b11-f5

الفصل الخامس:

مقوِّمـات النصـر

سورة آل عمران(3)

قال الله تعالى: {إن يَنصُرْكُمُ الله فلا غالِبَ لكم وإن يَخذُلْكُمْ فمن ذا الَّذي يَنصُرُكُمْ من بعدهِ وعلى الله فَليتوكَّلِ المؤمنونَ(160)}

ومضات:

ـ النصر والخذلان من قوانين الله تعالى. فالنصر حليف من لاذ بالله والتجأ إلى حماه، والتزم بقوانينه، والخذلان نصيب من خذل قوانين الله، وعمل بعكس تعاليمه عزَّ وجل.

في رحاب الآيات:

قضت سنَّة الله في هذا العالَمِ بتوقُّف النتائج على المقدِّمات، وارتباط المسبَّبات بالأسباب، فبقدر ما يفي الإنسان بالتزاماته، بقدر ما يحقِّق الله له من النتائج الإيجابية المثمرة. وهكذا فإن المقدِّمات ترتبط بمشيئة الإنسان وقراره الشخصي في إطار مشيئة الله، وتظلُّ النتائج والعواقب متعلِّقة بمشيئة الله وحدها أوَّلاً، وبمقدار الجهد المبذول والإتقان للعمل المنفَّذ ثانياً. وباعتبار أن قضية النصر والخذلان في أيِّ معركة حياتية يخوضها الإنسان تخضع لعوامل كثيرة، فإن الآية الكريمة تردُّ الناس إلى قدر الله ومشيئته، وتعلُّقهم بإرادته وقوانينه، لذلك فالنصر لا يكون إلا لمن سار على هذه القوانين. وهذه الحقيقة تُلْزِمُ المسلمين باتباع المنهج والتقيُّد بالتوجيه، والنهوض بالتكاليف، وبذل الجهد والتوكُّل بعد هذا كلِّه على الله تعالى: {..وعلى الله فليتوَكَّلِ المؤمنون} (9 التوبة آية 51) وبذلك يخلص تصوُّر المسلم من التماس شيء من عند غير الله، ويتَّصل قلبه مباشرة بالقوَّة الفاعلة في هذا الوجود.

إن ظاهر الآية يوحي أن النصر والخذلان كليهما من الله تعالى، وأن الإنسان ما هو إلا أداة مسيَّرة، والواقع أن المعنى الحقيقي الَّذي يجب أن نفهمه هو أن من يسير ضمن قوانين الله وتعاليمه ينصره الله، فنصر الله يكلِّل طاعتنا وتنفيذنا لهذه التعاليم، فإن تجاوزناها فإن الله يخذلنا بتقصيرنا وتفريطنا بمقتضيات قانونه التكويني العام، والأدلَّة على ذلك كثيرة منها قوله تعالى: {وأعِدُّوا لهم ما استطَعْتُم من قوَّة..} (8 الأنفال آية 60) وقوله في آية أخرى: {إنَّ الله يُحِبُّ الَّذين يُقاتِلون في سبيلِهِ صفّاً كأنَّهم بُنيانٌ مرصوص} (61 الصف آية 4) فإعداد القوَّة الحسيَّة والمعنوية، إلى جانب الوحدة وتجميع القوى، يشكِّلان أساساً من أسس النصر، أمَّا إهمالهما فيكون عاملاً من عوامل الفشل والهزيمة.

سورة محمَّد(47)

قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا إن تنصُروا الله ينصُرْكم ويُثبِّت أقدامكم(7) والَّذين كفروا فتَعْساً لهم وأضلَّ أعمالَهُم(8) ذلك بأنَّهم كَرِهوا ما أنزلَ الله فأحبَطَ أعمالَهُم(9)}

ومضات:

ـ نصرة المؤمنين لله تعالى تعبير، رمزي مجازي، يُعبِّر عن مدى التزامهم العملي بتطبيق شريعته، بحماس وقوَّة إرادة، مع التحلِّي بالأخلاق الفاضلة، والاستزادة من الحكمة والعلوم بأنواعها.

ـ نصرة الله تعالى للمؤمنين تعني إمدادهم بالعطاء الروحي والنور الإلهي، وتيسير سُبُل العطاء المادِّي ممَّا يحقِّق لهم السعادة والسكينة والاستقرار، وأن يرزقهم من حيث لا يحتسبون، ويجعل لهم من عُسرهم يُسراً، ومن ضيقهم مخرجاً وفرجاً، مما يثبِّت لهم مكانتهم الاجتماعية والاقتصادية، ليشكِّلوا قاعدة يقوم عليها السَّلام والرخاء.

ـ الَّذين يرفضون الإيمان بالله، وينأون بجانبهم عن محبَّة الله وعبادته، هم غارقون في متاهات الفراغ والملل، ويسلكون سبل الضياع، تتقاذفهم أمواج الخوف والقلق. ذلك أنهم أقاموا آمالهم على قواعد ركيكة من الوهم والخيال، كارهين الحقَّ وأهله لعدم تجانسه مع نفوسهم المريضة، فانهارت آمالهم، وحبطت أعمالهم وصارت هشيماً تذروه الرياح.

في رحاب الآيات:

قد يُفهَم من ظاهر الآية أن الله سبحانه وتعالى بحاجة إلى دعم مادِّي، أو قوَّة عسكرية تدافع عنه وتحميه! والحقيقة أنه تعالى هو الغني عنَّا، ونحن الفقراء إليه، ونحن المحتاجون إلى دعمه ومدده ونصرته. والأمر المنوط بنا أن نقدِّم أنفسنا وأموالنا في سبيل نصرة دين الله، ورفع راية العمل لتحقيق تعاليمه المفيدة في سائر نواحي الحياة. وفي سبيل تحقيق ذلك، علينا أن نجرِّد نفوسنا لله، وألا نشرك به شيئاً، لا شِرْكاً ظاهراً ولا خفياً، وأن يكون الله أَحَبَّ إلينا من ذواتنا ومن كلِّ ما نحبُّ ونهوى، وأن نراقبه في رَغَبِنا ورَهَبِنا وحركاتنا وسكناتنا، وسرِّنا وعلانيتنا، ونشاطنا كلِّه وخلجات أفئدتنا عامَّة، وهذا نصر الله في ذات نفوسنا.

إن لله شريعة واضحة ومنهاجاً محدَّداً للحياة، يقومان على قواعد وموازين وقيم وتصور خاص للحياة وللوجود كلِّه، وإن نصر الله يتحقَّق بنصرة منهاجه وشريعته، ومحاولة تحكيمها في الحياة كلِّها دون استثناء، وهذا نصر الله في واقع الحياة، بشرط أن يكون الهدف هو أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن تهيمن شريعته ومنهاجه على ضمائر الناس وأخلاقهم وسلوكهم، وعلى أوضاعهم وتشريعهم ونظامهم. هذا شرط الله على الَّذين آمنوا، أمَّا وعده لهم في مقابل ذلك فهو النصر وتثبيت الأقدام، وقوَّة الإيمان ليتَقوَّوا بها على أنفسهم وأهوائهم، وعلى كلِّ من يحاول تخريب هذه المسيرة الطاهرة المباركة. والنصر ليس نهاية المعركة بين الكفر والإيمان، وبين الهداية والضلال، فللنصر تكاليفه في ذات النفس وفي واقع الحياة، وذلك في عدم الزهُوِّ به، وعدم التراخي بعده والبعد عن التهاون في المحافظة عليه.

هذا هو الوجه الحسن الَّذي يصوِّر المؤمنين مع الله، ولو أننا نظرنا إلى الوجه الآخر لرأينا النقيض، إننا نرى التعاسة والخيبة والخذلان تلقي بظلالها على من كفر بالله وآياته، ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله من قرآن وشريعة ومنهج واتجاه، وهي حالة كثير من النفوس الفاسدة الَّتي تكره بطبعها ذاك النهج السليم القويم، وتتصادم معه من داخلها، بحكم مغايرة باطلها لحقيقته، وغاياتها لغاياته. إن أصحاب هذه النفوس موجودون في كلِّ زمان وفي كلِّ مكان، يحملون في قلوبهم الحقد والكراهية للدِّين ولكلِّ ما يتَّصل به، لأنهم يَرَوْنَ فيه حدّاً من سيطرتهم، وكفّاً لتجاوزاتهم وطغيانهم؛ ولقد كان جزاء الله لهم أن أحبط أعمالهم، فانتهوا إلى الهلاك والضياع.

وصفوة القول: نحن بحاجة إلى الله حين ننصره لأن في ذلك نصراً لنا بوصفنا من أتباع دينه وأنصاره، ونحن بحاجة إلى الله حين ينصرنا لأن في ذلك تزكية لنفوسنا وأرواحنا، وبالتالي سُمُوّاً وعُلُوّاً لنا؛ ونحن الرابحون في كلتا الحالتين. ورد في الأثر: [يقول سبحانه وتعالى: خلقت الخلق ليربحوا علي لا لأربح عليهم].

سورة النصر(110)

قال الله تعالى: {إذا جاء نصرُ الله والفتحُ(1) ورأيتَ النَّاسَ يَدْخُلونَ في دينِ الله أفواجاً(2) فسبِّحْ بحمدِ ربِّكَ واستغفِرْهُ إنَّه كان توَّاباً(3)}

ومضات:

ـ ترصد هذه الآيات الكريمة لحظات النصر الكبير وقد جاء الناس مقبلين على دين الله في جموع وافرة، وتُنبِّه إلى أن ما ينبغي على المؤمن أن يبادر إليه لدى رؤيته هذا المشهد الرائع والزاخر بالمحبَّة والمجد، هو الإقبال على أعتاب الحضرة الإلهية مسبِّحاً بحمد الله، شاكراً لنعمائه، طالباً منه التوبة والمغفرة.

في رحاب الآيات:

نَصْرُ الله تعالى مهيَّأ في كلِّ ساعة؛ لكلِّ من يعمل بصدق وإخلاص في خدمة شريعته عزَّ وجل. فلا صعاب مع تأييد الله، ولا عناء مع عونه؛ فالآلام تذوب في تجلِّيات محبَّته، وتستحيل لذةً وسعادة وسروراً. ولا يخفى أن للنصر نشوته وفرحته والَّتي قد تُفقد المنتصر صوابه، ثمَّ ما تلبث أن تحلِّق به في أجواء الفخر والاعتزاز، مما يُخرج صاحبه عن المنهج القويم الَّذي أوصله إلى النصر، ولذلك فإن العناية الإلهية تتدخَّل كما في كلِّ مرَّة لتعيد للمنتصر اتِّزانه وصوابه، ليُقِرَّ بأن النصر من عند الله، وإنما كان واسطة لهذا النصر لا مسبِّباً له، ويدرك بذلك حجمه الحقيقي فلا ينجرف وراء منزلقات الكِبْر والغرور، ولا يجرف أتباعه وراءه إلى المهالك. ذلك أن من أكبر الفتن والامتحانات الَّتي قد يتعرَّض لها قادة الأمم تعلُّق الشعوب بهم، وكثرة التفافهم حولهم، فحينها قد يفقد المنتصر صوابه وينسى خالقه فيبالغ في قراراته الَّتي يتَّخذها، وقد تجرفه المطامع، فيجرُّ شعبه بنزواته إلى الهلاك والدمار، بعد أن كان بالنسبة إليهم محطَّ الآمال في الإعمار والازدهار. والشواهد على ذلك كثيرة منذ فجر التاريخ وحتَّى الحرب العالمية الثانية.

وقد نزلت هذه السورة تحمل البشرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بنصر الله والفتح، ودخول الناس في دين الله أفواجاً، واتِّخاذهم إياه قائداً وإماماً، وتُوَجِّهُه إلى مقابلة ذلك بالتسبيح والتحميد والاستغفار. وقد وردت روايات عدَّة عن سبب نزول هذه السورة نختار منها رواية الإمام أحمد عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر في آخر أمره من قوله: سبحان الله وبحمده، استغفر الله وأتوب إليه، وقال: إن ربي أخبرني أني سأرى علامة في أمَّتي، وأمرني إذا رأيتها أن أسبِّح بحمده وأستغفره إنه كان توَّابا، وقد رأيتها».

وفي مطلع الآية إيحاءٌ خاصٌّ يتمثَّل في قوله تعالى: {إذا جاء نصر الله} فهو نصر الله، يجيء به الله، في الوقت الَّذي يقدِّره، وللغاية الَّتي يرسمها، وليس للنبي ولا لأصحابه يد في هذا النصر سوى اتِّخاذ الأسباب إليه. فقد ربَّى الرسول عليه السَّلام صحابة أجلاَّء، وقادةً عقلاء، وقد أهَّلهم ذلك ليكون لهم شرف الكفاح، وتحقيق النصر بإذن الله تعالى وإرادته، وحسبهم فخراً أن يجريه الله على أيديهم، وأن يقيمهم عليه حرَّاساً، ويجعلهم عليه أمناء. إن مِنَّة الله على الرسول والمؤمنين عظيمة، فقد أجرى النصر على أيديهم، ولهذا فإن عليهم أن يسبِّحوه ويحمدوه شكراً وعرفاناً على ما أولاهم من منَّة، وعلى ما أَوْلى البشرية كلَّها من رحمة، بنصره لدينه، وفتحه على رسوله، ودخول الناس أفواجاً في هذا الخير العميم، بعد العمى والضلال. وأن يستغفروه مما قد يساور القلب في مدَّة الكفاح الطويل والعناء القاسي، من ضيق أو استبطاء لوعد الله بالنصر، وأن يستغفروه على تقصيرهم في حمده وشكره، فمهما بلغ جهد الإنسان فإنه يبقى ضعيفاً محدوداً، وآلاء الله دائمة الفيض والانتشار. وهناك لطيفة أخرى للاستغفار لحظة الانتصار؛ ففيه إيحاءٌ للنفس، وإشعار لها في لحظة الزهُوِّ والفخر بأنها في موقف التقصير والعجز، فأَوْلى بها أن تخفِّف من كبريائها وتطلب العفو من ربِّها، وهذا مما ينفي الشعور بالزهوِّ والغرور، ويضمن عدم طغيان المنتصرين على المقهورين، ويراقب الله فيهم، فهو الَّذي سلَّطه عليهم لأمر يريده هو، والنصر نصره والفتح فتحه، وإلى الله تصير الأمور. وكم كان الرسول الكريم وأتباعه الفضلاء ملتزمين بهذه الأخلاق، ومتحلِّين بهذه السجايا، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن مَنَّ الله عليه بالفتح الأكبر، يقف أمام الكعبة وجموع الناس تنظر إليه، وقد بلغت القلوب الحناجر، وهي تنتظر قراره فيها، يقف ليقول: «يامعشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم قالوا: خيراً أخ كريم، وابن أخٍ كريم قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء» (أخرجه البيهقي في السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه ).

هذا هو الأدب الَّذي اتَّسمت به النبوَّة دائماً، وهكذا كان محمَّد صلى الله عليه وسلم في حياته كلِّها، وفي موقف النصر والفتح الَّذي جعله ربُّه علامة له، انحنى شاكراً على ظهر دابَّته، ودخل مكَّة على هذه الصورة، مكَّة الَّتي آذاه أهلها، وأخرجوه، وحاربوه، ووقفوا في طريق الدعوة تلك الوقفة العنيدة، فلما جاءه نصر الله نسي فرحة النصر، وانحنى انحناءة الشكر، وسبَّح وحمد واستغفر، كما لقَّنه ربُّه، وجعل يكثر من التسبيح والحمد والاستغفار. وفي تلك اللحظات النادرة في التاريخ، وقد هُرِع الناس إليه من كلِّ حدب وصوب، مؤمنين مبايعين، باذلين أرواحهم في سبيل الدعوة، تراه عليه السَّلام يخاطب امرأة جاءته في مسألة، وهي ترتجف رُعباً من هيبته، فيقول لها بكلِّ حبٍّ وصفاء وتواضع: «هوِّني عليك! ما أنا إلا ابن امرأة كانت تأكل القديد في مكَّة» (أخرجه ابن ماجه والحاكم عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه ). صلَّى الله عليك ياسيِّدي يارسول الله!! هكذا كان كلامه وخطابه وأخلاقه، مع شدَّة تواضعه وعظيم تذلُّله لله ربِّ العرش العظيم؛ فلنذكر الله تعالى ونسبِّحه ونستغفره، ونتواضع لعظمته، وطوبى للمستغفرين المتواضعين.