هذا الشخص من حيث النتيجة، كمثل عامل عمل لدى شخص وخدمه، ثمَّ راح يطالب غيره بالأجرة، إن هذا الأخير يمكنه طرده بكلِّ بساطة قائلاً: اذهب إلى من عملت من أجله، فاستوف أجرك منه، وليس لك عندي شيء.

حقاً إنه جواب قاس ومؤسف أن يردَّ الله تعالى على من عمل في الدُّنيا من أجل غاية دنيوية رخيصة، وظنَّ أن النوايا تخفى على الله، والله لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وقد أكَّد الحديث القدسي هذه الحقائق، فقد روى مسلم والنسائي والترمذي وابن حِبَّان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أوَّل النَّاس يُقْضى يوم القيامة عليـه، رجل استُشهد فأُتيَ به، فعرَّفه نعمته فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتَّى استُشْهدت، قال: كذبت، ولكنَّك قاتلت لأن يقال: هو جريء، فقد قيل، ثمَّ أُمِرَ به فسُحب على وجهه حتَّى أُلقي في النَّار. ورجلٌ تعلَّم العلم وعلَّمه وقرأ القرآن فأُتي به، فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلَّمتُ العلم وعلَّمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنَّك تعلَّمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل، ثمَّ أُمِرَ به فسُحب على وجهه حتَّى أُلقي في النَّار. ورجلٌ وسَّعَ الله عليه وأعطاه من أصناف المال، فأُتي به، فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحبُّ أن يُنفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنَّك فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل، ثمَّ أُمِرَ به فسُحب على وجهه حتَّى أُلقي في النَّار».

فإذا كان هذا هو مصير العاملين الَّذين عملوا لكنَّهم ضلُّوا الغاية والهدف، فضلَّ سعيهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صُنعاً، فما هو مصير من لم يرفع بهذا الأمر رأساً، إنها الخسارة الكبرى والخزي الأعظم، فلينظر الإنسان إلى أين يسير، فإن الغاية قريبة والمصير أبدي، فإمَّا سعادة أبديَّة يُلقَّاها المؤمن الحقيقي، وإمَّا شقاء سرمدي يُلقَّاه الكافر والفاسق المنافق.