b12-f3

الفصل الثالث:

الحساب والجزاء

سورة النجم(53)

قال الله تعالى: {ولله ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ ليجزيَ الَّذين أساؤوا بما عملوا ويجزيَ الَّذين أحسنوا بالحسنى(31) الَّذين يجتنِبونَ كبائِرَ الإثمِ والفواحشَ إلاَّ اللَّمَمَ إنَّ ربَّكَ واسعُ المغفِرةِ هو أعلمُ بكم إذ أنشأكُم من الأرضِ وإذ أنتم أجنَّة في بطونِ أمهاتِكم فلا تُزَكُّوا أنفسَكُم هو أعلَمُ بمن اتَّقى(32)}

ومضات:

ـ إن الله عزَّ وجل هو مالك السموات والأرض وما فيهن، ومالك يوم الدِّين والحساب الَّذي يُجازي به كلَّ إنسان؛ فمن كان محسناً فله ثواب ما أحسن، ومن كان مسيئاً فعليه عقاب ما أساء.

ـ عرَّف الله تعالى المحسنين بأنهم أولئك الَّذين يبتعدون عن الذنوب الكبيرة، وما قَبُح من الأعمال، متجاوزاً بذلك عن صغائر الذنوب الَّتي كثيراً ما يقع فيها الإنسان بسبب ضعفه البشري، شاملاً مرتكبيها بمغفرته الواسعة.

ـ إن الله تعالى عليم بنا، منذ أن استخرجنا من عناصر الأرض، وعندما نكون أجنَّة في بطون أمهاتنا، وفي كلِّ مرحلة من مراحل حياتنا على هذه الأرض.

ـ نهانا الله تعالى عن تزكية أنفسنا ومدحها والإعجاب بها، والتباهي بأعمالنا أمام الآخرين، فليس المهمُّ أن يُعْجَبَ الآخرون بعملنا، بل أن يتقبَّله الله تعالى، حين يكون ممزوجاً بالتَّقوى وخشية الله عزَّ وجل.

في رحاب الآيات:

تبدأ الآية الكريمة بتقرير ملكية الله وحده، لكلِّ ما في السموات والأرض، خلقاً ومُلكاً وتصرُّفاً، وهذا التقرير يمنح قضية الآخرة قوَّة وتأثيراً، فالَّذي قدَّر الآخرة هو الَّذي يملك ما في السموات وما في الأرض وحده، فهو القادر على الجزاء، المختصُّ به، المالك لأسبابه. ومن شأن هذه الملكية أن تحقِّق الجزاء الكامل العادل، ليجازى المسيء بإساءته، والمحسن بإحسانه. ثمَّ ذكرت الآية الكريمة صفات المحسنين المتَّقين فقالت: {الَّذين يجتنِبون كبائِرَ الإثمِ والفواحشَ} أي أن الَّذين يبتعدون عما عَظم شأنه من كبائر المعاصي، كالشرك بالله، وقتل النفس الَّتي حرَّم الله بغير حقٍّ، والزِّنا وغير ذلك من الموبقات. ورد في الصحيحين من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يارسول الله وما هُنَّ؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس الَّتي حرَّم الله إلا بالحقِّ، وأكل الرِّبا، وأكل مال اليتيم، والتولِّي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات». وينبغي أن لا نفهم من نصِّ الحديث أن الكبائر محصورة العدد في سبع، فقد وروى الطبراني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلاً قال له: (الكبائر سبع؟ فقال: هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار).

والآية تستثني صغائر الذنوب رحمة وتفضُّلاً من الله جلَّ وعلا فتقول: {إلاَّ اللَّمم} وهو ما قلَّ وصغُر من الذنوب. أخرج ابن مردويه عن الحسن رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أتدرون ما اللَّمم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هو الَّذي يُلمُّ بالخطرة من الزنا ثمَّ لا يعود، ويلمُّ بالخطرة من شرب الخمر ثمَّ لا يعود، ويلمُّ بالسرقة ثمَّ لا يعود»، وقيل فيه: [والصغائر الَّتي لا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه الله: كالغمزة والنظرة]، وقيل أيضاً: [إلا اللَّمم الَّذي يُلمُّ بالذنب ثمَّ يدعه]. كما قيل: [اللَّمم ما يعمله الإنسان المرَّة بعد المرَّة ولا يتعمَّق فيه ولا يقيم عليه]، وهذا القول أكثر تناسباً مع قوله تعالى اللاحق: {إنَّ ربَّكَ واسعُ المغفرة} فذِكْرُ سعة المغفرة، يناسب أن يكون اللَّمم هو الإتيان بتلك الذنوب ثمَّ التوبة عنها.

والَّذين أحسنوا هم من يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، إلا أن يقعوا في شيء منها، وعندها يعودون سريعاً ولا يُصِرُّون عليها، كما قال الله جلَّ وعلا: {والَّذين إذا فعَلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسَهُم ذكروا الله فاستغفَروا لذنوبِهِم ومن يغفرُ الذُّنوبَ إلاَّ الله ولم يُصِرُّوا على ما فعلوا وهم يعلمون * أولئك جزاؤهم مغفرةٌ من ربِّهم وجنَّاتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونِعمَ أجرُ العاملين} (3 آل عمران آية 135ـ136).

ومن هنا نلاحظ تدرُّج الأحكام القرآنية للوصول إلى الحكم النهائي المبرم حسب قوَّة عقيدة المؤمنين، واستعدادهم لتحمُّل المزيد من مجاهدة النفس وتزكيتها.

ففي حين تقرِّر هذه الآيات الكريمة التساهل في صغائر الذنوب، حيث إنه تعالى أدرى بما خلق، وبقدرة مخلوقاته على حُسن التنفيذ، نجده تعالى يشدِّد في آيات لاحقة على وجوب اجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن. إن حكمة التدرُّج في تطبيق الأحكام لازالت قائمة، وهي تسري على كلِّ من دخل حديثاً في الإسلام، ولم يكتمل بناؤه الإيماني بعد، ويسري أيضاً على ضعاف النفوس، الَّذين غلبتهم أهواؤهم تحت وطأة ظروفهم المحيطة بهم، ولا يجدون أعواناً على فعل الخير واجتناب المنكر. وفي الأحوال جميعها، لا ينبغي لأحد أن يعتقد بأنه وصل إلى مرحلة راقية من الطهر والصلاح، ولا يحقُّ لأحد أن يكون حكَماً على نفسه أو على الآخرين، لأن الله تعالى هو الحكم العدل، وهو الَّذي يميِّز التقيَّ من الشقي، والصالح من الطالح، لأنها أعمال ممزوجة بالنوايا، وقلوب محفوفة بالتقلُّب، ومن دعاء الرسول الكريم عليه السَّلام: «اللهمَّ يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك» (أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد عن أنس رضي الله عنه )، والله تعالى بصير بأحوالنا، عليم بأقوالنا وأفعالنا، حين ابتدأ خلقنا من التراب، وحين صوَّرنا في الأرحام على أطوار مختلفة وصور شتَّى، فعلمه العلم السابق، علم بالحقيقة قبل الظاهر، وعلم بالفطرة الَّتي فَطَرَ المخلوق عليها قبل العمل الَّذي يصدر عنه.

سورة النساء(4)

قال الله تعالى: {ليس بأمانيِّكُم ولا أمانيِّ أهلِ الكتابِ من يعملْ سُوءاً يُجزَ بهِ ولا يجدْ لهُ من دونِ الله وليّاً ولا نصيراً(123) ومن يعملْ من الصَّالحاتِ من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ فأولئِكَ يدْخلُونَ الجنَّة ولا يُظلَمونَ نقيراً(124)}

ومضات:

ـ إن استحقاق الثواب أو العقاب ليس موكولاً إلى الأماني، بل يرجع إلى أصل ثابت، وسنَّة لا تتبدَّل، وقانون لا يحابي، قانون يستوي أمامه جميع النَّاس من جميع الشرائع، فصاحب السوء مجزي بالسوء، وصاحب الحسنة مكافأ بالحسنة، وصاحب القرار في ذلك هو ربُّ العالمين وحده ولا أحد سواه.

ـ الإيمان الحقيقي المقرون بالعمل الصالح ـ المثمر علماً وأخلاقاً ـ هو معيار النجاح والتوفيق في سائر الشرائع السماوية، وهو يسري على الأجناس البشرية كافَّة، في الأزمنة والأمكنة كافَّة، دون تفريق بين ذكر وأنثى.

في رحاب الآيات:

قال النبي عليه الصَّلاة والسَّلام: «ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلِّي، ولكنَّ الإيمان ما وقر في القلب وصدَّقه العمل» (رواه ابن النجار والديلمي في مسند الفردوس عن أنس رضي الله عنه ). فالعقيدة والعمل هما ركنا الإيمان، عقيدة التَّوحيد والعبودية الخالصة لله تعالى، والعمل بمقتضى شريعة الله. ولكنَّ بعض النَّاس ممَّن التبست عليهم الأمور، اغترُّوا بمغفرة الله وحلمه وسعة رحمته، وحصروها في أنفسهم، وادَّعَوا انغلاق باب الرجاء والرحمة عن غيرهم من أتباع الرسالات السماوية. وإنَّ هذا الوهم ليس وقفاً على فردٍ دون آخر، ولا على أصحاب ملَّة دون أخرى، إذ ربما وقع فيه المسلمون غروراً بانتمائهم إلى الإسلام، وبأن هذا الانتماء سوف ينجيهم من عذاب الله، وكذلك أهل الكتاب من الَّذين غرَّتهم الأماني فقالوا: {وقالوا لن تَمَسَّنا النَّارُ إلاَّ أيَّاماً معدودةً قُلْ أتَّخذتُم عند الله عهداً فلن يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ أمْ تقولون على الله ما لا تعلمون * بلى من كسبَ سيِّئةً وأحاطتْ به خطيئَتُهُ فأولئك أصحابُ النَّارِ هم فيها خالدون * والَّذين آمنوا وعملوا الصَّالحاتِ أولئك أصحابُ الجنَّة هم فيها خالدون} (2 البقرة آية 80ـ82). والأديان أصلاً لم تشرَّع للتفاخر والتباهي، ولا تحصل الفائدة بالانتساب إليها دون العمل بمضمونها، وليس هناك شريعة تعلو على شريعة في نظر الله، لأن الشرائع نزلت من مشرِّع واحد، وليس هناك أتباع شريعة يتجاوزون القوانين الإلهية دون أن تطالهم عدالة السماء، فلن يُعذر مسلمٌ سَرَق، ولن يُستثنى مسيحيٌ أو يهوديٌ قتل، فالكلُّ أمام الله مسيء وسيحاسَبُ على قدر إساءته بغضِّ النظر عن انتمائه الديني.

ولقد شقَّ على المسلمين قول الله لهم: {من يعملْ سُوءاً يُجزَ به} لأنهم كانوا يعرفون طبيعة النفس البشرية، ويعرفون أنها لابُدَّ أن تعمل سوءاً، مهما صلحت ومهما عملت من حسنات، فلم يخدعوا أنفسهم عن حقيقتها، وارتعشت قلوبهم كالَّذي يواجه العاقبة فعلاً ويلامسها، ولبثوا حين نزلت لاينفعهم طعام ولا شراب حتَّى أنزل الله قوله: {ومن يعملْ سُوءاً أو يَظْلِمْ نفْسهُ ثمَّ يستغفِرِ الله يجدِ الله غفوراً رحيماً} (4 النساء آية 110). روي أنه لـمَّا نزل قوله تعالى: {من يعملْ سُوءاً يُجز به} راع ذلك أبا بكر رضي الله عنه فسأل النبي صلى الله عليه وسلم من ينجو مع هذا يارسول الله؟ قال له النبي صلى الله عليه وسلم : «أما تحزن، أما تمرض، أما يصيبك البلاء؟ قال بلى يارسول الله، قال: هو ذاك» (رواه الإمام أحمد بن حنبل عن أبي بكر رضي الله عنه ).

ونطالع الوجه المقابل لهذا الوعيد فنراه وعداً مبشِّراً، مسفراً، يومض بريق الأمل في صدورٍ آمنت بربِّها وأسلمت قلبها له، واتجهت بأبصارها وبصائرها نحوه، فتغلغل نوره في حناياها، وطهَّرها وزكَّاها، فلم يلتبس عليها الحقُّ بالباطل، وترفَّعت عن تلبية شهوات الجسد، الَّتي تلقي بصاحبها في دوَّامة من الجوع الروحي لا شبع له، ومتاهة من الظمأ لا ريَّ يطفئها، أولئك الَّذين أحرقوا شهواتهم في أتون الإرادة الصلبة، والاستقامة الصادقة فلن تمسَّهم النَّار، بل إن مصيرهم إن شاء الله إلى الجنَّة والرضا من الله عزَّ وجل.

وتراعي الآية الدقَّة في تقرير الحُكْمِ، وفي ترتيب الثواب والعقاب، فالذكر والأنثى في نظر الشريعة سواء، وهما أمام محكمة الله سواء، ولا يُنقص الله من ثواب أحدهما شيئاً. وتُوَجِّهُ الآية الكريمة الأنظار والقلوب إلى الله، وإلى لزوم تفويض الأمر إليه، والتوكُّل عليه، مع العمل الصالح الَّذي أمر بهالله ورسوله. وقد عبَّرت الآية عن توجُّه القلب بإسلام الوجه، لأن الوجه مرآة القلب، على صفحته تنعكس طهارة الروح، ونقاوة الضمير، وصفاء السريرة.

سورة الجاثية(45)

قال الله تعالى: {قل للَّذين آمنوا يغفِروا للَّذين لا يرْجونَ أيَّامَ الله ليجزيَ قوماً بما كانوا يكْسِبون(14) من عملَ صالحاً فلنفْسهِ ومن أساءَ فعليْها ثمَّ إلى ربِّكُم تُرجَعون(15)}

ومضات:

ـ أمرٌ إلهي للمؤمنين كي يعفوا ويصفحوا عن غير المؤمنين، فلا يتعاملوا معهم بحقد ولا ضغينة، وليتركوا أمرهم لربِّ العالمين.

ـ العمل الصالح ينعكس على صاحبه قبل غيره، ومردود العمل السيء ينعكـس أيضاً على مرتكبه، والحَكَمُ الأخير هو الله عزَّ وجل القاضي الفرد، ولا قضاء ولا حكم يومئذٍ لغيره.

في رحاب الآيات:

يوجِّه الله تعالى عباده المؤمنين ليتسامحوا مع المشركين والكفار، الَّذين لا يؤمنون بلقاء الله، إذا نالهم منهم أذى أو مكروه، وأن يصبروا على أذاهم، ويكظموا غيظهم، ويَعِدُهُم مقابل ذلك بالثواب العظيم في جنَّات النعيم. والواقع أن الَّذين لا يرجون لقاء الله تائهون تستدعي حالتهم الإشفاق عليهم، لحرمانهم أنفسهم من ذلك النبع الفياض، نبع الإيمان بالله الَّذي يزخر بالنداوة والرحمة والقوَّة والثراء، والله وحده هو الَّذي ينبغي الطمأنينة إليه، والاحتماء بركنه، واللجوء إليه في ساعات الكرب والضيق. والَّذين لا يرجون أيام الله، لم يَحرموا أنفسهم هذا الخير العميم فحسب، بل إنهم حجبوها أيضاً عن المعرفة الحقيقية المتَّصلة بنواميس الكون، وما وراءها من القوى والثروات... لذلك يجدر بالمؤمنين الَّذين يملكون كنز الإيمان وذخره، ويتمتَّعون برحمته وفيضه، أن يتجاوزوا عما يبدر من أولئك المحرومين، من نزوات وحماقات، وأن يتركوا الأمر كلَّه لله، فهو يتولَّى جزاء المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته، ويسجِّل لهم هذه المغفرة والعفو عن الإساءة إليهم في سجل الحسنات، وذلك فيما لا يُشيع الفساد في الأرض، أو يُعتَدى به على حدود الله وحرماته.

ويعقِّب على هذا بفرديَّةِ التبعة، وعدالة الجزاء، وتوكيد الرجوع إلى الله وحده في نهاية المطاف، فيقرِّر أن من أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها، وبذلك يتَّسع صدر المؤمن، ويغلب حلمه غضبه، فيحتمل الإساءات الفردية والنزوات الحمقاء من المحجوبين مرضى النفوس والعقول، في غير ضعف، وفي غير ضيق، فهو أكبر وأقوى، وهو حامل مشعل الهدى للمحرومين من النور، والأمر كلُّه لله في البداية والنهاية. ويهدف الإسلام من الحثِّ على الصبر، وترك الأمر لله أولاً وآخراً إلى نبذ المنازعات والخصومات حتَّى يتماسك بناء المجتمع الإسلامي، ويعلو صرحه.

سورة الإسراء(17)

قال الله تعالى: {يومَ ندعوا كلَّ أُناسٍ بِإِمامِهمْ فمن أُوتيَ كتابَهُ بيمينِهِ فأولئك يَقرؤونَ كتابَهم ولا يُظْلَمون فتيلاً(71) ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرةِ أعمى وأضلُّ سبيلاً(72)}

ومضات:

ـ من الأهمِّية بمكان أن يفتِّش المؤمن لنفسه عن الأئمة الصالحين، والعلماء العاملين، الأتقياء الورعين، أصحاب العقول المتفتِّحة والبصائر النيِّرة، كي يستوعب منهم الإسلام النقي المصفَّى، ويرشف من قلوبهم كؤوس المحبَّة الإلهية، ويكونوا له شفعاء يوم القيامة بإذن الله.

ـ ما أحلى لحظة الحصاد وقطاف الثمار، وخاصَّة في مزرعة ربِّ العالمين، حيث دأب العبد في الحياة الدُّنيا، على الزرع فيها والغرس في رياضها، فإذا ما انتهى موسم الزرع وحان موعد الحصاد، عمَّت البشائر قلب كلِّ مؤمن حين يأخذ كتابه بيمينه، دليلاً على نجاحه وجنيِه لمحصول أعماله كاملاً غير منقوص، قال تعالى: {فأمَّا مَن أُوتيَ كِتابَهُ بِيَمينِهِ * فسوفَ يُحاسَبُ حِسَاباً يسيراً *ويَنْقَلِبُ إلى أَهلِهِ مسروراً}(84 الإنشقاق آية 7-9).

ـ حين تعمى البصيرة وينغلق القلب في الحياة الدُّنيا، ويُعْرِض المرء عن الأنوار القدسية، فإن روحه تبقى مظلمة عمياء في الدار الآخرة.

في رحاب الآيات:

إن الإمام هو القدوة الصالحة وهو الَّذي تتبع نهجه في حياتك، وتأخذ عنه طرائق تفكيرك وسلوكك، وإن هذا السلوك هو عمل الإنسان الَّذي يسير أمامه يوم الدينونة الكبرى ليُحاسَبَ عليه. وفي كلِّ الأحوال ينبغي أن يتَّخذ المؤمن من شرع الله وتعاليمه إماماً له، وألا يعمى أو يتعامى عنها، وإلا فإنه سَيُسلب بصره يوم القيامة ليصبح أشدَّ ضلالة وأكثر عمى. والآيات الكريمة هنا تجسِّد مشهد الخلائق وقد حُشرت يوم القيامة، حيث تُنَادَى كلُّ جماعة بقدوتها وباسم المنهج الَّذي اتَّبعته، أو الرسول الَّذي أطاعته، أو الإمام الَّذي ائتمَّت به في الحياة الدُّنيا؛ تنادى ليُسَلَّم لها كتاب عملها وحصاد زرعها، فمن أوتي كتابه بيمينه، فهو فرح بكتابه يقرؤه ويتملاَّه، ويوفَّى أجره لا يُنقَص منه شيءٌ، ولا يُظلَم مقدار ذرَّة ممَّا عمل. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يُدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه، ويُمَدُّ له في جسمه ستين ذراعاً، ويبيض وجهه، ويُجعَل على رأسه تاج من نور يتلألأ، فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون: اللهمَّ ائتنا بهذا، وبارك لنا في هذا، حتَّى يأتيهم فيقول: أبشروا... لكلِّ رجل منكم مثل هذا» (أخرجه الترمذي وابن حبان والحاكم وأبو يعلى الموصلي وذكره المنذري في الترغيب والترهيب وإسناده حسن). أما من كان في الدُّنيا لا يبصر سُبل الرشد، ولا يتأمَّل حجج الله وبيِّناته الَّتي وضعها في صحيفة الكون، ولا يمعن النظر فيها، فهو كالأعمى في الدُّنيا وهو في الآخرة أعمى وأضلُّ سبيلاً، لأن الروح الباقية بعد الموت هي الروح الَّتي كانت في الحياة الدُّنيا، حيث خرجت من قفص الجسد بجميع صفاتها وأخلاقها وأعمالها، فهي تتخبَّط في الظلمات في الدُّنيا والآخرة، ثمَّ تنال عقوبة تهاونها جزاءً وفاقاً.

سورة الحاقة(69)

قال الله تعالى: {يومئذٍ تُعْرَضونَ لا تخفى منكم خافيَة(18) فأمَّا من أُوتيَ كتابَهُ بيمينِهِ فيقولُ هاؤمُ اقرَؤوا كتابيَهْ(19) إنِّي ظننتُ أنِّي مُلاق حسابِيَهْ(20) فهو في عيشةٍ راضيَة(21) في جنَّة عاليَة(22) قُطوفُها دانيَةٌ(23) كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفْتُم في الأيَّامِ الخاليَة(24) وأمَّا من أوتيَ كتابَهُ بِشمالِهِ فيقولُ ياليتني لم أُوتَ كتابِيَهْ(25) ولم أدْر ما حسابِيَهْ(26) ياليتها كانتِ القاضيَة(27) ما أغنى عنِّي مالِيَهْ(28) هلَكَ عنِّي سُلطانِيَهْ(29) خذوهُ فغلُّوه(30) ثمَّ الجحيمَ صلُّوه(31) ثمَّ في سلسلةٍ ذَرْعُها سبعونَ ذِراعاً فاسلُكوه(32) إنَّه كان لا يؤمنُ بالله العظيم(33) ولا يحضُّ على طعامِ المسكين(34) فليس له اليومَ هاهنا حميم(35) ولا طعامٌ إلاَّ من غِسْلين(36) لا يأكلُهُ إلاَّ الخاطئون(37)}

ومضات:

ـ بعد أن صوَّر القرآن الكريم مشاهد خراب هذا العالم المنظور، بدأ يعرض مشاهد متلاحقة عن حقائق يوم القيامة والحساب، فهناك مشهد حساب المؤمن وقد يُسِّرَتْ أموره في ذلك اليوم الرهيب، وامتلأ قلبه سروراً وحبوراً لأنه تلَّقى كتاب أعماله بيمينه نقياً مطهَّراً، وغفر الله تعالى له وتجاوز عن أخطائه الَّتي كان يتخوَّف من محاسبته عليها، ثمَّ يُدخَل جنَّة الرضوان؛ حيث النعيم المقيم مكافأة جزيلة له. وهناك مشهد حساب العاصي، وقد استلم صحيفته بشماله، كناية عن سوء ما فيها من العمل، وإيذاناً بمصير الخذلان والخسارة الَّذي سيلاقيه. وقد بدا على وجهه الهلع والذُّعر من عِظَم هول الحساب، ويتمنَّى لو أنه لم يُبعث أبداً، ثمَّ يأخذ بالتحسُّر والندم على ما قد ضيَّع، وقد بحث عن المال والجاه الَّذي كان له في الدُّنيا سلطاناً، فلم يجد منه شيئاً ينفعه في ذلك اليوم العصيب، وأصبح بمواجهة جهنَّم وبئس المصير، يُساق إليها بالذلِّ والخنوع، تقيِّده سلاسل من نار، عقاباً له على ما أسلف من الكفر والفسق والبخل، يطلب النجدة فلا يجد، ويجوع فلا يُمنح من الطعام إلا ما يزيد آلامه ويثير اشمئزازه.

في رحاب الآيات:

من المشاهد المألوفة في حياتنا العامَّة، مرأى جموع الطلبة حين تُعلَن نتائج امتحاناتهم، فهذا مسرور يرقص طرباً، وذاك مكفهرُّ الوجه عابس، وآخر مجهشٌ بالبكاء، إنها اللحظات الَّتي يأخذ فيها كل ذي حقٍّ حقَّه حسب جِدِّه واجتهاده، فالناجح قد ربح سنة من سني حياته، والراسب قد خسر سنة من سني عمره، وفي النهاية فهي سنة، ولا تعدُّ خسارة فادحة في عمر الزمان. والمشهد ذاته يتكرَّر في ساحة العدل الإلهي، استعراض للأعمال، وأحكام تصدر، ولكنَّها تقرِّر مصير حياة أبديَّة فإمَّا نعيم خالد، وإمَّا عذاب أبدي، لذلك فإن شدَّة الفرح تختلف كثيراً هنا، كما أن شدَّة الألم تتعاظم وتتفاقم. في ذلك اليوم، الكلُّ مكشوف أمام الله، مكشوف الجسد، مكشوف النفس، مكشوف الضمير، وتسقط جميع الأستار الَّتي كانت تحجب الأسرار، وما أقسى الفضيحة على الملأ، وما أخزاها على عيون الجموع، أمَّا عين الله فكلُّ خافية مكشوفة لها في كلِّ آن. إن الإنسان ليصنع أشدَّ ممَّا تصنعه القوقعة الهلامية، حين تتعرَّض لوخزة إبرة فتنطوي سريعاً، وتنكمش وتنغلق على نفسها تماماً، فكيف بهذا المخلوق وهو عريان، عريان حقاً من كلِّ ساتر، كيف به وهو كذلك تحت عرش الجبار وأمام الحشد الزاخر بلا ستار؟!

بعدئذ يُعرَضُ مشهد الناجين ومشهد الهالكين، فكأنه ماثل للعيان؛ فهاهو ذا الفائز يوم القيامة، يقفز مهلِّلاً بين أقرانه، وهو ينادي بأعلى صوته وقد أخذته النشوة بالسرور الغامر حتَّى الثُّمالة، اقرؤوا نتائج أعمالي، لقد فزتُ، لقد نجوت، ويكاد يطير طيراناً إلى فراديس الخلد حيث النعيم والهناء، ولذائذ المسرَّات من مأكل ومشرب وحور عين، ثواباً وعطاءً من ربِّ العالمين، وتقديراً لما بذله من جهد وعناء وتضحية في سبيله في الحياة الدُّنيا. لقد أيقن بأنه سيلقى حسابه وجزاءه يوم القيامة، فأعدَّ له العدَّة من الإيمان والعمل الصالح، وقد حاسبه الله تعالى حساباً يسيراً، فالله عند ظنِّ العبد به، فهو في عيشة هنيئة مُرضيةٍ ـ يَرضى بها ـ خلود فلا موت، وصحَّة فلا مرض، ونعيم فلا بؤس. كلُّ ذلك في جنَّة رفيعة القدر، ذات ثمار دانية القطوف، يأخذ منها كما يريد، إن أحبَّ أن يقطفها بيده انقادت له، وهو قائم أو جالس أو مضطجع، وإن أحبَّ أن تدنو إلى فيه دنت. ثمَّ يقول له ربُّه جلَّ وعلا كُلْ واشرب بهناء وسلام وعافية من كلِّ أذىً ومكروه، ثواباً على ما أسلفت من الأعمال الصالحة في الأيام الماضية.

وأمَّا من أوتي كتابه بشماله، وعرف أنه مؤاخذ بسيئاته، وأن إلى العذاب مصيره، فيقف في هذا اليوم الحافل الحاسر، وقفة المتحسِّر الكسير الكئيب، منظره يدمي القلوب، ويفجِّر الأسى من شدَّة لوعته وألمه، فهاهو ذا يندب اللحظات الَّتي وقف فيها للحساب متمنِّياً لو أنها لم تكن، ويندب أمواله الَّتي لم ينفقها في مرضاة الله، وسلطانه الَّذي لم يستعمله لإحقاق الحقِّ وإسعاد الخلق؛ ويقول: ياليت المِيْتَةَ الأولى الَّتي متُّها في الدُّنيا، كانت القاضية والقاطعة لحياتي، فلم أُبعث بعدها ولم أُعذَّب. وما هي إلا لحظات حتَّى يُكبَّل بالسلاسل والأغلال، ويُساق إلى سوء المصير، فقد كان يكفر بمثل هذا اليوم، وما قَدَرَ الله حقَّ قدرهِ، بل عاث في الأرض فساداً، فلا صديق اليوم يؤنسه، ولا طعام يقيم أوده، بل هو الموت الزُّؤام يصيبه في كلِّ لحظة، وفي كلِّ حين، وهذا العذاب لقاء ما جنته يداه، والله خير العادلين. وتجسيداً للموقف الرهيب، وإدخـالاً للرعب في قلب هذا الطاغية، تذكر الآية أن طول السلسلة الَّتي يُقيَّد بها سبعون ذراعاً؛ وذراع واحدة من سلاسل النَّار تكفيه، ولكنَّ إيحاءً بالتطويل والتهويل يلوح من وراء لفظ السبعين، ولعلَّ هذا الإيحاء هو المقصود.

لقد خلا قلبه من الإيمان بالله والرحمة بالعباد، فلم يعد هذا القلب يصلح إلا بهذه النَّار وهذا العذاب؛ خلا قلبه من الإيمان فهو أسوأ من الجماد، فحتَّى الجماد مؤمن يسبِّح بحمد ربِّه بطريقةٍ الله أعلمُ بها، موصول بمصدر وجوده، أمَّا هو فمقطوع عن الله، مقطوع عن الوجود المؤمن بالله، قد أورثه هذا الانقطاع قساوة القلب، فلم يكن يستشعر الرحمة بالمسكين، فلم يطعمه ولم يَحُضَّ على إطعامه، وهذا يوحي بأن هناك واجباً اجتماعياً ينبغي على المؤمنين أن يتحاضُّوا عليه، وهو تأمين احتياجات الفقراء والمعوزين، وهذا الواجب وثيق الصلة بالإيمان، ويليه في الميزان. ففي ذلك اليوم لا يجد الظالم له صديقاً يدفع عنه العذاب، ولا طعاماً إلا من صديد أهل النَّار الَّذي يسيل من جراحاتهم، لا يأكله إلا الآثمون المجرمون المرتكبون للخطايا والآثام.

سورة الإسراء(17)

قال الله تعالى: {وكلَّ إنسان ألزمْناهُ طائِرَهُ في عُنُقِهِ ونُخْرجُ له يومَ القيامةِ كتاباً يلقاهُ منشوراً(13) اقرأ كِتابَكَ كفى بِنفسِكَ اليومَ عليك حسيباً(14) من اهتدى فإنَّما يهتدي لنفسْهِ ومن ضلَّ فإنَّما يضِلُّ عليها ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخرى وما كنَّا معذِّبينَ حتَّى نبعثَ رسولاً(15)}

ومضات:

ـ لكلِّ إنسان سجلُّ أعمال خاصٍّ به يُنشر له يوم الحساب، وقد دُوِّنت فيه سائر الأعمال الَّتي كسبها واكتسبها في الدُّنيا.

ـ نتائج الأعمال ملزمة للقائمين بها، ومسؤوليتها تقع على عواتقهم، فمن استقام على طريق الحقِّ فقد نفع نفسه، ومن حاد عنه بإرادته فقد أضرَّها وجعلها مستحقَّة لغضب الله تعالى وعذابه الأليم.

ـ لا تحمل نفس وزر نفس غيرها، بل كلٌّ يُسألُ عما جنته يداه فقط.

ـ لقد قضت سنَّة الله تعالى في خلقه، رحمةً منه وعدلاً، أن لا يعذِّب أُمَّة من الأمم حتَّى يبعث فيها رسولاً يدلُّها على طريق الله وشرعه القويم.

في رحاب الآيات:

إذا كانت التقنيات الحديثة اليوم قد توصلت إلى اختزان معلومات واسعة، ضمن أقراص صغيرة جداً تسمى (ديسكات)، بحيث يمكن استخراج هذه المعلومات منها على جهاز الحاسوب خلال ثـوان قليلة، فليـس مـن المسـتغرب أن يكون الله تعالى ـ ربُّ العزَّة وخـالق الأكوان ـ قد أوجد للإنسان مَخزناً وقُرْصاً، يحتفظ فيه بجميع أعماله وخواطره وعلاقاته مع الآخرين، وربَّما كان العقل البشري نموذجاً مُصغَّراً لهذه السجلات الربَّانية. ثمَّ تعمل الأجهزة الإلهية على نشر هذه المعلومات، صوتاً وصورة، يوم القيامة، ليشاهد الإنسان نفسه بنفسه، حيث لا مفرَّ من الحقائق المسجَّلة عليه. والغاية من تذكير العبد بقدرة الله عليه هي أن يراقب تصرَّفاته، ويحسِّن سلوكه نحو الأفضل والأقوم، فالمحاسبة الإلهية دقيقة للغاية بحيث لا تتداخل السيئات والحسنات، بل تُفرز الأعمال ثمَّ يثاب المرء على أعماله الصالحة أو يعاقب على تقصيره وإساءته، دون مواربة أو محاباة. أخرج ابن جرير عن الحسن رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قال الله تعالى: يابن آدم بسطنا لك صحيفة، ووُكِّل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن يسارك، فأمَّا الَّذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأمَّا الَّذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت، أقلِل أو أكثِر، حتَّى إذا مِتَّ طُويتْ صحيفتك، فجُعلتْ في عنقك معك في قبرك حتَّى تخرجَ يوم القيامة، كتاباً تلقاه منشوراً، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً».

فكلُّ إنسان يحاسَبُ عن نفسه، وعمَّا اقترفت يداه، فمن اهتدى فثواب هدايته له، ومن ضلَّ فعقاب ضلاله عليه. ولا يُحاسب إنسان عن إنسان، ولا يحمل إنسان وزر إنسان، كما قال تعالى: {..ولا تزرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخرى..} (39 الزمر آية 7).

والله تعالى لا يُهلك أبناء أُمَّة إلا بعد إنزال الرسالة إليهم وإنذارهم، وقد شاء برحمته الواسعة ألا يأخذ الإنسان بما جهله أو غاب عن إدراكه، إنما يرسل إليه الرسل معلِّمين ومنذرين ومذكِّرين، وهذا عدلٌ من الله أن يُنذر العباد قبل أن يأخذهم بالعذاب، قال تعالى: {إنَّا أرسلنا نوحاً إلى قومِهِ أن أنذِرْ قومَكَ من قبلِ أن يأتِيَهُمْ عذابٌ أليم} (71 نوح آية 1)، وقال أيضاً مخاطباً الرسول محمَّداً صلى الله عليه وسلم : {وما أرسلناك إلاَّ كافَّةً للنَّاسِ بشيراً ونذيراً ولكنَّ أكثر النَّاس لا يعلمون} (34 سبأ آية 28)، ويتبيَّن لنا من ذلك أن أعمال الإنسان مسجَّلة عليه، وسيحاسب عليها بدقَّة، وأنَّ من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها، وأنَّ الله تعالى لا يحاسب النَّاس إلا بقدر ما يعطيهم من فرص العلم والمعرفة والتبليغ، فلا عقوبة على من لم يبلغه شرع الله وأوامره، ولا على من بلغتهم رسالة الإسلام بشكل مشوَّه وغير جلي. وهنا تكمن مسؤولية المسلم في الدعوة إلى الإسلام الكامل، بالقول الفاضل والعمل الأفضل، والَّتي عليه أن يتحمَّلها بكلِّ جدارة. إن أبناء البشرية اليوم إمَّا ضالٌّ أو مهتدٍ أو باحث عن الحقيقة، وتقع على عاتق هذا المهتدي مسؤولية دلالة أخيه على موارد الخير والسعادة الَّتي اهتدى إليها، فإذا فعل استحقَّ أجر عمله ومثل أجر عمل من هداه.

سورة يونس(10)

قال الله تعالى: {إنَّ الَّذين آمنوا وعمِلوا الصَّالحاتِ يَهْديهِمْ ربُّهُم بإيمانِهِم تجري من تحتِهِمُ الأنهارُ في جنَّاتِ النَّعيم(9) دعواهُمْ فيها سبحانَكَ اللَّهمَّ وتحيَّتُهُم فيها سلامٌ وآخِرُ دعواهُمْ أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين(10)}

ومضات:

ـ في ظلمات الحياة، يتعثَّر الإنسان بين الصخور والأشواك، ولابُدَّ له من نور يهديه سواء السبيل، ويجنِّبه العثرات والكبوات، وهذا النور لا يتولَّد إلا من اجتماع الإيمان الصادق العميق بالله، مع العمل المخلص والحكيم بتعاليمه الغرَّاء.

ـ المؤمن يعيش أبداً في رحاب السعادة، ورياض الطمأنينة، حياته تسبيح وعمله عبادة، وتوجُّهاته سلام، وسيلقى من ربِّه ما يعجز لسانه عن شكره وحمده عليه.

في رحاب الآيات:

خطَّان متوازيان ينتظمان مسيرة الإنسان في الأرض، فيمنعانه من الزلل، ويكوِّنان السياج الحصين الَّذي يأخذ بيده إذا تعثَّر، ويُنهضه إذا كبا، وينتشله إذا هوى في هُوَّة عميقة؛ إنهما الإيمان بالله والعمل الصالح، وجهان لعملة واحدة، فالأوَّل نور ويستقرُّ في القلب، والثاني عمل وأدواته الجوارح، ولا يُشيَّد الثاني إلا على قواعد الأوَّل. فمتى صلح القلب وانقدحت فيه شرارة الإيمان بدأ التوهُّج، وامتدَّت الشعلة لتحرق كلَّ الأهواء المتَّبعة من دون الله، فالقلب لا يستضيء إلا إذا احترق شوقاً وحُبّاً لحضرة الله، والحبُّ يثمر الامتثال لأوامر المحبوب، والالتزام بشريعته، وتنفيذ ما جاء به مهما جلَّ وعظم، ومهما دقَّ وصغر، فإذا تمَّ ذلك استقامت أعمال الإنسان لأنه مراقِبٌ لله، فلا تطيعه يده بإثم، ولا لسانه بفُحْش، ولا قلبه بخاطر سوء، ولا نفسه بوسواس رخيص، استوى ظاهره وباطنه واتجها معاً إلى خالق الوجود، طالبين منه التأييد والعصمة وصالح القول والعمل.

إن هؤلاء الصفوة الأخيار لم يصلوا إلى تلك المكانة الرفيعة بمحض المصادفة، فالكثير من عوامِّ القلوب يظنُّون الهداية عشوائية، وكأنها ضربة حظٍّ تصيب من تصادفه في طريقها. لكنَّ الحقيقة غير ذلك، والآيات تؤكِّد أن الهداية تقتضي الإرادة والتصميم من جهة طالبها، والعمل الدؤوب، والجهاد الشاقَّ للهوى والشهوات. إنها قرار يتَّخذه، وبرنامج ينفِّذه، ودموع يسكبها، وإنابة يلتزمها، وخشوع وتضرُّع، وبذا تُفتَّح أبواب السماء أمامه نوراً وإرشاداً، وهي جنَّات في الحياة وبعد الممات، حيث يوفَّى المؤمنون أجورهم سريعاً، وتتنزَّل عليهم بركات من السماء، فيبارك الله لهم في أعمارهم وأرزاقهم وأهلهم، ويفجِّر ينابيع الحكمة من قلوبهم على ألسنتهم، فتراهم شمساً متوهِّجة تضيء ولا تحرق، ولهم في معادهم جنـَّات النعيم مفتَّحة أبوابها، مضاءة قناديلها، تنتظرهم بشوق، فهي لم تخلق إلا لتكون لهم وطناً دائماً أبدياً خالداً. هؤلاء المؤمنون الشاكرون الصابرون في الحياة الدُّنيا، لن يفوتهم الثواب في الحياة الأخرى، فهم يتنعَّمون في جنَّات الخلد، ويحمدون الله على نعمه المتجدِّدة الَّتي لا تنفد. لقد توحَّدت همومهم واهتماماتهم وصبَّت في مجرى واحد، هو الرضا عن الله والشكر له في كلِّ حالاتهم، يسبِّحون الله تعالى ويقدِّسونه على جميل ثوابه وعظيم إحسانه، واللغة الَّتي تدور على ألسنتهم هي لغة ربَّانية تُشِعُّ بالسَّلام، فالله يُحيِّيهم عند لقائهم له: {تحيَّتُهُم يومَ يَلْقَوْنَهُ سلامٌ وأَعَدَّ لهمْ أجراً كريماً} (33 الأحزاب آية 44) والملائكة عند دخولهم الجنَّة يقولون لهم: {..سلامٌ عليكم طِبْتُم فادخلوها خالدين} (39 الزمر آية 73) وحوارهم بين بعضهم بعضاً ليس فيه لغو ولا كذب ولا تأثيم: {لا يسمعونَ فيها لغواً إلاَّ سلاماً ولهم رزقُهُم فيها بُكْرَةً وعَشـيّاً} (19 مريم آية 62). فَأَكْرِمْ بها من جنان كلُّها تسبيح وتمجيد! كلُّها أُنس وسلام، محفوفة بأوراق الحمد مظلَّلة بعرش ربِّ العالمين! فقد كانوا في الدُّنيا يحمدون الله على آلائه ويَقبل منهم اليسير من الحمد، قال صلى الله عليه وسلم : «إن الله ليَرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها» (رواه مسلم عن أنس رضي الله عنه ).

سورة الأنعام(6)

قال الله تعالى: {من جاءَ بالحسنةِ فلهُ عَشْرُ أمثالها ومن جاءَ بالسَّيِّئةِ فلا يُجزى إلاَّ مِثْلَها وهُم لا يُظْلَمون(160)}

ومضات:

ـ إن الله عزَّ وجل قد كتب على نفسه الرحمة، فتفضَّل على المحسنين من عباده بمحض الجود والكرم، وأنصف المسيئين منهم غاية الإنصاف والعدل ولم يظلمهم؛ فجعل جزاء السيئة سيئة مثلها، وأثاب على الحسنة أضعافاً مضاعفة.

في رحاب الآيات:

جُبلت النفس الإنسانية على حبِّ من أحسن إليها، والمزيد من الإحسان يزيل العداوة، بل يقلبها إلى محبَّة وتسامح، لذلك قال تعالى: {..ادفعْ بالَّتي هي أحسنُ فإذا الَّذي بينَكَ وبينَهُ عداوَةٌ كأنَّهُ وليٌّ حميم} (41 فصلت آية 34) وما أمر الله عباده بالإحسان إلا لأنه صفة من صفاته، ولأنه يحبُّ من اتَّصف به: {..والله يحبُّ المحسنين} (3 آل عمران آية 134).

والإحسان الإلهي لا حدود له، ولا تقيِّده قيود، لكنَّه عزَّ وجل تكرَّم بتحديد الحدِّ الأدنى للحسنة فجعلهُ عشرة أمثالها، ليولِّدَ الحافز القويَّ في نفس الإنسان، ليتَّجه في طريق الخير والإنتاج. والسبب أن الحسنة بذرة تُزرع في تربة القلب الخصبة فتثمر وتعطي من حولها، ويستشعر صاحبها لذَّة العطاء، فتسعد روحه، ويفرح قلبه، يضاف إلى ذلك استشعاره رضا الله وحسن ثوابه، أمَّا السيِّئة فهي بذرة تُزرع في تربة النفس الأمَّارة بالسوء، وتستقرُّ داخلها مُحدِثةً، نكتة سوداء، كافية وحدها لتعذيب صاحبها وندمه.

عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قلتُ: «يارسول الله، عَلِّمني عملاً يقرِّبني من الجنَّة ويباعدني من النَّار، قال: إذا عملت سيئة فاعمل حسنة فإنها عشر أمثالها. قلت يارسول الله! لا إله إلا الله من الحسنات؟ قال: هي أحسن الحسنات» (أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه)، وعنه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله عزَّ وجل: من عمل حسنة فله عشر أمثالها وأَزِيد، ومن عمل سيئة فجزاؤها مثلها أو أَغفر، ومن عمل قراب الأرض خطيئة ثمَّ لقيني لا يشرك بي شيئاً، جعلت له مثلها مغفرة» (أخرجه أحمد ومسلم وابن ماجه وابن مردويه والبيهقي). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يقول الله: إذا أراد عبدي أن يعمل سيِّئة فلا تكتبوها عليه حتَّى يعملها فإن عملها فاكتبوها عليه بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإن أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة فإن عملها فاكتبوها له بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف» (رواه مسلم).

ويمكن كسب الحسنات باليسير من العمل قال صلى الله عليه وسلم : «من عاد مريضاً أو أماط أذىً عن طريق، فحسنة بعشر أمثالها» (أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه )، وقال صلى الله عليه وسلم : «إن بكل تسبيحَةِ صدقة، وكلُّ تكبيرة صدقة، وكلُّ تحميدةٍ صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهيٌ عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة» (رواه مسلم عن أبي ذررضي الله عنه ) والله تعالى أبعد ما يكون عن الظلم، فهو الرحمن الرحيم، فلا يمكن أن ينقص شيئاً من حقوق عباده. جاء في الحديث الشريف عن أبي ذر رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربِّه: «ياعبادي إني حرَّمتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرَّماً، فلا تظالموا» (رواه مسلم). وهذا التظالم لا يمكن أن يُمحى بالاستغفار، إذا لم تُؤدَّ حقوق المظلومين المنتهكة، أو تُردَّ كرامتهم المهدورة..

سورة النساء(4)

قال الله تعالى: {وماذا عليهِمْ لو آمنوا بالله واليومِ الآخرِ وأنفقوا ممَّا رزقَهُم الله وكان الله بهم عليماً(39) إنَّ الله لا يظْلمُ مثقالَ ذرَّة وإن تَكُ حسنةً يُضاعِفْها ويُؤتِ من لدُنْهُ أجراً عظِيماً(40) فكيف إذا جئنا من كلِّ أمَّةٍ بشهِيدٍ وجئنا بكَ على هؤلاء شهيداً(41) يومئذٍ يَودُّ الَّذينَ كَفَروا وعَصَوا الرَّسولَ لو تُسوَّى بهمُ الأرضُ ولا يَكْتُمونَ الله حَدِيثاً(42)}

ومضات:

ـ لو آمن النَّاس بالله إيماناً صحيحاً، وأعدُّوا العُدَّة ليوم الحساب، وقدَّمُوا الغالي والنفيس في سبيله تعالى، لما فاتتهم منفعة الدُّنيا ولفازوا بسعادة الآخرة.

ـ حَسْبُ المؤمن شرفاً أن الله يطَّلع على إنفاقه في سبيله، ثمَّ يجزيه عليه أفضل الجزاء، علم النَّاس بذلك أم لم يعلموا.

ـ الجزاء من جنس العمل، ولا يُنقص الله تعالى أجرَ أحدٍ، ولو كان مثقال ذرَّة، ويزيد ويضاعف من فضله لمن يشاء بغير حساب.

ـ يقوم الأنبياء والمرسلون والصالحون يوم القيامة بالشهادة على أقوامهم، فمن تَبِعَهم في الحياة الدُّنيا، كان معهم في الدار الآخرة، ومن عصاهم فله الخزي والندامة. يومها تتكشَّف الأمور وتتَّضح الحقائق ويتبيَّن للجميع أن الله حقٌّ، وأن ما وعد به صدق، ويتمنَّى الكافر لو كان ترابا، هرباً من مواجهة أعماله وتلقِّي نتائجها.

في رحاب الآيات:

الإسلام دين المنطق السليم، لأن تعاليمه تتوافق مع العقل الناضج والَّذي يجد فيها إجابة عن كلِّ سؤال. والآية هنا تتوجَّه إلى الإنسان الواعي وتطرح عليه سؤالاً يحمل معنى الإنكار؛ فتسأله: ماذا يضيره؟ أو ما الضرر الَّذي سيلحق به لو أنه آمن بالله حقَّ الإيمان، وأنفق ممَّا رُزق في وجوه الإحسان؟! ولا شكَّ بأن الإجابة الضمنية سيُقرُّها بنفسه، وتكون نفياً قاطعاً لإصابته بأدنى ضرر إذا ما آمن واتَّقى، بل إنه سيكون الرابح السعيد، والمسعد للقريب والبعيد.

فمن عرف هذه الحقيقة وأدركها بقلبه فعليه أن يعيد حساباته، ويستقيم في حياته ليستدرك ما فات، وينجو من مناقشة الحساب فيما هو آت؛ لأن من نُوقش الحساب عُذِّب.

وكم من عصاة أسرفوا على أنفسهم فأحاط بهم سيـِّئات ما عملوا، فندموا أشدَّ الندم على ما فرَّطوا، ولات ساعة مندم. فلأمثال هؤلاء يُوجَّه الخطاب من الله تعالى: وماذا عليكم لو اتَّقيتم وأصلحتم أحوالكم قبل الندم؟ وهل من خزي أشدُّ وأنكى من الإقرار بالحقِّ لدى معاينة لحظات النزع الأخير؟. ولعلَّ أهم سبب في تقاعس المرء، عن سلوك طريق الإيمان، هو فقدانه للشعور بأن الله تعالى عليم به، ومطَّلع على أعماله، ولا يغيب عنه مثقال ذرَّة ممَّا ينفقه ويقدِّمه. ولو أن مثل هذا الشعور تحقَّق بشكل راسخ، لراقب تصرَّفاته وسلوكه، ولأدرك أهمية كلِّ عمل يقوم به لتغليب كفَّة الحسنات على كفَّة السيئات، وكفَّة البناء على كفَّة الهدم. شوهدت السيِّدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ تتصدَّق مرَّة بحبَّة عنب، فاستقلَّها القوم وتساءلوا: حبَّة عنب؟ فأجابتهم: أو تدرون كم ذرَّة في حبَّة العنب هذه؟.

ومع أن الله تعالى لا يُنقص أجر أحد من عباده، ولو مثقال ذرَّة، فإنه يضاعف للمحسن حسناته، قال تعالى: {من ذا الَّذي يُقرِضُ الله قرضاً حسناً فيضاعِفَهُ له أضعافاً كثيرة..} (2 البقرة آية 245).

والحساب والجزاء شيئان متلازمان يوم القيامة، ويجريان على مشهد من الرسل الَّذين جعلهم الله حجَّة على الخلق. فالرسول يشهد على أمَّته بأنه قد بلَّغها أوامر الله، ثمَّ تُعرض أعمال الأمم على أنبيائها وعلمائها وحكمائها، وتقارن مع تعاليمهم وتوجيهاتهم لكي تتضح المخالفات، وتُقرَّر العقوبات، ويكون رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس الأنبياء والرسل والمصلحين شاهداً أميناً لهذه المحاكمة الإلهية العادلة. وفي مثل هذه اللحظات الحرجة، حيث يشعر الإنسان المقصِّر بالخزي أمام الله عزَّ وجل، ويدرك أنه قد أساء حقاً إلى نفسه بإساءته إلى مخلوقات الله، يتمنَّى لو أن الأرض تميد به فيختفي من على ظهرها، أو أن ينحلَّ في تربتها ولا يبقى له أثر ولا ذكر، ولكن هيهات! فلا مفرَّ حينئذ من عذاب الله، ولابُدَّ من العقاب أو الثواب، وهذا قضاء ربِّ العالمين.

سورة النازعات(79)

قال الله تعالى: {فأمَّا من طغى(37) وآثرَ الحياةَ الدُّنيا(38) فإنَّ الجحيمَ هي المأوى(39) وأمَّا من خافَ مقامَ ربِّه ونهى النَّفسَ عن الهوى(40) فإنَّ الجنَّة هي المأوى(41)}

ومضات:

ـ يُشقُّ الطريق إلى جهنَّم بالطغيان الَّذي هو تجاوز الحدود والتعدِّي على الآخرين، وإيثار الحياة الدُّنيا على الآخرة، والاستسلام لشهوات المعاصي ولذَّاتها، والإعراض عن طاعة الله تعالى ومحبَّته.

ـ طريق الوصول إلى الجنَّة الخوف المبني على المحبَّة الحقيقية لله، وكبح جماح شهوات النفس والاستجابة لأوامر الله.

في رحاب الآيات:

الطغيان هو تجاوز الحدود الشرعية والمعايير الأخلاقية الَّتي رسمتها الشرائع السماوية، أو فرضتها طبيعة التعامل بين النَّاس بعضهم مع بعض. والطاغية إنسان مستبدٌّ متسلِّط؛ لا يخشى الله في تصرَّفاته، ولا يراعي حقوق النَّاس وكراماتهم، همُّه الاستزادة من المتع والمال، قد آثر الحياة الدُّنيا على الآخرة، فعمل لها وحدها، ولم يحسب للآخرة حساباً. ومن كان هذا شأنه اختلَّت الموازين في يده، واختلَّت قواعد الشعور والسلوك في حياته، وغدا طاغياً باغياً متجاوزاً للحدود، تراكمت غيوم ذنوبه السوداء في ساحة قلبه، وغلَّفته بأُطُرٍ صلدة من القسوة والجبروت، فلا يجدي معه إلا المعالجة الموجعة لإزالة هذه التراكمات من أعماق نفسه، وإعادته إلى رحاب الفطرة النقية، ليصبح أهلاً للسجود على أعتاب الحضرة الإلهية، ونيل مغفرة الله ومحبَّته.

ولابُدَّ للمرء لكي ينضبط سلوكه وتتَّزن تصرَّفاته، من خوف من الله ينغرس في أعماقه، ويلجمه عن تجاوز الحدود أو الإساءة للآخرين، كما هو شأن الأنظمة الدنيوية مع الأفراد، فكلَّما ازداد خوفهم من هيبتها وقوَّتها، كلمَّا التزموا بها، وحرصوا على تطبيق قوانينها. وهذا الخوف لا يمكن أن يتحقَّق إذا لم نعرف ممَّن يجب أن نخاف، ونعرف مدى عظمته وقدرته على صيانة قوانينه، ومعاقبته على الإخلال بها، وهكذا فإننا كلمَّا ازددنا معرفة بالله تعالى ومحبَّة له، كلمَّا ازداد خوفنا منه، وأحجمنا عن مخالفة أوامره أو معصيته. فالَّذي يخاف مقام ربِّه لا يُقدم على معصية، فإذا أقدم عليها، بحكم ضعفه البشري، قاده خوفه من هذا المقام الجليل إلى الندم والاستغفار والتوبة، وعاد إلى دائرة الطاعة.

ونَهْيُ النفس عن الهوى هو نقطة الارتكاز في دائرة الطاعة، فالهوى هو الدافع القويُّ لكلِّ طغيان، وهو أساس البلوى وينبوع الشرِّ، وقلَّ أن يجنح الإنسان إلا بدافع الهوى، فالجهل سهل علاجه، ولكنَّ الهوى بعد العلم هو آفة النفس، الَّتي تحتاج إلى جهد شاقٍّ طويل الأمد لعلاجها.

والخوف من الله هو الحاجز الصلب أمام تيارات الهوى العنيفة، الَّتي لا يثبت أمامها غير هذا الحاجز. على أن الله تعالى لم يكلِّف الإنسان أن يعصم نفسه من الهوى، فهو سبحانه يعلم أن هذا خارج عن طاقته، ولكن كلَّفه أن ينهاها، ويكبحها ويمسك بزمامها، إن هي انساقت مع الهوى، وأن يستعين على هذا بالخوف من مقام ربِّه الجليل، العظيم، المهيب، الَّذي يكتب له بهذا الجهاد الشَّاق ثواباً عظيماً هو الجنَّة. ويحقُّ لهذا العبد المحبِّ الخائف، أن ينال الحظوة والقربى من الله تعالى، ويدخل فراديس الله، وتكون له عقبى الدار.

إذن بقدر معرفة عظمة الخالق وقدرته، بقدر ما نهابه ونخشاه عزَّ وجل، ونلتزم حدود الأدب والإخلاص، والمكافأة عظيمة في الدُّنيا والآخرة بإذن الله، ولذلك قال تعالى: {وأمَّا من خافَ مقامَ ربِّه ونهى النَّفْسَ عن الهوى * فإنَّ الجنَّة هي المأوى} فالخطوة الأولى لنهي النفس عن الهوى هي التعرُّف إلى الله عزَّ وجل، بالعلم والتفقُّه والدراسة المستفيضة لكتابه الكريم، أمَّا الخطوة الثانية فهي الاستعانة بهذه المعرفة على مكابدة النفس ووضعها على المسار الصحيح.

سورة الليل(92)

قال الله تعالى: {واللَّيلِ إذا يَغْشى(1) والنَّهارِ إذا تجلَّى(2) وما خلَقَ الذَّكر والأُنثى(3) إنَّ سَعْيَكُم لشتَّى(4) فأمَّا من أعطى واتَّقى(5) وصدَّقَ بالحُسنى(6) فسنيسِّرُهُ لليُسرى(7) وأمَّا من بَخِلَ واستغْنى(8) وكذَّبَ بالحُسنى(9) فسنيسِّرُهُ للعُسرى(10) وما يُغني عنه مالُهُ إذا تَرَدَّى(11) إنَّ علينا لَلْهُدى(12) وإنَّ لنا للآخرةَ والأُولى(13)}

ومضات:

ـ آيات كريمة جزلة كمثيلاتها من السور المكِّية، تزرع جذور العقيدة في أعماق نفس المسلم.

ـ يقسم الله تعالى بتوالي الليل والنهار، وبخلقه للذكر والأنثى، وبما يوحيه هذا الخَلْق من معجزة استمرار الحياة وفق الموازين الدقيقة، ليؤكِّد بهذا القسم الجليل أن سعي الإنسان مختلف في كسب الثواب والعقاب.

ـ إن كلَّ من تصدَّق واتَّقى، وصدَّق بما آتاه الله من رسالات السماء، فطريقه ميسَّرة آمنة، ومن بخل بماله، وأعرض عن خدمة مجتمعه، وكذَّب برسالات السماء، فطريقه مسدودة معسَّرة وشاقَّة، ولن ينجيه ماله من التردِّي في هاوية الخذلان.

ـ من يُقبل على الله تعالى يهديه الله، وكما خلقه أول مرَّة فإنه سيبعثه مرَّة أخرى، وإليه النشور.

في رحاب الآيات:

يقسم الله سبحانه بهاتين الآيتين من آياته الجليلة الليل والنهار، مع صفة كلٍّ منهما، الليل حين يغشى البسيطة ويغمرها ويخفيها، والنهار حين يتجلَّى ويظهر، فيظهر في تجلِّيه كلُّ شيء ويُسفر، وهما أوانان متقابلان في دورة الفلك، ومتقابلان في الخصائص والآثار.

كذلك يقسم الله تعالى بخلقه الأنواع جنسين متقابلين: الذكر والأنثى من ماء واحد، وفي هذا دليل على أنه عليم كلَّ العلم بدقائق المادَّة وما فيها، إذ لا يعقل أن يكون هذا الاختلاف بين الذكر والأنثى، بمحض الاتفاق، من طبيعة لا شعور لها بما تفعل، لأن الأجزاء الأصلية في المادَّة متساوية النسبة فيهما، وحدوث هذا التخالف في الأجنَّة دليل على أن واضع هذا النظام عالم بما يفعل، حكيم فيما يصنع. وما بين تقلُّب الليل والنهار، تبقى حركة الحياة نشيطة مستمرَّة على مدار الزمن، ويبقى الإنسان هو العمود الفقري لهذه الحركة، قائماً بخلافته على الأرض، حاملاً للأمانة الَّتي أوكلت إليه. والله تعالى يقسم بهذه الظواهر والحقائق المتقابلة في الكون والنَّاس، على أن سعي النَّاس مختلف، وطرقهم شتَّى، ومن ثمَّ فجزاؤهم مختلف كذلك، فليس الخير كالشرِّ، وليس الهدى كالضلال، وليس من صدَّق وآمن كمن كذَّب وتولَّى، وأن لكلٍّ طريقاً، ولكلٍّ مصيراً، ولكلٍّ جزاءً وفاقاً.

فمن رعى الأمانة، وسعى لها سعيها بهمَّة وإيمان، فبذل الغالي والنفيس، وقدَّم لمجتمعه كلَّ جهده وطاقاته واتَّقى الله في محارمه، وكبح جماح نفسه عن شهواتها، فإن سُبُلَه ممهَّدة، وعسيرَه ميسَّر، وهو في كنف الله تعالى ورضاه، وفي أمنه وحماه. وأمَّا من تسلَّط عليه حبُّ الذَّات، واستولى على قلبه حبُّ الدُّنيا، فأعمى بصره وبصيرته، فهو في تردٍّ وسقوط، وما ينفعه في مثل هذه اللحظات مال ولا جاه ولا بنون. وأيُّ شيء يغني عنه ماله الَّذي بخل به على النَّاس، ولم ينفقه في المصالح العامَّة، وفيما يعود نفعه على المجتمع، ولم يصطحب منه شيئاً إلى آخرته؟ وماذا ينفعه المال إذا هلك وهوى في نار جهنَّم؟. لقد خلق الله تعالى الإنسان وألهمه التمييز بين الحقِّ والباطل، وبين الخير والشرِّ، ثمَّ بعث له الأنبياء، وشرَّع لهم الأحكام، ثمَّ هو بعد ذلك يختار أحد السبيلين، فالسعيد يختار سبيل الخير والفلاح فينجو، والشقيُّ يختار السبيل المُعْوجَّ فيتردَّى في الهاوية. وإنما الله هو المالك لكلِّ ما في الدُّنيا وكلِّ ما في الآخرة، فيهب ما يشاء لمن يريد، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضلَّ فإنما يضلُّ عليها، ومن طلب الدُّنيا والآخرة من غير الله فقد أخطأ الطريق. أخرج أحمد وابن مردويه عن أبي أُمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يدخل النَّار إلا شقي، قيل: ومن الشقي؟ قال: الَّذي لا يعمل لله بطاعة، ولا يترك لله معصية».