b11-f9

الفصل التاسع:

الهجرة في سبيل الله

سورة النساء(4)

قال الله تعالى: {إنَّ الَّذين تَوفَّاهُمُ الملائكَةُ ظالِمي أَنْفسِهِم قالوا فيمَ كنتم قالوا كُنَّا مُستضعَفينَ في الأرضِ قالوا ألم تَكُن أرضُ الله واسعةً فتُهاجِروا فيها فأولئِكَ مأواهمْ جهنَّمُ وساءَتْ مصيراً(97) إلاَّ المُستضْعَفينَ من الرِّجالِ والنِّساءِ والوِلْدانِ لا يستطيعونَ حِيلَةً ولا يهتدونَ سبيلاً(98) فأولئِكَ عسى الله أن يعفوَ عنهم وكان الله عَفُوّاً غفوراً(99) ومن يُهاجرْ في سبيلِ الله يَجدْ في الأرضِ مُراغَماً كثيراً وَسَعَةً ومن يخرُجْ من بيتهِ مهاجراً إلى الله ورسولِهِ ثمَّ يُدرِكْهُ الموتُ فقد وقعَ أجرُهُ على الله وكان الله غفوراً رحيماً(100)}

سورة الأنفال(8)

وقال أيضاً: {إنَّ الَّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالِهِم وأنفُسِهِم في سبيلِ الله والَّذينَ آوَوْا ونَصَرُوا أولئكَ بعضُهُم أولياءُ بعض والَّذين آمنوا ولم يُهاجروا ما لَكُم من وَلايَتِهِم من شيءٍ حتَّى يهاجروا وإن استَنْصَروكُم في الدِّين فَعَلَيكُمُ النَّصرُ إلاَّ على قومٍ بينكُم وبينَهم ميثاقٌ والله بما تعملون بصيرٌ(72)}

ومضات:

ـ لا عذر لمن يتقاعس عن الالتزام بشريعة الله تعالى، بحجَّة أن الظروف الَّتي تحيط به صعبة لا تسمح له بذلك، طالما أنه يملك القدرة على تغيير هذه الظروف، أو التخلُّص منها بالهجرة إلى بيئة أفضل.

ـ إنَّ مُلْكَ الله واسع الأطراف يتَّسع للجميع، ولابُدَّ من أن يجد المؤمن في رحابه بقعة يعبد الله فيها ويعمل بشريعته في جوٍّ من الحرِّية والاطمئنان.

ـ لا يكلِّف الله نفساً إلا وُسْعها، فأولئك الَّذين عجزوا بحقٍّ عن الهجرة لسبب قاهر، اقتصادياً كان السبب أو اجتماعياً أو غير ذلك، فالله تعالى قد يتجاوز عن تقصيرهم، وخاصَّة إذا كانوا ممن لا يملكون حيلة، رجالاً ونساءً وأطفالاً.

ـ الهجرة في سبيل الله تحقِّق للإنسان فتحاً روحياً وإيمانياً وأخلاقياً، إلى جانب الرزق الإلهي الوفير.

ـ الأعمال بالنيَّات، وإذا عزم المؤمن على الهجرة، ثم حال الموت دون تحقيق هدفه، أثابه الله تعالى وكان له غفوراً رحيماً.

ـ عندما ينخرط المسلم عملياً في صفوف المسلمين، فإن له ما لهم من الحقوق، وعليه ما عليهم من الواجبات، وإذا اختار البقاء بعيداً عنهم فهم في حلٍّ من الواجبات تجاهه، عدا ما يتعلَّق منها بحماية عقيدته.

ـ السِّمَةُ الأساسية للشريعة الإسلامية هي المحافظة على العهود والمواثيق حتَّى مع أعداء المسلمين، وبهذا امتازت عن كلِّ الشرائع الوضعية.

في رحاب الآيات:

تعرض الآية الكريمة مشهداً حياً من مشاهد الدار الآخرة؛ حيث يقف العبد وحده بين يدي الملائكة في عالم البرزخ، وقد تَجرَّد من مظاهر الدنيا وزينتها، فيسألونه عن سبب تفريطه في أمر دينه، وتهاونه في شأن عقيدته، وقبوله بأن يبقى في دار الكفر، حيث كان يُمنع من إقامة شعائر دين الله، كما يسألونه عن السبب في عدم هجرته إلى دار الإيمان. ويحاول أن يجد جواباً يُخْليه من المسؤولية فيلتمس عذراً واهياً يتشبَّث به، مدَّعياً أن ضعفه حال بينه وبين الهجرة، ومنعه الخوف من تحمُّل متاعب السفر، ومفاجآت الرحلة، ومغادرة الوطن.

ولكنَّ العُذر غير حقيقي، والله عالم بحقيقة الأمر، لقد كره الهجرة وتثاقل وآثر البقاء في داره حرصاً على ماله ومصالحه الدنيوية، وعلاقاته الاجتماعية، ورضي بالذُّل والاستضعاف والفتنة في إيمانه لقاء عَرَض زائل. فقد حبس نفسه في صدفة ضيقة اسمها النفس الأمَّارة بالسوء، ودائرة صغيرة اسمها المكان، ولم يحاول أن يخرج من ضيق نفسه إلى رحاب عالم الروح، ولا من دائرة المكان إلى انفساح عالم الأرض. لقد اختار ما يرضيه في دنيا المادَّة ومسالك الهوى، وعزل نفسه عن الجسد الإسلامي، حين اختار الإسلام عقيدة نظرية، وتقاعس عن تطبيق تعاليمها ومبادئها عملياً، تحت لواء المجتمع المسلم.

لذلك فقد نزل حكم الله تعالى فيه وفي أمثاله، بحجب الولاية عنهم، وحرمانهم من كلِّ ما يترتب عليها من العلاقات والالتزامات، فلا يؤخذ برأيهم ولا يحقُّ لهم المشاركة في الأُطُر القيادية، لأنهم لا يدورون في فلك المجتمع المسلم ولا يُسْلِمون قيادتهم إليه، ولهذا فلم تعد تربطهم به سوى رابطة الاشتراك الشكلي في العقيدة، وهذه وحدها لا تُلزم المجتمع المسلم بواجبات تجاههم، إلا في حالة واحدة، وهي أن يُعتَدى عليهم في دينهم، وحينها يتوجَّب على المسلمين أن ينصروهم؛ إذا طلبوا منهم الإغاثة والنصرة، شريطة ألا يتعارض ذلك مع العهود، الَّتي أخذتها الدولة المسلمة على نفسها، مع أي جهة من الجهات، حتَّى ولو كانت كافرة ومعتدية. وذلك لأن الأصل هو مصلحة المجتمع المسلم، ولها الأولوية في كلِّ التعاملات والعقود، والمحافظة على العهود والمواثيق هي السِّمة الأساسية للشريعة الإسلامية. وكان الأجدر بهذه الفئة أن تلتحق بالمجتمع الإسلامي لتقوم بدورها فيه، وتعيش في كنفه وحمايته، بدلاً من أن تجعل من نفسها ريشة في مهبِّ الريح، تتقاذفها أيدي الأعداء والمشركين، وتجعل من أمر حفظ حقوقها وكرامتها واجباً ثقيل الوطأة على المجموعة الإسلامية.

إن الَّذين ثبت تقاعسهم عن الهجرة بدافع الحفاظ على المصالح الدنيوية، لا سيَّما في الأوقات الَّتي تستلزم فيها مصلحة المسلمين تماسكهم وتآزرهم، والتقاءهم جميعاً في مكان واحد، للقيام بأمر دينهم وتقويته، كما كانت عليه الحال في زمن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فإن مصيراً آخر ينتظرهم في الآخرة، وهو الحبس والتضييق عليهم في جهنَّم، وما هذه إلا النهاية الحتمية الَّتي ارتضوها لأنفسهم، حين آثروا البقاء حيث هم، على اللحاق بالمسلمين والانضمام إليهم في مجتمعهم الجديد.

ولكنَّ الآية الكريمة تستثني منهم طائفة من المؤمنين منعتهم ظروف قاهرة حقيقية من الهجرة، وهم الشيوخ الضعاف والنساء والأطفال، فاضْطُرُّوا للبقاء في دار الكفر، لأنهم لم يجدوا سبيلاً للهجرة إلى حيث يأمنون على دينهم وعقيدتهم من العبث والاضطهاد، فهؤلاء يمدُّ الله لهم حبل الرجاء ليتمسَّكوا به، فهو إن شاء غفر لهم وإن شاء عذَّبهم؛ على الرغم من أعذارهم. فالأمر متعلِّق بمشيئة الله، كي لا يتهاون أي امرئٍ في تفضيل التراخي والراحة، على تحمُّل المشاقِّ والتضحية في سبيل الله، إلا أن الله تعالى قد كتب على نفسه الرحمة، ورحمته قد سبقت غضبه بل ووسعت كلَّ شيء.

والله ـ جلَّ وعلا ـ عالم بطبيعة النفس البشرية وما يعتريها من خوف أو ضعف أو جُبن بشأن الهجرة، فقد تشقُّ على بعض الناس، بسبب خوفهم من مشقَّات الطريق أو تَرصُّد الأعداء لهم، فيطمئنهم الله سبحانه بوعده لهم بأن من يهاجر في سبيله، لا من أجل مصلحة خاصَّة أو غرض دنيوي، فإنه سيفتح أمامه سُبل السَّلام والأمان، وسيهيِّئ له أرضاً واسعة تغنيه عن ضيق أرضه، ورزقاً وافراً يعوِّضه عما تركه في دياره، وإذا خرج مهاجراً وأدركه الموت، فإن أجره على الله، وسيقبل هجرته ويرفعه إلى مقام المهاجرين الحقيقيين.

وليست الهجرة أمراً خاصّاً بالمسلمين في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسب، بل هي عامَّة تسري قواعدها إلى آخر الزمان. فالهجرة من الديار الَّتي مُنعت فيها حرِّية العبادة فرضٌ في كلِّ زمان ومكان، فلا يحقُّ للمؤمن أن يتراخى في داره بحجَّة أنه ممنوع من ممارسة عباداته، وهو إنْ هاجر فإنَّ أمامه فتحاً روحياً وإيمانياً وأخلاقياً، وعطاءً إلهيّاً في دينه ودنياه.

ولا يقتصر معنى الهجرة على أن يهاجر الإنسان من بلد إلى بلد فحسب، فالهجرة تعني هجر كلِّ ما نهى الله عنه من سيِّء الأقوال والأفعال، وهجر أهل السوء وأماكن الفساد، وأن يهاجر المرء إلى الله ورسوله متحرِّراً من ربقة الهوى واستعباد المادَّة، متطلِّعاً إلى عالم الروح حيث الاتساع والانفساح، والسمو والارتقاء، وحيث ينخلع القلب من حبِّ الدنيا ويعمره حبٌّ واحد، هو حبُّ الله وحبُّ أحبابه، والبقاء في دائرتهم والهجرة إلى مجالسهم، حيث تتآلف القلوب وتتشابك الأيدي على العمل الصالح. وهكذا فإن على المؤمن أن يبقى دائماً في حالة مراقبة لإيمانه، ومتابعة لمؤشِّره الروحي، ليكون في زيادة لا في نقصان.

وفي حال شعوره بالتراجع عن العبادات والطاعات، فعليه أن يتحرَّى أسباب ذلك ليُجري عملية تغييرٍ فوريةٍ سواء في محلِّ إقامته أم في عاداته، وأن يحيط نفسه بأجواء نقيَّة طاهرة، تزيده عزماً وصلابةً في عقيدته، وحباً للخير المطلق.

إن الهجرة فُرِضَتْ على المسلمين لترك دار الجاهلية والضلال، إلى دار المعرفة والهداية، فإذا لاحظنا هذا المعنى، وجدنا أنَّ كلَّ مَنْ كانت حالتُه مثلَ حالتهم، وجبت عليه الهجرة، وهي واجبة الآن على كلِّ مسلم ليس له معلِّمٌ يعلِّمه، ولا مرشد له يهديه سواء السبيل. إنَّ على المسلم الآن أن يبحث عن مرشدٍ عارفٍ بالله يأوي إليه، ليجد عنده متطلَّبات الإيمان الضرورية، وهي علم الكتاب والسنَّة، وتزكية النفس وتنوير العقل بالحكمة؛ وهي الأمور الثلاثة الَّتي تشكِّلُ العلم الَّذي أورثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالأنبياء لم يورِّثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورَّثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافر.

وفي الختام لابدَّ من أن نشير بأن اكتفاء المسلم من الإسلام بعادات ورثها عن أبويه، أو بصفحات قرأها من كتاب، لا يخرجه من أعرابيَّته، فالأعرابي في مصطلح الإسلام: من رضي بالجهل، واقتنع بما لديه من عادات، بعيداً عن المستوى السامي الَّذي ندبه إليه الإسلام. ولقد ورد عن سلفنا الصالح أن من الكبائر التعرُّب بعد الهجرة، فإذا ما هاجر المسلم إلى مورد العلم والتزكية والحكمة، فقد حظي بأغلى كنز في هذه الحياة، وعليه أن يزداد تمسُّكاً به، وحفاظاً عليه، وقرباً منه يوماً بعد يوم، حتَّى يلقى ربَّه وهو أوثق ما يكون ارتباطاً به، والتزاماً بمنهجه القرآني النبوي، قال تعالى: {هو الَّذي بَعَثَ في الأمِّيِّين رسولاً منهم يتلو عليهم آياتِه ويُـزكِّيهم ويُعلِّمهمُ الكتابَ والحكمةَ وإن كانوا من قَبْلُ لفي ضلالٍ مُبين} (62 الجمعة آية2).