B8-K1-F4

الفصل الرابع:

بناء الأسرة في الإسلام

سورة الروم(30)

قال الله تعالى: {ومن آياتِهِ أن خَلَقَ لكم من أنفسِكُمْ أزواجاً لتسكُنُوا إليها وجَعَل بينَكُمْ مودَّةً ورحمةً إنَّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكَّرون(21)}

ومضات:

ـ جعل الله تعالى للرجل والمرأة دورين متكاملين يتمِّم أحدهما الآخر، ولا يطمئن أحدهما إلا بالآخر، ولا يزالان في قلق واضطراب حتَّى يلتقيا ويدخلا معاً مجتمع السكينة والطمأنينة. وطبقاً لهذه العلاقة التكاملية يمكن للبيوت أن تشاد، وللأسر أن تزدهر، وللمجتمعات السعيدة أن تؤسَّس.

ـ الأسرة تَجمُّع مقدَّس له غايات سامية، طالما حرص الإسلام على إبقائه قوياً متماسكاً، يحقِّق أهدافه ويصمد أمام الطوارئ والأحداث.

ـ الغاية من بناء الأسرة إنجاب النسل الصالح، وحصول السَّكَنِ النفسي بين الزوجين، وانسجام أفراد الأسرة في ظلال شرع الله الخالد.

ـ الأسرة الَّتي تُبنى على قواعد الإسلام الحقيقية، هي أسرة باقية مدى العمر لا تنفصم عراها ولا تنحل أوصالها.

ـ يحافظ الإسلام على الحقوق المتبادلة بين الزوجين، ويربِّي كلاً منهما على احترام حقوق الآخر، والاكتفاء بالحقوق الشرعية الَّتي منحها له شرع الله.

ـ لا يُلجأ إلى الطلاق إلا في الحالات النادرة، وعندما تصبح الحياة بين الزوجين عقيمة لا تحقِّق غايتها، عندها يأذن الشرع بإيقاع الطلاق؛ لتجد الزوجة رجلاً آخر تتعاون معه على تحقيق أهداف الإسلام من الزواج، وليجد الرجل امرأة يتعاون معها على بناء أسرة سليمة.

في رحاب الآيات:

الأسرة كيان مقدَّس في نظر الإسلام، وهي اللَّبِنَة الصالحة الأساسية في بناء المجتمع الإنساني السليم، ولهذا أَوْلَى الإسلام بناءها عناية فائقة، وأحاط إنشاءها بأحكام وآداب تكفل أن يكون البناء متماسكاً قويّاً، يحقِّق الغاية الكبرى من وجوده. إن الزواج الإسلامي هو بداية الطريق، فالحياة الزوجية في الإسلام علاقة شرعية مقدسة، قَلَّ من يلتزم شرع الله فيها، ويراعي حقوقها وواجباتها؛ نتيجة للجهل بأحكامها وآدابها أو تجاهل ذلك، لذا فإن كثيراً من المشكلات والأزمات تحدث بين الزوجين، فتتعرض الأسرة إلى هزَّات عنيفة، قد تؤدِّي إلى زعزعة أركانها وانفصام عراها. ونحن بإزاء آية كريمة تُشِعُّ نوراً وتنطق حكمة، فهي تقرِّر أن المرأة آية من آيات الله تعالى، خلقها من جنس الرجل لأن المجانسة من دواعي التآلف، والمخالفة من أسباب التباعد والتنافر، ولقد خلقها الله تعالى لتكون زوجةً له وسكناً لقلبه، والسكن أمر نفساني، وسر وجداني يجد فيه المرء سعادة تشمل جميع أجزاء حياته، وهذا من الضرورات المعنوية الَّتي لا يجدها الرجل إلا في ظل المرأة. ولا يخفى أن ما يجده الرجل في المرأة تجد المرأة نظيره في الرجل، وما لم يكن هناك سكن ومودَّة ورحمة بين الزوجين، فإن الخلل يصيب الحياة الزوجية، ولابدَّ من إصلاحه؛ لتعود تلك الحياة إلى المنهج الإلهي، فتعود إليهما المكافأة الربانيَّة العاجلة من الألفة والمحبَّة، والتفاهم والتعاون على النهوض بأعباء المسؤولية الزوجية. وقد سئل ابن عباس رضي الله عنه عن معنى {مودَّة ورحمة}، فقال: (هي التنازل عن حقوقك)، فأنت عندما تحبُّ إنسانا تتغاضى عن هفواته وعثراته.

وبهذا التصوير يضع القرآن الكريم أسس الحياة العاطفية الهانئة الهادئة؛ فالزوجة ملاذ الرجل يأوي إليها بعد جهاده اليومي في سبيل تحقيق العيش الحر الكريم، والركن الَّذي ينحاز إليه بعد كدِّه وجهده، فيأنس بها ويفضي إليها بآلامه وآماله، فتكون له خير مواسٍ ومعين، وتكون من الزوجات اللواتي سئل النبي صلى الله عليه وسلم عنهن عندما قيل له: «أيُّ النساء خير؟ فقال: الَّتي تسره إذا نظر إليها، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره» (رواه أصحاب السنن). فحقُّ الزوج على زوجته أن تتلقَّاه كلَّ يوم فَرِحَةً مرحة، طلقة الوجه، مبتسمة الثغر، نظيفة الجسد، طيِّبة الرائحة، لا يشمُّ منها إلا طيِّباً، ولا يرى منها إلا جميلاً، ولا يسمع منها إلا عذب المنطق وطيِّب الحديث، فتستحقُّ بذلك رضوان الله فضلاً عن مرضاة زوجها، لما جاء في الحديث الشريف: «إن الله يحبُّ المرأة البَزِغَة المَلِقة» (رواه أبو نعيم في الفردوس عن الإمام علي كرَّم الله وجهه). والبَزِغة هي المتزينة لزوجها حتَّى تبدو كالشمس في بزوغها وإشراقها، أمَّا المَلِقة فهي الَّتي تتودَّد له بحسن الكلام وجميل الفعال.

وكما يفرض الإسلام للزوج على زوجته حقوقاً ويضع عليها واجبات، فكذلك يجعل للنساء على أزواجهن حقوقاً ويضع عليهم واجبات، فخير الرجال خيرهم لزوجاتهم، والسعيد من الأزواج من يجعل من امرأته صديقاً له بكلِّ ما في هذه الصداقة من معنى؛ والسبيل إلى ذلك حسن المعاملة الَّتي نص عليها قول الله تعالى: {..وعاشِروهُنَّ بالمعروف..} (4 النساء آية 19) ومن المعروف احترامها، ومراعاة حقوقها ومشاعرها لِتُبادِلَه حسن العشرة؛ فتحترم مشاعره، وتقدِّره حقَّ قدره، وتوفِّر له أسباب الراحة والطمأنينة، والأُلْفة والمودَّة، فيَشيع في البيت جوٌّ من الاستقرار النفسي، ويخيِّم على الجميع التوادد والتراحم، وتتحقَّق بهذا، الغاية المرجوَّة من الزواج فيكون زواجاً سعيداً.

أمَّا الزواج الَّذي لا يقوم إلا على المتعة الجسدية، فإنه لا يستحقُّ أن يسمَّى زواجاً؛ لأن السعادة في الحياة الزوجية تقوم على أساس أعمق وأبعد من هذا، إذ أنها ثمرة رباط روحي وقلبي قبل أن يكون رباطاً جسدياً. وقد اقتضت حكمة الله خَلْقَ كلٍّ من الجنسين على نحو موافقٍ للآخر، مُلَبياً لحاجاته الفطرية والنفسية، والعقلية والجسدية، بحيث يجد عنده الراحة، ويجدان في اجتماعهما السكن والاكتفاء والرحمة، فما أسعد المؤمن الحقيقي بزوجته المؤمنة وما أسعد المؤمنة الحقيقية بزوجها المؤمن.

وانطلاقاً من هذا نرى أنَّ الإسلام أحاط الأسرة بتشريعات وأحكام متوازنة، يلتزم بها كلٌّ من الزوجين، ممَّا يكفل بناءها بناءً سليماً، كما قال الله تعالى: {..ولهنَّ مِثْلُ الَّذي عليهِنَّ بالمعروفِ..} (2 البقرة آية 228). ولقد توَّج الشارع الحكيم العلاقة الزوجية بعوامل الاستقرار والمودَّة، وهي مجموعة من الأخلاق الفاضلة والمُثُل العليا الكاملة، والَّتي تعتبر بحقِّ بمثابة حوافز دافعة لتحقيق قوله تعالى: {ومن آياته أن خلقَ لكم من أنفسِكم أزواجاً لتسكُنوا إليها وجعلَ بينكم مودَّةً ورحمةً..}، وهي في الوقت نفسه ضوابط مانعة من التجاوز والتعسُّف والإساءة إلى الكيان المقدَّس (الأسرة).

لقد أراد الإسلام للأسرة أن تكون كياناً راسخ القواعد والجذور شامخ البنيان، مثمراً الثمار المرجوَّة، منتجاً النتاج الطيِّب المبارك، لذلك سلك بالمجتمع الَّذي أراد بناءه؛ المنهج الأمثل لإقامة مجتمع إنساني على قواعد متينة من التآخي والتحابب والتعاون والإيثار، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مَثَلُ الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى» (متفق عليه من رواية النعمان بن بشير رضي الله عنه ).

وما الأسرة في الإسلام إلا لبنة متماسكة متناسقة مع ما حولها من اللبنات في البناء القوي المتين، وبغية الوصول إلى هذه الغاية الجذَّابة الكبرى نهج المنهج التالي:

1 ـ ربَّى أفراد الأمة رجالاً ونساءً على الإيمان، حتَّى أصبح امتثال أوامر الله واجتناب محرَّماته أحبَّ إلى المسلم من الماء البارد على الظمأ الشديد.

2 ـ ألزم الأولياء باختيار الزوج الملتزم بتعاليم الإسلام وآدابه وأخلاقه، وهو وصف ينبغي أن يتحقَّق في الطرفين.

3 ـ سمح للخاطبين بأن يرى كلٌّ منهما الآخر ويجلسا مع بعضهما ويتحدَّثا معاً، ممَّا يعطيهما الفرصة لتعرُّفِ الميول والرغبات الشخصية لكلٍّ منهما.

4 ـ أمر كلاً من الزوجين بالإحسان إلى الآخر ومعاشرته بالمعروف.

5 ـ عند حدوث خلاف بين الزوجين أمر باتِّباع مجموعة من الإجراءات تكفل العودة بهما إلى الحياة الزوجية المنشودة.

6 ـ عندما يتعسَّر الاستمرار في العلاقة الزوجية بين الزوجين أَذِنَ بالطلاق ضمن قواعد وآداب وشروط تجعل منه علاجاً، بدل أن يكون عبُوَّة ناسفة تدمِّر كيان الأسرة.

7 ـ عند انحلال عقدة الزواج ألزم كلاً من الزوجين بالتزامات تضمن الحقوق لكلٍّ منهما، وتمنع من التجاوز واختلاط الأنساب.

إن الدارس للمنهج الإسلامي في العلاقات الزوجية لابدَّ أن يلمس في هذا المنهج الحقائق التالية:

أوَّلاً: أثر تديُّن الزوجين في استقرار الحياة الزوجية، وأداء الأسرة لدورها الاجتماعي المنشود:

إن الإسلام عقيدة تملأ القلب من نور الله وخشيته، وتحمل المؤمن على العمل بمقتضى منهجه وشريعته، وتغرس فيه أخلاقاً كريمة توطِّد صِلات المودَّة بين الناس، فتجعل علاقاتهم قائمة على الانسجام والتكامل لا على التنافر والتنازع.

وانطلاقاً من ذلك نرى أن الزوجين المسلمين حَقَّ الإسلام، المؤمنين حَقَّ الإيمان، يسعيان معاً بكلِّ صدق وإخلاص إلى تطبيق مبادئ هذا الدِّين الخالد وقِيَمِه العليا في علاقاتهما اليومية.

إن الزوج المسلم وكذا الزوجة المسلمة يعلم كلٌّ منهما منهج الإسلام الَّذي يحدِّد مسلك العلاقة بينهما، ومادام الإيمان قد ملأ قلبيهما، ومادامت خشية الله قد ملكت عليهما السمع والبصر والإرادة، فلابدَّ أن يسعيا لأداء الحقوق لأصحابها، وتنفيذ الواجبات الملقاة عليهما بل وفوق ذلك، فإن الزوج المسلم يرى في أداء حقوق زوجته باباً من أبواب طاعة الله والتقرُّب إليه، وترى الزوجة المسلمة في قيامها بواجباتها تجاه زوجها، قربة من القربات تتقرَّب بها إلى مرضاة ربِّها، وكلٌّ منهما يرى في الآخر أنه هديَّة من الله تعالى، فيحسن صنعاً بهديَّة الله، لأن إكرام الهديَّة من إكرام مهديها، وإهانة الهديَّة إهانة لمن أهداها.

وهكذا نرى أن العلاقة الطيِّبة تنمو بينهما باستمرار، وتزدهر بعيداً عن كلِّ ما يعكِّر صفوها، بل إن الفتور لا يجد في هذا الجدار المنيع ثغرة ينفذ من خلالها إلى حياتهما، وأن حرارة المودَّة تنبع من الإيمان الَّذي ملك عليهما السمع والبصر والتفكير، وهذا الإيمان في ازدياد مستمر يوماً بعد يوم.

إن أسرة تقوم حياتها على هذه الأسس، وإن علاقة زوجية تحكمها مثل هذه المفاهيم، لهي أسرة بعيدة كلَّ البعد عن الظواهر المَرَضِيَّة الَّتي تنشأ في العلاقات بين الناس، الَّذين لا يلتزمون بهذه المبادئ ولا يعتقدون بهذه العقيدة، ولا يقدِّسون هذه القيم، حيث تسود الأهواء والأنانية بعيداً عن هدي الله وشرعه؛ وتبدأ المشكلة بنزاع خفيف لا يلبث أن يتطور ويستفحل أمره، حتَّى يأتي على الأسرة فيدمِّرها، لأن كلاً من طرفيه لا يحتكم إلى الشرع الَّذي يوازن بين الحقوق والواجبات، والَّذي وضع لنا الميزان لنُميِّز بين الخطأ والصواب؛ هذا الميزان الَّذي اعتاد الناس أن يستغلُّوه في حال تعرضت مصالحهم للخلل... ويتجاهلوه في حال تعرَّضت مصالح غيره للخلل... والأشد خطورة من ذلك محاولة ـ بل وأحيانا ـ الإصرار على فلسفة الخطأ لإظهاره صوابا، بغية التمادي فيه... إننا في مثل هذه الحالة نجد أن هذا الطَّرَفَ أو ذاك أو كليهما أسير شهواته ورغباته الذاتية على حساب حقوق الطرف الآخر، وهنا يكمن الخطر، وهذا هو منبع الشر، لاسيَّما وأن الشيطان يجد في هذه البيئة ضالَّته المنشودة، فيزيِّن للمبطل باطله، ويعميه عن الحقِّ ولوازمه، فإذا هو قد ضل وسلك منهج الباطل بعيداً عن منهج الحقِّ، وهو يحسب أنه يحسن صنعاً ويحقِّق مكسباً، ولا يدري أنه يسعى إلى شقائه الَّذي يلازم حياته ولا يفارقه؛ فيشعر بقلق دائم واضطراب مستمر ونزاع شديد مع الزوجة والأولاد والأهل والجيران، كلُّ ذلك نتيجة الإعراض عن هدي الله عزَّ وجل. وليت الأمر يقف عند هذا الحد، إذ أن أمر الدنيا مهما عظُمَ فهو يسير، لأن الحياة فيها مؤقتة، لكنَّ الحقيقة الَّتي لا مراء فيها، أنَّ وراء هذه الحياة الأليمة الحاضرة، حياة أخرى دائمة أشد إيلاماً وأكثر عذاباً، مصداق قوله تعالى: {ومن أعرضَ عن ذكري فإنَّ له معيشةً ضَنْكاً ونحشرُهُ يومَ القيامةِ أعمى * قال ربِّ لِمَ حشـرتني أعمى وقد كنتُ بصيراً * قال كذلكَ أتتكَ آياتُنا فنسيتَها وكذلك اليومَ تُنسى} (20 طه آية 124ـ126).

إن هذه المعاناة الَّتي يعيشها كثير من الناس، إنْ هي إلا صفَّارة إنذار تنبِّه الغافل عن الحقِّ، لأن يثوب إلى رشده ويعود إلى جادَّة الشرع الإلهي المُسْعِد. وفي الطرف الآخر حيث شَرْعُ الله وآدابُ الإسلام؛ يتعلَّم الزوجان سعة الصدر والصفح والمسامحة والإغضـاء عن الهفـوات، فإذا لمـس أحدهمـا من صاحبـه تقصيراً غيـر متعمَّد في واجباته ـ لاسيَّما إذا كان بسبب ظروف قاهرة ـ تجده قد صبر وسامح وتنازل عن حقِّه، وبذا يغلق الباب في وجه الخصومات والمنازعات، ويفسح المجال واسعاً لتعايش قائم على الوفاق والأُلفة والتعاون والوفاء، لا على الشقاق والنُّفْرة والتعسُّف والخيانة.

إنَّ أُسرةً تقوم علاقات الزوجين فيها على هذا النحو، هي أسرة جديرة بأن تظللها السعادة الدائمة، وأن تكون مرتعاً خصباً لتربية الأولاد على الفضائل والمكارم، وبذا تكون قد أدَّت رسالتها وحقَّقت الهدف الأسمى من إنشائها، ألا وهو إمداد المجتمع بأفراد صالحين، وإعدادهم لتحمُّل المسؤولية، وليكونوا خلَفَاً صالحاً يرثون منهج أسلافهم الصالحين، وبذلك تدور رحى الحياة البشرية في الاتجاه الصحيح، وتسير قافلة الحياة على الطريق الآمن السويِّ، لتصل بعد أن تقطع المسافة المحدَّدة إلى السعادة الأبدية.

ثانياً: الأساس الصالح لاختيار كلٍّ من الزوجين صاحبه:

كثيرة هي الأمور الَّتي تُراعى عند اختيار أحد الزوجين لصاحبه، ولكلٍّ من هذه الأمور دوره في تحقيق مطلب من مطالب الزواج، وقد لخَّص النبي صلى الله عليه وسلم هذه المطالب وردَّها إلى أربعة أمور فقال: «تُنكَح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدِّين ترِبت يداك» (متفق عليه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه ). ولا يخفى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر واحدة من هذه الأمور الثلاثة الأُوَل، فلكلٍّ منها دوره في إسباغ الراحة النفسية على كلٍّ من الزوجين، لكنَّها لا تقدِّم ولا تؤخِّر في بعث الهمَّة والإرادة والتصميم على الوفاء بالحقوق الَّتي لأحدهما على الآخر، بل ربَّما كانت عاملاً مثبِّطاً لهذه الناحية الأساسية في العلاقات الزوجية، فكثيراً ما يدفع التباين الجمالي بين الزوجين وكذا التباين المادي أو الاختلاف في المستوى الاجتماعي، إلى التعالي من قِبَل من يرى أنه مَحْظِيٌّ بقسط أوفر من هذه الأمور؛ فتسوء العلاقة ويحدث الخصام والنفور.

إن العامل الأساسي الَّذي لابدَّ منه في الزوجين هو عامل الدِّين والالتزام بأحكام دستور الله الخالد، وسنة النبي المصطفى عليه الصَّلاة والسَّلام، فهذا الالتزام هو الكفيل بإضفاء السعادة عليهما لأنه سيطبع المواقف والأقوال والأفعال بطابع الحقِّ؛ والحقُّ هو مطلب كلِّ مؤمن صحيح الإيمان.

إن كلاً من المال والجمال والمستوى الاجتماعي مُعرَّض للتبدُّل والتغيُّر، فكم انقلب الجمال قُبْحاً إن لم تزيِّنه الفضائل، وكم حلَّ الفقر مكان الغنى، والضَّعَةُ الاجتماعية مكان الرِّفعة، وبقي لهذا الإنسان الخلق الذميم والسلوك المنَفِّر. لكنَّ الإيمان والتديُّن يزدادان يوماً بعد يوم، والخلُق الكريم المحبب يثلج صدر الزوجين بالراحة النفسية والاطمئنان والتمتع بالحقوق الَّتي يقدِّمها مَنْ عليه هذه الواجبات، رضيَّةً بها نفسه، ورغبة في رضاء الله تعالى، وقد أكَّد النبي صلى الله عليه وسلم على هذا المعنى عندما أمر أولياء المرأة باختيار الرجل المتديِّن الخلوق فقال صلى الله عليه وسلم : «إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير» (رواه الترمذي عن أبي حاتم المزني).

ثالثاً: أساس التعامل بين الزوجين في الإسلام:

إن القاعدة الأساسية الَّتي ينبغي أن تنطلق منها العلاقات بين الزوجين هي قوله تعالى: {..ولهنَّ مِثْلُ الَّذي عليهِنَّ بالمعروفِ وللرِّجالِ عليهِنَّ درجةٌ..} (2 البقرة آية 228) فلكلٍّ منهما حقوق، وعليه واجبات، وينبغي أن يؤدِّي واجباته فلا يفرِّط فيها، ولا يطلب زيادة على حقوقه متجاوزاً حدوده. أمَّا الدرجة الَّتي للرجال على النساء فهي درجة الإشراف والقوامة على شؤون الأسرة، وتحمُّل المسؤولية المالية، وليست درجة تشريف أو تمييز بين حقوقه وحقوقها، وهذه الدرجة هي الَّتي أهَّلت الزوج لأن يُخَاطَب بأمر الله ويُسْتَوْدَعَ أمانته سبحانه حيث أمر الرجل قائلاً: {..وعاشِروهنَّ بالمعروف..} (4 النساء آية 19) والمعروف هو كلُّ ما عُرِفَ حُسْنُهُ ونفعه، ونقيضُهُ المنكر وهو كلُّ ما استُنْكِرَ إثمه وضرره.

إن المعاشرة بالمعروف تدخل في كلِّ تصرف وكلِّ كلمة تدور بين الزوجين إلا أنَّ أظهرَ مظاهرها ما يلي:

1 ـ تأمين جميع حوائجها العاطفيَّة والروحيَّة والماديَّة، من طعام وشراب وكساء ومأوى ودواء وغير ذلك في حدود طاقته ووسعه، على أن لا تقل عن حد الكفاية، قال تعالى: {..على المُوسِعِ قَدَرُهُ وعلى المُقْتِرِ قَدَرُهُ..} (2 البقرة آية 236) وقوله تعالى: {لينفقْ ذو سَعَةٍ من سَعَتِهِ..} (65 الطلاق آية 7).

2 ـ إحسان القول والمعاملة وعدم الإساءة إليها بأيِّ شكل من أشكال الإساءة.

3 ـ الحفاظ على دينها وشرفها وعدم تعريضها للفتنة والانحراف.

4 ـ حثُّها على حضور مجالس العلم والإيمان لتغذية عقلها بالعلم وقلبها بنور الإيمان.

5 ـ حثُّها على أداء فرائض الله واجتناب محارمه.

6 ـ عدم تكليفها من الأعمال ما لا تطيق ومساعدتها إذا لزم الأمر.

7 ـ التوسعة في الإنفاق عليها وعلى سائر أهل بيته، لاسيَّما في مناسبات الأفراح والأعياد ضمن حدود الشرع وحدود طاقته.

8 ـ الحفاظ على مالها وممتلكاتها وعدم التدخُّل في شؤون ذلك إلا بإذن منها.

رابعاً: علاج الشرع للخلافات الزوجية:

إن أسرة تسير في حياتها وسلوكها وفقاً لمنهج الله هي أسرة سعيدة مهما قلَّت ذات يدها، وهي أبعد ما تكون عن الخلاف بين الزوجين، ولكنَّ الالتزام المطلق بكلِّ هذا المنهج، ربَّما لا يتيسر في بعض الأسر أو لدى بعض الأشخاص في بعض الظروف والأحوال، فإذا نشأ الخلاف بينهما فإن الإسلام وضع منهجاً محدَّداً واضحاً، إذا ما طبَّقه الزوجان على هذا الخلاف تلاشى بإذن الله وزال أثره، وعادت الحياة الزوجية بينهما إلى سابق عهدها من الوفاق والألفة. وفي هذه الحالة إمَّا أن يكون المشتكي هو الزوج أو الزوجة؛ فإذا اشتكت الزوجة تغيُّراً في علاقتها مع زوجها، فإن الإسلام يأمرها أن تحاول إصلاح ما بينها وبينه بحكمتها وحسن تصرُّفها، قال تعالى: {وإنِ امرأةٌ خافت من بعْلِها نُشوزاً أو إعراضاً فلا جُناحَ عليهما أن يُصْلِحا بينَهُما صُلْحاً والصُّلْحُ خيرٌ..} (4 النساء آية 128). وأمَّا إذا أحسَّ الرجل من زوجته تغيُّراً في السلوك والمعاملة والخلق، ممَّا جعله ينفر منها ويشعر تجاهها بمشاعر الكراهية، فإن كتاب الله يأمره أن يستر ذلك فلا يشيعه، وفي الوقت نفسه يشكِّكه في هذه المشاعر ويصرف نظره إلى ما يرتضيه منها، ويبيِّن له أنه لا يدري ما ادَّخر الله له من الخير عندها، ويوجِّه نظره إلى لزوم المعاشرة بالمعروف حتَّى ولو كره منها بعض المواقف، قال تعالى: {..وعاشِروهنَّ بالمعروفِ فإن كرهتموهُنَّ فعسى أن تكرَهوا شيئاً ويجعلَ الله فيه خيراً كثيراً} (4 النساء آية 19)، فعلى الزوج أن ينزع من نفسه مشاعر الكراهية ويستبدلها بمشاعر المودَّة والتقدير للفضائل الَّتي تتحلَّى بها والمحاسن الَّتي تزيِّنها.

وهاهو النبي صلى الله عليه وسلم يوجِّه الأنظار إلى حقيقة ربَّما غابت عن كثير من الناس، وهي أن الكمال المطلق لله وحده، ولن يبلغ البشر درجة الكمال المطلق. فإذا رأى الزوج من زوجته أمراً لا يُسِر، فلا يجوز أن يغيب عن باله الأخلاق الكريمة الأخرى، والمزايا الفاضلة المتعدِّدة الَّتي تتحلَّى بها، فإذا ساءه شيء سَرَّتهُ أشياء، ولا يجوز أن يحمله ما يسوؤه منها وهو قليل، على الكراهية والبغض، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يَفْرَكْ مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر» (رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ).

كلُّ هذا والرجل يكتم عن زوجته ما في نفسه ولا يبوح لها بشيء، فإذا تأكَّد من أن الإساءة مقصودة وأن التفريط في حقوقه ليس هفوة ولا خطأً عارضاً، فعليه أن يلجأ إلى قول الله تعالى: {..واللاَّتي تخافونَ نُشوزَهُنَّ فعِظوهُنَّ واهجروهُنَّ في المضاجعِ واضربوهُنَّ فإن أطعنَكُم فلا تَبغُوا عليهِنَّ سبيلاً إنَّ الله كان عليّاً كبيراً * وإن خِفتُمْ شِقاقَ بينهِما فابعثوا حَكَماً من أهلهِ وحَكَماً من أهلها إن يُريدا إصلاحاً يُوفِّقِ الله بينَهُما إنَّ الله كان عليماً خبيراً} (4 النساء آية 34ـ35).

إن الدارس لهذا النص القرآني لا يخفى عليه أنه قد بيَّن ما ينبغي فعله على الرجل الَّذي لمس الإساءة المتكرِّرة من زوجته، فعليه أن يصارحها بإساءتها بأسلوب لائق محفوف بالحكمة والموعظة الحسنة، ويبيِّن لها ما يترتَّب على ذلك من معصية الله وتحمُّل الذنوب والسيئات، والَّتي ستجني ـ إن أصرَّت عليها ـ ثمارها من غضب الله وعذابه ما لا يطاق، وأن هذه الحياة الدنيا مؤقتة زائلة، وأن طاعة زوجها أوجبها ربُّها سبحانه، فإن أدَّت حقَّه فازت بالجنَّة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا صلَّت المرأة خمسها وحَصَّنت فرجها وأطاعت بعلها، دخلت من أي أبواب الجنَّة شاءت» (رواه ابن حبان في صحيحه)، وعن أمِّ سـلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أيُّما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنَّة» (رواه ابن ماجه والترمذي والحاكم)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أيُّ الناس أعظم حقاً على المرأة؟ قال: زوجها قلت: فأيُّ الناس أعظم حقاً على الرجل؟ قال: أمُّه». (رواه البزَّار والحاكم).

إن علاج الرجل لأي ظاهرة مَرَضِيَّة في علاقته مع زوجته، وبهذا الأسلوب اللطيف، بعيداً عن مداخلات الآخرين كفيل برأب الصدع وإعادة الوفاق بينهما، لاسيَّما إذا ظهر من خلال هذا الحوار الهادئ الهادف البنَّاء، أن إساءة الزوجة كانت ردّاً على إساءة صدرت من الزوج عن غير قصد، فما أسرع عودة المؤمن عن خطئه إذا ظهر له ذلك الخطأ، وأمَّا إذا أصرَّت الزوجة على باطلها، وحملها الغرور على الاستمرار في الإساءة، فقد وجَّه القرآن الكريم الزوج إلى علاج آخر ألا وهو الهجر في الفراش.

إن الهجر في الفراش إجراء علاجي ذو تأثير نفسي كبير على المرأة، حيث تجد تبدُّل الحال من إقبال إلى إدبار ومن مودَّة إلى جفاء. وإن المرأة العاقلة الَّتي ترى أن السعادة الَّتي كانت تلفُّ هذا البيت باتت مهدَّدة بالزوال، وأن المشاعر الطيِّبة والعواطف النبيلة الَّتي كانت تغمر علاقتها مع زوجها، قد اختفت وظهر مكانها ما يجرح العواطف ويبئس النفس، إن هذه الزوجة سُرْعان ما تتنازل عن موقفها وتهجر إساءتها وتعود إلى سابق عهدها وكريم خصالها المألوفة. فإذا فشل هذا العلاج السابق، وأصرَّت الزوجة على السير في الاتجاه الَّذي يرضي غرورها ويغضب زوجها وربَّها، فقد وضع الشرع الحكيم أمام الزوج أحد حلَّين لا ثالث لهما وهما، الضرب أو التحكيم:

أمَّا الضرب فقد شرعه الله علاجاً لمشكلة، فإذا عرف الزوج مسبقاً ممَّا يعلم من نفسيَّة زوجته واستعدادها، أن ضربها لا يفيد في إصلاحها، بل قد يزيد النار ضراماً، فعليه أن لا يلجأ إليه بل يتجاوزه إلى الخطوة التالية ألا وهي التحكيم. ولابدَّ هنا من وقفة عند هذا العلاج، فقد ذكره القرآن الكريم في معرض ذكر وسائل إصلاح العلاقة بين الزوجين، فإذا علمنا أنه سيزيد الخلاف شدَّةً ويباعد ما بين الزوجين أكثر فأكثر، فإن الضرب والحالة هذه لا يكون مشروعاً.

وحتَّى في الحالة الَّتي يجدي فيها الضرب، فإنه لم يُشَرَّع للانتقام، ولا ليروي الزوج المفجوع في علاقته مع زوجته غليله، في مخلوق جعله الله تحت إمرته. إن الضرب المشروع أقرب إلى الإيلام النفسي منه إلى التعذيب الجسدي، فاشتُرط فيه أن لا يترك أثراً على المرأة وأن لا يـضرب الوجه ولا يعنِّف، وقد مثَّل الفقهاء فقالوا: كأن يضربها بطرف ثوبه أو بشيء لا يؤذي ولا يؤلم ألماً مبرِّحاً.

يذكر بعض المحدثين أن وفداً من النساء أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية الضرب كلُّ واحدة منهنَّ تشتكي ضرب زوجها لها، فوجَّه النبي صلى الله عليه وسلم كلامه إلى أولئك الأزواج وأمثالهم، والَّذين لم يعرفوا حدود ما أباحته الآية، فعن إياس بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تضربوا إماء الله، فجاء عمر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذئرن (أي تجرَّأن) النساء على أزواجهنَّ، فرخَّص في ضربهنَّ فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهنَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد أطاف بآل بيت محمَّد نساءٌ كثير يشكون أزواجهنَّ، ليس أولئك بخياركم» (رواه أبو داود بإسناد صحيح).

وواضح من الحديث أن الضرب لم يُبَحْ إلا لامرأة تجرأت على زوجها وتطاولت عليه، ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم عدَّ الَّذين يضربون زوجاتهم شرار الأمَّة وليسوا من خيارها. ولم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بالقول إنما أَتبَعَ ذلك بالعمل، فهو خير من فَقِهَ كتابَ الله، فَعَلِمَهُ وطبَّقه وعَلَّمَهُ، ولم يثبت أنه ضرب امرأة قط، بل نجده صلى الله عليه وسلم أشد خوفاً من الله عزَّ وجل عندما أرسل جارية صغيرة في حاجة له، فلما أبطأت عليه خرج يتفقدها فوجدها تلعب ببهمة ـ شاة صغيرة ـ فاستدعاها وقال: «لولا خشية القَوَد ـ أي القصاص ـ لأوجعتك بهذا السواك» (رواه الإمام أحمد عن أم سلمة) وعلى ضوء هذه الحقائق ينبغي أن يفهم الرجال قضية ضرب الزوجات.

وإذا لجأ الزوج إلى هذا العلاج فلم يُجْدِ في عودة الزوجة إلى جادَّة الحقِّ، وكذا الأمر إذا تجاوزه أصلاً فلم يلجأ إليه، وهو ما رغَّبَ به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله، عندها ينبغي على الزوج ـ وفي هذا الوقت وليس قبله ـ أن يسـمح بتسـرُّب خبر خلافه مع زوجته خارج نطاق بيت الزوجية، أمَّا قبل ذلك فيجب أن يكون الخلاف بينهما محصوراً بين جدران البيت بعيداً عن مداخلات غيرهما، والَّذين قد يؤثِّرون فيه تأثيراً سلبياً فَيزيدون المشكلة تعقيداً. فإذا بلغت هذا الحد، ولم يفلح الزوج في محاصرة المشكلة ومعالجتها، فقد أمر الإسلام بأن يتولَّى العلاج شخصان حكيمان خبيران، أحدهما من طرف الزوج، والآخر من طرف الزوجة، حيث توضع أمامهما المشكلة بكلِّ حيثيَّاتها وأبعادها، ويحاولان الوصول إلى حلٍّ لها، فإن وجدا إمكانية لإعادة الوفاق والتفاهم بين الزوجين، فهذا بيت القصيد، وإن وجدا أن الخلاف عميق ولا يمكن إزالة أسبابه، أوصَيا بالطلاق، لأنه لا يمكن أن تستمر الحياة الزوجية في ظلال الخصام والتناحر والنزاع، لأن مثل هذه العلاقة لن تحقِّق أهداف الشرع من وجودها، والأولى الفصل بين هذين الزوجين، فلعل المرأة تجد رجلاً غيره تستطيع أن تتعاون معه على تحقيق مقاصد الزواج، ولعل الزوج يجد زوجة تتعاون معه، وبذلك يكون الطلاق خيراً على الطرفين وعلى المجتمع.

خامساً: منهج الإسلام في الطلاق:

أقرَّ الشارع الحكيم مبدأ الطلاق بعد أن أحاطه بقيود صارمة، حفاظاً على الأسرة من إساءة استعماله، وصيانةً لحقوق المرأة والأولاد من عبث العابثين من الرجال واستهتارهم. وأباح الله تعالى اللجوء إليه بعد استنفاذ فرص المصالحة كافَّة، وانقطاع الأمل من عودة المياه إلى مجاريها بين الزوجين، وعدم جدوى جميع الحلول العلاجية الَّتي وضعها للعودة بالزوجين إلى الوفاق والحبِّ والتفاهم. ولم يترك الله تعالى المتفارقَيْنِ يغرقان في صراعات نفسية داخلية؛ بل واسى الأنفس المكلومة وأمدَّها بشحنة من الأمل في قوله سـبحانه: {وإن يتفرَّقا يُغْنِ الله كُلاًّ من سَعَتِهِ وكان الله واسعاً عليماً} (4 النساء آية 130).

فإذا وصلت العلاقات بين الزوجين إلى طريق مسدود، وأصبح الطلاق هو العلاج الوحيد للخروج من هذا المأزق العسير، فإن القرآن الكريم يخاطب هذا الرجل من خلال خطابه للرسول صلى الله عليه وسلم قائلاً: {ياأيُّها النَّبيُّ إذا طلَّقتمُ النِّساءَ فطلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وأَحْصوا العدَّة واتَّقوا الله ربَّكُم لا تُخرجوهُنَّ من بيوتِهِنَّ ولا يَخْرُجْنَ إلاَّ أن يَأتِيْنَ بفاحشةٍ مبَيِّنَةٍ وتلك حدودُ الله ومن يتعدَّ حدودَ الله فقد ظَلَمَ نفسَهُ لا تدري لعلَّ الله يُحْدِثُ بعد ذلك أمراً} (65 الطلاق آية 1) أي إذا عزمتم على طلاق النساء فطلِّقوهن لوقت عدتهن، وهذا يعني أن الزوج الَّذي سلك المنهج الَّذي حدَّده الإسلام للقضاء على الخلاف بين الزوجين، إذا وصل إلى هذا الحد فعليه أن يطلِّق إن أراد الطلاق طلقة واحدة، في طهر لم يمسها فيه، وهذا معنى لعِدَّتِهِنَّ، ولا يخفى أن الشرع الحنيف وضع في وجه الطلاق عقبة صعبة الاجتياز لأنه أبغض الحلال إلى الله تعالى؛ فحيث تكون المرأة مطلب الرجل ومبتغاه بعد امتناع عن المعاشرة الزوجية طول مدة الدورة الشهرية، ههنا يوقفه الشرع وقبل أن يقضي منها أربه ويقول له: إن شئت أصبت منها مطلبك، وعندها يمتنع عليك الطلاق إلى ما بعد دورة شهرية قادمة، وإن شئت آثرت الطلاق، وعليه فالرجل المسلم حَقَّ الإسلام لا يُقْدِم على الطلاق إلا بعد يأسه من زوال أسبابه.

ولا يخفى أن توجيه الخطاب إلى الأمة الإسلامية من خلال الرسول صلى الله عليه وسلم أدعى إلى جلب الانتباه إلى هذا الحكم، والعناية به والالتزام بمضمونه من قبل الأمة.

أمَّا ما يجري بين الناس من عدم الالتزام بهذا المنهج جملة وتفصيلاً، لا من حيث المراحل ولا من حيث الزمان ولا من حيث العدد، فهو ناتج عن ضعف الإيمان في نفوسهم، وهو في الوقت نفسه خروج عن مقتضى هذا المنهج وبُعدٌ عن هدي الله عزَّ وجل. وقد حدثت بعض الظواهر المَرَضِيَّة في هذا الشأن بين المسلمين في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث طلَّق عبد الله بن عمر زوجته وهي حائض، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بمراجعتها وإمساكها حتَّى تطهر، ثمَّ تحيض ثانية، ثمَّ تطهر، وعندها إن شاء طلَّق قبل أن يمسها، وإن شاء أمسكها بالمعروف. كما أنه حدثت حادثة أخرى وهي: «أن رجلاً طلَّق امرأته ثلاثاً دفعة واحدة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً بالمسلمين وهو مُغْضَب أشدَّ الغضب لدرجة أن غدا وجهه وردياً أحمر من شدَّة تأثُّره، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثمَّ قال: أيُلْعَبُ بكتاب الله وأنا بين أظهركم»؟! (أخرجه النسائي عن محمود بن لبيد).

ومع الإذن بالطلاق، ضمن هذه الشروط الَّتي قلَّ أن ينتهي الأمر بمن يراعيها إلى الطلاق، وعلى الرغم من ذلك كلِّه، لم يقطع الشرع الحنيف الأمل من عودة الوفاق بين الزوجين، فجاءت التشريعات لتثمر عودة الزوجين إلى الوفاق بعد الطلاق، وفي غالب الأحيان، حيث سمح بالطلاق ليكون تجربة يعيش فيها الزوجان، وخلال مدة العدَّة، وهي ثلاث دورات للعادة الشهرية؛ يعيشان حالة الفراق وهما قريبان من بعضهما في بيت الزوجية، كي ينظر كلٌّ منهما إلى ما يترتب على الفراق من آثار، فإذا وجد أن العودة إلى الوفاق أفضل كان بوسعهما الرجوع إليه فوراً، ولا يمنع منه أي مانع؛ بل إن التشريعات مهَّدت الطريق وهيَّأت الظروف لذلك.

فهاهو ذا كتاب الله قد جعل الطلاق ثلاث مرات اثنتان رجعيتان والثالثة بائنة فقال تعالى: {الطَّلاقُ مرَّتانِ فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسان..} إلى أن يقول سبحانه: {فـإن طلَّقهـا فلا تَحِـلُّ له من بَعْدُ حتَّى تَنْكِحَ زوجاً غيرَه..} (2 البقرة آية 229ـ230).

إن الطلاق الرجعي يعني أن الزوج المطلِّق يملك على زوجته المطلَّقة حقَّ إرجاعها إلى عصمته وعقد نكاحه ضمن مدة العدَّة متى شاء، دون قيد ولا شرط، ولا يحول بينه وبين استخدام هذا الحقِّ أحد، بل إن شرع الله الخالد، أمر الزوجة المطلَّقة هذه، أن تبقى طيلة مدة العدَّة في دار الزوج، حتَّى إذا غيَّرت موقفها أو غيَّر موقفه في أي وقت من ليل أو نهار تجد زوجها قريباً منها، ويجد زوجته قريبة منه، بعيداً عن مداخلات الأهل والأصدقاء وغيرهم من الفضوليين، وأكثر من ذلك فقد سمح للزوجة هذه، بأن تتصرف على نحو يشعر زوجها بوجودها وأنها مهيأة له كي يراجعها ويعود إلى سابق عهده معها، ولم يأذن بخروجها من دار الزوج، كما لم يأذن بإخراجها من قبل الزوج إلا إذا ارتكبت الفاحشة كما مر معنا قوله تعالى: {..لا تخرجوهُنَّ من بيوتِهِنَّ ولا يَخْرُجْنَ إلاَّ أن يأتِينَ بفاحشةٍ مبيِّنة..}.

وما كان هذا الحكم إلا مراعاة لهذه الناحية الإيجابية، وليكون العامِلَ?المساعد على اغتنام أي فرصة تسنح خلال مدة العدَّة لإعادة المياه إلى مجاريها، ولو كانت المطلَّقة بعيدة أو خاضعة لسيطرة الأهل، لفاتت هذه الفرصة، لذا نبَّه القرآن الكريم إلى هذه الناحية الهامة والنتيجة السارَّة، كما مرَّ معنا في قوله تعالى: {لا تدري لعلَّ الله يُحْدِثُ بعد ذلك أمراً}.

وأمَّا ما نراه في المجتمعات الإسلامية اليوم، من مخالفات لهذه القواعد والأسس الواضحة، فما هو إلا فسق عن أحكام الشرع وصراطه المستقيم، وإن ما تعاني منه الأسر الكثيرة من المعضلات العائلية، ليس إلا نتاجاً خبيثاً، لهذا الفسق والانحراف والبعد عن الظلال الظليلة الَّتي يوفِّرها شرع الله تعالى ودينه القويم.

فإذا أصرَّ الزوج على الطلاق على الرغم من جميع ما تقدَّم من الظروف والعوامل المساعدة على العودة إلى التفاهم، وانتهت العدَّة دون أن يراجع زوجته، تحوَّل الطلاق الرجعي إلى طلاق بائن، وتسمى هذه بالبينونة الصغرى إن كان الطلاق في المرة الأولى أو في المرة الثانية، وقد بيَّن كتاب الله تعالى هذه الحالة وأحكامها إذا ما أوشكت العدَّة على الانتهاء، فخاطب الرجل قائلاً له: {فإذا بلَغْنَ أجلَهُنَّ فأمسكوهُنَّ بمعروفٍ أو فارقوهُنَّ بمعروفٍ وأَشْهِدوا ذَوَي عدْلٍ منكم وأقيموا الشَّهادةَ لله ذلكُم يُوعَظُ به من كان يؤمنُ بالله واليومِ الآخرِ ومن يتَّقِ الله يجعلْ له مخرجاً * ويرزُقْهُ من حيثُ لا يحتسبُ ومن يتوكَّلْ على الله فهو حَسْبُهُ إنَّ الله بالِغُ أمرِهِ قد جعلَ الله لكلِّ شيءٍ قَدْراً} (65 الطلاق آية 2ـ3).

ولا يخفى أن الحقَّ سبحانه وتعالى، قدَّم في الذِّكر الإمساك ترغيباً للزوج فيه، وأخَّر المفارقة تنفيراً له منها، كما أمر بالإشهاد على الأمر الَّذي اختاره، وأن يكون الشهود عدولاً أخياراً، لأن الزوج واقف على مفترق طرق، فإذا ولج في أحدها كان الشهود مثبتين لذلك المسلك. ثمَّ إن كتاب الله بيَّن أن هذه الأحكام والتشريعات يلتزم بها الَّذين ملأ الإيمان قلوبهم، فوجدوا في امتثال أمر الله ضالَّتهم المنشودة. وقد وعد الله من يطيع أمره ويجتنب نهيه بأن يجعل له من كلِّ همٍّ فرجاً، ومن كلِّ ضيق مخرجاً، وأن يرزقه الرزق الَّذي يرضيه من حيث لا يتوقع ولا يخطر له على بال، وهذا شأن كلِّ متوكِّل على الله معتمد عليه، فالله تعالى يكفيه مؤونة الصعاب الَّتي تلاقيه، ولا يستطيع أحد أن يَحُولَ دون ذلك، فهو سبحانه بالغ أمره الَّذي يريد فلا يفوته منه شيء، لكنَّ حصول ذلك مرهون بحلول الزمن الَّذي قدَّر الله حصوله فيه، في الوقت والمقدار والشكل المحدَّد. فإذا اختار الزوج المفارقة، وأصرَّ عليها، وآن أوانها بانقضاء العدَّة، ملكت المرأة أمر نفسها، وأصبح موضوع الرجعة إلى زوجها أكثر صعوبة، حيث يحتاج إلى عَقْدٍ جديد وَمَهر جديد، وبالتالي يحتاج إلى موافقة الزوجة، فإن لم يكن لها رغبة في العودة فلا يملك أحد أن يجبرها. ولا يخفى أن سماح الشرع بعودة الحياة الزوجية في مثل هذه الحال، يُعَدُّ عاملاً إيجابياً في التقليل من وقوع الطلاق أو الاستمرار فيه.

فإذا تراجع الزوجان قبل انقضاء العدَّة، أو عُقِدَ بينهما عَقْدُ الزواج من جديد بعد انقضاء العدَّة، وعادا إلى الحياة الزوجية من جديد، فإن أوامر الشرع وأحكامه وآدابه الَّتي أمر أن تحكم العلاقة بين الزوجين، ينبغي الالتزام بها من قبلهما ثانية، فإذا تجدَّد الخلاف بينهما مرة أخرى بعد حين، فإن المنهج الَّذي طُبِّق في الخلاف السابق، ينبغي تطبيقه، فإذا فشلت مراحل العلاج كلُّها وآل الأمر إلى الطلاق؛ طُبِّق المنهج الَّذي أوصى به الشرع كما طُبِّق أوَّل مرَّة وهكذا. فإذا آل الأمر بهما إلى الحياة الزوجية من جديد، سواء كانت بالرجعة، إن حصلت من الزوج قبل انقضاء العدَّة، أم تمت بموجب عقد جديد ومهر جديد، فإن أوامر الشرع وآدابه يجب أن تراعى للمرة الثالثة في هذه الحياة الزوجية الجديدة.

فإذا نشأ الخلاف للمرة الثالثة، كان للشرع رأي آخر وحكم مختلف، حيث يُوقِفُ الرجل ليقول له: اعلم أن إيقاع الطلقة الثالثة سوف يفصل بينك وبين زوجتك نهائيّاً؛ فإذا حصل الفراق، وقُدِّر لها زواج آخر، حيث رضي بها زوجها الجديد ورضيت به، فقد خسرتها ولن تعود إليك مرة أخرى، فإن طلَّقها الثاني وبتَّ طلاقها، أو مات عنها وانقضت عدتها في الحالتين، أبيح لها ولزوجها الأوَّل العودة إلى الحياة الزوجية بعقد جديد ومهر جديد، قال تعالى: {فإن طلَّقَها فلا تَحِلُّ له من بَعْدُ حتَّى تَنْكِحَ زوجاً غيرَه..} (2 البقرة آية 230).

إن هذا الحكم ولاشكَّ سوف يهزُّ الرجل هزّاً عنيفاً، فلا يوقع الطلقة الثالثة وفي نفسه أيُّ ميل نحو زوجته أو رغبة فيها أو حاجة إليها، فإذا كان فيه شيء من ذلك فلا يوقع الطلقة الأخيرة، لأنه يعلم أن وراءها ما وراءها، إذ أن اشتراط زواجها الثاني قبل أن تَحِلَّ له مرة أخرى ليس بالأمر اليسير، فلا تتقبله النفوس الكريمة ولا أصحاب المروءة من الرجال، وبذلك يضمن الشرع الحنيف عدم وقوع هذه الطلقة المفرِّقة نهائياً؛ مادام هناك أي بصيص أمل في الاستمرار بينهما.

ولا يخفى أن للشرع حكمةً بالغة في عدم السماح لهما بالزواج مرة رابعة، حيث أن أمراً جُرِّب ثلاث مرات وكانت نتيجته فاشلة في كلِّ مرَّة، فلا فائدة تُرجى من تجربة جديدة في ظل الظروف نفسها والمفاهيم ذاتها، وإن زواج هذه المرأة من زوج غيره، يكشف لها عن محاسن الزوج الأوَّل أو مساوئه، فإذا قُدِّر لها أن تنتهي علاقتها بالزوج الثاني ورغبت في زوجها الأوَّل ورغب بها، عادا بمفاهيم مختلفة وأفكار مغايرة، ويوشك أن يؤدم بينهما، وهذا ما يفهم من قوله تعالى: {فإن طلَّقَها (أي الزوج الأوَّل الطلاق الثالث) فلا تَحِلُّ له من بَعْدُ حتَّى تَنْكِحَ زوجاً غيرَه فإن طلَّقَها (أي الزوج الثاني طائعاً مختاراً دون تواطؤ من أحد وقد سبق ذلك حياةٌ ومعاشرة زوجية حقيقية كاملة) فلا جُنَاحَ عليهما (أي المرأة وزوجها الأوَّل) أن يتراجعا إن ظنَّا أن يُقيما حدودَ الله وتلكَ حدودُ الله يُبَيِّنُها لقومٍ يعلمون} (2 البقرة آية 230).

أمَّا ما يفعله بعض الناس من الاتفاق مع رجل لا رغبة له في الزواج من امرأة بمثل حال هذه المرأة، ويَتمُّ الزواج محدَّداً بزمن معين كيوم أو يومين أو غير ذلك، ثـمَّ يطلِّقها، وبذلك يحصل الشكل الَّذي نصَّ عليه الشرع دون المضمون؛ فإن مثل هذا العمل حرام على الطرفين قطعاً، لأنه يُفَوِّت على الشرع هدفه من هذا التشريع، ألا وهو ردع الأزواج المستهترين عن إيقاع الطلقة الثالثة، والإبقاء على الحياة الزوجية، ودعوةٌ للزوجين إلى تجاوز الخلافات بينهما لصالح الأسرة والأولاد، وحثٌّ للمرأة الَّتي لا غنى لها عن زوجها ولا عن بيتها وأولادها، على أن تتجاوز عن بعض مطالبها لصالح الوفاق.

إن عملية التواطؤ هذه ليست مشروعة ولا يُقِرُّها شرع ولا كرامة ولا عقل رشيد، ولا تميل إليها المرأة العفيفة الطاهرة الكريمة، فلا تقع إلا من أناس جاهلين تخلَّوا عن القيم السامية الَّتي يتحلَّى بها المسلم والمسلمة، ولهذا نجد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم استنكر هذا الصنيع أشد الاستنكار، ولَعَنَ من يفعلُه ومن يُفْعَلُ من أجله، وشبَّه ذلك بمن يستعير تيس جاره لينزو على ماشيته، وساء مَثَلُ القوم الَّذين يشوِّهون شرع الله بهذه الحيل المخزية. عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا أخبركم بالتيس المستعار. قالوا بلى يارسول الله، قال: هو المحلِّل، لعن الله المحلِّل والمحلَّل له» (رواه ابن ماجه). والمحلِّل هو الَّذي يتزوَّج أمثال هؤلاء النسوة بغية تحليلهن لأزواجهن، ولا غاية له سوى ذلك.

وبَعْدَ أن ارتسمت في أذهاننا صورة الطلاق في الإسلام، نستطيع أن نقول: إن دين الإسلام هو دين كلِّ زمان وكلِّ مكان، فقد أوجد حلولاً واقعية مثالية للمشاكل الَّتي تظهر في ساحة الحياة الزوجية، وحثَّ على الحلم وضبط النفس، ولكنَّه في النهاية يترك صمَّام الأمان مفتوحاً تجنُّباً لحدوث الانفجار وتكَوُّن واقعٍ يجرح المجتمع جروحاً لا تندمل، ويشكِّل ضغوطاً تفوق احتمال الإنسان سواء كان الزوج أو الزوجة.

إن أسباب حدوث الخلافات الزوجية عديدة ولا تكاد تحصى، ولو حاولنا التعمُّق في دراستها لوجدنا من الأهمِّية بمكان الوقوف عند بعضها وتحليلها، ومن هذه الأسباب:

1 ـ عدم الدِّقة في اختيار كلٍّ من الزوجين للآخر منذ البداية، فبعضهم يكتفيبمشورة الأهل، وبعضهم يكتفي بحسن المظهر والشكل الجميل، ناسياً أو متناسياً أن الَّذي سيعيش معه هو الخلق الجميل والطبع الحسن إضافة إلى الشكل، وقد أباح الشارع الحكيم للخاطبَيْن أن يجلسا معاً ويتحدَّثا مع بعضهما، ممَّا يعطيهما فرصة تَعرُّفِ الميولِ والرغبات وما تنطوي عليه نفس كلٍّ منهما من طباع، فعن أبي حميد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر منها إذا كان إنما ينظر إليها لخطبة وإن كانت لا تعلم» (رواه الإمام أحمد في مسنده). وأخرج الترمذي والنسائي وغيرهما، «أن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه خطب امرأة ليتزوجها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أَنَظَرت إليها؟ قال: لا، فقال صلى الله عليه وسلم : انظر إليها؛ فذلك أحرى أن يؤدم بينكما»، أي أكثر عوناً على أن تقع المودَّة بينكما، وكما سمح الشرع للرجل فقد سمح للمرأة الَّتي تجلس في مجلس واحد مع من يخطبها، يتبادلان الكلام ويثيران الأسئلة الَّتي تكشف إجابتها عن مكنونات النفس والتفكير.

2 ـ محاولة الأهل التدخُّل في الحياة الشخصية للزوجين، والعمل على فرض السيطرة والغلبة منذ البداية.

3 ـ الفوارق الثقافية بين الزوجين، وخاصَّة جهلهما أو جهل أحدهما بأحكام الشريعة المطهرة، والابتعاد عن مجالس العلم والتربية الأخلاقية.

4 ـ عدم إخضاع كلا الزوجين لدورات تربوية تشرح أهداف الزواج، وكيفية بناء عشِّ الحياة الزوجية المُثلى، ومراعاة كلٍّ منهما حقوق الطرف الآخر، وإدخال السرور إلى قلبه وإراحته نفسياً وحسِّياً؛ وكيفية خلق الجو المناسب لإرواء غرائزهما لدرجة الإشباع لكلٍّ منهما.

5 ـ عدم تأهيل الأبوين بالعلم والخبرة، ليتمكنا من تربية أولادهما التربية الصالحة.

6 ـ وجود طبائع سيئة متأصِّلة عند أيٍّ منهما، كالبخل والتعصُّب الشديد والغَيْرة الشديدة والتشبُّث بالرأي، ممَّا لا يدع مجالاً للتقارب والتوادد وحسن الانسجام.

7 ـ كثرة الأولاد، وعدم محاولة ضبط الإنجاب، ممَّا يشيع في الأسرة نوعاً من اختلاط الأمور وضياع المسؤولية، والضغط الاقتصادي والتوتر العصبي، خاصَّة وأن كثيراً من الزوجات يعتقدن أن كثرة الإنجاب تمنع الرجل من التفكير بالطلاق أو تعدد الزوجات، وهنَّ في الوقت نفسه يُهملن أزواجهن بحجَّة العناية بالأولاد ورعايتهم.

8 ـ إهمال كلٍّ من الزوجين أو أحدهما لمقتضيات النظافة والزينة، وحسن المظهر، وحسن التجمل لصاحبه، وعدم ارتداء الملابس المناسبة لكلِّ زمان ومقال.

9 ـ عدم خبرة الزوجة في أصول تدبير المنزل، وعدم إتقانها لطهو الطعام ضمن الأطر الصحية، مع التوفير وعدم التبذير.

إن أحد هذه الأسباب أو غيرها قد يكون كافياً لإشاعة جو من البغضاء بين الزوجين، وهنا يتدخل الشارع الحكيم ليضع حداً لهذا النزاع المستمر، ولا يترك الأهواء والرغبات المنحرفة تهدم صرح الأسرة وتزيل السعادة الزوجية، وقد وجدنا كيف أمر بتدخُّل أهل الخبرة والحكمة، من أقارب الطرفين، لدراسة أسباب النزاع، ومحاولة تقريب وجهات النظر وإسداء النصح والمشورة الطيِّبة، أملاً في زوال عواصف الكراهية والحقد والأنانية، وجلاء النفس وتطهيرها لمتابعة رحلة الحياة الزوجية بالحبِّ والتفاهم والوئام.

وفي حال العجز عن الوصول إلى هذه النتيجة فلا مصلحة لأحد في بقاء هذه الأسرة، الَّتي عطَّل سوء التفاهم بين قطبيها مقاصد الزواج وأهدافه، فغدا جوُّها جحيماً لا يطاق، وأصبح الاستغناء عن اجتماع عناصر هذه اللبنة خير من بقائه.

إن ممَّا لا يخفى على كلِّ ذي بصيرة وإنصاف، أن اللجوء إلى الطلاق وفقاً لقواعد الإسلام ومنهجه، هو خير علاج، لأن بقاء الزوجين على ما بينهما من الكراهية والبغضاء والنفور، ربَّما أدَّى بهما أو بأحدهما إلى الانحراف والسير في طريق الرذيلة والصِّلات المحرَّمة، بل ربَّما أدى بأحدهما إلى ارتكاب جريمة القتل أو جريمة الانتحار، ممَّا يترتب عليه أفدح الأخطار بالنسبة للزوجين اللَّذَيْنِ قد يتعرَّض المنحرف منهما للإصابة بالأمراض الجنسية الفتَّاكة، وبالنسبة للأولاد، حيث تفسد تربيتهم بسبب الإهمال والقدوة السيئة الَّتي يرونها في الشجار الدائم والخصام المحتدم بين الوالدين.

إن عدم الطلاق في مثل هذه الحالات يعرِّض المجتمع أيضاً لأشد الأخطار حيث تكون لبنات بنائه لبنات هشَّة، قائمة على التنازع والتنافر لا على الألفة والمحبَّة والتعاون، وفي الوقت نفسه لا أمل له بروافد كريمة من مثل هذه الأسر، بل إن سوء التربية لهذه الروافد من البنين والبنات، هو المتوقع، وفي هذا ما فيه من الخسارة العظمى والطامَّة الكبرى للأمة. إن نظرة واحدة إلى المجتمعات الَّتي منعت الطلاق تكفي للبرهنة على واقعية هذا الكلام، فقد تفكَّكت فيها رابطة الأسرة ولا شيء يجمع بين أفرادها، وإنَّ مَنْعَ الطلاق يساهم بدور فعَّال في هذه النتيجة، وكم من حادثة انتحار في تلك المجتمعات وقعت وتقع والسبب المباشر أو الأهمُّ فيها هو عدم الإذن بالطلاق. إنَّ كلَّ ما تقدم يدعو جميع الأمم والشعوب إلى الاعتصام بحبل الله المتين، والعودة إلى حكم الفطرة، وهو ما تقضي به شريعة الإسلام، وقد أقرَّ بذلك كبار علماء الاجتماع في العالم وعلى مرِّ العصور والأزمان.

سادساً: تَعَدُّد الزوجات:

من الأمور الَّتي ترتبط بنظام الأسرة في الإسلام موضوع تعدُّد الزوجات. وقد أباح الإسلام التعدُّد حيث جاء ذلك في قوله تعالى: {وإن خِفتُم ألاَّ تُقسِطوا في اليتامى فانكِحوا ما طابَ لكم من النِّساءِ مثنى وثُلاثَ ورُباعَ فإن خِفتُم ألاَّ تَعدِلوا فواحدة..} (4 النساء آية 3).

إن ممَّا لاشكَّ فيه ولا ريب أن الوضع الفطري الطبيعي بالنسبة للرجل أن تكون له زوجة واحدة، يختارها لتكون شريكة حياته، يتبادلان عواطف المحبَّة والوئام، ويتعاونان على إنشاء أسرة متماسكة قوية البنيان؛ لإنجاب النسل الصالح الَّذي يرفد المجتمع بأفراد صالحين، يرثون عن سلفهم مسؤوليات المجتمع، ويمسكون بأيديهم زمام الأمور، الَّتي كانت إلى عهد قريب في أيدي سلف كريم، فيكونون خير خلف لخير سلف.

ولهذا كان الأولى أن يقتصر الرجل على زوجة واحدة، وهذا هو الغالب في المجتمعات الإسلامية حيث يقتصر معظم الرجال على زوجة واحدة، وفي الوقت نفسه، ليس له أيُّ صلة بغيرها من النساء؛ لأن الله تعالى حرَّم عليه الزنا؛ فهو عفيف طاهر واقف عند حدود الله. إلا أن الحياة لا تسير حسب الأحلام والمُثُل، فكثيراً ما يخالف واقعها تلك المثل والأحلام الجميلة، حيث نجد في الحياة الزوجية أموراً استثنائية وحوادث طارئة، ممَّا يجعل الرجل مضطراً إلى الزواج بأكثر من واحدة، ولو أن الشرع منعه من الزواج في مثل هذه الحالات فكأنما يدفعه إلى الرذيلة دفعاً، وشَرْعُ الله لا يأمر بالفحشاء ولا يحمل على فعل المنكر.

إن نظرة سريعة نلقيها على المجتمعات الَّتي منعت التعدُّد المنضبط الطاهر المشروع، ترينا أن الناس قد مالوا إلى التعدُّد الفوضوي النجس الحرام، فلا تكاد تجد رجلاً يخلو من عدد كبير من الخليلات اللاتي يجتمع بهن على ما حرَّم الله، وإذا كان هذا في صفِّ الرجال فالصورة نفسها تتكرَّر في صفِّ النساء، ويؤكِّد هذا إحصائيات تُجرى بين وقت وآخر لعدد الأولاد اللاشرعيين، فالمؤشِّر البياني لذلك في تصاعد مستمر، مع ما ينتج عن ذلك من انتشار الأمراض الجنسية الفتَّاكة، وآخرها اكتشافاً وباء نقص المناعة المكتسبة، الَّذي تعارفوا على تسميته بالإيدز أو السِيدا والَّذي يهدِّد المجتمع البشري بأفدح الأخطار.

إن الإسلام عندما سمح بتعدُّد الزوجات لاحظ مجموعتين من الحاجات الَّتي قد تدعو إلى التعدُّد، ومع ذلك قيَّده بعدد معين، مع إثبات كامل الحقوق الزوجية لجميع الزوجات، في حين أن الخليلة في المجتمعات غير الإسلامية ليس لها أيُّ حقٍّ من حقوق الزوجة. أمَّا المجموعة الأولى من الحالات الَّتي تدعو إلى تعدُّد الزوجات فهي حاجات شخصية فردية ومنها:

1 ـ أن تكون الزوجة عقيماً لا تلد، وبما أن حُبَّ الأولاد غريزة في النفس البشرية، لذا فإن مثل هذه الحالة تضع الرجل أمام أحد خيارين لا ثالث لهما: فإمَّا أن يطلِّق هذه الزوجة العقيم ليتزوج غيرها أو أن يسمح له الشرع بزواج آخر، ولاشكَّ أن السماح له بالزواج مع الإبقاء على الزوجة الأولى، أجدَرُ بأخلاق الرجال ذوي المروءات من التطليق، ولو أننا دقَّقنا في الأمر لوجدنا أن التعدُّد في مثل هذه الحالة هو في مصلحة الزوجة الأولى، فمن الأفضل لها أن تبقى زوجة كريمة لها كامل حقوق الزوجة، من أن تفقد زوجها ثمَّ لا أمل لها في الزواج مرة أخرى بعد أن يُعلَم أن طلاقها كان بسبب عقمها.

وقد حدث في مرات متعدِّدة أنَّ الزوجة العقيم تبحث لزوجها عن زوجة أخرى تنجب له أطفالاً، حفاظاً على صلة المودَّة الَّتي تربطها بهذا الزوج. ومن جهة أخرى فإن الحل ليس حلاً لمشكلة الرجل مع إغفال مشكلة المرأة، بل إن المرأة الَّتي يثبت عقم زوجها، فإن الشرع الحنيف أعطاها حقَّ طلب التفريق بينها وبين زوجها العقيم إن هي آثرت ذلك.

2 ـ أن تصاب الزوجة بمرض مزمن أو مرض معدٍ أو منفِّر، بحيث لا يستطيع الزوج أن يعاشرها المعاشرة الزوجية، والزوج هنا أيضاً أمام أحد خيارين: فإمَّا أن يطلِّقها وليس في ذلك شيء من المروءة ولا الوفاء، مع ما فيه من المهانة والضياع لهذه المرأة. وإمَّا أن يُسمح له بالزواج، مع الإبقاء على الزوجة الأولى، ولها كامل حقوق الزوجة والَّتي منها الرعاية الصحية، ولا يَشُكُّ أحد في أن بقاءها زوجة أكرم وأنبل وأضمن لسعادتها وسعادة زوجها.

3 ـ أن يشتدَّ كره الزوج لها بحيث لم ينفع معه علاج التحكيم ولا الطلاق الأوَّل ولا الثاني، وهنا يجد الزوج نفسه أيضاً أمام أحد حلَّين فإمَّا أن يطلقها ويتزوج غيرها، وإمَّا أن يبقيها عنده ولها كامل حقوقها المشروعة بوصفها زوجةً ويتزوج معها امرأة أخرى. ولاشكَّ أن بقاءها زوجة أفضل لها ولأولادها في معظم الحالات، وأكثر غرماً على الزوج، وهذا دليل على وفائه وكريم خلقه، حيث لم يوقع الطلقة الثالثة المفرِّقة بينهما أبديّاً.

4 ـ بَقيت حالة أخيرة وهي أن يكون لدى الزوج الرغبة الجنسية الشديدة ما لا يكتفي معها بزوجة واحدة، إمَّا لكبر سنها وإمَّا لكثرة الأيام الَّتي لا تصلح فيها للمعاشرة الزوجية، وهي أيام الحيض والنفاس، وفي هذه الحالة يقضي العقل والحكمة، أن لا نمنعه من الزواج الثاني، وفي ذلك ما فيه من تعريضه لخطر الوقوع في ما حرَّم الله والاعتداء على كرامة هذه الزوجة. لذا أباح له الشرع زوجة ثانية، ضمانة لسلامته وسلامة الزوجة الأولى وسلامة المجتمع وسلامة المرأة الثانية من ضياع حقوقها وحقوق أطفالها لو عاشرها المعاشرة المحرَّمة.

ويبقى العدل هو الشرط الجوهري للتعدُّد، فلا يجوز للرجل أن يفرِّق بين نسائه في النفقة، أو المعاملة، أو حتَّى في بشاشة الوجه وحلاوة اللسان، فإذا فُقدت القدرة على العدل انعدم حقُّ الرجل في التعدُّد. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة الصالحة والمثل الأعلى في تحرِّي العدل بين زوجاته، فكان يقسم بينهن ما يملكه من متاع، ثمَّ يتوجَّه إلى ربِّه داعياً: «اللهم هذه قسمتي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك» (رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن السيِّدة عائشة رضي الله عنها) ولكنَّ الله تعالى، الَّذي فطر النفس البشرية ويعلم سرَّها ونجواها، علم أن تحقيق العدل المطلق يكاد يكون مستحيلاً، فالعدل المادي يمكن أن يتحقَّق، ولكنَّ العدل العاطفي والنفسي لا يمكن تحقيقه، فالإنسان يملك ما بين يديه ولكنَّه لا يملك ما يجيش به قلبه، لذلك أوصى الله الرجال ألا يميلوا إلى واحدة كلَّ الميل، وينصرفوا عن الأخرى، فتصبح كالمعلَّقة الَّتي ليست بذات زوج يرعى حقَّها، وليست مطلَّقة تملك حريتها، ممَّا يوقعها في الضيق ويفسد عليها حياتها، ويجعلها مثار قلق وإزعاج للزوج، بدل أن تكون سكناً له وراحة وسعادة، فقال سبحانه وتعالى: {ولن تستطيعوا أن تَعدِلوا بينَ النِّساءِ ولو حَرَصْتُمْ فلا تميلوا كلَّ المَيْلِ فتَذَرُوها كالمُعلَّقَةِ وإن تُصْلِحوا وتتَّقوا فإنَّ الله كان غفوراً رحيماً} (4 النساء آية 129). وقد حذَّر الرسول الكريم من الميل إلى زوجة دون أخرى فقال: «من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقَّيه ساقط» (رواه أحمد وأصحاب السنن).

وهكذا فإن العقل الرشيد والحكمة البالغة المعهودة في شرع الله وأحكامه كلِّها، تقضي بالسماح له بالزواج الشرعي من الثانية مع الإبقاء على الأولى ولها كامل حقوقها بوصفها زوجةً صالحة كريمة.

وأمَّا المجموعة الثانية من الحالات الَّتي تدعو إلى تعدُّد الزوجات، فهي حاجات اجتماعية تجعل من التعدُّد مصلحة اجتماعية ووطنية، وذلك عند قلَّة الرجال وكثرة النساء، سواء في الأحوال العادية كما هو الحال في بلاد شمال أوربا، أم في حالات الحروب والأوبئة، كما وقع في بلاد أوربا فيما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث بلغت نسبة الرجال إلى النساء واحد إلى أربع في بعض البلدان، وواحد إلى ستٍّ في بعض البلدان الأخرى. ففي مثل هذه الحالات يكون التعدُّد واجباً اجتماعياً ووطنياً وأخلاقياً وإنسانياً في آن واحد، حيث تُصان به النساء عن التبذُّل، فيأوين إلى بيت الزوجية، حيث يجدن الحماية والنفقة، وتصان الأخلاق من الانحلال والفساد. ولقد رأت أوربا النتائج السيئة لمنع التعدُّد فأخذت تفكر بإباحة التعدُّد المشروع، لكنَّهم مع بالغ الأسف لم يفعلوا بَعْدُ، وبقي الباب مفتوحاً للتعدد غير المشروع.

وعلى الرغم من كلِّ ما تقدَّم فإن الإسلام ليس وحده الَّذي أباح التعدُّد، فقد أباحته اليهودية في التوراة، وليس في المسيحية نص صريح يمنع التعدُّد؛ حيث كان قائماً في الأمم المسيحية حتَّى بداية عصر النهضة، ولم تنكره الكنيسة في كلِّ تلك العصور، وقد أباحت الكنيسة في أيَّامنا هذه للإفريقيين المسيحيين تعدُّد الزوجات كما هو معلوم.

وفي ختام البحث في نظام الأسرة في الإسلام، لابدَّ من الإشارة إلى أن الزوج يستطيع أن يتخلَّص من زوجة لا يريدها بالطلاق، فماذا عن المرأة الَّتي لا تريد زوجها، فهل تستطيع أن تطلِّقه؟! الواقع أن الطلاق تترتب عليه أعباء مالية ونفقات يتحمَّلها الزوج، لذلك كان في يد الزوج وحده، لكنَّ الشرع الحنيف لم يدع هذه الناحية سبباً لظلم الرجل للمرأة؛ وهي واقفة مكتوفة الأيدي لا تملك أن تتحرك، بل فتح لها الإسلام أبواباً واسعة للتخلُّص من الرجل، إذا كرهته فلم تستطع المقام معه، وذلك بالتشريعات التالية:

1 ـ أعطى الإسلام المرأة الحقَّ في أن تشترط على الزوج ألا يتزوج عليها، فلو شرطت عليه في عقد الزواج ألا يتزوج عليها صحَّ الشرط، وكان لها حقُّ فسخ الزواج إذا لم يفِ لها بالشرط.

2 ـ شرع التفريق للعلل، فإذا أصيب الرجل بعلَّة تمنع المعاشرة الزوجية أو بمرض مزمن أو بعاهة منفِّرة أو مرض سارٍ خطير، وطلبت الزوجة التفريق بينها وبين زوجها، فرَّق القاضي بينهما بعد أن يتحقَّق من ذلك.

3 ـ التفريق للغيبة الطويلة أو الحكم على الزوج بالحبس: فإذا غاب الزوج عن زوجته غيبة طويلة بغير عذر، أو حُكِمَ عليه بالسجن لمدة تزيد على ثلاث سنوات، يمكن لهذه الزوجة أن تطلب التفريق بينها وبين زوجها، بعد مرور عام على غيبته أو سجنه.

4 ـ التفريق لعدم الإنفاق: فإذا ثبت عجز الزوج عن الإنفاق على زوجته، فرَّق القاضي بينهما لهذا السبب.

5 ـ التفريق للشقاق: فإذا أصبحت الحياة الزوجية جحيماً لا يطاق، ورفض الزوج طلاق زوجته، فإن القاضي يفرِّق بينهما؛ إذا تبيَّن له أن الزوج أَلحقَ الضرر بها أو آذاها.

6 ـ التفريق بسبب كراهية الزوجة للزوج: فإذا ما أحسَّت الزوجة نفوراً شديداً من زوجها بحيث لم تعد تُطيقُ العيش معه بأيِّ شكل، يحقُّ لها أن تطلب التفريق بعد أن ترضيه ماديّاً إذا أصرَّ على ذلك وهذا ما يسمى بالمخالعة.

كلُّ هذا انتصاراً للحقِّ ورفعة لشأنه، فليس في الإسلام تحيُّز لكائن على حساب كائن آخر، فالرجل والمرأة في نظر الشرع سواء، ولا يفضِّل هذه الجهة أو تلك، إنَّما هو العدل المطلق في ظلال شرع الله الحنيف الخالد.

سابعاً: المعاشرة الزوجية:

قال الله تعالى: {ويَسألونَكَ عن المَحيضِ قُل هوَ أذىً فاعتَزِلُوا النِّساءَ في المَحِيضِ ولا تَقربوهُنَّ حتَّى يَطهُرنَ فإذا تَطَهَّرنَ فأتُوهُنَّ مِن حَيثُ أمَرَكُمُ الله إنَّ الله يُحِبُّ التَّوَّابينَ ويُحِبُّ المُتَطَهِّرينَ * نِسَاؤكُم حَرثٌ لكُم فَأْتوا حَرثَكُم أنَّى شِئتُم وقَدِّمُوا لأنفُسِكُم واتَّقُوا الله واعلَمُوا أنَّكُم ملاقُوهُ وبَشِّرِ المُؤمِنِينَ} (2 البقرة آية 222-223).

ومضات:

ـ يسبب الجماع في مدة الحيض ضرراً وأذىً للرجل والمرأة على السواء؛ لذلك كان لابدَّ من الامتناع عنه حتَّى تطهر المرأة وتغتسل. عندها يحلُّ للزوج أن يأتيها من حيث أمره الله؛ وهو محل النسل والولد، ويمكن له أن يأتيها كيف يشاء، قائمة أو قاعدة أو مضطجعة، خلافاً لما كان يُعتقد قبل الإسلام.

ـ المقصود بالتحريم في هذه الآيات هو تحريـم الجماع فقط أثناء مدة الحيض، بينما يحلُّ للزوجين ما سوى ذلك من مجالسة ومؤاكلة ومداعبة.

ـ إن الله يحبُّ التائبين من الذنوب، المتنزِّهين عن الفواحش المحبِّين للطهارة.

ـ المرأة محل الزرع وموضع النَّسل، تحضن الجنين في رحمها وترعى أخلاقه وآدابه في طفولته، لذلك يجب على المؤمن أن يحسن اختيار الزوجة الَّتي ستكون راعية لبيته وأُمّاً لأولاده.

ـ المؤمن يخاف الله ويبادر إلى تقديم الأعمال الصالحة الَّتي تكون له ذخراً في الدنيا والآخرة، ويحذر المعصية والعبث ليقينه بأنه صائرٌ إلى حساب الله لا محالة، ثمَّ إنَّ له البشرى بالفوز العظيم، واستحقاق جنَّات الخلود، لما بذله في سبيل تأسيس أركان السعادة الإنسانية.

في رحاب الآيات:

من أهمِّ أهداف الزواج حفظ النوع البشري بالتوالد، كما يُحفظ النبات بالزرع؛ فالمرأة بمثابة الأرض المعدَّة لإلقاء البذور، والزوج هو الزارع بالطريقة الَّتي يختارها في وضع الحَبِّ. وقد جاء التعبير في الآية الكريمة عن النساء بالحرث بياناً لدورها الهام في بناء الأسرة. وفي ذلك توجيه للخاطبين كي يحسنوا الاختيار، لأن الزواج في الإسلام ليس محلاً لإشباع الدافع الجنسي، أو لإرواء غليل الشهوة الغريزية فحسب؛ بل هو خطَّة محكمة لإعمار الأرض وإحيائها بالنسل الصالح.

ولقد أحلَّ الله تعالى إتيان الزوجة في معظم الأوقات، باستثناء مدة النَّفاس والحيض الَّتي تمرُّ بها الزوجة؛ إذ أن الحيض حالة تشبه المرض، يتم أثناءها طرح البويضة والعش الجنيني المخرَّب خارج رحم المرأة، وغالباً ما تترافق هذه العملية بآلام جسدية واضطرابات نفسية، ممَّا يجعل المرأة غير مستعدَّة نفسياً ولا صحياً للمباشرة الجنسية، الَّتي يُقصد بها استمتاع كلٍّ من الزوجين بالآخر.

وقد رفع الإسلام بهذا النهي من شأن المعاشرة الزوجية، ونزَّهها عن أن تكون مجرَّد قضاء شهوة غريزية آنيَّة، لتكون بالمقابل وظيفة إنسانية ذات أهداف سامية في طبيعة الحياة البشرية واستمرارها، يقوم عليها بناء الأسرة وإحلال المودَّة والحبِّ بين أفرادها.

وينحصر النهي في هذه الآية عن المباشرة أثناء الحيض فقط، دون المعاشرة والمؤاكلة والمجالسة، فقد وضَّح النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: «اصنعوا كلَّ شيء إلا النكاح. وفي لفظٍ (الجماع)» (رواه الجماعة إلا البخاري).

وقد أجمع الأطبَّاء على وجوب الابتعاد عن مباشرة المرأة في مدة الحيض، كما نطق بذلك القرآن الكريم المنزَّل من لدن حكيم عليم، لما في ذلك من أضرار وأذى على الطرفين، ومن هذه الأضرار:

1 ـ آلام أعضاء التناسل لدى الأنثى، وإحداث الالتهابات في الرحم والمبيض، ممَّا قد يؤدِّي إلى تلف المبيض وإحداث العقم.

2 ـ إن دخول سائل الحيض في عضو التناسل عند الرجل قد يحدث له التهاباً صديديّاً، لما فيه من جراثيم وأذى.

ولا يحلُّ للرجل أن يباشر زوجته حتَّى تطهر، وقد ذهب الجمهور إلى أن الطُّهر الَّذي يحل به الجماع هو تطهُّرها بالماء، وأنها لا تحلُّ حتَّى ينقطع الحيض وتغتسل بالماء. فإذا تطهَّرت جاز للزوج أن يباشرها في المكان الَّذي أحلَّه الله له، وهو مكان النسل والولد أي القُبُل لا الدُبُر، لأن الإتيان في الدُّبُر خروج عن موضع الحرث الَّذي خلقه الله.

وما تحريم ذلك إلا لعلَّة الضرر والأذى، وفي هذا التحريم تكريم للمرأة وصيانة لحقِّها، فللمرأةحقٌّ على الزوج في الوطء، ووطؤها في دبرها يفوِّت حقَّها، ولا يقضي وطرها أو يحقِّق مقصودها. وكذلك فالدبر لم يتهيَّأ لمثل هذا العمل، ولم يُخلق له، وإنما الَّذي هُيِّئ لذلك هو الفرج، فالعادلون عنه إلى الدبر خارجون عن حكمة الله وشرعه. ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم : «إن الله لايستحي من الحقِّ فلا تأتوا النساء في أدبارهنَّ» (رواه النسائي عن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه )

وبقوله تعالى: {أنَّى شئتم} أُعطيَ الزوج الحرِّية في إتيان زوجته كيفما يشاء، قائمة أو قاعدة أو مضطجعة على أن يكون ذلك في مكان الحرث (الفرج). وفي ذلك يقولصلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطابرضي الله عنه : « أقبل وأدبر واتقِ الدبر والحيضة» (رواه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه ).

وقبل أن يشرع الزوجان باللقاء الجنسي يستحبُّ منهما أن يقوما بالمقدِّمات كي يصلا بعملهما إلى غايته؛ فيبدآن بالتسمية بالله والدعاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال باسم الله اللهم جنِّبنا الشيطان وجنِّب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدَّر بينهما ولد في ذلك لم يضرَّه الشيطان أبداً» (رواه البخاري).

أمَّا الخطوة الثانية فهي المداعبة، وهي فن يضايق المرأة إهماله، ويثير اشمئزازها إغفاله، بل إنه قد يؤذيها إيذاء بدنياً ونفسياً، ويحوِّل هذا العمل إلى عمل آلي بغيض بالنسبة للطرفين. وللألفاظ والنظرات أهمِّيتها العظمى في التمهيد، ومهما بدت هذه الأمور تافهة وصغيرة في نظر بعض الناس، فإنها هامَّةٌ جداً في هذه الحالة. قال أحد علماء النفس الاختصاصيين بقضايا الجنس تحت عنوان المغازلة والمداعبة: [واعلم أنه لا يكفي أن يستهوي الرجل زوجته حتَّى تذعن له مرة واحدة فقط حين يتزوجها، بل يجب أن يلاطفها ويستعطفها ويستهويها عند كلِّ وصال]. فالمداعبة تمهيد هامٌّ يتوقف عليه تحقيق المتعة، واستمرار سعادة الحياة الزوجية، ويجب أن يكون الجماع منسجماً في العمل والاستجابة له، ومن ضرورات هذه المشاركة المساواة في الحقوق وفي الاستمتاع بالاتحاد الجنسي.

وأفضل الأساليب ما تولَّته يد الشريعة الغرَّاء، وجاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، فهو البلسم الشافي والطب الواقي، وذلك وجوب ترك الزوج زوجته تأنس به ويأنس بها، وتسكن إليه ويسكن إليها فتحصل المودَّة، وتلتقي القلوب، قال الله تعالى: {ومن آياتِهِ أن خَلَقَ لكُم من أنفُسِكُمْ أزواجاً لتَسْكُنوا إليها وجَعَلَ بينَكُمْ مَوَدَّةً ورحمةً إنَّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يَتَفكَّرون} (30 الروم آية 21).

ومن الأسباب الهامَّة لجعل الزواج خصباً ومثمراً للذريَّة الصالحة، المداومة على الاستغفار وتقديم الصدقات، قال تعالى: {فقلتُ استغفروا ربَّكُمْ إنَّه كان غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عليكم مِدْرارا * ويُمْدِدْكُمْ بأموالٍ وبنينَ ويجعلْ لكم جنَّاتٍ ويجعلْ لكم أنهارا} (71 نوح آية 10ـ12).

ومن ثمَّ فإن الشارع الحكيم يعوِّد المسلم على ألا تغيب عن باله الغايات السامية من الأحكام أثناء تفصيلها، فينقله من الحديث عن الدم والغُسل إلى الحديث عن التوبة والطهارة والنقاء حيث يكمن خيره وسعادته، وذلك كلُّه من دواعي محبَّة الله تعالى له: {إن الله يحبُّ التوابين ويحبُّ المتطهرين}.