B8-K1-F2

الفصل الثاني:

بـِرُّ الوالدين

سورة الإسراء(17)

قال الله تعالى: {وقضى ربُّكَ ألاَّ تعبدوا إلاَّ إيَّاهُ وبالوالدين إحساناً إمَّا يبلُغَنَّ عندكَ الكِبَرَ أحدُهُمَا أو كلاهُمَا فلا تقلْ لهما أفٍّ ولا تَنْهَرْهُما وقُلْ لهما قولاً كريماً(23) واخفِضْ لهما جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحمةِ وقُلْ ربِّ ارحمْهُما كما ربَّياني صغيراً(24) ربُّكُمْ أعلَمُ بما في نفوسِكُمْ إن تكونوا صالحينَ فإنَّه كان للأوَّابينَ غفوراً(25)}

سورة الأحقاف(46)

وقال أيضاً: {ووصَّينا الإنسانَ بوالديهِ إحساناً حَمَلَتْهُ أمُّهُ كُرْهاً ووضعَتْهُ كُرْهاً وحَمْلُهُ وفصَالُهُ ثلاثونَ شهراً حتَّى إذا بلغَ أَشُدَّهُ وبلغَ أربعينَ سنةً قال ربِّ أَوْزِعْنِي أن أشكُرَ نعمَتَكَ الَّتي أنْعَمْتَ عليَّ وعلى والديَّ وأن أعمَلَ صالحاً تَرْضَاهُ وأَصْلِحْ لي في ذُرِّيَّتي إنِّي تُبْتُ إليك وإنِّي من المُسْلمين(15) أولئك الَّذين نَتَقَبَّلُ عنهم أحسنَ ما عمِلوا ونتجاوزُ عن سيِّئاتِهِمْ في أصحابِ الجنَّةِ وَعْدَ الصِّدقِ الَّذي كانوا يُوعدون(16)}

ومضات:

ـ يريد الله تعالى أن نتوجَّه إليه وحده بالعبادة بكلِّ ذرات وجودنا وأصدق عواطفنا ومشاعرنا.

ـ إن النتاج العملي لصلتنا بحضرة الله تعالى يتجلَّى بالرحمة والعطف على الناس جميعاً وخاصَّة الوالدين، لاسيَّما عند بلوغهما مرحلة الكبر بما تحمله من الوهن والضعف الجسدي.

ـ يشعر الإنسان عادة بالقوَّة والجبروت أمام الضعفاء والمسنين، لذا كان لابدَّ له من إذلال نفسه على قدمي والديه وتأمين راحتهما، متذكراً كم تعبت أمه في رعايته صغيراً، وكم بذل والده من العناية به والاهتمام حتى غدا يافعاً ناضجاً.

ـ في برِّ الوالدين كفَّارات لكثير من الذنوب ومغفرة تشمل معظم السيئات.

في رحاب الآيات:

تـكمن العبادة الحقيقيـة لله في التوجُّه إليه ـ تعـالى ـ جسـداً، وروحاً، قلباً وتفكيراً وقالباً، إنها تتجلَّى في السير على منهجه وتعاليمه، ومن أهمِّ هذه التعاليم أن نحسن صحبتنا لوالدينا، وأن نعاملهم بأحسن ما تكون عليه الأخلاق من حلو الكلام وكريم الرعاية والعناية، وذلك بالتذلل لهما، مع الرحمة بهما والعطف عليهما والإحسان إليهما؛ لاسيَّما وأنَّ برَّنا بوالدينا ينعكس علينا ببرِّ أولادنا بنا، والعكس بالعكس فإن ثمرة عقوقنا لوالدينا هي عقوق أولادنا لنا. إن معاملة الوالدين زرع ولابدَّ لكلِّ زرع أن يثمر ثمره فالحلو يثمر ثمراً حلواً، والمرُّ يثمر ثمراً مُرّاً، وكما تدين تدان وبالكيل الَّذي تكيل تكتال. ونظراً للتضحية العظيمة الَّتي يقدِّمها الوالدان لأبنائهما فقد أمر الله ببرِّهما وقرن بين عبادته والإحسان إليهما، وجعل أمره حكماً مبرماً مقضياً، حثاً على هذا البر وإعلاءً لشأنه، أخرج الحاكم وصححه البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين». وقال صلى الله عليه وسلم : «ثلاث دعوات مستجابات لاشك فيهن: دعوة المظلوم، و دعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده » (رواه أبو داود، وابن ماجه عن أبي هريرة ).

إن القرآن الكريم يستثير مشاعر العطف والرحمة في وجدان الأبناء تجاه أمَّهاتهم وآبائهم، ذلك أن الحياة في خضَمِّ اندفاعها توجِّه اهتمامهم نحو الأمام إلى الذرِّية، إلى الناشئة الجديدة، وقلَّما توجِّه اهتمامهم إلى الوراء، إلى الجيل الذاهب المُوَلِّي، بينما يندفع الوالدان بالفطرة إلى رعاية الأولاد، وإلى التضحية من أجلهم بكلِّ شيء حتى بالذات. فكما تمتص النبتة الخضراء كلَّ غذاء الحبَّة فإذا هي خاوية، فكذلك شأن الأولاد يمتصون كلَّ جهد، وكلَّ عافية، وكلَّ اهتمام من الوالدين، إلى أن يدخلا طور الشيخوخة الَّتي تسير بهم نحو الضعف والموت، بينما يدخل الأولاد طور الشباب الَّذي يسير بهم نحو النَّماء والقوَّة.

إن أوَّل مرتبة من مراتب برِّ الوالدين ألا يظهر من الولد ما يدلُّ على الضجر أو التأفُّف من والديه، فقد قال تعالى: {ولا تنهرهما} أي لا يصدر منك ما يسيء إليهما. والفرق بين النهي عن التأفُّف، والنهي عن الانتهار: أنَّ الأوَّل للمنع من إظهار الضجر بالقليل أو الكثير، والثاني للمنع من إظهار المخالفة في القول، بالرد أو التكذيب، وقد ورد في الأثر: [لو علم الله شيئاً من العقوق أدنى من أُفٍّ لحرَّمه]. إن الإسلام يدفع الابن إلى مرتبة أعظم تكريماً، وأكثر إيجابية بأن يكون كلامه مع والديه ليِّناً مفعماً بالإكبار والاحترام، مُعرِباً عن حبِّه وامتنانه. ثمَّ إنه يرقى درجة أعلى فيصل به إلى الرحمة، الَّتي ترقُّ وتلطُف حتى لكأنَّها الذل، الَّذي لا يرفع عيناً ولا يرفض أمراً مشروعاً، وكأن للذل جناحاً يخفضه إيذاناً بالسلام والاستسلام. أخرج البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من ولد بارٍّ ينظر إلى والديه نظرة رحمة، إلا كتب الله له بكلِّ نظرة حجة مبرورة، قالوا: وإن نظر كلَّ يوم مائة مرة؟ قال: نعم والله أكبر وأطيب». والآيات تعود بالإنسان إلى مرحلة طفولته الضعيفة حيث رعاه والداه خلالها أحسن رعاية، فإذا أصبحا مُسنَّين واعتراهما شيء من الضعف والحاجة إلى الرعاية والحنان، فإن الإسلام يهيب بالابن أن يتوجه إلى الله من خلال رعايتهما، طالباً منه أن يشملهما برحمته الواسعة. أمَّا من قصَّر في حقِّهما عن جهل، فقد ترك الله له باب المغفرة مفتوحاً للتوبة والإنابة، ليكون في عداد الأوَّابين الَّذين يسارعون إلى ربِّهم مستغفرين منيبين؛ كلَّما زلَّت بهم القدم. فمن قصَّر في حقِّ من حقوق أبويه فلْيُعلن توبته ولْيستدرك تقصيره تجاههما ولو بعد موتهما، ولْيُسرع إلى ربِّه نادماً مستغفراً علَّه يغفر له، إنه غفور رحيم. أخرج أحمد والبخاري وأبو داود وابن ماجه، أنَّ رجلاً قال: «يا رسول الله، هل بقي علي من برِّ أبويَّ شيء بعد موتهما أبرُّهما به؟ قال: نعم الصَّلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم الَّتي لا رَحم لك إلا من قبلهما، وإكرام صديقهما». وأخرج الحاكم والذهبي والبيهقي والطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلُّ الذنوب يؤخِّر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإنه يعجِّله لصاحبه في الحياة قبل الممات». والأبناء ملزمون ببرِّ الوالدين وإن كانا غير مسلمين، فقد جاء في صحيح البخاري عن أسماء رضي الله عنها قالت: «قَدِمَتْ أمِّي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم مع أبيها، فاستفتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أمِّي قدمت وهي راغبة أفأصلها؟ قال: نعم، صِلِي أمَّك».

ومن الملاحظ أن توصية الآباء بالأبناء قليلة إذا ما قورنت بتوصية الأبناء بالآباء، وذلك لأن الفطرة كفيلة برعاية الوالدين للأولاد، رعاية تلقائية لا تحتاج إلى محرِّض، وقد تصل أحياناً إلى حد الموت في سبيل الأبناء. وتخص الآيات الكريمة الأم بالذِّكر تقديراً لها على ما تعانيه من آلام الحمل والوضع، فهي تحمل طفلها كرهاً وتضعه كرهاً، تلك هي صورة الحمل وخاصَّة في أواخر أيامه، وصورة الوضع وآلامه، فالوضع عملية شاقَّة، ولكنَّ آلامها الهائلة كلَّها لا تقف في وجه الفطرة، ولا تُنسي الأم حلاوة الثمرة، ثمرة التلبية لفطرتها، ومنح الحياة نبتة جديدة تعيش وتمتد. ثمَّ تأتي مرحلة الرضاع والرعاية حيث تعطي الأم خلاصة غذائها لبناً سائغاً، وعصارة قلبها وأعصابها حباً ورعاية، لا تملُّ ولا تكلُّ، ولا تكره ولا تضجر، بل تؤدي واجبها فرحة سعيدة سعادة غامرة، وغاية ما تتطلع إليه من الجزاء أن تراه يسلم وينمو. وعلى الرُّغْم من عظمة هذا العطاء، نجد ظاهرة العقوق لا تزال متفشية في كثير من الأسر والمجتمعات، حيث يُقابَلُ فيها الإحسان بالإساءة، والمعروف بالمنكر، والفضل بالجحود، إلا أنه غالباً ما يكون هذا العقوق حصاداً لزرعٍ غرس بذوره الآباء، ونتيجة لأسباب يقع بها الكثير منهم إمَّا بشكل عفوي تقليدي، وإمَّا عن قصد وتعمُّد، ومن هذه الأسباب:

1 ـ معاملة الآباء لأبنائهم بالأسلوب التقليدي الَّذي عوملوا به من قبل آبائهم، مدفوعين بدافع التقليد الأعمى، أو مهملين متجاهلين لِدَوْرِ المرونة الفكرية، الَّذي تتطلبه عملية التطور والتغيير، الَّذي يطرأ على المجتمعات والعلاقات الاجتماعية بمرور الأيام.

2 ـ مخالفة الوالدين بعض القواعد التربوية الَّتي تشكل كبرى الدعامات لنشأة الأولاد نشأة سويَّة وسليمة. ومن الأمثلة على ذلك التفريق في المعاملة بين صغيرهم وكبيرهم، وذكرهم وأنثاهم، وعدم التسوية بينهم في الحقوق والواجبات، والعواطف والمشاعر. وفي هذا روى أنس رضي الله عنه : «أن رجلاً كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء ابن له فقبَّله وأجلسه على فخذه وجاءت ابنة له، فأجلسها بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا سَوَّيْتَ بينهما» (رواه البزار).

فيكون مثل هذا السلوك الخاطئ سبباً في عقوق الأبناء لآبائهم من جهة، وفقدان روح المحبَّة والتعاون فيما بين الأبناء أنفسهم من جهة أخرى. وقد يتصف بعض الآباء بالقسوة الشديدة على أبنائهم، ويتعمَّدون إهانتهم وتحقيرهم ممَّا يؤدي إلى أسوأ النتائج السلبية، ونادراً ما يسلم الأبناء من الإصابة بالأمراض النفسية والاضطرابات السلوكية والشخصية، الَّتي تكون ثمرة الأخطاء التربوية الَّتي يرتكبها الآباء في حقِّ الأبناء.

3 ـ سيطرة الفكر المادي على العلاقة بين الأب والابن، وذلك حين ينظر الأب إلى أولاده على أنهم أفواه تلتهم أمواله، وتحرمه من التلذُّذ بها، والإنفاق منها على مُتَعِهِ وراحته، ويشتدُّ حرص الأبناء على أخذ حقِّهم الكامل من مال أبيهم، فيسعَوْن للحصول عليه عاجلاً للتمتع به كيفما شاؤوا.

4 ـ شـعور الآباء بأن لهم دَيناً على أولادهم مقابل رعايتهم والسـهر عليهم، ومطالبتهم المتكررة لهم بردِّ هذا الجميل والعناية بهم، خاصَّة عند كبرهم وضعفهم.

5 ـ الصراع الفكري الدائم بين الأجيال بسبب تطور العلوم والمعارف والعادات؛ حيث يُعْتَبَرُ الأب المُدافع الشديد عن الماضي الموروث، ويمثِّل الأبناء الجيل المتطلِّع إلى حاضر ومستقبل يوافق المعطيات الجديدة.

لقد عالج الإسلام هذا الموضوع بشكل عقلاني ووجداني في آن واحد، فعاد بذاكرة الولد إلى أياَّمه الأولى، وإلى معاناة والديه وآلامهما في رعايته، وطلب منه بالمقابل أن يقدِّم لهما أحلى ما عنده من معاني الودِّ والوفاء. ويخلص الإسلام من هذه الوقفة أمام الوصية بالوالدين، إلى مرحلة النضج والرشد، مع استقامة الفطرة، واهتداء القلب وبلوغه أَشُدَّه ما بين الثلاثين والأربعين عاماً، حين تكتمل جميع القوى والطاقات ويتهيَّأ الإنسان للتدبُّر والتفكر في رويَّة وهدوء. وفي هذه السن تتَّجه الفطرة السليمة المستقيمة بنظرها واهتمامها إلى ما وراء الحياة الحاضرة، فتتدبَّر شؤون المصير والمآل، وهنا يصوِّر القرآن الكريم ما تختلج به نفس الإنسان وهو في مفترق الطريق بين شطر من العمر ولَّى، وشطر يكاد آخره يتبدَّى، فيتَّجه إلى الله يدعوه أن يعينه لينهض بواجب الشكر، وأن يرشده إلى صالح العمل وأن يصلح له ذريته، وهي رغبة القلب المؤمن في أن يستمر عمله الصالح في ذرِّيته، وأن يؤنس قلبه الشعور بأن في نسله من يعبد الله ويطلب رضاه. فالذرِّية الصالحة هي أمل العبد الصالح، وهي أحبُّ إليه وآثرُ عنده من الكنوز والذخائر، وأسعدُ لقلبه من كلِّ زينة. إن العمل الصالح يمتدُّ من الوالدين إلى الذرِّية ليصل الأجيال المتعاقبة بطاعة الله، روى أبو داود في سننه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلِّمهم أن يقولوا في التشهُّد: اللهم ألِّف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا واهدنا سبل السلام، ونجِّنا من الظلمات إلى النور، وجنِّبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرِّياتنا، وتُبْ علينا إنك أنت التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها عليك وأتـمَّها علينا».

وجملة القول: إن حياة المؤمن تستقيم بأمرين اثنين؛ أوَّلهما عبوديَّته لله تعالى، وثانيهما الإحسان إلى الوالدين، وإلا فإنه يخسر إنسانيته الَّتي كرَّمه الله بها على كثير ممَّا خلق في هذا الكون.