B7-F4

الفصل الرابع:

الصَّبـر

سورة البقرة(2)

قال الله تعالى: {ولَنَبلُوَنَّكُم بِشَيءٍ منَ الخَوفِ والجُوعِ ونَقْصٍ منَ الأموالِ والأنفُسِ والثَّمَراتِ وبَشِّرِ الصَّابِرِينَ(155) الَّذين إذا أصابَتهُم مصِيبَةٌ قالوا إنَّا لله وإنَّا إلَيهِ راجِعُونَ(156) أُولَئِكَ عليهِم صَلَواتٌ من ربِّهِم ورحمَةٌ وأُولَئِكَ هُمُ المُهتَدُونَ(157)}

سورة آل عمران(3)

وقال أيضاً: {ياأيُها الَّذين آمَنُوا اصبِرُوا وصابِروا ورابِطُوا واتَّقُوا الله لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ(200)}

سورة الطور(52)

وقال أيضاً: {واصبرْ لحكم ربِّك فإنَّك بأعيُننا وسبِّحْ بحمد ربِّكَ حين تقُومُ(48) ومن اللَّيلِ فسبِّحْهُ وإِدْبارَ النُّجوم(49)}

ومضات:

ـ الحياة سلسلة من التجارب والشدائد يخوضها الإنسان، والهدف منها اجتيازه للامتحان الإلهي الَّذي تتحدَّد فيه نتيجته، بمقدار صبره وتجلُّده، وحسن تسليمه لله، وعمله على طاعته وإرضائه.

ـ الصَّبر هو الثمن الَّذي يدفعه المؤمن لينال به البشرى من الله تعالى بالرضا والثواب. ومن تخلَّق بالصَّبر وحسن التسليم لله مؤمناً بأن الأقدار كلَّها بيد الله، وإليه ترجع الأمور كلُّها، فهو ممَّن مَنَّ الله تعالى عليهم وجعلهم من القوم المهتدين؛ الَّذين يملكون مفاتيح الخير للناس جميعاً، والَّذين يبنون ويعمِّرون، ويتحوَّلون إلى مشاعل من العلم والحكمة تضيء الطريق أمام البشرية جمعاء، فهؤلاء لهم من ربِّهم الجنَّة نِعْم الثواب وحسنت مرتفقاً.

ـ إن التزام أحكام الشريعة وتبليغها للناس يحتاج إلى الكثير من الصَّبر والأناة والحلم.

ـ إن أحكام الله عزَّ وجل وتعاليمه ترمي إلى إسعاد الجنس البشري، وقد يصعب على بعض الناس إدراك مقاصدها على الفور، ومن ثمَّ تبنِّيها واتِّباعها، لذا يطلب الله تعالى من النبي الكريم أن يصبر على تبليغ الدعوة، وعلى ما يلاقيه من صدٍّ وعَنَتٍ في سبيل إيصال مفهوم الشريعة إلى الناس، ويُبشِّره بأنه في حفظ الله ورعايته. وهذه العناية الربَّانية تشمل كلَّ الدعاة المخلصين، العاملين بجدٍّ وثبات في مواجهة ما يلاقونه من صعوبات وعقبات، فجميعهم برعاية الله مكلؤون، وبأنظاره تعالى محفوفون.

/ في رحاب الآيات:

ليس الإنسان بمأمن من البلاء والآلام والمصائب الَّتي قد تواجهه في رحلة الحياة، ولابدَّ له أن يعاني منها وأن يصبر على أذاها، فالصَّبر هو صمَّام الأمان لأنه يعني قوَّة الإرادة، وسعة الصدر والقدرة على التحمُّل، ولهذا وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أعظم عطاء حيث قال: «ما أُعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصَّبر» (رواه الخمسة عن أبي سعيد الخدري t ). وهو يساعد على ضبط كوابح النفس والأخذ بزمامها؛ فالمؤمن الصابر إذا حلَّ به حزن أو أَلَمَّت به نازلة، أحال نكبته إلى قوَّة، وجعل منها درساً ليفهم حقائق كانت خافية عليه، أو معاني غفل عن إدراكها، أو إرشادات قصَّر في اتباعها؛ لهذا تراه دائماً رابط الجأش، راسخ القدم مطمئناً، حَسنَ الظن بربِّه، وهو موقن في قرارة نفسه أنَّ أيَّ تخاذل يقع فيه، سيكون ضرره أشدَّ وأوقعَ من ضرر البلاء نفسه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ عِظَمَ الجزاء مع عِظَمِ البلاء وإن الله تعالى إذا أحبَّ قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط» (رواه الترمذي).

فالابتلاء تجربة تربوية من شأنها أن تبني شخصية المؤمن بناءً قوياً، وتُعِدَّه إعداداً راقياً، وكلَّما كان عسيراً وشاقّاً كلَّما تطلَّب مزيداً من الصَّبر والثبات والتحمُّل، ليتمكَّن المؤمن المبتلى من جني ثمرته الغالية، فعن أبي هريرةt أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة، في نفسه وولده وماله حتَّى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة» (رواه الترمذي) فمن ثبت وتمسَّك بأهداب الصَّبر فأجره على الله.

والمؤمن ينظر إلى المصائب على أنها امتحانات إلهية فتشرق نفسه حيالها، ويتعامل معها على أنها فرص لرفع الدرجات وحطِّ الخطايا، فلا يبتئس أو يتخاذل بل يمضي قُدُماً لينجح في الامتحان، وتأتيه البشارة من الله بأن له الرحمات والنعيم. روي عن عمر بن الخطاب t أنه قال: (ما أصابتني مصيبة إلا وجدت فيها ثلاث نِعَم: الأولى أنها لم تكن في ديني، والثانية: أنها لم تكن أعظم ممَّا كانت، والثالثة: أن الله يجازي عليها الجزاء الكبير) ثمَّ تلا قوله تعالى: {..وبَشِّرِ الصَّابرين * الَّذين إذا أصابتهُم مصيبةٌ قالوا إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون * أولئك عليهِمْ صلواتٌ من ربِّهِمْ ورحمةٌ وأولئك همُ المهتدون}.

فهذه الآية الكريمة تحدِّد ملامح هؤلاء الصابرين، الصَّبر الجميل، المُرْجِعِين أمورهم إلى الله تعالى، فهم مطمئنون، قلوبهم متصلة بخالقها لا تتبرَّم ولا تتذمَّر، وألسنتهم مطهَّرة لاتنطق إلا بالتسليم لله والرضا بقضائه، وتردِّد: {إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون}. أي كلُّنا لله، جوارحنا متجهة إليه، وأمورنا راجعة إليه، وله نسلِّم التسليم المطلق. عن أمِّ سلمة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنالله وإنا إليه راجعون، اللهم أْجُرْني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها» (رواه مسلم). وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: «إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون نعم، فيقول: فماذا قال عبدي؟ فيقولون حَمِدك واسترجع (أي قال إنا لله وإنا إليه راجعون)، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنَّة وسمُّوه بيت الحمد» (أخرجه أحمد والترمذي) وبما أن الجزاء يكون على قدر الجهد، فالله تعالى يثيب المؤمنين الصابرين ثواباً عظيماً.

فالصَّبر هو شطر الإيمان وزاد الطريق، ولهذا حثَّ الله تعالى عليه لما له من أثر كبير في مسيرة الإنسان. والمجالات الَّتي تظهر فيها أهمِّية الصَّبر كثيرة ومتفرعة، ولعلَّ أهمَّها الصَّبر على الطاعات، والصَّبر عن الشهوات ولذَّاتها، لأنه جهاد دائم، بخلاف المصيبة الَّتي تكون بمثابة عارض لا يلبث أن يزول، كفقدان الأهل والأحِبَّة وحلول الأوجاع والأمراض. وهناك صبر على التعامل مع الناس وفي ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المسلم إذا كان مخالطاً الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الَّذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» (رواه الترمذي). وأعظم الصَّبر صبر الأنبياء على الإيذاء والإعراض والصدود الَّذي يلقونه من أقوامهم، وقد سُمِّي أربعة منهم بأولي العزم لعظيم ابتلائهم وجميل صبرهم، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السَّلام، وجاء الأمر لنبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم من الله تعالى أن يقتدي بهم ليكون له في صبرهم أسوة حسنة في هذا الشأن، فقال له: {فاصبرْ كما صبرَ أُولُوا العَزْمِ منَ الرُّسُلِ..} (46 الأحقاف آية 35). وليس المقصود بالصَّبر الاستسلام للأمراض أو الآلام، بل هو الجَلَد والتحمُّل وحسن التعايش مع الصعوبات، وكيفية مقاومتها والالتفاف حولها دون الإذعان لها. ولابدَّ في هذه المواقف من استمداد العون من الله تعالى، لأن الإيمان أقوى من جميع المواقف والعواطف والمشاعر النفسية، لأنه نور الله تعالى وإكسير الحياة للقلوب ومطهِّرها من الآثام.

وإذا استقرَّت إرادة الصَّبر في أعماق النفس وتأصَّلت بداخلها، ولَّدت فيها طاقات إضافية على التحمُّل؛ فهي بحر لا ساحل له، وكلَّما اشتدَّت الخطوب أغدقت علينا مزيداً من الإرادة والعزيمة في مواجهتها. وأحسن الصَّبر هو الصَّبر على الإيذاء في العقيدة وهو المصابرة بعينها، فهي شدٌّ للعزائم وثبات على الحقِّ، وإصرار في وجه من يخطِّط ويدبِّر لتخريب حياتنا وتدمير سعادتنا. وأمَّا المرابطة فهي كلُّ ما فيه انتظار وترقُّب واستعداد من أجل تحقيق أيِّ عمل في سبيل الله، فحراسة حدود الوطن لمواجهة الأعداء مرابطة، فيها الثواب الجزيل والعطاء الوفير، فقد فاق جزاؤها الدنيا وما فيها من متع، كما ذكر سهل بن سعد الساعدي t أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها». وانتظار الصَّلاة بعد الصَّلاة مرابطة، والصَّبر على العلم والتعلُّم مرابطة، والسهر على راحة العلماء ومشاركتهم في خدمة العمل الإسلامي مرابطة، وكذلك أَنْ توقف نفسك عند حدود الله وتلتزم بها ولا تتعدَّاها، وتترصَّد الشيطان فلا تسمح له أن يتغلغل إلى داخلها مرابطة. وكذلك من المرابطة التزام جانب الحيطة والحذر مع كلِّ من يحاول أن يتعرَّض للعقيدة الإسلامية بأيِّ أذى، لتلويث أفكار المسلمين وإبعادهم عن جادَّة الصواب، وإفشال مسعى هؤلاء وقذف باطلهم بالحقِّ فيدمغه، قال تعالى: {بل نقذفُ بالحقِّ على الباطلِ فَيَدْمَغُهُ فإذا هوَ زَاهِقٌ..} (21 الأنبياء آية 18).

وهكذا فإن كلَّ عمل يقوم به المرء، لابدَّ أن يتجمَّل بالصَّبر، لأنه الحارس اليقظ للإرادة يمنعها من أن تهن أو تضعف، والحارس للنفس البشرية من الانهيار أمام الأهواء أو الشدائد.

وفي الختام نجد أن المؤمن ينال بالصَّبر مرتبة جعلت الرسول صلى الله عليه وسلم يتعجَّب من خيرها وبرِّها حيث قال: «عجباً لأمر المؤمن إن أمره كلَّه له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سرَّاء شكر، فكان خيراً، وإن أصابته ضرَّاء صبر، فكان خيراً له» (رواه مسلم).