b10-f4

الفصل الرابع:

صفات المؤمنين بالدعوة

سورة البقرة(2)

قال الله تعالى: {آمَنَ الرَّسولُ بما أُنزلَ إليهِ من ربِّهِ والمؤمنونَ كلٌّ آمَنَ بالله وملائكتهِ وكتُبهِ ورسُلهِ لا نُفَرِّقُ بين أحدٍ من رُسُلهِ وقالوا سَمِعنا وأطعنا غُفرانَكَ ربَّنا وإليكَ المصيرُ(285)}

ومضات:

ـ إن رسل الله تعالى هم أوَّل من آمن بالرسالات الإلهية الموحى إليهم بها، وهم أكمل العاملين على تطبيقها وإرساء قواعدها، لأنهم بُعثوا متمِّمين لبناء صرح التشريع الإلهي، وقد اتَّبعهم المؤمنون فصدَّقوا برسالاتهم وكتبهم، واقتدوا بهم إيماناً بوحدانية الله تعالى، وبقدرة ملائكته على تنفيذ أوامره، ويقيناً بوحدة مصدر الشرائع السماوية وتماسكها.

ـ السمع والطاعة في الإسلام التزام عملي للمؤمن، وسلوك فعلي في بناء حضارة الإنسان، وتشييد منارة الدعوة؛ لهداية الخلائق إلى رحاب الإيمان، ليعمَّ السَّلام والأمن ربوع العالم، ولتكتمل سعادة الإنسان في دارَيْ الدنيا والآخرة، محاطة برضاه تعالى ومسيَّجة بمغفرته.

في رحاب الآيات:

لقد كان إيمان الرسول صلى الله عليه وسلم إيمان التلقي المباشر للفيض الإلهي والوحي الربَّاني، والاتصال الوثيق بالحقيقة المباشرة، وهذه أرفع درجات الإيمان. أمَّا إيمان الصحابة، ومن نهج نهجهم، فهو الإيمان الشامل المطلق الَّذي يليق بالأمَّة الوارثة لدين الله، القائمة على دعوته في الأرض إلى يوم القيامة.

والإيمان بالله هو حجر الزاوية في الإسلام ومادَّته التَّوحيد؛ وهو إفراد الله سبحانه وتعالى بالألوهية، والإقرار له بالعبودية، وانعتاق الإنسان من كلِّ أسرٍ أو قيد أو هوى يحجبه أو يبعده عن الله.

ويستتبع الإيمان بالله الإيمان بملائكته، وهذه حقيقة غيبيَّة لا سبيل للعقل البشري أن يدركها كإدراكه للحقائق المادِّية، ولكنَّ الإيمان بها يمنح صاحبه حساً روحياً يتلمَّس به آثار هذه المخلوقات الطاهرة الَّتي تحفُّ به، وتشاركه إيمانه بربِّه، وتستغفر له، وتعينه على الخير.

وممَّا لاشكَّ فيه أن الإيمان بالله يقتضي الإيمان بما أنزله من الكتب، والتصديق بجميع الرسل الَّذين بعثهم لهداية الناس، كما يقتضي وحدة الأصل الَّذي تقوم عليه رسالاتهم ودعواتهم، فكلُّها جاءت من عند الله في صورة مناسبة لحال القوم الَّذين أُرسلت إليهم، حتَّى انتهى الأمر إلى خاتم الأنبياء محمَّد صلى الله عليه وسلم ، فجاء الإسلام بالصورة الأخيرة المتكاملة للدين الواحد، لدعوة الخلق إلى الله حتَّى يوم القيامة. وما أروعها من ومضات تُشِعُّ ببهائها من هذا الدِّين الحنيف، فالمسلمون لا يكمل لهم إيمان، ولا تصح لهم عقيدة حتَّى يؤمنوا بالرسالات السماوية المتقدمة، وبالكتب المقدَّسة السابقة، إيمان من استسلمت جوارحه ومداركه لله ربِّ العالمين، فهم بذلك يُجلُّون جميع الشرائع السماوية، ويوقِّرون الأمم الَّتي اتبعتها واهتدت بها، فضلاً عن إيمانهم بالقرآن الكريم الَّذي حوى خلاصة تعاليمها وروحانيتها، قال تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحقِّ مُصَدِّقاً لما بين يديهِ من الكتاب ومهيمناً عليه..} (5 المائدة آية 48) أي أنزلنا إليك القرآن بالحقائق الثابتة مصدِّقاً لما سبقه من الكتب السماوية، ومتضمِّناً ما تهدف إليه وتسعى لإقراره في المجتمع البشري.

وبعد هذا الإيمان الكامل، والتخلُّق بأخلاق الرسل وصفاتهم، يرتمي قلب المؤمن على أعتاب محبَّة الله بالطاعة والتسليم، ويغمره اليقين بالعودة إليه، فيقدِّم ما يقدر عليه من الطاعات، ويعتذر إلى الله سبحانه عن تقصيره، ويطلب منه الصفح والغفران. لِمَ لا؟ وقد امتلأ قلبه برصيد من الإيمان والهدى والطمأنينة والسعادة واليقين، ذلك الرصيد الَّذي ما خلا قلب إنسان منه؛ إلا اجتاحه القلق وخيَّم عليه الظلام، وغمرته الوساوس والشكوك، واسْتَبَدَّ به الأسى، وتخبَّط في التِّيه والضياع، حتَّى ولو كان منغمساً في الرَّغد المادِّي، وتوافرت له الحرِّية والأمن والسَّلام الظاهري.

فالإيمان بالله واليقين بأن المصير إليه، هو الشعاع الَّذي ينير الطريق أمام الإنسان ويكشف له الحقائق، ويكيِّف ضميره وسلوكه وتقديره للمقدِّمات والنتائج، ويدفعه للمضي في طريق الطاعات مُسْرِعَ الخطا، حريصاً على الخير، ليجتاز الامتحان الَّذي وضعه الله تعالى أمامه عندما استخلفه في الأرض، وأعطاه قوَّة العقل والروح، ليؤدِّي هذه الخلافة على أفضل وجه.

سورة الشورى(42)

قال الله تعالى: {فما أُوتِيْتُم من شيءٍ فمتاعُ الحياةِ الدُّنيا وما عندَ الله خيرٌ وأبقى للَّذين آمنوا وعلى ربِّهم يتوكَّلون(36) والَّذين يجتنبونَ كبائِرَ الإثْمِ والفواحشَ وإذا ما غَضِبوا هم يغفرون(37) والَّذين استجابوا لربِّهمْ وأقاموا الصَّلاة وأمْرُهُم شُورى بينَهُم وممَّا رزقناهم يُنفِقون(38) والَّذين إذا أصابَهُمُ البَغْيُ هم ينتَصرون(39) وجزاءُ سيِّئةٍ سيِّئةٌ مثلُها فمن عفا وأصْلَحَ فأجرُهُ على الله إنَّهُ لا يحبُّ الظَّالمين(40) ولَمَنِ انتصرَ بعدَ ظُلْمهِ فأولئك ما عليهم من سبيلٍ(41) إنَّما السَّبيلُ على الَّذين يَظلِمُون النَّاسَ ويبْغُونَ في الأرضِ بغير الحقِّ أولئك لهم عذابٌ أَليم(42) ولَمَن صبرَ وغفرَ إنَّ ذلك لَمِن عزمِ الأمور(43)}

ومضات:

ـ إن ما يحظى به الإنسان من نعيم وخيرات في الدنيا هو نعيم مؤقَّت تشوبه المخاوف من الزوال، ممَّا ينغِّص على صاحبه فرصة التمتُّع به، بينما النعيم الحقيقي هو ما يحظى به المؤمن؛ عندما يتوكَّل على ربِّه، ويجتنب الرذائل والموبقات، ويحلم عند الغضب؛ فلا خوف عليه من القلق والهمِّ، ولا مكدِّر لسعادته النفسية في جميع الأحوال.

ـ يستجيب المؤمنون طائعين لما يقرِّبهم من حضرة الله، فهم للصلاة الحقيقية مقيمون، ويشكِّلون مجتمعاً منسجماً متفاهماً، قائماً على التشاور وتبادل الآراء فيما بينهم بحكمة وحسن تدبير، ويبذلون الجهد والمال في سبيل إسعاد الإنسانية وإنقاذها من براثن الفقر والحاجة.

ـ يجب على المؤمنين أن يتزوَّدوا بالقوَّة المادِّية والمعنوية، ليحموا بها أنفسهم من كلِّ اعتداء أو جور، وينتصروا بها لكلمة الله القائمة على التوحيد.

ـ يحقُّ لمن أوذي من المؤمنين أن يردَّ الأذى بمثله، أمَّا من ترقَّى في مدارج الحلم والأخلاق الفاضلة، وعفا عمَّن جهل عليه، وحاول إصلاحه، وردَّه إلى جادَّة الصواب، فله ثوابه الجزيل من حضرة الله الَّذي يمقت الظلم وأهله.

ـ لا إثم على من يدافع عن نفسه وعرضه وماله، ويردُّ كيد المعتدين إلى نحورهم، إنما الإثم على الَّذي ينتهك الحرمات الآمنة، ويروِّع الناس المسالمين، ويسعى في الأرض فساداً فيكون عُرضة للعذاب الأليم.

ـ المؤمن مبتلى، فمن ابتُليَ بأشرار الناس واستعان بالصبر والمسامحة والمغفرة، فهو من أصحاب الإيمان الحقيقي، والإرادة الفولاذية، وهو من خيار الناس حقاً.

في رحاب الآيات:

لَمَّا كانت البشرية بحاجة إلى قيادة رشيدة حكيمة تنقذها من جاهلية الفكر الَّتي ترزح تحت نيرها، والضلالة الَّتي تخوض فيها، وفي الوقت ذاته تأخذ بيدها، وتسدِّد خطاها على الطريق الموصل إلى الله ربِّها وربِّ هذا الوجود كلِّه، أُنزلت هذه الآيات وتكررت، وتكرر معها الترغيب والترهيب، والتعليم والإرشاد، عساها تصيب شغاف القلوب لتهديها إلى صراط مستقيم؛ فجاءت بجُملتها تعرض الصفات الأساسية للمجتمع المسلم. فما هي هذه الصفات وما حقيقتها، وما قيمتها في حياة البشرية جميعها؟ إنها الإيمان والتوكُّل، واجتناب الكبائر، والحلم عند الغضب، والاستجابة لله، وإقامة الصَّلاة، والشورى والإنفاق، والانتصار على البغي، والعفو، والإصلاح، والصبر. وتبدأ الآيات بالتقليل من أهميَّة الدنيا وأموالها، فتشير إلى أن في هذه الأرض متاعاً جذَّاباً براقاً، وفيها أرزاق وأولاد وشهوات، ولذائذ وجاه وسلطان. وهناك نِعَمٌ آتاها الله عباده في الأرض تلطُّفاً منه وهبة خالصة، لا يرتبط المنع منها في هذه الدنيا بمعصية ولا عطاؤها بطاعة، ولكنَّ هذا كلَّه نعيم مؤقت، ومتاع محدود الأجل لا يرفع ولا يخفض، ولا يُعَدُّ بذاته دليل كرامة عند الله أو مهانة، ولا يُعدُّ بذاته علامة رضا من الله أو غضب، إنما هو متاع زائل، فيجب أن لا يعلِّق الإنسان قلبه بشيء زائل، يُنسيه واجبه تجاه ربِّه ونفسه ومجتمعه. وليضع نصب عينيه النعيم الأبدي الخالد، فيسهل عليه الإنفاق والمساعدة بكلِّ رغبة وتسامح، فإن ما عند الله خير وأبقى، خير في ذاته، وأبقى في مدته. فمتاع الدنيا زهيد إذا ما قيس بما عند الله، وهو محدود بالمقارنة مع الفيض المنساب، وهو معدود الأيام، أقصى أمده للفرد؛ عمر الفرد، وأقصى أمده للبشرية؛ عمر هذه البشرية، وهو بالقياس إلى أيام الله غمْضَةُ عين أو أقرب منها، قال تعالى: {ولله غيبُ السَّمواتِ والأرضِ وما أمرُ السَّاعةِ إلاَّ كلَمحِ البصرِ أو هوَ أقرب وهو على كُلِّ شيءٍ قَديرٍ} (16 النحل آية 77).

وتتابع الآيات بيان صفات المؤمنين الَّذين يدَّخر الله لهم ما هو خير لهم من هذه الدنيا وأبقى، ويبدأ بصفة الإيمان: {للَّذين آمنوا}، وقيمة الإيمان أنه معرفة بالحقيقة الكبرى والذات الأولى، الَّتي لا تقوم في النفس البشرية معرفة صحيحة لشيء من حقائق الوجود إلا عن طريقها، فعن طريق الإيمان بالله ينشأ إدراك حقيقة هذا الوجود، وأنه مِنْ صُنْعِ الله. والإيمان حارس لأمانة الإنسان وعِفَّته وكرامته، به يملك نفسه أمام المطامع الجارفة والشَّهوات الجامحة، في الجلوة حيث يراه الناس، وفي الخلوة حيث لا يراه أحد إلا الله، وبه يقوى فلا يخاف إلا الله. ومن مقتضيات الإيمـان بالله التوكُّل عليه دون سواه، فالمؤمن يؤمن بالله وبصفاته، ويستيقن أنه لا يمكن لأحد في هذا الوجود أن يفعل شيئاً إلا بمشيئته، ومن ثمَّ يَقصِر توكُّله عليه.

والإيمان شجرة من ثمارها طهارة القلب، كما أن استقامة السلوك هي فرع من فروعها، وضرورة لازمة من ضرورات القيادة الرشيدة للنفس، فالقلب الطاهر النظيف الَّذي يكون على صفاء الإيمان ونقاوته، لا يميل إلى الذنوب بل يجتنبها، ولا يَصلُح قلبٌ قد فارقه صفاء الإيمان، وطَمستْه المعصية، وذهبت بنوره. والله يعلم ضعف هذا المخلوق البشري، لذلك جعل اجتناب كبائر الإثم والفواحش الحدَّ الَّذي إن وقف عنده نال وعد الله؛ والفواحش هي كلُّ ما ينكره الشرع والعقل والطبع السليم من قول أو عمل. وتشمل رحمةُ الله المؤمنَ بما يقع منه من الصغائر، فيمحوها له بما يأتي به من صالح الأعمال، لأنه أعلم بطاقته ودوافعه، ولا يخفى أن أثر البعد عن كبائر المعاصي والفواحش ينعكس على المجتمع الإنساني، فيبقى زكياً طاهراً نقياً.

ثم يأمرنا الله جلَّ وعلا أن نواجه المغضبات من الأمور، بالعفو عن فاعليها، والتسامح مع مثيريها، لتعلو المحبَّة فوق الأحقاد والضغائن، فيأتي الأمر الإلهي بالتسامح بعد الإشارة الخفيَّة إلى سماحة الله تعالى مع الإنسان، وتجعل صفة المؤمنين أنهم إذا ما غضبوا هم يغفرون. فالله سبحانه يعلم بوجود الغضب في الفطرة والطبيعة البشرية، فيُعْفِي الإنسان من الحيرة والتمزُّق بين مقتضيات فطرته وأمر دينه، ولكنَّه في الوقت ذاته يُرغِّبه بأن يتغلَّب على غضبه، وأن يعفو ويغفر، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قطُّ إلا أن تُنتهك حرمات الله. ثمَّ تعيدنا الآيات إلى الجانب الروحي والصلة المستمرِّة بالله، والاستجابة لما يحبُّه ويرضاه لنا، فالمؤمنون هم الَّذين يزيلون العوائق الَّتي يقيمها حبُّ الدنيا بينهم وبين ربِّهم، ولا يقوم بين النفس وربِّها إلا عوائق من ذاتها، عوائق من شهواتها ونزواتها، وتشبُّثها بذاتها، أمَّا حين تخلص من هذا كلِّه، فإنها تجد الطريق إلى بارئها مفتوحاً وموصولاً، وحينئذ تستجيب مسرعة بلا عائق.

ثم أخذ كتاب الله يفصِّل بعض صور هذه الاستجابة؛ فقال تعالى: {وأقاموا الصَّلاة} فللصلاة في هذا الدِّين مكانة عظمى، لأنها المرسِّخة والمؤكِّدة للقاعدة الأولى في الإسلام، وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمَّداً رسول الله، وهي الصلة بين العبد وربِّه، وهي ترسِّخ مبدأ المساواة بين العباد في الصف الواحد. ومن أشكال الاستجابة لله، الشورى، فالمؤمنون يتشاورون في الأمور كلِّها، ولا يتعجلون ولا يُبرمون أمراً من مهمات الدنيا والدِّين إلا بعد المشورة. وطابع الشورى مِنْ أَوْجَبِ صفات القيادة، والشكل الَّذي تتمُّ به الشورى ليس مصبوباً في قالب حديدي، بل هو متروك للصورة الملائمة لكلِّ بيئة وزمان، ذلك هو التطبيق العملي للاستجابة، يتجلَّى في التكاتف والتشاور والعمل بالرأي الأرشد، ولو كان القائل به أدناهم، وتوحيد الصفوف شكلاً ومضموناً. أخرج الخطيب من رواية مالك عن الإمام علي ـ كرَّم الله وجهه ـ قال: «قلت يارسول الله! الأمر ينزل بنا بعدك لم ينزل فيه قرآن، ولم يُسمع منك فيه شيء! قال: اجمعوا له العابد من أُمَّتي، واجعلوه بينكم شورى، ولا تقضوه برأي واحد». وأخرج البيهقي في شُعب الإيمان عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أراد أمراً فشاور فيه وقضى اهتدى لأرشد الأمور»، وأخرج عبد بن حميد والبخاري عن الحسن رضي الله عنه قال: (ما تشاور قوم إلا هُدوا وأُرشدوا أمرهم، ثمَّ تلا: {وأَمْرُهُم شُورى بينَهم}). والاستجابة لله تكون كذلك بالإنفاق في سبيله، والإحسان إلى خلقه، وقد كان الإنفاق توجيهاً مبكِّراً في حياة المجتمع المسلم، بل إنه وُلد مع مولده، ولابدَّ من الدعوة للإنفاق تطهيراً للقلب من الشح، وتشذيباً لحبِّ التملُّك، وثقة بما عند الله، وهذه كلُّها ضرورية لاستكمال معنى الإيمان.

والمؤمن ليس ضعيفاً ولا ذليلاً، فإذا بغى عليه عدو لا يستسلم لعدوانه، بل يثأر لنفسه وكرامته، وهذه الصفة تقرير لصفة أساسية من صفات المسلم، صفة الانتصار على البغي وعدم الخضوع للظلم، وهذا أمر طبيعي بالنسبة لأمَّة معتزَّة بالله. إذن فجزاء العدوان عدوان مثله من غير زيادة، ومع ذلك فقد ترك الله تعالى باب التسامح والعفو مفتوحاً، ليَلِج فيه من أُوتي قدراً أكبر من الحلم والصبر، والقدرة على العفو والمغفرة، والله يثيبه على ذلك أفضل الجزاء. أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قال موسى بن عمران عليه الصَّلاة والسَّلام: يا رب! من أعزُّ عبادك عندك؟ قال: مَنْ إذا قدر عفا». وبالمقابل فإن الله جلَّ وعلا يكره الظالمين الَّذين يبدؤون بالعدوان، ويتجاوزون الحد في الانتقام، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا كان يوم القيامة أمر الله منادياً ينادي ألا لِيَقُمْ مَنْ كان له على الله أجر، فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا».

والَّذي ينتصر بعد ظلمه، ويجزي السيئة بالسيئة، ولا يعتدي بتجاوز حدود ما أسيء إليه، فليس عليه من جُناح وهو يزاول حقَّه المشروع، إنما الَّذين يجب الوقوف في طريقهم والأخذ على أيديهم هم الَّذين يظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحقِّ، والله يتوعَّد الظالم الباغي بالعذاب الأليم. ثمَّ يكرر الدعوة إلى التوازن والاعتدال وضبط النفس والصبر والسماحة في الحالات الفردية، وعند المقدرة على الدفع، وحين يكون الصبر والسماحة استعلاءً لا استخزاءً، وتجمُّلاً لا تذَلُّلاً. إن مجموعة النصوص في هذه القضية تُصَوِّر الاعتدال والتوازن بين الاتجاهين، وتحرص على صيانة النفس من الحقد والغيظ، ومن الضعف والذل، ومن الجَور والبغي، وتعلُّقها بالله ورضاه في كلِّ حال، وتحْمِلها على الصبر الجميل، زادِ الرحلة الأصيل، لتكون رايات المجتمع خفَّاقة بالمحبَّة والتوادد والتواصل على الدوام.

سورة الزمر(39)

قال الله تعالى: {والَّذين اجْتَنبوا الطَّاغوتَ أن يعْبُدوها وأنابوا إلى الله لهمُ البُشْرى فبَشِّرْ عبادِ(17) الَّذين يستمعونَ القولَ فيتَّبِعونَ أحسنَهُ أولئك الَّذين هَداهُمُ الله وأولئك همْ أُولوا الألباب(18)}

ومضات:

ـ من استطاع أن يحطِّم أصنام الهوى ويجتثَّ جذورها من أعماقه، واتجه بصدق إلى حضرة الله، عاش حياة رغيدة بالإيمان والعلم والفلاح.

ـ من سمات المؤمن المتَّصل بالله تعالى نموُّ حسِّه الإيماني، فهو يُلقي بسمعه إلى طيِّب الكلام، ويطبِّق مفهومه ومضمونه أحسن التطبيق، وهو بذلك المهتدي بهداية الله، وصاحب البصيرة المستنيرة بحبِّ الله عزَّ وجل.

في رحاب الآيات:

القلب مركز العواطف والانفعالات والحس الروحي، وبأعماقه تضطرم المشاعر بين مدٍّ وجزرٍ، ولا بُدَّ للمؤمن الحقيقي من إخلاء ساحة قلبه من جميع الأغيار، والاتجاه به إلى الله الواحد القهار. فالقلب لا يمكن أن يبقى خالياً من تعلُّقات تشغله، وما أكثر ما يتعلَّق بأهواء ومتع مختلفة، ولكنَّه ما إن يتذوَّق حلاوة الصلة بالله، حتَّى تذوب التعلُّقات الدنيوية كافَّة وتتلاشى، ليصبح المرء منيباً محباً لله الواحد الأحد، ولتغمره ظلال السعادة والسرور والبشائر. والله تعالى يبشِّر الَّذين يحقِّقون هذه المعادلة، بالثواب العظيم على لسان رسله، لأنهم كما وصفهم يستمعون الكلام فيتَّبعون أحسن ما فيه، قال ابن عباس رضي الله عنه : (هو الرجل يستمع الحسن والقبيح، فيتحدث بالحسن، ويستنكف عن القبيح فلا يتحدث به)، وهذا ثناء من الله تعالى عليهم لنفاذ بصائرهم، وتمييزهم الأحسن من الكلام، فإذا سمعوه تبصَّروه وعملوا بما فيه.

وأحسن الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمَّد صلى الله عليه وسلم ، أخرج سعيد بن منصور عن الكلبي في قوله: {الَّذين يستمعونَ القولَ فيتَّبعون أحسنَهُ} قال: (لولا ثلاث يسرني أن أكون قد مِتُّ، لولا أن أضع جبيني لله، وأجالس قوماً يلتقطون طيِّب الكلام كما يلتقطون طيِّب الثمر، والسير في سبيل الله).إن أمثال هؤلاء تأتيهم البشارة من الملأ الأعلى، والرسول صلى الله عليه وسلم يبلِّغها لهم بأمر الله، فهي بشرى علوية يحملها إليهم رسول كريم، وهذه وحدها نعمة ونعيم! وهؤلاء المتصفون بتلك الصفات الجليلة، هم الَّذين هداهم الله ووفَّقهم لما يرضاه، وأولئك هم أُولو الألباب، لأن العقل السليم هو الَّذي يقود صاحبه إلى معرفة الله والتمسك بحبال النجاة.

والخلاصة: إن المؤمن المحبَّ لله تنمو عنده خاصيَّة التذوُّق، فلا يأكل إلا طيِّباً، ولا يسمع إلا طيِّباً، ولا يرى إلا طيِّباً، ولا يعمل إلا طيِّباً، وبهذا يرتفع إلى مستوى أولي الألباب الَّذين ينظرون بنور الله وينعمون برعايته وكنفه.

سورة الأحزاب(33)

قال الله تعالى: {إنَّ المسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ والقانتينَ والقانتاتِ والصَّادقينَ والصَّادقاتِ والصَّابرينَ والصَّابراتِ والخاشعينَ والخاشعاتِ والمتصدِّقينَ والمتصدِّقاتِ والصَّائمينَ والصَّائماتِ والحافظينَ فروجَهُم والحافظاتِ والذَّاكرينَ الله كثيراً والذَّاكراتِ أعدَّ الله لهم مَغفرةً وأجراً عظيماً(35)}

ومضات:

ـ عشر صفات تعبُّدية يشترك الرجل والمرأة على السواء في تحمُّل مسؤولياتها والتحلِّي بها، وبناء ركائز المجتمع الإسلامي على قواعدها. ولو طُبِّقَتْ كلُّها لوُجِد مجتمع طاهر نظيف، تتمنَّى شعوب الأرض كافَّة أن تترسَّم خطاه، لما فيه من أسس السعادة الدنيوية والأخروية.

في رحاب الآيات:

في العبادات يتساوى الرجل والمرأة، فلكلِّ مجتهد نصيب، والصفات الَّتي ذَكرتها الآية الكريمة هي جواهر النفس البشرية، بها تُشِعُّ نوراً، وبها تتزين وتتزكى، ولا نستطيع وضع أفضليات لهذه الصفات فهي متكاملة بعضها مع بعض، لكنَّ ركيزتها الأولى هي العبوديَّة المطلقة لله تعالى، والَّتي تعني الاستسلام له والتصديق بما جاء من عنده، والمبادرة العاجلة لفعل ما يطلب ونبذ ما ينهى عنه، والتقرُّب إليه بالتطوُّع زيادة عمَّا يطلب.

وأمَّا حَمَلةُ هذه النفوس الزكيَّة فهم المسلمون والمسلمات: أي المتمسكون بأوامر الإسلام، المتخلقون بأخلاقه. والمؤمنون والمؤمنات: وهم أصحاب اليقين في عبادتهم لله تعالى ومحبَّتهم لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم . والقانتون والقانتات: وهم العابدون الطائعون المداومون على الطاعة الناشئة عن التسليم لله والإيمان به، وعن رضا داخلي لا عن إكراه خارجي. والصادقون والصادقات: أي الصادقون في إيمانهم ونيَّاتهم وأقوالهم وأعمالهم، والصدق هو الصفة الَّتي يخرج من لا يتصف بها من صفوف الأمَّة المسلمة لقوله تعالى: {إنَّما يَفْتري الكذبَ الَّذين لا يُؤمنون بآياتِ الله وأُولئِك همُ الكاذِبون} (16 النحل آية 105) فالكاذب مطرود من الصف، صف هذه الأمَّة الصادقة.

والصابرون والصابرات: هم الصابرون على الطاعات وعن الشهوات وعند الشدائد، والصبر هو الصفة الَّتي لا يستطيع المسلم حمل عقيدته والقيام بتكاليفها إلا به، وهو يحتاج إليه في كلِّ خطوة من خطواته؛ الصبر عن شهوات النفس وعلى مشاق الدعوة، وعلى أذى الناس، والتواء النفوس وضعفها، وانحرافها وتلونها، وعلى الابتلاء والامتحان والفتنة، وعلى السرَّاء والضرَّاء.

والخاشعون والخاشعات: هم الخائفون من الله جلَّ وعلا، المتواضعون له بقلوبهم وجوارحهم، والخشوع صفة القلب والجوارح، الدالَّةُ على تأثر القلب بجلال الله، واستشعار هيبته وتقواه.

والمتصدِّقون والمتصدِّقات: هم الباذلون لأموالهم على الفقراء بالإحسان وأداء الزَّكاة، والتصدُّق هو دلالة التطهُّر من شحِّ النفس، والشعور بمرحمة الناس، والتكافل بين المسلمين، والوفاء بحقِّ المال.

والصَّائمون والصَّائمات: هم الَّذين يصومون شهر رمضان وغيره من الأيام، فالصَّوم زكاة القلب والبدن، يزكِّيهما ويطهِّرهما. والنصُّ يجعل الصوم صفة من صفات أهل المغفرة إشارة إلى التزامهم به بشكل منتظم ومطَّرد، فهو استعلاء على الضرورات وصبر عن الحاجات الأولية للحياة، وتقرير للإرادة، وتوكيد لتغلب الإنسان على أهوائه وشهواته.

والحافظون فروجهم والحافظات: وهم الَّذين يصونون غرائزهم عن الانحطاط والانحدار، ويحصِّنونها بسياج الزواج. إن حفظ الفرج وما فيه من تطهُّر، هو ضبط وتنظيم لأعنف ميل وأعمقه في تركيب كيان الإنسان، وسيطرة على الدفَّة الَّتي لا يسيطر عليها إلا تقي أدركه عون الله. وهذا دليل على إيمان المرء وتهذيبه لمشاعره وتصعيدها إلى مستوى رفيع يرضاه الله، وفي هذا كلِّه تنظيم للعلاقات بين الجنسين، واستهداف لما هو أرفع من فورة اللحم والدم في التقاء الرجل والمرأة. ولا شكَّ أن إخضاع هذا الالتقاء لشريعة الله، وللحكمة العليا من خلق الجنسين، هو مساهمة كبرى في عمارة الأرض وترقية الحياة مع الصحة والأمان وحفظ حقوق كلا الطرفين.

والذاكرون الله كثيراً والذاكرات: وهم الَّذين يداومون على ذكر الله بألسنتهم وقلوبهم، في الأوقات جميعها والأمكنة جميعها. وذكر الله هو حلقة الاتصال بين العمل والعقيدة، لأنه استشعار قلبي لله يلازم الذاكرَ في كلِّ لحظة، فلا ينفعل بخاطر ولا حركة تغضب الله، وهو إشراق القلب ببشاشة الذِّكر الَّذي يسكب فيه النور والحياة.

وهكذا فإن الَّذين تتجمع فيهم هذه الصفات المتعاونة في بناء الشخصية المسلمة المتكاملة، لهم أعظم الأجر والثواب عند الله وهو الجنَّة، بسبب ما قدَّموه من الأعمال الحسنة.

هذا هو درب المغفرة الإلهية ولا أحد يملكها إلا الله، وهذه هي ركائزها، إنه جهاد نفسي نحلِّي أنفسنا من خلاله بهذه الصفات الإنسانية الراقية. فالنفس البشرية لا يمكن أن تعيش في شيء اسمه الركود أو السُّبات، فإن لم يشغلها الإنسان بالخير شغلته بالشرِّ، وإن لم يكن مستسلماً لأوامر الله فهو مستهترٌ بالقيم الأخلاقية الفاضلة، الَّتي لا يمكنه اكتسابها إن لم يتعهَّد نفسه بالتربية والمجاهدة، لتصبح أهلاً للتحلِّي بالصفات الإنسانية السامية.

ولا يخفى أسلوب القرآن في رسم معالم شخصية المسلم الحقِّ الَّذي تتحقَّق فيه هذه الصفات، وتصبح مع الأيام صفة من صفاته وجزءاً لا يتجزأ من شخصيته. ومن كان كذلك فقد أضاء سراجه، ولا يمكن للسراج المضيء إلا أن ينشر النور والضياء على من حوله، حيث يسعدون بقربه ويترسَّمون الطريق المضيء الآمن الَّذي يسير عليه، وبذلك يكون سعيداً مسعداً، وهذه هي رسالة الإسلام دين الله الخالد، في تعميم السعادة الدنيوية والأخروية على كلِّ من ارتضوه منهجاً لهم في هذه الحياة.

سورة السجدة(32)

قال الله تعالى: {إنَّما يُؤمِنُ بآياتنا الَّذين إذا ذُكِّروا بها خَرُّوا سُجَّداً وسَبَّحوا بحمدِ ربِّهمْ وهم لا يستكبرون(15) تتجافى جُنوبُهُم عن المضاجعِ يدعونَ ربَّهم خَوفاً وطمعاً وممَّا رزقناهم يُنفقون(16) فلا تَعلمُ نفسٌ ما أُخْفِيَ لهم من قُرَّةِ أعينٍ جزاءً بما كانوا يعملون(17)}

ومضات:

ـ المؤمن الحقيقي هو الَّذي تسري عظمة الله في فؤاده، فيسجد جسده، ويخشع قلبه، وتتواضع نفسه.

ـ لا يجد المؤمن في فراشه طعم الراحة والسعادة، إن لم يجعل جزءاً من ليله لمناجاة ربِّه، والتضرُّع إليه طمعاً في القرب وخوفاً من القطيعة.

ـ الجوائز المعدَّة للمؤمنين ثمينة جداً، والمكافآت أكبر من أن يتصوَّرها عقل البشر، إكراماً لهم لحسن صنيعهم وصالح أعمالهم.

في رحاب الآيات:

قلب المؤمن روضة منيرة تضطرم فيها مشاعر الحبِّ والشوق لحضرة الله، وبركان يتفجَّر خشيةً منه وشوقاً إليه، ولا يشعر بالاطمئنان إلا بمزيد من الدعاء والتضرُّع؛ لباسه الخوف، وحافزه الأمل بعطاء الله، وهو على الرغم من ذلك كلِّه متواضع هيِّن ليِّن. والآيات هنا ترسم صورة هذا المؤمن موضِّحة علاقته بربِّه، وهي صورة وضيئة للأرواح المؤمنة، اللطيفة، الشفافة، الحساسة، المرتعشة من خشية ربِّها، المنتشية بتقواه، المتجهة إليه بالطاعة، المتطلعة إليه بالرجاء، من غير استعلاء ولا استكبار. هذه الأرواح هي الَّتي تؤمن بآيات الله، وتتلقاها بالحسِّ المرهف، والقلب المنوَّر، والضمير الحي، فإذا ما ذُكِّر أصحابها بآيات ربِّهم خرُّوا سُجَّداً، تأثُّراً بذكره، وتعظيماً للمذكور، وشعوراً بجلاله الَّذي يُقابَلُ بالسجود تعبيراً عن الإحساس بالتواضع المطلق بين يديه، كما أنهم ينزِّهونه في سجودهم عما لا يليق به؛ ممَّا يصفه به أهل الجهل من اتِّخاذ الزوجة والولد والشريك، يفعلون ذلك وهم لا يستكبرون عن طاعته، بل يستجيبون استجابة الطائع الخاشع، المنيب، الشاعر بجلال الله الكبير المتعال. ولئن انحنى الجسد وطأطأ الرأس، ولامس الجبينُ الأرضَ خضوعاً لله بُرهةً محددة من الزمن، فإن بقية الأعضاء والجوارح منقادة لأمر الله، فهي في سجود دائم بعيدة عن التمرد والتعالي على أمر الله.

والمؤمنون الموصوفون بالآية، هم الَّذين يقومون لصلاة الليل، ويتهجَّدون بالصَّلاة والدعاءلله. والقرآن يعبِّر عن هذا القيام بصورة حسِّية، فَيُقرِّب إلى أذهاننا صورة المضاجع في الليل، وهي تغريهم بالرُّقاد والراحة، والتلذذ بدفء الفراش، ولكنَّ أجسادهم لا تستجيب، بل تجتهد في مقاومة الإغراء، لأنها في شغل عنها بالوقوف بين يدي الله، والتوجُّه إليه في خشية وطمع، يتنازعها الخوف والرجاء، الخوف من عذابه، والرجاء في رحمته. وهم إلى جانب هذه الحساسية المرهفة، والصَّلاة الخاشعة، والدعاء الحار، يؤدُّون واجب الإنفاق طاعةً لله وزكاة لأموالهم.

وترافق هذه الصورة المشرقة صورة للثواب الرفيع الخاص، الفريد، الَّذي تتجلَّى فيه ظلال الرعاية الخاصَّة، والإعزاز الذاتي، والإكرام الإلهي، هذا الجزاء يُلخَّص في قول الله تعالى: {فلا تعلَمُ نفْسٌ ما أُخفيَ لهم من قُرَّةِ أعين جزاءً بما كانوا يعملون} وهو تعبير يوحي بحفاوة الله بهؤلاء القوم، وتولِّيه لهم وإعداد المُدَّخَرِ لهم عنده من الكرامة الَّتي تَقَرُّ بها العيون، وهذا المُدَّخر لا يطَّلع عليه أحد سواه، ويظل مستوراً عنده حتَّى يَكشِفَ عنه لأصحابه يوم لقائه. وإنها لصورة حبيبة لهذا اللقاء الفريد بين حضرة الله وعباده المؤمنين، أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تبارك وتعالى: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ذخراً بَلْهَ ما أطلعكم عليه، ثمَّ قرأ الرسول صلى الله عليه وسلم : {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}». قال أحد الصالحين: [المراد به النظر إلى الله تعالى]، وقيل أيضاً: [أخفى القوم أعمالاً، فأخفى الله ما لا عين رأت ولا أذن سمعت]. ومن ذلك يمكن أن ندرك أن علامَتي الإيمان الخضوع والتسبيح، وأن دافِعَيْه الخوف والرجاء، وأن ثمرتَيه الرضا والقرب.

سورة لقمان(31)

قال الله تعالى: {وإذ قال لقمانُ لابنهِ وهوَ يعِظُهُ يابُنَيَّ لا تُشْركْ بالله إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عظيمٌ(13) ووصَّينا الإنسانَ بوالديهِ حملَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ وفصالُهُ في عامين أن اشكرْ لي ولوالدَيْكَ إليَّ المصير(14) وإن جاهداكَ على أن تشْرِكَ بي ما ليس لك به علمٌ فلا تُطعْهُما وصاحِبْهُما في الدُّنيا مَعْروفاً واتَّبع سبيلَ من أنابَ إليَّ ثمَّ إليَّ مرجعُكُم فأُنبِّئُكُم بما كنتم تعملون(15) يابُنَيَّ إنَّها إن تَكُ مثقالَ حبَّةٍ من خردلٍ فتكن في صخرةٍ أو في السَّمواتِ أو في الأرضِ يأْتِ بها الله إنَّ الله لطيفٌ خبيرٌ(16) يابُنَيَّ أقمِ الصَّلاة وأْمُرْ بالمعروفِ وانْهَ عن المنكرِ واصبرْ على ما أصابَكَ إنَّ ذلك من عزمِ الأُمور(17) ولا تُصَعِّرْ خدَّكَ للنَّاسِ ولا تمشِ في الأرضِ مَرَحاً إنَّ الله لا يحبُّ كلَّ مختالٍ فخور(18) واقصِدْ في مشيكَ واغضُضْ من صوتِكَ إنَّ أنكرَ الأصواتِ لصوتُ الحمير(19)}

ومضات:

ـ كان لقمان رجل حكمة ورأي حصيف، أمضى حياته ينشر مبادئ الحكمة والعدل والإحسان في صفوف الناس، ونراه في هذه الآيات يعظ ابنه فلذة كبده، فيهدي إليه جملة من الوصايا الَّتي تتجلَّى فيها حقائق التَّقوى، وصفات المؤمنين.

ـ واجب كلُّ أبٍ أن يكون لقمان زمانه، ويفتح مدرسة تعليم لأولاده؛ قوامها الإيمان والتوحيد، وموادُّها حسن الصلة بالله، وحسن السلوك مع الناس.

في رحاب الآيات:

إنها عظة مُبرَّأةٌ من أي شكٍّ، فما يريد الوالد لولده سوى الخير، وما يكون الوالد إلا ناصحاً. فهذا لقمان الحكيم ينهى ابنه عن الشِّرك بالله، ويعلل هذا النهي بأن الشرك ظلمٌ عظيم، ولا يخفى أن النصيحة من الوالد لولده بعيدة عن كلِّ شبهة، لأنها الحقيقة المعلنة الَّتي تجري على لسان كلِّ من آتاه الله الحكمة من الناس، ولا يراد منها إلا الخير المحض، وهذا هو المؤثِّر النفسي المقصود. وهذه الحقيقة ذاتها هي الَّتي يعرضها محمَّد صلى الله عليه وسلم على قومه فيجادلونه فيها، ويرتابون في غرضه من وراء عرضها، ويخشون منه على سلطانهم وزعامتهم وما ورثوه من دين آبائهم وأجدادهم، وقد أثبت القرآن ذلك بقوله تعالى: {فقال الملأُ الَّذين كفروا من قومه ما هذا إلاَّ بشرٌ مثلُكم يُريد أن يتفَضَّل عليكم..} (23 المؤمنونآية 24) وقوله تعالى حكاية لقولهم: {أَجَعَلَ الآلهةَ إلهاً واحداً إنَّ هذا لشيءٌ عُجابٌ} (38 ص آية 5).

وفي ظلِّ نصيحة الأب لابنه، يتعرض القرآن الكريم للعلاقة بين الوالدين والأولاد في أسلوب رقيق، ويصوِّر هذه العلاقة بصورة مؤثِّرة جذَّابة، فيها رأفة ورحمة وحكمة. ولقد تكررت وصيَّة الولد بوالديه في القرآن الكريم في مواضع كثيرة، وكذلك في وصايا الرسول عليه السَّلام، بينما لم ترد وصيَّة الوالدين بالولد إلا قليلاً، لأن الفطرة تدفع الآباء إلى رعاية الجيل الناشئ، لضمان استمرار الحياة كما يريدها الله، وإن الوالدين ليبذلان لأولادهما من أجسامهما وأعصابهما وأعمارهما من غير تأفُّف ولا شكوى، ومن غير انتباه أو شعورٍ بما يبذلان، بل يعطيان في نشاط وسرور ولذَّة كأنهما هما اللذان يأخذان. فالفطرة الإلهية الَّتي فُطِرَ الناسُ عليها، وحدها كفيلة بتوصية الوالدين بالأولاد دون تنصيص عليها، أمَّا الولد فهو الَّذي يحتاج إلى الوصيَّة المتكررة، ليلتفت إلى الجيل المضحِّي المتَّجه نحو مغرب الحياة، بعد أن سكب عصارة روحه وأعصابه للجيل المتَّجه نحو مشرق الحياة، ولا يملك الابن أن يعوِّض الأبوين بعض ما بذلاه إلا برعايتهما وطاعتهما وحسن معاملتهما، وهاهي ذي آيات القرآن الكريم في قوله تعالى: {ووصَّينا الإنسان بوالديه حملَتْهُ أمُّهُ وهناً على وهنٍ وفصالُهُ في عامين} ترسم صورة تنبض بالحياة وتُجسِّد بذل الأم الَّذي يبرهن على نبلها وتضحيتها وعطائها، إنها تحتمل النصيب الأوفر، وتجود به في عطف أشد وأعمق وأحنى وأرفق. وفي ظلال تلك الصورة الحانية، يُرتِّب القرآن الواجبات على المكلَّفين فيجيء شكر الله أوَّلاً، ويتلوه شكر الوالدين، ويربط بين هذه الحقيقة وحقيقة الآخرة فيقول سبحانه: {إليَّ المصير} حيث ينفع رصيد الشكر المُدَّخر، وتتلاشى ذكريات الدنيا ومُتَعُها، وتصبح كسراب لا حقيقة له.

لكنَّ رابطة الـوالدين بولدهما ـ على هذه المكانـة من الكـرامة والرفعة ـ إنما تأتي في ترتيبهـا بعد وشيجة العقيدة، فمهما بذل والدان ضالاَّن من جهدٍ وجهادِ مغالبةٍ وإقناعٍ، ليغريا ولدهما بأن يشرك بالله، فلا إثم عليه في مخالفتهما، ويسقط عنه واجب الطاعة؛ لتعلو رابطة العقيدة على كلِّ رابطة، ومع ذلك فإن الاختلاف في العقيدة لا يُسقِطُ حقَّ الوالدين في المعاملة الطيِّبة والصحبة الكريمة، وإنَّ كفرهما بالله لا يستدعي ضياع المتاعب الَّتي تحمَّلاها في تربية الولد، بل إن عليه مصاحبتهما في أمور الدنيا، صحبة يرتضيها الله ويقتضيها الكرم والمروءة، بإطعامهما وكسوتهما وعدم مجافاتهما والعناية بهما، لاسيَّما في حالة المرض والشيخوخة. ذكر الصحابي سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (لما أسلمتُ حلفَتْ أُمِّي لا تأكل شيئاً ولا تشرب شيئاً حتَّى أعود عن إسلامي. فناشدتها أوَّل يوم فأبت وصبرَتْ، فلما كان اليوم الثاني ناشدتها فأبت، فلما كان اليوم الثالث ناشدتها فأبت، فقلت: والله لو كانت لك مائة نَفْسٍ فخرجت نَفْساً نَفْساً ما تركت ديني) ولما رأت هذا التصميم والثبات رضخت للأمر الواقع فأكلت.

وفي توجيهات الله وأوامره، هداية للإنسان ليسلك سبيل من رجع عن شِرْكِهِ، وأوى إلى رياض الإيمان بالعمل والإنابة، لأن مصير الخلق جميعاً بعد مماتهم إلى الله، حيث يخبرهم بما كانوا يعملون في الدنيا من خير أو شر، ثمَّ يجزيهم عليه، المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. ونستشف ذلك من وصيَّة لقمان لولده والَّتي تتحدَّث عن حقيقة الآخرة وما فيها من حساب دقيق، وجزاء عادل، ولكنَّ هذه الحقيقة لا تُعرَضُ هكذا مجرَّدة، إنما تُعرَضُ في المجال الكوني الفسيح، وفي صورة مؤثِّرة يرتعش لها القلب ويتأثر بها الوجدان، وهو يطالع علم الله الشامل الدقيق. إنها صورة معبِّرة عن دقَّة علم الله وشموليته، وعن قدرة الله سبحانه، ودقَّة الحساب وعدالة الميزان، وهي صورة حبَّة من خردل صغيرة منسية ضائعة، لا اعتبار لوزنها ولا قيمة، قد دُفنت في جوف صخرة صلبة فلا تظهر للعيان، ولا يتوصَّل إليها إنسان، أو انتثرت في آفاق السموات، الَّتي يبدو فيها النجم الكبير ذو الجرم العظيم نقطة سابحة أو ذرة تائهة، فإذا بعلم الله الواسع يدركها، وإذا بقدرته تحيط بها. ويظلُّ الخيال يلاحق حبَّة الخردل هذه في مكامنها العميقة السحيقة، ويتجلَّى علم الله الَّذي يتابعها، حتَّى يخشع القلب وينيب إلى اللطيف الخبير، وهذا يوحي بأن نورانية الله تعالى ألطف قوَّة في هذا الوجود، فهي تَعُمُّهُ وتظلِّله وتحصي كلَّ شيء فيه وجوداً وعدداً ونيَّةً وعملاً.

ويمضي السياق يقصُّ علينا قول لقمان لابنه وهو يعظه، فإذا هو يتابع معه خطوات العقيدة بعد استقرارها في الضمير ويقول لابنه: يابني أدِّ الصَّلاة كاملة على النحو المُرْضي، لما فيها من رضا الربِّ بالإقبال عليه والإخبات له، ولما فيها من النهي عن الفحشاء والمنكر، فإذا تَحقَّقْتَ بها صَفَتْ نفسك، وأنابت إلى بارئها في السرَّاء والضرَّاء. وبعد أن يأمره بأداء حقِّ الله عليه في العبادة، يعطف على ذلك أداء حقِّ الناس فيقول: {وأْمُرْ بالمعروف} أي وأمرْ غيرك بأداء ما تعارف عليه المؤمنون من الخير، وذلك بتهذيب النفس وتأديبها، تزكية لها وسعياً إلى الفلاح، {وانْهَ عن المنكر} أي: وانْهَ الناس عن معاصي الله ومحارمه الَّتي توبق من اكتسبها، وتلقي به في عذابَيْ الدنيا والآخرة. واصبر على ما أصابك من أذى الناس في ذات الله، إذا أنت أمرتهم بالمعروف ونهيتهم عن المنكر. وقد بدأ هذه الوصيَّة بالصَّلاة، وختمها بالصبر لأنهما عماد الدعوة والوصول إلى رضوان الله.

ويستطرد لقمان في وصيته لينتقل إلى أدب الداعية إلى الله، فالدعوة إلى الخير لا تجيز التعالي على الناس والتطاول عليهم باسم قيادتهم إلى الخير، ولا تجيز احتقارهم بسبب ارتكابهم للذنوب وعدم حصولهم على الرُقي الإيماني فوراً، فأنين العُصاة من ذنوبهم أحبُّ عند الله من تأوُّهات العاشقين؛ فها هو ينهاه عن تصعير خدِّه؛ والصَّعَرُ داء في العنق لا يُستطاع معه الالتفات، والأسلوب القرآني يختار هذا التعبير للتنفير من الحركة المشابهة للصَّعَر، وهي حركة الكِبْر وإمالة الخد للناس في تعالٍ واستكبار. وينهاه عن المشي في الأرض مَرَحاً، والمرح هو المشي في تخايُلٍ وقلَّة مبالاة بالناس، وهي حركة كريهة يمقتها الله لأنها توحي بأن صاحبها يعتقد أنه قد أصبح في مأمن من عذاب الله، أو أنه تجاوز مرحلة ارتكاب الأخطاء، وهذا هو الخطأ بعينه، وهي تعبير عن شعورٍ مريض يجسِّده في مشية الخُيَلاء: {إنَّ الله لا يحبُّ كلَّ مُختالٍ فخور}، ومع النهي عن مشية المرح، بيان للمشية المعتدلة القاصدة، والقصد هنا يعني عدم الإسراف، بل التوسُّط وعدم المغالاة في التبختر والتثنِّي والاختيال، واحترام الناس وصيانة مشاعرهم وكراماتهم. والمشية القاصدة إلى هدف كريم لا تتلكَّأ ولا تتخايل ولا تتبختر، إنما تمضي لقصدها في بساطة وتصميم وانطلاق. أمَّا الغضُّ من الصوت ففيه أدب وثقة بالنفس، واطمئنان إلى صدق الحديث وقوَّته، ولا يُغلظ في الخطاب إلا شاكٌّ في قيمة قوله أو قيمة شخصه، فيحاول أن يُخفي هذا الشكَّ بالحدَّة والغلظة. إن الأسلوب القرآني يزدري هذا الفعل ويقبِّحه في صورة منفِّرة محتَقرَة بشعة، حيث يعقِّب عليه بقوله: {إنَّ أنكرَ الأصواتِ لصوتُ الحمير} فيرتسم مشهد مضحك يدعو إلى الهزء والسخرية مع النفور والاشمئزاز، ولا يكاد ذو الحسِّ السليم يتصوَّر هذا المشهد المضحك من خلال التعبير المبدع، حتَّى يتبين قبح هذا الفعل!! وهذا تأديب من الله تعالى لعباده لترك الصياح في وجوه الناس، استهانة بهم واحتقاراً لأمرهم، وسعياً للهيمنة عليهم.

سورة الفرقان(25)

قال الله تعالى: {وعبادُ الرَّحمنِ الَّذين يَمشُونَ على الأرضِ هَوْناً وإذا خاطبَهُمُ الجاهلونَ قالوا سلاماً(63) والَّذين يبِيْتونَ لربِّهم سُجَّداً وقياماً(64) والَّذين يقولونَ ربَّنا اصْرِفْ عنَّا عذابَ جهنَّمَ إنَّ عذابَها كان غَراماً(65) إنَّها ساءَتْ مُستَقراً ومُقاماً(66) والَّذين إذا أنفقوا لم يُسْرِفوا ولم يَقْتُروا وكان بين ذلك قَواماً(67) والَّذين لا يدعونَ مع الله إلهاً آخرَ ولا يقتلونَ النَّفسَ الَّتي حرَّمَ الله إلاَّ بالحقِّ ولا يزْنونَ ومن يفعلْ ذلك يَلْقَ أثاماً(68) يُضاعَفْ له العذابُ يومَ القيامةِ ويخلُدْ فيه مُهاناً(69) إلاَّ من تابَ وآمنَ وعمِلَ عملاً صالحاً فأولئك يُبدِّلُ الله سيِّئاتِهِم حسناتٍ وكان الله غفوراً رحيماً(70) ومن تابَ وعمِلَ صالحاً فإنَّه يتوبُ إلى الله مَتاباً(71) والَّذين لا يشهَدونَ الزُّورَ وإذا مرُّوا باللَّغْوِ مرُّوا كراماً(72) والَّذين إذا ذُكِّروا بآياتِ ربِّهم لم يَخِرُّوا عليها صُمّاً وعُمياناً(73) والَّذين يقولون ربَّنا هبْ لنا من أزواجنا وذُرِّيَّاتنا قُرَّةَ أعينٍ واجعلنا للمتَّقينَ إماماً(74) أولئك يُجزونَ الغُرْفَةَ بما صبروا ويُلَقَّون فيها تحيَّةً وسلاماً(75) خالدين فيها حَسُنَتْ مُستقرّاً ومُقاماً(76) قلْ ما يعبؤ بكم ربِّي لولا دُعاؤكُم فقد كذَّبتُم فسوف يكونُ لِزاماً(77)}

ومضات:

ـ وصف الله تعالى المؤمنين بأنهم عباد الرحمن ولم يَدْعُهم بعباد الجـبَّار، لأن الرحمة هي أداة الجذب القوية، الَّتي تشدُّ أحاسيس الإنسان نحو خالقه بملء إرادته وكامل اختياره.

ـ العبد الحقيقي هو المتواضعُ في مشيه، فلا خُيَلاء ولا كِبْرياء، وهو الطيِّبُ في كلامه ولو جُهِلَ عليه، الكثيرُ القيام والسجود، سجوداً بقلبه وجسده، المعترف لله بعظمته وقدرته، القائم بصلاته على الشكل الصحيح قلباً وقالباً.

ـ وهو الخائف أبداً من عذاب الله، الخائف من نار جهنم وأُوارها، المستعيذ بالله من أن يحاسبه ويعاقبه، الراجي عفوه برحمته وكرمه.

ـ وهو المنفق بالقسط والعدل، ليس بالبخيل ولا بالمسرف المستهتر، وهو المحطِّم لآلهة الهوى والرغبات الشيطانية، فلا يتعدى على حرمات الله بل يقف عندها لا يتعداها، ولا يعتدي على أعراض الناس بل يَعِفُّ عنها ويصونها ويحميها.

ـ وهو البعيد عن شهادة الزور الآثمة الكاذبة، فلا يشهد إلا بما رأت عيناه من الحقِّ، وهو المُعرض عن مجالس لغو الكلام وباطله وكلِّ ما لا خير فيه.

ـ وهو الَّذي يفتح عيني قلبه لأنوار الله، وأُذُنَيْ روحه ليسمع نداءه؛ وكأنه يخاطبه مباشرة ويعنيه بشكل خاص بتعاليمه وأوامره.

ـ وهو الَّذي يؤسِّس الأسرة المؤمنة التقية، فيطلب الزوجة الورعة، ويرعى الأبناء البررة، ويسعى لأن يكون إمامهم بأعماله، والقدوة الصالحة لهم بأفعاله.

ـ لابدَّ من الصبر والمصابرة من أجل نيل هذه الجواهر من الصفات والتحلِّي بها، ليتأهَّل صاحبها لدخول أشرف مكان وأطهره وأجمله، ليدخل جنان الخلد برحمة من ربِّ العالمين.

في رحاب الآيات:

آيات مباركات تُشِعُّ بالنور الإلهي، هي جواهر تُرصِّع قلب المؤمن الصادق الصَّدوق، فإذا انطبعت مؤثراتها في سلوكه العملي غدا عبداً حقيقياً لحضرة الله، مشمولاً برحمته، جديراً بدخوله في زمرة عباد الرحمن، الَّذين ميَّزهم الله عن غيرهم بأوصاف وعلامات تبدو واضحة في كلٍّ منهم، فإذا أردنا تتبُّعها في أحدهم وجدناه متواضعاً في مشيته، فلا خُيَلاء ولا كِبرياء، ولا استعلاء ولا تصعير خد، فمشية المرء تعبِّر عن شخصيته، وعما يستكنُّ فيها من مشاعر. والنفس السويَّة المطمئنة تخلع صفاتها على مشية صاحبها، فيمشي مشية وقار وسكينة، وعزيمة وقوَّة. وليس معنى: {يمشونَ على الأرضِ هَوْناً} أنهم يمشون أذلاَّء منكِّسي الرؤوس، كما يفهم بعض الناس ممن يريدون إظهار التَّقوى والصلاح؛ ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، فقد كان أسرع الناس مشية وأحسنهم حركة وأسكنهم موطئاً، فعن الإمام علي بن أبي طالب ـ كرَّم الله وجهه ـ أنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى تكفَّأ تكفِّياً كأنما ينحطُّ من صبب» (أخرجه الحاكم في المستدرك، والبغوي في شرح السنَّة)، وهي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة. وقال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير هذه الآية: (هم المؤمنون الَّذين يمشون علماء حلماء ذوي وقار وعفَّة، فهم متواضعون بعيدون عن الصلف والكبر..).

وعباد الرحمن أيضاً هم الَّذين طاب كلامهم، وحسنت أخلاقهم وإن جُهِلَ عليهم، وهم في جَدِّهم ووقارهم وانصرافهم إلى ما يشغل نفوسهم من اهتمامات كبيرة، لا يلتفتون إلى صغائر الأمور، ولا يشغلون وقتهم الثمين بالجدال مع السفهاء والحمقى، ويترفَّعون عن المهاترة مع الطائشين، لا لضعف وعجز في أنفسهم، بل رُقِيّاً في درجات إيمانهم، وسموّاً بمكارم أخلاقهم، وصيانة لجهودهم من الإنفاق فيما لا ينفع، وحرصاً على أوقاتهم من الضياع فيما لا يليق بالرجل الكريم المشغول عن السفاسف بأكرم الأعمال وأنبل الأفعال. وإذا سَفِه عليهم السفهاء لم يقابلوهم بالمثل، بل تراهم يعفون ويصفحون، ولا يقولون إلا خيراً. جاء في الحديث الشريف: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنَّة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنَّة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنَّة لمن حَسَّن خُلقَه» (رواه أبو داود عن أبي أمامة الباهلي وإسناده صحيح)، وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: «أحبُّ عباد الله إلى الله أحسنهم خلقاً» (رواه الطبراني عن أسامة بن شريك).

وعباد الرحمن يكثرون السجود والقيام، يسجدون بقلوبهم مع جوارحهم، معترفين لله بعظمته وقدرته، ويقومون بصلاتهم على الشكل الصحيح قلباً وقالباً. والتعبير في الآية يقتصر على ذكر السجود والقيام من أفعال الصَّلاة لتصوير حركة عباد الرحمن في جوف الليل والناس نيام، وهم مشغولون عن النوم المريح اللذيذ، بما هو في المآل أشد راحة وأكثر متعة وسعادة. وإذا ما أخلد الناس إلى الأرض تراهم يتطلعون إلى عرش الرحمن، ذي الجلال والإكرام، وقد وصفهم الله تعالى في آيات أخرى من كتابه الكريم فقال: {تتجافى جُنوبُهُم عن المضاجِعِ يدعونَ ربَّهم خوفاً وطمعاً وممَّا رزقناهم ينفقون} (32 السجدة آية 16)، وقال في وصفهم وحثِّ الناس على محاكاتهم: {كانوا قليلاً من اللَّيلِ ما يهْجَعون * وبالأسحارِ هم يستغفرون} (51 الذاريات آية 17ـ18)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحطَّ عنك بها خطيئة» (رواه مسلم وأبو داود). وقيل: [من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار]. والَّذي يحول بين المرء وقيامه لصلاة الليل كثرة الاهتمام بأمور الدنيا وكثرة الانشغال بها، وإتعاب الجوارح، والامتلاء من الطعام، وكثرة الحديث واللغط، واللهو وإهمال القيلولة.

وعباد الرحمن هم الخائفون دائماً من عذاب الله، المشفقون من نار جهنم وشدة أُوارها، لذلك فهم يستعيذون بالله من أن يحاسبهم ويعاقبهم، ويرجونه أن يعفو عنهم برحمته وكرمه. وفي هذا مدح لهم ببيان أنهم مع حُسن معاملتهم للخلق، واجتهادهم في عبادة الخالق وحده لا شريك له يخافون عذابه، ويبتهلون إليه ولا يغترُّون بأعمالهم مهما حسنت كما وصفهم الله تعالى بقوله: {والَّذين يؤتونَ ما آتَوا وقلوبُهُم وَجِلَةٌ أنَّهم إلى ربِّهم راجعون} (23 المؤمنون آية 60)، ويرتعش نداؤهم ودعاؤهم وهم يتضرَّعون إلى ربِّهم خوفاً وفزعاً: {إنَّ عذابَها كان غَرَاما} أي ملازماً لا يتحوَّل عن صاحبه ولا يفارقه ولا يُقيله، وهذا ما يجعله مروِّعاً، مخيفاً، شنيعاً. وهل أسوأ من جهنم مكاناً يستقر فيه الإنسان ويقيم؟ وأين الاستقرار وهي النَّار، وأين المُقام وهو التقلُّب على لظاها دائماً وأبداً؟.

وعباد الرحمن ينفقون بالقسط والعدل دون إفراط ولا تفريط، وهذه سمة الإسلام الَّتي يحقِّقها في حياة الأفراد والجماعات، ويتَّجه إليها في التربية والتشريع، إذ إنه يقيم بناءه كلَّه على التوازن والاعتدال. ومع اعتراف الإسلام بالملكية الفردية، فليس المسلم حراً في إنفاق أمواله الخاصَّة بشكل عشوائي ومزاجي دون قيود، بل هو مُقيَّد بالتوسط بين الأمرين الممنوعين الإسراف والتقتير، فالإسراف مفسدة للنفس والمال والمجتمع، والتقتير حبس للمال عن انتفاع صاحبه به وانتفاع المجتمع من حوله. فالمال أداة اجتماعية لتحقيق خدمات اجتماعية، والإسلام وهو ينظِّم هذا الجانب من الحياة يبدأ به من الفرد نفسه، فيجعل الاعتدال سمة من سمات الإيمان: {والَّذين إذا أنفقوا لم يُسرفوا ولم يَقتروا وكان بين ذلك قَواما}، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن من السَّرف أن تأكل كُلَّ ما اشتهيت» (رواه ابن ماجه وابن مردويه والبيهقي عن أنس رضي الله عنه ).

ويتابع القرآن الكريم بيان صفات عباد الرحمن فيصفهم بالموحِّدين، لأن توحيد الله جلَّ وعلا هو أساس هذه العقيدة، ومفترق الطريق بين الوضوح والاستقامة في الاعتقاد، وبين الغموض والالتواء فيه، فالشرك بالله لا يقوم على أساسه نظام صالح للحياة. ومن صفات الموحِّدين عباد الرحمن الابتعاد عن قتل النفس الَّتي حرَّمها الله إلا بالحقِّ قصاصاً وعدلاً من قبل أولي الأمر، وهذا هو مفترق الطريق بين الحياة الاجتماعية الآمنة المطمئنة الَّتي تُحترم فيها الحياة الإنسانية، ويُقام لها وزن، وبين حياة الغابات والكهوف الَّتي لا يأمن فيها أحد على نفسه، ولا يطمئن إلى عمل أو بناء. كما أن عباد الرحمن يحذرون من الزنا، فلا يقعون فيه، وهذا الحذر هو أوَّل الطريق أمام الحياة النظيفة الَّتي يشعر فيها الإنسان بارتفاعه عن الحسِّ الحيواني البهيمي الساذج، ويحسُّ أن الالتقاء بالجنس الآخر هدف سام نبيل. فهو الخطوة الأولى على طريق بناء الخلية الاجتماعية الإنسانية الرفيعة، لذلك نرى الإسلام أحاط هذا اللقاء بكثير من الأحكام والآداب، الَّتي تكفل ارتقاءه إلى المستوى الإنساني الحضاري النبيل، بعيداً عن التبذُّل الوضيع والدناءة البهيمية. فمن أجل هذه الصفات الثلاث الَّتي تشكِّل مفترق الطريق بين الحياة النظيفة اللائقة بالإنسان الكريم على الله، وبين الحياة الرخيصة الهابطة إلى درك الحيوان، من أجل ذلك ذكرها الله عزَّ وجل في سِمَات عباد الرحمن أرفع الخلق عنده، وأكرمهم عليه، وقد لخَّصها النبي صلى الله عليه وسلم عند مبايعة الصحابة له بعد بيعة النساء بمكة بعد الفتح فقال: «لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تقتلوا النفس الَّتي حرَّم الله إلا بالحقِّ، ولا تزنوا، ولا تسرقوا» (أخرجه البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه )، وقد عقَّب الله تعالى بالتهديد الشديد لمن يقع في المخالفة؛ بأن له عذاباً ليس مضاعفاً فحسب، بل معه الإهانة والإذلال والإهمال من قِبَلِ الله تعالى وهذا أدهى وأمرّ.

لكنَّ باب الله مفتوح أمام عباده، ورحمته منشورة الظلال فوق رؤوس الجميع على السواء، فهو جلَّ وعلا، وإن توعَّدهم بالعقاب، فإنه في الوقت نفسه نشر فوقهم مظلة الرحمة، ليحتمي تحتها من أراد النجاة، بالتوبة والإيمان الصحيح والعمل الصالح. ويعِد التائبين العاملين المؤمنين أن يبدِّل سيئاتهم حسنات، وهو فيض من عطاء الله، ونفحة من نفحات الذات القدسية، لا مقابل لها من عمل العبد إلا كونه اهتدى ورجع عن الضلال، وتاب إلى الله، ولاذ بحِماه بعد الشرود والمتاهة، فما أقلَّ ما يقدِّمه العبد إلى مولاه، وما أنفس ما يقدِّمه الله إلى عبده! {وكان الله غفوراً رحيماً}، وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أَتْبِعِ السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» (رواه الطبراني والترمذي مرفوعاً، وقال حسن صحيح).

ثم يضع الله تعالى قاعدة التوبة وشرطها: فالتوبة تبدأ بالندم والإقلاع عن المعصية، وتنتهي بالعمل الصالح الَّذي يُثْبِتُ صدق التوبة، وينشئ التعويض الإيجابي في النفس. فالمعصية عمل وحركة، يجب مقاومتها بعمل مضادٍّ وحركة مغايرة، وإلا حنَّت النفس إلى الخطيئة، وهذه قفزة نوعية في منهج التربية القرآني تقوم على خبرة عميقة بالنفس الإنسانية، ومَن أَخْبَرُ من الخالق سبحانه وتعالى بما خلق؟.

وعباد الرحمن لا يشهدون الزور، والزور قد يراد به المعنى القريب وهو شهادة الزور، لما في ذلك من تضييع للحقوق، وإعانة على الظلم، وقد يراد به المعنى البعيد وهو الفرار من الحضور في مجلس أو مجال يقع فيه قول الزور أو فعله بكلِّ صنوفه وأشكاله، ترفُّعاً منهم عن شهود مثل هذه المجالس والمجالات. جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أُنَبِّئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً؟ قلنا: بلى يارسول الله، قال: الشرك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور». وهم لا يشهدون مجالس اللغو والهذر، فالعمر أمانة في أيديهم، وهم يربؤون بأنفسهم عن أن يضيِّعوا الأمانة الَّتي استودعها الله عندهم إلا بعمل جادٍّ وقول نافع، ولهم من عقيدتهم ومن دعوتهم وتكاليفها ما يجعلهم في شغل شاغل عن سماع ما لا خير فيه.

وعباد الرحمن يفتحون أعينهم وبصائرهم لأنوار الله، ويفتحون آذان أرواحهم لتسمع نداء الله، ويدركون بعمق ووعي أن الله يخاطبهم مباشرة ويعنيهم بشكل خاص بتعاليمه وأوامره. وفي التعبير تعريض بالمشركين الَّذين يَنْكبُّون على آلهتهم وعقائدهم كالصُّم والعميان، لا يسمعون ولا يبصرون، وإذا سمعوا فإنه السمع الَّذي يؤدي إلى الجدل العقيم. إن حركة الانكباب على الوجوه حركةٌ تُصوِّر الغفلة والتعصُّب الأعمى، أمَّا عباد الرحمن فهم يدركون ما في عقيدتهم من حقٍّ، وما في آيات الله من صدق، فيؤمنون إيماناً واعياً بصيراً، لا تعصُّباً أعمى، فإذا ما تحمسوا لعقيدتهم فإنما هي حماسة العارف المدرك البصير.

وعباد الرحمن هم الَّذين أدركوا أن الأسرة الصالحة هى الأسرة المترابطة فيما بينها، وليس ثمَّة رابطة تصهر أفراد الأسرة في بوتقة واحدة مثل رابطة الإيمان. فرابطة الدم أو المال أو التعايش أو تبادل المصالح لا يمكن أن تخلق مشاركة وجدانية أو تنشر جواً متجانساً بين أفراد الأسرة، لأنها رابطة هشَّة تتفكك وتنهار بمجرد زوال سبب وجودها، ولكنَّ رابطة الإيمان هي الَّتي تلمُّ شعث القلوب وتجعلها تدور حول محور واحد هو الإيمان بالله، وطالما أن المحور موجود فالعناصر موجودة ومشدودة إليه. وبعد أن أدركوا هذا السر العميق في شروط تكوين الأسرة الصالحة، توجَّهوا إلى ربِّهم بالدعاء لكي يجعل لهم من أزواجهم وذريَّاتهم من ينهج سبيلهم، ويتابع مسيرتهم في حياتهم وبعد موتهم، وليس أقرَّ للعين وأهنأ للقلب من أن يرى الإنسان فلذات كبده قرآناً حياً يتحرَّك أمامه، يقتبسون من نوره، ويظهر جمال تربيته وكمال منهجه من خلال أعمالهم وتصرفاتهم، ويعمُّ النور الأسرة والبيت، ويخترق الجدران ليعمَّ الحيَّ والشارع والمجتمع كلَّه. ولابدَّ من الصبر والمصابرة لنيل هذه الجواهر النفيسة والتحلِّي بها، ليتأهَّل صاحبها لدخول أشرف مكان وأطهره وأجمله؛ إلى جنان الخلد برحمة من ربِّ العالمين، خالداً فيها أبداً، فما أحسن هذا المقر، وما أطيب هذا المنزل لمن اتقى الله حقَّ تقاته.

وتأتي خاتمة الآيات مناسبة لموضوع السورة كلِّها للتسرية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزيته عما يلاقي من عناد قومه وجحودهم، وهم يعرفون صدقه، ولكنَّهم في سبيل الإبقاء على باطلهم يعاندون ويُصرُّون، فَمَنْ هؤلاء القوم؟ ومَنْ هذه البشرية كلُّها في ملكوت الله؟ ولِمَ يعبأ الله تعالى بهم لولا القلَّة المؤمنة الَّتي تدعوه وتتضرع إليه؟؟ من هم؟ وما الأرض الَّتي تضم البشر جميعاً؟ إن هي إلا ذرة صغيرة في فضاء الكون الهائل الفسيح، والبشرية كلُّها هي أحد أنواع الأحياء الكثيرة على وجه الأرض، والأمَّة الواحدة من أمم الأرض، والجيل الواحد إن هو إلا صفحة من كتاب ضخم لا يعلم عدد صفحاته إلا الله؟. إن الله جلَّ وعلا لا يبالي ولا يكترث بنا إن لم نعبده، فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه ويوحِّدوه ويسبِّحوه بُكرة وأصيلاً ليكافئهم أحسن المكافأة. جاء في الأثر: يقول الله تعالى: [خلقت الخلق ليربحوا عليَّ لا لأربح عليهم].

وصفوة القول: إن عباد الرحمن هم الَّذين تمسَّكوا بأهداب الصبر في جميع مراحل حياتهم، فإن لاحت لهم معصية تجلَّدوا أمامها، فنجوا، وإن تمرَّدت نفوسهم على فعل الخير صبروا على فعله فغنموا، فهم جنود الصبر الَّذين تُرفع لهم الرايات، يتناصحون ويتباذلون ويمشون بنور الله في الناس رويدا في خفية، يسلمون من الناس ويسلم الناس منهم بصبرهم وحلمهم، قلوبهم بذكر الله تطمئن ومساجدهم بصلاتهم يعمرون، يرحمون صغيرهم ويُجِلُّون كبيرهم ويتواسون بينهم، يعود غنيُّهم على فقيرهم بعطائه، يعودون مرضاهم ويشيِّعون جنائزهم، أولئك تُفتَّح لهم الأبواب، ليدخلوا رحاب الله الآمنة خالدين فيها أبداً.

سورة المؤمنون(23)

قال الله تعالى: {قد أفْلَحَ المؤمنون(1) الَّذين هُم في صلاتِهِم خاشعون(2) والَّذين هُم عن اللَّغْوِ مُعرِضون(3) والَّذين هُم للزَّكاةِ فاعلون(4) والَّذين هُم لفروجِهِم حافظون(5) إلاَّ على أزواجِهِم أو ما مَلَكَتْ أَيمانُهُم فإنَّهم غيرُ ملومين(6) فمن ابتغى وراءَ ذلك فأولئك هُمُ العَادون(7) والَّذين هُم لأماناتِهِم وعهدِهِم راعون(8) والَّذين هُم على صلواتِهِم يحافِظون(9) أولئك هُمُ الوارثون(10) الَّذين يرثونَ الفِردوسَ هُم فيها خالدون(11)}

ومضات:

ـ إذا قمنا بدراسة نموذج لمجتمع إسلامي، فعلينا مراجعة مدى تطبيق أفراده لتعاليم الإسلام الناظمة للأخلاق والعبادات والمعاملات بشكل واضح لا لبس فيه، لِنَفْصِلَ بين جوهر الإسلام الحقيقي وبين ممارسات بعض المسلمين الخاطئة المخالفة له.

ـ إذا التزم المجتمع المؤمن بتأسيس القواعد الإسلامية أصبح مؤَهَّلاً لوراثة خيري الدنيا والآخرة.

في رحاب الآيات:

إن الوصول إلى حقيقة الإيمان، والتحلِّي بلباس التَّقوى، ليس أمراً صعباً، فكلُّ ما يلزمنا هو اتخاذ القرار الصادق للسير في طريق الأهداف السامية والمعاني الطيِّبة، والتمسُّك بالإرادة المتينة لتنفيذ التعليمات الإلهية المسعدة للإنسان الفرد والإنسان المجتمع.

والآيات الكريمة تقرر أنَّ الفَلاَح من نصيب المؤمنين الحقيقيين ـ الَّذين يقيمونها قولاً وعملاً ولا يكتفون بقراءتـها وتجويدها ـ وتبيِّن صفاتهم، وقد روى الإمام أحمد عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قال: «كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي يُسمَعُ عند وجهه دويٌّ كدويِّ النحل، فلبثنا ساعة، فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال: اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تُهِنَّا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارضَ عنا وأرضنا، ثمَّ قال: لقد أُنزِل عليَّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنَّة ثمَّ قرأ: {قد أفْلَحَ المؤمنون...} حتَّى ختم العشر».

إنه الوعد الصادق، بل القرار الأكيد بفلاح المؤمنين، في الدنيا والآخرة، فرادى وجماعات، الفلاح الَّذي يُحسُّه المؤمن بقلبه ويجد مصداقيته في واقع حياته، والَّذي يشمل ما يعرفه الناس من معاني الفلاح وما لا يعرفونه ممَّا يدَّخره الله لعباده المؤمنين الَّذين تستشعر قلوبهم رهبة الموقف في الصَّلاة بين يدي الله فتسكن وتخشع، فيسري الخشوع منها إلى الجوارح والملامح والحركات، ويغشى أرواحهم جلال الله وهم في حضرته، فتختفي من أذهانهم جميع الشواغل، ولا تشتغل بسواه، وهم مستغرقون في الشعور بعظمته، مأخوذون بنجواه، يتوارى عن حسِّهم في تلك الحضرة القدسية الشعور بشيء من خاصَّتهم أو ممَّا حولهم، فلا يشهدون إلا أنوار الله، ولا يُحسُّون إلا إيَّاه، ولا يتذوَّقون إلا لذَّة الوصال معه، ويتطهَّر وجدانهم من كلِّ دنس، وينفضون عنهم كلَّ شائبة، عندئذ تتضاءل القيم والأشياء والأشخاص إلا ما يتصل منها بالله جلَّ وعلا.

والمؤمنون هم الَّذين يُعرضون عن اللغو، لغو القول ولغو الفعل، ولغو الاهتمام والشعور، فإن للقلب المؤمن ما يشغله عن اللهو والهذر؛ من ذكر الله واستحضار جلاله، وتدبُّر آياته في الأنفس والآفاق، وله ما يشغله من تكاليف العقيدة؛ تكاليفها في تطهير القلب وتزكية النفس، وتنقية الضمير، وتكاليفها في السلوك ومحاولة الثبات على المرتقى العالي الَّذي يتطلَّبه الإيمان، وتكاليفها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصيانة حياة المجتمع من الفساد والانحراف؛ وهي تكاليف لا تنتهي، ولا يغفل عنها المؤمن، وفيها الكفاية لاستغراق الجهد البشري والعمر البشري. إن الطاقة البشرية محدودة وهي إمَّا أن تُنفق في هذا الَّذي يُصلح الحياة وينميها ويرقيها، وإمَّا أن تُنفق في الهذر واللهو واللغو؛ والمؤمن مدفوع بحكم عقيدته إلى إنفاقها في البناء والتعمير والإصلاح، ولا يعني هذا أن لا يروِّح عن نفسه بما يُدخل عليها السرور والمرح دون إسفاف أو ابتذال.

والمؤمنون هم الَّذين يؤدُّون زكاة أموالهم للفقراء والمساكين، الزكاة الَّتي هي طهارة القلب والمال، وتأمين اجتماعي للأفراد جميعاً، وضمان اجتماعي للعاجزين، ووقاية للمجتمع كلِّه من التفكك والانحلال، قال تعالى: {خُذْ من أموالِهِم صدَقةً تُطهِّرُهُم وتُزَكِّيهم بها..} (9 التوبة آية 103) وليس المراد إعطاء المال والقلب متعلِّق به، وإنما المراد إزالة حبِّ الدنيا من القلب، ليصبح طاهراً زكياً منوَّراً بنور الإيمان ونور محبَّة الله الخالصة.

وإذا كانت الزكاة طهارة للمال والنفس من أدران الشح، فإن هناك طهارة للنفس والأسرة والمجتمع وهي حفظ الفرُوج، وحفظ النفوس من التطلع إلى غير الحلال، وحفظ الأفراد من انطلاق الشهوات بينهم بغير حساب، وحماية للبيوت من الفساد وضياع الأنساب. ولا يخفى أن الأُمَّة الَّتي تنطلق فيها الشهوة بغير حدود، هي أُمَّة معرَّضة للهبوط عن مستوى الأمم الكريمة، وشيوع الخلل والفساد في حياتها، لأنه لا أمن فيها للبيت، ولا حرمة فيها للأسرة. فالبيت المصون هو الوحدة الأولى في بناء المجتمع الفاضل، إذ هو الحاضنة الَّتي تنشأ فيها الطفولة الصحيحة السعيدة، ولابدَّ له من الأمن والاستقرار والطهارة ليصلح لهذه الغاية، وليعيش فيه الوالدان مطمئنين وهما يرعيان ذلك العشَّ الدافئ. فالمقياس السليم للارتقاء البشري هو تحكُّم الإرادة الإنسانية وغلبتها، وتنظيم الدوافع الفطرية في صورة مثمرة نظيفة، لا يخجل الأطفال معها من الطريقة الَّتي جاؤوا بها إلى هذا العالم، لأنها طريقة مشروعة بشِرْعة خالق الكون، يَعرفُ فيها كلُّ طفل أباه وأقاربه وإخوته وأخواته وسائر أرحامه.

والقرآن يحدِّد المواضع الطَّاهرة الصالحة الَّتي يحِلُّ للرجل أن يودعها بذور الحياة: {والَّذين هم لفروجهم حافظون إلاَّ على أزواجِهِم أو ما مَلَكَتْ أيمانُهُم فإنَّهم غيرُ ملومين}، ومسألة الزواج لا تثير شبهة ولا تستدعي جدلاً، فهي النظام المشروع المعروف. أمَّا مسألة مِلْكِ اليمين فقد تتطلب شيئاً من البيان، فقد جاء الإسلام حين كان الرِّق على أَشُدِّه بين الأمم، وكان استرقاق أسرى الحرب نظاماً دولياً، فلم يكن بالإمكان ـ والإسلام مشـتبك في حروب مع أعدائه الواقفين في طريقه بالقوَّة المادِّية ـ أن يلغي هذا النظام من جانب واحد، فيصبح أسارى المسلمين أرقَّاء عند أعدائهم، بينما هو يحرِّر أسارى الأعداء، ولكنَّه جفَّف كلَّ منابع الرِّق ـ عدا أسرى الحرب ـ إلى أن يتاح للبشرية وضع نظام دولي للتعامل بالمثل في مسألة الأسرى. ومن هنا كان يجيء إلى المعسكر الإسلامي أسيرات، وتقضي قاعدة التعامل بالمثل باسترقاقهن، ومن مقتضيات هذا الاسترقاق ألا يرتفعن إلى مستوى الزوجات بالنكاح، فأباح الإسلام الاستمتاع بهن لمن يملكهن خاصَّة، إلا أن يتحرَّرن لسبب من الأسباب الكثيرة الَّتي جعلها الإسلام سبلاً لتحرير الرقيق. ويلاحظ في هذا الاستمتاع تلبية الحاجة الفطرية للأسيرات أنفسهن، كي لا يشبعنها عن طريق الفوضى في المخالطة الجنسية، وذلك حتَّى يأذن الله تعالى فيرتفعن إلى مرتبة الحرِّية. والأَمَةُ تصل إلى مرتبة الحرَّة بوسائل كثيرة منها: إذا ولدت لسيِّدها ثمَّ مات عنها، فإنها تصبح حرَّة، أو إذا أعتقها تطوُّعاً أو بسبب كفَّارة وجبت عليه، أو إذا طلبت أن تكاتبه على مبلغ من المال فافتدت به رقبتها، أو إذا ضربها على وجهها فكفَّارته عتقها. وعلى أيَّة حال كان الاسترقاق في الحرب ضرورة مؤقتة، ولم يكن جزءاً من النظام الاجتماعي في الإسلام. ومن ناحية أخرى نرى أن الإسلام جعل الرق مناسبة لإظهار جمال الإسلام وكمال تشريعه وإنسانية معاملته، وذلك عندما يدخل الرقيق بيت المسلم فيحسن معاملته، ويطعمه على مائدته مـمَّا يأكل، ويلبسه ممَّا يلبس، وإلى غير ذلك من إبراز محاسن الإسلام، والَّتي تغري هذا الرقيق أن يدخل مدرسة الثقافة السماوية؛ الَّتي ترتقي بالإنسان إلى أعلى المستويات الإنسانية، ويؤكِّد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه ممَّا يأكل ولْيُلبسه ممَّا يلبس ولا تكلِّفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم» (أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد عن أبي ذر رضي الله عنه ). وهكذا نرى كيف عمل الإسلام على الحدِّ من الاسترقاق، ومن ثمَّ إلى التخفيف منه، حتَّى تهيأت الظروف الدولية للخلاص منه بشكل نهائي، حيث تمَّ إعلان إلغاء الرقِّ في العالم كلِّه. وهذا يعني إجماع الأُمَّة المسلمة على إلغاء الرقِّ، إضافة للعالم أجمع، ممَّا يجعل لهذا الإلغاء الصفة الشرعية الـمُلزمة، لذا لا يحقُّ لأي مسلم كان، أن يخترقه أو يتحايل عليه بأي صفة كانت؛ كما يحدث في بعض الدول العربية، حيث يُحضر بعض أفرادها الفتيات من بلاد شرقي آسية، ويعدُّونهن رقيقات، حيث يبيحون لأنفسهم الاستمتاع الجنسي بهن، وهذا حرامٌ محض، شاؤوا أم أبوا.

لذلك فكلُّ من ابتغى غير الدائرة المباحة، ووقع في المحرَّمات، واعتدى على الأعراض، فهو مُفسِدٌ للنفس، لشعورها أنها ترعى في كلأ غير مباح، ومُفْسِدٌ للبيت، لأنه لا ضمان له ولا اطمئنان، ومُفسِدٌ للأُمَّة، لأن ذئابها تنطلق فتنهش هنا وهناك، وهذا هو الَّذي يخشاه الإسلام ويعمل على الوقاية منه.

والمؤمنون هم الَّذين يرعون الأمانة ويحفظون العهد، أفراداً وجماعات. والأمانات كثيرة في عنق الفرد وفي عنق المجتمع، وفي طليعتها أمانة الفطرة، الَّتي وضعها الله مستقيمة متناسقة مع ناموس الوجود الَّذي هو منه وإليه، شاهدة بوجود الخالق ووحدانيته، والمؤمنون يرعون تلك الأمانة الكبرى فلا يدعون فطرتهم تنحرف عن استقامتها فتظل قائمة بأمانتها. ثمَّ تأتي الأمانات جميعها تبعاً لهذه الأمانة الكبرى، وقيل في ذلك: [والظاهر عموم الأمانات فيدخل فيها ما اؤتمن عليه العبد من قبل الله تعالى من قول وفعل واعتقاد، وما اؤتمن عليه من قبل الإنسان من الودائع والأمانات].

وبعد أن تلخِّص الآيات صفات المؤمنين، تعود مرة أخرى لتؤكِّد أنهم المصلُّون الحقيقيون، فهم يحافظون على صلواتهم فلا يُفَوِّتونها كسلاً، ولا يقصِّرون في إقامتها كما ينبغي أن تُقام، إنما يُؤَدُّونها في أوقاتها كاملة الفرائض مع السنن، مستوفية الأركان والآداب، حيث يستغرق فيها القلب، وينفعل معها الوجدان. وطالما أن الصَّلاة صلة بين المخلوق والخالق، فإنه لا يُنتظر ممن لا يحافظ عليها أن يحافظ على صلة طيِّبة فيما بينه وبين الناس، صلة محافظة حقيقية مبعثها صدق الضمير. ولقد بدأت صفات المؤمنين بالصَّلاة وضرورة الخشوع فيها، وختمت بالصَّلاة وضرورة المحافظة عليها، للدلالة على عظيم مكانتها في بناء الإيمان، بوصفها أكمل صورة من صور العبادة والتوجه إلى الله. ومَنْ تحقَّقت فيهم هذه الشروط جميعها هم الفائزون، وهم الوارثون لجنَّة الفردوس، وهم خالدون فيها لا يبغون عنها حِوَلا، مصداقاً لقوله تعالى: {تلكَ الجنَّة الَّتي نُورِثُ مِن عِبادنا من كان تقيّاً} (19 مريم آية 63).

سورة التوبة(9)

قال الله تعالى: {والمؤمنونَ والمؤمناتُ بعضُهُم أَولياءُ بعضٍ يأمرونَ بالمعروفِ وَينْهَونَ عن المنكرِ ويُقيمونَ الصَّلاة ويُؤتونَ الزَّكاةَ ويُطيعونَ الله ورسولَهُ أولئك سيرحَمُهُم الله إنَّ الله عزيزٌ حكيم(71)}

ومضات:

ـ إن طبيعة الإيمان الخيِّرة تنعكس على الأمَّة لتزرع الوحدة والتكافل والتضامن بين أفرادها إلى أن تصبح صفاً واحداً.

ـ المؤمنون بعضهم أولياء بعض يتَّحدون بهذه الولاية، فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بقوَّة وصلابة.

ـ الصَّلاة تربط المؤمنين بالله وتقوِّي الشعور بالاطمئنان بين المصلِّين، والزكاة علاقة تفاعل تشملهم جميعاً، ومن خلالهما تنعكس الصورة المادِّية والروحية للإيمان.

ـ منهج المؤمنين الواحد يحدِّد غاياتهم ويوحِّدها، فلا تتفرَّق بهم السبل عن الطريق القويم.

ـ رحمة الله تعالى وسعت كلَّ شيء، وهي تظهر في اطمئنان القلب بالله وفي توافر الراحة النفسية، وفي رعايته تعالى لصلاح المؤمنين وتعاونهم وتضامنهم.

ـ إن في امتثال أوامر الله إعزازاً للفئة الممتثلة، حيث يكون بعضهم أولياء بعض في النهوض بالتكاليف، وهو الحكيم في تقدير الأمور وتقييم نتائجها.

في رحاب الآيات:

إنَّ من أهل الإيمان فريقاً بلغ بهم حبُّ الله تعالى إلى درجة العشق والفناء، تراهم دائبين عاكفين على تنقية نفوسهم وتهذيبها، بل السموِّ بها والارتقاء صُعُداً في درجات الكمال، متعاونين متكاتفين في بناء صرح المجتمع المتماسك المتين، التقت قلوبهم على حبِّ الخالق، وتشابكت أيديهم لتنهض بأعباء المجتمع. إنهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى، نفوسهم راقية، وعقولهم منوَّرة، وقلوبهم مشرقة مضيئة ليس فيها غلٌّ لأحد، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لأنهم يحبُّون الخير لجماله لا من أجل منفعة دنيوية، ويكرهون الشرَّ لقبحه، ولأنه مخالف لطبعهم النقي، وفطرتهم الصافية، ودينهم القويم. ذلك لأن الإسلام يحرص كثيراً على انتشار المعروف وشيوعه بين الناس، والأمرُ به يعني بالضرورة النهي عن المنكر، وكثيراً ما دعت الآيات الكريمة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن المعروف قرينٌ للخير، وأحد عناصر الفلاح والفوز، قال سبحانه وتعالى: {ولْتَكُنْ منكم أمَّةٌ يدعونَ إلى الخيرِ ويأمُرونَ بالمعروفِ وينهَونَ عن المنكرِ وأولئك هم المفلحون} (3 آل عمران آية 104).

والمعروف: هو كلُّ ما كان معروفاً حُسنهُ من قِبَلِ الناس، بالعقل الرشيد أو الشرع الحنيف، من المُثُل العليا ومكارم الأخلاق، في عاداتهم ومعاملاتهم، وهو يشمل كلَّ ما ندب الله إليه من البرِّ والخير والعمل الصالح، فطاعة الله معروف، وممارسة الفضائل معروف، وكذلـك الإخلاص في العمل والـنِّـيَّة الطَّـيِّبة، والإحسـان إلى الناس، وبرُّ ذوي القربى، والقول الجميل، وكلُّ عمل ينهض بالفرد ويرقى بالجماعة فهو معروف، ولا ريب أن القلوب السليمة تهتدي إليه، وتشعر به، وقلَّما تحتاج إلى من يبصِّرها به، إذ أنه مرادف للخير، والخير هو الكمال الَّذي تنشده الإنسانية وتسعد به. عن وابصة بن معبد رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «جئتَ تسأل عن البِرِّ؟ قلت نعم. فقال: استفت قلبك، البِرُّ ما اطمأنَّت إليه النفس واطمأنَّ إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردَّد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتَوْك» (رواه الإمام أحمد والدارمي بإسناد حسن). وينبغي أن يكون الأمر بالمعروف سرّاً إن أمكن لتكون الفائدة منه أبلغ، وقد قيل: [من نصح أخاه سرّاً فقد زانه ومن نصحه جهراً فقد شانه]، لذلك يحتاج الآمر به إلى عدَّة مزايا لينجح في مهمته وعلى رأسها: العلم والتَّقوى، وأن يكون قصده وجه الله تعالى ورفعة شأن الدِّين، وعليه أن يكون ودوداً، لا فَظّاً ولا غليظاً، وأن يكون صبوراً حليماً، وعاملاً بما يأمر به لئلا يكون ممن خاطبهم الله تعالى بقوله: {أتأمرونَ النَّاسَ بالبِرِّ وتنسَوْنَ أنفسَكُم وأَنتم تَتْلُون الكِتابَ أفلا تَعقِلون} (2 البقرة آية 44).

أمَّا أَضْرُبُ المعروف فكثيرة منها: الدلالة على الخير وإرشاد الإنسان غيره إلى الحقِّ، والحِلمُ والسماحة، والرحمة والرفق، والكلمة الطيبة، وخدمة الآخرين، وإعمار الأرض وزرعها، قال صلى الله عليه وسلم : «لا يغرس مسلم غرساً، ولا يزرع زرعاً، فيأكل منه إنسان، ولا دابَّة، ولا شيء إلا كانت له صدقة» (رواه البخاري ومسلم). وكلُّ معروف يقدَّم إلى الناس يرضي الله، كَبُرَ المعروف أو صَغُر، حتَّى المصافحة وبشاشة الوجه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «لا تحقرَنَّ من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طَلْقٍ» (رواه مسلم)، فالخلق كلُّهم عيال الله وأحبُّ الخلق إلى الله أنفعهم لعياله.

كما تُعَدُّ إماطة الأذى عن طريق الناس من المعروف الموجب للمغفرة، يقول صلى الله عليه وسلم : «بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق، فأخَّره فشكر الله له فغفر له» (رواه البخاري). وحريٌّ بنا هنا أن نقدِّر قيمة أولئك الَّذين يسعون إلى تفكيك الأسلحة الصاروخية وتدمير قوتها النووية، بغية إزالتها من طريق تقدُّم البشرية وازدهارها، وحفاظاً على أمنها واستقرارها، ناهيك عن الأسلحة الجرثومية والكيماوية؛ بل جميع أنواع الأسلحة الفتَّاكة.

وخير المعروف ما قام به المرء وهو في عافية من البدن، ووفرة من المال وإقبال من الدنيا، وأمل في الحياة، فإنَّ في ذلك دليلاً على إيثار ما عند الله، ومظهراً للوعي الدِّيني ويقظته، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً أعلى في المسارعة إلى البِرِّ والمعروف، فعن أبي سِرْوَعة رضي الله عنه قال: «صلَّيْتُ وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر، فسلَّم، ثمَّ قام مسرعاً، فتخطَّى رقاب الناس إلى بعض حُجَر نسائه، ففزع الناس من سرعته! فخرج إليهم، فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته فقال: ذكرتُ شيئاً من تِبْرٍ عندنا فكرهتُ أن يحبسني، فأمرت بقسمته» (رواه البخاري).

والأمر بالمعروف يحتاج إلى إعداد وتعويد، حتَّى تألفه النفس، ويسهل عليها ممارسته، والتمرس به منذ نعومة الأظفار، وأخذ الناشئة به، ممَّا يرسي دعائمه ويثبِّت قوائمه. وقد أمر الإسلام أن نربِّي الأبناء على الفضائل، ونعوِّدهم على أداء الواجبات الدِّينية منذ الحداثة، حتَّى ينشَؤوا على حبِّ المعروف وينطبعوا به.

والمؤمنون صَلاتُهم وصال وذكرهم اتِّصال، أرواحهم تركع، وقلوبهم تسجد في ظلِّ حيٍّ باقٍ مهيمن على ما في الوجود، وأيديهم معطاء بيضاء تؤتي الزكاة لمستحقِّيها، فأموالهم أمانة استودعهم الله إيَّاها فلا يصرفونها إلا كما أمرهم، ويعطون لكلِّ ذي حقٍّ حقَّه، ليسوا عبيد درهم ولا دينار، يعلمون أن المال مال الله وأن للفقراء حقاً فيه مفروضاً؛ فيؤدونه بنفس راضية، ذلك أن ضمائرهم تأبى أن يشبعوا وفي المجتمع جائع، هدفهم الحصول على رضى الله تعالى بالاقتداء برسوله، لأن في إرضائه نعيم الروح، ونشوة الحبِّ، وإشاعة السعادة بين الخلائق أجمعين. وهذا يعني الوصول بالبناء الإيماني إلى ذروته، حيث تنتشر الرحمة الإلهية في صفوف قاطنيه، وتتولَّد مشاعر العزَّة والكرامة في نفوسهم، فهم في كنف الله العزيز ورعايته، حكماء يعرفون ما يريدون ويحسنون الوصول إليه عبر الطريق الأسلم والأمثل.

سورة الأنعام(6)

قال الله تعالى: {قلْ تعالَوا أَتلُ ما حرَّمَ ربُّكمْ عَلَيكُم ألاَّ تُشْركوا به شيئاً وبالوالدَين إحساناً ولا تقتُلُوا أولادَكُم من إملاقٍ نحن نرزُقُكُم وإيَّاهم ولا تقْرَبوا الفواحشَ ما ظهَرَ منها وما بطَنَ ولا تقتُلُوا النَّفسَ الَّتي حرَّمَ الله إلاَّ بالحقِّ ذلكم وصَّاكم به لعلَّكم تعقلون(151) ولا تقرَبوا مالَ اليتيمِ إلاَّ بالَّتي هي أحسنُ حتَّى يبْلُغَ أشُدَّهُ وأوفوا الكَيلَ والميزانَ بالقِسطِ لا نُكلِّفُ نَفْساً إلاَّ وُسْعَها وإذا قلتُم فاعدِلوا ولو كان ذا قُرْبى وبِعَهْدِ الله أَوفوا ذَلِكُم وصَّاكُم به لعلَّكُم تَذَكَّرون(152)}

سورة الإسراء(17)

وقال أيضاً: {ولا تقرَبوا مالَ اليتيمِ إلاَّ بالَّتي هي أَحسنُ حتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وأَوفوا بالعهدِ إِنَّ العهدَ كان مَسْؤولاً(34) وأَوفوا الكيلَ إذا كِلْتُم وزِنوا بالقسطاسِ المستقيمِ ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً(35)}

ومضات:

ـ جميع الوصايا الَّتي أتت بها الشرائع السماوية هي ركائز أساسية لإشادة البناء الاجتماعي بشكل متين متماسك، وجميعها تقوم على قاعدة التوحيد وعدم الإشراك به تعالى.

ـ هذه الوصايا الواردة في الآيات الكريمة تدعو إلى الرحمة والتراحم، والحبِّ والتحابب، من أجل سعادة الأسرة والمجتمع والإنسانية، وإنَّ رفض بعضها أو كلِّها يعني قطع حبال الودِّ والوصال، وهدم الأخلاق الكريمة، وموت الضمائر الحية، وتأجيج الغرائز بشكل همجي، وإطالة أظافر العداوة والبغضاء لتمزِّق الأُلفة بين الناس؛ فأي حياة يمكن أن نعيشها في مثل هذا الجو؟ إنها حياة أكثر قسوة وضراوة من حياة الوحوش.

في رحاب الآيات:

يتكرر ذكر جانب من التعاليم الإلهية في مواضع مختلفة من القرآن الكريم تأكيداً على أهمِّيتها، وتذكيراً للمؤمنين بها، لتترسَّخ في أعماق قلوبهم وحنايا تفكيرهم، كيلا يحيدوا عنها أو ينسوها، لأن نفسية الإنسان مجبولة على النسيان، ولابدَّ لها من تحريك دائم لتتشرَّب التوجيهات الإلهية وتهضمها، ممَّا يمهِّد السبيل لتطبيقها والالتزام بها.

وتشدُّ الآيات الكريمة انتباه السامعين إليها بتصديرها بفعلين متتاليين من أفعال الأمر، الأوَّل منهما موجَّه من الله إلى رسوله: {قلْ}، والثاني موجَّه من الرسول إلى الناس كافَّة: {تَعَالَوا}، وفي هذا تسلسل منطقي يدلُّ على الرابطة الوثيقة بين المشرِّع الَّذي هو الله، وبين من نزل إليهم التشريع وهم بنو آدم، مروراً بالرسول الكريم الَّذي تنحصر مهمته بتبليغ ما أُمر بتبليغه إلى الناس كافَّة، وهو ما يُعْرَف بتبليغ الرسالة وأداء الأمانة، وهذا يستدعي اليقظة الفكرية، والفهم الدقيق، والتنفيذ الصحيح لمضمون الرسالة. فما هي الوصايا الَّتي يوجِّهها الله تعالى لنا في هذه الآيات؟ إنها مجموعة من التعاليم والإرشادات، أوَّلها وأهمُّها تنزيه الله عن الشريك والنِدِّ، لأن الله غنيٌّ بذاته العليَّة عن الشريك من جهة، ولأنه لا يمكن لمخلوق أن يرقى ليصبح من جهة أخرى خالقاً. والفطرة السليمة النقية تعرف هذا، ولكنَّ بعض الناس خَفَتَ صوت فطرتهم حتَّى بات همساً تحت تأثير شهوات النفس، ونوازع الهوى، فجاءت الآيات تنبِّهُهم ليحوِّلوا مِقوَدَ قلوبهم من طريق الشرك إلى طريق الإيمان، لأنه أُسُّ العقيدة والعمل، وكلُّ عمل لا يرتكز على هذا الأساس فهو باطل، لأن الولاء لله يعني الانقياد له، فمن شُغِفَ بالله شُغِفَ بتنفيذ أوامره، ومن وحَّد الله لم تُطِقْ نفسه أن يكون عبداً لسواه، ولا يجد سعادته إلا في أن يعلن براءته ممَّا يتخبَّط فيه غيره ممن عبد غير الله أو جعل له شريكاً.

إنَّ تنزيه الله تعالى عن المماثلة والتشبيه، والإقرار بالعبودية له، يستلزم طهارة القلب ونقاوة الضمير، فيفيض الحبُّ من القلب ليغمر صاحبه ثمَّ يتعدَّاه إلى من يلوذ به، ومَنْ أحقُّ بالحبِّ من الوالدين اللذَيْن كانا سبب وجود ولدهما، وهما يشكِّلان جذوره الممتدَّة في عمق الحياة.

والإحسان إلى الوالدين لا تحده حدود وأقل ما يقال فيه، إن الله قرن عبادته بالإحسان إلى الوالدين فقال: {وقضى ربُّكَ ألاَّ تعبُدوا إلاَّ إيَّاهُ وبالوالدَين إحساناً..} (17 الإسراء آية 23). هذان الوالدان اللذان أمضيا زهرة عمرهما، وثمرة سعيهما، وخلاصة وجودهما، ليصبَّاها في كيان وليدهما، حتَّى تثمر فيه علماً وأدباً وتقوىً وشباباً. وهكذا يفتح الإسلام مظلة الرعاية الاجتماعية، ليجمع تحت ظلِّها رؤوس أعضاء الأسرة الإنسانية، بادئاً بأجلِّهم وأكرمهم وهما الوالدان. وبعد توصية الأبناء بالبِرِّ بالوالدين تأتي الوصيَّة إلى الآباء لرعاية الأبناء وصيانة حقوقهم، حيث أن للأبناء أيضاً حقوقاً على والديهم، فلا يظننَّ الوالدان أنهما يملكان حقَّ التصرُّف بحياة أولادهما، فيعاملانهم على أنهم شيء من سَقَطِ المتاع، فهما وإن كانا الأصل في وجودهم إلا أن الموجد الحقيقي هو الله، وما هما إلا الوسيلة، والسبب الَّذي قدَّر الله وجودهم عن طريقه. فليرفع الآباء طَرْفَهم نحو السماء كلَّما ثارت في نفوسهم نوازع الأثرة والأنانية، وهبَّت عليهم رياح حبِّ التملُّك، وعصفت برؤوسهم المخاوف من أعباء الحياة، وضيق ذات اليد، فلا يفكرون بقتل أولادهم مخافة الإنفاق عليهم، فرزقهم محفوظ في خزائن الله، وأي اعتداء عليهم يحرمهم من حقِّ الحياة؛ إنما هو عدوان على الله واتِّهام له عزَّ وجل بأنه فقير وعاجز عن كفاية مخلوقاته جميعاً بالرزق الوفير.

وهكذا نجد أن هذه الوصايا الثلاث؛ وحدانية الله، والبِرُّ بالوالدين، وحقُّ الحياة للأولاد، قد رسمت الإطار الإنساني العام الَّذي تنتظم فيه البشرية جمعاء، ثمَّ عرَّجت الآيات الكريمة على الإنسان، وغاصت في أعماقه، فتناولت سريرته لترتقي بها وتسمو فوق كلِّ ما يفسد إيمانها ويعكِّر عليها صفو العلاقة مع خالقها، وكذلك العلاقة مع الناس، ابتداءً من وساوسها وانتهاءً بشرورها وآثامها، فقالت له: إن أموره لن تستقيم إلا إذا ضبط نوازعه، وطهَّر قلبه من الرجس وحوَّله إلى جهاز شديد الحساسية، يلتقط أدقَّ التجلِّيات الَّتي يفيضها عليه خالقه، فيستشعر جلال عظمته ودوام مراقبته له، ويبتعد بنفسه عن كلِّ مكروه يكرهه الله، ويُقبل على كلِّ طاعة يحبُّها الله، فلا يُفْحِشُ في قول ولا عمل، ولا يسمح لنفسه بسماع كلمة نابية، أو رؤية منكر، فإذا تمَّ الصلح بينه وبين ذاته تصالح مع من حوله وتحوَّل إلى إنسان ملائكي، ينتظم في منظومة الكون العظيم، مبتعداً عن الخبث والخبائث ملتزماً بالطهر والطهارة.

وبعد تلك الجولة في مجاهل النفس تنتقل الآيات لتدخل في إطار المجتمع، وتقرر حُكْماً مبرماً لا هَوادة فيه؛ هو تحريم قتل النفس إلا بالحقِّ، فالإنسان أكرم مخلوق على الأرض كما قرر النص القرآني في قوله تعالى: {ولقد كَرَّمنا بَني آدم..} (17 الإسراء آية 70) وأوَّل مراتب التكريم صيانة حياته، فهي مُلكٌ لخالقها، وهو الَّذي بدأها ولا يجوز لأحد غيره أن ينهيها، ولا يحـقُّ لأي إنسـان ـ مهمـا عظم سـلطانه أو ارتفع شـأنه ـ أن يسـلب إنساناً حياته إلا ضمن شروط حددها الشارع الحكيم، تجعل الإنسان يعيش في ربوع الإسلام آمناً مطمئناً، مادام بعيداً عن الأمور الَّتي ترفع عنه هذه الحصانة الإلهية.

وما زالت الآيات تجول في إطار المجتمع، وما زالت الخطوط تُرسم على لوحة الوجود، تتعانق وتتفارق لتكمل رسم تلك اللوحة كأجمل ما يكون الرسم، وأبدع ما يكون التكوين! إنها يد الخلاَّق العظيم الَّذي خلق الكون وجعل العلاقات بين الأحياء قائمة على الحبِّ، ووضع له قوانينه الَّتي تصدح بحبِّه لمخلوقاته، وعلى أساس هذا الحبِّ نظَّم العلاقة بين مخلوقاته، ونبَّهنا للمظلومين والمعذَّبين لنردَّ لهم حقوقهم الضائعة. ومنهم اليتيم، ذاك المخلوق الضعيف الَّذي فقد السند البشري في مواجهة الحياة ومشاقِّها، فهو صغير لا يملك حرِّية التصرُّف بماله الموروث، فلا قدراته العقلية تسمح له بذلك، ولا طاقاته الجسدية تؤهله لاستثمار هذا المال. ويأتي دور الوصي ليكون مسؤولاً عن مال اليتيم، وكلُّنا يعرف بريق الذهب، وكيف يخطف الأبصار والقلوب فتخور العزيمة، ويغيب الرقيب من الضمير وتنطلق اليد في مال اليتيم، وهنا تنطلق صفارة الإنذار لتهزَّ الأعماق الغافلة، أَنِ انتبِه، فاليتيم في كنف الله، والمال مال الله، وأنت مؤتَمن عليه، فأدِّ الأمانة، واستثمر هذا المال لمصلحة ذلك اليتيم حتَّى يبلغ أَشُدَّه، وحينها تؤدِّي إليه ماله كاملاً، وكلُّ درهم صُرِفَ أو سيُصرف في غير موضعه، سيكون حجَّة عليك يوم تقف أمام محكمة قاضيها ربُّ العالمين. قالصلى الله عليه وسلم : «اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة» (رواه الطبراني عن أنس رضي الله عنه ).

وتعرِّج الآيات على عملية البيع والشراء، وهي من أكثر الأمور الَّتي تتعرض للأخذ والرد، فهي عملية يومية تتمُّ بين بائع يملك السلعة ومشترٍ يملك المال، فالأوَّل إذا كان معدوم الضمير فقد يبخس الوزن، وينقص المكيال، ويتلاعب بالميزان، أو يغش البضاعة، والشاري مضطر للقبول لأن الميزان ليس بيده، وهو غافل عن فنون التلاعب الَّتي قد يمارسها معه ذلك البائع، وهذا أبشع أنواع الاستغلال. لقد حذَّر الله تعالى من مغبَّة ذلك في العديد من آيات القرآن، حيث نبَّه أمَّة شعيب ـ عليه السَّلام ـ بألاَّ يبخسوا الميزان، فقال تعالى: {وياقومِ أوفوا المِكْيالَ والميزانَ بالقسطِ ولا تَبْخَسُوا النَّاس أشياءَهُم ولا تَعْثَوْا في الأرضِ مفسدين} (11 هود آية 85)، وليست أوامر الله فوق طاقة البشر فالله تعالى لا يكلِّف نفساً إلا وُسْعها، ولو اتبع الناس هذه الأوامر وعملوا بها؛ لاستقامت أمور حياتهم، وعظمت الثقة والأمانة بينهم.

وتتابع الآيات الارتقاء بالضمير البشري وقد ربطته بالله عزَّ وجل وأوثقت الرباط على هدي العقيدة، وهي تنبِّهه لئلا يقع في منزلق خطير من منزلقات الضعف البشري، والَّذي يجعل شعور الفرد بالقرابة هو شعور التناصر والتكافل، فيحذِّره من أن يكون ضعيفاً تجاه قرابته حين يقف موقف الشهادة لهم أو عليهم، أو القضاء فيما بينهم وبين الناس، فالحقُّ أقوى من القرابة والله أحقُّ أن نخشاه، فلا نشهد إلا بالحقِّ الَّذي يرضيه سبحانه.

وأمَّا الوصيَّة الأخيرة فهي الوفاء بعهد الله ويشمل:

1 ـ ما عهده الله إلى الناس على أَلْسِنَةِ الرُّسل.

2 ـ حُسْنَ تصرفهم بما آتاهم من العقل والوجدان والفطرة السليمة.

3 ـ ما عاهدوا الله عليه: {وأوفوا بعهدِ الله إذا عاهَدتُم..} (16 النحل آية 91).

4 ـ ما عاهد الناسُ عليه بعضهم بعضاً: {..والموفونَ بعهدِهِم إذا عاهدوا..} (2 البقرة آية 177).

وهنا لابُدَّ لنا من وقفة قصيرة، أمام موقف يتعرض له الكثير منا، وذلك عندما يُوْصَى أحدنا وصيَّةً ممن يحتلُّ منزلة رفيعة في قلبه، وعُرف بين الناس برجاحة عقله وحكمته، فإنه ولاشكَّ يلتزم بوصيَّته، ويباشر بتنفيذها ولا تطاوعه نفسه على مخالفتها، وفاءً بعهد صاحبها والتزاماً بالواجب، فما بال المعرضين عن وصايا الله الَّتي أوصاهم بها؟ ولِمَ لا تقع في أنفسهم موقع وصيَّة الآخرين؟ أليست أحقَّ من غيرها بالتكريم والامتثال، والاحترام والالتزام؟. وإنَّ لَفظَ (الوصيَّة) ذو إيحاء، وفيه مشاركة وجدانية وتواصل بين المُوصِي والمُوصَى له، مبني على الثقة والأهلية وحسن الاستعداد للتنفيذ، وله وقع محبَّب في النفس والقلب.

وكلُّ ما جاء في الآية الكريمة من الأوامر والنواهي قد أوصانا الله بالتزامه، وأن نوصي بعضنا بعضاً بها، كما قال: {..وتَوَاصَوْا بالحقِّ وتَواصَوْا بالصَّبر} (103 العصر آية 3) لما في ذلك من مصالح ومنافع ورجاء أن يتَّعِظ بها من سمعها أو قرأها.

سورة آل عمران(3)

قال الله تعالى: {الَّذين يقولونَ ربَّنا إنَّنا آمنَّا فاغفِر لنا ذُنوبَنا وقِنا عذابَ النَّار(16) الصَّابِرينَ والصَّادقينَ والقَانِتينَ والمُنفِقينَ والمستغفرينَ بالأسحارِ(17) شَهِدَ الله أنَّهُ لا إلهَ إلاَّ هو والملائكةُ وأُولوا العلم قائماً بالقِسطِ لا إلهَ إلاَّ هو العزيزُ الحكيمُ(18)}

ومضات:

ـ علينا أن نتوجه إلى ربِّ العالمين بكلِّ ذرَّات وجودنا، وأن نسلك مسلك العمل الإيماني البنَّاء، طالبين منه المغفرة عما بدر منا من أخطاء وهفوات بسبب ضعفنا البشري، راجين منه شفاء أرواحنا من آثار هذه الذنوب.

ـ علينا الصبر على تزكية أنفسنا، وعلى بناء مجتمعنا حسب القواعد السليمة، عقلاً وخلقاً وتعاوناً، وتبنِّي رسالة السماء بصدق لا تشوبه شائبة، وأن تتشرَّبَ أرواحنا العطاء الإلهي فَتَلينَ قلوبنا لذكر الله وتخشع لعظمته تعالى. وأن نعلم أن ما نملك هو مُلْكٌ للمالك الأصلي وننفق ممَّا وُكِّلنا عليه من هذا المال في تحقيق مراده. وأن نجعل لذَّة العبادة أقوى من لذائذ النوم والدعة وسائر المتع الجسدية، حيث تخلو بربِّك وتسعد بحبِّه ويطمئن قلبك بذكره ويحلو الوصال؛ فإذا امتلكتَ هذه الصفات انجلت مرآة قلبك وانضممتَ إلى عائلة الأبرار.

ـ الملائكة الأطهار يدركون تماماً قدرة الله في تصريف ما خلق ويشهدون أنه لا يمكن أن ينازعه في عزَّته وحكمته منازع.

في رحاب الآيات:

يشير الله تعالى في هذه الآية إلى المؤمنين المتقين الَّذين تنعكس آثار إيمانهم من قلوبهم على أعمالهم، فتلهج ألسنتهم بالدعاء والابتهال: ربَّنا إننا آمنا بما أنزلته على رسلك إيماناً راسخاً في القلب، مُهيمناً على الجسم، مُنَوِّراً ومُوسعاً آفاق العقل، وعقدنا العزم على تنفيذ تعاليمك، فاغفر اللهم لنا تقصيرنا بعفوك وكرمك، وادفع عنا عذاب النَّار.

ومن هذا الدعاء نستنتج أن الإيمان العملي هو الغاية المطلوبة وليس الإيمان اللفظي، وأنَّ من شروط الإيمان العملي: الصبر الدائم والصدق المستمر والعبادة المخْلَصَةُ لله الخاشعة لجلاله، والإنفاق في سبيله، وقيام الليل، وهذه صفات سامية راقية، ترقى بالإنسان نحو حضرة الله، فيخجل من ذنوبه، ويستشعر عظمة خالقه، ويطلب منه الأمان والحماية من العذاب.

فالمؤمنون المتَّقون جمعوا صفات كثيرة، ولكلٍّ منها درجة في الفضل، وشرف ورِفْعَةُ منزلةٍ في الكمال، وفي كلٍّ من هذه الصفات تتحقَّق قيمة من قيم الحياة الإنسانية أوَّلها الصبر: وهو السيطرة على ردود الفعل الَّتي تنشأ عن انفعال النفس بسبب الرغبة المُلِحَّة تجاه أمرٍ ما، أو الرهبة والانزعاج من تصرفات الآخرين، أو الألم والحزن والغضب في البلايا والمحن. وثانيها الصدق: وهو دعامة الفضائل، وعنوان الرقي، ودليل الكمال، وهو الَّذي يضمن صيانة الحقوق، ويوطِّد الثقة بين الأفراد والجماعات، وبه تطمئن النفوس الكريمة، بينما يُقلق الكذب القلوب إذا تفشى وانتشر، ويدعها مضطربة حائرة، ويُفسد المجتمع ويهد أركانه. وثالثها القنوت: وهو المداومة على طاعة الله تعالى والإخبات له مع الخشوع والخضوع، وهو لبُّ الطاعة والعبادة وروحها.

وهناك إنفاق المال في جميع سبل الخير الَّتي حث عليها الإسلام، سواء أكانت واجبة أم مستحبَّة، وفي ذلك إعلاءٌ لحقيقة الأخوة الإنسانية وتجاوز شهوة حبِّ الذَّات، وتكافلٌ بين الناس يزرع المحبَّة في نفوسهم.

وأمَّا الاستغفار بالأسحار فإنه يلقي ظلالاً وارفة ندية على القلب، لأنه يعني الصلة مع الخالق، والانصهار في روعة التجلِّي وعظمته؛ ففي تلك اللحظات تصفو النفس بالتوحيد، ويصدح الكون بالتسبيح، ويصعد الأنين المشحون بالشوق إلى لقاء الله، وقد تجرَّد صاحبه عن كلِّ هدف أو غاية دنيوية عارضة، فهو في لهفة واشتياق إلى الاستمداد من عطاء الله وأنواره، بعيداً عن لذائذ الجسد وشواغل النفس من حاجات الجسم الترابي الفاني، وإقبالاً على الحقائق الأبدية الخالدة الَّتي تبقى بعد أن تتلاشى أجزاء الجسد وتعود إلى التراب.

والسَّحَر هو السويعات القليلة من الليل الَّتي تسبق الفجر، والَّتي يصفو فيها القلب ويخشع، ويَغرقُ الكونُ في صمت وهدوء، فتخمَدُ جميع الأصوات ليتعالى صوت الإيمان، ويتنامى شعور المرء بضعفه أمام الجلال الأعظم، فينطلق بعيداً عن كلِّ مشاغل الدنيا وهمومها، ليتَّصل بالعالم السماوي، ويبثَّ خواطره ولواعجه وخلجات نفسه الحبيسة، فإذا رافق ذلك صلاة واستغفار، تسامت روحه وارتقت في طلب الصفح والغفران، وتفتَّحت قريحته بالدعاء وأجهش بالبكاء الحار، حتَّى يغسل بدموعه ما ترسَّب في نفسه من الأدران والأمراض لتعود طاهرة نقية أقرب ما تكون إلى الفطرة السليمة؛ فيُحسُّ المرء بوجود الله مهيمناً عليه قريباً منه، ويشعر بعطائه يلامس شغاف قلبه ويملأ حناياه. وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ينزل الله تبارك وتعالى في كلِّ ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: هل من سائل فأعطيه، هل من داع فأستجيب له، هل من مستغفر فأغفر له» (أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه ).

فمن كانت هذه صفاته فلابدَّ أن يوقن في أعماقه بوحدانية الله وأنه لا شريك له، وهذه الحقيقة قررها الله سبحانه بياناً لتفرُّده ووحدانيته، وتثبيتاً لقلوب هؤلاء المؤمنين بأنهم على حقٍّ، وبأنهم المقرَّبون إليه. أمَّا شهادة الملائكة وأولي العلم فتتمثَّل في طاعتهم لأوامر الله تعالى، والتلقي عنه وحده. وشهادة الله سبحانه وشهادة الملائكة وأولي العلم بالوحدانية لله، يصاحبها شهادتهم بأنه تعالى عادلٌ في كلِّ أمر، منصفٌ في كلِّ حكم. وعلى مثل هذه الصفات يجب أن نبني سلوكنا مع أفراد المجتمع لنصبح من أولي العلم، ومن أصحاب مقام الشهود، وهذا إثبات لقيمة العالِمِ وتأكيد على أهمِّية العلم.

وبما أن تدبير الله لهذا الكون، ولهذه الحياة قائم دائماً بالعدل وكذلك كلُّ سنن الخليقة، فإن العدل المطلق لا يتحقَّق في حياة الناس، ولا تستقيم أمورهم إلا بتحكيم منهج الله الَّذي اختاره للناس وبيَّنهُ.

ويؤكِّد الله سبحانه وتعالى تفرُّده بالألوهية مرة أخرى في الآية نفسها، مصحوباً بصفة العزَّة والحكمة، وهما ملازمتان للقيام بالقسط، فالعزَّة إشارة إلى كمال القدرة، والحكمة إيماء إلى كمال العلم، والقدرة لا تتمُّ إلا بالتفرُّد والاستقلال، والعدالة لا تكمل إلا بالاطِّلاع على المصالح والأحوال، ومن كان كذلك فلا يغلبه أحد على ما قام به من سنن العدل، ولا يفوت الخليقة شيء من حكمته البالغة.

سورة البقرة(2)

قال الله تعالى: {الم(1) ذلك الكتابُ لا ريْبَ فيه هُدىً للمُتَّقينَ(2) الَّذين يؤْمنونَ بالغيبِ ويُقيمونَ الصَّلاة وممَّا رزقْناهُم يُنفِقونَ(3) والَّذين يؤمنونَ بما أُنزلَ إليكَ وما أُنْزلَ من قبْلِكَ وبالآخرةِ هُم يوقِنونَ(4) أولئكَ على هُدىً من ربِّهم وأولئكَ هم المُفلحونَ(5)}

ومضات:

ـ كلمة {الم} تُقرأ: ألف، لام، ميم، وتسمَّى الأحرف النورانية، وقد افتُتِحَ بها وبمثيلاتها عدد من سور القرآن الكريم، ولم يَرِدْ أيُّ تفسير لها عن النبي عليه السَّلام، ولكنَّ كثيراً من العلماء يقولون بأن هذه الحروف ذُكرت في أوائل بعض السور لإثبات إعجاز القرآن الكريم وتحدِّياً للعرب، فهو مكتوب بلغتهم ومع ذلك فهم عاجزون عن أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.

ـ هذا الكتاب لا يتطرَّق إليه الشكُّ في كونه منزَّلاً من عند الله، وليس من تأليف محمَّد صلى الله عليه وسلم ، ولا هو من إيحاء أو تعليم الرهبان والكهان، وبأنه لم ينله تغييرٌ أو تحريف، فهو موثَّق محفوظ بحفظ الله وعنايته، قال تعالى: {إنَّا نحن نزَّلنا الذِّكرَ وإنَّا له لحافِظون} (15 الحجر آية 9).

ـ يحمل القرآن الكريم بين طيَّاته الهدي والإرشاد للمتقين، الَّذين سمت نفوسهم وصارت أهلاً لتلقِّي نور الحقِّ، فتراهم يسعون في مرضاة الله بقدر ما يبلغ إليه اجتهادهم.

ـ يمتاز المؤمنون بإيمان ثابت ويقين مطلق بالغيب ـ وهو كلُّ ما غاب عن حواسِّهم ممَّا جاء خبره في القرآن ـ مقترناً بخضوع نفوسهم واستسلامها للحقِّ، فإذا جاءهم الأمر بإقامة الصَّلاة استجابوا وأطاعوا، وإذا جاءهم الأمر بالإنفاق وجدوا المتعة في بذل أموالهم وممتلكاتهم تقرُّباً وزلفى إلى الله من أجل إسعاد مخلوقاته، فهم يتفاعلون إيجابياً مع كلِّ ما أخبر به القرآن.

ـ بالإضافة إلى ما تقدم فإن المؤمن الحقَّ يؤمن بأن القرآن من عند الله، ويؤمن كذلك بجميع الكتب السماوية الَّتي سبقته، كما يؤمن بأن الدار الآخرة هي دار الجزاء على الأعمال، والإيمان بها يقتضي العمل لها.

ـ الهُدى من نصيب المؤمنين الَّذين ترسَّخت عناصر العقيدة الصحيحة في قلوبهم، فكان الفلاح مكافأتهم في الدنيا والآخرة وقد رتَّب الله تعالى الفلاح على الهدى، لأن الهداية شجرة ثمرها الفوز والفلاح، ولابُدَّ للشجرة من أن تعطي إنتاجها.

في رحاب الآيات:

أشـارت الآيـة الكريمة إلى الكتـاب ـ وهـو القرآن الكريم ـ بإشارة البعد {ذلك} تعظيماً لأمره وتفخيماً لشأنه، وإشعاراً للإنسان بعُلُوِّ مقامه، ثمَّ نفت عنه الرَّيْب ودلَّت على قوَّة حجَّته، ورجحان برهانه. والرَّيْب: هو شكٌّ يصحبه اتهام يتأتَّى من الجهل بالحقيقة أو الاستكبار عليها، أو التعنُّت والتقليد الأعمى واتِّباع الأهواء. وقد دفع الله تعالى الشكَّ عن القرآن الكريم لأنه يدعو إلى منهج جديد، والإنسان بطبعه يقف متهيِّباً متحيِّراً أمام الجديد، مرتاباً فيه إلى أن تثبت له مصداقيته.

وليس القرآن مجرد عبارات تُتْلَى، وليس القصد منه إمتاع الآذان بالاستماع والترنُّم، ثمَّ نيل الإعجاب والثناء، وإنما هو كلام الله عزَّ وجل الَّذي ينبغي على من يقرؤه أن يلتزم بمنهجه، ويتَّبع تعاليمه، ويلقي إليه مقاليد أمره. فالقرآن وسيلة تغيير وتطوير وليس مجرد عنصر تأثير، كما أنه مقام اتِّباع والتزام وليس مجرد إعجاب واحترام، وهذا ما ينبغي أن يكون واضحاً في ذهن قارئه لتزيد هذه القراءة خشوع قلبه، وانقياد جوارحه، وبالتالي قطف ثماره.

والإيمان بالقرآن على أنه كلام الله سبحانه وتعالى، يستلزم تعهُّد ما جاء به من التعاليم، والوقوف عند حدوده؛ منهجاً وسلوكاً واعتقاداً وتفكيراً، وهذا التعهد لا يقوى على إنفاذه إلا المتَّقون الَّذين لامس نفوسهم قبس من نور الهداية، فسمت به وصارت مستعدَّة لتقبُّل الحقِّ والإذعان له، والسعي في مرضاة الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمسارعة في فعل الخيرات.

وتتابع الآيات مبيِّنة أن وراء العالَمِ المادِّي المشهود عالم نوراني، ولا يمكن إدراكه بأدوات العلم المادِّية، ولكنَّ بالإيمان، ألا وهو عالم الغيب. فالعلم هو إدراك العالم المنظور واكتشاف قوانينه وسننه، وهو من عمل العقل والحواس، والإيمان هو إدراك عالم الغيب ومكانه في القلب، والمؤمنون الَّذين أثنى الله تعالى عليهم، هم الَّذين يؤمنون بما غاب عنهم ولم تدركه حواسُّهم، وهو يشمل أهمَّ ما يؤمن به المسلم كالبعث والجنَّة والنَّار، والصِّراط والحساب، والملائكة والجن، وغير ذلك ممَّا أخبر به القرآن المجيد والرسول الكريم ولم تدركه حواسُّنا.

وعالَمُ الغيب عالَمٌ رحب واسع لا يدرك عظمته إلا أولوا الألباب، أصحاب العقول النيِّرة، والقلوب الطاهرة الَّذين ينتقلون بإقامة الصَّلاة من الإيمان القلبي إلى التطبيق العملي، وهما مفهومان متلازمان في جميع آيات القرآن الكريم، فالإيمان نورٌ في القلب ينعكس ضياؤه على السلوك بالعمل الصالح. والإيمان الَّذي لا يصحبه عمل صالح إيمان ناقص، وإنما وُصِفَ المتَّقون بأنهم يقيمون الصَّلاة، ولم يوصفوا بأنهم يُصَلُّون فحسب، لأن الصَّلاة لا تؤتي ثمارها إلا إذا كانت قائمة في القلب مؤثِّرة في السلوك، وبذلك يكون مقيم الصَّلاة الحقيقية، بعيداً عن الفحشاء والمنكر والبغي، قريباً من الرحمة والتسامي والتآخي.

وإذا كانت الصَّلاة هي الانعكاس الروحي للإيمان، فإن الزكاة هي دعمٌ مادِّي له، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الصَّلاة عماد الدِّين والزكاة قنطرة الإسلام» (رواه الطبراني والديلمي عن الإمام علي ـ كرَّم الله وجهه ـ (مرفوعاً وأخرج المقطع الأوَّل منه البيهقي في الشعب عن عمر رضي الله عنه ) والمؤمن يجب أن يكون قدوة حسنة في مجتمعه، نافعاً في بيئته كشجرة طيِّبة وارفة الظلال مستمرَّة العطاء في كلِّ حين بإذن ربِّها، ينظر إلى المال نظرة المستَخلَف عليه، القائم على توجيه الانتفاع به واستثماره، لا المتمسِّك الضنين به، الواقع تحت سلطان إغرائه. فالمال قد يكون سبباً في طغيان أقوام، وقد يكون عوناً على التَّقوى لأقوام آخرين، فما كلُّ من اغتنى نبتَ الطمع في قلبه، ولا كلُّ من افتقر ترسَّخ الزهد في نفسه. ومناط الخير في الثراء، أن تكون الدنيا في أيدينا لا في ذات قلوبنا، نستعملها حسب أمر الله دون تعلُّقٍ بها، ومن هنا نفهم من قوله تعالى: {وممَّا رزقْناهُم ينفِقون}، السبب في وصف المؤمن بأنه في موقع المعطي لا في موقع الآخذ، وهذا ما عبَّر عنه الحديث الشريف: «اليد العليا خير من اليد السفلى» (رواه مسلم عن أبي أُمامة). وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «المؤمن القويُّ خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف.. الحديث» (رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ).

وكما أن الصَّلاة ظلٌّ روحي للإيمان، والزكاة برهان مادِّي عليه، فإن الإيمان برسالات الرسل السابقين هو الظل الاعتقادي والتوجيهي للإيمان. فالإسلام لا يقبل المسلم في مدرسته حتَّى يستكمل الاعتقاد بكلِّ الرسالات السماوية السابقة، وحتَّى يؤمن بأن رسالات الرسل جميعاً متمِّمٌ بعضها بعضاً، وهذا ركن من أركان إيمانه.

فنحن نؤمن بكلِّ ما جاء في القرآن الكريم، جملةً وتفصيلاً، وقد أَخبَرنا الله تعالى فيه أنَّه آتى إبراهيم صحفاً فيها الحنيفية السمحاء، وآتى داود زبوراً فيه حبٌّ ومناجاة، وأنزل التوراة فيها هدىً ونور، وآتى عيسى ابن مريم الإنجيل فيه هداية ورحمة. وأمرنا سبحانه أن نرتِّل الآيات القرآنية المتعلِّقة بالرسل السابقين وما جاؤوا به، كما نرتِّل باقي آيات القرآن المتعلقة بالصَّلاة والزكاة والحج وسائر التعاليم الإلهية، ممَّا يؤكِّد أن الإسلام جامعٌ للشرائع السماوية ومُتَمِّمٌ لها، يقود الإنسانية نحو العالم الموحَّد في ظلال الإيمان. فهاهو ذا القرآن الكريم، بعد أن يستعرض قصص الأنبياء وأخبارهم وجهادهم وأخلاقهم في سورتهم سورة الأنبياء، يوجِّه الدعوة إلى أتباعهم جميعاً وإلى كلِّ الناس للتآخي والوحدة في قوله: {إنَّ هذه أمَّتُكُم أمَّةً واحدةً وأنا ربُّكُم فاعبدون} (21 الأنبياء آية 92).

ويبقى الإيمان بالآخرة والجزاء فيها على الخير خيراً، وعلى الشرِّ عذاباً، هو العصب المحرِّك للسلوك الإيماني المحبَّب إلى جميع النفوس، وذلك لأن وجود الحياة بلا آخرة عبثٌ تنزَّه الحكيم سبحانه وتعالى عنه. والعدل الإلهي الساري في الكون لا يمكن أن يُقِرَّ ظلم الظالم، ولا استكبار المجرم. ولا يعني بحال من الأحوال، هلاكَ الظَّالم بلا قصاص، ولا وفاةَ المظلوم بلا اقتصاص له، غفلةً من الله تعالى، فالله تعالى لا يغفل عن الظالمين، وإنما الأمر تأجيل وإنظار، وللحكيم أن يؤجِّل ويُنظِر ما شاء، غير أن سلطان العدل قائم باقٍ لا يغيِّره تقلُّب الليل والنهار، ولا توالي الأزمان، وتغاير الأحداث. وحين يؤمن الإنسان بالآخـرة فإن سلوكه كلَّه ينصبُّ في الإعداد لها، فكيف يَظلم وهو موقـن بأنـه ـ لاشكَّ ـ واقف في محكمة قاضيها حاكم عادل؟ وكيف يَخدع وهو موقن بأن من يحاسبه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟ وهكذا يستقيم على منهج الله في هذه الحياة.

وتختم الآية تلك المقدِّمة القرآنية الشاملة؛ ببيان المهتدين الَّذين يتوجَّه إليهم نداء القرآن العظيم، فهم أولئك الَّذين أشرقوا روحياً بالصَّلاة، وانتظموا مادِّياً بالإنفاق، واستقاموا عقيدياً بالإيمان بالرسالات السماوية، والتزموا سلوكياً بهدي اليقين بالآخرة، وأولئك هم المهتدون المفلحون الَّذين ينتفعون بالقرآن العظيم. وكأني بهذه الآيات الأربع تحدِّد شروط الانتساب إلى جماعة المتقين الَّذين تعلموا القرآن وعملوا به، فكانوا من الناجحين الفائزين في الدنيا والآخرة، وكأني بها تَرُدُّ على المصلي الَّذي يتضرع إلى ربِّه في صلاته قائلاً: {اهدنا الصِّراط المستقيم * صِراط الَّذين أنعمت عليهم غير المغضوبِ عليهم ولا الضَّالِّين} (1 الفاتحة آية 6ـ7) فَتُبَيِّنُ له: إنْ كنتَ صادقاً في دعائك وتضرُّعك فهاك هو الصراط المستقيم، وهاهي الصفات الَّتي يجب أن تتحلى بها لتكون من المفلحين الفائزين بنيل ما طلبوا.

سورة البقرة(2)

قال الله تعالى: {ليسَ البِرَّ أن تُولُّوا وُجوهَكُم قِبَلَ المشرقِ والمغربِ ولكنَّ البِرَّ من آمنَ بالله واليومِ الآخرِ والملائكةِ والكتابِ والنَّبييِّنَ وآتى المالَ على حُبِّهِ ذوي القُربى واليتامى والمساكينَ وابنَ السَّبيل والسَّائلينَ وفي الرِّقابِ وأقامَ الصَّلاة وآتى الزَّكاةَ والموفونَ بعهدهم إذا عاهدوا والصَّابرينَ في البأساءِ والضَّرَّاءِ وحينَ البأسِ أولئكَ الَّذين صَدَقُوا وأولئكَ هم المُتَّقونَ(177)}

ومضات:

ـ البِرُّ الحقيقي يتعالى فوق الوجهة المكانية، لأنه تجسيد للإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والرسل، والعمل بمقتضى هذا الإيمان عمل تعود ثماره بالمحبَّة والعدالة والعلم والقوَّة على الناس أجمعين.

ـ المؤمن الحقيقي تفيض يمينه بالسخاء والإحسان على من يشاركونه حياته ويجعلون لها قيمة إنسانية، فهو فرد يدور في فلك المجتمع، لا يخرج عن مساره ولا يعاكس تياره، بل يبذل ويمنح ويعطي، لتتحول هذه الأرض إلى جنَّة تزخر بالازدهار والسعادة للجميع.

ـ من صفات المؤمن الحقِّ أيضاً أنه يؤدِّي واجباته تجاه الله تعالى من صلاة وزكاة، ويوفي بعهده مع الناس، ويتجلَّد في المحن ويصبر على الشدائد، ويثبت في الكفاح في سبيل قضيته الأساسية وهي إعلاء كلمة الله تعالى في الأرض.

ـ من تحلَّى بهذه الصفات النبيلة فقد صدق في إيمانه وتقواه، وفاز برضوان الله؛ ومن ثمار هذا الرضوان أن يلقي الله في قلبه الاطمئنان، ويغمره بالفضل والإحسان.

في رحاب الآيات:

البِرُّ: اسم جامع للطاعات وأعمال الخير المقرِّبة إلى الله سبحانه وتعالى، والَّتي تنضوي جميعاً تحت اسم الدِّين. والخير والطاعة لا يتحقَّقان بأن يستكثر المرء من الصَّلاة والعبادات فحسب، بل بأن يقرن ذلك كلَّه بامتثالٍ حقيقي لسائر التعاليم الدِّينية والإحسان إلى الآخرين. فالدِّين هو اتحاد بين الإيمان وحسن المعاملة؛ والإيمان هو ما وقر في القلب وصدَّقه العمل، وحسن المعاملة هي حفظ الحقوق والذمم وتقديم الخير للآخرين، قال صلى الله عليه وسلم : «الخلق كلُّهم عيال الله، وأحبُّهم إلى الله أنفعهم لعياله» (رواه الطبراني وأبو نعيم والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً) لذلك كلِّه فإن العبادات في الإسلام لم تكن أبداً حركات أجساد وصور، وإنما هي تعبيرٌ عما يجيش في الصدر من إيمان وخير؛ فكم من مصلٍّ ليس له من صلاته إلا القيام والسهر، وكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش. فتوجُّهُ المؤمن في صلاته إلى القبلة إنما هو وسيلة وليس غاية، فالله موجود في كلِّ مكان، لا يحدُّه مشرق أو مغرب، ولكنَّها إرادة الله تعالى أن اختار الكعبة المشرَّفة رمزاً يتوجه إليه المسلمون في صلاتهم، وشكلاً لتنتظم صفوفهم وتتحد جهتهم، بينما قلوبهم متجهة إلى خالقها متصلة به في كلِّ مكان وزمان. وكذلك فإن توجُّهَ المرء إلى الإكثار من العبادات وسيلة، غايتها تهذيب النفس وتهيئتها لامتثال أوامر الله وإقامة شعائر دينه، فإذا كانت العبادات مجرَّدة عما يُصاحِبُها من المشاعر النبيلة في القلب، وما ينتج عنها في الحياة من السلوك الصالح، فإنها تبقى جوفاء لا خير يُرجى منها.

والقلب لا يتفاعل مع البِرِّ ويحوِّله إلى سلوك إلا إذا كان هذا البِرُّ مستمداً من الإيمان المطلق الشامل، وهو أن تؤمن بوحدانية الله إيماناً ينأى بنفسك عن الخضوع والعبودية لغيره، وتعتقد باليوم الآخر الَّذي يذكِّرك أن حياةً أخرى أهمَّ وأبقى تنتظرك، فتقيم في نفسك رقيباً ذاتياً على عملك، ولا تكون الدنيا أكبر همِّك أو مبلغ علمك، بل هي مرحلة إعداد وتهيئة لتلك الحياة الخالدة الباقية أبد الآبدين.

وأن تؤمن بالملائكة، وهو أصل الإيمان بالوحي، لأن كلَّ ما نعلمه عن الغيبيات قد نزل عن طريق الأمين جبريل عليه السَّلام، وهو رئيس الملائكة، وهذا بدوره يمنحنا إحساساً بشمول قدرة المولى علينا وإحاطته بنا.

وأن تؤمن بالكتب السماوية المنزَّلة، لأنها شرائع الله وكلماته ألقاها على رسله لتبيِّن للإنسان المنهج القويم الَّذي ينبغي عليه أن يسلكه لإعمار الحياة بكلِّ صورها المادِّية والروحية، وهذا يقتضي الإيمان بالأنبياء جميعاً، مَنْ ذَكرَهُم القرآن ومن لم يَذْكُرهُم، من أوَّلهم إلى خاتمهم صلوات الله عليهم أجمعين، والاهتداء بهديهم والتخلق بأخلاقهم. ونشير أخيراً إلى أن أركان العقيدة الإسلامية لا تتمُّ إلا بالإيمان بالقضاء والقدر، فما من شيء في هذا الكون إلا ويخضع لقضاء الله وقدره، فإذا ما استقرت هذه العقيدة في نفس الإنسان، أصبح إيجابي النظرة إلى الحياة بكلِّ ما فيها من مسرَّات ومكدِّرات.

وتتَّسع دائرة الإيمان لتشمل كلَّ ما من شأنه أن يرفع من قيمة المؤمن ويقرِّبه إلى خالقه، ويتمثَّل هذا في التخلُّص من الأنانية وحبِّ التملُّك، فلا يكتمل إيمان المرء إلا إذا أنفق المال في سبيل مرضاة الله تعالى، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الصَّدقة أن تَصَدَّق وأنت صحيح، شحيح، تأمل الغنى، وتخشى الفقر».

وأوَّل من يستحقُّ هذا المال هم الأقرباء، لتقوية الروابط الاجتماعية، وتحقيق العدالة والمساواة، وزرع أسباب المحبَّة في المجتمع. جاء في الحديث الشريف عندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: على من تجب النفقة؟ قال: «أمُّك وأباك وأختك وأخاك ثمَّ أدناك فأدناك» (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم عن معاوية بن حميدة وقال الترمذي حسن صحيح) ولا يتقيَّد الإنفاق على الأقارب بزمن ولا بامتلاك نصاب محدد من المال. ثمَّ يليهم في الأولوية اليتامى، الَّذين مات آباؤهم، وهم ضعاف صغار دون البلوغ، وقد أسبغ الله على نفس المؤمن عاطفة تجاه هؤلاء اليتامى تحلُّ محلَّ عاطفة الآباء الَّتي حُرموا منها. ثمَّ يليهم المساكين الَّذين لا يجدون ما يكفيهم في أمور معاشهم، وابن السبيل وهو المسافر المحتاج الَّذي نَفدَت نفقته، أيّاً كان دِينُه، ومهما قَرُبت أو بَعُدت بلاده، فيُعطى ما يوصله إلى بلده، ويدخل في هذا الإطار الضيف النازل، إذ يجب إكرامه وقضاء حاجته، وفي هذا دليل على سموِّ الإسلام فوق الحواجز الإقليمية والطائفية إلى الأفق الإنساني المطلق. وتجب النفقة أيضاً للسائل الَّذي تدفعه الحاجة للوقوف على أبواب الناس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «للسائل حقٌّ وإن جاء على فرس» (رواه أحمد وأبو داود عن الحسين بن علي رضي الله عنهما مرفوعاً)، وأخيراً ينبغي الإنفاق على العبد الرقيق لمساعدته على التخلص من رِقِّه والتحرُّر من عبوديته.

فالإسلام يقوم بدور الرحم ليصل ذوي القربى، والكافل ليرعى اليتامى، والحامي ليحتضن المساكين، والمنقذ لعابري السبيل، والمسعف للسائلين، والمحرِّر للعبيد، وذلك كلُّه بهدف رفع مستوى هذا الإنسان الَّذي أحبَّه وكرَّمه وضمن حُرِّيته.

ومن وجوه البرِّ أيضاً إقامة الصَّلاة على وجهها الصحيح، في أوقاتها بركوعها وسجودها وطمأنينتها وخشوعها على الوجه الشرعي المُرضي. والصَّلاة تقترن بالزكاة لأنهما فرعان من أصل واحد، فالأولى تهذِّب النفس وتقوِّي الروح، وتدفع بالمؤمن لعمل الخيرات والامتناع عن المحرَّمات، ممَّا يترتب عليه إصلاح الفرد، والثانية تطهِّره من البخل والأنانية والأثرة، ليتحقَّق التكافل الاجتماعي بين سائر الطبقات فيصلح بذلك المجتمع كلُّه.

وفي ظلِّ هذه الأركان تترعرع الأخلاق السامية لدى المرء، وتقوى عزيمته على التقيُّد بها، كالوفاء بعهد الله في تأدية جميع ما أمر به، والوفاء بعهوده للناس في التعامل معهم، لخلق جوٍ من الثقة والطمأنينة في علاقات الأفراد والجماعات والأمم بعضهم مع بعض، ومن ثمَّ بناء أسرة إنسانية متحابَّةٍ متضامنة على أسس قوية من السَّلام والاحترام المتبادل.

ومن البرِّ أيضاً أن يصبر المرء في الشدائد، كالصبر على المرض والفقر وفقد الأهل والمال، وعند ملاقاة الأعداء ومن ثمَّ فإنه يثاب على هذا الصَّبر، قال صلى الله عليه وسلم : «يقول الله تعالى: أيُّما عبدٍ من عبادي ابتليته ببلاءٍ في فراشه، فلم يَشْكُ إلى عُوَّاده، أبدلته لحماً خيراً من لحمه، ودماً خيراً من دمه، وإن قبضته فإلى رحمتي، وإن عافيته عافيته وليس له ذنب، قيل: يارسول الله ما لحمٌ خيرٌ من لحمه؟ قال: لحم لم يذنب. قيل: فما دمٌ خيرٌ من دمه؟ قال: دمٌ لم يذنب» (رواه ابن مسعود رضي الله عنه وهو متفق عليه).

إن هؤلاء الَّذين اتصفوا بهذه الصفات هم الصادقون لأنهم قرنوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال، وإنما خصَّهم الله تعالى بصفة الصدق لأنه أجدر الصفات بالمؤمن، قالصلى الله عليه وسلم : «عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البِرِّ، وإن البِرَّ يهدي إلى الجنَّة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرَّى الصِّدق حتَّى يُكتب عند الله صدِّيقاً» (رواه ابن مسعود رضي الله عنه ، وهو متفق عليه) ولهذا فقد استحقُّوا أن يوصفوا بالمتقين لأنهم أحبُّوا الله كما ينبغي لهم أن يحبُّوه، وخافوه بما ينبغي عليهم من الخوف والخشية، فامتثلوا أوامره واجتنبوا نواهيه، وكان لهم عند ربِّهم الثواب العظيم.

سورة المجادلة(58)

قال الله تعالى: {لا تجدُ قَوماً يُؤمنونَ بالله واليومِ الآخر يُوادُّونَ من حادَّ الله ورسولَهُ ولو كانوا آباءَهُم أو أبناءَهُم أو إخوانَهُم أو عشيرَتَهُم أولئك كتبَ في قلوبِهِمُ الإيمانَ وأيَّدَهُم بروحٍ منه ويُدْخِلُهُم جنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهارُ خالدينَ فيها رضيَ الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزبُ الله ألا إنَّ حزبَ الله همُ المفلحون(22)}

ومضات:

ـ لا يمكن أن تجتمع محبَّة الله تعالى مع مودَّة أعدائه وأعداء رسوله في قلب واحد، ولو كانوا من أقرب المقرَّبين.

ـ إن الَّذين طهَّروا قلوبهم من الأغيار، وفرَّغوها ممَّا سوى الله، يثبِّت الله الإيمان في حنايا قلوبهم، ويمنحهم عناية خاصَّة تحفظهم من كلِّ ما يسيء إليهم.

ـ نهاية المطاف بالمؤمنين الحقيقيين جنَّات الخلد، لأنهم ضَحَّوا بالغالي والنفيس حتَّى رضي الله عنهم، وبالمقابل فإن الله تعالى سيكافئهم على صدقهم وصالح عملهم بعطاياه الغالية على عملهم، حتَّى يبلغوا غاية الرضا بما آتاهم من لَدُنْه. وهل هناك أنفس من الإيمان الحقيقي، هبةً إلهية ومنحةً ربَّانية في هذه الدنيا، ليكون صاحبه أهلاً للتكريم الأعظم في الدار الآخرة؟!

ـ إن مجموعة المؤمنين المتحلِّين بهذه الصفات الربَّانية؛ هم القوَّة الناصرة لدين الله، وهم وحدهم المشاعل الحقيقية الَّتي تنير ظلام المجتمع وتسعده.

في رحاب الآيات:

المودَّة بين الناس صلة وانسجام نفسي تثمر تعاوناً فيما بينهم وتبادلاً لشتَّى المنافع والمصالح، وهي على الغالب المصالح المادِّية والدنيوية. أمَّا مودَّة المؤمنين لبعضهم بعضاً فهي مبنيَّة على علائق فكرية وروابط إيمانية، تشدُّ القلوب، وتربط العقول لتكون قوَّة متراصَّةً في سبيل سعادة الإنسان، وإنقاذه من الدمار المعنوي أو المادِّي. والمؤمنون مجموعة مترابطة سائرة في درب الله ودرب أحبابه، لا مودَّة بينهم وبين أعداء الله ورسوله، وهؤلاء في الحقيقة هم أعداء أنفسهم، والإيمان والصفاء الروحي يَفْسُدان بمودَّتهم. أمَّا الصحبة والمعاشرة الَّتي تسعى لقضاء المصالح الاجتماعية وإقامة الحوار البنَّاء فليست محظورة، ولكنَّ المحظور هو أن تستقرَّ في القلب مودَّةٌ لأعداء الله، خشية تَشرُّب صفاتهم المعادية للعقيدة، فيكون هذا التأثُّر نقطة بداية للسير في طريق النفاق. ولا يخفى أن المؤمن لا يكره عدو الله بوصفه إنساناً بل بصفته فكراً منحرفاً، وعملاً ضالاً مدمِّراً، وقد جاء ذلك واضحاً على لسان سيِّدنا لوط حين خاطب قومه الكافرين المعادين، فقال تعالى: {قال إنِّي لِعَمَلكم من القالِين} (26 الشعراء آية 168) أي أُبغض عملكم ولا أبغض ذواتكم، فالإنسان لا يُكْرَه، وإن المنطق السليم والعرف العام ليقضيان، بأنَّ مَنْ أَحبَّ أحداً امتنع عن محبَّة عدوه، وقد أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم : «يقول تبارك وتعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب..»، وأخرج الديلمي عن معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللهم لا تجعل لفاجرٍ ولا لغاشٍ علي يداً ولا نعمة فَيَوَدُّه قلبي، فإني وجدتُ فيما أوحيَ إلي: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يُوادُّون من حادَّ الله ورسوله}»، فلا ينبغي لمؤمن استنار قلبه بمحبَّة الله، أن يسمح لهواه بالميل أو الانجذاب نحو أي مغرضٍ معادٍ لله ورسوله، فلا مكان في قلبه لأي صلة تبعده عن طريق الله، مهما كان نوع هذه الصلة، ولو كانت مع الآباء والأبناء، والإخوان والعشيرة، فإن قضية الإيمان بالله لا محاباة فيها لأعداء الله، وتبقى الصلة بين المؤمن والكافر المسالم صلة الطبيب بالمريض لا صلة الحبيب بالمحبوب. أمَّا الَّذين حموا قلوبهم من التلوُّث والفساد، فقد أثبت الله الإيمان في قلوبهم، فلا زوال له ولا اندثار. ولا يمكن أن يعزموا هذا العزم إلا بمدد من الله، ولا يمكن أن تشرق قلوبهم بهذا النور إلا بتلك الروح الَّتي تمدُّهم بالقوَّة والإشراق، وتصلهم بمصدر القوَّة والإشراق، وتعطيهم جواز المرور إلى الجنَّة جزاءَ ما تجرَّدوا عنه في الأرض من كلِّ رابطة وآصرة، ونفضوا عن قلوبهم كلَّ عَرَضٍ من أعراضها الفانية. فلهم فوق الجنَّة نعيم أسمى هو رضوان الله الَّذي يغمر به عباده المؤمنين، بسبب انقطاعهم عن كلِّ شيء سواه، فيقبلهم في كنفه، ويفسح لهم في جناته، ويشعرهم برضاه. وفي هذا سرٌ بديع، وهو أنهم عندما سخطوا على أعداء الله من أقاربهم وذويهم عَوَّضهم الله عنهم بالرضا، حيث يُرضيهم بما يعطيهم من النعيم المقيم، {أولئك حزبُ الله} فهم جماعته المتجمعة تحت لوائه، المتحرِّكة بقيادته، المهتدية بهديه، المحقِّقة لمنهجه، الفاعلة في الأرض ما قدَّره وقضاه، وهي الفائزة في الدنيا والآخرة.

سورة المعارج(70)

قال الله تعالى: {إنَّ الإنسانَ خُلِقَ هَلُوعاً(19) إذا مسَّهُ الشَّرُّ جَزوعاً(20) وإذا مسَّه الخيرُ مَنوعاً(21) إلاَّ المصلِّين(22) الَّذين هم على صلاتِهِم دائمون(23) والَّذين في أموالِهِم حقٌّ مَعلوم(24) للسَّائل والمحروم(25) والَّذين يُصدِّقون بيومِ الدِّين(26) والَّذين هم من عذابِ ربِّهم مُشفِقون(27) إنَّ عذابَ ربِّهم غيرُ مأمون(28) والَّذين هم لفروجهم حافظون(29) إلاَّ على أزواجِهِم أو ما ملكتْ أيمانُهُم فإنَّهم غيرُ ملومين(30) فمنِ ابتغى وراءَ ذلك فأولئك همُ العادون(31) والَّذين هم لأماناتِهِم وعهدِهِم راعون(32) والَّذين هم بشهاداتِهِم قائمون(33) والَّذين هم على صلاتِهِم يُحافظون(34) أولئك في جنَّاتٍ مُكْرَمون(35)}

ومضات:

ـ يبيِّن لنا الله تعالى أن الإنسان سريع الضجر والجزع بطبعه، شديد الحرص على ماله، يَؤُوس إذا مسَّه الشرُّ؛ أمَّا إذا كثر المال والخير لديه فسرعان ما يتوهَّم في نفسه القوَّة، ويتشبَّث بالمال ويمسك عن الإنفاق في سبيل الله.

ـ إن صفة الهلع بعيدة كلَّ البعد عن المؤمنين الحقيقيين الَّذين تُحَدِّثُنا عنهم الآيات الكريمة، وهم المصلُّون المداومون على صلاتهم والَّذين يُخْرِجون من أموالهم حقَّ السائل والمحتاج، والَّذين آمنوا بيوم الحساب وطبَّقوا مقتضيات إيمانهم بشكل عملي، لذا فهم يخافون عذاب الله من أعماق قلوبهم، وهم أصحاب عفَّة وطُهْرٍ، يبتغون المتعة فيما أحلَّ الله لهم، وهم أصحاب حقٍّ وأمانة، فإذا عاهدوا أَوْفَوْا، وإذا شهدوا قالوا الحقَّ، ذلك أنهم على صلة دائمة بحضرة الله، ولذلك فقد وعدهم الله تعالى وعد الحقِّ بإكرامهم في جنَّات الخلد.

في رحاب الآيات:

أي رائعة من الروائع القرآنية هذه الأسس الَّتي تحدد سلوك المؤمن بمبادئ جامعة مانعة، فإذا ما التزم بها وعاش ضمن إطارها، شعر بالاستقرار النفسي، فلا هلع ولا جزع، بل إيمان صلب قوي بأن الله تعالى هو المعطي وهو المانع، بيده تصريف الأمور، وهو على كلِّ شيء قدير. فلا المصائب تُفْزِعُه، ولا صروف الدهر تُيْئِسُه، ولا دنيا تأسره، ولا خسارة تقنِّطه، ولا انفتاح الدنيا عليه يطغيه، بل هو دائماً وأبداً وقورٌ، رابط الجأش، صابرٌ محتسب، شاكرٌ عالمٌ بأن ما به من نعمة إنما هو من الله، فهو يبذل كلَّ جهد ليكسب من المال الحلال، فيكون المال بين يديه لا في قلبه، ولينفقه في مرضاة الله قاضياً به حاجة نفسه وأهله ومجتمعه. فكيف يمكن أن نبني شخصية إيمانية كهذه، تنقذ نفسها من الهلاك، وتسعد من حولها بالخير والعطاء؟.

بهذا الإيمان العميق بالله تعالى والثقة به نبني هذه الشخصية، فهو السلاح وهو العُدَّة في كلِّ حال، والَّذي يتحوَّل الإنسان دونه إلى ورقة في مهبِّ الريح، فإذا مسَّه الشرُّ تألَّم وجزع، وحَسِبَ أنَّ الشرَّ دائم لا كاشف له، وظنَّ أن اللحظة الحاضرة مضروبةٌ عليه سرمداً، وحبس نفسه بأوهامه في قمقم تلك اللحظة، وما فيها من الشرِّ الواقع به، فلا يتصوَّر أن هناك فرجاً ولا يتوقَّع من الله تغييراً، ومن ثمَّ يفسد حياته الهلع ويمزِّقه الجزع، ذلك لأنه لا يأوي إلى ركن شديد يشدُّ من عزمه، ويعلِّق عليه رجاءه وأمله. فإذا أصابه خير من غنى وصحة وسعة رزق ركبه الغرور وبالغ في المنع والإمساك، وإذا أصابه الفقر لم يصبر، فهو هلوعٌ في الحالتين، جزوع من الشرِّ، ومنوع في حالة الخير، وهي صورة الإنسان الَّذي يخلو قلبه من الإيمان؛ على نقيض الصورة المشرقة للمؤمنين الشاكرين الصابرين المحتسبين الأجر عند الله، فعن الإمام علي ـ كرَّم الله وجهه ـ أنه قال: (يُكتب أنين المريض، فإن كان صابراً كان أنينه حسنات، وإن كان جزوعاً كُتب هلوعاً لا أجر له).

فالمؤمنون مُصلُّون يحافظون على الصلوات في أوقاتها ولا يشغلهم عنها شيء من الشواغل، وهم دائمو الصلة بالله على مدار الساعة، صلة لا تتحقَّق إلا بتوجُّه القلب والفكر من خلال عبادات تعبِّر عن الاستسلام، والطاعة الكاملة للإرادة الإلهية. هذه الصلة الَّتي تُشعر المؤمن بأنه وكلَّ ما يملك وكلَّ ما حوله مُلك لله الواحد القهار، وبأن كلَّ العطاءات والكنوز الإلهية موضوعة تحت تصرُّفه، ويمكنه أخذ ما شاء منها بغير حساب إذا عرف كيف يكون المدخل إليها. إنه إيمان صادق، وحبٌّ كامل، وثقة لامتناهية بفضل الله، وبهذه الصلة الحقيقية يشعر بأنه من أهل الله، فرد من أفراد عائلة الأبرار المقرَّبين إليه تعالى، عندها وبكلِّ تأكيد سيقدِّم كلَّ ما يملك من مال في سبيل الخير والبرِّ وإسعاد الفقراء، فهو ينفق ما أعطاه الله في سبيل الله، وهو في النهاية أمين على المال وليس مالكاً له، وفي هذا تخلُّصٌ من الشُّح واستعلاء على الحرص، كما أن فيه شعوراً بواجب الموسر تجاه المعْسِر المحروم في هذه الأمَّة المتضامنة المتكافلة. فالسائل هو الَّذي يسأل المال فيُعطى، وأمَّا المحروم فهو الَّذي لا يسأل الناس تعفُّفاً ولا يعبِّر عن حاجته فيُحْرَم، وطالما أنه لا يسأل، فعلينا أن نفتش عنه ونعثر عليه لنؤدِّي إليه حقَّه الشرعي في أموالنا، وبذلك يتحقَّق تقارب أفراد المجتمع وتواصلهم ومعرفة أحوال بعضهم بعضاً.

والشعور بأن للمحتاجين حقاً في الأموال هو شعور بفضل الله من جهة، وبآصرة الإنسانية من جهة أخرى، فوق ما فيه من تحرُّر شعوري من ربقة البخل، وهو ضمانة اجتماعية لتكافل الأُمَّة كلِّها. بهذه الصلة تنصقل مرآة القلب حتَّى يشعر المؤمن يقيناً بمشاهد الآخرة، بل كأنه يراها رؤيا العين، فيدرك حقيقة أهوال العذاب، ويرقص قلبه فرحاً لرائحة الجنان وشذاها الطيِّب، وينعكس ذلك على أعماله، عِفَّةً عن المحارم، وبُعداً عن الشهوات، فلا تجاوز لحدود الله، ولا اعتداء على محارمه، وبذلك يكون أهلاً لاكتساب ثقة الناس به، مراعياً لحقوقهم، حافظاً لأماناتهم، قائماً بالشهادة بالحقِّ والصدق، لا يخاف في الله لومة لائم، وهو في ذلك كلِّه مع الله، والله معه، ومادام الله معه فلا يبالي. ثمَّ يدخل الجنَّة الَّتي يرثها عبادُ الله المخلِصون، الخائفون الوجلون دائماً من ترك الواجبات والإقدام على المحظورات، ومن يَدُمْ به الخوف والإشفاق من تضييع ما كُلِّف به، يكن حَذِراً من التقصير، حريصاً على القيام بما كُلِّف به بإتقان. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعرف أن الله قد اصطفاه ورعاه وغفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر، كان صلى الله عليه وسلم دائم الحذر، دائم الخوف من عذاب الله، وكان على يقين أن عمله لا يعصمه ولا يدخله الجنَّة إلا بفضل من الله ورحمة. إذاً لا ينبغي لأحد أن يأمن عذاب الله، وإن بالغ في الطاعة، والقلب الموصول بالله يحذر ويطمع، ويخاف ويرجو، وهو يأمل رحمة الله على كلِّ حال.

ومن يتصفون بتلك الصفات من الكمال والمراقبة لله تعالى لا يرتكبون المحرَّمات ولا يتلوَّثون بالمآثم، فقد صانوا أنفسهم عن الزنا والفواحش، وحفظوا فروجهم في الأحوال كافَّة إلا عن زوجاتهم أو إمائهم المملوكات فإنهم غير مؤاخذين، لأن تفريغ الشهوة حيث أباح الله حلال يؤجر عليه الإنسان لما فيه من حفاظ على طهارة المجتمع. فالإسلام يريد مجتمعاً طاهراً نظيفاً نقياً صريحاً، مجتمعاً تؤدَّى فيه الوظائف الحيوية كلُّها، وتلبَّى فيه دوافع الفطرة، ولكن دون فوضى أو التواء، مجتمعاً يقوم على أساس الأسرة الشرعية المتينة القوام، وعلى البيت الشريف الواضح المعالم، مجتمعاً يَعرِفُ فيه كلُّ طفل أباه ولا يخجل من مولده، لأن العلاقات الجنسية فيه قائمة على أساس نظيف مريح، طويل الأمد، واضـح الهدف، لا لمجرد إرضـاء النزوة الحيوانيـة والشـهوة الجنسـية ـ فمن طلب لقضاء شهوته، غير ما أُحِلَّ له، فقد تعدَّى حدود الله وعَرَّض نفسه لعذابه ـ وبذلك يُغْلَقُ الباب في وجه كلِّ فاحشة جنسية، فلا يُرى في الوظيفة الطبيعية أي إساءة أو فاحشة في ذاتها، ولكنَّ الإساءة والفاحشة كامنة في الالتواء بها.

وعباد الرحمن هؤلاء صانوا الأمانة في أنفسهم وصانوها في مجتمعهم، فإذا اؤتُمِنوا لم يخونوا، وإذا عاهدوا لم يغدروا، بل هم يُؤَدُّون الأمانة لأهلها، إذ إن الخيانة ونكث العهد من صفات المنافقين. وقصارى القول: إنهم يؤدُّون ما اؤتُمنوا عليه من الله كالتكاليف الشرعية، أو من العباد كالأموال المودعة، والعقود الَّتي عاقدوا الناس عليها. وهم يشهدون بالحقِّ على القريب والبعيد، ولا يكتمون الشهادة ولا يغيِّرونها، بل يؤدُّونها على وجهها الكامل يصونون بها حقوق الناس ومصالحهم، وقد جعل الله الشهادة له ليربطها بطاعته فقال: {وأقيموا الشهادة لله} وجعلها سمة من سمات المؤمنين، وهي أمانة من الأمانات ولكنَّه أفردها بالذكر للتعظيم من شأنها وإبراز أهمِّيتها.

وأمَّا ذكر الصَّلاة، في المبدأ والختام، فهو يوحي بالاحتفال بها والاهتمام بأمرها، وبها تُختم سمات المؤمنين الَّذين يحافظون على صلاتهم ويراعون شروطها ويكملون فرائضها، فيجتهدون قبل الدخول فيها في تفريغ القلب من الوساوس والالتفات إلى ما سوى الله، مع حضور القلب حين القراءة، وفهم ما يُتلى فيها من آي الذكر الحكيم، أولئك المتَّصفون بتلك الأوصاف الجليلة والمناقب الرفيعة مستقرُّون في جنَّات النعيم، الَّتي يكرمهم الله فيها بأنواع الكرامات، مع الإنعام عليهم بأنواع الملذات والمشتهيات.

سورة الفتح(48)

قال الله تعالى: {محمَّد رسولُ الله والَّذين معَهُ أشِدَّاءُ على الكفَّارِ رُحماءُ بينهم تراهُم رُكَّعاً سُجَّداً يبْتغونَ فضْلاً من الله ورضْواناً سيماهُم في وجوهِهِم من أثرِ السُّجودِ ذلك مَثَلُهُم في التَّوراةِ ومَثَلُهُم في الإنجيلِ كزرعٍ أخرجَ شَطْأهُ فآزَرَهُ فاستَغْلَظَ فاستوى على سُوقِهِ يُعجِبُ الزُّرَّاعَ ليَغيظَ بهمُ الكفَّارَ وَعَدَ الله الَّذين آمنوا وعملوا الصَّالحاتِ منهم مغفرةً وأجراً عظيماً(29)}

ومضات:

ـ لقد جمع محمَّد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام طرفي الحياة الإنسانية الكريمة، فقد كانوا في وجه أعدائهم يداً قوية واحدة، وهم في الوقت نفسه رحماء فيما بينهم متعاطفون متعاضدون، فهم متَّحدون في الخير ضد الشر.

ـ لقد دأب الصحابة الكرام على تزويد قناديل قلوبهم بزيت المحبَّة وذكر الله تعالى، لتضيء وتنعكس أنوارها على وجوههم الَّتي بدت عليها آثار التعبُّد والسجود لله تعالى.

ـ ورد وصف الرسول محمَّد صلى الله عليه وسلم وصحابته في كلٍّ من التوراة والإنجيل، وهي ترشد بمجملها إلى أن مثَلهم في تماسكهم وتعاضدهم كمثل موسى عليه السَّلام وقومه المقرَّبين المخلصين، وهم كذلك كمثل عيسى عليه السَّلام وحوارييه، ذلك أن أنبياء الله ورسله جميعاً يحملون جذور الحياة الإيمانية نفسها، والَّتي كانت تُقابَل بمحاولات اجتثاثها والقضاء عليها من قِبَلِ الكافرين، الَّذين يتميَّزون غيظاً وكراهية، ولكنَّ أتباعهم المخلصين كانوا يتكاتفون ويقفون كالجدار المنيع في وجه أعداء الحقِّ والعدل، ليحموا العقيدة والشريعة ويردُّوا كيد أعدائهم إلى نحورهم، فاستحقُّوا بذلك البُشرى من الله تعالى بالمغفرة والأجر الكريم.

في رحاب الآيات:

تبدأ الآية الكريمة بإثبات صفة محمَّد صلى الله عليه وسلم بأنه رسول الله، تلك الصفة الَّتي أنكرها المشركون، ثمَّ تزداد معالم هذه الصورة الوضيئة وضوحاً بذلك الأسلوب البديع؛ فهو ومن معه مجموعة متماسكة متحابَّة متعاونة متباذلة متناصحة، وكأنها على قلب رجل واحد، هكذا هي رحمتهم لبعضهم بعضاً، ورعايتُهم وحُنوُّهم، ورقَّةُ مشاعرهم، وحُسن تعاطفهم، قال صلى الله عليه وسلم : «مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم،كمثل الجسد الواحد إذا اشـتكى منه عضو، تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى» (متفق عليه من رواية النعمان بن بشير رضي الله عنه ) هذه هي صورتهم من الداخل، أمَّا إذا انبرى لهم عدو حاقد، أو كافر مارد، فإنهم أُسودٌ لهم صولة وجولة، يمثِّلون القوَّة والتصدِّي، والعزم وشدَّة البأس، كما وصفهم صلى الله عليه وسلم : «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشدُّ بعضه بعضاً» (رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ).

هذا هو المؤمن الوديع الودود لإخوانه وأحبابه ومَنْ سالَمَهُ، الشديد القوَّة على من عاداه وحاربه، والَّذي يقيم عواطفه ومشاعره كما يقيم سلوكه وروابطه المادِّية على أساس عقيدته وحدها، يشتدُّ على من عادوه فيها، ويلين لإخوته فيها، قد تجرَّد من الأنانية والهوى، ومن الانفعال لغير الله. والله تعالى يكرِّم الصحابة الكرام ويختار من هيئاتهم وحالاتهم هيئة الركوع والسجود؛ ليوحي بأن هذه الهيئة هي هيئتهم الغالبة الَّتي يراهم الرائي عليها في أغلب أوقاتهم، ذلك لأن هيئة الركوع والسجود تدلُّ على حسن عبادتهم، وهي الحالة الأصيلة لهم في حقيقة نفوسهم، فعبَّر عنها تعبيراً يُثْبِتُها حتَّى لكأنهم يقضون زمانهم كلَّه رُكَّعاً سُجَّداً!! ليعلم المطَّلع على أحوالهم بأن صفاتهم السامية تلك، إنما اكتسبوها بحسن الصلة بالله والتزامهم بعبادته وبشغلهم الدائم وبالسعي الدؤوب للحصول على رضاه، حتَّى إنه لتبدو آثار العبادة واضحة في مُحيَّاهم لكلِّ من ينظر إليهم، فكلَّما رآهم المرء ذكر اسم الله، لأنه يرى آثار العبادة الحقيقية واضحة في وجوههم الَّتي تتلألأ وضاءةً وإشراقاً، منبعثة من قلوب تحاكي الماء الزلال صفاءً وشفافية، وقد انعكست من داخلهم على ظاهرهم سلوكاً واستقامة وحسن خُلق. قال عثمان رضي الله عنه : (ما أسَرَّ أحدٌ سريرةً إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه). وهكذا نجد أن صفة الرُّكَّع السجود لا يمكن قصرها على حركات الجسد، بل لابدَّ مع ذلك من الاستعداد التام والدائم للخضوع لأمر الله، بفعل فرائضه، والمسارعة إلى مرضاته، واجتناب محرَّماته، فكم من واضع جبهته على الأرض وقلبه غافل متمرِّد على الله تعالى!.

هذه الصورة الإيمانية، لمحمَّد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، ليست غريبة على أهل الكتاب، فقد بُشِّرَ بهم في التوراة والإنجيل، ووردت صفاتهم على أنهم كزرع نامٍ قوي أخرج ثماره، الَّتي تتفرع على جانبيه كما يُشاهَدُ في الحنطة والشعير وغيرهما، ثمَّ يَقوى ويتحول من الدِّقة إلى الغلظة، ويستقيم على أصوله فيُعْجَبُ به الزُرَّاع لقوَّته وكثافته وغلظته وحسن منظره.

وخلاصة القول: إن هذا الهدي مثلٌ ضربه الله لبدء الإسلام وترقِّيه في الزيادة، إلى أن قويَ واستحكم وأَعْجَبَ الناس، وأن الله نمَّى المؤمنين وزاد عددهم ليغيظ بهم الكفار، وقد أدركوا أن الله مُتِّمٌ لنوره ولو أبَوا. والله جلَّ وعلا وعد الَّذين آمنوا أن يغفر لهم ذنوبهم، ويجزل لهم أجرهم بإدخالهم جنات النعيم، وما من شكٍّ بأن وَعْدَ الله حقٌّ وصدق، لا يُخْلَفُ ولا يبدَّلُ.

سورة الأنفال(8)

قال الله تعالى: {وإن يُريدوا أن يَخدعوكَ فإنَّ حَسبَكَ الله هو الَّذي أيَّدَكَ بِنَصرهِ وبالمؤمنين(62) وألَّفَ بين قلوبِهِم لو أنفقتَ ما في الأرضِ جميعاً ما ألَّفتَ بين قلوبِهِم ولكنَّ الله ألَّفَ بينهم إنَّهُ عزيزٌ حكيم(63)}

ومضات:

ـ ينسج المنافقون من خيوط الخداع أردية وستائر يخفون وراءها غاياتهم الحقيقية ونواياهم الخبيثة، ليعملوا في صفوف الدعوة إفساداً وتخريباً. ولكنَّ الله تعالى كفيل بردعهم وردِّ كيدهم إلى نحورهم، وإحلال السكينة في قلوب المؤمنين وتأليفها، لتصبح حصناً منيعاً يتعذَّر على الأعداء اقتحامه.

ـ لقد استطاع الإسلام تأليف قلوب من كانوا أَلَدَّ أعدائه وأشدَّ خصومه في زمن قياسي، وهذا سرٌّ من أسرار عظمته، في الوقت الَّذي يحاول فيه كثير من أصحاب الدعوات والشعارات، الخيِّرة منها أو الشريرة، تحقيق مثل هذا التآلف في مجتمعاتهم بعيداً عن الروح الدِّينية، وينفقون في سبيل ذلك أموالاً طائلة ولكن بدون جدوى، بل إن أموالهم هذه غالباً ما تتحول لتصبح سبباً للمزيد من الأحقاد والضغائن.

في رحاب الآيات:

قد يتبادر إلى ذهن المؤمن ـ الَّذي صفت سريرته وهو في غمرة سعيه الصادق من أجل سعادة الناس وخيرهم ـ أن منابت الشرِّ قد أمحلت وجفَّ معينها فذبلت وتلاشت، وهذا ما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته يحسنون النيَّة تجاه كلِّ من أظهر الودَّ والأُلْفَةَ لهم. وفي هذه الآية الكريمة، يلفت الله تعالى نظر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن هناك من يُضمر للمؤمنين شراً ويسعى إلى خداعهم والمكر بهم، ليكونوا على أَتَمِّ الأُهبة والاستعداد لمواجهة هذا المكر وإبطال كيده، ثمَّ يطمئنه بأنه يأوي إلى ركن شديد وأنه بمأمن من كيدهم، فهو في كنف الله عزَّ وجل ورعايته. فالله وحده الَّذي نصره، وجعل قلوب المؤمنين تلتفُّ حوله وتأوي إليه، وتنتظم خلف قيادته صفاً واحداً كأنها بنيان مرصوص. وهذا لعمري إعجاز بالغ وبيان وافٍ عن قدرة الله العظيمة وعزته الكريمة، فهؤلاء الرجال الَّذين اتحدت قلوبهم وأهدافهم وتوجهت نحو غاية واحدة هي نصرة دين الله، كانوا ولسنين قليلة خلت، من أَلَدِّ الأعداء؛ فقد استحكمت الخصومة والضغائن في قلوبهم ردحاً طويلاً من الزمن، وشتَّتت شملهم، وفرَّقت كيانهم إلى قبائل مشرذمة، ولم تفلح المحاولات المتكررة والمستميتة في جمعهم ونزع العداوة من صدورهم. ثمَّ انبثق فجر الإسلام فجأة، فجلب بضيائه هذه القلوب المتناحرة المتنافرة، ومازال يجذبها إليه ويقرِّب المسافات بينها إلى أن التقت جميعها على مائدته. ويلتفت المتحاربون إلى خصوماتهم فلا يجدونها، ويبحث المتنازعون عن أسباب فرقتهم فلا يرون منها إلا سُحُباً من الغبار تتلاشى وتغيب عن الأبصار، ولا يزال هذا الضياء قادراً على أن يجذب قلوب الخلق جميعاً حتَّى يوحِّدها، ويجعل منها أمَّة واحدة، هدفها إسعاد الإنسان كلّ الإنسان في الدارين.

فما هو هذا العامل الخلاَّق الَّذي أوجد كلَّ هذا الحبِّ وقضى على هذا الكمِّ من الكراهية؟ إنه نور الله الَّذي يسري في القلوب فيغسلها من الأحقاد والأمراض ويُحِلُّ مكانها المحبَّة والمودَّة والألفة. فأين هذا الأثر العظيم من الآثار الَّتي خلَّفتها الدعوات الفكرية أو الفلسفية المجردة عن الدِّين، المنقطعة الصلة بالله، والَّتي دأب الإنسان على ابتكارها وطرح إنتاجها منذ مئات السنين وحتَّى اليوم، وصرف في سبيل نشرها أموالاً طائلة بغرض توحيد الناس وجمعهم لتحقيق هدف أو آخر، فلم يُجْدِ ذلك كلُّه نفعاً، وكان كمن يروي بذاراً فاسداً، فإنه لن ينبت ولن يزهر أو يثمر. وفي كلِّ يوم نطالع خبر مصرع هذه الدعوات الواحدة تلو الأخرى، وأحياناً على أيدي مبتكريها أنفسهم، ذلك لأن روح الحياة مُستمَدَّة من الله عزَّ وجل، وكلُّ ما انقطع عن الله وفقد الاتصال به، فهو ميِّت لا روح فيه ولا حياة، ولذلك قال بعضهم: [ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انبَتَّ وانفصل].

ومن أدرك هذه الحياة الروحية وتمسَّك بأهدابها ولج دار السعادة الحقيقية، فهو يحبُّ الله ويحبُّ مخلوقات الله، ويعيش لهذا الحبِّ السرمدي الخالد، ويفيض الحبُّ حوله من كلِّ جانب فيظلِّله بالطمأنينة والأمان. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن من عباد الله لأناساً ما هم بالأنبياء ولا الشهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانتهم من الله عزَّ وجل. قالوا: يارسول الله تخبرنا من هم؟ قال: هم قوم تحابُّوا بروح الله بينهم، على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، والله إن وجوههم لنورٌ، وإنهم لعلى نور لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس» (أخرجه أبو داود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ). وقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم جذوة هذا الحبِّ وأشعلها في قلوب أصحابه فأحبُّوا الله أكثر من أنفسهم وآبائهم وأمهاتهم وتحابُّوا فيه، ورَضُوا أن يبذلوا نفوسهم ومهجهم وهم فرحون مستبشرون.

هذا هو الحبُّ الَّذي صهر النفوس في بوتقة واحدة وجعل الأرواح متجانسة متآلفة، حتَّى صارت الأُلْفة معيار الخير والإيمان، لقوله صلى الله عليه وسلم : «المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف» (أخرجه الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً وأخرجه البيهقي والقضاعي والعسكري عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً). لم لا؟ وأوَّل ثمار هذه المحبَّة أن الله يلقي محبَّة الصالحين في قلوب عباده؛ قيل: «يارسول الله إنا نعمل العمل لله ويحبُّنا الناس فقال: تلك عاجل بشرى المؤمن» (أخرجه مسلم وأبو دواد وابن ماجه عن أبي ذر رضي الله عنه). وقال صلى الله عليه وسلم : «إن الله تعالى إذا أحبَّ عبداً دعا جبريل فقال: إني أحبُّ فلاناً فأَحِبَّه، فيحبُّه جبريل، ثمَّ ينادي في السماء فيقول: إن الله يحبُّ فلاناً فأحبُّوه، فيحبُّه أهل السماء، ثمَّ يوضع له القبول في الأرض» (رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه )، وهذا ما أكَّدته الآية الكريمة في قوله تعالى: {إنَّ الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ سَيجْعل لهمُ الرَّحمن وُدّاً} (19 مريم آية 96).

والآن، وبعد أن رسمنا ملامح صفات المؤمنين، هل يحقُّ لنا أن ننظِّم جدولاً بهذه الصفات، لمطابقتها مع أعمال المؤمنين وتصرُّفاتهم، وخاصَّة الدعاة منهم؟.

إن قناعة الناس، وإيمانهم بمصداقية العالم العامل، الوارث الحقيقي لسلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم .. عامل أساسي في تدعيم بناء الدعوة، وشدِّ كيان العقيدة في نفوس أولئك الناس. وإنَّ التحلِّي بهذه الصفات لا يتعدى حدود الطاقة البشرية.. ولو كانت تتعدى هذه الطاقة لما فرض الله علينا التحلِّي بها؛ مصداق قوله تعالى: {.. لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلا وُسْعَهَا..} (2 البقرة آية 286)، وكما علَّمنا تعالى أن ندعو في محكم تنزيله: {.. ربَّنا ولا تُحَمِّلْنا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِه..} (2 البقرة آية 286).

إنَّ التحلِّي بصفات الإيمان، واجب على كلِّ مسلم ومسلمة، وإن الالتزام بها قولاً وعملاً وقدوةً، من أهمِّ واجبات المتفرِّغين للدَّعوة مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وواجب الجميع أن يتعاونوا بحبٍّ وصدق وإيجابيِّة، بحيث تسود الفضائل بينهم وتتكامل، دون ترصُّد الأخطاء والهفوات والعثرات لبعضهم بعضاً، بل الأَوْلَى سترها ومعالجتها بمزيد من التناصح والتعاون.

إنَّ هيمنة الأمن والأمان، والسلم والسَّلام، في رياض المؤمنين وتجمُّعاتهم، واجبٌ على الجميع بل هو فرضٌ، ليشعر الإنسان بالطمأنينة في رحاب الإيمان، حيث لا تفرقة ولا تناحر، لا طائفية ولا تعصُّب؛ وبهذا تنصهر القلوب جميعا، لتصبح قوَّة جذبٍ ذات فعالية عالية جدا، لتشدَّ قلوب الناس إلى دولة التوحيد، ودوحة الإيمان بالله الواحد الأحد.