b11-f3

الفصل الثالث:

الحرب ضرورة دفاعية والاستعداد لها واجب

سورة البقرة(2)

قال الله تعالى: {...ولولا دَفْعُ الله النَّاسَ بعضَهُم ببعضٍ لفسَدَتِ الأرضُ ولكنَّ الله ذو فضلٍ على العالمين(251)}

سورة الحج(22)

وقال أيضاً: {...ولولا دَفْعُ الله النَّاسَ بعضَهُم ببعضٍ لهُدِّمتْ صوامِعُ وبِيَعٌ وصَلَواتٌ ومساجِدُ يُذْكَرُ فيها اسمُ الله كثيراً ولينْصُرَنَّ الله من ينصُرُهُ إنَّ الله لقويٌ عزيز(40)}

سورة الأنفال(8)

وقال أيضاً: {وأعِدُّوا لهم ما استطعْتُم من قُوَّةٍ ومن رِباطِ الخيلِ تُرْهِبونَ به عدوَّ الله وعدوَّكم وآخرينَ من دونِهم لا تعلمونَهُمُ الله يعلَمُهُمْ ومـا تنفِقوا من شيءٍ في سبيلِ الله يُوَفَّ إليكم وأنتم لا تُظْلَمون(60)}

/ ومضات:

ـ إن الشعائر والعبادات تحتاج إلى قوَّة مُهابة تحميها من الاعتداء، وتضمن لمقيميها حرِّية العقيدة والعبادة وحرمة المعابد، ليتمكَّنوا من تطبيق منهاج الحياة المرتكز على العقيدة، والكفيل بتحقيق الخير للبشرية في الدنيا والآخرة.

ـ لابدَّ للحقِّ من قوَّة تحميه من العابثين والطامعين والمغرضين.

ـ تعاون المجتمع في البذل والإنفاق لحماية مقدَّساته، يعزِّز روابط المحبَّة بين أفراده، ويُدَعِّم جبهتهم الداخلية، ويجعلهم مستحقِّين لرضا الله وكرمه.

/ في رحاب الآيات:

كثيراً ما لجأت الجماعات البشرية وعلى مرِّ العصور إلى الحرب؛ وذلك عندما وجدت فيها حلاً لبعض المشاكل الَّتي تستعصي على الحلول السلمية. فكان القتال ضرورة مُلِّحة لتحقيق بعض المآرب الَّتي ترمي إليها من وراء تلك الحروب، سواء كانت سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية. بينما أُقِرَّ القتال في الإسلام لمنع الشرِّ والفساد، ولأجل سيادة الخير والصلاح، وجاء بيان القرآن فيه: أنه لولا أن يدفع الله شرَّ الأشرار بجهاد الأخيار لفسدت الحياة؛ وذلك لأن الحياة الإنسانية خضمٌّ من التناقضات والمتضادات، ففيها الحقُّ وفيها الباطل، وفيها الضعف وفيها القوَّة، وفيها العاقل الحكيم وفيها صاحب الهوى والشهوة، وهذه الطبيعة الازدواجية للحياة تجعل منها مسرحاً للتصارع بين القوى المتضادة المتشابكة. وقد فرض الله على المؤمنين الاستعداد والإعداد، لكي لا تتمكَّن قوى الشرِّ من إلحاق الأذى بهم، فإن كان للباطل جولة فللحقِّ جولات، وسنَّةُ الله أن يقذفَ بالحقِّ المقرون بالقوَّة على الباطل فيدمَغَه فإذا هو زاهق.

ولولا ما شرَّعه سبحانه من الجهاد وقتال المعتدين، في سبيل الحقِّ والعدل، والخير والإيمان؛ لاستولى أهل الشرك على أهل الأديان وتعطلت الشعائر، ولم يبقَ لليهود معابد، ولم يبقَ للنصارى بِيَع، ولا لرهبانهم صوامع، ولا للمسلمين مساجد، ولكن الله دَفع شرَّهم بإقرار القتال، وفي الوقت ذاته أمر بأن لا يخرج به المقاتلون عن إنسانيتهم، فحرَّم العدوان فيه، قال تعالى: {..ولا تعتدوا إنَّ الله لا يُحبُّ المعتدين} (2 البقرة آية 190) كما أمر بالجنوح إلى السلم إن جنح الأعداء إليه {وإِن جنحوا للسَّلمِ فاجْنَحْ لها...} (8 الأنفال آية 61)، وأمر باحترام العهود حيث قال: {وأوفوا بعهدِ الله إذا عاهدتُمْ..} (16 النحل آية 91).

ولما كانت الحرب بهذا المعنى ضرورة دفاعية، حيث يضطر المؤمنون إلى شنِّها على أعدائهم، عندما يعتدون عليهم أو يخونون عهدهم، فقد أمرهم الله بأن يكونوا على أهبة الاستعداد الكامل لها، وبكل ما يملكون من وسائل القوَّة المادِّية والمعنوية، وذلك بقوله تعالى: {وأعِدُّوا لهم ما استطعتم من قوَّة}. فالاستعداد وأخذ الحيطة والحذر أمر لابُدَّ منه، وذلك لتكون الجبهتان متكافئتين عند المواجهة، وليكون المؤمنون دائماً في مقام التَّفوُّق، لئلا يستهين بهم أعداؤهم، فلا تسوِّل لهم نفوسهم الضعيفة الغدر بالمسلمين، أو زرع التفرقة فيما بينهم، ونشر الأفكار الهدَّامة الَّتي تشوِّه معتقداتهم، وتبذر بذور الشكِّ في نفوسهم، وتلقي بهم بين أنياب العداوة والحروب، وعلى النقيض من ذلك فإن القوَّة تردعهم، فيكفُّون عن محاولة التغلغل في صفوف الناس الآمنين.

إن الاستعداد يتمُّ بتنمية القدرات الدفاعية بشتَّى الوسائل، والانضمام إلى ركب العلم والتطوُّر، وتهذيب النفوس وتدريبها على مواجهة الصعاب وتَحَمُّلِ المشقَّات، واستغلال الوقت بكلِّ ما هو مفيد وبنَّاء في مضمار الإعداد والاستعداد، فلابأس في أن تتحوَّل ساعات اللهو والمرح إلى ساعات مفيدة، فيلجأ الفارس إلى ممارسة هواية ركوب الخيل مثلاً، أو ممارسة الرياضات البدنية، الَّتي تفيد جسمه وتزيد من جاهزيته، قال صلى الله عليه وسلم : «أَحَبُّ اللهو إلى الله إجراء الخيل، والرمي بالنبل، ولَعِبُكم مع أزواجكم» (أخرجه ابن عدي عن ابن عمر رضي الله عنه )، كما روى مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ستُفتَح عليكم أَرَضُون ويكفيكم الله، فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه». وهذا يعكس خشية الرسول صلى الله عليه وسلم على أمَّته من أن تطمئنَّ إلى النصر الَّذي حقَّقته، وتخلد إلى الراحة تاركة أسباب القوَّة والاستعداد، مما يغري بها أعداءها، فتكون لقمة سائغة لهم. ولهذا فقد أمر الله تعالى بإعداد رباط الخيل في الآية، ورغَّبت الأحاديث النبوية في التدريب على ركوبها، والتدريب على الرمي، لأن الرمي كان وسيلة من الوسائل القتالية في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، والخيل كانت هي المركوب الحربي عندهم. أما وقد تطوَّرت هذه الوسائل فصار المركب الحربي اليوم سفينة وطائرة وسيَّارة مصفَّحة، فقد وجب على المسلمين أن يصنِّعوا ذلك، وأن يؤسِّسوا المعاهد والكلِّيات الَّتي تدرِّب أولادهم على إتقان الفنون الحربية، فهذا واجب الأمَّة تجاه أبنائها، وواجب الآباء تجاه أولادهم، كما قال صلى الله عليه وسلم : «حقُّ الولد على الوالد أنْ يعلِّمه الكتابة والسباحة والرمي» (أخرجه ابن أبي الدنيا والبيهقي عن أبي رافع رضي الله عنه ). فالاستعداد مطلوب دائماً لأن فيه حصانة وحرزاً ضد الأعداء الَّذين يعملون على تدمير مراكز الفكر الإيماني، وتعطيل إشعاعاتها. وإنَّ مواجهتَهم تحتاج إلى وعي وتفتُّح، وترقُّب وتبصُّر، واحتياط وحذر، والمطلوب إزاء ذلك صحوة إيمانية، تقاوم لؤم المخرِّبين والمعكِّرين لصفاء الحياة الإنسانية العقلانية الرائدة.

ولما كان الاستعداد يتطلَّب بذل أموال كثيرة، فقد أُلقي على عاتق أفراد الأمَّة المؤمنة مسؤولية القيام بهذا الواجب لإعداد القوى العسكرية؛ فأمرهم الله بأن ينفقوا مما في أيديهم، ومما جعله الله أمانة عندهم، وهم على ثقة تامَّة ويقين مطلق، بأن هذه الأموال مودعة في خزائن الله، وسيحصلون في مقابلها على رزق واسع حَلالٍ وثواب عظيم.