B7-F1

الـبــاب السابع

التربية الأخلاقية في الإسلام

 

الفصل الأوَّل:

تزكية النفس

سورة الشمس(91)

قال الله تعالى: {ونَفْسٍ وما سوَّاها(7) فألهَمَهَا فُجورَهَا وتقواها(8) قدْ أفلحَ من زكَّاها(9) وقد خابَ من دسَّاها(10)}

ومضات:

ـ تقوم التربية الأخلاقية في الإسلام على تزكية النفس، الَّتي تعني التخلِّي عن الأخلاق الذميمة والعادات السيئة، والتحلِّي بكلِّ خُلُق فاضل لتصبح النفس طاهرة نقية، ويكون صلاحها في الفرد عنوان صلاح المجتمع.

ـ تعكس هذه الآيات الكريمة حقيقة الوجود النفسي في الإنسان، فهو مخلوق ذو استعدادات متوازية لاستقبال المؤثِّرات الخيِّرة والشرِّيرة على السواء.

ـ قد فاز من أعمل أجهزة التقاط المؤثِّرات الخيِّرة لديه فرجح خيره على شرِّه، وانعكس تزكية وتطهيراً بمحبَّة الله وذكره، وقد خاب من عطَّلها وجعل مؤثِّرات الشرِّ تغلبه، فلوَّث نفسه بالمعاصي ودنَّسها بالآثام.

في رحاب الآيات:

من خلال هذه الآيات الكريمة تبرز لنا نظرة الإسلام إلى الإنسان بأوضح معالمها، فالكائن البشري بنظر الإسلام مخلوق مزدوج الطبيعة، مزدوج الاستعدادات، مزدوج الاتجاهات، ونعني بكلمة مزدوج على وجه التحديد أنه بطبيعة تكوينه من طين الأرض ومن نفخة الله فيه من روحه، مزوَّد باستعدادات متساوية للخير والشرِّ، والهدى والضلال، وهو قادر على التمييز بين ما هو خير وما هو شرٌّ، كما أنه قادر على توجيه نفسه إلى الخير وإلى الشرِّ، وهذه القدرة كامنة فيه يعبِّر عنها القرآن الكريم بالإلهام تارة في قوله تعالى: {ونَفْسٍ وما سوَّاها فألْهَمَها فُجورَها وتقواها}، وبالهداية تارة أخرى في قوله تعالى: {وهديناهُ النَّجدين} (90 البلد آية 10)، فهي كامنة في صميمه في صورة استعداد، والرسالات والتوجيهات والعوامل الخارجية، إنَّما توقظ هذه الاستعدادات وتشحذها وتوجِّهها هنا أو هناك، ولكنَّها لا تخلقها خلقاً لأنها مخلوقة بالفطرة، وكائنة بالطبع، وكامنة بالإلهام.

فالنفس البشرية تُخْلَق على الفطرة، وكأنَّها أرض خصبة صالحة لإنبات أيِّ بذور تُزرع فيها، وهنا يكمن دور الوالدين والعائلة والمجتمع في التأثير على شخصية الإنسان واستعداده. وحين يصبح في سنِّ البلوغ يمسك قراره بيده، فله عقله وتفكيره، وله حرِّيته ملء إرادته في زرع أرض نفسه بما شاء وكيفما شاء. فإن انتقى بذور الخير والإيمان ومحبَّة الله تعالى والخلائق، فقد نجح وأفلح في مهمَّته الَّتي خُلق من أجلها، لأنه بذلك يكون قد ربَّى نفسه ونمَّاها، حتَّى بلغت غاية ما هي مستعدَّة له من الكمال العقلي والعملي، وأثمرت بذلك الثمر الطـيِّب لها ولمن حولها. وإن هو أهمل هذا الاختيار وترك لنفسه العنان، وسار بها على درب الفساد والإفساد فقد خاب مسعاه، وفشل في مهمَّته، وخسر نفسه وأوقعها في التَّهلُكة بفعل المعاصي ومجانبة الطاعات، وبذلك يكون قد هوَّن من شأن القوَّة العاقلة الَّتي اختُصَّ بها بوصفه إنساناً، واندرج في عداد الخاطئين المسيئين لاستعمال قوانين الله.

هناك إذن تبعة مرتَّبة على منح الإنسان هذه القوَّة الواعية القادرة على الاختيار والتوجيه؛ توجيه الاستعدادات الفطرية القابلة للنمو في حقل الخير وفي حقل الشرِّ على السواء. ومن رحمة الله بالإنسان أنه لم يدعه لاستعداد فطرته الإلهامي، ولا للقوَّة الواعية المالكة للتصرُّف وحدهما، بل أعانه بالرسالات الَّتي تضع له الموازين الثابتة الدقيقة، وتكشف له عن موحيات الإيمان، ودلائل الهدى في نفسه وفي الآفاق من حوله، فيبصر الحقَّ في صورته الحقيقيَّة، وبذلك يتَّضح له الطريق وضوحاً كاشفاً لا خفاء فيه ولا شبهة. أخرج الطبراني عن ابن عباس t قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا هذه الآية: {ونَفْسٍ وما سوَّاها فألْهَمَها فجورها وتقواها} وقف ثمَّ قال: اللهم آتِ نفسي تقواها، أنت وليُّها ومولاها، وأنت خير من زكَّاها»، فتزكية النفس هدف من أهداف الرسالات السماوية، وغايتها الارتقاء بالطبائع الإنسانية حتَّى تصبح أقرب إلى الملائكية، وتخليص الإنسان من سيطرة سلطان الأهواء والشهوات، لتكون الفضائلُ كالصدق والأمانة، والتَّواضُع والإيثار، والاستقامة ونحوها؛ مُثُلاً عليا تقود مسيرته في الحياة، وتوجِّه سلوكه بحيث لا يخرج عن إطار التربية الأخلاقية.

ومن خلال الفصول القادمة سنتناول بإذن الله، بعض الأخلاق، وقيمتها التربويَّة في الإسلام بشيء من التفصيل.