b10-f2

الفصل الثاني:

صفات الداعي إلى الله

1 ـ الاقتداء بالصالحين

سورة الأنعام(6)

قال الله تعالى: {أولئك الَّذين هَدى الله فبِهُدَاهُم اقْتَدِهْ قُلْ لا أسئَلُكم عليه أجراً إن هو إلاَّ ذِكرى للعالمين(90)}

ومضات:

ـ إن الدَّعوة إلى دين الله لا تثمر ولا تؤتي أُكُلها، ما لم يكن الداعي متخلِّقاً بأخلاق النبيين الَّتي تجعل منه قدوة حسنة للآخرين.

ـ يكتفي بعض الناس بقراءة الكتب الدِّينية وسِيَر الأنبياء والصالحين، لعلَّهم يهتدون إلى المعرفة ويتزوَّدون بالعلوم الدِّينية، ولكنَّ هذا لا يفي بالغرض، بل ربَّما يؤدِّي بهم إلى العزلة ضمن محيط الدائرة النظرية للكتب، دون أن تمنحهم اللمسة الروحية والإحساس العميق بالهداية الَّتي يكتسبونها من قلبٍ حيٍّ نابض بالإيمان.

ـ هذه الآية تُوجِّه دعوةً للمؤمن كي ينطلق خارج دائرة العُزلة والانطواء على الذات ويبحث عن أهل العلم والفضل، عن ورثة الأنبياء الحقيقيين الداعين إلى الله بإذنه، للاستفادة والاستزادة من علومهم والتخلُّق بأخلاقهم، لتكتمل بنية المجتمع الإيماني الَّذي يُطلَبُ من جميع أفراده أن يكونوا في عداد أحد فريقين: إمَّا فريق العلماء، أو فريق المتعلِّمين، ولا خير فيمن سواهما.

في رحاب الآيات:

بعد أن ذكر الله تعالى لنبيِّه المصطفى صلى الله عليه وسلم خصوصاً، ولكلِّ داع إلى الله عموماً، ثُلَّة من الأنبياء والمرسلين وجهادهم في الدعوة إلى الله، أمره بقوله: {أولئك الَّذين هدى الله فبهداههم اقتده}. وهؤلاء القدوة هم: نوح وإبراهيم ولوط وإسماعيل وإسحاق ويونس ويعقوب ويوسف وموسى وهارون وداود وسليمان وأيوب وزكريا وإلياس واليسع ويحيى وعيسى عليهم الصَّلاة والسَّلام.

إن القدوة الحسنة هي من أهمِّ الوسائل الناجحة في سلامة مسار العملية التربوية، وهي دعامة متينة يستند إليها كلٌّ من المعلم والمتعلِّم على حدٍّ سواء. ولما كانت رحلة الإنسان على الأرض قصيرة إذا قيست بسنيِّ الزمن المديدة، وتحتاج إلى السير بخطوات مدروسة منظَّمة منضبطة بضوابط صحيحة سليمة، كان لابدَّ لها من المشرِّع الحكيم ذي العلم الشامل والَّذي يعرف ما ينفع الإنسان فيأمره به، وما يضرُّه فينهاه عنه؛ إنه الله الَّذي اقتضت حكمته أن يجعل حياة الإنسان قسمين يدوران حول محور واحد ألا وهما: التعلُّم والتعليم. وقد حثَّ الرسول صلى الله عليه وسلم عليهما بإيجاز شديد فقال: «ليس منِّي إلا عالم أو متعلِّم» (رواه ابن النجار والديلمي في مسند الفردوس عن ابن عمر رضي الله عنه ) فالمتعلِّم الناجح هو من لا يأخذ العلم من بطون الكتب فحسب، بل منها ومن صدور العلماء الَّذين تشرَّبوا هذا العلم وعملوا به، ثمَّ قدَّموه للناس نقياً صافياً كريماً. وإذا كان لابدَّ لكلِّ صاحب حرفة من معلِّم يوجِّهه ويصحِّح أخطاءه، ويأمره بما يجب أن يفعله وينهاه عمَّا يجب أن يتركه؛ فمن الطبيعي بل من الضروري أن يكون هناك معلِّم يعلِّم أمور الدِّين، ويعرِّف بالله عزَّ وجل، وعلى كيفية التوجُّه إليه إلهاً واحداً لا شريك له، وكيفية حمل الأمانة الَّتي أوكلها الله تعالى إلينا. فمهما أوتي الإنسان من حِدَّة الذكاء، ورجاحة العقل فإنه لا يستطيع أن يتوصَّل إلى علوم الدِّين كافَّة وحده، معتمداً على الفطرة أو العقل فقط، فالفطرة قد تُشاب ببعض التيارات العقيدية المنحرفة، والعقل قد تغزوه بعض الأفكار الضالَّة فتختلط عليه الأمور ويغدو حيرانَ، لهذا كان لابدَّ من وجود حارس يقظ يضبط الفطرة والعقل معاً، وهذا الحارس هو الشريعة الَّتي يبلِّغُها الله إلى عباده عن طريق الأنبياء والرسل.

فالداعية إلى الله هو الدليل الَّذي يدلُّ العباد على الله، وقبل أن يكون داعية هو بحاجة إلى من يدلُّه على شرائع الله وأحكامه، وعلى الأساليب والوسائل الَّتي يتَّبعها للتبليغ، وله في سِيَر الأنبياء والعلماء الَّذين كان لهم السبق في هذا المجال العون والمدد، لكي ينهج نهجهم ويقتدي بهم، ففي اطِّلاعه على سيرتهم وثباتهم وصبرهم، ومواقفهم من أقوامهم ومواقف أقوامهم منهم، ومعاشرته للدُّعاة المخلصين ما ينير له الطريق، ويذلِّل له الصعاب من أجل تحقيق الهدف المرجوِّ وهو الوصول بالناس إلى الإيمان الحقيقي.

إن كلَّ فرد مكلَّف أن يتَّخذ دليلاً يدلُّه على الله، يسلِّم له أمر تربيته، وقيادته، ليكون له عوناً في تزكية نفسه وتَعَلُّم الكتاب والحكمة، غير آبِهٍ بأقوال الحسَّاد الناقمين، والأعداء الناقدين الَّذين يشوِّهون سمعة رجال الدِّين، بل عليه أن يقوم بدراسة ميدانية جادَّة ليصل إلى الهداة الحقيقيين، ويرتشف نور الإيمان من قلوبهم وتوجُّهاتهم وأعمالهم وتربيتهم.

إن هذه الخطوة تعقبها خطوة ثانية هي مرحلة التعليم، فإذا استوعب المؤمن تعاليم الله من معلِّمه، ووعاها وعمل بها، فعليه أن يبلِّغها للناس، وهو مسؤول عن ذلك أمام الله، ولا تنجح مهمَّته هذه إلا إذا كان مخلصاً متجرِّداً، لا يبتغي منها إلا مرضاة الله، قاصداً وجهه، متخلِّياً عن مآربه الشخصية، نافضاً الدنيا عن منكبيه، مهاجراً إلى الله بقلبه ولسانه، ليفتح الله له مغاليق القلوب، ويُفيض الخير على يديه.

وفي الختام يجب ألاَّ ننسى عالميَّة الإسلام فهو مُرسَل للناس كافَّة، ممَّا يوسِّعُ دائرة مسؤولية الدعاة إلى الله، فعليهم أن ينتشروا في أرض الله الواسعة، يحملون الهدى والنور إلى نفوس متعطِّشة لقطرات من رحيق السماء، لتطفئ ظمأها الروحي الَّذي تئنُّ تحت وطأته. والعالم بأسره اليوم ينتظر بروز هؤلاء العلماء بشوق ولهفة بوصفهم منقذين ومصلحين، ليُدخلوه في مرحلة جديدة من عمر الدهر، هي مرحلة الطمأنينة بالإيواء إلى ركن شديد، ركن محبَّة الله القويِّ العزيز ومعرفته معرفة خلاَّقة، تهدي إلى مكامن الخير في هذا العالم، وتجمع القلوب جميعاً على سلامة الأسرة الإنسانية وسعادتها. هذه السعادة هي ثمرة لا تحملها إلا شجرة الإسلام، فهيَّا يا دعاة الإسلام أكثروا من غرس هذه الشجرة المباركة، لتكونوا المصنع العالمي للسعادة تصدِّرون منه إلى جميع خلق الله: الحبَّ والسعادة والإخاء، بإذن الله وتوفيقه، وبصدقكم وإخلاصكم؛ فعلى بركة الله سيروا، فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون.

 

2 ـ الحكمة

سورة النحل(16)

قال الله تعالى: {ادعُ إلى سبيلِ ربِّكَ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ وجادِلْهم بالَّتي هي أحسنُ إنَّ ربَّك هو أعلمُ بمن ضلَّ عن سبيلهِ وهو أعلمُ بالمهتدين(125)}

ومضات:

ـ يجب أن تبقى الدعوة إلى دين الله قائمة دون تهاون، وبالأسلوب الَّذي يتناسب مع عظمة الشريعة الَّتي ندعو إليها.

ـ تقضي الحكمة بأن نعطي المريض الدواء المناسب في الوقت المناسب وبالأسلوب الأمثل، وبالتالي فإن من الحكمة أيضاً أن نأخذ الشخص البعيد عن جادَّة الحقِّ بالرفق، لأنه مريض في فكره وقلبه، فالضلالة داؤه والإيمان دواؤه والسبيل إلى ذلك الحكمة.

ـ الموعظة الحسنة هي أن تخاطب الناس على قدر عقولهم، لا على قدر بلاغتك وفصاحتك.

ـ الحوار الإيجابي البنَّاء، القائم على الحُجَّة والبرهان، والَّذي يهدف إلى إقامة جسور المودَّة مع الآخرين، يثمر الإقناع والهداية والارتباط بمنهج السعادة، وعلى النقيض من ذلك فإن الجدال العقيم القائم على التبجُّح بالمعارف، والاستعلاء على الآخرين، يثمر التنافر وضياع الهدف.

ـ الإسلام لا يعوِّل على المظاهر بقدر ما يعوِّل على البواطن والحقائق، والله ربُّ العالمين هو وحده العالم بخفايا الناس، القادر على تقييمهم وإنزالهم المنازل الَّتي يستحقُّونها، فكم من أشعث أغبر ذي طمرين (ثوبين باليين) لا يؤْبَه له لو أقسم على الله لأبرَّه، وكم من متظاهر بالدِّين مدَّعٍ لفهمه، متستر بثياب العلم، يتفوَّه بالكلمة الضالَّة المُضلَّة لتهوي به وبغيره في النار سبعين خريفاً.

في رحاب الآيات:

إن كثيراً من الناس يفتقرون إلى المعرفة الصحيحة بأسلوب الدعوة إلى الله، الَّذي اتبعه الأنبياء والرسل وذكره القرآن الكريم، وجسَّده النبي محمَّد عليه الصلاة والسلام قولاً وعملاً. فالأمر الشائع لدى بعض من يلبسون مسوح الدِّين هو استعمال التعابير القاسية، أو القيام بتصرُّفات مستهجنة تجاه كلِّ من يرتكب خطأً ما، أو لا يوافقهم في آرائهم ولا يُقِرُّهم على أسلوبهم الفظِّ في الدعوة إلى الدِّين، بل إنهم يمعنون في ذلك فيعاملون الناس وكأنهم شياه تقاد إلى الحظيرة بالعصا الغليظة، فيُنفِّرونهم ويسيؤون إليهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

إن القرآن الكريم رسم منهج الدعوة؛ للرسول الكريم أوَّلاً، ولكلِّ داع إلى الله من بعده، فأرسى قواعدها ومبادئها وعيَّن وسائلها وطرائقها. والدعوة يجب أن تكون خالصة وموجَّهة إلى سبيل الله، لا لشخص الداعي ولا لقومه، فليس على الداعي في دعوته إلا البلاغ، وأجره بعد ذلك على الله. ويجب أن يرتكز أسلوب الدعوة إلى شريعة الله تعالى على النقاط التالية:

1 ـ الحكمة: وهي حسن مخاطبة الآخرين في الوقت المناسب، والمكان المناسب، وبالأسلوب المناسب الَّذي يكفل الوصول إلى شغاف قلوبهم لاستمالتها، وإلى عقولهم وضمائرهم لتحريكها وتسديد مسارها.

2 ـ الموعظة الحسنة: وهي الترغيب الحسن، والعرض المشوِّق المبني على المنطق والعقل السليم، وبالرفق والمداراة ولين الكلام، والتعريض دون التصريح والتنبيه دون الزجر، فإن الرفق في الموعظة كثيراً ما يهدي القلوب الشاردة، ويؤلِّف بين القلوب المتنافرة. فالرفق ما دخل في شيء إلا زانه ولا مُنِعَ من شيء إلا شانه، ويكفي في هذا المجال ما جاء في الأثر: [من حُرِم الرفق فقد حُرِم الخير كلَّه].

3 ـ الجدال المثمر: وهو الحوار القائم على دراسة نفسيَّة من نخاطبهم، وإيجاد أفضل السبل للوصول معهم إلى قناعات مقرِّبة لا إلى صدامات حادَّة منفِّرة، ودون تحامل على المخالف حتَّى يطمئن إلى الداعي، ويشعر أن هدفه ليس الغلبة في الجدل، ولكنَّ الإقناع والوصول إلى الحق. فالنفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها، وهي لا ترجع عن الرأي الَّذي تعتقد صحَّته إلا بالرفق حتَّى لا تشعر بالهزيمة، فالجدل بالحُسنى يُشعر المجادل أن ذاته مصونة، وأن الداعي لا يقصد إلا كشف الحقيقة والهدي إليها من أجل الله تعالى. أمَّا الهداية والضلال والمجازاة عليهما فأمرهما إلى الله سبحانه، إذ هو أعلم بحال من ضلَّ عن سبيله، وهو أعلم بمن اهتدى، وإليه ترجع الأمور جميعاً.

وإن المتتبِّع لمسيرة الدعوة النبوية يجد أن الحكمة من أهمِّ الصفات المُمَيِّزَة والمرافقة لها، من حيث اختيار الزمان والمكان المناسب، واختيار الطريقة الحكيمة السليمة في التعامل مع الأشخاص والأحداث. وقد كان من نتائج هذه الحكمة توحيد الجزيرة العربية تحت راية الإسلام في مدة لم تتجاوز ثلاثاً وعشرين سنة، بأقل من خمسمائة قتيل وشهيد من المشركين والمسلمين. والأمثلة على ذلك كثيرة، فقد استمر النبي صلى الله عليه وسلم في مكَّة أكثر من عشر سنوات يدعو إلى توحيد الله، ونبذ عبادة الأصنام، ومع ذلك كان يطوف حول الكعبة الشريفة، وحولها ثلاثمائة وستون صنماً دون أن يتعرَّض لأحد هذه الأصنام أو يؤذيها، حرصاُ منه على عدم استثارة مشاعر المشركين، وتجنُّب المزيد من إيذائهم له. ولكن حين فتح عليه السَّلام مكَّة، ودخلها بالنصر المبين، طاف حول الكعبة، ثمَّ أخذ يمرُّ على الأصنام واحداً واحداً، ويطعنها بعود كان بيده، ويقول: «جاء الحقُّ وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً، جاء الحقُّ وما يبدئُ الباطل وما يُعيد». (رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه)

ولـو أن النبي صلى الله عليه وسلم فعـل ذلـك منذ بدايـة الدعوة، لكـان مصيره مثـل إبراهيم ـ عليه السَّلام ـ الَّذي تحدَّى قومه منذ الأيام الأولى لدعوته، وحطَّم العديد من أصنامهم، فأثار غضبهم، وكانت نتيجة ذلك أن أوقدوا له ناراً عظيمة وألقوه فيها ، وكاد يهلك لولا أن تدخَّل الله تعالى وأنجاه منها، قال تعالى:{قَالوا حَرِّقُوه وَانْصُروا آلِهَتِكُم إِنْ كُنتم فَاعِلين * قُلْنَا يَا نَارُ كُوْنِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْرَاهِيمَ} (21 الأنبياء آية 68-69).

وكذلك تظهر الحكمة في سلوك النبي صلى الله عليه وسلم من خلال استفادته من كلِّ ما يخدم الدعوة، حتَّى لو كان من العادات الجاهلية، ومن ذلك أنه لمَّا ذهب إلى دعوة أهل الطائف وعَلِم المشركون من أهل مكَّة بذلك أرادوا أن يمنعوه من الرجوع إلى مكَّة ودخولها.. فأرسل صلى الله عليه وسلم إلى عدد من زعماء المشركين طالباً منهم أن يدخل مكَّة في حمايتهم وجوارهم فرفضوا إلا المُطعم بن عدي، الَّذي خرج بأبنائه السبعة، وأحاط برسول الله صلى الله عليه وسلم حتَّى طاف حول الكعبة، وهو في ظلِّ حمايتهم.. وبات في بيت المُطعم ليلتين، واستمرت الدعوة في حمايته قريباً من سنة. وهكذا شأن الداعي الحكيم الَّذي لا يُبالي إلا باستمرار الدعوة ووصولها إلى جميع الخلق، ولو كان ذلك لا يتمُّ إلا في حماية المشركين.

إن دراسة حياة النبي صلى الله عليه وسلم منذ بدء نزول الوحي ولحين هجرته إلى المدينة، يعطينا نموذجاً عملياً في أسلوب الدعوة إلى الله، وفي براعة التعامل مع غير المسلمين، على الرَّغم من الضغوط الشديدة الَّتي عانى منها بسبب تعنُّتهم وإيذائهم. فالداعي إلى الله يجب أن ينظر إلى الواقع الحالي مع أَملٍ بالمستقبل نظرة واحدة وفي نفس الوقت.. وهذه ميزة عجز عن الاستفادة منها الكثير ممن ينتسبون إلى الدعوة، ويلبسون لباس الدعاة. فإن تمكَّنتَ من كظم غيظك أمام عدوٍ للإسلام، أملاً في أن يُصبح مسلماً يشدُّ من أزر الدعوة في الغد القريب، تمكَّنت بهذا الشعور أن تسايره وتلاطفه، وتعامله بحنوٍّ وعطف؛ حنوِّ الأمِّ على طفلها المريض... وعلى العكس من ذلك فإن أعطيت لنفسك العنان، فانطلقت تخاصم وتعاتب وتهدِّد وتتوعَّد، فإنك ولا شكَّ تقلب العمل المنتج إلى بناء متَصدِّع ، والإيمان إلى تكفير؛ وتقريب القلوب إلى تهجير، ويفوت على الكثير من المقبلين الخير الكثير، بسبب قصورنا عن فهم الحكمة وأسلوب تطبيقها الفهم الصحيح.

أما إذا رغبنا معرفة صورة عن السلوك العملي للنبي صلى الله عليه وسلم في تطبيق الحكمة، وعُدْنا إلى ما جرى بينه ـ عليه السَّلام ـ وبين سهيل بن عمرو في صلح الحديبية.. فقد كان سهيل هذا لا يترك فرصة تمرُّ لإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم إلا واستغلَّها، يُعينه في ذلك أبو سفيان. وعندما جلس سهيل مندوباً عن قريش ومفاوضاً للنبي صلى الله عليه وسلم وبعد الاتفاق على شروط الصلح، دعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب وقال له: «اكتب: بِسمِ الله الرَّحمن الرَّحيم»، فقال سهيل أمَّا الرحمن فوالله ما أدري ما هو.. ولكن اكتب: باسمك اللهم. ثمَّ قال صلى الله عليه وسلم: «هذا ما قضى عليه محمَّد رسول الله»، فقال سهيل: والله لو كُنَّا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، اكتب: محمَّد بن عبد الله. فقال صلى الله عليه وسلم: «والله إنِّي لرسول الله وإن كذَّبتموني، اكتب: محمَّد بن عبد الله»، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «على أن تُخلُّوا بيننا وبين البيت، فنطـوف به». فقال سهيل: والله لا تتحدَّث العرب أنَّا أُخِذنا ضَغْطةً، ولكن ذلك من العام المقبل، وعلى أن لا يأتيك مِنَّا رجل، وإن كان على دينك إلا رددته إلينا.. (رواه البيهقي عن المِسور بن مخرمة).

وهكذا قَبِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الشروط كافَّة الَّتي تهضم الكثير من حقوق المسلمين، وبالرغم من معارضة جميع الصحابة لهذا الاتفاق؛ ما خلا أبو بكر رضي الله عنه. وكلُّ ذلك حرصاً من النبي صلى الله عليه وسلم على عدم نشوب القتال بين المشركين والمسلمين، ورغبةً منه في أن يسود بينهما جوٌّ من السلم ـ ولو المؤقَّت ـ يتمكَّن فيه المسلمون من دخول مكَّة ودعوة أهلها إلى الإسلام.

أمَّا ما كان من أمر سهيل، بعد ذلك، فقد أخرج ابن عساكر قال: كان أبو بكر رضي الله عنه يقول: (ما كان فتحٌ أعظم في الإسلام من فتح الحديبية، ولكنَّ الناس يومئذٍ قَصُرَ رأيهم عما كان بين محمَّد وربِّه، والعباد يعجلون، والله لا يعجل كعجلة العباد حتَّى يُبلغ الأمور ما أراد. ولقد نظرت إلى سهيل بن عمرو في حجَّة الوداع قائماً عند المنحر يُقدِّم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بُدْنَهُ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينحرها بيده، ودعا الحلاّق فحلق رأسه، وأنظر إلى سهيل يلتقط من شَعْرِهِ، وأراه يضعه على عينيه، وأذكر إباءه يوم الحديبية أن يكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، وأن يكتب: محمَّد رسول الله). وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ارتدَّت أكثر العرب من حول المدينة ومكَّة، وكان أن خطب أبو بكر رضي الله عنه في أهل المدينة خطبة كان لها دور كبير في تثبيتهم. وقام سهيلٌ خطيباً في أهل مكَّة بمثل خطبة أبي بكر رضي الله عنه ثبَّت فيها أهل مكَّة.. فتأمل كيف أثمرت الحكمة في سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله، وحوَّلت أشدَّ أعداء الإسلام إلى أنصار له، مدافعين عنه.

سورة البقرة(2)

قال الله تعالى: {يؤتي الحكمةَ من يشاءُ ومن يؤتَ الحكمةَ فقد أوتي خيراً كثيراً وما يَذَّكَّرُ إلاَّ أولوا الألبابِ(269)}

ومضات:

ـ آلة الحكمة هي العقل المستنير بهداية الله، المستقلُّ في حكمه عن الأهواء، والقادر على إدراك الأشياء وفهمها على حقيقتها.

ـ إن الوصول إلى الحكمة يتمُّ بتوفيق الله عزَّ وجل، ومن هداهُ الله إلى الحكمة فقد هدي إلى خيري الدنيا والآخرة.

ـ الحكمة سجية متأصِّلة في الناجحين من الدعاة، تعينهم على تحقيق غايتهم بالوصول إلى قلوب الناس لحملهم على الاستجابة للدعوة، وهي هدفٌ سامٍ يتطلَّع للوصول إليه كبار العلماء والمفكرين والمخلصين، لكي تُتوَّج أعمالهم بالنجاح والتوفيق، وتبقى ضمن الأطر الأخلاقية السليمة.

ـ لا يتَّعظ بالعلم ولا يتأثَّر به إلا ذوو العقول السليمة والنفوس التوَّاقة إلى المعرفة والحقيقة.

في رحاب الآيات:

الحكمة لفظة ذات أبعاد كثيرة ومعان عميقة، فهي تجمع عناصر الخير كلَّها من عقل سليم وفكر سديد، وعلم نافع. ولعلَّ من أهمِّ معاني الحكمة إدراك الأسباب والمسبَّبات في جميع ما خلق الله تعالى أو أنزل من التشريعات، ورَبْطها مع بعضها بتمعُّن ورويَّة لمعرفة الغاية الَّتي أرادها من إيجادها.

والحكمة هي أن يهيمن عقلُك الراجح الواعي على أهوائك وميولك في تقديرك للأمور، وأن تتشاور مع الآخرين قبل أن تُمضي حكمك في شيء، وأن تتوكَّل على الله حتَّى يمدَّك بالبصيرة والرشاد فلا يلتبس عليك الحقُّ بالباطل، لذلك كان من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم : «اللهمَّ أرنا الحقَّ حقّاً وارزقنا اتِّباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه».

ومن الحكمة تحصيل العلم الشرعي والكوني لما له من عميق الأثر على الفكر والنفس، ومن ثمَّ العمل به والإخلاص فيه، حتَّى يصل بصاحبه إلى الإصابة في القول والعمل، ونتيجة ذلك هي السعادة في الدنيا والآخرة. وقد جاء في تفسير الحكمة أيضاً أنها التفقُّه في الدِّين ومعرفة ما فيه من الهدى والحكم البالغة، قال صلى الله عليه وسلم : «إذا أراد الله بعبده خيراً فقَّهه في الدِّين وألهمه رشده» (رواه البزَّار والطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه ). وقد عرَّف أحد الحكماء الحكمة العملية بقوله: [فعل ما ينبغي في الوقت الَّذي ينبغي، على الشكل الَّذي ينبغي، وفي المكان الَّذي ينبغي].

ومنبع الحكمة من الله تعالى، ووسيلتها الإيمان والتواضع والعقل القادر على إدراك العلاقات بين الأشياء وحسن الإفادة منها. والغاية منها هي معرفة وسائل السعادة وأسبابها، وتوظيفها لصالح الإنسان في سائر أموره، أمَّا من يحظى بها فهو من هيَّأ نفسه لتلقِّيها، وأخلص عمله لله لأنه تعالى يسبغ على عباده المخلصين ظلالاً من صفاته العليَّة.

ولهذا نجد الآية الكريمة ترفع من شأن الحكمة، وتدعو المرء إلى استعمال عقله في السعي إليها والبحث عنها وتلقُّفها أينما وجدها، فقد ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم : «الحكمة ضالَّة المؤمن أينما وجدها فهو أحقُّ بها» (أخرجه القضاعي في مسنده مرسلاً عن زيد بن أسلم، وأخرجه الترمذي والعسكري والقضاعي أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه ). ومن يوفِّقه الله إلى مناهل الحكمة، ويرشده إلى هداية الإيمان والعقل، فقد رُزق سعادة الدارين، ووُفِّق إلى تسخير القوى الَّتي خلقها الله له في المفيد من الأشياء، وإعدادها لتحقيق ما فيه الخير العميم، متوكِّلاً على الله فلا يكون للجهل أو التعصُّب إلى مواقفه سبيل.

ولا يتعظ بالعلم ويتَّخذ الحكمة منارة له إلا ذو العقل السليم والنفس الزكية، الَّتي تغوص في بحر الحقائق، وتستخرج منه أغلى كنوزه، وتجعلها سلَّماً ترقى به إلى معارج التَّقوى والكمال.

ولابدَّ لنا أن نشير في الختام إلى أن الله تعالى قدَّم الحكمة على العلم في مثل قوله عزَّ وجل عن سيِّدنا يوسف: {ولمَّا بلَغَ أشُدَّهُ آتيناهُ حُكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين} (12 سورة يوسف آية 22) وحكماً هنا تعني الحكمة. وفي مثل قوله تعالى: {ولوطاً آتيناه حُكماً وعلماً..} (21 الأنبياء آية 74) وفي مثل قوله تعالى عن سيِّدنا موسى: {ولمَّا بلَغَ أشُدَّه واستوى آتيناه حُكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين} (28 سورة القصص آية 14). فالحكمة هي المِقوَد في مركبة الدعوة على طريق الأمان، وهي النور في ظلمات الجهل، والعالِم الفاقد للحكمة ضرره أكثر من نفعه، بل قد يُودي بالآخرين إلى التعصُّب والتهوُّر، بدل الحبِّ والرحمة والإخاء.

 

3 ـ الرِّفْق واللين

سورة آل عمران(3)

قال الله تعالى: {فبما رحمةٍ من الله لِنتَ لهم ولو كنتَ فظّاً غليظَ القلبِ لانفَضُّوا من حولكَ فاعفُ عنهم واستغفر لهم وشاوِرهُم في الأمرِ فإذا عزمتَ فتوكَّل على الله إنَّ الله يُحِبُّ المتوكِّلينَ(159)}

سورة التوبة(9)

وقال أيضاً: {لقد جاءَكُم رسولٌ من أنفسِكُم عَزيزٌ عليه ما عَنِتُّمْ حريصٌ عليكم بالمؤمنين رَؤوفٌ رحيم(128)}

ومضات:

ـ القانون الإلهي قائم على الرحمة لأنها مفتاح كلِّ خير لاسيَّما في مقام الدعوة. فالداعية الناجح هو من يُوغِل برفق في القلوب، ويتعهَّد بذور الخير فيها بالرعاية واللطف واللين إلى أن تنمو وتزهر.

ـ المؤمن يألف ويؤلف، والفظاظة تنفِّر القلوب وتبعثر الطاقات.

ـ ما خاب من استخار ولا ندم من استشار، ثمَّ عزم وقرَّر، متوكِّلاً على رعاية الله وحفظه وعنايته.

في رحاب الآيات:

يحتاج الناس الشاردون عن الحقِّ، البعيدون عن جادَّة الصواب، التائهون في صحراء الجاهلية، يحتاج هؤلاء وأمثالهم إلى قلب كبير يحتويهم، وكَنَف رحيم يشملهم برعايته وحمايته وهدايته، إنهم بحاجة إلى العناية الفائقة والتوجيه الرشيد؛ بالرفق والإحسان والترغيب. والسبيل إلى ذلك الكلمة الطيِّبة، والوجه الطلق والثغر الباسم، والصدر الواسع الحليم، فلا يضيق بهم ذرعاً بل يصبر على جهلهم وطفولة عقولهم، ويزيل همومهم، ويمسح دموعهم، ويقدِّم لهم العلاج الروحي الَّذي ينقلهم من المعاناة إلى السعادة، ومن المرض إلى الشفاء. إنهم بحاجة إلى الأسلوب الحكيم حيث يُخاطَبُون على قدر عقولهم، وفوق كلِّ ذلك فلابدَّ من قلب منوَّر بنور الله، يمدُّ قلوبهم وأرواحهم بالطاقة النورانية الإلهية، الَّتي تحرك فيهم القُدُرات، وتبعث فيهم الطاقات، فتتهيَّأ النفوس لقبول الدعوة والتفاعل معها، ومن ثمَّ جني ثمارها وخيراتها، هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا كانت حياته مع الناس جميعاً. والآية الكريمة تشير إلى الرحمة الَّتي ألقاها الله في حنايا قلبه عليه السلام وتُثْني على أخلاقه السامية، وقيادته الحكيمة، فعلى الرغم من مخالفة بعض الصحابة لأوامره في بعض المواقف فقد وسعهم بخلقه الكريم، وقلبه الرحيم، ولم يخاطبهم بالقسوة والشدَّة بل باللين والرحمة، لذلك اجتمعت القلوب حول دعوته، وتوحَّدت تحت قيادته.

إن القانون الإلهي يوضح أنه لا يمكن للناس أن يستجيبوا لتعاليم السماء، إذا قُدِّمت لهم بشكل فظٍّ وأسلوب مستهجن، وإن كانت مقدَّمةً من الأنبياء أنفسهم، فلابدَّ من الرحمة والرفق ليدخل شعاع النور الإلهي إلى قلوبهم. وفي هذا تعليم لجميع الدعاة ليكونوا مع الناس متراحمين متآلفين متآخين، لأنَّ المقصود من عمل الدعوة تبليغُ شرائع الله إلى الناس كافَّة، ولا يتمُّ ذلك إلا إذا مالت قلوب المدعوين إلى الدعاة، وسكنت نفوسهم إليهم، وهذا ما يوجب أن يكون الداعي رحيماً حليماً، أُسوة بالمثل الأعلى محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام الرحمة المهداة، الرؤوف الرحيم الَّذي هدى أمَّته إلى مفاتيح النجاح، وكنوز التوفيق قولاً وعملاً، وسلوكاً وتوجيهاً، حيث يقول صلى الله عليه وسلم : «لا ينبغي للرجل أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتَّى تكون فيه خصال ثلاث: رفيق فيما يأمر، رفيق فيما ينهى، عدل فيما ينهى» (أخرجه الديلمي عن أبان عن أنس رضي الله عنه ).

فليس من العسير إيراد المعارف ولا بذل النصيحة، ولكنَّ العسير تخيُّر أسلوب العرض لضمان النتائج، فكم من نفوس أعرضت عن كلمة الحقِّ، ولم يكن إعراضها ناشئاً عن طعن في صحَّتها أو شكٍّ في وضوحها؛ بل كان العامل الَّذي أدَّى إلى نفورها هو أسلوب الداعي الَّذي غلب عليه الجمود والفظاظة، ونأى عن الرِّفْق واللين، فنفرت منه القلوب، وأصبح البعد بينه وبينها شاسعاً.

وكان على الداعي أن يكون رحيماً بعباد الله، لأن التراحم بين الناس يشدُّ بعضهم إلى بعض، ويخلق بينهم جواً من الألفة والترابط، ويزرع في أعماقهم غيرة على المصلحة العامَّة، ممَّا يجعلهم أهلاً للمشورة وإبداء الرأي في سياسة الأمَّة وفي الحرب والسلم، وغير ذلك للوصول إلى الحلِّ السديد. فالإسلام يقرِّر مبدأ الشورى، وهذا نصٌ قاطع لا يدع للأمَّة المسلمة شكاً في كونه مبدأً أساسياً يجب ألا يقوم نظام الحياة على أساس سواه، أمَّا الوسيلة الَّتي يتحقَّق بها فهي تبعٌ لأمور قابلة للتحوير والتطوير، وفق أوضاع الأمَّة وملابسات حياتها. وللشورى فوائد عظيمة منها: أن العقول متفاوتة والأفكار متباينة بين الناس، وربَّما ظهر لبعضهم من صالح الآراء ما لا يظهر لغيرهم، ولكنَّ تبادُل الأفكار والآراء يهيِّئ الفرصة أمام هذه العقول لتتضافر مع بعضها، فتغدو وكأنها عقل واحد كبير، يكون على مستوى الأمر المتداول فيه، قادراً على رؤيته من جميع الزوايا رؤية دقيقة شاملة.

كما أن في الشورى دلالة على الصحَّة الاجتماعية تُظهر اجتماع القلوب على أمر واحد وتسعى إلى إنجاحه، فالجماعة أبعد عن الخطأ من الفرد، لذلك أمر الله تعالى رسوله الكريم بأن يقرِّر هذا المبدأ بشكل عملي، فكان صلى الله عليه وسلم يستشير صَحْبَه بهدوء وسكينة، ويُصغي إلى كلِّ قول، ويرجِّح رأياً على رأي حسبما يرى فيه من المصلحة والفائدة، وكان عليه السَّلام يستشير السواد الأعظم من المسلمين ولاسيَّما أهل الرأي والفضل، علماً بأن وجود الرسول ومعه الوحي، يكفي لإدارة شؤون الأمَّة دون الحاجة إلى الشورى، ولكنَّ الله لم يُلغ ذلك لأنه يعلم أن المجتمع لا يصلح دون مبدأ التشاور، وأن أي فردٍ في الأمَّة لا ينجح دون أمناء يستشيرهم، فضرب لهم المثل الصالح في الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولذلك ينبغي أن لا يستكبر الدعاة عن مشاورة من حولهم أسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم . وبالمقابل فإن إبداء الرأي في مشورةٍ ما أمانة عظيمة يتوجَّب على حاملها أن يحسن أداءها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم : «من أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه» (رواه أبو داود والحاكم). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المستشار مؤتمن» (رواه أصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة رضي الله عنه ).

ومن ناحية ثانية فإن نجاح أي عمل، مشروط بالتوكُّل على الله، وهو الثقة المطلقة بالله والاعتماد عليه وتفويض الأمر إليه، والاستعانة به في كلِّ شأن، والتيقُّن بأن قضاءه نافذ، مع الأخذ بالأسباب وتدريب الأُمَّة على التشاور في كلِّ أمورها، لزرع الروح الجماعية وإلغاء الأثرة والأنا والفردية من صفوف المجتمع. والإنسان في صراعه مع مشكلات الحياة تنتابه المخاوف، وتعترضه الصعاب، وتنزل به الآلام، فلا يُحِسُّ بطعم الحياة، ولا يتمكَّن مع هذا القلق من القيام بدوره الرئيس في إسعاد نفسه ونفع غيره، فتتعطَّل قواه المادِّية والمعنوية، ويصبح شيئاً لا قيمة له، ولا تطيب حياته إلا إذا استمتع بسكينة النفس، وطمأنينة القلب، وراحة البال، وعافية البدن، وسبيله إلى ذلك أن يثق بالله ويحسن الظنَّ به ويتوكَّل عليه، ويردَّ الأمر كلَّه إليه، جاء في الحديث القدسي: «أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني» (رواه البخاري والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه ). فتوكُّل المؤمنين على الله قوَّة نورانية تعينهم إذا أقدموا، وتمسح آلامهم إذا أخفقوا، ولا يُحسن التوكُّل على الله إلا من امتلأ قلبه بالإيمان لأنه ثمرة من ثماره، فعن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لو أنكم تتوكَّلون على الله حقَّ توكُّله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً» (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والنسائي). على أن التوكُّل على الله لا يتنافى مع اتخاذ الأسباب، بل إنه لا يصحُّ إلا إذا اتخذ الإنسان لكلِّ أمر أسبابه الموصلة إلى تحقيقه، فالله سبحانه قد ربط المسبَّبات بأسبابها، والنتائج بمقدِّماتها. وقد تخفى علينا بعض الأمور فلا ندرك أسبابها وحكمتها، ويتوجَّب علينا حينها أن نلجأ إلى مسبِّب الأسباب لعلَّه بعنايته ورحمته يهدينا إلى طريقها الأمثل، أو يبدلنا خيراً منها، ويجب مع هذا بذل كلِّ الجهد الممكن والطاقة الَّتي نملك مع اعتقادنا بأنها كلُّها من فضل الله، وأنه قد هدانا إليها بما وهبنا من العقل والمشاعر؛ قال تعالى: {وأَن لَيسَ للإنسان إلا ما سَعى * وأن سَعيهُ سوفَ يُرى * ثمَّ يُجزاهُ الجزاءَ الأَوْفى} (53 النجم آية 39ـ41). إن التوكُّل محلُّه القلب ولكي يتمَّ التوكُّل وتتكامل درجاته يُحتاج إلى معرفة الله وصفاته والإيمان المطلق بأن الأشياء صادرة عن مشيئته وقدرته، وإخلاص القلب في توحيده له، واعتماده عليه، وحسن الظنِّ به، وتفويض الأمور كلِّها إليه، وهذا كلُّه يثمر الرضا بما يقضي الله عزَّ وجل. إن التوكُّل على الله خلَّة يحبُّها الله ويحبُّ أهلها، لذلك يجب أن يحرص عليها المؤمنون، لأنه يشكِّل أداة التوازن في الحياة الإسلامية، وهو التسليم المطلق بأنَّ مَردَّ الأمر لله وحده، ودون تعطيل لطاقاتنا وجهودنا الفردية.

 

4 ـ الثبات

سورة الجاثية(45)

قال الله تعالى: {ثمَّ جعلناكَ على شَريعَةٍ من الأمر فاتَّبِعْها ولا تتَّبع أهواءَ الَّذين لا يعلمون(18) إنَّهم لن يُغْنوا عنكَ من الله شيئاً وإنَّ الظَّالمينَ بعضُهم أولياءُ بعضٍ والله وليُّ المتَّقين(19)}

سورة الإسراء(17)

وقال أيضاً: {وإن كادوا لَيَفْتِنونَكَ عن الَّذي أوحينا إليكَ لتفتَريَ علينا غيرَهُ وإذاً لاتَّخذوكَ خليلاً(73) ولولا أنْ ثبَّتناكَ لقد كدتَّ ترْكَنُ إليهم شيئاً قليلاً(74) إذاً لأذَقْناكَ ضِعفَ الحياةِ وضِعفَ المماتِ ثمَّ لا تجدُ لك علينا نصيراً(75)}

ومضات:

ـ رسم الله تعالى معالم طريق الدعوة الَّتي ينبغي على النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلكها، محدِّداً له القواعد الثابتة في الشريعة، وطلبمنه أن يلتزم بالسير عليها، دون الالتفات إلى الجَهَلة المغرضين، لأن جهلهم مبني على الظلم، وتعاونهم قائم على البغي والعدوان.

ـ يجب أن لا يغفل قلب الداعي عن حضرة الله، وأن يبقى متمسِّكاً بحبل العناية الإلهية حذراً من التأثُّر بالفتن الَّتي يحيكها المغرضون من حوله، والإغراءات الَّتي يحاولون بها صرفه عن هدفه.

ـ إن أيَّ خطأ قد يبدر عن الدعاة سيقتدي به الناس اعتقاداً منهم بصوابه، لذلك كانت مسؤوليَّتهم كبيرة جداً، وعقابهم مضاعفاً عن عقاب بقية الناس بقدر هذه المسؤولية.

في رحاب الآيات:

لقد أمر الله تعالى النبي عليه السَّلام أن يكون أوَّل الملتزمين بهذه الرسالة، وأوَّل المطبِّقين لها، وأن يتصدَّى لأرباب الكفر والضلالة دون أن يتأثَّر بهم، أو يسايرهم في أهوائهم وانحرافاتهم؛ لأنهم غارقون في جهلهم، متمادون في غيِّهم، ثمَّ إن موافقتهم ومسايرتهم لا تعطي أي ثمرات إيجابية بنَّاءة تفيد في إصلاح بُنية المجتمع، لأن تعاونهم قائم أصلاً على الظلم وسلب الحقوق وتحقيق المكاسب المحرَّمة.

إن هذه الآيات وأمثالها تلفت انتباه المسلم الداعية ليحذر الوقوع في شرك أعدائه وحُسَّاده، خاصة إذا كان على مستوى من العطاء والقيادة الفاعلة في مجتمعه. فهي تذكِّر بمحاولات المشركين مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأوَّلها محاولة فتنته عمَّا أوحي إليه، وافتراء غيره عليه وهو الصَّادق الأمين. تلك المحاولات الَّتي اتخذت صوراً شتَّى، منها مساومتهم له أن يعبدوا إلهه مقابل أن يترك التنديد بآلهتهم، وما كان عليه آباؤهم، ومنها مساومة بعضهم له أن يجعل أرضهم حرماً آمنا كالبيت العتيق الَّذي حرَّمه الله، ومنها طلب بعض الكُبراء أن يخصَّهم بمجلس غير مجلس الفقراء. ثمَّ يذكر النصُّ فضل الله على الرسول في تثبيته على الحقِّ، وعصمته من الفتنة، وإلا لَمالَ إلى إغراءاتهم ووقع في شراكهم، ثمَّ لقي عاقبة ذلك وهي مضاعفة العذاب في الحياة وبعد الممات، دون أن يجد منهم نصيراً له يحميه من عقاب الله تعالى.

إن هذه المحاولات الَّتي عصم الله رسوله منها هي محاولات المغرضين دائماً مع أصحاب الدعوات الروحية النبيلة بغية إغرائهم لينحرفوا عن طريق الدعوة المستقيم، ويرضوا بأنصاف الحلول الَّتي يغرونهم بها من مغانم دنيوية جمَّة. ولكنَّ روحانية الرسول الكريم كانت غالبة على بشريته، إذ لم يكن أمام روحه ما يحجبها عن نور الله، ولولا تثبيت الله، ونور الهداية، وأثر العناية الربَّانية لكان يمكن أن يركن إلى أهل الأهواء ولو قدراً يسيراً. وممَّا لا ريب فيه أن العظيم إذا ارتكب إثماً أو خطيئة فعقابه شديد على قدر عظمته، لأنه يفتح الطريق لغيره لارتكاب إثم كإثمه اقتداءً به وتأسِّياً، فكأنه سنَّ ذلك لهم، قال صلى الله عليه سلم فيما أخرجه مالك وأحمد ومسلم وغيرهم عن أبي جُحَيْفة وواثلة بن الأسقع رضي الله عنهما: «من سنَّ سنَّة سيئة، فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».

وروي عن قتادة أنه قال: «لما نزل قوله تعالى: {وإن كادوا ليفتنونك..} قال صلى الله عليه وسلم : اللهمَّ لا تكلني إلى نفسي طرفة عين» (أخرجه البزار عن ابن عمر رضي الله عنه والطبراني في الصغير والأوسط عن أنس رضي الله عنه ). فينبغي للمؤمن أن يتدبَّر هذه الآيات حين تلاوتها، ويستشعر الخشية، ويستمسك بدعاء النبي عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام، لكي يبقى في عناية الله عزَّ وجل وحفظه وإرشاده. فلا يتَّكل على قواه ولا يركن إلى طاقاته، بل يشعر دائماً وأبداً أنه مفتقر إلى الله وعونه وتأييده، وفي ذلك السَّلامة والنجاة من الزيغ والانحراف والبعد عن جادَّة الحق.