b10-f1

الـبـاب العاشر

الدعوة إلى دين الله

الفصــل الأوَّل : المَحاورُ العامَّة الَّتي تدور حولها مهمَّة الدعوة:

آ ـ التوجُّه إلى حقيقة الإيمان وجوهر الإسلام

ب ـ الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

 

الفصل الأوَّل:

المحاور العامَّة الَّتي تدور حولها مهمَّة الدعوة

آ ـ التوجُّه إلى حقيقة الإيمان وجوهر الإسلام

سورة الروم(30)

قال الله تعالى: {فأَقِمْ وَجهَكَ للدِّينِ حَنيفاً فِطْرَةَ الله الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عليها لا تبديلَ لخَلْقِ الله ذلك الدِّينُ القَيِّمُ ولكنَّ أكثرَ النَّاسِ لا يعلمون(30)}

ومضات:

ـ لو تُرك الحسُّ الدِّيني عند الطفل ينمو بشكل حيادي دون مؤثِّرات خارجية سلبية لتوافقت طبائعه مع التربية الدِّينية، لأن كلَّ مولود يولد على الفطرة، وهذه سنَّة الله في خلقه، وليس لسنَّة الله تبديلاً.

ـ إن جهل الناس بقِيَم الدِّين الحقِّ وأهدافه السامية في إقامة المجتمع الفاضل، واتِّباعهم نهج المجتمع المنحرف الَّذي يعيشون فيه، يُبعدهم عن دين الله، فإن لم تُتَح لهم فُرص التعرُّف عليه، فسوف يخبطون في الحياة خبط عشواء، ولا ينعمون بأمن أو طمأنينة أو سلام.

في رحاب الآيات:

تعدُّ الآية موضوع البحث دعوة عامَّة لكلِّ إنسان على هذه الأرض ليبرمج حياته كلَّها وفق تعاليم الدِّين الحنيف، ويتوجَّه إليه قلباً وقالباً. فهذا الدِّين هو العاصم من الأهواء الَّتي لا تستند إلى حقٍّ، ولا تستمدُّ من علم، إنما تتبع الشهوات والنزوات بغير ضابط ولا دليل، فهي طرق متفرقة متشعِّبة لا يجوز للعاقل أن يسير فيها لئلا يضل، وإنما ينبغي أن يبقى مستقيماً مبتعداً عن كلِّ سلوك يضلُّه ويؤدِّي به إلى الخسران.

ولو أننا أمعنَّا النظر في جوهر الدِّين، لرأينا فيه سعادة الإنسان المفطور أصلاً على التلاؤم معه وعلى عشق هذه السعادة الصافية النقية، الَّتي تشعُّ منه لتشمل الإنسان ومن يلوذ به من قريب أو بعيد، ثمَّ تأتيه الظروف، والعوامل الخارجية الَّتي تجرفه عن نقاء هذه الفطرة، يقول صلى الله عليه وسلم : «مامن مولودٍ إلا يولد على الفطرة فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه» (رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ). وبذلك يربط القرآن الكريم بين فطـرة النفـس البشـرية وتعاليم الدِّين، فكلاهما من صنع الله الَّذي أحسن كلَّ شيء خَلَقه، وكلاهما موافق لناموس الوجود، وكلاهما متناسق مع الآخر في طبيعته واتجاهه. والله الَّذي خلق الإنسان هو الَّذي أنزل إليه هذا الدِّين ليهديه ويرشده، ويحميه من الأمراض ويقوِّمه من الانحراف، وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير.

فالفطرة ثابتة والدِّين ثابت، فإذا ما انحرفت النفوس عن الفطرة لم يردَّها إلا الدِّين المتناسق معها، لذلك تتبعثر جهود جميع المدارس الفكريَّة الَّتي تلهث وراء سعادة الإنسان بعيداً عمَّا فُطر عليه وتضيع سدىً. لكنَّ انغماس الإنسان في حمأة المادَّة، وأدران الرذيلة، وبُعده عن تعاليم الله يحجب عنه نور الإيمان، ويجعل قلبه في معزل عن معرفة الحقِّ، وهذا الَّذي وصفته الآية الكريمة: {ولكنَّ أكثرَ النَّاسِ لا يعلَمون} فيتبع الهوى بغير علم، ويضلُّ عن الطريق الموصل إلى النجاة على الرغم من استقامة هذه الطريق ووضوحها، ويختار الطرق الملتوية الَّتي تؤدِّي إلى سوء العاقبة والندامة، فهو في حاجة إلى صحوة سريعة تنجيه ممَّا هو فيه، وتضع قدميه على طريق السعادة والنجاح.

سورة البقرة(2)

قال الله تعالى: {صِبغَةَ الله ومن أحسنُ من الله صِبغَةً ونحنُ له عابِدُونَ(138)}

ومضات:

ـ الإيمان الَّذي يلتقي مع قناعة العقل الحرِّ والمنطق السليم هو عطاء الله النوراني، الَّذي صبغ به عباده الأخيار الَّذين اختاروا الاستجابة لدعوة الله، فظهر أثر هذا العطاء في سلوكهم كما يظهر أثر الصبغ في الثوب.

ـ تنعكس ملامح هذه الصبغة في أعمال المؤمنين، وتتجلَّى بوضوح في عبادتهم الحقَّة لله عزَّ وجل المبنيَّة على توحيده وطاعته.

في رحاب الآيات:

عندما يتغلغل الإيمان بالله عزَّ وجل في القلوب الصافية، فإنه يصبغها بألوان وظلال من الحبِّ والخير تفيض على من حولها من الخلق. وهذا الإيمان هو منحة الله تعالى يهبها لمن فتحوا عقولهم وبصائرهم أمام نور الحقيقة، والَّذي يوافق القناعة الحرَّة النقية من الخرافة والتقليد الأعمى. فإذا نفضنا غبار المعتقدات الخرافية والتقاليد البالية الَّتي تتراكم عبر السنين، والَّتي يتوارثها الناس جيلاً بعد جيل على أنها قوانين لا يجوز اختراقها ولا تجاوزها، لوجدنا العقل الإنساني الرشيد متفتِّحاً ومستعداً لتقبُّل الحقيقة الَّتي فُطر الإنسان عليها، وهي وحدانية الله عزَّ وجل، والتسليم بها. ولوجدنا القلب الإنساني كذلك مسكناً تُشِعُّ فيه الأنوار الإلهية، ويستقرُّ فيه الإيمان، لينعكس بعد ذلك أعمالاً وأخلاقاً تتبدَّى جلية في محبَّة الإنسان لأخيه الإنسان، والتعاون معه على إعمار الأرض بالعقل الإيماني، والإيمان العقلاني، والعلم المُسْعِد، وبناء الأخلاق الفاضلة، وهذا كلُّه يتمُّ ضمن إطار قوله تعالى: {ونحن له عابِدون} أي العبادة الحقيقية لله عزَّ وجل.

ولقد توالت الرسالات السماوية، من عصر إلى آخر، لترسِّخ هذا الإيمان في قلوب الناس وتشحذ هممهم لينطلقوا إلى نشر التعاليم الإلهية الَّتي تحمل الخير والسلام للناس كافَّة. ولئن اختلفت بعض الأحكام والتشريعات من رسالة سماوية إلى أخرى، على الرغم من وحدة منشئها جميعاً، فإن هذا الاختلاف كي تلبِّي حاجات الناس الحقيقية في العصر الَّذي جاءت فيه، وهي تختلف من عصر إلى عصر، إلا أن جوهر الشرائع السماوية الإلهية جميعاً يقوم على عقيدة التَّوحيد الَّتي لا يصح الدِّين دونها. ومهمَّة الدعاة إلى الله هي إيصال هذه العقيدة إلى الناس كافَّة، وتعريفهم إيَّاها بالشكل السويِّ الَّذي يحبُّه الله، وإعادتهم إلى فطرتهم السليمة، وهي إخلاص العبادة لله وحده، بعيداً عن الأهواء، خاصَّة وأنَّ الإنسان عدوُّ ما جهل، وأن أكثر الناس لا يعلمون بأن الدِّين جاء لتحقيق مصلحتهم وإعلاء شأنهم ونشر السلم والإخاء بينهم، فيسعدون حاضراً في دنياهم ويسعدون مستقبلاً في أخراهم.

سورة الأنعام(6)

قال الله تعالى: {الَّذين آمنوا ولم يَلْبِسوا إيمانَهُم بظُلْمٍ أولئك لهم الأمْن وهم مهتدون(82)}

ومضات:

ـ المؤمن الحقُّ هو الَّذي لا يشوب إيمانه بما يعكر صفوه من إساءة لنفسه أو للآخرين.

ـ الأمن مُحصِّلةُ الإيمان الحقيقي الَّذي يكون بمثابة منارة تضيء دروب التائهين، وتهديهم إلى بَرِّ السلام والمحبَّة والإخاء.

في رحاب الآيات:

كلُّ مخلوق سويٍّ على وجه البسيطة يحبُّ أن يرى الأشياء على صفائها ونقائها الَّذي فُطرت عليه، إنْ في ذاته أو في الموجودات حوله. فإذا ما استيقظ ذات يوم وشعر بأن شمس قلبه قد توارت بحُجب الغفلة والذنوب، ضاقت نفسه، وبادر بالتوسُّل إلى خالقه كي يكشف عنه هذه الحجب. فشأنه في هذا شأن من قُدِّم إليه كأس ماءٍ فجعل يُقَلِّب نظره فيه؛ فإن رآه متألِّقاً صافياً استحبَّته نفسه، وأقبلَ على شربه، وإن وجده شائباً متَّسخاً عافته نفسه، فأعرض عن تناوله.

فإذا كان الإنسان المخلوق يعشق النقاء والصفاء بهذا الشكل، ويتوخَّاه في مأكله ومشربه وملبسه، وفي بيته وعمله، فكيف بالخالق العظيم المبرَّأ من النقائص والعيوب، والمنزَّه عن الأشباه والنظائر، هل يرضى من عباده أن يرفعوا إليه إيماناً مزيَّفاً تُعَكِّرُ صفاءه الشوائب، وتشوِّه نقاءه الأخلاط؟.

لذلك كان علينا بوصفنا مؤمنين موحِّدين لله عزَّ وجل أن نصحِّح مسيرة إيماننا ونطهِّره من كلِّ ما علق به من شوائب جرَّاء جهلنا وسوء تصرفنا وغفلتنا عن القيادة الحكيمة الَّتي غابت عن بصائرنا. فالمرشد لنا هو الله تعالى الَّذي يمنحنا الأمن والهداية كثمرتين لالتزامنا بأمرين اثنين:

الأوَّل: أن نؤمن به إيماناً عميقاً، صافياً، خالصاً، بأنه ربُّنا وخالقنا والمستحقُّ وحده لعبادتنا وتوجُّهنا، وأنه وحده النافع والضارُّ، فما يكون لأحد غيره سلطانٌ علينا في شيء لم يقدِّره تعالى لنا، وهو الرزَّاق الَّذي بيده خزائن كلِّ شيء فلا نلتمس الرزق من غيره.

والثاني: أن لا يشوب إيماننا ظلم ولا ظلمة، كالشرك الَّذي يجعل قلوب بعض الناس معابد تنتصب فيها أصنام شتَّى من المتعلَّقات المادِّية والحسِّية كالمال والأهل والناس، والمتعلَّقات المعنوية كالهوى والنفس والشهوة، فما دام التعلُّق بواحد منها أقوى من التعلُّق بالله كان الإيمان ناقصاً مشوباً.

فالإيمان هو تنفيذ مراد الله وإيثاره على ما نريد ونهوى، أما الإشراك فهو أن نرغب عن تنفيذ مراد الله ونؤثر ما تريده أنفسنا وأهواؤنا، فنقع في الظلم؛ لأننا أسأنا بهذا الإشراك إلى أنفسنا ونحن نظنُّ أننا نحسن صنعاً، فنتردَّى في مهاوي الضلال، ونعيش في ضياع وتشتُّت وتمزُّق بعد أن قطعنا حبال الصلة الَّتي كانت تربطنا بالله، وبعد أن ضللنا الطريق الَّتي كانت تسلك بنا إلى ينابيع عطائه وإمداده. فأيُّ ظلم أشدُّ من هذا الظلم؟! وأية خسارة أبلغ من هذه الخسارة؟! ولهذا فقد وصف الله لنا الإشراك به على لسان لقمان حين قال لابنه: {..يابُنَيَّ لا تُشْرِكْ بالله إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عظيم} (31 لقمان آية 13) وكذلك قوله تعالى في آية أخرى: {..وقد خابَ من حَمَلَ ظُلْماً} (20 طه آية 111) (حمل ظلماً: أي شِركاً وكُفْراً).

فالله جلَّ وعلا هو المؤمن والسَّلام، وقد وهب قبساً من هذه الصفات جميعها لعباده المؤمنين المتَّقين، الَّذين نزَّهوه وعبدوه كما ينبغي لجلاله وكماله، فأفاض عليهم من خيره ما ذكرته الآية الكريمة: {ولِمن خافَ مقامَ ربِّه جَنَّتان} (55 الرحمن آية 46) جنَّة في الأرض وجنَّة في السماء، جنَّة الهدى والرضا في الدنيا، وجنَّة النعيم في الآخرة ومَنْ أصدق من الله قولاً؟.

ولابدَّ لنا أن ننوِّه أن للظلم مظاهر شتَّى يتجلَّى فيها لدى مُدَّعي الإيمان، حيث يصيبه الكِبْر والخُيَلاء والشعور بالفوقية ممَّا يجعله يتحامل على الآخرين بسبب تقصيرهم أو جهلهم. وهذا التحامل هو الظلم بعينه، والمؤمن الحقيقي كلَّما ازداد إيماناً ازداد رحمة وتواضعاً للآخرين، وبذلك يشعر كلُّ من يلوذ به بالأمن والأمان، والراحة النفسية والاطمئنان.

سورة الحُجُرات(49)

قال الله تعالى: {قالتِ الأعرابُ آمنَّا قُلْ لم تُؤمِنوا ولكنْ قولوا أسلَمنا ولمَّا يَدخُلِ الإيمانُ في قلوبِكُم وإن تُطيعوا الله ورسولَهُ لا يَلِتْكُم من أعمالِكُم شيئاً إنَّ الله غفورٌ رحيم(14) إنَّما المؤمنونَ الَّذين آمنوا بالله ورسولِهِ ثمَّ لم يرْتابوا وجاهدوا بأموالِهِم وأنفسِهِم في سبيلِ الله أولئك هم الصَّادقون(15)}

ومضات:

ـ كلُّ من ابتعد عن روح الإيمان غدا كأعرابي جاهل، وتبقى روحه عارية عن كسوة الإيمان، الَّذي هو يقين يستقرُّ في القلب، ويقتلع منه كلَّ جذور الشكِّ والريبة بالرسالة والرسول، ولا يكفي المرء أن ينسب نفسه للإسلام ليكون مؤمناً حقيقياً، بل إنَّ عليه أن يجسِّد اعتناقه للإسلام عملاً وواقعاً بطاعة الله ورسوله.

ـ المؤمن الحقيقي يسير في طريق الدعوة وهو كامل الثقة بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم ، ينفق ماله ويبذل روحه في سبيل إشادة بناء الإيمان والسَّلام والإخاء العالمي، فيستحقُّ بذلك لقب المجاهد الصَّادق.

في رحاب الآيات:

ادَّعى سكان البادية زمن الرسول r بأنهم آمنوا، وردَّ الله تعالى عليهم وعلى من كان على شاكلتهم في كلِّ زمان ومكان بأنهم لم يؤمنوا بعد، ولكنَّهم مازالوا معتقدين فقط بالإسلام، وبصحَّة نبوَّة الرسول الكريم. فالإيمان الحقيقي: إضافة إلى ما تقدَّم هو التطبيق العملي لتعاليم الإسلام قلباً وقالباً، روحاً وجسداً، ولا يمكننا الوصول إليه، ونحن بمنأى عن الصلة المادِّية والروحية بالنبي محمَّد عليه السلام، لأن في القرب منها علماً وتعلُّماً وأخلاقاً وتزكيةً، وكلَّما اقتربنا منه r حباً وصدقاً وإخلاصاً، كلَّما ارتشفت قلوبنا من أنوار الهداية، وتغذَّت عقولنا بثمار العلم، واشتدَّت هممنا في العمل المجدي البنَّاء. وليس المقصود في هذه الآية التفرقة بين أهل المدن وأهل البادية، بل القصد هو إثبات قرب أهل المدينة منه r وابتعاد أهل البادية عنه، ذلك القرب الَّذي كان يهيِّئ لصحابته المحيطين به إمكانية التأسِّي به صلى الله عليه وسلم ، والالتزام بمدرسة التعليم والهداية قولاً وعملاً؛ أما الأعراب فهم في باديتهم مشغولون.

وبهذا المعنى يبقى الناس وعلى مرِّ العصور أعراباً ولو سكنوا المدن والقصور، ما لم يلتزموا برياض العلم والعلماء، وما لم توصلهم محبَّتهم لرسول الله إلى طاعة أوامر الله تعالى، والالتزام بسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ممَّا يؤهِّلهم لأن يتقبَّل الله تعالى أعمالهم كاملة غير منقوصة. أخـرج ابن ماجه وابن مردويه والبيهقي في شـعب الإيمان عن الإمام علي بن أبي طالب ـ كرَّم الله وجهـه ـ قال: قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم : «الإيمان معرفـة بالقـلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان» وهذا لا يحصل إلا بعد الدخول في مدرسة العمل، لأن الإيمان تصديق قلبي واطمئنان نفسي وسلوك عملي في طريق التربية وتهذيب النفس. ومع هذا فإنَّ كَرَمَ الله اقتضى أن يجزي الطائعين على كلِّ عمل صالح يصدر عنهم، فلا ينقص من أجرهم شيئاً ما استقاموا على الطاعة والتسليم. وهو تعالى ستَّار للهفوات، غفَّار لزلاَّت من تاب وأناب، وأخلص له، رحيم به فلا يعذِّبه بعد التوبة. أما من أقرَّ بالإسلام واكتفى من تعاليمه بالأماني، وأصرَّ على أعرابيَّته، فلم يكلِّف نفسه مشقَّة الالتزام بأحكام الإسلام وتكاليفه فله تهديد الله تعالى بقوله: {الأعرابُ أشدُّ كُفراً ونِفاقاً وأجْدَرُ ألاَّ يعلموا حُدودَ ما أنزلَ الله على رسولهِ والله عليمٌ حكيم} (9 التوبة آية 97).

ثم يُبيِّن الله تعالى صفة المؤمنين الصادقين الَّذين صدقوا الله ورسوله، ثمَّ لم يتشكَّكوا، ولم يتزعزعوا، بل ثبتوا على حال واحدة، وبذلوا مُهَجهم، ونفائس أموالهم في طاعة الله ورضوانه، وتسلَّحوا بسلاح الصَّبر في مقاومة التجارب القاسية، والابتلاءات الشديدة. والتعبير على هذا النحو ينبِّه القلوب المؤمنة إلى مزالق الطريق، وأخطار الرحلة لتحزم أمرها، وتحتسب معاناتها، وتستقيم، ولا ترتاب عندما يَدلَهمُّ الأمر، ويظلم الأفق، فالله تعالى وصف المؤمنين الصادقين بثلاثة أوصاف:

الأوَّل: التصديق الجازم بالله ورسوله.

والثاني: عدم الشكِّ والارتياب، بل اليقين المبني على العلم والحكمة وتزكية النفس.

والثالث: الجهاد بالمال والنفس، وهذا يتطلَّب الجُهد الحثيث للحصول على المال الحلال، وتكريسه في سبيل الله، فمن جمع هذه الأوصاف فهو المؤمن الصَّادق.

وبهذا ندرك أنه لكي ينتقل الإنسان من أعرابيَّته إلى حضريَّته فعليه أن يؤمن إيماناً راسخاً عميقاً وكاملاً بالله ورسوله، إيماناً لاشكَّ بعده ولا زيغ، إيماناً يدفعه لأن يكون على استعداد لتقديم كلِّ ما يملك في سبيل الله، بكلِّ صدقٍ ومحبَّةٍ وتفانٍ، إيماناً لا يدع مجالاً لحبٍّ يغلب على حبِّ الله تعالى ورسوله وتكاليف الإسلام، قال الله تعالى: {قُل إن كان آباؤكُم وأبناؤكُم وإخوانُكُم وأزواجُكم وعشيرتُكم وأموالٌ اقترفْتُموها وتجارةٌ تخشَونَ كسادَها ومساكنُ ترْضَونَها أحبَّ إليكم من الله ورسولهِ وجهادٍ في سبيله فتربَّصوا حتَّى يأتيَ الله بأمرهِ والله لا يهدي القومَ الفاسِقين} (9 التوبة آية 24).

سورة الحُجُرات(49)

قال الله تعالى: {يَمُنُّونَ عليك أن أسْلَموا قُلْ لا تَمُنُّوا عليَّ إسْلامَكُم بلِ الله يَمُنُّ عليكم أن هداكم للإيمانِ إن كنتم صادقين(17)}

ومضات:

ـ أعطى الله تعالى البشر العقل المميِّز، والروح الصافية، والعواطف المتنوِّعة، والحواسَّ المدركة، وأرسل لهم الرسل والأنبياء لتبيان طريق الإيمان، فإن هم تلَقَّوا دعوة الهداية فاستجابوا لما فيه خيرهم؛ فأيُّ فضل لهم أو منَّة على الله أو رسوله؟!.

ـ المنَّة الحقيقية والفضل الكامل لله ربِّ العالمين في كلِّ ما منحه للخلائق من عناية ورعاية، وأسباب موصلة للسعادة، لأن التوفيق للهداية والإيمان أثمن نِعَمِ الله على الإطلاق.

في رحاب الآيات:

لقد مَنَّ بعض المسلمين على رسول الله r اعتناقهم للإسلام، فجاءهم الردُّ بأن المنَّة ليست لهم في شيء بل منَّة الله عليهم في هدايتهم للإيمان كبيرة، وعليهم أن يبرهنوا عملياً على صدق إيمانهم. ونحن نقف أمام هذا الردِّ الَّذي يتضمَّن حقيقة جلية يغفل عنها كثير من النَّاس، وقد يغفل عنها بعض المؤمنين أيضاً؛ وهي أن الإيمان يعدُّ كُبرى النِّعم الَّتي يُنعم الله بها على عباده في الأرض بعد نعمة الإيجاد الَّتي منحها لهم، ويلحق بها سائر ما يتبعها من الآلاء كالرزق والصحَّة والحياة والمتاع وغيرها. إنها المِنَّة الَّتي تجعل للوجود الإنساني حقيقة مميَّزة، وتجعل له في نظام الكون دوراً أصيلاً عظيماً. وأوَّل ما يمنحه الإيمان للكائن البشري هو سعة تصوُّره لهذا الوجود، ولارتباطاته به، ودوره فيه، وشعوره بقيمته وكرامته، وإحساسه بأنه يملك أن يقوم بدور مرموق يُرْضي الله تعالى، ويحقِّق أسباب السعادة الشاملة. فالإيمان يوسِّع أفق المؤمن ويعمِّق معرفته بما يجري حوله، فيرى أن الدُّنيا مزرعة الآخرة، وأنه مجزيٌّ على الصغيرة والكبيرة، وأنه لم يُخلق عبثاً، ولن يُترك سدىً، وبهذه المعرفة تختفي من نفسه مشاعر القلق الناشئة عن الجهل بحقائق المنشأ والمصير.

فالمؤمن يعرف بقلب مطمئن أنه يلبس ثوب العمر بقَدَرِ الله الَّذي يصرِّف الوجود كلَّه تصريف الحكيم الخبير، وأن اليد الَّتي ألبسته إيَّاه أحكم منه، وأرحم به، قال الله تعالى: {الله خالقُ كلِّ شيءٍ وهوَ على كلِّ شيءٍ وكيل * له مقاليدُ السَّمواتِ والأرضِ والَّذين كفروا بآيات الله أولئك همُ الخاسرون} (39 الزمر آية 62ـ63). وقد يرتقي المؤمن في المعرفة الإيمانية فيقطع الرحلة، ويؤدِّي الدور في فرح واستبشار؛ شاعراً بجمال الهبة، هبة العطاء الإلهي، وهذا كسب عظيم في عالم الشعور والتفكير، كما أنه كسب في عالم الجسد والأعصاب، وهو كسب في جمال العمل والنشاط والتأثير. والإيمان قوَّة دافعة وطاقة مجمِّعة عجيبة، فما تكاد حقيقته تستقرُّ في القلب حتَّى تتحرَّك لتعمل ولتحقِّق ذاتها في الواقع، ولتوائم بين صورتها المضمرة وصورتها الظاهرة. وهو يجعل صاحبه يستشعر العبودية المطلقة لله تعالى، فينسب له الفضل كلَّه، فالله جلَّ وعلا هو مصدر الهداية، وهو الَّذي أنعم على الإنسان بهذا التكوين الروحي والفكري والنفسي والجسدي، وهو الَّذي زرع بذور الإيمان والخير في أعماق النفس البشرية، وترك للإنسان حرِّية استخدام ما أوتي من قوى وإمكانات، وتسخيرها للتقرُّب من خالقه، وتنفيذ تعاليمه، واجتناب نواهيه. فلو أعطانا قوَّة العقل وسلبنا قوَّة الإرادة لما استطعنا تنفيذ تعاليمه، ولو أعطانا قوَّة الروح وسلبنا قوَّة الحركة لما كان بإمكاننا تطبيق شريعته. وبهذا فإن الله تعالى قد سخَّر كلَّ الإمكانات للإنسان، وجعله مُثاباً على تحريكها ومعاقَباً على تعطيلها.

ب ـ الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

سورة آل عمران(3)

قال الله تعالى: {وَلْتَكُن منكُم أُمَّةٌ يَدعُونَ إلى الخيرِ ويأمُرُونَ بالمعرُوفِ ويَنهَونَ عنِ المُنكَرِ وأولئك هُمُ المُفلِحُون(104)}

سورة آل عمران(3)

وقال أيضاً: {كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ للنَّاسِ تأمُرُونَ بالمَعرُوفِ وَتنهَونَ عنِ المُنكَرِ وتؤمنونَ بالله.. (110)}

ومضات:

ـ لابدَّ من وجود علماء دعاة في كلِّ أمَّة؛ يحسنون دعوة أفرادها إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم، وينقذونهم من الانقياد للشهوات والوقوع في شباك الفواحش والمنكرات، ويقتلعون جذورها من نفوسهم.

ـ الخير: هو كلُّ سبب يؤدِّي إلى رقيِّ الإنسان روحيا ومادِّياً.. والمعروف: هو أصالة الأخلاق بصفائها ونقائها.. والمنكر: هو ما تعافه الأنفس السليمة من قول أو فعل أو عمل..

في رحاب الآيات:

لا يمكن للأمَّة المسلمة أن تكون خير أمَّة ما لم تأخذ زمام المبادرة في الانقياد التام لأحكام الإسلام، ومن ثمَّ نشر الفضيلة والعلم والإيمان العقلاني، والقضاء على مصادر الجهل والتخلُّف والفساد. هكذا كان الصحابة الأوَّلون، ولهذا شرَّفهم الله بمنزلة خير أمَّة؛ ولهذه المنزلة الرفيعة تبعاتها والتزاماتها، فهي لا تُنال ادِّعاءً، ولا يحظى بها إلا من تأهَّل لها بالتمسُّك الوثيق بمنهج القرآن الكريم، وإدراك مقتضياته. فالدور الَّذي ينتظر هذه الأمَّة يلقي على عاتقها الكثير من المسؤوليات، ويدفعها إلى السبق في كلِّ مجال، وعلى رأس هذه المسؤوليات صيانة حياة الناس من الشرِّ والفساد، ولا يمكن أن يتحقَّق ذلك إلا عندما تملك الأمَّة الطاقة الإيمانية والقدرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوجيه غايات الناس والسمو بها نحو الخير المطلق.

ولقد أكَّد القرآن الكريم مراراً وتكراراً على ضرورة الدعوة إلى الخير، لما فيه من إيجابية بنَّاءة تسهم في صلاح الأمَّة ونجاحها؛ ولا يخفى أن العقول السليمة المُوَفَّقَة سُرعان ما تهتدي إليه وقلَّما تحتاج إلى من يبصِّرها به أو يدلُّها عليه؛ لأنه هدفها الَّذي تتطلَّع إليه وتسعد به. وللخير ضروب شتَّى وسبل عديدة، أشار القرآن الكريم والسُّنَّة الشريفة إلى بعضها، ومن ذلك:

ـ الاستزادة من الحكمة، قال تعالى: {..ومن يُؤْتَ الحكمَةَ فقد أوتيَ خيراً كثيراً..} (2 البقرة آية 269).

ـ الإرشاد إلى أوجُه الخير؛ وهو عمل لا يقلُّ أهميَّة عن القيام بالخير نفسه، قال صلى الله عليه وسلم : «من دلَّ على خير فله مثل أجر فاعله» (رواه مسلم عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنه ).

ـ التواصي البنّاء والتراحم والكلمة الطيِّبة، كلُّ ذلك من مظاهر الخير الَّذي يهدف إلى إعلاء كلمة الله والرقي بالإنسانية نحو الأفضل، قال تعالى: {ثُمَّ كان من الَّذين آمنوا وتواصوا بالصَّبر وتواصوا بالمرحمة} (90 البلد آية 17).

ـ عمل المعروف الَّذي يُقدَّم إلى الناس ابتغاء مرضاة الله مهما كبر أو صغر، قال تعالى: {خُذِ العَفْوَ وأمُر بالعُرفِ وأعرض عن الجاهلين} (7 الأعراف آية 199)، ويقول صلى الله عليه وسلم : «لا تَحْقِرنَّ من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق» (رواه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه ).

ـ المبادرة إلى العلم البنَّاء في شتَّى نواحي الحياة والتنافس فيه من أَجَلِّ أبواب الخير الَّذي يدفع إليه الإسلام، ويرغِّب فيه ليكون رصيداً للإنسان، يسمو به إلى أقصى درجات العُلُوِّ والرفعة، قال تعالى: {..وقُل ربِّ زدني علماً} (20 طه آية 114).

وعلاوةً على كلِّ ما سبق، فإن للخير وجوهاً كثيرة أَجْمَلَها الرسول r حين قال: «إن أبواب الخير لكثيرة: التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتميط الأذى عن الطريق، وتُسمع الأصمَّ، وتهدي الأعمى، وتدلُّ المستدلَّ على حاجاته، وتسعى بشدَّة ساقيك مع اللهفان المستغيث، وتحمل بقوَّة ذراعيك مع الضعيف، فهذا كلُّه صدقة منك على نفسك» (رواه مسلم وأبو داود وابن حبَّان والبيهقي عن أبي ذر رضي الله عنه ).

وأفضل الخير ما قام به المرء وهو في عافية من البدن، ووفرة من المال، وإقبال من الدنيا، فإن ذلك دليل إيثار ما عند الله تعالى، ومظهر للوعي الدِّيني. ورأسمال الخير، هو استثمار الوقت في العمل الصالح، فالزمن لا ينتظر أحداً بل يمضي سريعاً، والوقت هو الفرصة الذهبية الَّتي وهبها الله للإنسان ليغتنمها بالخير والصلاح، فإذا فرَّط في النهوض بالعمل الصالح، وقصَّر في أداء الواجب فقد عرَّض نفسه لخسارة فادحة لا تُعوَّض.

والإسلام يفتح باب الخير على مصراعيه للناس جميعاً، فقيرهم وغنيهم، كبيرهم وصغيرهم، وليس في الإسلام حيِّزٌ لا يستطيع المرء أن يجول فيه، وإنما هناك متَّسعٌ كبيرٌ للعمل المنتج، قلَّ أم كثر، لأن دعوة الناس إلى الخير تعدُّ أحد أمرين إذا قامت بهما الأمَّة غدت خير أمَّة أخرجت للناس، وفي هذا قال عمر رضي الله عنه : (من سرَّه أن يكون من هذه الأمَّة فليؤدِّ شرط الله فيها)، وهذا الشرط واضح في قوله تعالى: {تأمُرُونَ بالمعرُوفِ وتَنْهَون عَنِ المُنْكَرِ وتُؤمِنونَ بِالله}.

ولا يخفى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنهوض بتكاليـف الأمَّة ـ بما تحمله هذه التكاليف من متاعب، وبما يعترض طريقها من أشـواك ـ ليس أمراً سهلاً، ويظهر ذلك عند الاطلاع على طبيعته ومدى اصطدامه بشهوات الناس ونزواتهم، ومصالح بعضهم ومنافعهم، وغرور بعضهم وكبريائه. وهو واجبٌ على كلِّ فرد من أفراد الأمَّة، بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ) وكلمة (فبقلبه) تعني: أن يصلح المرء قلبه ويجعله مسكناً للأنوار الإلهية، حتَّى يستمدُّ القوَّة من حضرة الله، ويتمكَّن من زرع الإيمان في قلوب الآخرين وإصلاحهم، وهذا بالإضافة إلى الاستنكار القلبي وعدم الرضا الضمني بالمنكر، والتوجه بالدعاء لهم بالخير والصلاح.

على أنه يجب أن تتوافر فيمن يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شروط عديدة منها:

1 ـ أن يكون عالماً بالقرآن والسنَّة والسيرة النبوية، ملمّاً بقسطٍ من العلوم الكونية والاجتماعية.

2 ـ أن يكون مدركاً لحال من يُوجِّه إليهم الدعوة، متعمِّقاً فيه بدراسة ووعي.

3 ـ أن يكون مُجيداً للغة الأمَّة الَّتي يريد دعوة أبنائها إلى المعروف ونبذ المنكر.

4 ـ أن يتمتَّع باللين والرفق والحكمة، فكثيراً ما يُقدِم الإنسان على المنكر لجهله به؛ فإذا نُبِّهَ بالحسنى إلى أنه منكر تركه، وليس أدلَّ على ذلك من قصَّة المأمون مع الرجل الَّذي وعظه فأغلظ له القول، فما كان منه إلا أن قال: يارجل! ارفق، فقد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شرٌّ منِّي، بعث موسى وهارون إلى فرعون وقال لهما: {فقولا له قولاً ليِّناً لعلَّهُ يَتذَكَّرُ أو يخشى} (20 طه آية 44).

ولابدَّ من اللجوء إلى الإيمان بالله لإقامة الميزان الصحيح للقيم الإنسانية، فهو يزوِّد المؤمن بتصوُّر صحيح للوجود والإنسان ويحدِّد علاقته بخالقه، ودوره الحقيقي في هذا الكون، ومن هذا التصوُّر تنبثق القواعد الأخلاقية المستمَدَّة من صفات الله تعالى وأسمائه الحسنى. فالإيمان هو المفتاح إلى جميع الطاعات، ومع ذلك فقد تقدَّم ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ذكر الإيمان في الآية الكريمة؛ لأنهما سياجه، وركنه الشديد، ومن المتعارف عليه عند الناس أن ركن البناء يسبق البناء! وعلى هذا فالمؤمن الصادق هو الطبيب الحاذق، الَّذي يجعل هَمَّهُ بَرْءُ الناس من الفساد والشرور، فيحذِّرهم قبل الوقوع في التهلُكة، وينقذهم إذا زلَّت بهم الأقدام، وهو الحارس الأمين لسلامتهم الروحية والفكرية والاجتماعية.

وأُمَّة المؤمنين هي خير أمَّة لأنها مكلَّفة بإنقاذ جميع الأفراد والأمم من الجهل والفقر والتخلُّف وجميع أشكال الانحلال الخلقي، وهذا يلزمه دعاة علماء ربَّانيون أكفاء. وأفراد المجتمع ملزمون بنصح بعضهم بعضاً، على اختلاف عقائدهم ومللهم ومذاهبهم، في كلِّ المجالات، وبكلِّ الإمكانات المتوافرة. ومهما قلَّ حجم المساعدة فإنه خير من التقاعس واللامبالاة الَّتي توصل الإنسانية إلى التعاسة والشقاء؛ فحين يُعْرِضُ أحدنا عن إغاثة ملهوف بدافع اللامبالاة وعدم الاهتمام، فإنه سيواجه يوماً تبحث فيه عيناه بتوسُّل ورجاءٍ عن يد تمتدُّ إليه، وتنتشله من مصيبة ألمَّت به، فلا يجد سوى الإعراض وعدم الاكتراث. وحين لا يكترث المؤمن بدرء الأخطار عن مجتمعه، ويتوانى عن توجيه أفراده نحو الطريق القويم، فإنه سيقطف ثمار تقصيره فساداً عاماً ووبالاً شاملاً.

ولو أن أهل الشرائع السماوية تعاونوا معاً على درء أخطار الفتن المادية عن بعضهم بعضاً وعن غيرهم من الأمم، لغدا مجتمع الأرض متوازناً، يسوده العدل والسَّلام، لكنَّ إهمالهم لهذه المسؤولية يدفع الكثير من أبناء الإنسانية إلى التردِّي في وديان الفسق، ويصبح المجتمع بؤرة للفساد والإفساد، ويتعسَّر بعد ذلك تعديل مساره، ويغدو وحشياً تعمد ذئابه إلى افتراس أبنائه، بإشاعة ألوان الفساد بين صفوفهم من جنس ومخدِّرات وفواحش، والَّتي ستؤدِّي بدورها إلى انهيار المجتمع، والقضاء عليه.

 

سورة التوبة(9)

قال الله تعالى: {إنَّ الله اشترى من المؤمنينَ أنفُسَهُم وأموالَهُم بأنَّ لهم الجنَّة يُقاتِلون في سبيلِ الله فيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُون وَعْداً عليه حقّاً في التَّوراةِ والإنجيلِ والقرآنِ ومن أوفى بعهدِهِ من الله فاستَبْشِروا ببيعِكُم الَّذي بايَعْتُم به وذلك هو الفوزُ العظيم(111) التَّائبونَ العابدونَ الحامدونَ السَّائحونَ الرَّاكعونَ السَّاجدونَ الآمرونَ بالمعروفِ والنَّاهونَ عن المنكرِ والحافظونَ لحدودِ الله وبَشِّرِ المؤمنين(112)}

ومضات:

ـ إن الله عزَّ وجل اشترى من المؤمنين برسالته أعزَّ نفائسهم، المال والنفس، فمن وافق على البيع فجزاؤه الجنَّة ولا يُخلف الله وعده.

ـ مَنْ قُبِلَ بيعه فله البشرى والسعادة والسرور في الدنيا والآخرة، ولن يُقبل إلا من الراجعين عن ذنوبهم والمخلصين في عباداتهم، والحامدين الله في السرَّاء والضرَّاء، والسائحين في الأرض للاستزادة من العلوم والخيرات، والَّذين يدعون إلى العلم وما يتبعه من أعمال البرِّ والخير، وينهون عن الجهل وما يجرُّه من المعاصي والآثام، والحافظين لشرائع الله وأحكامه، يطبِّقون مضمونها فينفِّذون أوامرها ويجتنبون محارمها ويتخلَّقون بأخلاقها.

في رحاب الآيات:

جميع الشرائع السماوية من مصدر واحد، وهذه حقيقة قائمة تركِّز عليها آيات القرآن الكريم لتثبت وحدة الهدف بين أنبياء الله جميعاً، وبين ما جاؤوا به من الكتب السماوية، فهي جميعها تُسقى من معين واحد، وتتفرَّع من شجرة واحدة. لذلك نجد أن الحقائق المطلقة الَّتي لا يعتريها تغيير أو تبديل تتكرَّر في كتب الله كلِّها، وهذه واحدة من تلك الحقائق المبثوثة في كتب الله الثلاثة: التوراة والإنجيل والقرآن، والَّتي ترفع قيمة الإنسان إلى المكانة الَّتي رشَّحه الله لها وهي التكريم والتفضيل على سائر المخلوقات، فالنفس من صنع الله، والروح من أمره، والمال ماله، وهو وحده المعطي، ومع ذلك فإنه يكافئ من ينفق في سبيله بأجزل العطاء، إنه كَرَمُ الله وجودُهُ الَّذي ليس له حدود.

وفي مسيرة التبليغ كانت هناك دائماً طائفة من الناس استطاعت بقوَّة إرادتها، وتصعيد رغباتها، أن تتحرَّر من أسر الجسد، ومن رِبْقة المادَّة، فتكشَّفت لأرواحها بعض اللطائف الربَّانية، فأدركت عظمة الوجود، فانصرفت بكيانها كلِّه إلى مرضاة الخالق المعبود. هؤلاء الناس الَّذين صفت قلوبهم، وتطهَّرت نفوسهم، باعوا أرواحهم وأموالهم لله تعالى لا يبغون سوى مرضاته، ولا يتحرَّون إلا صالح العمل وقول الحقِّ مع الإخلاص فيهما، ويؤثرون ما عند الله من نعيم دائم على عرض الدنيا وزخرفها.

وكم كان البَوْن شاسعاً بين من باع نفسه ابتغاء مرضاة الله، وبين من باع إيمانه ابتغاء أهوائه وغرائزه. والله سبحانه وتعالى يشتري من المؤمنين أموالهم وأنفسهم وهي ملك له، بما لا يُعدُّ ولا يحصى من رحمته وإحسانه وكرمه، ويرفع هممهم فيبذلونها في سبيله لدفع الشرِّ والفساد عن عباده، وتقرير الحقِّ والعدل فيهم، ولولا ذلك لغلب شرُّ المفسدين في الأرض، فلا يبقى فيها صلاح.

إنها عملية مبايعة من نوع فريد، لأنها تجارة بين الله والإنسان، المشتري فيها هو الله تعالى، والعبد هو البائع، وماذا يبيع ربَّه؟ يبيعه أشياء من ممتلكاته سبحانه وتعالى هو أعطاه إياها دون مقابل، الروح والمال، تلك هي البضاعة النفيسة، وثمنها الجنَّة! أَكْرِم بها من تجارة! تحتاج من العبد شيئاً من التنازل، وشيئاً من التسليم، وشيئاً من تغليب حقِّ الله على حقِّ الذات، وشيئاً من الثقة بما عند الله. لكنَّ قبول البضاعة يحتاج إلى شروط، إذ ينبغي أن تكون في مستوى يؤهِّلها لتُرفع إلى الله، ولا يُرفع إلى الله إلا ما هو طيِّب، مُزكّى، مُخْلَص لله تعالى، إنها النفس في لحظة نقائها وتجرُّدها، حين تهجر كلَّ ما نهى الله عنه، وتنقطع عن كلِّ متعلَّقاتها من الدنيا، من المال والولد والزوجة والجاه، وتهب ذاتها خالصة لربِّها، فتندفع للجهاد في سبيل الله، لتكون كلمته هي العليا، ولنشر تعاليم السماء، ووأد كلِّ مظاهر الوثنية والشرك والعبودية لغير الله، وتلقي بنفسها في ساحات الدفاع عن الشرف والعقيدة، وفي سبيل نُصرة الضعفاء والمظلومين. إنه الجهاد بشتَّى صوره وأشكاله، في سبيل نشر الفضيلة والقضاء على الرذيلة، ونشر العلم والمعرفة، وإزالة الجهل والتخلُّف، وإغناء الإنسان وسعادته، ومحو آثار الفقر والحاجة، ونشر الصحَّة والعافية ومكافحة الأمراض والأوبئة، وباختصار هو في سبيل مرضاة الله ونشر رسالته لأجل سلام العالم وأمنه.

هؤلاء المؤمنون الصادقون لم يصلوا إلى هذا المستوى الرفيع من الإيمان إلا بفضل صدقهم مع ربِّهم، وبفضل الميزات الَّتي يتَّصفون بها، فهم تائبون توبة نصوحاً تردُّهم إلى الله وتكفُّهم عن الذنوب، وتدفعهم إلى صالح القول والعمل، وهم عابدون تقرَّبوا من خالقهم بفضل ثباتهم وإيمانهم وعبوديَّتهم الخالصة له، وهم يحمدون الله في جميع حالاتهم، في العُسر واليُسر نتيجة استسلامهم الكامل له، والثقة المطلقة برحمته وعدله، وهم المتفكِّرون في ملكوت السماء والأرض، المستخلِصون لحكمة الوجود من خلال آلاء الله الناطقة في جميع ما خلق، والَّتي تدلُّ على القدرة والحكمة في إبداع الخلق، وهم الراكعون تواضعاًلله، والسَّاجدون تقديساً له واستشعاراً لعظمته بأنه المهيمن عليهم، وبأنهم ضعفاء أذِلاَّء، وإن لم يتداركهم الله برحمته فإنهم خاسرون. وهم لا يكتفون بصلاحهم بل يتجاوزون صلاح ذواتهم إلى إصلاح غيرهم؛ وقد أصبحوا مؤهَّلين لهذه المهمَّة خير تأهيل، لذلك يدأبون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لبناء مجتمع الإيمان الفاضل، ويحفظون حقوق الله فلا يتعدَّون حدوده الَّتي رسمها لهم، بل يحمونها من الضياع ويصونونها من التهجُّم والانتهاك.

لهؤلاء البُشرى فيما باعوه وفيما قدَّموه وبذلوه في سبيله تعالى، ولهم البشرى في تحقيق مجتمع آمن مسيَّج بالعدل والحقِّ والعلم، وكلِّ ما فيه خير للإنسان في دينه ودنياه، في حاضره ومستقبله.