B7-F2

الفصل الثاني:

التـواضـع

سورة الكهف(18)

قال الله تعالى: {واضرِبْ لهم مَثَلاً رجُلَيْنِ جعلنا لأحدِهِمَا جَنَّتينِ من أعنابٍ وحَفَفناهُما بنخلٍ وجعلنا بينهما زَرْعاً(32) كِلتا الجنَّتين آتَتْ أُكُلَها ولم تظلِمْ منه شيئاً وفجَّرنا خلالَهُما نَهَراً(33) وكان له ثمرٌ فقال لصاحبهِ وهوَ يُحاوِرُهُ أنا أكثرُ منك مالاً وأعَزُّ نَفَراً(34) ودخلَ جنَّتهُ وهوَ ظالِمٌ لنفسهِ قال ما أظنُّ أن تَبِيدَ هذه أبداً(35) وما أظنُّ السَّاعَةَ قائمَةً ولئِنْ رُدِدتُ إلى ربِّي لأجِدَنَّ خيراً منها مُنْقَلَباً(36) قال له صاحبُهُ وهوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفرْتَ بالَّذي خَلَقَكَ من تُرابٍ ثمَّ من نُطفةٍ ثمَّ سوَّاكَ رجُلاً(37) لكِنَّا هوَ الله ربِّي ولا أُشركُ بربِّي أحداً(38) ولولا إذْ دخلتَ جنَّتَكَ قلتَ ما شـاءَ الله لا قوَّة إلاَّ بالله إن تَرَنِ أنا أقلَّ منكَ مالاً وولداً(39) فعسى ربِّي أن يُؤْتِيَنِ خيراً من جنَّتِكَ ويُرْسِلَ عليها حُسْبَاناً من السَّماءِ فتصبِحَ صَعيداً زَلَقاً(40) أو يُصبحَ ماؤُهَا غَوراً فلن تستطيعَ له طَلَباً(41) وأُحيطَ بثمرِهِ فأصبحَ يُقلِّبُ كفَّيهِ على ما أنفقَ فيها وهي خاويةٌ على عُرُوشِهَا ويقولُ ياليتني لم أُشْرِكْ بربِّي أحداً(42) ولم تكنْ له فئةٌ ينصرونَهُ من دُونِ الله وما كان مُنتصراً(43) هُنالِكَ الوَلايَةُ لله الحقِّ هو خيرٌ ثواباً وخيرٌ عُقْباً(44)}

ومضات:

ـ هذه قصَّة إنسان قَوَّم نفسه على أساس ما يملكه، من أموال وذريَّة وعقارات، ولبس رداء الغرور والأماني، وكأنَّ الله تعالى يُعجِزُهُ أن يحصي ممتلكاته، وأن يقضي عليها بالدَّمار والزوال، عقوبة له على تجبُّره وتعاليه.

ـ يجب أن نقف دائماً متواضعين على أعتاب الله عزَّ وجل، معترفين له بالقدرة على العطاء والمنع، فإن أعطانا شكرنا، وإن مَنَعَنَا صبرنا، له الولاية والأمر، وعلينا الامتثال والصبر.

في رحاب الآيات:

هذه الرائعة القرآنية تقدِّم لنا عرضاً تصويرياً لما ينتاب الإنسان من غرور أو تكبُّر عند شعوره بالغنى والجاه، تلك الظاهرة الَّتي لا تزال تتكرَّر في حياة الإنسان ما دامت الحياة قائمة. إنها ملحمة الوجود تُختَزَل في أسطر قليلة تصوِّر الحرب الضروس بين الخير والشرِّ، بين من انتمى إلى جناب الرحمن، وبين من انحاز إلى مكر الشيطان. وهي قصَّة تضعنا على مفترق طريقين، ثمَّ تبيِّن لنا بوضوح نهاية كلِّ طريق منهما، طريق الأمن والأمان الموصل إلى الله، وطريق الشرِّ والفساد الموصل إلى ظلمات بعضها فوق بعض، وما على الإنسان إلا أن يختار.

إنها قصَّة الإنسان صاحب الثروة والمال الوفير، وقد ظنَّ أنه ملَك الدنيا، فلا فقر يؤرِّقه ولا تعاسة تصيبه بعد اليوم، ونسي أن الكثير من الأغنياء المترفين فقدوا ثرواتهم بين عشيَّة وضحاها لأسباب مختلفة، وأن المرء مهما اجتهد في توزيع أمواله ضمن استثمارات مختلفة، تحسُّباً للطوارئ المهلكة، فإنه لابدَّ أن يأتيه يوم يترك فيه ثروته، إن لم تتركه هي، ويُعْرَض على حضرة الله مجرَّداً من كلِّ شيء إلا من أعماله.

وتبدأ القصَّة بوصف مظاهر الازدهار والثَّراء، فالدنيا مقبلة، والنعمة موفورة يملكها رجل أفاء الله عليه من خيره لعلَّه يتذكَّر ويشكر. امتلك جنَّتين ارتفعت فيهما الكروم وسمقت، وتدلَّت عناقيدها كحبَّات الياقوت تسرُّ الناظرين، وتُسيل لعاب الجائعين، ومن وراء الكروم ضربت أشجار النخيل طوقاً حولها، وكأنها حارس أمين يحميها من أنظار المتطفلين، وتحت الكروم والنخيل امتدَّت النباتات تغطِّي الأرض بخضرة زُمرديَّة مبهجة للنفس، منبِّهة للحسِّ، جالبة للفرح، وبين الثمار والأشجار شَقَّ الماء مجراه على شكل نهر متموِّج يفيض بالخير على المزروعات، ويوقد فيها شعلة الحياة. كلتا الجنَّتين طرحتا محصولهما في الوقت المحدَّد دون أيِّ نقص، وعهدُنا بالأشجار أنها تعطي عاماً وتقصِّر عاماً، ولكنَّ استدراج الله لهذا المتكبِّر جعله يستوفي محصوله كاملاً عاماً بعد عام. ولمَّا التقى بصاحبه الفقير الَّذي أخذ يذكِّره بنعم الله عليه، استعلى وتكبَّر، وكان بينهما حوار يتَّسم بالغرور والجحود بنعم الله؛ من جهة صاحب المال، حيث قال وقد صَعَّر خدَّه: أنا أفضل منك بكثير، فمالي وفير ورهطي كبير، أمَّا أنت فقد أتلفت مالك في الإنفاق على الناس، فأين هؤلاء الَّذين تصدقت عليهم؟ هل يقدِّمون لك معونة في محنتك؟. ثمَّ أخذ بيد صاحبه باستعلاء وبدأ يجول به في أنحاء جنَّتيه، ونفسه قد ركبت مركب الغرور حتَّى كادت تطير؛ وقال: انظر إلى هذا النعيم هل من الممكن أن يزول؟ وما لي أراك تحدِّثني عن الآخرة، وعن قيام السَّاعة والحساب؟ إنني أستبعد هذا الأمر، وهل معك دليل على صدقك؟ ولنفرض أن هذا حدث، وأنني رجعت إلى ربِّي، هل تظنُّ أنه سيحرمني بعد أن ملكت كلَّ هذا في الدنيا؟ لا بل إنه سيعطيني بدل الجنَّة جنَّات، وما الحياة الدنيا إلا عنوان للآخرة المزعومة. قال العبد المؤمن محاوراً متأنِّياً علَّه يحرِّك ولو قليلاً من الإيمان في قلب صاحبه: هل نسيت الخالق الَّذي أنعم عليك بهذا النعيم، وهل أنكرت قيام الساعة الَّتي أخبرنا الله بها على لسان أنبيائه؟ هل نسيت كيف خلقك الله ولم تكُ شيئاً؟، لقد خلقك من مكوّنات التراب ثمَّ جعلك نطفة في قرار مكين، ثمَّ حوَّل هذه النطفة المهينة إلى إنسان سويٍّ قادر مقتدر، فإذا به يكفر بنعم خالقه؛ أمَّا أنا فإن لي من إيماني الكفاية، وأقولها معترفاً منيباً بأن الله هو ربِّي وخالقي ومالك أمري، وأنا أنزِّهه عن أن أشرك به مالاً أو ولداً أو حبّاً للدنيا. ثمَّ يخاطبه بلسان المعلِّم الرؤوف الَّذي يمدُّ يد المساعدة لمن جرفه تيَّار الحياة، يبثُّ تعاليمه بحبٍّ ورأفة، فيقول لصاحبه: هَلاَّ إذ دخلت جنَّتك قلت: ما شاء الله لا قوَّة إلا بالله، فالخير كلُّه بيده، وهو وحده الخالق القادر؛ إنك تراني فقير الحال، قليل المال والعيال، ولكنَّ ثقتي بالله لا حدود لها، وهو قادر على أن يعوِّضني خيراً من جنَّتك، وعندي من اليقين ما يملأ قلبي بأن أموالك تلك فتنة لك، وأنَّ الله قادر على إبادتها حين يشاء، فقد يرسل عليها مطراً يقتلع نباتاتها وتصبح أرضها طيناً خاوية، أو أن تغور مياهها في باطن الأرض، فلا تستطيع الحصول عليها مهما بذلت من مال وجهد، فتجفَّ أشجارها وتفقد خضرتها وحياتها.

ويُسدل الستار على ذلك الحوار، وفي نفس السامع ما فيها من الرهبة والخشية من قدرة الله تعالى، ويُرفع ليقع البصر على مشهد آخر يصوِّر الوجه المناقض للمشهد الأوَّل، فالأوَّل فيه إشراقة الحياة، وسحر الجمال، والثاني مشى فيه الخراب والدمار حتَّى لم يدع بقعة أو زاوية إلا وانساب فيها. لقد نزلت عقوبة الله بالمتكبِّر كما توقَّع العبد الصالح، بإتلاف جنَّتيه، فأصبح عاليها سافلها، وقد تصدَّعت جدرانها، وذوى زرعها فأصبحت أثراً بعد عين. ودخل المغرور جنَّته فلم يجد إلا بواراً وخراباً، فصار يُقلِّب كفَّيه حزناً وأسفاً على ما أنفق فيها من مال وما بذل من جهد، وعلى ما فرَّط في حقِّ ربِّه. عند ذلك فقط اهتزَّت فطرته النائمة، واستيقظ ضميره الوسنان، فأرسل موجات صوتية تنعقد حروفاً لاكها لسانه في مرارة: (ياليتني لم أشرك بربِّي أحداً، ياليتني لم أغترَّ بمالي وسلطاني، ياليتني...) ويتلفَّت حواليه ليلتمس ولو صديقاً واحداً من الرهط الكبير الَّذي كان يحفُّ به فلا يجد أحداً، إنه رهط مزوَّر، كان منتفعاً بخيراته وبساتينه، واليوم وقد اندثر النعيم، فقد اندثر معه كلُّ شيء. إنها غاية في الهزيمة والخيبة، حيث لا مال ولا أهل ولا نفوذ ولا سلطان؛ ولم يبقَ سوى شبح إنسان يقف ذليلاً أمام خالقه، مجرَّداً من زينة الدنيا وزخرفها، لا يملك سوى ذنوبه وتقصيره، فإن شاء الله غفر له، وإن شاء عذَّبه ولن يجد من دون الله نصيراً.

من هذه القصَّة المليئة بالعبر نستخلص ما يلي:

1 ـ إن الغرور والتسلُّط من أشدِّ الأمراض الَّتي يبتلى بها الإنسان، ولا نجد أحداً تكبَّر وتجبَّر إلا أنزل الله به العقوبة، ومرَّغ أنفه في تراب الذُّل والهوان.

2 ـ إن تعلُّق الإنسان المفرط بماله يدخله في دائرة الشرك بالله، ويجعله يحسب نفسه وكأنَّه صاحب القرار من دون الله تعالى، فيعطي لماله الضمان بالسَّلامة المطلقة، ويعطي لنفسه الوعد بالمزيد من المال في الدار الآخرة.

3 ـ يجب أن يملك الإنسان المال ولا يجعل المال يتملَّكه، وهذا مرهون بتقوية الصلة بالله، فلا مشيئة له إلا بأمره، ولا قوَّة له إلا من خلال تأييده.

4 ـ إذا حلَّت النكبة بمؤمن صالح تقيٍّ هبَّ إخوانه وأحبابه لنجدته وعونه، فتنقلب عليه برداً وسلاماً وكأنَّها لم تكن. ولكن إذا نزلت النازلة بالجبَّار المتغطرس، انفضَّ عنه أصدقاء المصلحة، وقرناءُ السوء، ليبقى في الساحة وحيداً، طريداً، منبوذاً يتجرَّع غصص النكبة وحده فلا تجده إلا وقد انهار.

5 ـ الولاية لله الواحد الأحد، مالك الأكوان، بيده مقادير كلِّ شيء، وهو على كلِّ شيء قدير، ولا حول للمخلوق ولا قوَّة إلا بالله العليِّ العظيم.

سورة الإسراء(17)

قال الله تعالى: {ولا تمْشِ في الأرضِ مَرَحاً إنَّك لن تَخْرِقَ الأرضَ ولن تَبْلُغَ الجبالَ طُولاً(37) كلُّ ذلك كان سيِّئُهُ عندَ ربِّكَ مكروهاً(38)}

/ ومضات:

ـ حين يخلو قلب الإنسان من الشعور بالخالق المعطي، تأخذه الخُيَلاء بما يبلغه من ثراء أو سلطان أو جمال، ولو أيقن أن ما هو عليه هو من فضل الله تعالى وممَّا منحه إيَّاه من نِعَم، لحدَّ من كبريائه وخفَّف من غلوائه، ومشى على الأرض هوناً وتواضعاً.

ـ التواضع أدب مع الله وأدب مع الناس، وهو أجمل الصفات الَّتي يمكن أن يتحلَّى بها الإنسان، لأنه مرآة صافية تكشف كوامن النفس الطيِّبة.

ـ إن الله تعالى يكره صفتي التكبُّر والاستعلاء، الَّلتين ترتكزان على الأنانية المفرطة وحبِّ الذَّات، لأنهما تسيئان للمجتمع الإسلامي المبني على التآلف والتحابب والتعاون، والَّذي لا مكان فيه للغطرسة والزَّهو والعجرفة.

/ في رحاب الآيات:

يمشي المرء مَرَحاً عند شعوره بالتفوُّق على الآخرين، ناسباً الفضل في ذلك لنفسه، ناسياً من أعطاه القوَّةعلى التميُّز والتفوُّق، وهذا ما يوقعه في العُجْبِ والكبرياء والمفاخرة، ويعيق جهوده عن الحصول على المزيد من المزايا، ويشـلُّ حركته عن تقديم المزيد من العطاء. والقرآن الكريم يجابه المتطاول المختال بحقيقة ضعفه وعجزه وضآلته بقوله: {إنَّك لن تَخْرِقَ الأرضَ ولن تَبْلُغَ الجبالَ طُولاً}. فالإنسان بحجمه ضئيل هزيل، لا يبلغ بالقياس إلى الأجسام الضخمة شيئاً، إنما هو قويٌّ بقوَّة الله، عزيز بعزَّته، كريم بروحه الَّتي نفخها فيه، وبالعقل الَّذي وهبه إيَّاه، ليتصل به ويراقبه ولا ينساه.

وهذا التواضع الَّذي يدعو إليه القرآن هو أدب روحي مع الله، وأدب اجتماعي مع الناس، وما يميل عن هذا الأدب إلى الخُيَلاء والعُجْب، إلا إنسان ذو نفس فارغة من حبِّ الله، وعقل جاحد لا يجيد وضع الأمور في موضعها الصحيح. جاء في الحديث الشريف: «من تواضع لله رفعه، فهو في نفسه حقير، وعند الناس كبير، ومن استكبر وضعهُ الله، فهو في نفسه كبير وعند الناس حقير» (أخرجه أبو داود) وقال صلى الله عليه وسلم : «الاختيال الَّذي يَبْغُضُ الله، الخُيَلاءُ في الباطل» (أسنده أبو حاتم محمَّد بن حِبَّان عن ابن جابر بن عتيك عن أبيه). والله تعالى يمقت صفات الكِبْر والعُجْب بالنفس والتكبُّر على مخلوقاته، ومن يتَّصف بها فهو مكروه منبوذ من حظيرة قدسه. ولهذا ورد في الأثر: (أقسم الربُّ القدُّوس أن لا يدخل حضرته من كان من أرباب النفوس). فما هو الربح الَّذي يجنيه من خسر الله؟ وما أجمل قول ذلك العالم العارف بالله الَّذي قال مناجياً ربَّه سبحانه: [إلهي ماذا وَجَدَ من فقدك وماذا فَقَدَ من وجدك]؟. فمن خسر الصلة بالله خسر كلَّ شيء وفاته كلُّ خير، ومن حصل على رضا الله فقد حصَّل كلَّ شيء وجنى الربح الأعظم في هذه الحياة وفي دار الخلود.

 

سورة فاطر(35)

قال الله تعالى: {من كان يُريدُ العزَّة فلله العزَّة جميعاً إليه يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ والعملُ الصَّالحُ يرفَعُهُ والَّذين يَمْكُرون السَّيِّئاتِ لهم عذابٌ شديدٌ ومَكرُ أولئك هو يَبُورُ(10)}

ومضات:

ـ تكمن العزَّة الحقيقية في الركون والرجوع إلى الله تعالى صاحب العزَّة والجاه، وكلُّ من يتمسَّك بغيره وينشد منه القوَّة والعزَّة فإنـَّما يتمسَّك بالوهم والسراب ومآله إلى ذلٍّ وهوان.

ـ درب العزَّة يمهِّده العمل الخيِّر المنتج البنَّاء، ويزيِّنه ورد الكلام الحلو المعسول.

ـ لا يحيق المكر السيء إلا بأهله، وعلى الباغي تدور دوائر العذاب في الدنيا والآخرة.

/ في رحاب الآيات:

إن من صفات الله تعالى العزَّة والقوَّة، فإذا تقرَّب العبد من ربِّه طاعةً ومحبَّة وعملاً، أحبَّه الله، وأسبغ عليه ظلالاً من صفاته. فالمؤمن عزيز بالله، ولا عزَّة له بغيره، وكلُّ من يريد هذه العزَّة فعليه أن يطلبها من مصدرها؛ من الله لا من أحد سواه، فالله عنده خزائن السموات والأرض، فهو موجدها وهو المالك الأصلي لها، ولا يُلْتَمَس ذلك من غيره، قال بعض العارفين: [من أراد عزَّ الدارين فليطع العزيز] ولعزَّة المؤمن وجه ناصع يتجلَّى في تواضعه لمخلوقات الله، وحسن معشره معهم، ومخاطبتهم بطيِّب الكلام وعذبه، ولا يقتصر الأمر على مجرَّد الكلام والألفاظ الجميلة، بل يجب أن يقترن بحسن معاملتهم، ومدِّ يد المعونة لهم، وإسداء النصيحة، والبذل من أجلهم، والتضحية في سبيلهم، وهكذا يصعد العمل الصالح إلى عنان السماء، ممزوجاً بطيِّب الكلام ومعسوله، ليجد أبواب السماء مفتَّحة له، وصحائف القبول مشرَّعة له. وكم أضاع أقوام حُسن صنائعهم بقبائح ألفاظهم، فحبطت أعمالهم لدى مولاهم، ونفرت منهم قلوب الخلائق، جاء في الحديث الشريف: «لا يقبل الله قولاً إلا بعمل، ولا يقبل قولاً وعملاً إلا بنيَّة، ولا يقبل قولاً وعملاً ونيَّة إلا بإصابة السُّنة» (أخرجه أبو القاسم ومجاهد من حديث ابن عباس t ) وقال بعض المحبِّين: [إن كلام المرء بذكر الله إن لم يقترن به عمل صالح لم ينفع، لأن من خالف قولُهُ فعله فهو وبال عليه].

وصلاح العمل يكون بالإخلاص فيه، وما كان من هذا القبيل، قَبِلَه الله وأثاب عليه، وما لا إخلاص فيه فلا ثواب عليه، بل عليه العقاب الشديد، فالصَّلاة والزَّكاة وأعمال البرِّ إذا فُعِلَت مراءاة للناس لا يتقبَّلها الله، قال تعالى: {فويلٌ للمُصلِّين * الَّذين هم عن صلاتِهِمْ ساهون * الَّذين هم يُراؤُونَ * ويمنعُونَ الماعون} (107 الماعون آية 4-7) والَّذين يمكرون السيئات يمكرونها طلباً للعزَّة الكاذبة، والغلبة الموهومة وبثَّاً للفتنة والتفرقة، وقد يبدو في الظاهر أنهم أعزَّاء أقوياء، ولكن هذا وهمٌ ليس له سند من الحقيقة، لأن القول الطيِّب هو الَّذي يُؤْلَف، والعمل الصالح هو الَّذي يثمر، وبهما تكون العزَّة بمعناها الواسع الشامل، أمَّا المكر السيء قولاً وعملاً فليس سبيلاً إلى العزَّة، ولو حقَّق القوَّة الطاغية الباغية في بعض الأحيان، إلا أن نهايته إلى البوار وإلى العقاب الشديد. ذلك وعد الله، ولا يخلف الله وعده، وإن أمهل الماكرين حتَّى يحين الأجل المحتوم في تدبير الله المرسوم.

سورة البقرة(2)

قال الله تعالى: {وإذ قُلنا ادخُلُوا هذهِ القَريَةَ فَكُلُوا منها حَيثُ شِئتُم رغَداً وادخُلُوا البَابَ سُجَّداً وقُولُوا حِطَّةٌ نغفِر لكم خَطاياكُم وسَنَزيدُ المُحسِنينَ(58)}

ومضات:

ـ لقد فتح الله تعالى القرية الَّتي أشار إليها في الآية الكريمة لبني إسرائيل، وأباح لهم الأكل من طيِّباتها بسعة ووفرة، وهذه منَّة ونعمة منه، ينبغي عليهم أن يشكروه عليها بالسجود والدعاء، والعرفان بفضله والتواضع له. وهذا يدلُّ على أن اللحظة الَّتي يكون فيها المرء في ذروة فرحه وإحساسه بالفخر والنصر؛ هي من أجَلِّ اللحظات الَّتي يلجأ فيها إلى الله تعالى طالباً منه العفو والمغفرة، متذلِّلاً بين يديه متذكِّراً ضعفه وافتقاره إليه؛ ممَّا يجعله خلوقاً منصفاً مع عباد الله لا جبَّاراً عصيّاً.

ـ الله تعالى يوسع من فضله على من أحسن القول والعمل والنيَّة.

في رحاب الآيات:

تتحدَّث هذه الآية عن إحدى النعم الَّتي أسبغها الله تعالى على بني إسرائيل عندما نصرهم وفتح لهم قرية، ثمَّ أباح لهم الأكل منها بسعة وهناءة حيث شاؤوا، وأمرهم بدخولها متواضعين له، طالبين منه أن يحطَّ عنهم خطاياهم وذنوبهم، وأعطاهم وعداً بمغفرة ذنوبهم والتَّجاوز عن أخطائهم، وبشرى بزيادة عطائه ما داموا محسنين، يزدادون شكراً وتواضعاً عند كلِّ نعمة، ويستغفرون عند كلِّ خطيئة.

فصاحب النفس المزكَّاة ينسب جميع النعم الَّتي تصيبه لفضل الله، وكلَّما ازدادت عليه زحفاً وإقبالاً، ازداد تواضعاً وشكراً، أسوة بالمزكِّي الأعظم محمَّد صلى الله عليه وسلم ، الَّذي لم يزده العزُّ إلا تواضعاً، ولم يزده التواضع إلا رفعة وعظمة. لقد عاد إلى بلده مكَّة فاتحاً، وأكرمه الله بنصرة الإسلام وإعلاء كلمته، فعندما دخلها طأطأ رأسه على ناقته تذلُّلاً لله، حتَّى كاد أن يمسَّ جبينه الشريف رحل ناقته. فهنا يكمن سرُّ عظمة الرجال القادة، ومن هنا نتبيَّن أن على الإنسان أن يقابل نعم الله بالشكر والعرفان، وطلب الغفران عن كلِّ ما يبدر منه من الهفوات والزَّلات، وأن يتحلَّى بالتواضع والاتِّزان في أحلى ساعات نجاحه، فلا يفتتن بما يحقِّقه من فوزٍ وانتصار في أيِّ مجال، ولا يدع نشوة الفخار تطير بصوابه إعجاباً بما أنجزه، فيفقد بذلك القدرة على التبصُّر والإدراك. بل إن عليه، وهو في قِمَّة نشوته وسعادته ألا ينسى فضل الله عليه الَّذي أوصله إلى الفلاح، وأن يزداد تواضعاً له، ويذكر المستضعفين في الأرض فيظلُّهم برعايته وعنايته، ويتعاون معهم على بناء المجتمع الحرِّ الكريم، وتحقيق رسالة السَّلام في زرع المحبَّة والإخاء والإعمار في كلِّ أنحاء المعمورة. وفي هذا كبح لأهوائه وتقييد لأطماعه الَّتي يمكن أن تزلَّ به إلى ما لا تحمد عُقْباه. وعليه أن يشكر المنعم الَّذي من صفاته السامية أنه يزيد النعم لمن شكر، فهو القائل عزَّ وجل: {..لَئِن شكرتُمْ لأزيدَنَّكُمْ..} (14 إبراهيم آية 7) فَحَقُّ النِّعَمِ الشكر عليها، ودوام الشكر سبب زيادتها.