b10-f5

الفصل الخامس:

دعوة أهل الكتاب

سورة البقرة(2)

قال الله تعالى: {لا إكراهَ في الدِّين قد تبيَّنَ الرُّشدُ من الغَيِّ فمن يكفُرْ بالطَّاغوتِ ويؤمن بالله فقدِ اسْتَمسكَ بالعُروةِ الوثقى لا انفصامَ لها والله سميعٌ عليمٌ(256)}

ومضات:

ـ الإنسان تَوَّاق بطبعه إلى الشعور بالأمان، ولا يتحقَّق له هذا الشعور إلا بالانتماء إلى دين قادر على السموِّ به، وإشباع حاجاته الروحية والمادِّية.

ـ يملك الإنسان من وجهة نظر الإسلام، الحرِّية المطلقة في اختيار معتقده الدِّيني الَّذي يجد فيه أمنه وسعادته، ثمَّ يقطف ثمار اختياره في الدنيا والآخرة، إنْ خيراً فخير، وإنْ شراً فشر.

ـ من استمسك بحبال الإيمان بالله المتينة، باختياره الذاتي وإرادته الحرة، فقد اهتدى إلى الركن المكين والسند المتين الَّذي يأوي إليه في رحلة الحياة، ليكون راشد النُّهَى، مُسَدَّدَ الخطى على طريق الله، الَّذي بيَّنه من خلال شرعه القويم وسنن أنبيائه الكرام.

في رحاب الآيات:

يبحث الإنسان المعاصر عن مُعتَقَد موثَّق الأصول، قادر على السُمُوِّ به إلى الكمال المادِّي والروحي في آن واحد. والإسلام هو ضالَّتُهُ المنشودة، ومبتغاه الَّذي يبحث عنه، لأنه دين موثَّق؛ وضحت معالمه، وثبتت مصادره، وحُفظت من التغيير والتحريف، وانطوت تحت لوائه جميع الرسالات السماوية الَّتي سبقته معزَّزةً مكرَّمة، وهو كفيل بأن يحقِّق للعالم ما ينشده من ارتقاء فكري وعلمي، وما يرجوه من تآخٍ إنساني في ظلِّ هذه الرسالات.

والدعوة إلى الإسلام دعوة حرة، مطلقة عن قيود الإكراه، ولا حاجة بها أصلاً إلى اللُّجوء إلى القسر أو الإلزام، فدلائل صحة الإسلام واضحة بيِّنة، وسبل الاقتناع به هي المنطق والحجَّة والبرهان، وكلُّ ذلك يحتاج إلى مناقشة حرَّة من قِبَلِ الفكر الحرّ. ومن أوضح الأدلَّة على ذلك الآية القرآنية الَّتي تُقرِّرُ حرِّية العقيدة: {لا إكراهَ في الدِّين..}، وتتجلَّى فيها مصداقية الإسلام في احترامه للإرادة الذاتية؛ فهو يُكَرِّم الإنسان ويحترم حرِّية فكره ومشاعره، فيترك له القرار في اختيار المعتَقَد الَّذي يريده، لكنَّه لا يدعه يسيء الاختيار، بل يوجهه إلى المنهج السديد، بواسطة الكتب السماوية الَّتي حملها إليه المصطَفَون الأخيار من البشر، فإنْ هو اهتدى به فقد فاز، وإن جرى وراء نوازع الهوى ونزغات الشيطان فقد ضلَّ وغوى. وهذا من أهمِّ خصائص التحرر الإنساني الَّتي تشملها الدعوة الإسلامية، لأن حرِّية الاعتقاد هي أُولى حقوق الإنسان الَّتي يثبت له بها وصف إنسان، فمن يسلب إنساناً حرِّية الاختيار فإنما يسلبه إنسانيته.

والإسلام يقدِّم تصوُّراً راقياً للوجود والحياة، ومنهجاً قويماً للمجتمع الإنساني؛ لذلك فهو ينادي: {لا إكراه في الدِّين}، لأن تبنِّي العقيدة لا يتمُّ إلا بالاقتناع، بعد الاستيعاب والإدراك، وكذلك يخاطب الإدراك البشري بكلِّ قواه وجوانبه وطاقاته؛ فهو يخاطب العقل المفكِّر، والوجدان المنفعل والفطرة السليمة، ويبيِّن الحقَّ والصواب بشكل جَليٍّ، ثمَّ يترك للمرء الحرِّية في اتِّباعه أو العزوف عنه.

ويُعَدُّ المنهج الإسلامي في الدعوة مفخرة تاريخية له، إذ لم يثبت أن أحداً قد أُجبر على اعتناق الإسلام، في ظرف من الظروف، خلال عهود سيادة الحكم الإسلامي كلِّها، بل إن الأمم الَّتي دخلت في الإسلام، كانت قد اختارته ديناً لها، بمحض إرادتها، بعد أن وصل إليها وعرفته، ورأت من سماحته ويسره ما حملها على الاقتناع به، ووجدت فيه عقيدة صحيحة خالية من الشوائب وعبث العابثين، فدخلت فيه أفواجاً.

وغنيٌّ عن القول أنه حين يسطع نور الله في القلوب، فينير العقول، ويختار الإنسان السير في طريق الله، فلابُدَّ له عند ذلك من أن يخلع كلَّ ما يدعو إليه الشيطان من عبادة غير الله أو الشرك به. وأن يتشبَّث بالإيمان ويستمسك به، لأنه العروة الوثقى المشدودة إلى حبل الله المتين؛ فهي محكمة في نفسها قوية في ربطها، لا تنقطع، ولا يَضِلُّ المتمسك بها طريقه إلى النجاة والفلاح.

سورة العنكبوت(29)

قال الله تعالى: {ولا تُجادِلوا أهلَ الكتابِ إلاَّ بالَّتي هي أحسنُ إلاَّ الَّذين ظَلَموا منهم وقولوا آمنَّا بالَّذي أُنزِلَ إلينا وأُنزِلَ إليكم وإِلهُنا وإلهُكُمْ واحدٌ ونحن له مسلمون(46)}

ومضات:

ـ لعلَّ أرقى حجَّة يقدِّمها المسلم، على صحَّة الإسلام وسلامته، هي عمله المستقيم وخلقه القويم، وعقله المتفتِّح، وحكمته البيِّنة، ومرونته واعتداله، وجدِّيته في بناء مجتمعه علمياً وأخلاقياً وحضارياً.

ـ تظهر أخلاق المسلم العملية في حواره مع الإيجابيين من أهل الكتاب، الراغبين في إقامة جسور التفاهم، لذا يجب أن نغمرهم بالإحسان، ونشدَّهم معنا إلى الاستسلام للخالق الواحد الأحد.

في رحاب الآيات:

إن دعوة الله تعالى الَّتي حملها نوح عليه السَّلام والرسل من بعده، حتَّى وصلت إلى خاتم النبيين محمَّد صلى الله عليه وسلم هي دعوة واحدة من عند إله واحد، ذات هدف واحد، هو ردُّ من ضلَّ من البشر إلى ربِّهم، وهدايتهم إلى طريقه وتربيتهم وفق منهاجه. وإن المؤمنين برسالة سماوية هم إخوة للمؤمنين بسائر الرسالات، لأنهم يعبدون إلهاً واحداً. والبشرية في جميع أجيالها صنفان اثنان: صنف المؤمنين وهم حزب الله، وصنف الكافرين بالله وهم حزب الشيطان، بغضِّ النظر عن تطاول الزمان وتباعد المكان. وكلُّ جيل من أجيال المؤمنين هو حلقة في تلك السلسلة الطويلة الممتدة على مدار القرون.

هذه هي خلاصة الحقيقة الرفيعة الَّتي يقوم عليها الإسلام، والَّتي تقررها هذه الآية من القرآن الكريم. وهذه الحقيقة تسمو بالعلاقات البشرية من مُجرَّد كونها علاقة دم أو نسب أو جنس أو وطن أو تجارة، إلى جعلها علاقة قوامها الصلة بالله، في ظلِّ عقيدة واحدة، تنصهر فيها الأجناس والألوان، ويتلاشى فيها اعتبار الزمان والمكان، ولا تبقى إلا العروة الوثقى الَّتي تشدُّ الإنسان إلى منهج الخالق الديَّان. ومن ثمَّ فالآية الكريمة تنهى المسلمين عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالحسنى، لبيان حكمة نزول الرسالة الجديدة، والكشف عما بينها وبين الرسالات الَّتي قبلها من صلة، والدعوة إلى تبادل الحوار حول ضرورة الأخذ بالصورة الأخيرة من صور دعوة الله الموافِقة لما قبلها من الدعوات والمكمِّلة لها، والَّتي جاءت من عند الله الحكيم، العليم بحاجة البشر، فيكون ذلك الحوار مرحلة أوليَّة لبناء مجتمع إيماني لَبِنَتُهُ التوحيد، يُظِلُّ قوى الإيمان ويحميها من المشركين والملحدين والمنافقين على السواء. هذا الحوار الَّذي يرفضه ـ جملة وتفصيلا ـ بعض المتعصَّبين المتشدِّدين؛ أصحاب العقول المتحجِّرة، والقلوب الصلدة القاسية، علَّمه الله لرسوله؛ آيات تتلى إلى يوم الدِّين، وبأسلوب بناَّء حكيم، قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمواتِ والأَرضِ قُلِ الله وإنَّا وإِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدَى أَو في ضَلالٍ مُبين * قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا ولا نُسئَلُ عَمَّا تَعْمَلُون * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنَا ثمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالحَقِّ وَهْوَ الفَتَّاحُ العَلِيم} (34 سبأ آية 24 ـ 27). إنه حوارٌ بعيد عن التعالي والصلف، غايته كسب ودِّ القلوب الحائرة؛ عساها تلين وتخشع لذكر الله وما نزل من الحقِّ، بدل أن تزداد غربة وهروبا.

وقد يوافق بعضهم على هذا التوادد والتقارب الروحي، وقد يرفضه آخرون دون أن يضمروا لنا الشرَّ والأذى، وتبقى بين هؤلاء وهؤلاء فئة ظالمة معادية، تَشُنُّ الحرب والعدوان على المسلمين بغياً وظلماً، بغية إطفاء هذا النور الَّذي أيقظ البشرية من الغفلة والجمود والتعصب، وفتح مغاليق العقول والقلوب، وهداها إلى العلم والذكر والحكمة والتربية. فأمثال هؤلاء الظَّالمين يجب أن نقف منهم موقف الدفاع والترصُّد، ورد الكيد بالكيد، حتَّى يأتي الله بأمره، والعاقبة للمتَّقين المستسلمين للواحد القهار.

سورة الممتحنة(60)

قال الله تعالى: {لا ينهاكُمُ الله عنِ الَّذين لم يُقاتِلُوكم في الدِّينِ ولم يُخرجوكُم من دياركُم أن تَبَرُّوهُم وتُقْسِطوا إليهم إنَّ الله يُحبُّ المُقسطين(8) إنَّما ينهاكُمُ الله عن الَّذين قاتلوكُم في الدِّين وأخرجوكُم من دياركُم وظَاهَروا على إخراجِكُم أن تَوَلَّوهم ومن يَتَوَلَّهم فأولئك همُ الظَّالمون(9)}

ومضات:

ـ إنها تعاليم إلهية حازمة للمسلمين للتعامل بالعدل والإحسان مع كلِّ من يمدُّ يد المسالمة إليهم من غير المسلمين.

ـ ينهى الله تعالى المسلمين عن تبادل المصالح والمنافع مع من يعاديهم ويقاتلهم في عقيدتهم وإسلامهم، ويخرجهم من ديارهم وأوطانهم الآمنة، أو يساعد بشكل غير مباشر على إخراجهم، فهؤلاء جميعهم لا سلام ولا تعاون معهم حتَّى يثوبوا إلى رشدهم، لأنهم ظلموا وحادوا عن طريق العدل والله لا يحبُّ الظالمين. وهكذا فقد نزع الإسلام فكرة العدوان من أذهان أتباعه، وأمرهم أن يُحسنوا إلى من يسالمهم ولا يعادوا إلا من يقاتلهم.

في رحاب الآيات:

لم يكن الدِّين الإسلامي أو أي شريعة سماوية، بجوهرها وحقيقتها، سبباً لاقتتال الناس بعضهم مع بعض، بل إن نظام العلاقات فيما بينهم مبني على الإيمان بالله تعالى وعبادته. فكيف لبِحار الحبِّ الإلهي الَّتي تلفُّ الأكوان كلَّها، وتملأ شغاف القلوب المؤمنة، أن تحمل بين طيَّاتها حقداً أو بغضاً أو كراهية للإنسان، إنما ذاك هو عمل المبلسين جنود الشيطان، الَّذين يصدُّون عن دين الله ويعارضون معتنقيه؛ دفاعاً عمَّا يتوهَّمون أنه مصالحهم الشخصية أو زعاماتهم، أو موارد مادِّية يخشون أن تضيع من أيديهم، فيعلنون حربهم باسم الدفاع عن معتقداتهم الموروثة عن آبائهم وأجدادهم، بقلوب سوداء مغلَّفة بمظاهر العقيدة، فينساق العوامُّ إليهم دون محاولة الرجوع إلى جوهر دينهم، والتأكُّد فيما إذا كان يحقُّ لهم أن يقاتلوا من جاء بكلمة التَّوحيد والحبِّ والإخاء.

هؤلاء المغرضون أصحاب الأهواء المستترة، حُقَّ لنا أن ندافع عن أنفسنا تجاههم، وأن نقاتلهم إذا تعرَّضوا لنا بالعدوان والمقاتلة، وأخرجونا من ديارنا، بغية القضاء على جذور عقيدتنا، ويحقُّ لنا أن نقاتل كلَّ من يساندهم، أو يدعمهم في حربهم ضدَّنا، لأننا ندافع عن الحقِّ الَّذي يجب أن يسود لينتفع منه عبادُ الله أجمعون.

أمَّا إخواننا في الإنسانية الَّذين يعيشون بين ظهرانينا أو حولنا، في سَلْمٍ وسلام، فلهم منَّا السَّلام والتحية، والعدل والوفاء، ولهم منَّا المحبَّة والخير. لأن هذه هي القاعدة الَّتي وضعها الله تعالى لمعاملة غير المسلمين، وهي أعدل القواعد الَّتي تتَّفق مع طبيعة هذا الدِّين ووجهته ونظرته إلى الحياة الإنسانية، بل إن نظرته الكلِّية لهذا الوجود الَّذي خلقه الإله الواحد، هي أساس شريعته العالمية الَّتي تجعل حالة السِّلم بين الناس جميعاً، هي الأصل، ولا يغيِّرها إلا وقوع الاعتداء الحربي، وضرورة رَدِّه، أو خوف الخيانة بعد المعاهدة، وفيما عدا ذلك فهو السلم والمودَّة والعدل، وحسن التعامل والمعاشرة مع الناس أجمعين. ثمَّ هي القاعدة الَّتي تتَّفق مع التصوُّر الإسلامي الَّذي يجعل القضية بين المؤمنين ومخالفيهم هي قضية العقيدة وحدها، فليس بينهم وبين الناس ما يتخاصمون عليه، إلا حرِّية الدعوة، وحرية الاعتقاد، وتحقيق منهج الله في الأرض، وإعلاء كلمة الله. وهذا التوجيه يتفق مع الاتجاه القرآني في إبراز قيمة العقيدة الصحيحة، وجعلها الراية الوحيدة الَّتي يقف تحتها المسلمون، فمن وقف معهم تحتها فهو منهم، ومن قاتلهم فيها فهو عدوُّهم، ومن سالمهم فتركهم لعقيدتهم ودعوتهم، ولم يصدَّ الناس عنها، ولم يَحُل بينهم وبين سماعها، ولم يفتن المؤمنين عنها، فهو مسالم لا يمنع الإسلام من البِرِّ به والإحسان إليه. فالمسلم يعيش على هذه الأرض لعقيدته، ويجعلها قضيته مع نفسه ومع الناس من حوله، فلا خصومة على مصلحة، ولا نزاع في عصبية، أية عصبية كانت، من جنس أو أرض أو عشيرة أو نسب، إنما العمل لتكون كلمة الله هي العليا، ولتكون العقيدة الَّتي ارتضاها لعباده هي المنهج المطبَّق في الحياة. إن مجتمعاً كهذا يسعى الإسلام لإرساء قواعده في ربوع الأرض، لجديرٌ بأن تتوحَّد من أجل تحقيقه وإقراره كلُّ قوى الخير والحبِّ في هذا العالم، لاسيَّما وأنه وقف في السنوات الماضية، ويقف الآن بتأثير الأطماع وحبِّ السيطرة، على شفير حرب لا تبقي ولا تذر.

فإذا ظهر ممن ينتسـبون إلى الإسلام ـ في أي عصر من العصور ـ خلاف هذه التعاليم، فإن الإسلام بوصفه ديناً ليس مسؤولاً عن تلك المخالفات، وهي محصورة في المخالفين، ولسنا الآن والأخطار محدقةٌ بالحقِّ، لسنا في مجال محاكمة بعض المخالفين فحسابهم على ربِّهم، وإنما نحن في صدد تجميع القوى الخيِّرة، لتقف صفاً واحداً تجاه قوى الشر، الَّتي تصول وتجول وتهدد أمن الإنسان واستقراره في كلِّ لحظة.

سورة الأنعام(6)

قال الله تعالى: {ولا تَسُبُّوا الَّذين يَدْعونَ من دون الله فَيَسُبُّوا الله عَدْواً بغير عِلمٍ كذلك زيَّنَّا لكلِّ أمَّة عملَهُم ثمَّ إلى ربِّهم مَرْجِعُهُم فينبِّئُهُم بما كانوا يعملون(108)}

ومضات:

ـ من احترم حريَّات الآخرين في معتقداتهم احترمه الناس في معتقده، ومن أساء لمعتقدات الآخرين بالشتيمة والتجريح، تعرَّضوا لمُعتَقَدِه بالإيذاء والإهانة.

ـ الشرُّ يؤدِّي إلى الشرِّ، والشتائم تهدم جسور العلاقات الاجتماعية، وبالمقابل فإن الحوار البنَّاء يزرع الألفة والمودَّة بين الناس.

ـ جُبلت النفس البشرية على استحسان العمل الَّذي تقوم به، وهذا يعني اقتناعها به ودفاعها عنه، وكأنه الحقُّ الَّذي يعلو ولا يُعلى عليه؛ ما لم يأتها من يبيِّن لها خطأها باللطف واللين والكلمة الطيَّبة.

في رحاب الآيات:

الفرق بين العلَّة الجسدية والعلَّة النفسية كبير، فالأولى أعراضها ظاهرة وعلاجها يسير، والثانية أعراضها مستترة وعلاجها عسير. والعلل النفسية قد تُشعر صاحبها بالسعادة والرضا بدلاً من الألم والضنى، فقد يُصاب المرء في عقله، ومع هذا تراه يضحك لأنه لا يدري بمصيبته، وقد يعبد المشرك أصناماً وأوثاناً ويعادي الإله الحقَّ وهو لا يدري فداحة ذنبه لأنه يجهله، ومن جهل شيئاً عاداه ولو كان سويّاً، لذلك قالوا: [الإنسان عدو ما يجهل]. وهذا هو الفرق بين من آمن بالله ومن أشرك به، فالأوَّل أدرك أنه مريض فلجأ إلى الطبيب حتَّى شُفي من مرضه، وعادت إليه دفقة الحياة، والثاني لم يدرك أنه مريض على الرغم من تحذير الأطباء له، فسدَّ نوافذ قلبه، ومنع شلاَّل النور من الدخول إلى حجرات هذا القلب، فبقي مظلماً تراكمت فيه ظلمات الشرك والكفر. إن هذا الإنسان مريض بالوهم، ويستحقُّ الرثاء لحاله، وهو بأمَسِّ الحاجة إلى طبيب مُواسٍ، يساعده ولا يعنِّفه؛ فهل رأيتَ يوماً طبيباً يهاجم مريضاً ويكيل له الشتائم بسبب مرضه؟. إن المؤمن بالنسبة للمشرك هو كالطبيب بالنسبة للمريض، والعلاقة بينهما هي علاقة إنسانية للهداية إلى الحقِّ، لا علاقة تأنيب وتوبيخ. ومع ذلك فإننا نجد فئة من المتعصِّبين، على اختلاف عقائدهم وأديانهم، يكيلون الشتائم لأصحاب المعتقدات الأخرى، ويستهزئون بهم وبها، ممَّا يدفع هؤلاء إلى ردِّ الشتيمة لهم بأسوأ منها، فتنشأ مشاعر عدائية تجاههم، تحول دون إمكانية التواصل معهم، والإطلاع على معتقداتهم بشكل موضوعي.

إن هدف الشرائع السماوية هو معالجة الإنسان وشفاؤه الروحي، عن طريق الحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالَّتي هي أحسن. وإن الحوار المفتوح بين جميع الفئات بعيداً عن التعصب والتناحر، يحقِّق هذا الهدف، لأنه يُحِلُّ المودَّة والألفة بينهم، ويساعدهم على تبيُّن الصواب بهدوء، وذلك لأن كلَّ طرف من الأطراف يفترض في عقيدته الصواب وإلا لما اعتنقها. ومِثلُ هذا الحوار يتيح الفرصة أمامهم ليَعرضوا بتجرُّد مقوِّمات معتقداتهم، ويأخذوها بالدراسة العلمية الموضوعية البنَّاءة، ليتبيَّنوا الصالح الأصيل منها، وهو واحد في جميع أديان السماء، وينبذوا منها الدخيل. وبذلك ينقلب المرضى سالمين معافين، ويتحولون إلى أطباء ينشرون الصحة والعافية، بدلاً من أن يكونوا معوَّقين أو معوِّقين.

ولا يخفى ما تحرص عليه الآية الكريمة من العمل على تنمية أسباب التقارب والتفاهم بين الناس، ونبذ أسباب الإثارة والعداء، فإذا ما كان المؤمنون إيجابيين مع الآخرين فإنهم ولاشكَّ هم الرابحون في نهاية المطاف لأن العاقبة للتقوى.

سورة الأعراف(7)

قال الله تعالى: {الَّذين يتَّبِعونَ الرَّسولَ النَّبيَّ الأُمِّيَّ الَّذي يجدونَهُ مكتوباً عندَهم في التَّوراةِ والإنجيلِ يأمُرُهُم بالمعروفِ وينهاهُمْ عن المنكرِ ويُحلُّ لهُمُ الطَّيِّباتِ ويُحَرِّمُ عليهمُ الخبائثَ ويضعُ عنهم إصْرَهُمْ والأغلالَ الَّتي كانت عليهم فالَّذين آمنوا به وعزَّروهُ ونصروهُ واتَّبعوا النُّورَ الَّذي أُنزلَ معه أولئك همُ المفْلِحون(157)}

ومضات:

ـ إن الَّذين اتَّبعوا التعاليم الَّتي جاء بها النبي محمَّد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب، لم يتحولوا إلى عالم مغاير لعالمهم أو بعيد عن أخلاقياتهم، فالجذور واحدة، والقاعدة الَّتي بُنيت عليها الشرائع السماوية والفضائل واحدة، ولكنَّها صَحَّحت لهم بعض الانحرافات المفتعلة، وأوضحت لهم الحلال والحرام في المأكل والمشرب، وخفَّفت عنهم بعض التكاليف الشاقة في التوراة، ووضعت عنهم أثقالاً ما حمَّلهم الله تعالى إيَّاها.

ـ هؤلاء الَّذين انتقلوا هذه النُّقْلة الإيمانية، فآمنوا برسالة محمَّد صلى الله عليه وسلم والتفُّوا حوله مؤيِّدين له بالقول والعمل، والدعم المادِّي والمعنوي، وتشرَّبت أرواحهم بالنور الإلهي والعلوم الربَّانية الَّتي أُنزلت عليه، حالفهم النجاح والفلاح والتوفيق، وتمام الرضا من ربِّ العالمين.

في رحاب الآيات:

من أشقِّ الأمور على النفس البشرية أن تترك ما اعتادت عليه، فللعادة سلطانها الَّذي يأسر العقل في كثير من الأحيان، ويقيِّد الإرادة، ويجعل من صاحبها ضيِّق الأفق، عاجزاً عن القدرة على التكيُّف مع المستجدات والمتغيِّرات، الَّتي تحمل في طياتها الأصلح والأقوم، فالتغيير لا يمكن أن يتمَّ بدافع عاطفي، خاصَّة إذا كان تبنِّي الإنسان لهذه الأفكار مرتكزاً على أسس عقلانية. والشارع الحكيم يدعو أهل الكتاب أن يحتكموا إلى العقل الرشيد والمنطق السليم، ويدرسوا التعاليم الَّتي أتى بها النبي الكريم، ثمَّ يقارنوها مع ما هم عليه، ولابُدَّ أنهم سيجدونها تتغذى من تربة واحدة، وتُسقى من ماء واحد.

لقد اختار الله تعالى محمَّداً صلى الله عليه وسلم لحمل رسالة الإسلام، وهو النبي الأُمِّي ليكون ذلك دليلاً على صدق نبوَّته، فهو مع أمِّيته، قد جاء برسالة ذات سمات روحية وفكرية متميزة عن سائر الفلسفات والمثل الَّتي كانت سائدة آنذاك، فأصلحت ما فسد من عقائد العرب وأخلاقهم وآدابهم وأعمالهم، وأثَّرت في حياة الأمم والشعوب من حولهم. وقد بشَّرت التوراة والإنجيل بمقدمه صلى الله عليه وسلم ، فجاء في 332 من سفر التثنية: (جاء الربُّ من سيناء، وأشرق لنا من سعير، وتلألأ من جبال فاران وأتى من ربوات القدس وعن يمينه نار شـريعة لهم)، ومعنى قولـه جـاء الربُّ من سـينـاء: إعطـاؤه التوراة لمـوسـى عليـه السَّـلام، وإشراقه من سعير: إعطاؤه الإنجيل لعيسى عليه السَّلام، واستعلاؤه من جبال فاران: إنزاله القرآن لأن فاران من جبال مكَّة.

وأخرج البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قدم الجارود بن عبد الله على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وقال: (والَّذي بعثك بالحقِّ لقد وجدت وصفك في الإنجيل، ولقد بشَّر بك ابن البتول)، فأهل الكتاب كانوا يتناقلون خبر بعثته عليه السَّلام فيما بينهم، ويذكرون البشارات من كتبهم، أمَّا الَّذين استكبروا منهم فكانوا يكتمون هذه البشارات.

وقد كانت مهمَّة الرسول صلى الله عليه وسلم متابعة ما بدأه الرسل قبله، وهي الدعوة إلى التوحيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى طيِّب الطعام وحِلِّه، وإلى تحريم الخبائث، وإلى تحرير الناس من المعتقدات الخرافية والأوهام، وإلى فكِّ قيودهم النفسية والروحية والجسدية. ومن المعلوم أن بني إسرائيل قد أُخِذُوا بالشدَّة في أحكام العبادات والمعاملات الشخصية والمدنية والعقوبات، فكان مثلهم مثل من يحمل أثقالاً، وهو موثَّق بالسلاسل والأغلال، وقد خففت رسالة السيِّد المسيح عليه السَّلام عنهم بعض التخفيف في الأمور المادِّية لصالح الجوانب الروحية، إلى أن جاءت الشريعة السمحة الَّتي بُعث بها خاتم الرسل محمَّد صلى الله عليه وسلم فوضعت عنهم ما كُلِّفوا به من التكاليف الشاقَّة.

وفي يومنا هذا، كما كانوا سابقاً، يمدُّ المسلمون أيديهم ليتعاونوا مع سائر معتنقي الشرائع السماوية، للوقوف في وجه تيار المادِّية والإلحاد، فهل ينضمُّ الجميع إلى ركب الإيمان، وينهلون من هذا الينبوع المتفجِّر بالنور والخير، ويؤيدونه لتنال البشرية الفلاح والنجاح في جميع أمورها؟.

سورة المائدة(5)

قال الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أشدَّ النَّاسِ عداوةً لِلَّذين آمنوا اليهودَ والَّذين أَشْركوا ولتجدَنَّ أقربَهم مَوَدَّةً للَّذين آمنوا الَّذين قالوا إنَّا نصارى ذلك بأنَّ منهم قسِّيسينَ ورُهباناً وأنَّهم لا يستكبرون(82) وإذا سمعوا ما أُنزلَ إلى الرَّسولِ ترى أعيُنَهُم تفيضُ من الدَّمعِ ممَّا عَرَفوا من الحقِّ يقولونَ ربَّنا آمنَّا فاكتبنا مع الشَّاهدين(83)}

ومضات:

ـ الدِّين هو المعاملة، ومن تعلَّم أصول الدِّين وتأصَّلت جذوره في أعماق نفسه، تهذَّبت أخلاقه وتدرَّبت على المكرُمات والفضائل، وبهذا المستوى من التربية العالية، تقبَّل الرهبان والقسيسون ومن والاهم رسالة الإسلام، فأحبُّوها وأحبُّوا المسلمين، وتعانقوا معهم روحاً وأخلاقاً بكلِّ تواضع وإخاء. ولعدم وجود مثل هذه العاطفة لدى كثير من اليهود والمشركين بسبب أنانيتهم المفرطة، وبسبب الدوافع الكامنة في قلوبهم لأسباب اقتصادية وسياسية، فقد تفجَّرت براكين المعارضة في صدور هاتين الفئتين، واشتركتا في مناصبة العقيدة الإسلامية العداء.

في رحاب الآيات:

اخترق القرآن الكريم حُجُبَ الزمان الثلاثة المتعلقة بتاريخ اليهود، في الماضي والحاضر والمستقبل، فأخبر عن عداوتهم للسيِّد المسيح ورسالته قبل عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بما يقارب الستمئة عام، وصوَّر الأحداث الَّتي وقعت منهم في زمنه صلى الله عليه وسلم ، والَّتي تُظهر عداوتهم للإسلام، وأخذها بالدراسة والتحليل، وأنبأ عن أحداث ستقع في المستقبل، وهي عداوتهم لسائر الشرائع السماوية ولمعتنقيها، والَّتي لا نزال نراها حتَّى يومنا الحاضر. وهذا ما يتبيَّنه المُقلِّب لصفحات التاريخ والمحلِّل للوقائع اليومية، فإن دلَّ هذا على شيء، فإنما يدلُّ على إعجاز القرآن الكريم، وعلى أنه كتاب الله الَّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

فإذا ما استعرضنا تاريخ هذه الجماعة، خلال عصر النبوَّة، وجدنا أنهم ناصبوا الدعوة الإسلامية العداء، ولم يدَّخروا وسيلة في الكيد للمسلمين منذ اليوم الأوَّل لولادة الأمة المسلمة في المدينة إلا واستعملوها. وقد تولَّى القرآن الكريم تسجيل هذا الموقف الَّذي أكَّدته الحرب الضروس الَّتي شنَّها اليهود، سراً وعلانية، ضد الرسول الكريم ودعوته، والَّتي لم تخبُ نارها خلال أربعة عشر قرناً، وماتزال تستعر في أرجاء الأرض حتَّى اليوم. ولو رجعنا إلى الوراء قليلاً في هذا الصدد، لوجدنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد عقد أوَّل مَقْدِمِهِ إلى المدينة معاهدة تعايُش سلمي وأمني مع اليهود، ودعاهم إلى السَّلام، فعاهدوا عليه ثمَّ نقضوا هذا العهد، واســتخدموا ـ ولازالوا يستخدمون ـ كلَّ الوسائل الَّتي تَفَتَّق عنها مكرهم لمحاربة الإسلام والمسلمين، مع أن الإسلام قد وسعهم، بعد ما ضاقت بهم شعوب كثيرة على مدار التاريخ، لكثرة العداوات والخلافات الَّتي كانوا يثيرونها، حيثما وجدوا بين الناس، بغية الحصول على مكاسب مادِّية معيَّنة، حتَّى أصبح اليهودي منبوذاً، لاسيَّما ذلك الَّذي يُقرض المال بالفوائد والربا الفاحش، ويتشدَّد في تحصيل ديونه ممن اقترض منه وعجز عن السداد.

وهكذا أُخِذَ أخيار اليهود بجريرة أشرارهم، حيث أنهم لم يضربوا على أيديهم، ولم ينهوهم عن إشاعة الفساد والهلاك في الأرض، ولم تنهض منهم طائفة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فغلب شرُّهم على خيرهم، وبات الناس ينظرون إليهم بعين الحيطة والحذر وربَّما العداء. وعلى الرغم من ذلك كلِّه فلم تخلُ صفوفهم من وجود عناصر خيِّرة من أحبارهم وعلمائهم في عهد النبوَّة، وإن كانت قليلة، فكان لها دور إيجابي في كشف النقاب عن الظلم الَّذي ارتكبه زعماؤهم في حقِّ أتباعهم، حين ابتعد أولئك الزعماء عن الحقِّ وخلطوه بالباطل. وللأسف فإن غراس هذا الظلم لازالت تطرح ثماراً سامَّة، كلَّما صادفت مياهاً آسنة ترويها، لتقتل بها كلَّ محاولة من شأنها أن تقيم علاقات سويَّة بين اليهود وغيرهم من الشعوب على اختلاف مللهم، تحت عنوان الإخاء في الإنسانية والتعاون على الإعمار والبناء وإحلال السَّلام.

ولم يكن عداؤهم للدين الإسلامي أو المسيحي منذ نشأتهما وحتَّى اليوم وليد عوامل معقولة أو أسباب منطقية، وليس له ما يبرره سوى الأنانية المفرطة الَّتي تعتمل في صدور زعمائهم، ومعاداتهم لكلِّ ما يمكنه أن يمسَّ بمصالحهم الشخصية المبنيَّة على الاستغلال، ولهذا ناصبوهما العداء إلى جانب المشركين الوثنيين، وكان الأجدر بهم أن يقفوا صفّاً واحداً مع المسلمين والمسيحيين، لأنهم أتباع رسالات سماوية مثلهم، وأن يجابهوا الوثنيين والملحدين بقلب مؤمن واحد. ولا سبيل لليهود اليوم لكي يخرجوا من عزلتهم الَّتي زجُّوا أنفسهم فيها، إلا بأن يخلعوا عنهم ثوب التعالي والتعصُّب، ويمدُّوا أيديهم إلى غيرهم من أتباع الشرائع السماوية، ويبدؤوا معهم حواراً عقلانياً وأخوياً، مبنيّاً على أسس متينة من حسن النيَّة والاحترام المتبادلين.

وفي الجهة المقابلة يذكر القرآن الكريم بعض النصارى الَّذين سمعوا ما أُنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن، فاهتزَّت مشاعرهم، ولانت قلوبهم، وفاضت أعينهم بالدمع تعبيراً عن التأثُّر العميق بالحقِّ الَّذي سمعوه، ولم يقفوا موقفاً سلبياً يقف عند حدِّ التأثُّر، بل جسَّدوا إحساسهم الداخلي بعمل مثمر بنَّاء وهو قبول الحقيقة والإيمان بها، والتضرُّعُ إلى الله تعالى بأن يجعلهم من الشاهدين المقرِّين بصدقها. ولو أننا أنعمنا النظر في سلوك هؤلاء، لوجدنا أنهم بعملهم هذا لم يخرجوا من النصرانية، بل أصبحوا نصارى بحق، حيث أن ما جاء به محمَّد صلى الله عليه وسلم لا يخرج عما جاء به عيسى عليه السَّلام قيد أنملة.

وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون من بعده مودَّة وأخوة بالغتين من النصارى، الَّذين تهيَّأت لهم فُرصة الاطِّلاع على الإسلام بموضوعية. وذلك أن منهم قسيسين يتولَّون تعليمهم الدِّين، ويهذبون أخلاقهم ويربُّون فيهم الآداب والفضائل، ورهباناً يعوِّدونهم الزهد والتقشف، ويزرعون في نفوسهم حبَّ الله تعالى والخوف منه، والانقطاع لعبادته، وجعلوا من صفاتهم التواضع والتذلُّل والخضوع له عزَّ وجل. وهم يلمسون كلَّ هذه الفضائل بين حنايا القرآن وسطوره، لذلك تهتزُّ قلوبهم خشوعاً كلَّما سمعوا آياته، وتفيض من أعينهم دموع البِشر والسرور لاتساع دائرة الحقِّ، ولمجيء من ينصر عيسى عليه السَّلام ورسالته، ويبني جسوراً معه، ويتمِّم مسيرة الإيمان بمؤازرته. وتصديقاً لما بشَّرَ به القرآن الكريم، فإننا نجد في يومنا الحاضر موجة عارمة من الانفتاح على الإسلام لدى بعض الطوائف المسيحية، وهم يدعون إلى التقاء أبناء الشريعتين من سائر أنحاء العالم، بغية الحوار الإيجابي الهادف البنَّاء. ومن المؤكد أن أهمَّ هذه اللقاءات هو اللقاء والتعاون الإسلامي المسيحي، لمناهضة الإلحاد والانحراف الأخلاقي، وإرساء قواعد الأخلاق الكريمة الفاضلة في سائر أرجاء المعمورة.

سورة المائدة(5)

قال الله تعالى: {ياأَهلَ الكتابِ قد جاءَكُم رسولُنا يُبيِّنُ لكم كثيراً ممَّا كنتم تُخفونَ من الكتابِ ويَعْفُو عن كثيرٍ قد جاءَكُم من الله نورٌ وكتابٌ مبينٌ(15) يهدي به الله منِ اتَّبعَ رضوانَهُ سُبُلَ السَّلام ويخرجُهُم من الظُّلماتِ إلى النُّورِ بإذنِهِ ويهديْهِمْ إلى صراطٍ مستقيمٍ(16)}

سورة المائدة(5)

وقال أيضاً: {ولو أنَّ أهلَ الكتابِ آمنوا واتَّقَوا لكَفَّرْنا عنهُم سيِّئاتِهِم ولأدخلناهُم جنَّاتِ النَّعيم(65) ولو أنَّهُم أقاموا التَّوراةَ والإنجيلَ وما أُنْزِلَ إليهم من ربِّهم لأكلوا من فوقِهِم ومن تحتِ أرجلِهِم منهُم أمَّة مقتَصِدَةٌ وكثيرٌ منهم ساءَ ما يعملون(66)}

ومضات:

ـ ينشئ الإسلام جسور المناقشة والحوار الفكري البنَّاء مع أهل الكتب السماوية، ويبيِّن للمؤمنين بها أنه دين متمِّم لها، يدعو إلى ما يعتقدون به من وحدانية الله، وإلى تحقيق السَّلام والأمن والعدل والمساواة في أنحاء الأرض كافَّة.

ـ الإيمان الصادق والتَّقوى الحقيقية هما سبب تنزُّل العطاء الربَّاني والأرزاق الوفيرة والعيش برغد وسرور، لأن قوانين الكون مترابطة ومنسجمة، فإن أقمناها بالشكل الصحيح أدَّت إلى هذه النتائج الخيِّرة، وإن أخللنا بها أي خلل، نجم عن ذلك الفساد والإفساد. وقد أدرك بعض أهل الكتاب هذه الحقيقة بعقولهم النيِّرة وعملوا بها فأفلحوا، وتجاهلها بعضهم فأساؤوا لأنفسهم ولمجتمعاتهم.

في رحاب الآيات:

نداء إلهي كريم موجَّه من الله ـ جلَّ وعلا ـ إلى أهل الكتاب، يلفت أنظارهم فيه إلى حدث عظيم؛ هو مجيء رسول الله محمَّد صلى الله عليه وسلم . وقد أضاف الله سبحانه لفظ الرسول إلى ذاته الشريفة فقال: {رسولنا} تعظيماً له، ودفعاً لأي تقوُّل أو تكذيب قد يفتعله بعض المعاندين. ولقد أرسل الله رسوله إلى الناس كافَّة ولكنَّه خصَّ أهل الكتاب بالنداء، ليبيِّن لهم أنه إنما بعث هذا الرسول رحمة بهم، وليهديهم سبل السَّلام، ومسالك النجاة، وليسلِّط الأضواء الكاشفة على ما خفي عنهم من تعاليم كتبهم، وما استتر من أعمال مفسديهم الَّذين حرَّفوا الكلم عن مواضعه، فَيُخرج ما أخفوه، ويُظهر ما ستروه، ليكون لهم سعادة ورغداً، وأمناً ورشداً، ويعفو عنهم رحمة بهم، وتألُّفاً لقلوبهم، لعلَّهم حين يلمسون جوانب هذه الرحمة أن تلين قلوبهم، وتتفتح عقولهم لتلقِّي فيض الله وحكمته في جميع شرائعه وكتبه.

فالشرع الإسلامي جاء مؤيِّداً لما سبقه من الشرائع الإلهية، والقرآن جاء مصدِّقاً لما قبله من الكتب السماوية، ولو أن أهل الكتاب آمنوا به، واستسلموا الاستسلام المطلق لشريعة الله، لكفَّرَ الله عنهم ما فعلته أيديهم من تحريفٍ لكتبه، ولأفاض عليهم من نعيمه ونعمائه ما لا يحيط به حدٌّ، ولا يحصيه العدّ. والقرآن يحاور أهل الكتاب حواراً هادئاً ترغيبياً ليصل بهم إلى شاطئ الأمان، وكأنه يقول لهم: إذا شقَّ عليكم اتِّباع ما جاء به رسول الإسلام، فاتَّبِعوا ما جاء به أنبياؤكم من الحقِّ، ولكن على صورته الأولى الَّتي كان عليها قبل أن تمتد إليه يد التحريف والتشويه، فإن فعلتم هذا، سَهُل عليكم تفهُّم رسالة الإسلام، فما الإسلام إلا صفحة في كتاب الوجود الَّذي صاغته يد الخالق منذ الأزل وإلى الأبد، ولن تجدوا فيه أي تناقض مع جوهر الرسالات الَّتي سبقته، بل هو تكميل لها، وتصحيح لما أدخله عليها المغرضون من العبث والفساد وتجديد لشبابها. إنها معاملة من نوع فريد، والنفع فيها عائد في الحالتين على المخلوق لا على الخالق، فهو الغني عن عباده، وهو الكامل الَّذي لا يرتضي لهم إلا التدرُّج والرقي في معارج الكمال.

ثم يذكِّر الله تعالى أهل الكتاب بما فعلوا، وكيف فرَّطوا في تنفيذ أوامره، ولم يتَّبِعوا النور الَّذي أنزله عليهم عن طريق أنبيائه وكتبه، وكلمة تنزيل تعبِّر عن قداسة المُنزَّل وضرورة التقيد به، وإحلاله المكانة الَّتي يستحقُّها، ولو أنهم فعلوا ذلك لفاض عليهم الخير من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولفتح الله عليهم أبواب السعادة، ولوهبهم جنَّتين: جنَّة الأرض، وهي السَّلام والأمن والحياة الرغيدة ـ وهذا منتهى ما يطلبه الإنسان في هذه الدنيا العاجلة ـ وجنَّة الآخرة، وهي رضوان من الله ورحمة، ولكنَّهم زهدوا في ذلك كلِّه وأَلْهتهم الدنيا عن طلب الآخرة.

ولكنَّ أهل الكتاب ليسوا سواءً في هذا، فمنهم طائفة عادلة متَّزنة تتَّبع الحقَّ، وتفتح عقلها وقلبها لاستقباله، وتُنْزِلَه من نفسها أعلى منزلة، قال تعالى: {ومن قومِ موسى أمَّة يَهْدونَ بالحقِّ وبه يَعْدِلُون} (7 الأعراف آية 159) فهي تسعى بذلك إلى شد الروابط الإنسانية ووحدة البشرية، وإعمار الأرض بالعلم ومكارم الأخلاق، وهؤلاء لهم رضوان من الله ورحمة. ومنهم فئة أعرضت عن إعمال عقلها، أو توجيه فكرها نحو حقيقة الوجود البشري وسبل هدايته إلى حضرة الله، فأساءت بعملها إلى أجيال بكاملها، وقد بعدوا عن طريق الهداية، إلى نُظُمٍ وعقائدَ أثبت الواقع زيفها وعقمها.

سورة آل عمران(3)

قال الله تعالى: {وإنَّ من أهلِ الكتابِ لَمَن يُؤمنُ بالله وما أُنزِلَ إليكُم وما أُنزِلَ إليهم خاشعين لله لا يشترونَ بآياتِ الله ثمناً قليلاً أولئكَ لهم أَجْرُهُم عند ربِّهم إنَّ الله سريعُ الحسابِ(199)}

ومضات:

ـ نعثرُ بين صفوف الكتابيين (اليهود والنصارى) على من يؤمن بوحدانية الله، ويقرُّ بصدق جميع الرسالات والكتب السماوية بما فيها الإسلام، فلا يبخسها قيمتها وقدرها، ويخشى الله تعالى ولا يحيد عن تعاليمه، وسيجزل الله تعالى لهذا وأمثاله الفضل والعطاء.

في رحاب الآيات:

نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه الَّذين آمنوا بالنبي محمَّد صلى الله عليه وسلم وصدَّقوا به، فعن جابر بن عبد الله وأنس وابن عباس رضي الله عنهم أنه لمَّا مات النجاشي نعاه جبريل عليه السَّلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأصحابه: «قوموا فصلُّوا على أخيكم النجاشي» (أخرجه البخاري ومسلم والبيهقي) فقال بعضهم لبعض: يأمرنا أن نصلِّي على عِلجٍ من عُلوجِ الحبشة، فأنزل الله تعالى الآية.

إن هذه الطائفة من أهل الكتاب تؤمن بالله حقَّ الإيمان، وتؤمن بما نزل على محمَّد صلى الله عليه وسلم مع إيمانها بالكتب المتقدمة، وأفرادها خاشعون لله، مطيعون له، متذللون بين يديه، لا يكتمون ما بين أيديهم من البشارة بمحمَّد صلى الله عليه وسلم وذكر صفاته ومبعثه، وصفات أمته. وهؤلاء وأمثالهم هم خيرة أهل الكتاب وصفوتهم، سواء كانوا هوداً أو نصارى، ولهم أجرهم عند ربِّهم لما يتَّصفون به من حميد الصفات وجليل الأعمال، بعد أن هداهم الله تعالى إلى الحقِّ وإلى الصراط المستقيم. والله عالمٌ بما يستحقُّه كلُّ إنسان من الثواب والعقاب، ولكنَّ المشكلة تبقى في جهل الإنسان نفسه وأنانيته، فالكثير من أبناء الشرائع السماوية المختلفة يعتقدون أنهم وحدهم الجديرون بدخول الجنَّة دون غيرهم من أتباع الشرائع السماوية الأخرى. وهذا التحجير لرحمة الله الواسعة مرض يؤدِّي إلى تجزئة الأسرة الإيمانية العالمية وشرذَمتِها، وتهديم جسور اللقاء بين طوائفها؛ لذلك فلابدَّ من قيام رجال الدِّين الأحرار، ممن تشرَّبت قلوبهم عقيدة التوحيد، بجمع صفوف الأسرة الإنسانية على كلمة التوحيد لله الواحد الأحد، وعلى تزكية النفوس وتطهيرها، والالتزام بالمبادئ الأخلاقية الفاضلة، لعلَّ في ذلك ما يجمع العالم ويوحِّده، ويحافظ على مقوِّماته الصحِّية والطبيعية والبيئية، وينشر العلم في أرجائه، ويقضي على كلِّ أنواع الجهل والضعف، فتتحقَّق الجنَّة الصغرى على الأرض، ويكتسب الناس محبَّة الله تعالى ورضاه، فيكونون أهلاً للجنَّة الكبرى، الَّتي وعد الله عباده المتَّقين.

سورة آل عمران(3)

قال الله تعالى: {ليسوا سوَاءً من أهلِ الكتابِ أمَّة قائمةٌ يَتلونَ آياتِ الله آناءَ اللَّيلِ وهم يَسجُدونَ(113) يُؤمنونَ بالله واليومِ الآخرِ ويأمُرونَ بالمعروفِ ويَنهَونَ عنِ المنكرِ ويُسارعونَ في الخيراتِ وأولئكَ من الصَّالحينَ(114) وما يفعلوا من خيرٍ فلن يُكفَرُوهُ والله عليمٌ بالمُتَّقينَ(115)}

ومضات:

ـ تؤكِّد الآيات الكريمة على عدم تساوي أهل الكتاب في مراتب الجودة والفلاح، ومدى تفهُّمهم للإيمان الحقيقي، وينابيعه الصافية، وجوهره النقي. فعلى الرغم من انحراف أكثرهم فإن طائفة منهم قد سطع في قلوبهم نور الحقيقة، فهم يقومون لله فيتلُون آياته ويُصَلُّون بخشوع وإيمان، ساجدين له مقرِّين بفضله ناشدين قربه، قد آمنوا بالله الواحد الأحد، وأن يوم الحساب آتٍ لا ريب فيه، واستعدَّوا بأعمالهم لمثل هذا اليوم، وصاروا منارات للهدى، فدلُّوا الخلائق إلى سبل الخير والعلم والفلاح، وأنقذوهم من براثن الفسق والانحلال والجهل، وقد نشطوا في إتمام البناء الأخلاقي بهمة وثبات، وكأنهم يسابقون الزمن، فاستحقُّوا أن يكونوا هداة مهديين، صالحين ومصلحين.

ـ إن الله لا يبخس الناس أعمالهم وخصوصاً المتقين، فهو الحَكَمُ العَدْلُ ربُّ العرش العظيم.

في رحاب الآيات:

نزلت هذه الآيات في حقِّ أهل الكتاب الَّذين التزموا بجوهر دينهم الحقيقي؛ لتؤكِّد على وجود عناصر مؤمنة وخيِّرة من أهل الكتاب، آمنت بوحدانية الله، وعملت الصالحات وسعت في طريق الخير والصلاح، إنهم عناصر طيِّبة تميَّزت بارتقائها وتطهُّرها عن خبث غيرها ممن اعْوَجُّوا عن الشريعة الأصلية، وانساقوا وراء أهوائهم وأطماعهم. وهذا حافز لنا لكي نسعى جاهدين لنتعرَّف بهم، ونتَّصل بهم، من أجل التركيز على قيام عمل مشترك بيننا وبينهم في سبيل تقرير وحدة أصل الشرائع السماوية ، والعودة بها إلى جوهرها الأصيل، وتنقية الفكر الإيماني من الدخائل الَّتي تسرَّبت إليه. وقد وصف الله تعالى أهل الكتاب بأنهم ليسوا كلُّهم سواءً في مصداقيتهم، إذ أنَّ بين صفوفهم المؤمنين الصَّادقين، الَّذين ادَّخر الله لهم ثواب الصالحين المؤمنين إيماناً صادقاً وكاملاً باعتقادهم وأعمالهم، وقاموا على حراسة هذا الدِّين، فلم يهملوا رعايته ولم يتركوه كما تركه الآخرون وضيَّعوه، كما أن بينهم المتخاذلين المتعامين عن نور الحقِّ والعقل الرشيد.

إن هذه الآيات حجَّة وبرهان على أن دين الله واحد على ألسنة جميع الأنبياء، وأن من أخذه راضياً وعمل به مخلصاً، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو من الصالحين. ولا يخفى أن أهل الكتاب الموصوفين في هذه الآية، هم من ارتبطت قلوبهم بحضرة الله تعالى، فَسمت إلى الأفق المضيء، ووصلت إلى مرتبة العشق الإلهي، فهم يقومون بالليل مناجين ربَّهم، متضرِّعين له، لأنَّهم يحبُّونه ويخشونه، ويخافون يوماً سيجمعهم فيه للحساب. أمَّا منهجهم في الحياة فهو الاستقامة على صراط الخير وإرشاد غيرهم ممن ضلُّوا الطريق إليه؛ بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، والمسارعة إلى الأعمال الخيِّرة. وقد عبَّرت الآية عن سعيهم في عمل الخيرات بلفظ المسارعة، بياناً لمدى لهفتهم وشوقهم إلى ذلك. ومتى كان الكتابي على هذه الصورة الَّتي وصفها الله تعالى، فإنه يكون قد قام بتعاليم دينه كما أُنزلت، ولابدَّ أن هذا العمل سيُقبَلُ منه، ولن يضيع عند الله، لأنه عالم بأحوال القلوب وخفاياها، ودرجة إيمانها وتقواها، والمخلوقات جميعاً مخلوقاته وهو القاضي والحَكمُ العدل بينهم أجمعين.

سورة آل عمران(3)

قال الله تعالى: {ومن أهلِ الكتابِ مَنْ إن تَأمَنْهُ بقنطارٍ يُؤَدِّهِ إليكَ ومنهم مَنْ إن تَأمَنْهُ بدينارٍ لا يُؤَدِّهِ إليك إلاَّ مَادُمتَ عليهِ قائماً ذلك بأنَّهم قالوا ليس علينا في الأُمِّيِّينَ سبيلٌ ويقولونَ على الله الكذبَ وهم يعلمونَ(75) بلى من أوفى بعهدهِ واتَّقى فإنَّ الله يحبُّ المُتَّقينَ(76)}

ومضات:

ـ لن تخلو المجتمعات البشرية من الأمناء والشرفاء الَّذين يُوثَقُ بهم لإيداع الغالي والنفيس لديهم، كما أنها لا تخلو من المفسدين أصحاب الضمائر الميتة والأهواء المستحكمة، ممن لا يتورَّعون عن تحليل الحرام، باجتهادات كثيرة، وأخطرها تلك الَّتي تتخذ الطابع الدِّيني، فيستبيحون حُرُمات وممتلكات من ليسوا على عقيدتهم ومِلَّتهم، غير آبهين بكرامة الإنسان ولا بحقوقه الَّتي رعاها الله تعالى وحفظها لعامَّة الناس؛ مهما كانت اتجاهاتهم العقائدية.

ـ إن أداء الأمانة إلى أهلها، هي مسألة تعامل بين الناس مبنيَّة على تقوى الله، وليس على أساس المصلحة أو الأهواء الشخصية، والمؤمن يفي بعهده ويؤدِّي الأمانة إلى من ائتمنه عليها بغضِّ النظر عن انتمائه الدِّيني، لأن شرع الله الحنيف صان الحقوق الشخصية للإنسان صيانة لا نظير لها.

في رحاب الآيات:

تشير الآية الكريمة إلى أن أهل الكتاب طائفتان: طائفة تؤدِّي الأمانة إلى أهلها قلَّت أم كثرت، وطائفة أخرى تخون الأمانة، ولو قلَّت وحقرت، فلو استودعتها القليل، جحدته ولم تؤدِّه إليك، إلا إذا لاحَقْتَها لاسترداد حقِّك، مُلِحّاً في المطالبة أو ملتجئاً إلى التقاضي والمحاكمة. والفرق كبير جداً بين أمين وخائن، فالأمين موضع احترام الناس ومحل ثقتهم، والخائن موضع احتقارهم وهدف سخطهم.

إن الدافع على الخيانة عند تلك الطائفة من أهل الكتاب، هو حبُّ التعالي على غيرها من أتباع الديانات الأخرى، فقد ادَّعى بعض اليهود بأنه ليس عليهم في الشريعة اليهودية من حرج في أكل أموال الناس من غير اليهود، بحجَّة أن الله قد أحلَّها لهم، زاعمين أن شريعتهم تأمرهم بهذا، وهم يعلمون أن هذا كذب وافتراء، لأن الله تعالى قد تنزَّه عن أن يأمر بالفحشاء، ويبيح لجماعة من الناس أن تأكل أموال جماعة أخرى بهتاناً وظلماً، وأن تخفر ذمة أو تنقض عهداً، بل إن شريعة الله تقضي بأنه لا يحقُّ لإنسان أن يتعرَّض لمال أخيه الإنسان لأي سبب، وخاصَّة بسبب اختلاف الشرائع السماوية . لذلك ترشد الآية بشكل عام إلى وجوب حفظ الأمانة وتأديتها لأصحابها، فمن أقرضك مالاً إلى أجل، أو باعك بثمن مؤجَّل، أو ائتمنك على شيء وجب عليك الوفاء به، وأداء الحقِّ في حينه دون إلجاء المُؤْتَمِن إلى الإلحاح في الطلب أو إلى التقاضي. وصفة الوفاء هذه مرتبطة أشد الارتباط بالتَّقوى الَّتي هي جماع الخير، وهي المُوَجِّهة للسلوك الإنساني، فينبغي على الإنسان ألا يتأثَّر في هذه المسألة من حيث تعامله مع صديق أو عدو، لأنها ليست مسألة تحقيق مصالح، وإنما هي تعامل مع الله بصرف النظر عن الفريق الَّذي يتعامل معه. ولعلَّ أنصع دليل على تقديس الإسلام لحرمة الأمانة هو حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له» (أخرجه أبو يعلى والبيهقي وأحمد والبزار عن أنس رضي الله عنه والطبراني في الكبير عن ابن مسعود رضي الله عنه ).

سورة آل عمران(3)

قال الله تعالى: {إنَّ الدِّينَ عندَ الله الإسلامُ وما اختلَفَ الَّذين أوتُوا الكتابَ إلاَّ من بعد ما جاءَهُمُ العِلمُ بَغيَا بينَهم ومَنْ يكفُر بآياتِ الله فإنَّ الله سريعُ الحسابِ(19) فإن حاجُّوكَ فقل أسلَمتُ وجهيَ لله وَمَنِ اتَّبَعَنِ وقل للَّذين أُوتُوا الكتابَ والأمِّيِّينَ ءَأَسلَمتم فإن أسلَموا فقد اهْتَدَوا وإن تَولَّوا فإنَّما عليك البلاغُ والله بصيرٌ بِالعِبَادِ(20)}

ومضات:

ـ جميع شرائع الله بحقيقتها وجوهرها، إسلامٌ واستسلامٌ لله عزَّ وجل {.. مِلَةَّ أبيكُمْ إبراهيم هو سَمَّاكُمُ المسلمين مِنْ قبلُ..} (22 الحج آية 78).

ـ الإسلام هو خلاصة الرسالات السماوية السابقة، لا يحيدُ عن نهجها القويم وشرعها المستقيم، والأحكام الأصلية الاعتقادية واحدة في جميع الشرائع السماوية ، فمن يؤمن بالله ربّاً معبوداً، لن يجد في صدره حرجاً من الإقرار بالإسلام، وقبوله ديناً سماوياً، أراده الله ليكمل به شرعه الحنيف، ويختتم به كتبه ورسالاته إلى أهل الأرض.

ـ إن من يُشَكِّك بالإسلام وقد علم ما جاء به من الحقِّ، لم يفعل ذلك لأن الإسلام قاصر عن تلبية الحاجات العقلية والروحية لبني الإنسان، بل بدافع من الحرص على مصالحه، خشية ضياعها وزوالها إذا ما انتشر الإسلام وساد.

ـ ليس من الحكمة مجادلة من أصرَّ على الكفر وعاند فيه بعد أن دعي إلى الحقِّ وأقيمت الحجَّة عليه، بل إن الإشاحة عنه والإعراض عن جداله هو الأسلوب الأسلم والأصح للتعامل معه.

ـ الإسلام يحمل الهداية للجميع إذا فتحوا عقولهم وقلوبهم له، وكلُّ من اتبعه من أهل الشرائع السماوية الأخرى، سيجد فيه تجديداً لمعتَقَده السماوي الَّذي كان يتبعه، وإعادة لنضارته وشبابه.

ـ ليس على الرسول أن يُدخل الهدى عنوة إلى صدور الناس، ولن يحاسَب عن ضلالهم، وإنما مهمَّته تبليغ الرسالة الَّتي أمره الله تعالى بأن يوصلها إليهم.

ـ إن الله تعالى لا يغفل عن أحد طرفة عين ولا يهمل الحساب.

في رحاب الآيات:

قاربان للنجاة لا ثالث لهما، ونوران يضيئان للإنسان طريق السعادة والخير ليصل إليهما، ودليلان متعاونان متحالفان، لا تناقض بينهما ولا اختلاف، إذا حظي الإنسان بأحدهما؛ أمسك بيده ودلَّه على الآخر، فإذا اجتمعا له فقد كملت النعمة وتمت المِنَّة؛ ألا وهما العقل المدرك والدِّين القيِّم، هبة الله للإنسان وهديته إليه. فالعقل المفكر المدرك يعمل ويبحث حتَّى يجد ضالَّته في الدِّين النقي من أخلاط الجهالة والتعصب، والَّذي بدوره يحثُّ العقل على اليقظة والتفكير، والفهم والتدبير. فالدِّين أمر حيوي ضروري للروح والحياة، كضرورة الضوء للعينين، والهواء للرئتين، والروح للجسد، لأنه يمثِّل أكرم صلة بين الخالق والمخلوق، وينظِّم أوثق علاقة بين عالمي السماء والأرض، وإنَّ أشرف ما في الأرض هو الإنسان، وأشرف ما في الإنسان قلبه، وأشرف ما في القلب الإيمان بالله؛ خالق الوجود، وواهب الحياة.

وعلى هذا، فالدِّين طاقات دافعة، وقيم خُلُقية موجِّهة، لا يمكن للإنسان أن يستغني عنها لما لديه من غرائز طبيعية، واستعدادات نفسية فطرية تعتمل بداخله، وتؤثر على مجرى سلوكه، فإذا تُركت بلا حدٍّ ولا قيد، نزعت إلى الشرِّ وجنحت بصاحبها إلى الضلالة والخطأ. والدِّين وحده، بعقائده وشرائعه وآدابه، هو الَّذي يطهِّر النفوس من النقائص، ويهذِّب الغرائز ويوجهها لما فيه خيرها وبرُّها، وهو الَّذي يطرد وساوس الشيطان، ويقود إلى محبَّة الخير وكراهية الشرِّ، وهو الَّذي يفجِّر في النفس مشاعر الرحمة والعطف والتواضع، فيهيمن على المؤمن سلطان رقابة الله عزَّ وجل، الَّتي تقوم بدورها في إيقاظ الضمير وتوجيهه. فالضمير هو الشعور النفسي الَّذي يقف من المرء موقف الرقيب يحثُّه على أداء الواجب، وينهاه عن التقصير فيه، ويحاسبه بعد أداء العمل، فيكون بمثابة الميزان الَّذي يزِنْ به أعماله بعد أدائها، فإنْ عَمِلَ حسنة سرَّته، وإن اقترف سيئة ساءته.

إن هذه الفضائل مجتمعة هي الَّتي تكفلت بإيجاد فرد مهذَّب، وأسرة سعيدة، ومجتمع فاضل، وحضارة راقية تمتد جذورها في عُمق الزمان، وهي غاية جميع الشرائع السماوية اَّلتي جاء بها الأنبياء، وجوهرها عقيدة التوحيد، والانقياد والخضوع لإرادة المولى عزَّ وجل، وإن اختلفت في بعض التكاليف وصور الأعمال.

وإذا كان بعض أهل الكتاب قد خالفوا دينهم الحقَّ فما مردُّ ذلك إلا إلى الطمع في نيل الحظوظ، والرغبة في التسلط والظلم والاعتداء؛ لأنَّ اختلافهم لم يكن عن جهل بحقيقة الأمر، فقد جاءهم العلم القاطع بوحدانية الله، وتفرُّده بالألوهية، وعلمه بالطبيعة البشرية، وأحقيَّته بالعبودية، لذلك سمَّى الله تعالى خروجهم عن حقيقة التوحيد كفراً.

والإسلام هو جوهر الشرائع السماوية ، والمسلم الحقيقي بنظر الإسلام هو من كان قلبه خالصاً من شوائب الشرك بالله، مخلصاً له في أعماله مع الإيمان بكلِّ رسل الله والاعتقاد بيوم الحساب، من أيِّ أمَّة كان وفي أي زمان وُجد. ولا يخفى أن اختلاف معظم الكافرين في أمر الإسلام، ونبوَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم كان عن استكبار وعناد لا عن شبهة وخفاء، وخاصَّة بعد أن علموا بالحجج النيِّرة والآيات البيِّنات بأنه رسول ربِّه حقاً وصدقاً، جاء ليكمل ما بدأه الرسل السابقون؛ من إرساء قواعد الحقِّ وإزهاق الباطل. وإنَّ إنكارهم هذا؛ هو كفر بآيات الله، وإنَّ تفسيرها وتأويلها بحسب ما تهوى نفوسهم، أوقع الكثير من الناس في الزيغ والفساد.

ولقد أرشد الله رسوله الكريم إلى طبيعة الموقف الَّذي يجب أن يتخذه أمام مجادلة بعض اليهود والنصارى ومشركي العرب في شأن التوحيد فوجَّهه ليقول لهم؛ أنا عبد الله، وحده لا شريك له، قد استسلمت له بكلِّيَّتي، وأخلصت له عبادتي، وإني ومن اتَّبعني منقادون لأمره، وأنتم ومن والاكم مدعوُّون إلى التسليم له، والإقرار بوحدانيته، فهل أنتم مؤمنون، أم باقون على تعصبكم بعد أن أتاكم من البيِّنات ما يشرح صدوركم للإسلام والإيمان به؟. وبعد هذه الدعوة الخيِّرة وهذا الشرح المستفيض يدعهم وشأنهم، فإن أقرُّوا فقد فازوا ونجَوْا من مهاوي الضلال، وكانوا ممن استنارت قلوبهم وسَعَوْا لطلب الحقِّ، وإن أعرضوا فلن يضرُّوه شيئاً إذ أن الله لم يكلِّفه بتحقيق استجابتهم، وإنما بتبليغهم البلاغ الواضح المبين وهذه حدود مهمته. فهو يهدي للطريق القويم، ويقوم بأداء رسالته حسبما هو مطلوب منه، ثمَّ تأتي الهداية بمشيئة الله وحسن تقديره لمن أرادها وبحث عنها، وهو عليم بمن يرغب بالهداية ويسعى إليها، وسيكافئه، وهو خبير بمن يرغب عنها ويسعى في الضلال، وسيعاقبه.

وهذا الإسلام الَّذي يدعوهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ،بتعاليمه ومُثُلِهِ يبعث الحياة في العواطف الجامدة، ويبثُّ اليقظة في القلوب الهامدة، ويحرِّك مكامن الخير في الإنسان لتتَّسع نفسه للعلاقات الحسنة، والمعاشرة بالمعروف، وإلى جانب ذلك فهو يحارب الظلم والبغي حتَّى لا تُهدر كرامة أحد، ولا تنتهك حرمة إنسان، ولا يُهان ضعيف، ولا تضيع حقوق فقير، ولا يؤخذ مال بغير حقٍّ، وهكذا فإنه يحمل جميع قيم الخير، فمن آمن بالله الواحد وتقيَّد بهذه القيم وأحسن تطبيقها، فقد أسلم قلبه وكيانه لله عزَّ وجل، ومن أسلم فقد اهتدى.

وهذا الإسلام يريد أن يقيم أطهر حياة وأَمْثَلَها على هذه الأرض؛ وقد استهدف تهذيبَ الفرد، وتعاونَ الجماعة، وإيجاد حُكْمٍ عادل أساسه الشورى، وغايته التمسك بتعاليم الدِّين، والخضوع لسلطة الإله الواحد، المعبود دون المخلوقات؛ لتوثيق روابط الأخوة الإنسانية، ممَّا يعجِّلُ بسلام عام يعيش الناس في ظلِّه آمنين. وليس هذا بغريب، فقد انعقدت معظم الآراء المنصفة، على وجوب المناداة بالعودة إلى الدِّين، لأن التطور المادِّي الَّذي لا يصحبه سند من الروح والخُلُق، خطر ينتج عنه السقوط، كمثل الطائر الَّذي يطول أحد جناحيه، بينما يقصر جناحه الآخر، فماله من الصعود والرقي حظٌ ولا نصيب. فالنفوس الَّتي أفسدها الطمع والجشع والأنانية، أحوج ما تكون إلى الإصلاح والعلاج، ليسود المجتمعَ المودَّةُ والرحمة والتكافل والإيثار، وهذه الفضائل لا حارس لها ولا كفيل لاستمرارها إلا الدِّين والإيمان، فهو الَّذي يستطيع أن يفجِّرها في النفس البشرية، ويبقيها يقِظة متأجِّجة تعمِّر وتبني، وتنشر الحبَّ والسَّلام في جميع أرجاء الأرض. والدِّين الَّذي يملك هذه القدرات الخلاَّقة، هو الدِّين الإلهي الصافي الَّذي لم تلوِّثه يد التحريف، ولم تعبث به الأهواء والأطماع والغايات الشخصية، بل بقي نقياً حيّاً يعمل عمله في النفوس فيهديها للتي هي أقوم كما قال تعالى: {إنَّ هذا القرآنَ يَهدي للَّتي هي أَقْوَمُ ويُبَشِّرُ المؤمنين الَّذين يعملونَ الصَّالحات أنَّ لهم أجراً كبيراً * وأنَّ الَّذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذاباً أليماً} (17 الإسراء آية 9ـ10).

سورة البقرة(2)

قال الله تعالى: {يابَنِي إسرائيلَ اذكُروا نعمتيَ الَّتي أنعمتُ عليكم وأَوْفُوا بعهدي أُوفِ بعهدِكم وإيَّايَ فارهَبون(40) وآمنوا بما أنزَلتُ مُصَدِّقاً لما معكم ولا تكونوا أَوَّلَ كافرٍ به ولا تَشتَروا بآياتي ثمناً قليلاً وإيَّايَ فاتَّقونِ(41) ولا تَلبِسُوا الحقَّ بالباطلِ وتكتموا الحقَّ وأنتم تعلمونَ(42) وأقيموا الصَّلاة وآتوا الزَّكاة واركَعوا مع الرَّاكعين(43) أتأمُرونَ النَّاسَ بالبِرِّ وتنسَوْنَ أنفُسَكُم وأنتُم تَتلونَ الكتابَ أفلا تَعقِلونَ(44) واستعينوا بالصَّبرِ والصَّلاة وإنَّها لكبيرةٌ إلاَّ على الخاشعينَ(45) الَّذين يَظُنُّونَ أنَّهم ملاقُوا ربِّهم وأنَّهم إليه راجعونَ(46) يَابَني إِسرائِيل اذكُرُوا نِعمتيَ الَّتي أنْعَمتُ عليكُم وأَنِّي فضَّلتُكم على العَالمِينَ(47) واتَّقوا يوماً لاتَجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئاً ولايُقبلُ منها شفاعةٌ ولايُؤخذُ منها عدلٌ ولاهُمْ يُنصَرونَ(48)}.

ومضات:

ـ يأمر الله تعالى بني إسرائيل أن يتذكَّروا النِعَم الَّتي منَّ بها عليهم، ليحفظوها ويقدِّروها حقَّ قدرها، وأن يكونوا أُمناء على عهدهم له بالطاعة والانقياد وحسن العبادة، وهو يعدهم بحسن الثواب.

ـ يهيب الله تعالى بهم أن يخشوه حقَّ خشيته، كما ينبغي لجلاله وعظيم هيبته، حتَّى ينالوا وعده ويتجنَّبوا وعيده، فإنَّ مقاليد الأمور كلِّها بيده.

ـ يدعوهم الله تعالى للإيمان بالقرآن الكريم لأنه نزل مصدِّقاً لما جاء في التوراة الَّتي يؤمنون بها، ويأمرهم بألا يسارعوا إلى الكفر به، لأنه يحمل بين طياته الهدى والإرشاد، ويحذِّرهم من تحريف ما جاءهم من البشرى بهذا النبي في التوراة، بهدف الحفاظ على مراكزهم ونفوذهم الدنيوي، ويدعوهم لأن يتَّقوه ولا يكفروه.

ـ يحذِّرهم الله تعالى من أن يخلطوا الحقَّ المنزَّل من عنده، بالباطل الَّذي يخترعونه ويكتبونه بأيديهم وفق أهوائهم، وينهاهم عن أن يكتموا الحقَّ الَّذي يعرفونه في التوراة، والَّذي يوافق ما جاء في القرآن الكريم، ويدلُّ على أنه كتاب الله أُنزل على رسوله وللناس كافَّة.

ـ يأمرهم الله تعالى بإقامة الصَّلاة لتطهر بها نفوسهم، وبإيتاء الزَّكاة لتتزكَّى بها أموالهم، وأن ينضمُّوا إلى جماعة المؤمنين ويركعوا مع الراكعين، يصلُّون معهم ويتواضعون لله وللمؤمنين، لتتوحَّد القلوب، وتنتشر الألفة بين الناس.

ـ يأمر الله تعالى حَمَلَة الكتاب، وكلَّ من يدعون إلى الإصلاح والإرشاد، أن يتقيَّدوا بما يدعون إليه من تعاليم الله ويعملوا بها، حتَّى لا تنقلب دعوتهم إلى الخير حجَّة عليهم، ويُؤَنِّب تعالى من يدعو إلى الخير ولا يعمل به، لأنه لم يستعمل عقله ليرفعه عن هذا السَّفَهِ، فالعاقل لا يدلُّ الناس على طريق النجاة ويرمي بنفسه إلى التهلكة.

ـ الصبر والصَّلاة هما مطيتا المؤمن ليصل إلى رضوان الله تعالى، فهما مدرستان لتهذيب النفس وتدريبها على فعل الخيرات؛ ولا يُحسِن الالتزام بهما والاستفادة منهما إلا من خشع لله تعالى قلبه وتواضع لعظمته.

ـ المؤمنون الصالحون لا يغفلون عن حقيقة الموت والحساب، ويُعِدُّون العدَّة للوقوف بين يدي الله تعالى في يوم الدِّين.

في رحاب الآيات:

يبدأ النص القرآني بأسلوب رائع، وخطاب جميل من الله عزَّ وجل إلى اليهود من أهل الكتاب، ويُستهلُّ بنداءٍ ودِّي محبَّب، وهو قوله تعالى: {يابني إسرائيل}، أي ياأبناء الأنبياء، لأن إسرائيل هو نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، عليهم السَّلام أجمعين، وفي هذا تأليف لقلوبهم، وتكريم لنسبهم، واستثارة لما في نفوسهم من مكامن الخير، وتذكير لهم بسلوك آبائهم وتجارب أسلافهم. وهو توجيه للدعاة إلى الله كي يخاطبوا الناس بأشرف أسمائهم، وينادوهم بأكرم ألقابهم، تحبُّباً إليهم واستقطاباً لمودَّتهم.

والَّذي يمعن النظر في القرآن العظيم يجد أنه جاء على ذكر بني إسرائيل كثيراً، وعرض سلوكهم وعقائدهم وتفكيرهم، وأخذ ذلك كلَّه بالدراسة والتحليل، لأن اليهود وإن كانوا قلة فإن للأنبياء تجارب كثيرة معهم في أغلب فصول التاريخ الدِّينية القديمة، والقرآن الكريم يرصد هذه التجارب ويتحدَّث عنها في مناسبات كثيرة ليستفيد المؤمنون منها ويتجنَّبوا أخطاءهم.

فمن الأخطاء الَّتي ارتكبها بنو إسرائيل، نختصر ما يلي:

أوَّلاً ـ مقابلةُ الأنبياء بالجحود والنكران، وخاصَّةً موسى عليه السَّلام، الَّذي سعى إليهم ـ بتوجيهٍ من ربِّ العالمين ـ لإنقاذهم من جبروتِ فرعون وبطشه، بعد أن كثرت معاناتُهم، فأراد الله أن يكرمهم، قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيْلَ ِبمَا صَبَرُوا...} (7 الأعراف آية 137). وبالفعل فقد تمَّ إنقاذُهم، قال تعالى: {وَإِذْ أَنْجَيْناَكُم مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُم سُوْءَ العَذَابِ يُقَتِّلُونَ َأبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُوْنَ نِسَاءَكُم وَفِي ذَلِكُم بَلاَءٌ مِنْ رَبِّكُم عَظِيْم} (7 الأعراف آية 141). وبالرغم من كلِّ ذلك فقد ظهرت منهم تصرُّفات ورغبات شريرة، تنمُّ عن فساد عقيدتهم وإيمانهم بالله تعالى. ومن الدلائل على سوء أغراضهم ما يلي:

1 ـ طلبوا من موسى عليه السَّلام أن يحعل آلهةً لهم من الحجارة، قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ البَحْرَ، فَأَتَوا عَلَى قَوْمٍ يَعْكِفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوْسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهَمْ آلِهَةً قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُون} (7 الأعراف آية 138).

2 ـ تخاذلُهم ورفضُهم إِطَاعَةَ أمر الله في دخول الأرض المقدسة، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوْسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيْكُمْ أِنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوْكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ العَالَمِيْن * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّـتِي كَتَبَ الله لَكُمْ وَلاَ تَرتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِيْن * قَالُوا يَا مُوْسَى إِنَّ فِيْهَا قَوْماً جَبَّارِيْن وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُون} (5 المائدة آية 20 ـ 22).

3 ـ تأفُّفهم وتذمُّرهم من نوع الطعام الَّذي أكرمهم الله به، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوْسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ...} (2 البقرة آية 61).

ثانياً ـ قتلُهم الأنبياءَ بغيِر حقٍّ، طغياناً وكفراً، وخاصَّة زكريا ويحيى عليهما السَّلام، قال تعالى: {... أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُوْلٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيْقاً كَذَّبْتُم وَفَرِيقاً تَقْتُلُون} (2 البقرة آية 87).

ثالثاً ـ اتخذوا العجل إلهاً وعبدوه ضلالاً وكانوا ظالمين، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِيْنَ اتَّخَذُوا العِجْلَ سَيَنَالُهُم غَضَبٌ مِنَ رَبِّهِم وَذِلَّةٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُفْتَرِيْن} (7 الأعراف آية 152).

رابعاً ـ لم يتورَّعوا أن ينسبوا إلى الله تعالى صفاتِ النقص، والضعف والعجز، قال تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذِيْنَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلُهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيْق} (3 آل عمران آية 181). وقوله تعالى: {وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُّ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهم وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ...} (5 المائدة آية 64).

خامساً ـ تماديهم في التَّعالي والغطرسة، وكأن الله تعالى مُجَنَّدٌ لخدمة مصالحهم، قال تعالى: {قَالُوا يَا مُوْسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيْهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُوْن} (5 المائدة آية 24).

سادساً ـ زعموا أنهم شعب الله المختار الَّذي اصطفاه، قال تعالى: {وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنَصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُه قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم...} (5 المائدة آية 18). وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذَينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُم أَنَّكُم أَوْلِيَاءُ للهِ مِنْ دُونِ النَاسِ فَتَمَنَّوا المَوْتَ إِنْ كُنْتُم صَادِقِين} (62 الجمعة آية 6ـ7).

وعلى الرغم من أن ظاهر الخطاب يخصُّ بني إسرائيل وحدهم، ويدعوهم لتَذكُّر نِعَم الله الجليلة عليهم، إلا أنَّ مدلول الآية يتَّسع ليشمل بني آدم كلَّهم في كلِّ زمان ومكان، حيث يريد الله تعالى من الناس جميعاً أن يذكروا آلاءه ونعماءه عليهم، والَّتي لا تُعدُّ ولا تُحصى، سواء ما كان منها نعماً مادِّية كالغذاء واللباس، أم غير مادِّية كالقوَّة والموهبة والقدرة على التأثير في الآخرين والتفاهم معهم، أو كان نعماً روحية كالبصيرة والقدرة على التمييز بين الحقِّ والباطل، وعليهم أن يوظِّفوها بحكمة واعتدال من أجل سعادتهم في الحياة الدنيا والآخرة.

وحيث أن الله عزَّ وجل لا يُخْلِفُ وعده للمؤمنين، ولا يُضيع أجر من أحسن عملاً، بيده مقاليد الأمور كلِّها، وهو المتصرِّف بكلِّ شيء، إن أراد بعبد خيراً فلن يستطيع أهل الأرض قاطبة أن يمنعوه، وإن أراد به ابتلاءً أو امتحاناً فما هم بقادرين على أن يصرفوه؛ فإنَّ هذا كلَّه يوجب على الإنسان أن يفي بعهده له فيعبده ولا يشرك به أحداً، ويخلص له الطاعة، ويؤمن بكتبه السماوية كلِّها، لأنها سلسلة واحدة متَّصلة لا تنقطع. فالقرآن جاء مصدِّقاً ومؤيِّداً وداعياً لعموم ما جاء في التوراة والإنجيل والكتب السماوية المنزَّلة على الرسل الكرام؛ كالدعوة إلى توحيد الخالق جلَّ جلاله، وترك الشرك ومظاهره، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والبعد عن الفواحش، قال تعالى: {قلْ إنَّما حرَّمَ ربِّيَ الفواحِشَ ما ظَهَرَ منها وما بَطَنَ والإثمَ والبغيَ بغير الحقِّ وأن تُشرِكوا بالله ما لم يُنَزِّلْ به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} (7 الأعراف آية 33) وكذلك الدعوة للأخلاق والفضائل، وعرض سِيَرِ الأنبياء والحثِّ على الاقتداء بهم، قال تعالى: {أولئك الَّذين هَدى الله فبهُداهُمُ اقتَدِه..} (6 الأنعام آية 90).

وينبغي على من يؤمن بالله تعالى وكتبه ورسله أن لا ينافق ولا يخلط الحقَّ بالباطل، طمعاً في اكتساب غنائم دنيوية آنية زائلة، لأنه لن يحصِّل إلا ما قدَّر الله له. فما لهؤلاء القوم أعمتهم بعض المكاسب والملذَّات الدنيوية يستبدلونها بهداية الله، ويحرِّفون كلامه، ويُضِلُّون به الكثير من الناس، لا ورع يثنيهم ولا تقوى تردعهم. بل إن منهم من يرتدي مسوح الصالحين ليشوِّه الحقائق ويفسد في الأرض، متناسياً قدرة الله عليه، فيكتم الحقَّ طمعاً في تحقيق مأرب، أو خوفاً من فوات مصلحة.

وتتعاقب الآيات الكريمة لتدعو اليهود خاصَّة، والناس عامَّة، للسير مع موكب الإيمان، بالتوجه الصادق إلى الله تعالى من خلال أداء العبادات، وعلى رأسها الصَّلاة والزَّكاة، لأن الصَّلاة ترقى بهم لتصل أرواحهم بالله تعالى؛ فتتهذَّب نفوسهم وتتطهَّر من أمراضها ورذائلها. وهذا يتطلَّب حضور القلب، والشعور المهيمن بعظمة الله وجلاله، لأن الصَّلاة هي صلة العبد بخالقه، ومناجاة الإنسان الضعيف العاجز، لله القوي القادر، فهي تقصِّر المسافات وتَرفع الحُجُب، وتُشعر العبد بقربه من الله فيستمدُّ الطمأنينة والعزيمة، ويمضي في الطاعة دون تردد ولا وهن. والصَّلاة الحقيقية، الَّتي تجمع بين حركات الجسد وحضور القلب والإحساس بجلال الله، تنتشل النفس ممَّا غرقت فيه من السَّعي وراء مادِّيات الحياة ومشاغلها دون الانقطاع عنها، وتسمو بها إلى الملكوت الأعلى حيث تخضع وتتواضع لحضرة الله وعظمته، ممَّا يضفي عليها السكينة والرضا، ويجعلها في حالة مستقرة من السعادة والتسليم.

وأمَّا الزَّكاة فإنها تحمي الترابط الاجتماعي من التفكُّك، وتزكِّي نفوس مؤدِّيها من التعلُّق بالمادَّة، وتجعل المال وسيلة للبناء والتعاون والتآزر بين الناس، لا غاية تملك على الإنسان قلبه ولُبَّه، حتَّى يصبح أسيراً لها، فإنَّ حُبَّها إذا طغى هدم القِيَم والعلاقات الإنسانية، وأحلَّ الاستعلاء والاستكبار في الصدور مكان التوادد والتعاطف. فالزَّكاة تدريب للنفس على البذل والعطاء، لأن النفس بطبيعتها تهتزُّ للكرم، وتفرح بالجود، وتجد الراحة والاطمئنان في مواساة الآخرين وإدخال السرور عليهم. والزَّكاة وسيلة لتحريك مشاعر السعادة في نفوس الأغنياء والفقراء على السواء، وبهذا تتولَّد روابط اجتماعية متينة تسمو بها النفوس عن حبِّ التملُّك والأثرة، وتصبح توَّاقة إلى الإيثار، ورعاية عباد الله، والاهتمام بشؤونهم، ممَّا يكفل إزالة الحواجز النفسية الَّتي تولِّدها الفروق المادِّية بين الإنسان وأخيه الإنسان، ومحو الأضغان والأحقاد من صفحات النفوس، وإشاعة التآخي والتعاون مكانها. وبعد التطهُّر من أرجاس النفس والمادَّة يستطيع الإنسان الانضواء تحت لواء المؤمنين، ليسير في ركابهم، ويضم يده إلى أيديهم ليعبدوا الله تعالى معاً رُكَّعاً وسجَّداً، كأنهم روح واحدة وجسد واحد، يتواضعون لله ويخضعون لأوامره ويجتنبون نواهيه.

وبعد أن تُبيِّنَ الآيات الكريمة الطريق إلى الإيمان الحقيقي، تسلِّط الضوء على مرض فئة من الناس اتخذت من الدعوة إلى دين الله حرفةً ووسيلة لها، كي توصلها إلى النفوذ والشهرة، وتحقِّق لها مآرب وغايات دنيوية؛ تلك الفئة الَّتي أتقنت دورها فراحت تمارس التمثيل المقنع، وتوجِّه النُّصح للآخرين، لتبدو بمظهر المصلح النبيل، في الوقت الَّذي لا تلتزم شخصياً بما تأمر به، فكانت أفعالها تناقض الفكر الَّذي تدعو إليه وتقوِّض أركانه. وإذا تفشَّى هذا المرض في أوساط الدعوة إلى الدِّين، فإنه يصبح بالغ الخطورة لأن الدعوة إليه قولاً ومخالفتَهُ سلوكاً من قِبَلِ الداعين إليه، لا تقود الناس إلى الشَّكِّ بالدعاة وحدهم فحسب، بل إلى الشكِّ بما يدعون إليه أيضاً، فيتزعزع إيمانهم وتتشتت أفكارهم، لأنهم يسمعون قولاً جميلاً، ويشهدون فعلاً قبيحاً،?فيفقدون الثقة برجال الدعوة كافَّة، الصادقين منهم والمدَّعين، والمخلصين منهم والمنافقين، وربَّما تولَّدت الريبة في قلوبهم تجاه الدِّين ذاته ومدى مصداقيته وصلاحه.

ولذلك كلِّه فقد أعدَّ الله لهؤلاء المسيئين عقاباً شديداً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مررت ليلة أسري بي على قومٍ تُقرض شفاههم بمقارض من نار. قلت: من هؤلاء؟ قالوا: خطباء أُمَّتك من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبرِّ وينسَوْن أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون؟» (رواه أحمد في مسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه ). وأخرج ابن أبي الدنيا عن الإمـام علي ـ كرَّم الله وجهه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به، لم يزل في سخط الله حتَّى يَكُفَّ أو يعمَلَ ما قال ودعا إليه».

وقد استحقَّ هؤلاء وأمثالهم ذلك الوعيد، لأن كثيراً من أصحاب القلوب الصافية ينجذبون إلى النور الَّذي تحمله الرسالات السماوية، ولكنَّهم يصطدمون بالسلوك الخاطئ لهؤلاء الدعاة المنحرفين، وتختلط في عقولهم المفاهيم فيتوهَّمون وجود الخلل والقصور في الرسالة ذاتها، فيتراجعون ويتقاعسون حتَّى تنطفئ جذوة الحماس في صدورهم، ويفقدون الرغبة بالتمسُّك بمبادئها، ويتَّخذون لأنفسهم مساراً جديداً بعيداً عنها، ولرُبَّما انقلبوا أعداءً عليها، وكان حريٌّ بهم أن يُعملوا فكرهم، ويفرِّقوا بين الرسالة ومضمونها من جهة، وبين المنتسبين إليها من جهة أخرى، ومدى جدارتهم بتمثيلها والدعوة إليها. وهكذا فإن هذه الآيات الكريمة تثبِّت أهمَّ الركائز الأساسية لمدرسة الدعاة إلى دين الله، تلك المدرسة الَّتي تُخرِّج دعاة حقيقيين، يحسنون تمثيل الأفكار والفضائل الَّتي ينشرونها بين الناس. ثمَّ تستمر الآيات في توجيهاتها القيِّمة، فترشد المخاطبين إلى الاستعانة بالصبر والصَّلاة في مواجهة العقبات والعوائق الَّتي تحول دون الرُّقيِّ في درجات الحبِّ الإلهي، والتعاون الإنساني.

فالصَّبر هو الزَّاد الَّذي لابدَّ منه لمواجهة كلِّ مشقَّة؛ وأهمُّ المشقَّات: الخضوع للحقيقة ومجاهدة النفس والهوى، وترك العادات الجاهلية المناقضة للدِّين، ونبذ الأطماع والمكاسب المتولِّدة عنها، والالتجاء إلى الله تعالى ووصاياه واتِّباع الدِّين الحق.

والصَّلاة طاقة يستمد منها الإنسان الثبات على الحقِّ والقدرة على التمسُّك به، بها يتحوَّل شكُّه يقيناً وضعفه قوَّة. وقد وصفها الله سبحانه وتعالى بأنها كبيرة، أي أنَّ فيها مشقَّةً وثقلاً، إلا على الخاشعين المتواضعين لِعِظَمِ شأنها، فلا يُطِيقُ الالتزام بقواعدها ولا يحسن إقامتها، إلا الخاشعون الَّذين ترقى صلواتهم بهم من مقام الإلزام إلى مقام الالتزام، ومن مقام التكليف إلى مقام الكَلَفِ بها، فالصَّلاة فريضة محكمة وكتاب موقوت، بَيْدَ أنها في قلوب الخاشعين شوق والتزام ووصال دائم.

وباب هذه المدرسة مفتوح، لا يَلِجُهُ إلا أولئك الَّذين أضيئت قلوبهم بحبِّ الله والخوف منه، الَّذين يتَّقون الله حقَّ تقاته، فيحفظون القلب واليد واللسان وسائر الجوارح من كلِّ إثم وشر. وهم موقنون بلقاء الله وحسابه، أعمالهم متناسقة مع هذا اليقين، فهم لا يكفرون النعمة ولا ينقضون العهد، ولا يَخْشَوْنَ أحداً إلا الله، صادقين مصدِّقين بالقرآن الكريم، يعبدون الله حقَّ عبادته، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويسابقون إلى الخيرات، ويتجمَّلون بالصبر ويستعينون بصلتهم الدائمة بالله تعالى، فمصيرهم جميعاً إليه ليجزيهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون.

سورة البقرة(2)

قال الله تعالى: {ولن ترضى عنك اليهودُ ولا النَّصارى حتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم قُل إنَّ هُدى الله هو الهُدى ولئنِ اتَّبَعتَ أهواءهُم بعد الَّذي جاءكَ من العلم مالكَ من الله من وليٍّ ولا نصيرٍ(120) الَّذين آتيناهُمُ الكتابَ يتلونهُ حقَّ تلاوتِهِ أولئكَ يؤمنونَ به ومن يَكفُر به فأولئكَ هم الخاسرونَ(121)}

ومضات:

ـ إن بعض أرباب المصالح والمتنفِّذين من النصارى واليهود، الَّذين عاصروا نزول القرآن الكريم،لم يؤمنوا بمحمَّد صلى الله عليه وسلم رسولاً من عند الله، بل اشترطوا عليه في سبيل ذلك أن يجعل من مضمون رسالته ودينه دعامة تؤيِّد ما عملوه من تحريف في الكتب الَّتي جاءتهم من عند الله تعالى.

ـ إن الإسلام الحنيف هو الدِّين الحقُّ، ويجب ألا يداخلَ المسلمَ أدنى شكٍّ أو ريبة حول حقيقته وصدقه، بل عليه أن يتمسك به بكلِّ ثبات وعزيمة، لاسيَّما وقد تكفَّل الله بحفظ ركنه الأساسي ألا وهو القرآن الكريم.

ـ إن من يساوم على ما عنده من الحقِّ واليقين، يضيِّع جدارته بهذا الحقِّ، ويفقد مصداقيته، ثمَّ لا يكون له من الله تعالى إلا الخذلان والعقاب.

ـ من اليهود والنصارى من هو متمسك بكتاب الله القويم، ويستنكر ما طرأ عليه من التحريف والتغيير، ويؤمن بالقرآن الكريم كتاباً من عند الله، وبمحمَّد رسولاً، وبالإسلام ديناً. وينبغي على المسلمين أن يقيموا معهم جسور الحوار والتفاهم، من أجل إعمار الأرض ونشر السَّلام في ربوعها.

ـ من نأى بنفسه عن التبصُّر بما جاء في القرآن الكريم من الحقِّ والهدى والعلم والحكمة، فقد حجبها عن مكاسب روحية وفكرية حضارية لا تُقدَّر بثمن، وهذا هو الخسران الحقيقي؛ فالخسارة العظمى والطامَّة الكبرى في أن يخسر الإنسان أمراً لا يُعوَّض.

في رحاب الآيات:

تنبئ هذه الآيات الكريمة بأن الكثير من اليهود والنصارى، بصفتهم ينتمون إلى كيانين قائمين، دينياً وسياسياً، ما كانوا لينخرطوا في أي رسالة أو فكر خارجين عن كيانهم، بل إنهم سيحاولون جذب وتطويع أي رسالة جديدة، للانتفاع بها في خدمة كيانهم ومصالحهم الخاصَّة. لذا يجب الانتباه إلى طبيعة الأهواء المستقرَّة في نفوس كثير منهم، والمستحكمة في سلوكهم، والَّتي تحجبهم عن رؤية انفتاح الإسلام ودعوته العالمية للأخُوَّة والمحبَّة بين الجميع، وكذلك الحذر من رغبتهم الشديدة في السيطرة والتحكم.

والآية بعد هذا وذاك، تتحدَّث عن وجود فئة من أهل الكتاب يتلون كتابهم حقَّ تلاوته، ويؤمنون بصدق ما أُنْزِلَ فيه، فترسي بذلك قواعد الحوار العقلاني السليم معهم، حوارٌ قائمٌ على أساس إقرار الحقِّ لا على أساس التنازل عنه أو المساومة عليه. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمل أن يبادر أهل الكتاب قبل غيرهم إلى الإيمان برسالته، الَّتي جاءت مصدِّقة لما بين أيديهم من الكتب السماوية، إلا أنَّ كثيراً منهم أعرضوا عنه، فشقَّ ذلك عليه، لأن إعراضهم لم ينجم عن نقص في حجَّة رسالته أو ضعف فيها، ولكنَّها الأهواء، فهي الَّتي جعلتهم يقفون منه هذا الموقف المعادي. وفي اللحظة الحاسمة، يتوجَّه الخطاب من الله لرسوله بصيغة الأمر الحازم، ولهجة التوجيه الهادف مبيِّنة له الـطريق الَّذي عليه أن يسـلكه، فيقول: {قـلْ إنَّ هُدى الله هـو الهُدى}، أي دع ـ يا محمَّد ـ التفكير فيما يرضيهم وأقبل على تبليغ رسالة الله لأنها الحقُّ الَّذي بعثك به.

وفي هذا تحذير للرسول من اتِّباع ما أضافه أهل الكتاب إلى دينهم من بدع، وجعلوها أصلاً من أصول شريعتهم، بعد ما حصل له من اليقين والطمأنينة بالوحي الإلهي، الَّذي علم منه، أنهم يحرِّفون الكَلِمَ عن مواضعه، وأنهم نَسُوا حظاً ممَّا ذُكِّروا به، ويحذِّره الله تعالى بأنه سيتخلى عن نصرته إذا فعل ذلك، لأن اتِّباع الهوى لا يكون طريقاً للهدى، وإذا لم ينصره الله ولم يتولَّ شؤونه فمن ذا الَّذي ينصره؟.

علـى أنَّ هـذا التحذيـر وإن كـان موجَّهـاً للنبي صلى الله عليه وسلم ـ الَّذي عصمه الله من الزيـغ والزلل، وأيَّده بالكرامة والثبات ـ فهو في جوهره إنذار للناس كافَّة لمحاذرة المحاباة في دين الله والمساومة على أصول الشريعة وأحكامها. وقد جرى الكلام على هذا النمط ليُرْشِدَ المؤمنين كي يصدعوا بالحقِّ وينتصروا له، ولا يبالوا بمن خالفه مهما قويت شوكته، واشتدَّ أمره. فمن عرف الحقَّ واطمأنَّ إلى أن الله وليُّ أمره، لا يخاف لوم اللائمين ولا إنكار المنكرين، كما أن ذلك يزيده حرصاً على إبقاء باب الحوار مفتوحاً بينه وبين سائر المفكرين الأحرار، الَّذين ينشدون الحقيقة بعقل منفتح وروح صافية، حواراً قائماً على الحكمة والرغبة الصادقة، في نزع فتيل النزاعات الَّتي افتعلها الشيطان لتفجير كلِّ تقارب بين بني البشر أو محبَّةٍ أو تآخٍ. وهذا لا يمكن تحقيقه إلا بتوحيد جهود المؤمنين العقلاء من الشرائع السماوية كافَّة، ممن ثاروا على الجهل والتعصب، وارتكزوا على العقل الناضج والإيمان الربَّاني العميق.

سورة الحديد(57)

قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا اتَّقوا الله وآمنوا برسولِهِ يُؤْتِكم كِفْلَيْنِ من رحمتِه ويجعل لكم نوراً تمشونَ به ويغفرْ لكم والله غفورٌ رحيم(28) لئَلاَّ يعلَمَ أهلُ الكتابِ ألاَّ يقْدرونَ على شيءٍ من فضْلِ الله وأنَّ الفضْلَ بيدِ الله يُؤْتيهِ من يشاءُ والله ذو الفضْلِ العظيم(29)}

ومضات:

ـ نداء إلى المؤمنين من أهل الكتاب لكي يستشعروا خوف الله ومحبَّته في قلوبهم، وليؤمنوا برسالة محمَّد صلى الله عليه وسلم ليكون جزاؤهم جزاءً مضاعفاً موفوراً، فتتنزل عليهم الرحمات الإلهية، ويغمرهم نور إلهي خاص يُشِعُّ في أعماق قلوبهم وحنايا جوارحهم، فيسيروا به بين الناس بالحقِّ والعدل، وينالوا المغفرة والفضل الإلهي العظيم.

ـ لا يستطيع أتباع أي شريعة تخصيص رحمة الله وفضله بهم، دون غيرهم من الناس، فالعطاء كلُّه من الله تعالى والفضل بيده يعطيه من يصدق في طلبه، والله جلَّ وعلا هو صاحب الخير العميم والفضل العظيم.

في رحاب الآيات:

النداء مُوجَّه إلى المؤمنين حصراً، لأن القلب الفارغ من الإيمان لا جدوى من مناداته، فهو أَصَمُّ لا يسمع، وأعمى لا يُبصر، من أجل ذلك نرى الله عزَّ وجل ينادي عباده بهذا النداء المحبَّب: {ياأيُّها الَّذين آمنوا} لأن فيه لمسة قدسية لقلوبهم، واستثارة للصلة الَّتي تربطهم به، وباسم هذه الصلة يدعوهم إلى تقواه. فعندما يتَّقي المرء ربَّه ويحاذر كلَّ ما يبعده عنه يزداد قرباً منه، وهو قُرب معنوي ليس بالمادِّي. واقتراب العبد من ربِّه يعني تحلِّيه بالصفات القويمة الَّتي يحبُّها الله، واقتراب الله من العبد يعني إنزال رحمته وبركته على قلبه، وجعله مهبطاً للنور الإلهي. هذا النور الَّذي يحرِّك عقل المؤمن ليميز الصواب من الخطأ، ويحرِّك قلبه ليصبح منارة تنأى به عن طريق الشر، وتدلُّه على طريق الهدى، وتهديه سواء السبيل. وتقترن الدعوة إلى تقوى الله بالدعوة إلى الإيمان برسله جميعاً، وهي دعوة موجهة إلى أهل التوراة والإنجيل، لأن يتَّقوا الله بأداء طاعته واجتناب معاصيه، وأن يؤمنوا بمحمَّد صلى الله عليه وسلم حقيقة الإيمان، وما ينبثق عن ذلك من آثار إيجابية، ليعطيهم الله نصيبين من رحمته، وهو تعبير بديع، فرحمة الله لا تتجزأ، وبمجرَّدِ مَنْحِها لإنسان يلمس حقيقتها. ولكنَّ هذا التعبير فيه زيادة امتداد وشمول للرحمة، وزيادة فيض من رحمة الله لإيمانهم بالأنبياء قبل محمَّد صلى الله عليه وسلم ، ثمَّ إيمانهم بمحمَّد بعد أن بُعث نبياً، وزيادة في العطاء بأن يجعل الله لهم هدى يستبصرون به من العمى والجهالة، وهي هبة يودعها الله القلوب الَّتي تستشعر تقواه، وتؤمن برسله حقَّ الإيمان، هبة تنير تلك القلوب فتشرق، وتظهر لهم الحقيقة من وراء الحجب والحواجز فلا تلتوي بهم الطريق.

ولكنَّ الإنسان مهما وُهب من النور.. إنسان يقصِّر حتَّى ولو عرف الطريق.. إنسان يحتاج إلى المغفرة فتدركه رحمة الله، والله واسع المغفرة يغفر لمن يشاء، رحيم بعباده متى أنابوا إليه. روى الشعبي عن أبي بُردة عن أبيه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ثلاثة يؤتَوْن أجرهم مرتين، رجل من أهل الكتاب آمن بنبيِّه وآمن بي فله أجران، وعبد مملوك أدَّى حقَّ الله وحقَّ مواليه فله أجران، ورجل أدَّب أَمَتهُ فأحسن تأديبها ثمَّ أعتقها وتزوَّجها فله أجران» (رواه البخاري ومسلم).

وقد كان بنو إسرائيل يزعمون أنهم شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله وأحبَّاؤه، وكان أهل الكتاب يقولون: كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا، وقالوا: لن يدخل الجنَّة إلا من كان هوداً أو نصارى. لكنَّ الله تعالى يُبشِّر الَّذين آمنوا باستحقاق رحمته وجنته ومغفرته، حتَّى يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على احتجاز شيء من فضله، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، وهو غير مقصور على قوم ولا محجوز لطائفة، بل هو منساب بغير حدود، والله ذو الفضل الكبير، وفي هذا حض واستثارة على التسابق إلى الجنَّة وإلى رحمة الله ورضوانه.

يسـتفاد ممَّا سـبق: أن الإيمان وحـدة متـكامـلة وأنه يشـمل الإيمان بالله ورسله جميعاً ـ وهذا شـرط قبوله ـ وأن رحمة الله لا ممسك لها، وليست لقوم دون قوم وإنما هي مشاعة لكلِّ من آمن بالله تعالى واتَّقى، كائناً من كان.

سورة الحديد(57)

قال الله تعالى: {ثُمَّ قفَّينا على آثارِهم برُسُلِنا وقفَّينا بعيسى ابنِ مريمَ وآتيناهُ الإنجيلَ وجعلنا في قلوبِ الَّذين اتَّبعوهُ رأفَةً ورحمةً ورهبانيَّةً ابتدعوها ما كتبناها عليهِم إلاَّ ابتغاءَ رضوانِ الله فما رَعَوْها حقَّ رعايتِها فآتينا الَّذين آمنوا منهم أجرَهم وكثيرٌ منهم فاسقون(27)}

ومضات:

ـ توالت الرسل والرسالات حتَّى ظهر المسيح عليه السَّلام حاملاً الإنجيل المقدَّس، فانجذبت إليه أفئدة الحواريين ومن اتَّبَعَهم بالرحمة والحنان. ثمَّ انقطع بعض أتباع السيِّد المسيح إلى العزلة والخلوة والعبادة والتَبَتُّل بشكل مُفْرط ومُبْتَدَعٍ من عند أنفسهم، رغبةً منهم في جلاء قلوبهم والاستزادة من رضا الله بهذه الطريقة، ولكنَّهم أتعبوا أنفسهم بهذا الالتزام، وأتعبوا مَنْ وراءهم، ولم يتمكن إلا القليل منهم من متابعة المسيرة بصدق وعزيمة، فمن ثبت منهم نال أجره، ومن تخاذل وتهاون فقد بَعُدَ عن طريق الله في حقيقته ولو كان مظهره ينمُّ عن غير ذلك.

في رحاب الآيات:

لقد جاء السيِّد المسيح عليه السَّلام في زمن انغماس الناس في المادِّيات بشكل مفرط، فكان لابدَّ من عطاء روحي سماوي متميز، لينشئ في قلوب الناس من جديد، التوازن بين المادَّة والروح، بين القلب والقالَب. وهكذا كان، حيث أفاض الله سبحانه وتعالى على قلوب أتباع السيِّد المسيح، الرقة والحنان، والرأفة والرحمة، فاكتسبوا روحانية شفافة عذبة، أنستهم عالم المادِّيات، وشَدَّتْهم إلى عالم السماء والتجلِّيات الإلهية، فعزفوا عن متع الحياة المباحة، وعزلوا أنفسهم في صوامع وأديرة، وقلوبهم مفعمة بالطرب والسرور، مُشعَّة بالنور والصفاء.

هذه هي الثمرة الطبيعية لدعوة المسيح عليه السَّلام وروحها السمحة، وتطهُّرها الروحي، فالرأفة والرحمة ظاهرة واضحة في سلوك المؤمنين حقيقةً برسالته مِمَّن أحسنوا اتِّباعه. لكنَّ بعضهم ابتدع الرهبانية ابتغاء رضوان الله، وابتعاداً عن أوضار الحياة وأوساخها، وتبتُّلاً إلى الله، وإخباتاً له، لم يفرضها الله عليهم ابتداءً، ولكنَّهم حين اختاروها وأوجبوها على أنفسهم، صاروا ملزمين أمام الله بأن يراعوا حقوقها، ويحافظوا على مقتضياتها من تطهُّرٍ وترفُّع وقناعة وعفَّة، وذكر وعبادة، ممَّا يحقِّق في أنفسهم حقيقة التجرُّد لله الَّتي قصدوها بهذه الرهبانية. إلا أن أغلبهم فيما بعد لم يستطيعوا الحفاظ على هذه القِيَم الروحية، بل ابتعدوا عنها إلى متاهات المصالح الشخصية، وإلى سراديب الدنيا ومتاعها، وانتهت إلى أن أصبحت طقوساً وشعائر خالية من الروح، وقد اتخذها كثير منهم مظهراً عارياً عن الحقيقة، فلا يصبر على تكاليفها إلا عدد قليل. أخرج أبو يعلى عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشدِّدوا على أنفسكم فيُشَدَّدَ عليكم، فإن قوماً شدَّدوا على أنفسهم فَشُدِّد عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات».

وهكذا آتى الله تعالى الَّذين صدقوا منهم إيماناً صحيحاً طُبعت آثاره في أعمالهم، فزكَّوا نفوسهم، وأخبتوا لربِّهم، وأدَّوا فرائضه، وسيؤتيهم أجورهم كاملة. وأمَّا الَّذين فسقوا عن أمر الله، واجترحوا الآثام، وظهر فسادُهم فقد باؤوا بغضب من الله، ولهم عذاب عظيم. فالله جلَّ وعلا لا يأخذ الناس بالمظاهر، ولا بالطقوس، وإنما يأخذهم بالعمل والنيَّة، ويحاسبهم على حقيقة الشعور والسلوك، وهو الَّذي يعلم خبايا القلوب، وخفايا الصدور.