B8-K1-F5

الفصل الخامس:

الحجاب في الإسلام

سورة النور(24)

قال الله تعالى: {قُلْ للمؤمنينَ يغُضُّوا من أبصارِهِمْ ويحْفَظُوا فروجَهُمْ ذلك أزكى لهم إنَّ الله خبيرٌ بما يصنعون(30) وقل للمؤمناتِ يَغْضُضْنَ من أبصارِهِنَّ ويَحْفَظْنَ فروجَهُنَّ ولا يُبْدِينَ زينَتَهُنَّ إلاَّ ما ظَهَرَ منها ولْيَضْرِبْنَ بخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ ولا يُبْدِينَ زينَتَهُنَّ إلاَّ لِبُعولَتِهِنَّ أو آبائِهِنَّ أو آباءِ بعولَتِهِنَّ أو أبنائِهِنَّ أو أبناءِ بعولَتِهنَّ أو إخوانِهِنَّ أو بني إخوانِهِنَّ أو بني أخواتِهِنَّ أو نسائِهِنَّ أو ما مَلَكتْ أيمانهُنَّ أو التَّابعينَ غيرِ أولي الإِرْبَةِ من الرِّجال أو الطِّفلِ الَّذين لم يَظهروا على عوراتِ النِّساءِ ولا يَضْرِبْنَ بأرجُلِهِنَّ ليُعْلَمَ ما يُخْفِيْنَ من زينتِهِنَّ وتوبوا إلى الله جميعاً أيُّها المؤمنون لعلَّكم تفلحون(31)}

ومضات:

ـ غضُّ البصر هو الخطوة الأولى والأهمُّ على طريق حماية المجتمع من الفساد الأخلاقي، وهو الحصن الَّذي يحمي نفس المؤمن من المؤثِّرات الجنسية المحرَّمة.

ـ لم يحبس الإسلام المرأة في زنزانة ولم يقيِّد حريَّتها بالسلاسل، بل نظَّم لها أُطُرَ حياتها ولباسها وزينتها، بالشكل الَّذي يحفظ لها كرامتها الإنسانية، ويصون حرمتها الأخلاقية، أثناء ممارستها لحياتها الاجتماعية والعملية؛ بما يكفل لها النجاح والأمان والكرامة معاً.

ـ لا يكفي للمرأة أن تلتزم باللباس الشرعي الَّذي هو مظهر الحشمة، لتخوض غمار الحياة في ميادين العمل المناسب، بل عليها أن تلبس ثوب التَّقوى والحياء أيضاً، كي تنجح في التعامل مع الرجل، بعيداً عن المؤثِّرات الجنسية والعاطفية، الَّتي لا ينبغي لأحد أن يستمتع بها سوى الزوج.

في رحاب الآيات:

لو طَبَّق الناس قاعدة غضِّ البصر، لانخفضت نسبة التهتُّك والإباحية الجنسية بنسبة عالية في المجتمع البشري كلِّه، لأن معظم الإثارات الجنسية تبدأ بالنظر، ويليه السمع، ويتبعه اللمس، بالإضافة إلى الرائحة كعامل للإثارة. وقد حمى الإسلام مجتمع المسلمين من تلك المؤثِّرات ليبقى بعيداً عن الملوِّثات النفسية والفكرية، كي تتَّجه طاقات أبنائه نحو العمل البنَّاء المنتج، فصانها من الهدر والضياع في معابر اللذة وشهوات الجسد.

ولا يمكن لإرادة غضِّ البصر عن المحرَّمات، أن تسيطر على أعصاب العين، ما لم تكن مرتبطة بروحانية صافية، وإيمان عميق الجذور. إن توفُّر هذه الإرادة هو الحصن الأوَّل والأقوى، الَّذي يقدِّم الحماية للمرء من خطر التمادي والانزلاق في طريق الخطأ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «النظرة سهم من سهام إبليس فمن تركها من خوف الله، أثابه إيماناً يجد حلاوته في قلبه» (رواه الطبراني والحاكم)، وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اكفلوا لي بستٍّ أكفل لكم الجنَّة: إذا حدَّث أحدكم فلا يكذب، وإذا اؤتمن فلا يخن، وإذا وعد فلا يُخلف، غضُّوا أبصاركم، وكفُّوا أيديكم، واحفظوا فروجكم» (رواه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِعليٍّ ـ كرَّم الله وجهه ـ : «ياعليُّ لا تُتْبِع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليس لك الآخرة» (رواه الترمذي وأحمد وأبو داود) ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على الطرقات مخافة ألا يتحقَّق شرط غضِّ البصر، فقد جاء في الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إيَّاكم والجلوس على الطرقات، قالوا يارسول الله! لابدَّ لنا من مجالسنا نتحدث فيها، فقال: إن أبيتم فأعطوا الطريق حقَّه، قالوا: وما حقُّ الطريق يارسول الله؟ قال: غضُّ البصر، وكفُّ الأذى، وردُّ السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».

إن صون النفس عن الوقوع في الحرام هو النتيجة الإيجابية لغضِّ البصر، والإحساس بالرقابة الإلهية، والاستعلاء على الرغبة المحرَّمة في مراحلها الأولى، ومن ثَمَّ يجمع الله تعالى بينهما في آية واحدة بوصفهما سبباً ونتيجة، أو باعتبارهما خطوتين متتاليتين في عالم الضمير وعالم الواقع. إن ما ذكر من غضِّ البصر وحفظ الفرج أطهر لمشاعر المؤمنين، وأضمن لعدم تلوثِّها، وأحفظ للجماعة وأكثر صوناً لحرماتها وأعراضها. والله هو الَّذي يأمر الناس بهذه الوقاية، وهو العليم بواقعهم النفسي وتكوينهم الفطري، وهو الخبير بنزغات نفوسهم وحركات جوارحهم، فعليهم اتقاؤه في السر والعلن، وأن يكونوا على حذر منه في كلِّ ما يأتون وما يذرون.

ويأتي اللباس المحتشم الوقور عاملاً أساسيّاً وداعماً لغضِّ البصر، ليجعل من المرأة سيدة موفورة الكرامة، مصانة العرض، لا أداة إثارة مبتذلة، أو سلعة رخيصة تنهشها الأعين المريضة، وتتمنَّاها الأنفس الخبيثة. وقد حثَّ الإسلام المرأة أيضاً على غضِّ البصر تزكيةً لها، وتطهيراً للمجتمع من أدران الفاحشة، والتردِّي في بؤرة الفساد والتحلُّل الخلقي، وتجنيباً للنفوس من أسباب الإغراء. فهو يأمر المؤمنات بغضِّ أبصارهن عن النظر إلى ما لا يحلُّ، وحفظ فروجهن عن الزنا، وامتناعهن عن كشف العورات، وكلِّ ما من شأنه أن يفضي إلى الفاحشة أو يمهِّد لها.

وحرصاً من الإسلام على صيانة المرأة من السقوط في الهاوية، فقد أمرها ألا تبدي زينتها إلا لزوجها أو المحارم من الأقارب. فالزينة حلال للمرأة وتلبية لفطرتها، فكلُّ أنثى مولعة بأن تكون جميلة، وأن تبدو بصورة أفضل، والزينة تختلف من عصر إلى عصر، ومن بيئة إلى بيئة، ولكن أساسها في الفطرة واحد، وهو الرغبة في تحصيل الجمال. والإسلام لا يقاوم هذه الرغبة الفطرية، ولكنَّه ينظِّمها ويضبطها، ويُسَيِّرُها في الاتجاه الصحيح حيث جعلها من حقِّ رجل واحد هو شريك الحياة، الَّذي يطَّلع من زوجته على ما لا يطَّلع عليه أحد سواه، جاء في الحديث الشريف: «الرافلة في الزِّينة في غير أهلها كمثل ظُلمة يوم القيامة لا نور لها» (رواه الترمذي وأحمد وأبو داود). أمَّا ما ظهر من الوجه والكفَّيْن فيجوز كشفه لقوله صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر: «يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يُرى منها إلا هذا، وأشار إلى وجهه وكفيه» (رواه أبو داود وقال مرسل حسن). ويقول الله تعالى للنساء: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ} والجيب هو فتحة الصدر في الثوب، والخمار هو غطاء الرأس والنحر والصدر، والمقصود: أن يُلقين خمرهن على جيوبهن ليستُرن بذلك شعورهن وأعناقهن وصدورهن حتَّى لا يُرى منها شيء. والمؤمنات اللواتي تلقَّين هذا النهي، وقلوبهن مشرقة بنور الله، لم يتلكَّأن في الطاعة على الرغم من رغبتهن الفطرية في الظهور بالزينة والجمال. وقد كانت المرأة في الجاهلية تمرُّ بين الرجال كاشفة صدرها لا يواريه شيء، وربَّما أظهرت عنقها، وذوائب شعرها، وقرطي أذنيها، فلما أمر الله النساء بأن يضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، كنَّ سبَّاقات متلهِّفات لتنفيذ أمر الله كما قالت عائشة رضي الله عنها: (يرحم الله نساء المهاجرات الأُوَّل، لما أنزل الله: {وليضربن} شققن مروطهنَّ فاختمرن بها).

وبهذا فقد رفع الإسلام ذوق المجتمع، ورقَّى إحساسه بالجمال، فلم يعد الطابع الغريزي للجمال هو المستحب، بل الطابع الإنساني المهذَّب. فجمال الكشف عن مفاتن الجسـد ـ مهما يكن من التناسـق والاكتمال ـ جمال حيواني، يهفو إليه الإنسان بحسِّ الغريزة الحيوانية، وأمَّا جمال الحشمة فهو الجمال الراقي، الَّذي يرقى معه الذوق الجمالي ويجعله لائقاً بالإنسان، ويحيطه بالطهارة في الحسِّ والخيال. فالإسلام يجعل من هذه الحشمة واجبة وإلزامية كوسيلة وقائية للفرد والمجتمع، ولا يكون التخلِّي عنها مباحاً إلا تجاه الفئة الَّتي ورد ذكرها في الآية الكريمة والَّتي تشمل: الآباء والأبناء، وآباء الأزواج وأبناءهم، والإخوة وأبناء الإخوة وأبناء الأخوات، والنساء المختصات بهن للخدمة والصحبة، وما ملكت أيمانهن من الإماء أو التابعين الَّذين لا يكترثون بالنساء؛ وهم البُله والحمقى المغفَّلون الَّذين لا يدركون من أمور الجنس شيئاً، وإنما يتبعون القوم ليصيبوا من فضل طعامهم. وكذلك الأطفال الَّذين لم يبلغوا سنَّ الشهوة والاستمتاع بالنساء، ولا يثير جسم المرأة فيهم الشعور بالميل الجنسي، فإذا ميَّزوا وثار فيهم هذا الشعور، ولو كانوا دون البلوغ فهم خارج هذا الاستثناء. ولم تذكر الآية الأعمام والأخوال وهم من المحارم، كما لم تذكر المحارم من الرضاع، والفقهاء مجمعون على أن حكم هؤلاء كحكم سائر المحارم المذكورين في الآية، أمَّا عدم ذكرهم فلأنَّهم بمنزلة الآباء، فأغنى ذكرهم عن ذكر الأعمام والأخوال، أمَّا المحارم من الرضاع فقد بيَّنتها السُّنة المطهرَّة: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النَّسب» (رواه الشيخان).

ولما كانت الوقاية هي الهدف من هذا الإجراء، فقد مضت الآية تَنهى المؤمنات عن الإتيان بالحركات الَّتي تعلن عن الزينة المستورة، ولو لم يكشفن فعلاً عن الزينة، وإن هذا ليدلُّ على معرفة عميقة بخفايا النفس البشرية وانفعالاتها واستجاباتها، لأن الخيال يكون أحياناً أقوى في إثارة الشهوات من العيان، قال ابن عباس رضي الله عنه : (كانت المرأة تمرُّ بالناس وتضرب برجلها ليُسمع صوت خلخالها، فنهى الله تعالى عن ذلك لأنه من عمل الشيطان)، ويندرج تحت هذا النهي تحريك زينتها لتُظهِرَ ما خفي منها. ومن مستلزمات التَّقوى والحشمة ألا تخرج من بيتها متطيِّبة متعطِّرة، لأن للطيب أثراً كبيراً وعاملاً هاماً في إثارة الغريزة لدى الرجل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه لقي امرأة شمَّ منها ريح الطِّيب فقال: ياأمة الجـبَّار! أجئت من المسجد؟ قالت: نعم، قال لها تطيَّبتِ؟ قالت: نعم، قال: إني سمعت حِبِّي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يقبل الله صلاة امرأة طُيِّبتْ لهذا المسجد حتَّى ترجع فتغتسل غُسلها من الجنابة» (رواه ابن خزيمة في صحيحه).

ثم يفتح الله تعالى باب التوبة لعباده كما عوَّدهم دائماً، ليرجعوا إلى طاعته فيما أمرهم به، من غضِّ البصر وحفظ الفرج، ليفوزوا بالسعادة الدائمة. ولكنْ للتوبة شروطاً هي: الإقلاع عن الذَّنْب، والندم على ما مضى، والعزم على عدم العودة إليه، وردُّ الحقوق إلى أهلها؛ لا كما يظنُّ الناس الآن أنها كلمة تُلاك باللسان، دون أن يكون لها أثر في القلب، ولا عزم على عدم العودة، حتَّى إن كثيراً ممَّن يزعمون أنهم تابوا يتحدَّثون عما فعلوه من الآثام على سبيل الافتخار، وهذا دليل على أن توبتهم كاذبة، وأنَّهم غافلون عن حقيقة ذنوبهم، فلا تنفعهم توبتهم شيئاً إلا من رحم الله وصدق منهم.

سورة الأحزاب(33)

قال الله تعالى: {ياأيُّها النَّبيُّ قُلْ لأزواجِكَ وبناتِكَ ونساءِ المؤمنينَ يُدْنِينَ عليهنَّ من جلابيبهِنَّ ذلك أدنَى أن يُعْرَفْنَ فلا يُؤْذَيْنَ وكان الله غفوراً رحيماً(59)}

ومضات:

ـ إن وجود الرقيق وانتشاره في عهد تكوين المجتمع الإسلامي، كان يعني ازدحام الأسواق والطرقات بالجواري، ولمَّا كان الفرق الظاهري بين السيِّدة الحرَّة وبين الجارية شبه معدوم، فقد تعيَّن على الحرَّة أن تخلع على نفسها جلباباً تتميَّز به عن الجارية؛ كيلا يسيء أحد إليها أو يعاملها معاملة الجواري.

في رحاب الآيات:

الملابس والزينة مظهران من مظاهر المدنيَّة والحضارة، والتجرُّد منهما إنما هو رِدَّة إلى الحياة البدائية. وإذا كان اتخاذ الملابس من لوازم الإنسان الراقي، فإنه بالنسبة للمرأة أشدُّ إلزاماً لأنه ينبئ عن مدى تمسكها بدينها وشرفها وعفافها وحيائها، ومن ثَمَّ كانت الحشمة أولى بها وأحق. فأعزُّ ما تملكه المرأة هو الشرف والحياء والعفاف، وإن المحافظة على هذه الفضائل محافظة على إنسانيتها في أسمى صورها، وليس من صالحها ولا من صالح المجتمع أن تتخلَّى عنها.

إن الغريزة الجنسية هي أعنف الغرائز وأشدُّها على الإطلاق. ولاشك أن التبذُّل مثير لهذه الغريزة ومطلق لها من عقالها، وأن وضع الضوابط والحدود والقيود أمامها يخفِّف من حدَّتها، ويلطِّف من شدَّتها، ويهذِّبها تهذيباً جديراً بالإنسان وكرامته. من أجل ذلك تناول القرآن الكريم ملابس المرأة بشيء من الاهتمام، وما توجيه الخطاب إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته، والنساء المؤمنات، إلا دليلٌ على أن جميعهن مطالبات بتنفيذ هذا الأمر دون استثناء، مهما بلغن من العفَّة، ولو كنَّ في مستوى طهارة بنات النبي صلى الله عليه وسلم ونسائه. وإذا أردنا أن نفهم آيات الأحكام في القرآن الكريم، فعلينا أن ندرس أسباب نزولها، والأجواء المحيطة بنشأة هذه الأسباب. والحقيقة أن من الأسباب الظاهرية لهذا الأمر هو تمييز المرأة الحرَّة من المرأة الأَمَة، حتَّى لا يحاول أصحاب النفوس الخبيثة التحرش بها. فقد كانت المدينة المنورة مركزاً لأوَّل تجمُّع إسلامي ظهر للوجود، كما كانت مركزاً تجارياً هاماً يقصده الأعراب من كلِّ صوب، منهم الصالح ومنهم الطالح، وكان أصحاب النوايا السيئة يترصَّدون بالجواري والقينات لأنه لم يكن لهن قيمة اجتماعية تحميهن من التحرش بهن والتطاول عليهن، فما كانت الأَمة بنظر ساداتها سوى سلعة تباع وتُشترى، لذلك تعيَّن على السيدة الحرَّة أن تظهر بلباس معيَّن يميِّزها عن الجارية ويصون كرامتها. ولكن هذا لا يعني أن نَقْبَلَ ونحن في حضارة القرن العشرين، بتبرُّج المرأة واستهتارها بمبادئ الأخلاق والكرامة والشرف بحجَّة انتهاء عهد الرقيق، فللجلباب غاية أرقى وأسمى من مجرَّد تمييز الحرَّة عن الجارية، وهذه الغاية هي تزويد المرأة بالوسائل الَّتي تكفل لها المشاركة في العمل البنَّاء، الَّذي يوافق فطرتها ومهمَّتها الأساسية في كلِّ ما يخدم المجتمع، بعيداً عن التأثيرات العاطفية والغريزية، الَّتي يمكن أن تتولَّد عن التقاء المرأة بالرجل، في جوٍ من التبرُّج وعدم الحشمة.

إن التزام المرأة باللباس الشرعي يعني عدم ظهورها بثياب خليعة تُظهرُ مفاتن جسدها، فتكون مصدر إغراء لأصحاب النفوس المريضة فتغدو أداة تعطيل للعمل، لا أداة مشاركة فيه ودفع به إلى الأمام، وهذا لا يعني كبتها أو الضغط على حرِّيتها، أو إلزامها بلباس منفِّر أو منافٍ للذوق السليم، بل تكريمها وتشريفها لتبقى شريكاً منتجاً معطاءً، وأُمّاً للأجيال ومربية لها التربية المثلى، ولكنَّ بعض الأفراد من كلا الجنسين، غالى في التشدد، ونادى بعزل المرأة عن ساحة المجتمع؛ ووأدها في منازل المغالاة والقهر، وفي هذا قمع لإنسانية المرأة، وهدر لكرامتها، وتعطيل لقواها الخيِّرة المنتجة. كما أن هذا الغلو يُظهر المجتمع الإسلامي وكأنه مجتمع رجاله ذئاب؛ لا همَّ لهم سوى الجنس، ولا بديل لحماية المرأة منهم إلا بهذا العزل المادي والمعنوي.

سورة الأحزاب(33)

قال الله تعالى: {ياأيُّها النَّبيُّ قُلْ لأزواجِكَ إن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياةَ الدُّنيا وزينَتَهَا فَتَعالَيْنَ أُمتِّعْكنَّ وأُسَرِّحكُنَّ سراحاً جميلاً(28) وإن كنتُنَّ تُرِدْنَ الله ورسولَهُ والدَّارَ الآخرةَ فإنَّ الله أعدَّ للمحسناتِ منكُنَّ أجراً عظيماً(29) يانساءَ النَّبيِّ من يَأتِ منكُنَّ بفاحشةٍ مبيِّنَةٍ يُضاعَفْ لها العذابُ ضعفينِ وكان ذلك على الله يسيراً(30) ومن يَقْنُتْ منكنَّ لله ورسولِهِ وتعملْ صالحاً نُؤْتِها أجرَهَا مرَّتينِ وأعْتَدْنا لها رِزْقاً كريماً(31) يانساءَ النَّبيِّ لستُنَّ كأحدٍ من النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فلا تَخْضَعْنَ بالقولِ فيطمَعَ الَّذي في قلبهِ مرضٌ وقُلْنَ قولاً معروفاً(32) وقَرْنَ في بيوتِكُنَّ ولا تَبرَّجْنَ تبرُّجَ الجاهليَّةِ الأولى وأقِمْنَ الصَّلاةَ وآتِينَ الزَّكاةَ وأطِعْنَ الله ورسولَهُ إنَّما يُريدُ الله لِيُذهبَ عنكم الرِّجْسَ أهلَ البيتِ ويُطهِّرَكُمْ تطهيراً(33) واذكُرْنَ ما يُتلى في بيوتِكُنَّ من آياتِ الله والحكمةِ إنَّ الله كان لطيفاً خبيراً(34)}

ومضات:

ـ كان النبي صلى الله عليه وسلم يمثِّل رأس السلطة في الدولة الإسلامية الفتية، وعلى الرغم من هذه المكانة، فقد كانت حياته المادية بسيطة متواضعة، يغلب عليها الزهد والتقشف. وقد أرادت زوجاته أن يستثمرن وضعهن بوصفهنَّ زوجاتٍ لقائد تلك الدولة، ويتمتَّعن بالعيش الرغيد، ولكن إرادة الله تعالى اقتضت أن تجعل منهن قدوة لنساء المسلمين، فأُمِرْنَ بالتخلِّي عن هذه الأفكار، والعيش مع الرسول صلى الله عليه وسلم بالطريقة الَّتي ارتضاها لنفسه، وإلا فإنهن سيُطلَّقن ليعشن الحياة الرغيدة الَّتي يحلمن بها بعيداً عنه، إلا أنهنَّ اخترن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وحياة التقشف الَّتي يعيشها؛ على نعيم الدنيا، فبوركن من نساء صالحات وأمهات للمؤمنين قانتات.

ـ نظراً لكون نساء النبي قدوة لنساء الصحابة ولسائر المسلمات من بعدهن، فقد أُمرن بالاستقامة، لأن أيَّ خطأ يرتكبنه قد يؤخذ على أنه مثال يحتذى، بالإضافة إلى ما يسبِّبن من الإساءة إلى شخص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، لذلك جاء تهديدهن بالعذاب المضاعف، إن هنَّ فعلن شيئاً من ذلك، وبالمقابل فإنهن سيكافَأنَ على طاعتهن لله عزَّ وجل وللنبي صلى الله عليه وسلم ، وقيامهن بواجب الزوجية، بالثواب المضاعف من الله تعالى، فلهن أجر على أعمالهن الصالحة وأجر آخر باعتبارهن مثالاً يحتذى، فهن بذلك عاملات داعيات.

ـ إنَّ تصرُّفهنَّ وسلوكهنَّ وهنَّ القدوة يجب أن يكون متصفاً بالحشمة والأدب والتَّقوى، وأن يتَّسم حديثهن بالجدِّية والوقار لئلا يسبِّب فتنة لأحد، إضافة إلى لزوم تمسكهن بحبال الصلاة والصِّلة بالله تعالى، وأدائهن للصدقات والزَّكاة، وطاعتهن للرسول صلى الله عليه وسلم ، لكي يُصبحن في غاية الصفاء والطهارة والنقاء، وحسن الاقتداء به.

ـ كان من جملة الأوامر الَّتي وُجِّهت لنساء النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهلن من عطايا العلم والحكمة، الَّتي تتنزَّل في بيوتهن، وتجري على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم وتظهر في أعماله، وأن يراعين حرمة ذلك، ويستزدن من ذكر الله وتسبيحه، وهو العليم بما يفعلن.

في رحاب الآيات:

في هدي القرآن الكريم مدرسة اجتماعية لكلِّ امرأة تريد أن تبني عشاً نموذجياً للزوجية، فمهمَّة المرأة الأساسية مهمَّة تربوية، لما لها من أثر كبير على تنشئة الجيل، الَّذي سيحمل مسؤولية الأمانة وشرف الكلمة. والآيات الَّتي نحن بصددها دروس مثالية، ترسم لكلِّ واحدة من زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم منهاج حياتها الأمثل، في الدنيا والآخرة، وتضعها في موقع المسؤولية باعتبارها زوجة لسيِّد المرسلين عليه أفضل الصلاة وأتمُّ التسليم.

لقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه ولأهل بيته عيشة الكفاف، لا عجزاً عن تأمين المستوى المعيشي الرفيع، فقد عاش حتَّى فُتحت له مكَّة وقويت الفئة المسلمة، وكثرت غنائمها، وعمَّ فيؤها، واغتنى من لم يكن له من قبل مال ولا زاد، ومع هذا فقد كان الشهر يمضي ولا توقد في بيوته عليه السلام نار!! وما كان هذا إلا استعلاءً على متاع الحياة الدنيا، ورغبة خالصة فيما عند الله تعالى. ولكن نساء النبي صلى الله عليه وسلم بقيت تراودهن مشاعر النساء ورغباتهن، وعلى الرغم من فضلهن وكرامتهن وقربهن من ينابيع النبوَّة الكريمة، فإن بعضاً من الرغبة الطبيعية في متع الحياة ظلت حيَّة في نفوسهن، فلما رأين السعة والرخاء بعد ما أفاض الله على رسوله، وعلى المؤمنين من خيره، كلَّمن النبي صلى الله عليه وسلم لينلن من رَغَد العيش والرفاهية، فلم يستقبل هذه المطالب بالترحيب، إنما استقبلها بالاستنكار وعدم الرضا.

وقد أوحى الله تعالى إلى رسوله بالجواب الَّذي ورد في الآيات الكريمة ويحمل فصل الخطاب: يا أيُّها الرسول قل لأزواجك: اخترن لأنفسكن أحد أمرين: فإن رغبتُنَّ في سعة الدنيا ونعيمها وبهرجها الزائل، فتعالَين حتَّى أدفع لَكُنَّ متعة الطلاق، وأطلِّقكن طلاقاً من غير ضرر، وإن كنتن ترغبن في رضوان الله ورسوله، والفوز بالنعيم الوافر في الدار الآخرة، فقد هيَّأ الله تعالى للمحسنات منكُنَّ ثواباً كبيراً وهو الجنَّة، الَّتي فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذُّ به الأعين. وفي قوله تعالى: {وإن كنتُنَّ تُرِدْنَ الله..} إشارة إلى أن في اختيار النبي صلى الله عليه وسلم اختياراً لسبيل الله القويم ولجنَّة النعيم، وآية التخيير هذه تحدِّد الطريق، فإمَّا الدنيا وزينتها، وإمَّا الله ورسوله والدار الآخرة، فالقلب واحد ولا يتَّسع لرغبتين متناقضتين، وهذا التخيير يحسم في القلب المسلم كلَّ أَرجَحَةٍ وتذبذب بين قيم الدنيا وقيم الآخرة، بين الإخلاد إلى الأرض، والتوجُّه إلى السماء، ويخلِّص القلب من كلِّ وشيجة غريبة تحول بينه وبين التجرُّد لله، والخلوص له وحده دون سواه. وبعد التخيير يأتي التحذير من مغبَّة اتباع الهوى، فمن تُحْرِجُ منهن الرسول صلى الله عليه وسلم وتطالبه بما يشقُّ عليه، يضاعف لها العذاب يوم القيامة ضعفين، لأن قبح المعصية منهن أشدُّ من غيرهن، وكان ذلك سهلاً يسيراً على الله الَّذي لا يحابي أحداً لأجل أحد، فلا يغني عنهن كونهن نساء رسوله شيئاً. ومن تقنت منهن لله ورسوله، وتعمل صالحاً، يؤتها الله تعالى أجرها مرتين، والقنوت هو الطاعة والخضوع، والعمل الصالح هو الترجمة العملية لهما، وكما أن العذاب يضاعف للمذنبة ضعفين، فإن الثواب للطائعة يكون ضعـفين، ويهيِّئ الله لها في الجنَّة رزقاً حسناً مُرْضياً لا ينقطع. ثم أظهر الله تعالى مكانتهن بين النساء من حيث الفضل والشرف؛ لكونهن زوجات خاتم الرسل محمَّد صلى الله عليه وسلم ، فليست الواحدة منهن كالواحدة من آحاد النساء.

ويجدر بنا القول، إنه عندما جاء الإسلام إلى شبه الجزيرة العربية، كان المجتمع العربي كغيره من المجتمعات في ذلك الحين، ينظر إلى المرأة على أنها أداة للمتعة وإشباع الغريزة، وهذا ما يذهب بقيمتها الإنسانية، فلما جاء الإسلام أخذ بتصحيح نظرة المجتمع إليها، والتأكيد على الجانب الإنساني في علاقات الجنسين، فليست العلاقة بينهما مجرَّد وسيلة لإشباع شهوة الجسد، إنما هي اتصال بين كائنين إنسانيَّين من نفس واحدة، جعل الله بينهما موَّدة ورحمة، ولهذا الاتصال هدف مرتبط بإرادة الله في خلق الإنسان. وبهذا فقد شرَّف الله تعالى المرأة بشكل عام، ثم خصَّ نساء النبي بالشرف على النساء كافَّة، وهذا ما بيَّنه النصُّ القرآني موضِّحاً بأن لهن مكانة لا يشاركهن فيها أحد، ولا ينلنها إلا بالتَّقوى. وبعد أن بيَّن لهن منزلتهن، شرع في بيان الوسائل الَّتي تُذهِبُ الرِّجْس عن أهل البيت وتطهرهن تطهيراً، فجاءت متضمِّنة النهي عن مخاطبة الغرباء من الرجال، بلهجة عذبة رقيقة ليِّنة، تكون سبباً في إثارة شهوات الرجال، وتحريك غرائزهم، فتُطمِع بهن مرضى القلوب وتهيِّج مشاعرهم. كما أُمرن بالاستقرار في بيوتهن؛ وليس معنى هذا الأمر وجوب ملازمتهنَّ البيوت فلا يبرحْنها إطلاقاً، بل هو إيماءة لطيفة إلى أن يكون البيت هو الأصل في حياتهن وهو المقر، فحيوية البيت معدومة ما لم تُوجدها فيه سيِّدة كريمة، وأريجه ساكن لا يفوح ما لم تنشره زوجة صالحة فاضلة، ودفؤه غائب وحنانه مدفونٌ ما لم تبعثه أمٌّ رؤوم.

إن الإسلام الَّذي رفع شأن المرأة إلى هذه المرتبة السامية يطلب منها أن ترتفع هي بنفسها أيضاً عن سفاسف الأمور، فلا تجعل من نفسها دمية معروضة في واجهة تنهشها العيون الجائعة، وتلك هي الجاهلية الَّتي سادت قبل الإسلام، وهي الآن سائدة في كلِّ مجتمع هابط إلى حضيض مَهين. إن القرآن الكريم يوجِّه نساء النبي ونساء المؤمنين جميعاً إلى التعالي فوق تلك الزينة المزيَّفة، الَّتي تجعل للجسد المكانة الأولى، وتلغي الروح بقيَمِها ومُثُلها الرفيعة، ويربط قلوبهن بالله، ويوجِّه بصائرهن إليه عزَّ وجل الَّذي يُسْتَمَدُّ منه النور. فالإسلام وحدة تجمع الشعائر والآداب والأخلاق والتشريعات والنظم كلَّها في نطاق العقيدة، ولكلٍّ منها دور تؤدِّيه لتطبيق مقتضيات هذه العقيدة، وتتناسق كلُّها في اتجاه واحد، ومن هذا التجمُّع والتناسق يقوم الكيان العام لهذا الدِّين، ومن ثَمَّ كان الأمر بإقامة الصَّلاة وإيتاء الزَّكاة وطاعة الله ورسوله، هو خاتمة التوجيهات الإيمانية والأخلاقية والسلوكية لأهل البيت الكرام، لأنه لا يقوم شيء من تلك التوجيهات بغير العبادة والطاعة، وكلُّ ذلك لحكمة إلهية بالغة وهدف إصلاحي كبير.

وهكذا يبيِّن النصُّ القرآني أن هذه الأوامر والتوجيهات ما هي إلا وسيلة لإذهاب الـرِّجس وتطهير أهل البيت، وكلمة الرجس مستعارة للتعبير عن الذنوب والمعاصي، لأن العاصي يتدنَّس بها ويتلوَّث كما يتلوَّث بَدَنه بالنجاسات الحسيَّة. وأمَّا الطهارة فتكون بكثرة الطاعات الَّتي تمحو الخطايا وتُنقِّي النفس، فيبقى العبد معها نقياً كالثوب الطاهر. روى الإمام أحمد والترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمرُّ بباب فاطمة رضي الله عنها ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول: الصلاة ياأهل البيت، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرِّجس أهل البيت ويطهِّرَكُم تطهيراً».

والخلاصة إن أهداف الإسلام تتحقَّق في التطهير والتطهُّر وذلك بالاستزادة من ذكر الله تعالى، وتلاوة القرآن بتدبُّر وتفكُّر، والاستفادة من منابع الحكمة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمله، وتحويل كلِّ ذلك إلى عمل مثمر بنَّاء.